المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أفـلا يؤمنون



kareemm
08-21-2007, 01:32 AM
المعجزة القرآنية
إن علم الإنسان المحدود لا يكفي لمعرفة الغيب الذي جاء منه ، ولا الغيب الذي سيتجه إليه ، ولا الغيب الذي خفي عنه في الكون من حوله . وهناك علوم يحتاج إليها الإنسان لهدايته واستقامة حياته ، ولذا كان لا بد له من الوحي من الله الذي قدّر فهدى، ولذا أرسل الله الرسل لهداية الناس، وأيدهم بالبينات والمعجزات المثبتة لصدق رسالتهم، والفاضحة لمدعي النبوة، والمفحمة للمكذبين والجاحدين . وكانت معظم بينات ومعجزات الرسل قبل محمد r حسية يشاهدها الحاضرون في ذلك الوقت ، وتحتفظ بقوة تأثيرها لعدة أجيال ، ثم تضعف مع طول الأمد. كما كانت بينات الرسل منفصلة عن الكتب التي يحملونها ، فكانت البينة المعجزة شيئاً والكتاب شيئاً آخر. أما محمد r، لكونه خاتم الأنبياء والمرسلين ، جعل الله بينته المعجزة في نفس رسالته والكتاب الذي جاء به؛ فكانت الرسالة والبينة شيئاً واحداً لتبقى المعجزة والبينة قائمة حية بين يدي الأجيال إلي يوم القيامة، كما أيده الله سبحانه وتعالى ببينات أخرى كثيرة .

والمعجزة القرآنية تتجلى في :

1) فصاحة القرآن وبلاغته في لفظه وأسلوبه وتركيبه وقد كان ذلك موضع التحدى من الله للإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال تعالى : ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءَانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (الإسراء:88).

2) كما أن القرآن معجز فيما اشتمل عليه من أخبار غيبيه حدثت في الماضي السحيق ، وفيما كشف من مكنونات الصدور وخفايا النفوس التي كان يكشفها القرآن للرسول عند نزوله .

3) وفيما اشتمل عليه من أخبار غيبية تحقق منها الكثير ولا تزال تتحقق إلى يومنا هذا ، وفيما سيأتي من الزمن .

والغيب أمر مستور عن جميع المخلوقات ، لا يعرفه على وجهه الصحيح إلا الله جل وعلا، فإذا أيد الله به رسله كان ذلك دليلاً على صدقهم وأنهم مبلغون عن الله سبحانه . و يتمثل الغيب الماضي في تاريخ الأديان وفي تاريخ الأمم ، بل وفي تاريخ الكون، وأما الغيب الحاضر ففي زمن النبي r ،ويتمثل في حوادث تقع بعيداً عنه فيخبر بها، أو في نوايا يضمرها الحاضرون فيكشفها الوحي له r،و أما غيب المستقبل فما سيكون في مستقبل الناس أو في الكون .

أولاً : إخبار القرآن بالغيب الذي مضى

يتمثل غيب الماضي في بداية الخلق ، وتاريخ الكون كما قال تعالى: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ … ﴾ (الكهف:51)، وتاريخ الأمم والأديان وما كان أحد وقت محمد r من البشر يعرف أسرار نشأة الكون وتاريخه ، كما كان قوم النبي r يجهلون الكثير من تاريخ الأمم والرسل كما قال تعالى: ﴿ تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا ﴾ (هود:49). ومن أمثلة الغيب الماضي ما يأتي :

فتق السموات والأرض

لقد أخبر القرآن أن السموات والأرض كانتا رتقاً، ففصل الله بينهما كما قال تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنبياء:30).

