المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أقوال الملحدين في إنكار الخالق العظيم



lastmissions
01-22-2008, 08:59 AM
يقول بعض الكتّاب: " إن الإيمان بالله لم يأت نتيجةً لبحثٍ علمي، أو تحليل منطقي، وإنما جاء عن طريق أن إنساناً ما وهو النبي قال للناس: إن هناك إلهاً وهذه هي صفاته، وهذه هي أحكامه وتشريعاته، فالمؤمن لم يتوصل إلى ذاك " الله " بمحض عقله، بل إن إيمانه جاء عن طريق تصديق النبي فيما قاله. إذاً الإيمان ما هو إلا نوع من تصديق شخص ما وليس أكثر من ذلك.." ا.هـ ، بهذا التبسيط الساذج، يقرر الملاحدة قضية الإيمان بالله، ليس هناك من دليل على وجوده، سوى شخص جاء وأخبر عنه، وأمر الناس بطاعته، فالإيمان لا يعدو أن يكون تصديق شخص ما، لا أقل ولا أكثر، فهل رأى أحدٌ سخرية من العقل والمنطق كهذه السخرية !!
إن الإيمان بالله عز وجل خالق الوجود ومسيّره، أعظم وأجل من أن يقال فيه هذا، ووجوده أعظم من أن يقتصر في الاستدلال عليه على خبر النبي رغم أهميته وعظم دلالته، بل أدلة وجوده أوسع وأعمق، فهي تتسع لتشمل كل ذرات الكون من فرشه إلى عرشه، فما من مخلوق في هذا الكون إلا وهو ينادي بالدلالة على خالقه، وهي دلالة لا تقتصر على إثبات الوجود فقط، بل تتسع لتدل على صفات هذا الخالق العظيم، من العلم والحكمة والإرادة والقدرة وغيرها.
ورغم سعة هذه الدلالات وعظمتها، فقد وجد من شواذ البشر، من زعم أنه لا إله، وأن الحياة مادة صماء لا تعقل ولا تنطق، وهي مع ذلك قد أوجدت نفسها بنفسها عن طريق التلقائية والمصادفة !! وهي ذاتها تسيَّر نفسها عن طريق نظام الطبيعة وقوانينها، دون أن يتدخل أحد لا في إيجادها ولا في تسييرها، في منطق يعجز العقل عن تصوره، إذ كيف لمادة صماء أن توجد نفسها، فضلا على أن تهب الحياة لغيرها ؟!! كيف ؟! والعقل قاضٍ بأن الموجود لابد له من موجد، وأن المخلوق لا بد له من خالق، كما نطق بذلك لسان الفطرة عند أعرابي، عندما سئل عن دليل وجود الله ؟ فقال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العليم الخبير.
وفي كل شيء له آية *تدل على أنه واحد
ومع وضوح دلائل وجود الخالق سبحانه، إلا أننا نرى أن لا بد من الإتيان على ما يتشبث به الملاحدة من شبه بالنقض والإبطال، ليعلموا أن ليس معهم من العلم شيءٌ يستندون إليه في إنكار خالقهم ورازقهم، فمن شبهات الملاحدة:
الشبهة الأولى ، قولهم: إن العقول عاجزة عن تصور كنه هذا الإله وحقيقته، وما عجزت العقول عن إدراكه وتصوره فهذا دليل على عدم وجوده.
ونحن نجيب على هذه الشبهة بقولنا: إن المقدمة الأولى من هذه القضية صحيحة بلا شك، فالعباد قاطبة عاجزون عن معرفة حقيقة هذا الإله العظيم، ومن مأثور كلام أهل العلم في ذلك، قولهم: "كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك، وعجزك عن درك الإدراك إدراك، والبحث في كنه ذات الله إشراك "، لكن المقدمة الثانية غير صحيحة، إذ ليس كل ما عجزت العقول عن معرفة حقيقته وكنهه عدم، وإلا للزم أن تنكر العقول كثيرا من أسرار هذا الكون لعجزها عن معرفة حقيقتها وكنهها، فقد وقف العلماء عاجزين عن معرفة حقيقة المادة التي بين أيديهم، وهم يرونها بأعينهم، ويذوقونها بألسنتهم، ويشمونها بأنوفهم، ويصرفونها في طرق الحياة والعيش . فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يصل بعقله إلى معرفة حقيقة الله تعالى؟ وهل يطمع الإنسان الذي لا يعرف كيف يعرف ؟ ولا يدرك كيف يدرك ؟ ولا يعقل كيف يعقل ؟ أن يعقل حقيقة الله تعالى !!.
إن العلم لا يزال عاجزاً عن معرفة الطريقة التي يتم بها الإدراك، والوسيلة التي يتم بها الاتصال بين المادة والعقل، والكيفية التي يتلقى بها العقل الروحاني الإحساس بالشيء المادي فيدركه، فهل يطمع بعد ذلك أن يعرف كنه ذات الله تعالى ؟.
إن عدم اقتداركم – أيها الملاحدة - على تصور حقيقة الله لا يعني استحالة وجوده، ويكفي العقول أن تستدل على وجود الله بآثاره من نظام وإتقان وإحكام في هذا العالم، أما التطلع إلى إدراك حقيقة ذاته، فهذا ما لا سبيل للإنسان إليه، وفي هذا يقول أحد الفلاسفة الكبار، "روجر باكون " : " إنه لا يوجد عالم من علماء الطبيعة يستطيع أن يعرف كل شيء عن حقيقة ذبابة واحدة وخواصها، فضلا عن أن يعرف كنه ذات الله ".
الشبهة الثانية قولهم: إن عقولنا لا يمكن أن تتصور حصول شيء من لا شيء، أي استحالة خلق المادة من العدم، فكيف يخلق الإله من العدم ؟ وجوابنا عن هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن قولهم لا يمكننا أن نتصور حصول شيء من لا شيء، مبني على قولهم بقدم المادة وأزليتها، وهذا عين المحال، إذ كيف للمادة الصماء أن توجد نفسها !! وإذا كنتم ادعيتم عجز العقول عن تصور خلق شيء من لا شيء، فإن العقول أعجز عن تصور قدم المادة وأزليتها، ذلك أن المادة لا يعقل أن تخلو من صورة تقوم بها، والعقل السليم يقطع بأن كل صورة تقوم في المادة هي حادثة لأنها تزول وتتغير، ولا يخفى أن كل ما يطرأ عليه العدم يستحيل عليه القدم .
الوجه الثاني: أن عجز العقول عن تصور حصول شيء من لا شيء، لا يعني امتناعه في نفسه، فقد تعجز العقول عن تصور أمور كثيرة وهي ثابتة، كعجزها عن تصور حقيقة المادة رغم أنها ملامسة مشاهدة، فإذا كان هذا الشأن في معرفة أقرب الأشياء من الإنسان وألصقها به، فهل يطمع الإنسان أن يخضع بعقله أفعال الله سبحانه لقوانين البشر وقدراتهم .!!
إن منشأ هذه الشبهة – إنكار الخلق من العدم - هو قياس التمثيل، فعندما رأوا أن المخلوق لا يمكن أن يصنع شيئا إلا من شيء آخر، نفوا أن يكون شيء مصنوعا من لا شيء، وإبطال هذا القياس بإيضاح الفرق بين الخالق والمخلوق، فالمخلوق لا يمكنه أن يصنع شيئا من لا شيء، أما الخالق فقدرته ليس لها حدود، فهو على كل شيء قدير، { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } ( يس : 82 ) .
الشبهة الثالثة : قولهم لو كان نظام الكائنات مخلوقا من إله حكيم، لكان موضوعا بقصد وحكمة، ولكانت علامات القصد والحكمة تامة في كل شيء، إلا أننا نرى في العالم أشياء لا تنطبق على القصد والحكمة.
والجواب على هذه الشبهة: أن جهلنا بحكمة مخلوق أو نظام ما في هذا الكون، ليس مبررا على الإطلاق أن ننكر خالقه سبحانه، ذلك أننا نشاهد من أسرار الله في مصنوعاته الحكم الباهرة ولم تزل تظهر لنا يوما بعد يوم حكمة بعد أخرى، مما كان خافيا علينا دهورا طويلة، فليس عدم إدراكنا للحكمة يعني انتفاءها وعدم وجودها، فقد تظهر لنا في يوم من الأيام ، كما ظهر سواها .
وإذا تأملتم – أيها الملاحدة - قصور العقل البشري وعجزه عن إدراك كثير من الأمور المادية المشاهدة لنا، وقارنتم بين هذا العجز وبين قدرة الله العظمى وحكمته، لم تستغربوا اختفاء حكمة بعض الأشياء عن عقولنا، ورأيتم أن من الأولى قياس القليل النادر، مما لم تظهر حكمته، على الكثير المستفيض الذي لا يعد ولا يحصى من شواهد حكم الله الظاهرة في مخلوقاته، لا أن تتخذوا من هذا القليل النادر الذي خفيت حكمته دليلا على إنكار وجود الله الخالق.
الشبهة الرابعة ، قولهم: إذا كان لكل موجود موجد، ولكل مخلوق خالق فمن خلق الله ؟ والجواب على هذه الشبهة من وجهين:
الوجه الأول: أن إيراد هذا السؤال خطأ بين، ذلك أن قدرة الله جل جلاله تتعلق بالممكنات لا المستحيلات، وأن يخلق الله إلها من المستحيلات بلا شك، فلا تتعلق به القدرة، ذلك أن هذا الإله الذي سيخلقه الله سبحانه سيكون مخلوقا، وإذا كان مخلوقا فبالضرورة لن يكون خالقا وبالتالي لا يصلح أن يكون إلها.
الوجه الثاني: أننا لو تنزلنا وقلنا بصحة السؤال، لأفضى ذلك إلى التسلسل، وهو محال عقلا، بيانه أننا إذا أجبنا على سؤال من خلق الله ؟ بالقول: إنه خالق آخر، فسوف يرد نفس السؤال على الخالق الآخر، فيقال من خلق الخالق الآخر، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، وفي المحصلة سنكون قد ارتكبنا محالين عقليين: الأول نفي الخالق، والثاني: القول بتسلسل علل لا نهاية لها.
الإيمان والعلم والفلسفة :
كثيرا ما يستند الملاحدة في إنكارهم للخالق إلى الفلسفة والمنطق، ويحاولون أن يظهروا بمظهر الباحثين والمفكرين، ولكنهم في حقيقة الأمر من أجهل المخلوقات على الإطلاق، ذلك أن الدين والعلم والفلسفة كلها قد اتفقت على الإيمان بالله سبحانه، وأنه موجد الكون ومدبره، ولكن كما قال بعض الفلاسفة: القليل من الفلسفة يبعد عن الله، لكن الكثير منها يرد إلى الله، وقد اخترنا في خاتمة هذا المقال بعض مقولات لعظماء من الفلاسفة الذين نصوا على وجود الله سبحانه، والإيمان به:
يقول "أفلاطون": " إن العالم آية في الجمال والنظام، ولا يمكن أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية، بل هو صنع عاقل، توخى الخير، ورتب كل شيء عن قصد وحكمة "