وقد بقي هذا الأمر سراً مجهولاً لا تعرفه البشرية عبر القرون قبل نزول القرآن وبعده بقرون ، إلى أن سار الإنسان على سطح الأرض يجمع الشواهد ويقارن بين الظواهر الأرضية المختلفة ، بل والظواهر الكونية التي استدل بها على حقيقة الاتصال السابق بين جسم الأرض وأجرام السماء . وتحقق له ذلك عندما سار على المنهجية التي وضعها القرآن لمعرفة بدء الخلق كما قال تعالى: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ﴾ (العنكبوت:20) وكان مما اكتشفه الإنسان أن باطن الأرض لا يزال نارياً ملتهباً ، كجسم الشمس والنجوم ، وكباطن معظم الكواكب التي لم تبرد . واكتشف الإنسان أن القشرة على الأرض تكونت بالبرودة ، فعرف أن الأرض وأجرام السماء كانا في الأصل شيئاً واحداً يتكون من عناصر متشابهة استدلوا عليها بتحليل الطيف(1)كما وجدوا أن النجوم والكواكب لا تزال تتشكل من دخانٍ سديم في السماء . وقد وجد الباحثون في علم الفلك أن النجوم لا تزال تتباعد عن بعضها إلى يومنا هذا ، وكذلك الكواكب في المجموعة الشمسية لا تزال تتباعد عن بعضها وتأكدوا بالقياس العلمي أن القمر لا يزال يبتعد عن الأرض كل عام أربعة سنتيمترات(2). وهذا يدل على أن الأرض وأجرام السماء كانت أقرب إلى بعضها البعض قبل مليون عام ، وكانت أكثر قرباً قبل مليار عام. وهكذا إذا رجعنا القهقرى سيوصلنا الحساب إلى الجسم المتحد قبل الانفصال(3). إن حقيقية اتصال الأرض بالسماء حقيقة غيبية يعجز الذهن البشري أن يتخيلها زمن نزول القرآن. إذ كيف يطيق العقل البشري في ذلك الزمان أن يتخيل أن النخلة على الأرض والبحر المحيط كانا جزءاً من الشمس الملتهبة ، أو أنهما كانا يوماً ما مادةً واحدةً مع القمر أو النجوم .لكن إمكانيات البحث العلمي ووسائله المتطورة مكنت من معرفة هذا السر الذي سبق أن ذكره القرآن ، فيدل ذلك على أن هذا العلم عن خلق الكون ونشأته قد جاء إلى محمدٍ r بوحي من الله جل وعلا .

2- نجاة فرعون ببدنه

وهذا مثل آخر للغيب المتعلق بأخبار الأمم ، فقد كشف الدكتور موريس بوكاي(4)في كتابه القرآن والعلم الحديث عن تطابق ما ورد في القرآن الكريم بشـأن مصير فرعون موسى بعد إغراقه في اليم مع الواقع المتمثل في وجود جثته إلى يومنا هذا آيةً للعالمين حيث قال تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ ءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ (يونس:92). يقول الدكتور بوكاي : "إن رواية التوراة بشأن خروج اليهود مع موسى عليه السلام من مصر تؤيد بقوة الفرضية القائلة بأن منبتاح خليفة رمسيس الثاني هو فرعون مصر في زمن موسى عليه السلام ، وإن الدراسة الطبية لمومياء منبتاح قدمت لنا معلومات مفيدة أخرى بشأن الأسباب المحتملة لوفاة هذا الفرعون. إن التوراة تذكر أن الجثة ابتلعها البحر ولكنها لا تعطي تفصيلا بشأن ما حدث لها لاحقاً. أما القرآن فيذكر أن جثة الفرعون الملعون سوف تنقذ من الماء كما جاء في الآية السابقة، وقد أظهر الفحص الطبي لهذه المومياء أن الجثة لم تظل في الماء مدة طويلة ، إذ أنها لم تظهر أية علامات للتلف التام بسبب المكوث الطويل في الماء."(5)و قد أخبرني الدكتور موريس في مقابلة معه أنه أحد الأطباء الذين قاموا بالكشف على جثة فرعون فوجدوا فيها :

1- آثار الموت غرقاً .

2- آثار ملح ماء البحر.

3- أظهرت أشعة X تكسير العظام دون تمزق الجلد واللحم مما يدل أن كسر العظام كان بسبب ضغط الماء.