ويقول "ديكارت": "إنِّي مع شعوري بنقصٍ في ذاتي، أُحسُّ في الوقت نفسه بوجود ذاتٍ كاملة، وأراني مضطرًّا إلى اعتقادي؛ لأنَّ الشعور قد غَرَسَتْه في ذاتي تلك الذات الكاملة المتحليَّة بجميع صفات الكمال؛ وهي الله".
ويقول "أناكساغورس" أحد فلاسفة اليونان الأوائل: " من المستحيل على قوة عمياء، أن تبدع هذا الجمال، وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم، لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى، فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد، بصير حكيم "
ويقول ديكارت أيضاً: " أنا موجود فمن أوجدني ومن خلقني؟ إنني لم أخلق نفسي، فلا بد لي من خالق. وهذا الخالق لا بد أن يكون واجب الوجود، وغير مفتقر إلى من يوجده، أو يحفظ له وجوده، ولا بد أن يكون متصفا بكل صفات الجمال. وهذا الخالق هو الله بارئ كل شيء "
ويقول باسكال: " إن إدراكنا لوجود الله، هو من الإدراكات الأولية، التي لا تحتاج إلى جدل البراهين العقلية، فإنه كان يمكن أن لا أكون، لو كانت أمي ماتت قبل أن أولد حيا، فلست إذا كائنا واجب الوجود، ولست دائما ولا نهائيا، فلا بد من كائن واجب الوجود، دائم لا نهائي، يعتمد عليه وجودي، وهو الله الذي ندرك وجوده إدراكا أوليا، بدون أن نتورط في جدل البراهين العقلية، ولكن على الذين لم يقدر لهم هذا الإيمان القلبي أن يسعوا للوصول إليه بعقولهم.."
وبهذه الثلة من أقوال هؤلاء الفلاسفة وبما سبق من أدلة عقلية جلية، يتبين أن الإيمان بوجود الخالق قضية ضرورية بديهية، مركوزة في النفس والعقل، لا يخالطها ريب ولا شك، ولا تحتاج لبرهان إلا لمن فسدت فطرته، والله الموفق والهادي إلى سواء لسبيل.
هل يمكن أن يفتن النبي عن الوحي ؟
كتب بعض المفتونين قائلاً: " إنها لظاهرة خطيرة ومؤلمة، وهي إمكان فتنة الناس للنبي عن الوحي، وإمكان ركون النبي إلى فتنتهم – أي المشركين - "، واستشهد على قوله هذا بقول الله تعالى: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً }(الإسراء: 73-75 ) ثم ساق بعض الروايات المذكورة في التفاسير ليدلل على صحة كلامه، والذي يريد من ورائه التشكيك في صدقية الوحي وموثوقيته، والتشكيك في صدقية النبي – صلى الله عليه وسلم -، والتأكيد على أن النبي غير قادر على تحمل ضغط قريش .
وللرد على هذا الافتراء لابد أن نقف مع الآية وقفة موضوعية توضح معانيها، وتضعها في سياقها، ومن خلال هذه الوقفة سيتضح بطلان ما ذكره الطاعنون. حيث وردت الآية في سياق الحديث عن الكفار في الآخرة، وذلك في قوله تعالى:{ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً } والتي أعقبتها الآية محل البحث، وكان فيها انتقالاً واضحاً من الكلام عن الكفار في الآخرة إلى ذكر بعض أفعالهم في الدنيا، ولعل ذلك كان بمثابة التعليل لما يصيبهم في الآخرة من عذاب وعمى، حيث ذكر سبحانه أن الكفار بعد أن عجزوا عن ثني النبي عن دعوته، وعجزوا عن التأثير عليه بتعذيب أصحابه لجؤوا إلى سياسية اللين، حيث حاولوا ثني النبي – صلى الله عليه وسلم - عن بعض ما أوحي إليه { عن الذي أوحينا إليك }، من غير أن تبين الآية ما هو الشيء الذي طلبوا من النبي تغييره، وما هو الشيء الذي طلبوا إضافته للوحي { لتفتري علينا غيره } إلا أن السياق العام يدل على أنهم طلبوا من النبي تنازلاً ما تجاه آلهتهم الباطلة، وبالغوا في الأمر فطلبوا أن ينسب النبي هذا التنازل إلى الله، وجعلوا جائزة ذلك رضاهم وكف أذاهم عنه، ومصاحبتهم له { وإذا لاتخذوك خليلاً } إلا أن الله ثبته على الحق { ولولا أن ثبتناك }، ونبهه إلى خطورة هذا المسلك، ووعظه في ذلك: { إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } فكانت هذه الآية بمثابة إعلام للأمة بأن الله حفظ كتابه، وامتنان من الله لنبيه على هذا الحفظ والتثبيت، فليس في الآية إذاً ما يمكن أن يشكل طعنا في الوحي، أو تشكيكا في النبي، كيف والآية صريحة أن الذي وقع من النبي من ميل لموافقتهم، لم يعدوا أن يكون حديث نفس لم يترجم إلى واقع عملي، أو تعهد لفظي، بل كان مجرد هم وربما خاطر سرعان ما نزل التثبيت الإلهي ليقطعه وليؤكد حفظ الله لنبيه ولكتابه، فالآية تدل على عكس ما يقوله الطاعنون .
وأما أسباب نزول الآية فهي ضعيفة، وإن ذكرها المفسرون، فإنهم يذكرون ما ثبت وما لم يثبت، فمما ذكره المفسرون في أسباب نزول الآية رواية سعيد قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش، وقالوا: لا ندعه حتى يلم – يمس - آلهتنا، فحدث نفسه، وقال: ما علي أن ألم بها بعد أن يدعوني أستلم الحجر، والله يعلم أني لها كاره، فأبى الله، فأنزل الله: { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } الآية.
وهذه الرواية كما ترى مرسلة فسعيد وهو ابن جبير لم يدرك عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فروايته عنه وعن الأحداث الواقعة في زمنه – عليه الصلاة والسلام – مرسلة، والمرسل من أقسام الضعيف، وعليه فالرواية من جهة السند لا تصح . وعلى فرض صحتها فحديث النبي لنفسه بموافقتهم كان اجتهاداً منه – عليه الصلاة والسلام – إذ ظن أن مس آلهتهم سوف يجلب مصالح شرعية منها: تمكينه من استلام الحجر، وهو عبادة وقربة، والمصلحة الثانية: تليين قلوب المشركين عليه وعلى أتباعه بما يزيد من احتمال إسلامهم وتخفيف معارضتهم للدعوة . وقد تقرر في أصول الفقه جواز اجتهاد النبي فيما لم ينزل عليه فيه شيء إلا أن الله يثبته على اجتهاده، أو يرشده إلى سبيل الصواب فيه، وهو ما حدث هنا؛ إذ نهاه عن إجابة المشركين إلى ما طلبوا؛ لما سيترتب على ذلك من نتائج سلبية تضر بالدعوة، وفي مقدمة تلك النتائج السلبية فتنة المؤمنين عن دينهم، بقول المشركين لهم: إن نبيكم وقدوتكم قد استلم آلهتنا وعظمها، وتخلى عما كان يدعو إليه، وفي ذلك أعظم الفتنة وأسوأ الأثر .
ومما ذكره المفسرون في سبب نزول الآية رواية قتادة - رحمه الله - قال: ذُكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة إلى الصبح، يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه، وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا وابن سيدنا، فما زالوا يكلمونه حتى كاد أن يقارفهم – يوافقهم -، ثم منعه الله وعصمه من ذلك .
والكلام في هذه الرواية كالكلام في رواية سعيد سنداً ومتنا فقتادة وهو ابن دعامة السدوسي تابعي ثقة لم يلق النبي – صلى الله عليه وسلم – فحديثه مرسل، والمرسل من أقسام الحديث الضعيف، والكلام في المتن لا يختلف عن سابقه غير أن الرواية السابقة فصلت ما طلب المشركون من النبي، وهذه أجملت .
ومما ذكروه أيضاً رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - وهي أن: ثقيفاً كانوا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله أجلنا سنة حتى يُهدى لآلهتنا، فإذا قبضنا الذي يُهدى لآلهتنا أخذناه، ثم أسلمنا وكسرنا الآلهة، فهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيهم، وأن يؤجلهم، فقال الله: { ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلاً } .
وهذه الرواية وإن كانت مسندة إلا أن الطبري ألمح إلى ضعفها في تفسيره، هذا من جهة الكلام في سند الرواية أما الكلام في متنها فهي داخلة ضمن الاجتهاد المشروع للنبي – صلى الله عليه وسلم – ووجه الاجتهاد في ذلك أن القوم كانوا كفاراً، وترك النبي – صلى الله عليه وسلم - قتالهم سنة – على القول بأن هذه الآيات مدنية - غير مضرٍ، طالما أنهم بعد هذه المدة سيسلمون طواعية . هذا وجه اجتهاد النبي – صلى الله عليه وسلم - إلا أن الله نهاه عن إجابتهم، لما يحمل هذا الإذن من معنى الرضا بالكفر، والسماح بوجوده، وربما تشوفت قبائل أخرى غير ثقيف لتحصيل مثل هذا التأجيل، بما يؤدي إلى تعطيل جهاد الكفار .
وبهذا يظهر ألا مطعن في مدلول الآية الكريمة التي استشهدوا بها، بل على العكس، فالآية تدل على حفظ الله لنبيه من أن تزيغه الأهواء، وحفظه لكتابه أن يدخل فيه ما ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه، وهو حفظ تكفل الله به لنبيه وللأمة جمعاء، حتى يصل كتاب الله إلى البشر جميعا صافيا نقياً كما أنزل من غير زيادة ولا نقصان .
تحريف كلم القرآن عن مواضعه من الكذب على الله
ماحكم قول (لم يلد ولا يولد) ؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
قول (لم يلد ولا يولد) لا يجوز إن كان القائل يقصد به الآية من سورة الصمد بل هو منكر من القول وزور، لأنه تحريف لكتاب الله تعالى وقد يفضي بفاعله إلى الردة والعياذ بالله تعالى. والله تعالى أعلم.
الدليل على حفظ القرآن من التحريف
بسم الله الرحمن الرحيم