ويبين الدكتور بوكاي وجه الإعجاز في هذه القضية قائلاً : "وفي العصر الذي وصل فيه القرآن للناس عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم ، كانت جثث كل الفراعنة الذين شك الناس في العصر الحديث صواباً أو خطاً أن لهم علاقة بالخروج، كانت مدفونة بمقابر وادي الملوك بطيبة على الضفة الأخرى للنيل أمام مدينة الأقصر الحالية . في عصر محمد صلى الله عليه وسلم كان كل شئ مجهولاً عن هذا الأمر ولم تكتشف هذه الجثث إلا في نهاية القرن التاسع عشر(6)وبالتالي فإن جثة فرعون موسى التي مازالت ماثلة للعيان إلى اليوم تعد شهادة مادية في جسد محنط لشخص عرف موسى عليه السلام، وعارض طلباته ، وطارده في هروبه ومات في أثناء تلك المطاردة ، وأنقذ الله جثته من التلف التام ليصبح آية للناس كما ذكر القرآن الكريم"(7). وهذا المعلومة التاريخية عن مصير جثة فرعون لم تكن في حيازة أحد من البشر عند نزول القرآن ولا بعد نزوله بقرون عديدة ، لكنها بينت في كتاب الله على لسان النبي الأمي ، مما يشهد بأن مصدر هذا العلم هو الوحي الإلهي .

3- قصة الصلب :

ومن أنباء الأولين التي ظل الناس في شك من حقيقة أمرها القصة التي تذكر صلب عيسى عليه السلام كما في الأناجيل عند النصارى ، فقد شهد قوم عيسى عليه السلام وكذلك جماهير الرومان حادثة صلب ، ولم يساورهم شك في أن عيسى عليه السلام قتل وصلب، إلا أن الحواريين شاهدوا عيسى عليه السلام بعد حادثة الصلب المزعوم حياً، كما ورد ذلك في إنجيل لوقا:(8)." وفيما هم يتكلمون بهذا وقف يسوع نفسه في وسطهم وقال لهم سلام لكم. فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا روحاً. فقال لهم ما بالكم مضطربين. ولماذا تخطر أفكار في قلوبكم. انظروا يديّ ورجليّ إني أنا هو. جسّوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم أعندكم ههنا طعام ؟ فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدامهم ". وقد أصبح الجميع في حيرة من حقيقة الأمر، فالناس يقولون : إنه صلب وقد رأوا ذلك رأي العين، والحواريون يقولون : إنهم قابلوه بعد حادثة الصلب المزعوم بجسده وروحه حياً يرزق .ولم يجدوا تفسيراً لهذا التناقض إلا قولهم : إنه صلب ومات ودفن ثم بعث من بين الأموات ، ولكن القرآن الكريم جاء ليكشف عن هذا السر ويزيل ذلك الغموض فقال تعالى: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا(157)بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(158)﴾ (النساء:157-158). فالحقيقة أن الذي صلب هو الشبه، فالذين قالوا : "رأيناه مصلوباً" أخبروا بما رأوا إذ ظنوا الشبه هو عيسى عليه السلام نفسه ، والذين قالوا : "رأيناه بعد الحادثة" هم على حق، لأنه لم يصلب ، وأتى القرآن الكريم بالعلم الذي يكشف الحقيقة ويخرج الناس من الاختلاف(9).وهذا النوع من الإعجاز يعد من أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن القصة وقعت بعيدة عن زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وصار أهلها في ارتباك وحيرة، ويأتي نبي أمي في أمة أمية بعد قرون يكشف لهم السر ويبين لهم التفسير الحقيقي للمشاهدات التي تبدو متناقضة ، فيرفع عنها التناقض ويزيل الإشكال. وهذا دليل على أن هذا العلم الذي جاء علي يد النبي الأمي لا يمكن أن يكون إلا من عند الله .وبعد اعتناق العدد الكثير من الأحبار والرهبان الإسلام طوال التاريخ إقراراً بصدق ما جاء في القرآن من خبر صادق عن التاريخ الصحيح للرسل وأتباعهم ، والذي جاء على يد نبي أمي ليس في ثقافة قومه شئ من هذه الأخبار .