السادة المحترمون
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
هل يوجد حديث نبوي شريف عند مذاهب أهل السُنة، مداره أن القُرآن الكريم لم يصبه التحريف؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فالدليل على سلامة هذا القرآن من التحريف، هو قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9].
وقد أجمع المسلمون على حفظه، وسلامته من كل تحريف، وعلى أن من ادعى وقوع التحريف فيه أنه كافر. وقد سبق بيان ذلك مفصلا تحت الفتوى رقم: 6472 .
والله أعلم.
الحكمة من حفظ القرآن دون غيره من الكتب المنزلة
بسم الله الرحمن الرحيم"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافطون"صدق الله العظيم لماذا تكفل الله عزوجل بحماية القرآن الكريم بينما لم يتكفل بحماية الكتب السماوية من التحريف بحيث عبث العابثون من يهود ونصارى في كتبهم السماوية ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:

فالإيمان يقوم على التسليم لأمر الله والرضا، بحكمه، والانقياد لشرعه والاعتقاد بأن ما شرع الله وقضاه مبني على الحكمة التامة، وأنه تعالى: ( لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون) [الأنبياء:23]وقد يقف العبد على بعض الأسرار والحكم لبعض الأمور ولا يقف على البعض الآخر،ولعل من الحكم لحفظ القرآن دون غيره من الكتب - مع أن الكل من عند الله- أن القرآن لما كان هو آخر الكتب، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الأنبياء، ناسب أن يكون هذا الكتاب العظيم محفوظاً من التبديل والتغيير لانتفاء بعثة نبي آخر ينفي التحريف ويظهر الحق.
وهذا على عكس الكتب السابقة التي جاء بعدها الأنبياء وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، فأخبر عن تحريفها، وأكد ما فيها من الحق .
والله أعلم.

منقول

my email

lastmissions

its hotmail

lastmissions
01-22-2008, 09:08 AM
البحث عن معنى الحياة



عرَّف أرسطو الإنسان بأنه حيوان اجتماعي. وبالطبع فالإنسان ليس الحيوان الاجتماعي الوحيد. هنالك حيوانات أخرى كثيرة، من بينها من هو أكثر اجتماعية، ببعض المقاييس، من الإنسان. فقد وصل تقسيم العمل بين أعضاء مجتمعات الأرضة والنمل والنحل الاجتماعي والزنبور حداً أبعد مما في المجتمعات الإنسانية. يصنف معظم أفراد هذه الحشرات "عمالاً" لأنها فقدت الوظيفة الأساسية للتوالد؛ أو أنها عقيمة أو إن شئت محيرة، ليست ذكراً ولا أنثى، وإن كانت من الناحية التشريحية إناث غير مكتملة التكوين أو، كما في حالة الأرضة، ذكوراً وإناث معاً. وقد فوض التوالد لطائفه متخصصة من الأفراد، ذكوراً وإناث مخصبات. ويطلق اسم "الملكات" المضل على الإناث المخصبات التى لا تقود ولا تحكم.



إن اجتماعية الإنسان من نوع خاص جداً كما أدرك أرسطو بوضوح. لقد أوحت كلمة اجتماعي بالحياة في دول المدن؛ فالإنسان إذن "حيوان سياسي". وبينما تعتمد اجتماعية الإنسان على الوعي بالذات والاتصالات الرمزية فإن اجتماعية الحيوانات ليست إلا غرائز موروثة. والوحدة الأساسية في التنظيم الاجتماعي للإنسان هي العائلة النووية التى تتشكل بارتباط الأم والأب والأطفال. هذه الأسرة النووية تمثل عمومية ثقافية بشريه على الرغم من التنوع الذى لا حد له في العلاقات العرفية بين الأفراد في الثقافات المختلفة.



إن تحديد مكان وكيفية نشأة العائلة النووية خلال التاريخ التطوري للنوع الإنساني أمر يخضع للحدس والتخمين. فهي لا توجد بشكلها الإنساني لدى الرئيسات غير الإنسانية التى تبدي مع ذلك تنوعاً مدهشاً في التنظيم الاجتماعي. وقد كان سلوك الرئيسات ووظيفتها التناسلية وممارساتها لتربية الأطفال مواضيع لدراسات بارعة شديدة الاتساع. وقد دلت هذه الدراسات على أن حجم المجموعة الاجتماعية يتراوح من 2 إلى 5 في القردة العليا الشبيهة بالإنسان ومن 13 إلى 185 في بعض القرود الأفريقية. تميل المجموعات التى تعيش وتتغذى على الأرض لأن تكون أكبر حجماً من تلك التى تعيش بين الأشجار وفروعها. تتكون الزمرة عادة من عدد معتبر من الإناث البالغات جنسياً ومن واحد إلى عدة ذكور بالغين إضافة لبعض الصغار الذين لم يبلغوا مرحلة النضج الجنسي. وتكون بعض الإناث البالغات في حالة استقبال جنسي والأخريات بين حبلى ومرضع. وفيما عدا الرضع الذين تتم رعايتهم فإن جميع الأفراد الآخرين يبحثون عن الطعام بأنفسهم. وليس هنالك تعاون للحصول على الطعام بين الأفراد في معظم الأنواع، ويكون التعاون محدوداً جداً إن وجد. لكن هنالك تعاون فيما يخص الحماية المتبادلة. على وجه الخصوص فإن الذكور الأقوياء يتخذون مواقع دفاعية عند تعرض الزمرة للخطر، خصوصاً خطر الحيوانات المفترسة مثل القطط الكبيرة.



هنالك اختلاف في وجهات النظر حول مدى الاقتتال الذى يتم بين أفراد الزمرة. فقد يكون هنالك قتال شرس بين ذكور القرد الأفريقي المحبوسين الذين يذودون عن الإناث اللائي يستميلونهم في حديقة الحيوان. أما على الطبيعة فإن المشاهدات تكشف عن وضع مختلف تماماً. فهنالك نظام صارم بعض الشيء للسيطرة والطاعة بين أعضاء الفرقة، وهذا النظام يتم تأسيسه والحفاظ عليه عادة بالتهديد الطقوسي لا بالاقتتال الفعلي. ويتم في بعض الأنواع استبعاد الأفراد الضعفاء من الذكور البالغين الذين يشكلون فرقاً من "العزاب" يتسكعون قرب الزمرة انتظاراً لفرصتهم. ومع أنه تتوفر فرص أكثر للذكور السائدين لمضاجعة المستقبلات من الإناث، إلا أنه ليس صحيحاً أن الزمرة تنتسب كلها إلى ذكر واحد. العكس هو الصحيح لأنه يوجد دائماً عدد من الذكور النشطين، كما يسود في بعض الأنواع قدر كبير من الحرية الجنسية. الفرق الأهم في السلوك الجنسي بين الإنسان وأقاربه يقع في مضمار آخر. فالأنثى في كل الرئيسات عدا الإنسان تكون مستقبلة جنسياً خلال فترات محددة من الدورة النزوية فقط. أما أنثى الإنسان البالغ جنسياً فهي دائمة الاستقبال.



ومع أن قله فقط من إناث القرود في الفرقة تكون في الدورة النزوية في أي وقت ما، فإن واحدة إلى بضعة إناث يكن دائماً على تلك الحالة. وهكذا يتوفر للذكور النشطين جنسياً الوصول باستمرار إلى إناث مستقبلات، لكنهن إناث مختلفات. ذلك يجعل أُحادية الارتباط وأبوية الرعاية بعيدتا الاحتمال. حقيقة كما أسلفنا فإن ذكور القرود يتولون حماية الصغار وبقية أفراد الفرقة. وعلى الأقل في بعض الأنواع فإن الذكور يتسامحون في أحسن حالاتهم مع الصغار، كما يأخذ أولئك حذرهم من آبائهم وأعمامهم. أما في الإنسان فإن استمرارية تلقى الإناث تساعد على تقليل حدة المنافسة بين الذكور وتجعل العلاقة الأُحادية ممكنة.



تفرض استطالة أمد عجز الطفولة الإنسانية عبئاً أكبر بكثير على الأمهات بالمقارنة مع الأمد القصير لطفولة القردة والنسانيس الأكثر خفة ورشاقة. فغالباً ما تكون أنثى الإنسان عاجزة عن جلب الطعام لنفسها ولصغارها بعد الوضع. يصدق ذلك أكثر حينما يعتمد توفير الطعام على الصيد بدلاً عن جمع الثمار والحشرات والحيوانات الصغيرة الأخرى القريبة من المعسكر. ويفرض هذا الوضع على الذكر الإنساني القيام بمهمة توفير مستلزمات العائلة. ووفقاً لعبارة هوكيت وآشر السلسة التى سبقت الإشارة إليها فإن "كل ذلك يؤدى إلى تأنيث الآباء".



العائلة أقدم المؤسسات الاجتماعية الإنسانية وأكثرها دواماً. وهى ثابتة لا بمعنى أنها لا تتغير، فالاختلافات في تركيب الأسرة لا حصر لها، وإنما لأنها ربما تبقى على هذا الشكل أو ذاك مؤسسه قاعدية للإنسان ما بقى النوع الإنساني. كان هنالك جدل كثير حول الأهمية النسبية لكل من المحددات الوراثية والثقافية للدافع الجنسي والتنظيم الأسرى للإنسان. فمن الواضح أن الاثنين مهمان. ربما لا يتطرق لأحد الشك في حقيقة أن الدافع الجنسي نتاج آليات وظيفية ترسخت وراثياً. لكن مظاهر هذا الدافع يكيفها الإطار الثقافي. ولا يجوز افتراض انتظام الأساس الوراثي لجينات الإنسان بسبب انتشارها الواسع في النوع الإنساني. على العكس تماماً، فإن التباين الوراثي في الأشكال المفضلة المختلفة لإشباع الدافع الجنسي وفى حدته وتوقيته، مألوف وهام. ويحدد تعقيد العادات والعوامل الاجتماعية-الثقافية الأخرى السلوك الصريح والقنوات التى ينبغي أن توجه إليها الرغبات الجنسية. وقد نمى صرح هائل من القواعد السلوكية والمحظورات صار مفروضاً على الدوافع الفسيولوجية المكيفة وراثياً. بعض المجتمعات أكثر إباحية وبعضها أشد تزمتاً في القواعد التى تضعها للتحكم في علاقات الجنس والأسرة والنسل. ولم يترك أي مجتمع معلوم في الماضي أو الحاضر هذه الأمور كلياً لهوى الأفراد وتقديرهم.



تتشابك العوامل الوراثية والثقافية في علاقات الأب/الأم-الطفل أيضاً. هنالك احتمال كبير بأن يكون تركيز الارتباط العاطفي للأم بابنها أو أبنائها متأصلاً في الجينات، وإن لم يكن هذا الموضوع قد أوفى حقه في الدراسة من الوجهة الوراثية. ويحتمل أن يصدق الشئ نفسه على علاقات الأب-الابن، وان كانت الجذور الثقافية أقل تعمقاً هنا، كما أن علماء الأنثروبولوجيا أفاضوا في وصف الحالات المحددة ثقافياً.



تصعب تماماً المبالغة في أهمية عجز الطفل الإنساني واعتماده الكلى على الأم بالنسبة لتنامي الإنسان. فلا بد لكي يبقى النوع من التعديل والضبط التطوري، ولهذا التعديل والضبط أهميته من الوجهتين البيولوجية والثقافية. وكما أشار وادنجتون (1960) فإن للطفل سعة وراثية ليكون "متلقياً للسلطة" وليكون "كائنا أخلاقياً". ولم تزود العملية التطورية الإنسان بمبادئ وقيم أخلاقية محددة، لكنها هيأت أطفاله وأعدتهم لاستيعاب مثل هذه المبادئ والقيم من الأبوين ومن الأقارب وغيرهم من ذوى السلطان. يجعل هذا من اليسر بمكان انتقال الأخلاق والقيم التى يتم تطويرها ثقافياً ويجري توارثها جيلاً بعد جيل.



طرح بعض علماء الأحياء، ومنهم من صار من دعاة المذهب "الإنساني"، فكرة مفادها أن الأخلاق تم تشكيلها وتثبيتها بحسبانها دوافع غريزية وراثية عن طريق الاصطفاء الطبيعي. لكن الذى حدث فعلاً أكثر إثارة ومدعاة للاهتمام. ما يتم ترسيخه بالتكيف البيولوجي ليس طبيعة المبادئ الأخلاقية ومحتواها وإنما القدرة على الصيرورة الأخلاقية. أما طبيعة المبادئ الأخلاقية ومحتواها فتجيء من التطور الثقافي البيولوجي. وربما أمكن أن نقول بتعبير فرويد أن الذى يورث هو القدرة على تكوين ذات عليا (سيوبر ايقو) لا نوع الذات العليا التى تتكون. ويلزم تذكير الذين يستنتجون من ذلك أن الأساس البيولوجي للذات العليا ليس مهماً، بالمدى الواسع للتباين بين المتلهفين على تلقى السلطة والمتمردين عليها، وبأن قدراً من هذا التباين يمكن أن يكون وراثياً.



لقد اكتسبت الأبوة بالنسبة للإنسان، افتراضاً في المراحل الباكرة لتطور الإنسانية، معنىً لم يكن ممكناً لحيوان أن يمنحه لها. يجيء هذا المعنى من اكتساب الإنسان للوعي بالذات وبالموت. فالأب صار يعي بزواله ووقتيته. ومن المحتمل أن يعيش الأطفال والأحفاد وأبناء الأحفاد حينما لا يكون الأب حياً. وللإنسان أمل، ربما توهم، أنه سيبقى بشكل ما في ذريته. وتبدو الحياة التى يكرسها الفرد لأسرته ولذريته ذات معنى؛ وهو يمكن أن يتخبره بأن يقبض على جزء دقيق ويسير جداً من ذلك الخلود الذى يصبو إليه ولا يستطيع تحقيقه منفرداً.



وتعد رموز الخصوبة من أقدم الأدلة على يقظة الإنسان الروحية. ووفقا لهوكس و ولى (1963) "استمدت الدوافع الدينية للعصر الحجري قديمه وحديثه أقوى عناصر تماسكها وأكثرها تحديداً من الرغبة المشتركة في الخصب. وقد لوحظ أنه على الرغم من التداخل والارتباط الشديد للدين في العصر الحجري القديم مع الطقوس الطوطمية الأرواحية وسحر الصيد، فإن أكثر مواضيع تلك الطقوس تطويراً وأشدها وضوحاً تماثيل الأم-الآلهة وأعضاء الذكورة المنقوشة. ولا تزال لهذين الرمزين السيادة المطلقة في الآثار الثقافية الأولية للعصر الحجري الحديث*... ومهما كانت الشكوك، فلا شيء يمكن أن يزعزع الشهادة الصامتة للمئات فوق المئات من الدُمى الطينية والعظمية والحجرية الصغيرة للآلهة الأم.