ثانيا : الإخبار بغيب الحاضر في وقت نزول القرآن

لا أحد من البشر يعلم ما يدور في نفوس الناس ، أو ما يقع في مكانٍ بعيدٍ عنهم وليس له وسيلة للاتصال بهم ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي فيكشف ما كان يدور في نفوس الناس ويخفونه عنه ، أو ما يحاك ضده أو ضد غيره من مكائد ، فيطلعه الله عليها ويكشفها لأصحابها. وقد كان المنافقون يعيشون في رعب من أن يفضح الله أسرارهم كما قال تعالى : ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ ﴾ (التوبة:64). بل إن بعض ما كان يخفيه بعض المؤمنين من أسرارٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطلعه الله عليه فينزل عليه الوحي به ، فيخبرهم بذلك ، كما حدث ذلك لبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال تعالى : ﴿ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ (التحريم:3). والإخبار بما تخفي الصدور ، وبالغيب الذي كان يقع بعيداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يعد من الأدلة على صدق رسالته ، وأن ما علمه بشأنها إنما هو وحي من الله جل وعلا، ومن ذلك هاتان الحادثتان :

الحادثة الأولى : قصة حاطب

قال الله تعالى : ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ(1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ(2)لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(3)﴾ (الممتحنة:1-3).

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :-" كان سبب نزول صدر هذه الآيات الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة(10)، وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضاً وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم بل كان حليفاً لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال " اللهم عم عليهم خبرنا"(11)فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً ، فأطلع الله تعالى على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعائه فبعث في إثر المرأة فأخذ الكتاب منها ، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته فعن علي رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال "انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ(12)فإن بها ظعينة معها كتاب ، قلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب قال فأخرجت الكتاب من عقاصها ظفائر شعرها ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب ما هذا ؟ قال لا تعجل عليّ إني كنت أمرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ عندهم يداً يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه صدقكم" فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله r : "إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". وفي رواية للبخاري فأنزل الله السورة ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ …﴾ (الممتحنة:1) (13). فمن أخبر النبي r بما فعل حاطب ، ومن دله على المكان الذي سيجد فيه رسله تلك المرأة ؟! إنه الوحي الذي أيد الله به رسوله ، وكشف له به ما غاب عنه .

الحادثة الثانية : قصة بني أُبيرق :

عن قتادة بن النعمان(14)، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم : بنو أبيرقٍ: بشر، وبشير، ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً، يقول الشعر يهجو به أصحاب النبي r ، ثم يَنْحَلُه بعض العرب، ثم يقول : قال فلان : كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله r ذلك الشعر، قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث، أو كما قال الرجل ، وقالوا : ابن الأبيرق قالها. قال : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة، في الجاهلية والإسلام، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافِطَة قافلة من الإبل المحملة من الشام من الدَرْمَك(15)ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه، وأما العيال ، فإنما طعامهم التمر والشعير، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملاً من الدَرْمَك فجعله في مَشْرَبَة(16)له، وفي المشربة سلاح: درع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت ، فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة، فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه ، فنقبت مشربتنا، وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال : فتحسسنا في الدار، وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى ، فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال : وكان بنو أبيرق ، قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل ، رجل منا ، له صلاح وإسلام، فلما سمع لبيد اخترط سيفه ، وقال : أنا أسرق؟ فو الله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله r فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول الله rفقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء ، عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النبي r : سآمرُ في ذلك ، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم ، يقال له: أُسَيرُ بن عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع في ذلك ناس من أهل الدار، فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة، ولا ثبت. قال قتادة : فأتيت رسول الله r فكلمته فقال: عَمَدْتَ إلى أهل بيت، ذكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَتٍ وبينةٍ؟. قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله r في ذلك، فأتاني عمي رفاعة، فقال : يا ابن أخي ما صنعت، فأخبرته بما قال لي رسول الله r فقال : الله المستعان ، فلم يلبث أن نزل القرآن. ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(105)وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(106)وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا(107)يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا(108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا(109)وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا(110)وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا(111)وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا(113)﴾(النساء:105-113).فلما نزل القرآن أُتي رسول الله r بالسلاح فرده إلى رفاعة ، فقال قتادة: لما أتيت عمى بالسلاح،وكان شيخاً قد عشا أو عسا(17)- الشك من أبي عيسى - في الجاهلية ، وكنت أرى إسلامه مدخولاً(18)، فلما أتيته قال : يا ابن أخي هو في سبيل الله، فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين(19) .ومن هذه الحادثة يتبين لنا أن محمداً r رجل من البشرلا يعلم الغيب، وإنما يأتيه علم الغيب الذي خفي على الناس من لدن الله العليم الخبيروذلك شاهد بنبوته r.