قد تبدو هذه التماثيل الفينوسية العتيقة ببطونها الحبلى وأردافها المبالغ في ضخامتها سخيفة ومنافية لمزاجنا العصري. لكن مع ذلك فإن طقوس الخصب المتقنة الإخفاء لا تزال باقيه. ولا تزال الرموز المتعلقة بعضو الذكورة بارزه في أدياننا البدائي منها والمتقدم. ويرمز إلى الإله سيفا في الديانة الهندوسية بذكر وفرج منقوشين بطريقه اصطلاحية. وقد قام الفيلسوف الروسي رازانوف Rozanow بمحاولة ملفتة للنظر لتفسير النكاح والتناسل البشري بحسبانهما طقوساً شبه دينيه. وطرق قودينف (Goodenough 1965) أفكاراً مشابهة.



يمكن بمعنى أوسع أن نقول أن أشكالاً حديثه لطقوس الخصب تمنح معنىً لوجود ملايين غفيرة من الناس الأحياء. فالإنسان يسعى للإشباع الجنسي، ثم الارتباط الأسرى، ويكد لتحقيق أمن ذريته ورفاهيتها. ويشكل هذا المسعى خططاً للحياة ترسخت في دوافعنا الغريزية المؤسسة وراثياً بحيث صار الجميع تقريباً يسلمون ببداهتها وقلة صغيره فقط تساورها حولها الشكوك. ومع أن الجذور البيولوجية لهذا الجهد والمسعى الإنساني لا يتطرق إليها الشك، إلا أنه يتخذ على المستوى الإنساني الإتقان والزخرف الثقافي العفوي للرمزية والأسطورة والتصوف والشعر والفن. وتحظى الأمومة بالتقدير وربما التقديس لدى معظم الناس. وقد صارت المادونا والطفل رموزاً مقدسة للمسيحية. ولا نحتاج للذهاب بعيداً لنرى هنا الآلهة الأم التى استعادت وقارها القديم؛ فالتعلق العاطفي العميق برمز الأمومة بين تماماً.



لا يتفرد الإنسان بالتأكيد بخاصة كونه يسعى لا للجماع مع قرينه وحسب وإنما للتعاون معه في تربية النسل أيضاً. هذا التعاون مفهوم ومتوقع تماماً من الناحية البيولوجية. وقد تطور بصورة مستقلة في المجموعات الحيوانية المختلفة التى ظهر فيها. ففي الكثير من أنواع الطيور لا يكون الأبوان أُحاديا العلاقة وحسب وإنما يتعاونان على تغذية النسل وحمايته. ألا يكون في ذلك تفسيراً للتعلق الشديد للكثيرين بمراقبة الطيور؟ حتى تضحية الأبوين بالنفس لصالح النسل ليس أمراً نادراً تماماً؛ فالأب في بعض الطيور والثدييات يضع نفسه في موقع الخطر ليدرأ عن صغاره أذى العدو المهاجم. أما مسألة تطابق هذا السلوك الإيثارى موضوعياً مع السلوك الإيثارى للإنسان فموضوعه مختلف. لقد مال كثير من المراقبين لتلك المطابقة؛ لكن من المشكوك فيه تماماً أن يوجد الإيثار الإنساني - حب الخير - حينما لا تكون هنالك قدرة على التمييز بين خيارات بديلة وعلى اتخاذ القرار الحر باختيار أحدها. من الناحية الأخرى فالرعاية الأبوية ليست بالتأكيد مقصورة على الإنسان. لكن هذا الدافع الغريزي ضعيف نسبياً ولا يتدعم بالتوق للانتساب للآخرين إلا لدى الإنسان وحده. ولهذا السبب فإن الإنسان وحده هو الذى يمكن أن يصاب بخيبة الأمل حينما يلقى الأبوان العقوق والرفض بدلاً من محبة الأبناء.



هل يكفى إذن أن يعيش الإنسان ليحيا، يعيش لينجب مزيداً من الحياة، حياة تصل السلسلة إلى الأبد كما يأمل؟ هذا هو الجواب الوحيد المعقول للسؤال عن معنى الحياة بالنسبة للكثيرين، فسلسلة الحياة الأبدية هي النوع الوحيد من الخلود الذى يمكنهم الاعتقاد به. ولو أمكن لحيوان أن يسأل عن معنى الحياة لكان الجواب الوحيد هو أن الحياة نفسها هي معنى الحياة. لكن هل يكفي هذا الجواب بالنسبة للإنسان؟ لا بدَّ وأن يكون الحيوان الذى يفطن لهذا السؤال في المكان الأول إنساناً.



لقد رأى كامو في لمحة شديدة الفراسة "إنني أعرف أن لشيء في هذا العالم معنى هو الإنسان، لأنه الكائن الوحيد الذى يطلب أن يكون له معنى". هنا تكمن قوة الفكرة الأزلية وضعفها.. إن الحياة غاية في ذاتها. هذه الفكرة تبقى على الحياة، فهل يمكنها أيضاً أن تشبع عقلاً أسبغت عليه نعمة أو نقمة الوعي بالذات وبالموت؟ هل لا بدَّ من العثور على معنى للحياة الإنسانية في شيء يتجاوزها ويعلو عليها، إن كان العثور على هذا المعنى ممكناً؟



كان على الإنسان دائماً أن يكدح ويناضل للحفاظ على حياته قبل أن يسأل عن السبب الذى يعيش لأجله. يعجز الذين يعيشون منا في رغد وأمن نسبى أن يدركوا أن مهمة البقاء على قيد الحياة كانت ولا زالت تستغرق كل الوقت لأناس كثيرين. فالجوع لم يكن بعيداً جداً أبداً، والأمراض والكوارث من كل الأنواع تتعقب الناس. الذين خبروا الحياة تحت ظروف كهذه يعرفون أن دافع البقاء يكون كثيفاً بلا تردد ولا انقطاع، لكنه مع ذلك لا يحل كلياً محل السؤال عن المعنى وراء كل ذلك العناء.



اقتفى كثير من علماء الإنسان أثر تايلور وفريزر بالقول أن الإنسان اخترع السحر خلال نضاله لكي يبقى على قيد الحياة، وأنه من السحر نشأت الأديان. ولا يشترك كل دارسي هذه المواضيع مع هذا الرأي، إذ يفترض الكثيرون وجود منشأ مستقل لكل من السحر والدين. الدين هو ما يفعله الإنسان بهمه الشاغل، بمصيره، أما السحر فنفعي. لقد رغب الإنسان في مراودة قوى الطبيعة التى أعيته ولم يفهمها، في السيطرة عليها وتطويعها لإرادته. وصف مالينوفسكى هذه الوظيفة النفعية للسحر، وقد اقتبسنا ذلك من قبل. لكن المعتقدات السحرية تعلق بكل الأديان تقريباً، البدائي منها والمتقدم. ولا نحتاج للدخول هنا حلبة الجدال لنقرر إن كانت الأسحار مجديه أحياناً. ولا يلزم أن نكون في عداد الغيبيين للتسليم بأن الأسحار قد تحقق ضرباً من الأعاجيب لمن يؤمنون بها.



يشدد قود (Goode 1955) محقاً على أننا : "مطالبون بمنح نفس الأهمية الفكرية والعلمية لكل من الأنظمة الدينية الخاصة بداهومى والرومان الأوغسطيين، زوفو والتبت، اللاكونديين والنفعيين، باختصار للأديان البدائية والمتمدينة على السواء. صحيح أن وقع بعض الأديان كان أشد على حياتنا الخاصة لأنها شكلت جزءاً كبيراً من تقاليدنا ومعتقداتنا الجماعية، كالعبرانية مثلاً. لكن ذلك لا يميزها عن الأديان البدائية بحسبانها مصادر للبحث عن الحقائق البنيوية الأساسية في الأنظمة الدينية".



يصدق الشيء نفسه على جانب المسألة الذى يشغل عالم الأحياء التطوري. لقد تنامت لدى الإنسان سعة، حاجة في واقع الأمر، لأن يكون له دين؛ فما ترى كان ممكناً أن تكون الدوافع أو الوظائف التى منحت قدرة اصطفائية وصلاحية تطورية لأولئك الذين تمت تلبية هذه الحاجة لديهم؟ هذه مسألة لا طائل وراءها، حتى لو كان قود محقا في أن "أديان الإنسان الفطري ستظل مجهولة لكل العلماء الاجتماعيين إلى الأبد، برغم أن الكثيرين من العلماء - الشعراء سيثابرون على الاقتناع بأنهم ألهموا تلك المعاني".



لا يمنح السحر تبصراً في معنى الحياة مهما بلغت درجه الإيمان والتعلق به. وسواء كان السحر مفيداً للبقاء أم لا فهو لا يفيد في معرفة ما نعيش لأجله. الأديان هي التى توفر الأجوبة على تلك الأسئلة، أما مصداقية تلك الأجوبة فهي بالطبع مسألة أخرى. لقد وجد الإنسان في العالم بمشيئة الله، ومعنى وجوده هو أن يعبد الله. والله أو الآلهة، مهما كان تصورها في الأديان المختلفة، أزلية لا تموت. أما الإنسان فهو واع بوقتيته وتشظيه**. ويصف هارتشون الدين بأنه "قبول الإنسان لتشظيه". ويتغلب الإنسان على تشظيه ووقتيته بأن يكون جزءاً من الحياة الأزلية الجليلة، على الأقل في خياله.



هنالك تصورات مختلفة لمشاركة الناس في الحياة الأزلية في الأديان المختلفة. ليس هنالك وعد أو وعيد بالجنة أو النار في التوراة، لكن عقيدة بعث الموتى ترسخت في اليهودية في الحقب التالية للإنجيل. وهذه العقيدة واضحة بجلاء في المسيحية والإسلام. وقد صور المفهوم الأصولي في آلاف اللوحات التى تبين القضاء الأخير في الكنائس المسيحية، غالباً بتفاصيل مرعبة؛ كما وصفت بالقدر نفسه من الاهتمام بتفاصيلها المرعبة في ملحمة دانتى الكلاسيكية. ليس الموت سوى وقفه عابرة في مدرج الروح الأبدي. ويحل البعث في النهاية محل الموت، لا بعث الروح فحسب (فهى لا تموت أبداً) وإنما أيضاً بعث الجسد الذى يعيش أبداً فيما بعد. لكن الحياة الأبدية تتفرع تفرعاً ثنائياً مفزعاً، ليس فيها سوى بديلين، أما الثواب والنعيم الأبدي لصالح الأعمال أو عذاب النار وغمها لطالحها.



ترفض البوذية والهندوسية هذا النوع من الخلود كلياً. فالأرواح التى تتحرر من إسار البدن عند الموت تتناسخ، هنا في الأرض، مرة تلو المرة، في أجساد أخرى. ويعتمد نصيب التجسدات المتتابعة من النبل والانحطاط على الحسنات والسيئات التى تراكمت خلال التجسد السابق. ولا يُعد تجوال الروح عبر التجسدات المتعاقبة شيئا طيباً أو مرغوباً. العكس تماماً صحيح لأن غاية الترقي الروحي هى انتهاء غربة الروح واندماجها في الذات الإلهية أو في جوهر براهما الكون الأصلي أو النيرفانا.



ويبدو أن الفكر الخلاق في المسيحية يتجه إلى نوع من تمثيل الوجهات المتعارضة المتعلقة بالخلود. فالإنسان المعاصر يشمئز من عسف التفرع الثنائي بين الجنة والنار، السعيد والشقي. ومن الواضح أن طهارة الحياة الإنسانية أو فسادها يشكل سلسله متصلة، لا تفرعاً متعسفاً إلى طائفتين منفصلتين. يحاول تيليش (1963) حل هذا الأشكال كالتالي : "على المسيحية أن ترفض إنزال رمز الخلود واستخدامه للتعبير عن هذه الخرافة العامية رفضا تاماً؛ وذلك لأن المشاركة في الأبدية ليست "الحياة القادمة". لا وليست هي خاصة نوعية طبيعية للروح الإنسانية. المشاركة في الأبدية فعل خلقي إلهي يبيح به للزمني أن ينفصل عن الأبدي وأن يعود إليه". ويتابع تيليش : "كثيراً ما يستخدم رمز البعث استخداماً عاماً لتأكيد حتمية انبثاق الحياة الأبدية من موت الحياة الزمنية. انه بهذا المعنى طريقة رمزية للتعبير عن المفهوم اللاهوتي الأساسي للوجود الجديد. وكما أن الوجود الجديد ليس وجوداً آخر وإنما هو تحول من الوجود القديم، فإن البعث ليس خلقاً لحقيقة أخرى في مواجهة الحقيقة القديمة، وإنما هو تحول ينشأ نتيجة لموت الواقع القديم وينبثق منه".



لقد توصل الناس في كل مجتمع إنساني معروف، وفى كل حضارة سلفت وأبقت سجلاً تاريخياً يدل عليها إلى أنساق من الأفكار الدينية يتعلق بمعنى حياتهم والطريقة المناسبة لتوجيهها. ومع أن الأنساق الدينية المختلفة ليست متشابهة، بل تتعارض في بعض النقاط أحياناً، فهي تؤدي وظيفة لا غنىً عنها. الدين يمكن الناس من تحقيق السلام مع أنفسهم ومع العالم الرهيب الغامض الذى أوجدتهم فيه قوى أكبر منهم. وقد كان الدين عمومية ثقافية شاملة للنوع الإنساني منذ أقدم العصور لأن رموزه وأساطيره وفلسفاته وفرت الأجوبة لمسائل الوجود الإنساني التى تفوق حد الوصف. ولأن الدين يجيب على تلك الأسئلة، أو لأنه يبدو كذلك، فقد صار أداة التماسك الاجتماعي.



كثيراً ما زعم أن الدين مفيد اجتماعياً حتى بيولوجياً لأنه يمنح إقراراً غيبيا للأخلاق؛ وأن هذه الوظيفة انتهت أو أنها حتماً إلى زوال بعد أن يتوقف الناس عن عدّ مثل هذا التصديق الغيبي ضرورياً. لكن الدين لم يتمكن من توفير هذا الإقرار إلا لكونه منح معنىً لأفعال الإنسان بأن أعطاها مرجعية في مصيره. فحياة الأفراد وربما المجتمعات التى ينتمون إليها، ينظر إليها بحسبانها جزءاً من مخطط جليل فرضته سلطة الأهمية. حقاً تمت المبالغة في هذه الفكرة من حين لآخر لإيجاد المبررات الزائفة للحروب والاضطهاد الديني. غير أنها بالمقابل حدت بالكثيرين لتكريس حياتهم لخدمة بنى جنسهم بدافع الإحسان والتواضع والمحبة، مطمئنين إلى أنهم بذلك يخدمون الرب. هكذا مكّن الدين الفرد من اكتساب هُويَّة تماثله مع مجموعات أخرى أكثر ثباتاً من ذريته وعائلته النووية.



تبقى القبيلة والأمة والإنسانية ككل أكثر من مدى حياة الفرد، وربما إلى الأبد. كذلك يؤمل أن تفعل مهنة مثل العلم والفن أو حركة مثل الكنيسة أو الطائفة، أو مؤسسة مثل الحزب السياسي. وقد أثبت الناس حيناً بعد الآخر قدرتهم على التضحية بأنفسهم لمصلحة، حقيقية أو متخيلة، لحركات تستمر في البقاء والنمو بعد أن يموت الشخص الذى ضحى بحياته. وتضفي قدرة الناس على اكتساب هُويَّة تماثلهم مع مجموعات وحركات ومؤسسات معينة تماسكاً شديداً عليهم. ولهذا التماسك أهمية كبيرة جداً في تطور الإنسان. إنها تجعل التاريخ الإنساني مختلفاً عن التاريخ البيولوجي. النقطة الجوهرية هى أن تماسك المجموعات الإنسانية يستمد من وعيها بذاتها بينما تماسك السرب والقطيع وخلية النحل أو النمل مستمد من سلوك غريزي ينتقل من جيل إلى آخر عن طريق المورثات البيولوجية.



ولا بدَّ، بغض النظر عن اختيار المرء الديني أو اللا ديني، من الاعتراف بأن الدين جزء أساسي من الثقافة. ويذهب توينبى (1961) أبعد من ذلك إذ يتفق مع مؤرخ آخر هو دوسون على أن "الحضارات العظيمة في العالم تنتج عن الأديان العظيمة بحسبانها إفرازاً ثقافياً ثانوياً؛ الأديان العظيمة هي الأساس الذى تنبني عليه الثقافات العظيمة". ومهما يكن الأمر فإنه يستحيل لفظ جزء من ثقافة دون أن تسبب الأذى للكل. وكما أشار ميد (Mead 1955) "فسواء كانت حضارة ما محكمة التماسك أو مرنة مسترخية، وسواء كانت أخلاقها متوافقة داخلياً أو كانت عميقة التناقض، سواء كانت الممارسات في أحد جوانب الحياة متطابقة أو متعاكسة،، أو لو كانت تبدو عند الفحص الخارجي منفصلة عن الجوانب الأخرى، فلا بدَّ أن يتضح عند الفحص الأنثروبولوجي الدقيق انتسابها بعضها للبعض بطريقة نظامية".