ثالثاً : غيب المستقبل " ولتعلمن نبأه بعد حين "

ومن أعظم الدلالات على صدق رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إخباره بالغيب الذي سيكون في المستقبل ، لأن المستقبل محجوب عن البشر لا يعلمه إلا الله . وظهور صدق إخباره بغيب المستقبل في الدنيا ؛ دليل على صدق خبره بغيب الآخرة وهذه أمثلة على غيب المستقبل التي كشفها الله لرسوله قبل وقوعها :

المثال الأول : " غلبت الروم "

أخبر القرآن الكريم بأن الروم التي غلبتها فارس في بيت المقدس سوف تعاود الكرة وتخوض حرباً جديدة مع الفرس ، يكون النصر فيها للروم ، وذلك في مدة لا تتجاوز بضع سنين قال تعالى:﴿ الم(1)غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون(3)﴾ (الروم:1-3). وقوله تعالى:﴿ وهم من بعد غلبهم سيغلبون ﴾ إخبار بغيب سيقع في مدة لا تقل عن ثلاث سنوات ، ولا تزيد عن تسع سنوات ، كما يدل على ذلك لفظ بضع(20). وسبب نزول هذه الآيات بهذا الخبر الغيبي هو أن مشركي قريش فرحوا بظهور الفرس عبدة الأوثان على الروم أهل الكتاب ، بل وأظهروا الشماتة والتشفي بالمسلمين حتى قال قائلهم : سنفعل بكم كما فعله الفرس بالروم ، مما أحزن المسلمين؛ لأنهم يرون أن أهل الكتاب أقرب إليهم من المشركين فأنزل الله هذه الآيات(21).

إن إعلان هذا الخبر عرض نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لامتحان صعب ، فالمدة المضروبة لانتصار الروم محدودة ، والدولتان خرجتا لتوهما من حرب كانت نتيجتها غلبة الفرس على الروم، وهناك احتمال قوى أن هذه النتيجة ستدفع المنتصر لمتابعة انتصاراته وتجر المنهزم لمزيد من الهزائم . لكن النبي صلى الله عليه وسلم بلّغ الناس بهذا الخبر الذي جاءه من ربه ، وهو يعلم أنه يضع دينه ومستقبله وأصحابه رهن تحقق هذه النبوءة ، بانتصار الدولة المغلوبة المهزومة، وفي زمن محدد تظهر نتيجته في بضع سنين ، ومثل هذا لا يصدر إلا من نبي يوقن بوعد ربه الذي يملك مصير الأمم والدول والجيوش ويعلم ما يكون في المستقبل وقد راهن أبوبكر الصديق رضي الله عنه على تحقيق هذا الخبر بعض مشركي قريش، فكان رهاناً بين الإسلام والكفر، موضوعه مدى صدق هذا الخبر الغيبي في المدة المحدودة . وقد فرح المسلمون بتحقق هذا الخبر الذي وقع بعد سبع سنوات ، وكانوا يومئذ في صلح الحديبية والنبي r بين ظهرانيهم ، وكان ذلك سبباً في إسلام خلق كثير من الكفار(22)وصدق الله العظيم إذ يقول:

﴿ الم(1)غُلِبَتِ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5)وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(6)﴾ (الروم:1-6).

المثال الثاني : دخول المسجد الحرام والفتح القريب

قال تعالى : ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ (الفتح:27).

كان رسول الله r قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت ، ورؤيا الأنبياء وحي ، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فلما ساروا عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تفسر في ذلك العام .