لقد تأسست الحضارة الغربية على الأساس الديني اليهودي-المسيحي (بما في ذلك الروسية التى أسماها توينبى الحضارة المسيحية الأرثوذوكسية). وقد ذودت المسيحية تلك الحضارة لأكثر من ألف سنه بمعاني الوجود الفردي وأهدافه والمشروعات الجماعية التى تكمن في أعماق تراثنا الحضاري. لكن هذا الأساس الديني تعرض للتآكل منذ قرنين ونصف من الزمان بسبب تعارضه الحقيقي أو الظاهري مع القوة المتنامية للكشف العلمي، ولا يزال هذا التأثير ينمو نمواً مضطرداً. وقد كُتبت آلاف الكتب والمقالات حول هذا النزاع، بعضها يسعى لما يسمى بـ "التوفيق" بين العلم والدين، وبعضها يحاول أن يبين أن العلم وحده هو القادر على توفير الأساس الروحي للوجود الإنساني، معتبراً بذلك أن كل الأديان قد استنفذت أغراضها. ليس في نيتي أن ألخص هذه الأدبيات المرتبكة والمربكة ولو باقتضاب. إنني أعتقد أن العلم، وعلم الأحياء على وجه الخصوص، ذو علاقة وثيقة بمصير الإنسان، ولا بدَّ لتبيان هذه العلاقة من التذكير ببعض الحقائق، وببعض المحاولات لربط هذه الحقائق في الإطار العام للأمر قيد البحث.



كان كوبرنيق على فراش الموت حينما نُشر كتابه الذى أوضح فيه أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها مجرد كوكب يدور حول الشمس، وذلك في عام 1543. ولم يجذب الكتاب إلا اهتماماً قليلاً في بادئ الأمر. وقد نبذ كالفن نتائجه تلك بازدراء متسائلا "من يجرؤ على وضع حجة كوبرنيق فوق سلطان الكتاب المقدس؟". لكن الأمر لم يترك للسكون عند هذا الحد. فقد أوضح كبلر في سني 1609-1619، وجاليليو في سني 1610- 1632 أن كوبرنيق كان على حق. أثار ذلك زوبعة، فاستدعى جاليليو للمثول أمام محكمة التفتيش وأجبر على الإقلاع عن هرطقته. ثم جاء كتاب ديكارت "خطاب في المنهج" عام 1637، وكتاب نيوتن "المبادئ الرياضية" في 1682، وكتاب لوك "مقال بخصوص الفهم الإنساني" عام 1690. وقد رأى نيوتن مناسباً أن يصف نفسه في أخريات أيامه بأنه "جامع الحصى اللامع في شاطئ المجهول العظيم". لكن صورة نيوتن عن العالم وجدت مع ذلك قبولاً عاماً جعل الكنيسة تراعي الحذر في معارضة اكتشافاته بالطريقة التى اتبعتها مع جاليليو. لكن تكرر ذلك المشهد غير اللائق بعد قرنين، وذلك في عام 1859 وبعده. فقد صرفت نظرية داروين للتطور العضوي بدعوى أنها تناقض ما يعتقد البعض أنه قصة الخلق الموحى بها. وتعرض العالم سنة 1925 لمهزلة "محاكمة القرد" في ولاية تنسى. في الوقت نفسه تقريباً قام رؤساء تيلار دى شاردن في جمعية المسيح، وهو أحد أعمق الفلاسفة الدينيين في زماننا، بمنعه دون ضجيج إعلامي من نشر كتابه الذى يرسم الخطوط العريضة لمفهومه للإنسان بحسبانه نتاجاً للتطور.



لا يزال هنالك الكثير من الناس الذين يحسون بالسعادة والراحة في التمسك بعقائدهم الأصولية. ولا ينبغي أن يثير ذلك الدهشة، لأن أغلبية كبيرة منهم تتساوى في جهلها بالاكتشافات العلمية مع الناس الذين عاشوا قبل قرون. لكن الظاهرة غير الاعتيادية حقاً هي الوجود المستمر لأقلية صغيرة من الأصوليين الدينيين ذوى الثقافة العلمية الذين يعرفون أن معتقداتهم تتعارض تعارضاً تاماً، بيناً، صارخاً مع الاكتشافات العلمية الراسخة. وتنشر في الولايات المتحدة (أو ربما كانت تنشر حتى وقت قريب) مجلة جيولوجيا الطوفان، كما طبع على الأقل كتاب "علمي" واحد يتناول هذا الموضوع الغريب. وكانت لي مراسلة عقيمة مثيرة للحنق مع أحد معارضي التطور "الخلقيين" ممن لا يمكن اتهامهم بعدم معرفة الحقائق والأدلة العلمية. إن المناقشة مع مثل هؤلاء الناس مضيعه للوقت، وإني أعتقد أنهم أناس تعساء يحسدون أولئك الذين يعينهم جهلهم الصريح على التمسك بمثل تلك الأفكار.



العلم والدين يتناولان جانبين مختلفين للوجود، يمكن مراعاة للتبسيط أن نقول أنهما جانبا الحقيقة والمعنى. فمن الممكن للمرء أن يدرس الحقائق دون أن يكترث لمعناها. لكن هنالك حقيقة واحدة هائلة جابهت الناس طوال مراحل استنارتهم حاولوا معرفة معناها بلا انقطاع، تلك الحقيقة هي الإنسان. فالكتب المقدسة (المسيحية - اليهودية - الإسلامية - البوذية والأخرى) ليست مراجع علميه. إنها تتحدث برموز دينيه. تفتح هذه الرموز : "مستوى من الواقع يظل مغلقاً وخبيئاً تماماً بدونها. نستطيع أن نسمى هذا العمق بُعد الواقع نفسه...إن هذه الرموز الدينية تفتح تجربة بُعد هذا العمق في نفس الإنسان وأن مناقشة الحقيقة النهائية هي بُعد المقدس. وهكذا يمكننا أن نقول أيضا أن الرموز الدينية هي رموز المقدس" (تيليش 1964).



لا يعنى ذلك أن على الإنسان أن يفصل أفكاره العلمية والدينية عن بعضهما البعض ويضعهما في حاويتين محكمتي الاقفال. لذلك فنحن نجابه دائماً الخطر الذى رآه سانتايانا بوضوح : "الدين الذى يضع يده على جوهر الحياة كالمسيحية، ينبغي أن يكون ديناً أبدياً. لكنه يمكن أن يفقد هذه الميزة حينما يوقع نفسه في حبائل روايات معينة تتعلق بعالم الحقائق، وهى مسائل لا علاقة لها بأهميته المثلى".



تنشأ مثل هذه التعقيدات باستمرار. من الواضح أن الفهم العلمي للطبيعة ليس مكتملاً. بعض الظواهر الطبيعية مفهوم وبعضها الآخر غير مفهوم. ويبدو مغرياً لبعض الناس، حتى لبعض العلماء، أن يسدوا تلك الفجوات في المعرفة العلمية بالقدرة الإلهية. وقد سبق أن تعرضنا لعقم هذه الاستراتيجية الدينية في الفصل الثاني. فليس هنالك ما هو أيسر من اكتشاف مثل هذه الفجوات لأن أي عالم طبيعي يرجى منه أي نفع يعرف الكثير من هذه المسائل والظواهر التى لا زالت قيد البحث أو التى استعصى فهمها. هل هذه هى المسائل المفضلة لتدخل الآلهة؟ وهل تخرج الظواهر المفهومة علمياً عن نطاق الفعل الإلهي؟ لا يمكن لأحد أن يدافع بجدية عن مثل هذا التفكير المختل. مع ذلك فلا حدَّ للسرور الذى يمكن أن يدخل على ذلك النوع الشائع من المتدينين حينما يقال لهم أن العلم لا يستطيع أن يفسر هذا أو يعلل ذلك. فما لم يتم تفسيره يؤخذ على انه غير قابل للتفسير، مع أن أولويات المعرفة بتاريخ العلم تكفى لدحض هذه المغالطة العتيقة. وقد بذلت محاولات لحجب مساحات شاسعة للمعرفة عن العلم، من الكاردينال بلا رينين Cardinal Bellamine الذى قال عن كوبرنيق وجاليليو ان "اكتشافاتهما الكاذبة أفسدت مشروع الخلاص المسيحي بكامله" إلى وليام جننق برايان الذى قال "الأفضل أن نضع ثقتنا في صخرة الزمان من أن نعرف أزمان الصخور" .. وان "النزاع بين التطور والمسيحية مناجزة حتى الموت". وكان هناك دائماً دافع واحد لذلك، هو حماية التراث الديني من هجمات المتشككين والمرتابين. سببه الاعتقاد أنه لو تم التسليم بطرح أي جزء من التراث الديني فلن يكون هنالك حداً للتنازلات يمكن الوقوف عنده. قاد ذلك إلى عجز القادة الدينيين عن أداء واجبهم الرئيس، وهو التمييز بين الأبدي في معتقداتهم والمكونات الوقتية التى جاءت اعتباراً لمستوى معين من الفهم العام أو للوضع الاجتماعي- السياسي الذى وجد الدين نفسه فيه خلال تاريخه. وقد أدى ذلك التضاد الحرون إلى التراجع المستمر المشين للدين الأصولي.