فعندما صدتهم قريش عن دخول مكة المكرمة وأداء عمرتهم ، وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شئ ، حتى سأل عمر بن الخطاب(23)رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ قال : بلى. أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا ؟ قال : لا. قال النبي r : فإنك آتيه ومطوف به(24). وعقد رسول الله r في ذلك العام مع مشركي قريش صلح الحديبية الذي كان فتحاً قريباً وفتحاً مبيناً، كما قال تعالى عنه : ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ﴾ (الفتح:1). فبه تضاعف عدد المسلمين في خلال عامين ، وفي ظله أخلّت قريش بالصلح فكان ذلك سبباً في فتح مكة . وكان فتح خيبر من ذلك الفتح القريب الذي وعد الله به أهل صلح الحديبية في نفس السورة، كما قال تعالى : ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا(18)وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(19)وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ ءَايَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(20)﴾ (الفتح:18-20). وفي خلال أشهر فتحت خيبر على المسلمين ، ولم يسمح الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى خيبر إلا لأهل الحديبية ، فكان في كل ما سبق آية للمؤمنين . وقد أخبر الله رسوله بما سيقوله المتخلفون عن حضور الحديبية عند انطلاق الرسول r إلى خيبر مع من خرجوا معه إلى الحديبية في قوله تعالى: ﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ (الفتح:15).وبعد هذا الفتح القريب الذي وعد الله به المؤمنين تحققت رؤيا النبي r بدخول المسجد الحرام ، فدخله مع أصحابه آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين ، وكل ذلك من أخبار الغيب التي أخبر بها رسول الله r قبل وقوعها فكانت كما أخبر . قال الشعبي: "لقد أصاب رسول الله r في الحديبية ما لم يصب في غزوة ، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وبويع بيعة الرضوان ، وأطعم نخل خيبر، وبلغ الهدي محله ، وظهرت الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس."

المثال الثالث : والله يعصمك من الناس

لقد أثارت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام حفائظ المشركين وحميتهم كما أثارت حقد اليهود ومكرهم. وبعد الهجرة تشابكت أيادي اليهود مع المشركين فشكلوا خطرا حقيقياً على حياة الرسول r ، وكثرت المؤامرات الهادفة إلى اغتياله أو قتله ، والاحتياط من تلك المؤامرات والمخاطر يمثل عائقاً عن تبليغ الدعوة الإسلامية بسهولة ويسر ، فتكفل الله بحماية رسوله وعصمته من أعدائه ، وأعلمه بذلك في قوله تعالى : ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ (المائدة:67). قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحرس حتى نزلت ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ فأخرج رأسه من القبة وصرف الحرس عنه ، وقال:" يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عزوجل ". وفي هذا أروع الأمثال على التصديق المطلق لوعد الله سبحانه وتعالى ، والثقة الكاملة التامة بإنجازه وتحقيقه ؛ فمن يومها لم يتخذ حراسا لحمايته الشخصية r، ثقة بصدق الوعد الإلهي ، وركوناً إليه ، ولا يغامر عاقل بحياته إذا ساور نفسه أدنى شك في صدق ذلك الوعد. وقد جاءت الحوادث محققة لوعد الله بحفظ رسوله وعصمة من الناس، ومن ذلك هذه الحوادث الثلاث:

الأولى : حادثة غزوة ذات الرقاع

فعن جابر بن عبدالله قال غزونا مع رسول الله r غزوة نجد فلما أدركته القائلة وهو في واد كثير العِضاه فنزل تحت شجرة واستظل بها وعلق سيفه فتفرق الناس في الشجر يستظلون وبينما نحن كذلك إذ دعانا رسول الله r فجئنا فإذا أعرابي قاعد بين يديه ، فقال : إن هذا أتاني وأنا نائم فاخترط سيفي فاستيقظت وهو قائم على رأسي مخترط صلتا قال من يمنعك مني؟ قلت الله ، فشامه، ثم قعد فهو هذا ، قال: ولم يعاقبه رسول الله r ".

الحادثة الثانية : حادثة خيبر :

ففي هذه الغزاة، سُمّ رسول الله r، أهدت له زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن مشكم شاةً مشوية قد سمتها ، وسألت : أي اللحم أحب إليه ؟ فقالوا: الذراع ، فأكثرت من السم في الذراع، فلما أكل أخبرته الشاة أنها مسمومة ، فأمر أصحابه أن يرفعوا أيديهم ، ثم قال : "اجمعوا لي من هاهنا من اليهود" ، فجمعوا له ، فقال لهم: "إني سائلكم عن شئٍ ، فهل أنتم صادِقِيّ فيه ؟" قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، فقال لهم رسول الله r : " من أبوكم ؟ " قالوا : أبونا فلان . قال : "كذبتم أبوكم فلان ". قالوا : صدقتَ وبررتَ ، قال : " هل أنتم صادقي عن شيءٍ إن سألتكم عنه ؟ قالوا : نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك ، عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَن أهلُ النار ؟" فقالوا : نكون فيها يسيراً ، ثم تَخْلُفوننا فيها. فقال لهم رسول الله r: " اخسؤوا فيها ، فو الله لا نخلفكم فيها أبداً " ، ثم قال: "هل أنتم صادقي عن شيءٍ إن سألتكم عنه ؟" قالوا : نعم . قال : " أجعلتم في هذه الشاةِ سما ؟" قالوا : نعم . قال : " فما حملكم على ذلك ؟" قالوا : أردنا إن كنت كاذباً نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرَّك، وجيء بالمرأة إلى رسول الله r، فقالت: أردت قتلك. فقال: " ما كان الله ليسلطك علي" ، قالوا : ألا نقتلها ؟ قال: لا، ولم يتعرض لها ، ولم يعاقبها.

الحادثة الثالثة : حادثة تبوك

ذكر أبو الأسود في "مغازيه" عن عروة قال : ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلاً من تبوك إلى المدينة ، حتى إذا كان ببعض الطريق، مكر برسول الله rناس من النافقين ، فتآمروا أن يطرحوه من رأس عقبةٍ في الطريق، فلما بلغوا العقبة، أرادوا أن يسلكوها معه ، فلما غشيهم رسول الله r، أخبر خبرهم، فقال : " من شاء منكم أن يأخذ ببطن الوادي ، فإنه أوسع لكم" وأخذ رسول الله r العقبة ، وأخذ الناس ببطن الوادي إلا النفر الذين هموا بالمكر برسول الله r، لما سمعوا بذلك ، استعدوا وتلثموا ، وقد هموا بأمر عظيم، وأمر رسول الله r حذيفة بن اليمان ، وعمار بن ياسر ، فمشيا معه ، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة ، وأمر حذيفة أن يسوقها فبينما هم يسيرون ، إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه ، فغضب رسول الله r ، وأمر حذيفة أن يردهم ، وأبصر حذيفة غضب رسول الله r ، فرجع ومعه محجن ، واستقبل وجوه رواحلهم ، فضربها ضرباً بالمحجن ، وأبصر القوم ، وهم متلثمون ، ولا يشعر إلا أن ذلك فعل المسافر، فأرعبهم الله سبحانه حين أبصروا حذيفة ، وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه ، فأسرعوا حتى خالطوا الناس ، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أدركه ، قال : "اضرب الراحلة يا حذيفة ، وأمش أنت يا عمار" فأسرعوا حتى استووا بأعلاها ، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبي r لحذيفة : "هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً؟ " قال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان ، وقال : كانت ظلمة الليل ، وغشيتهم ، وهم متلثمون ، فقال رسول الله r : " هل علمتم ما كان شأن الركب وما أرادوا ؟" قالوا : لا والله يا رسول الله ! قال : " فإنهم مكروا ليسيروا معي ، حتى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها" قالوا: أولا تأمر بهم يا رسول الله إذاً، فنضرب أعناقهم، قال: "أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه، فسماهم لهما، وقال: اكتماهم". وقد اختار الله رسوله إلى جواره بعد أن بلغ رسالة ربه ، وأكمل الله به الدين ، دون أن يناله أعداؤه بسوء ، بالرغم من تعرضه وأصحابه للمواجهات العنيفة الدامية ، في حين أن ثلاثة من خلفائه الراشدين بعده قد اغتيلوا بعد تمكين الدين وقوة المسلمين وظهورهم على أعدائهم ، وصدق الله القائل : ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾. ومما سبق رأينا تحقق ما أخبر به القرآن من خبر غيبي متعلق بعصمة النبي r، وأنه لن يصل إليه أعداؤه حتى يموت .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) تحليل الطيف : هو معرفة العناصر الملتهبة عن طريق تحليل الأشعة الصادرة منها .
(2) أخذت من الأنترنت : مقتطفات من مقابلة بقلم " بول ريسر " ، المطابع المتحدة واشنطن ، دي . سي من مقابلة مع جارلس سنت أستاذ علوم الكواكب في جامعة أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية .
(3) يذكر الفلكيون أن المجموعة الشمسية كانت قطعة واحدة قبل 4.5 مليارعام ويقولون أن الكون بأكمله كان قطعةواحدة قبل 15-20 مليار عام .
(4) طبيب فرنسي جراح من اشهر أطباء فرنسا ، اعتنق الإسلام بعد دراسة مستفيضة للقرآن الكريم وإعجازه العلمي .
(5) القرآن والعلم الحديث / د . موريس بوكاي .
(6) دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة د . مريس بوكاي ، ص 269 دار المعارف ط 4 / 1977 ، بتصرف .
(7) المرجع السابق ، ص 271 .
(8) إصحاح 24 فقرة – 36 – 43 .
(9) ألقد أورد الأستاذ أحمد ديدات في كتابه " مسألة صلب المسيح بين الحقيقة والافتراء " ثلاثين نقطة استخلصها من أسفار الأناجيل المختلفة من بين أدلة أخرى تفند فرية صلب المسيح عليه السلام وتؤكد ما أقره القرآن الكريم بشأن الحادثة .
(10) حاطب بن أبي بلتعة : صاحب رسول الله r شهد بدراً مات في سنة ثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه وله خمس وستون سنة .
(11) يعني أستره ولا تظهرهم عليه فيستعدوا لملاقاتنا . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 23 / 434 ط ثانية تحقيق حمدي السلفي رقم 1052 .
(12) مكان .
(13) تفسير ابن كثير أول سورة الممتحنة ،وقد رواه البخاري ك/ المغازي ب/ غزوة الفتح وما بعث به حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بغزوالنبي r
(14) قتادة بن النعمان بن زيد بن عامر الأمير المجاهد أبو عمر الأنصاري البدري ، من نجباء الصحابة ، وهو أخو أبي سعيد الخدري لأمه ، وهو الذي وقعت عينه على خذه يوم أحد فأتي بها إلى النبي r فغمزها بيده الشريفة فردها فكانت أصح عينيه ، له أحاديث ، وكان من الرماة ، توفي سنة 23هـ بالمدينة ، ونزل عمر رضي الله عنه في قبره .
(15) الدقيق الأبيض .
(16) غرفة .
(17) أعشا : ضعف بصره ، وعسا : كبر سنه .
(18) أي فيه فساد أي نفاق ، والدخل : العيب والفساد انظر تحفة الأحوذي عند شرح الحديث 8/316 ط . دار الكتب العلمية .
(19) أخرجه الترمذي رحمه الله في أبواب تفسير القرآن ب/ ومن سورة النساء ، والحاكم في المستدرك 4/426 وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وفي روايته أن يشير يكنى أبا طعمة 4/427 ، والطبراني في المعجم الكبير 19/10 ، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي 3/44 ، وانظر تفسير ابن كثير عند الآيات المذكورة .
(20) البضع ما بين ثلاث إلى تسع ، كما في الحديث النبوي الذي ذكره الألباني في صحيح الجامع برقم : 2884 : وقال : صحيح .
(22) انظر تفسير ابن كثير أول سورة الروم .
(23) رواه الترمذي ك / التفسير ب / ومن سورة الروم وقال في أحد رواياته : حسن صحيح غريب ، ورواه الحافظ المقدسي في المختارة 10/145/147 ، ورواه أحمد في المسند 1/276و 1/304 ، والطبراني في المعجم الكبير 12/29 ، والبخاري في خلق أفعال العباد 1/45 ، وانظر القصة في صحيح سنن الترمذي للأباني برقم : 3116 ، 3420-3423.
(24) عمر بن الخطاب : الفاروق أبو حفص ثاني الخلفاء الراشدين ، أسلم في مكة وأعز الله به الإسلام ، مآثره معروفة ومناقبه كثيرة قتله أبو

لؤلؤة المجوسي بالمدينة سنة 23هـ .