كانت المسيحية ديناً تخلل بعمق كل جوانب حياة الناس في الحضارة الغربية. ثم اكتشف "المستنيرون" في القرن الثامن عشر، عصر الاستنارة، إن فرضيه الله لا ضرورة لها. فالعالم آلة ضخمة لكنها دقيقة جداً، تسير وفق القوانين الثابتة التى اكتشفها نيوتن. وقد سلم بعض "المستنيرين" بأنه ربما كان هنالك إله صمم تلك الآلة وقام بصنعها، لكنه لم يعد يتدخل في سيرها بعد ضبطها، كآلية ساعة ضخمه فائقة الدقة. انه أشبه بالمالك الغائب الذى لا يشارك إلا نادراً، أو لا يشارك إطلاقاً في إدارة شئون أملاكه. من الواضح أنه لا فائدة ترجى من التوجه بالصلاة والابتهال لهذا الرب الغائب. والآن لم تعد اللا-إدرية واللا-تفريقية امتيازاً للصفوة الشديدة الاستنارة. وربما صارت أغلبية الناس في الغرب وفى بلدان الشرق المتقدمة مثل اليابان لا تؤمن بأديانها إلا إيماناً شفوياً لا يصدر عن القلب. ذلك يصدق حتى على بعض الذين يذهبون إلى الكنيسة صباح كل أحد ويضخمون سجلات الملل الدينية.



مع ذلك فالإنسان الحديث، هذا اللا ديني المستنير المرتاب، لا يستطيع أن يمسك نفسه من التساؤل، على الأقل سراً، عن القضايا القديمة : هل لحياتي معنى وهدف أبعد وأسمى من الحفاظ على حياتي ومواصلة سلسلة الحياة؟ هل للكون الذى أعيش فيه أي معنى؟ أم أن كل شيء فيه لا يعدو أن يكون ملهاة هزلية ورقصة شيطانية؟ العجيب حقاً أن هذه الأسئلة صارت مؤخرا أشد إلحاحاً بعد أن سرت أقوال الفلاسفة بأن على العقلاء أن يكفوا عن توجيه هذه الأسئلة التى لا معنىً لها. وقد أخذت الأديان البديلة تنمو نتيجة لذلك وتكسب أتباعاً كثيرين، لأنها تنفى عن نفسها التناقض مع العلم وتدعى الإجابة عن تلك الأسئلة القديمة "علمياً". والدين البديل الأكبر بما لا يقارن أنبياؤه ماركس ولينين. وهو يزعم أنه لا يستند إلى الإيمان المجرد، بل أن صدقه يمكن إثباته بالبرهان العلمي. وهو يعد كل إنسان بنصيبه العادل، وإن لم يكن بالضرورة المتساوي، من ثمرات الأرض، ويتعهد بمنع الجشعين من اغتصاب الملك العام. وهو يلتزم بأن يوقف استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وأن يمكن كل فرد من التنامي الكامل والتحقق التام لمواهبه الفردية وذوقه وقدراته المفيدة اجتماعياً. كما سيجعل كل فرد يعيش ويعمل لأجل الصالح العام - صالح الذين يعيشون الآن والذين يأتون فيما بعد.



الآن فذلك ما تعتبره المسيحية مرغوباً أيضاً، لكن من الواضح أنها فشلت في تحقيقه خلال ألف وخمسمائة عام من هيمنتها على الحضارة الغربية. وتأتى الشيوعية فتتبنى البرنامج الاجتماعي للمسيحية وتعد بتحقيقه عالمياً وبسرعة، وتعلن أن كل ما عداه في المسيحية وهم وأحبولة وأفيون للجماهير المُستَغلة. لهذا السبب فإن الشيوعية تُعد هرطقة مسيحية "بمعنى أنها أفردت بضعة عناصر منها وركزت عليها لدرجة إقصاء العناصر الأخرى" (توينبى 1961). وأن تشذيب وتبسيط الأفكار الدينية في الشيوعية، مقارناً بتعقدها ومفارقاتها في المسيحية، يزيد من إغرائها لملايين الناس. وقد صارت قوة عالمية، ويبدو أن قوتها لا زالت تتزايد في البلدان النامية. فهي تبعث تفانياً جلياً تاماً في بعض الناس، خصوصاً الشباب، وتوقظ ديناميكية اجتماعية لم يسبق لكثافتها مثيل.



لكن شبه الدين الشيوعي يتداعى عند التعرف علية والاقتراب الشديد منه تداعياً كلياً يفوق أي دين آخر. ولم يوضح أي شخص السبب في ذلك ببساطة وحسم أكثر من باسترناك: "كل ذلك (النموذج الشيوعي) لا يزال بعيداً عن التحقيق، لكن أنهر الدماء التى أسالها مجرد الحديث عنه لا يجعل الغاية حقيقة تبرر الوسيلة". ولم يجلب ذلك الحديث للملايين التى لا حصر لها من القتلى والمعذبين والمشوهين روحياً من ضحايا ستالين سوى الخوف والقهر والمعارضة المكتومة والغم ولا شيء تقريباً من السعادة الإنسانية البسيطة.



ليس هنالك في الفلسفة الشيوعية بأكملها سوى ملاحظات عابرة لإقناع الشخص الأمين المرتاب بأن الحياة التي تكرَّس لخدمة الآخرين أفضل من الحياة المكرسة للمنفعة الذاتية المباشرة. وليس بديهياً أن مستقبل الإنسانية عزيز لدينا للدرجة التى تجعل أياً وكل منا يكرس، وربما يضحي بحياته لأولئك القوم الفرضيين البعيدين الذين سيوجدون في المستقيل. ونحن بالتأكيد لن نكون موجودين لمجرد المشاهدة، دعك عن المشاركة، في ذلك النعيم. ويجعل دستويفسكى ذلك جلياً تماماً بهذه الكلمات: "لقد قاسيت لا لكي يخصب عذابي وشقائي الأرض لأجل توفيق شخص آخر. لا. أنني أرغب في أن أري بعيني رأسي الأسد والظبي يرقدان في سلام جنباً إلى جنب، والقتيل ينهض لحضن قاتليه".



إن النظرة السامية النبيلة التى ترى أن معنى الحياة يكمن في النضال لكي يصبح العالم مكاناً أفضل مما وجدناه تشكل بالتأكيد جزءاً من عدد من الديانات العلمانية البديلة عدا الشيوعية. وليس هنالك سبب واضح يمنع الناس في المجتمعات الديمقراطية من التشبع بمثل هذه الأفكار النبيلة والحماس نفسه الذى يتسم به على الأقل بعض الشيوعيين الغيورين. لكن ذلك لا يحدث في واقع الأمر إلا لأقليات صغيرة. ولا يكمن سبب ذلك القصور في الدعاية والتثقيف. فالسياسيون من كل الألوان يتشدقون بهذه الفكرة باستمرار، خصوصاً في المقدمات والتمهيدات والمحسنات البديعية التى ينمقون بها بياناتهم. وغالباً ما تتضمن تلك البيانات إشارة عابرة للمسيحية أو غيرها من الأديان العظمى لدعم الحجة. وصدق كل ذلك لا يخلو على الأقل من الارتياب والحياة لأجل الأهداف النبيلة يمكن أن يوصى بها أيضاً بحسبانها خلقاً علمانياً. وقد قدَّم فرانكل (1959) في كتابة عن قضية الإنسان العصري دفاعاً متيناً بليغأً عن هذا المبدأ الأخلاقي بحسبانه أساساً لما يمكن أن يكون ديناً علمانياً. لكن لا هو ولا أي شخص غيرة استطاع أن يجيب على شكوك ايفان كارامازوف وريبته.



أن يعيش الإنسان حياة محتشمة ويساعد الآخرين الذين هم في حاجة للمساعدة ويعمل ما بوسعه لسعادة الذين يأتون من بعده، فتلك مبادئ أخلاقية تجد قبولاً عاماً، نظرياً على الأقل. وتأتى الجدوى النظرية لهذه المبادئ في الغرب من التراث الديني اليهودي - المسيحي، لكنها الآن تحررت تماماً من الاعتماد عليه. أما قدرة هذه المبادئ الأخلاقية وحدها لأن تشبع توق الإنسان لحياة ذات معنى فذلك موضع شك. وقد ترنحت هذه المحاولات اثر النقد الكاسح الذى أوسعتها به كتابات الوجوديين الحديثين. وكما يليق بالمثقفين الحقيقيين، فإنه لا يكاد يتفق اثنان منهم على وجهة نظر واحدة. لذا فإنني اتخذ من سارتر نموذجاً لتلك الأفكار، لكنني اعترف بعجزي عن إنصاف الأفكار الكثيرة المتداخلة الظلال والمعاني لهذا الكاتب الذرب.



يبدو لي ان أدق تعبير عن فلسفة سارتر يأتي، لا من كتاباته الفلسفية الأساسية، وإنما من مسرحية الذباب les morieles وهى مسرحية جادة في قالب هزلي عن Aeschygus’s Ortsteia محاكاة ساخرة لأورستيا اسشيلس. يتحدى اورستيا سارتر الآلهة بدلاً من أن يخضع لحكمها. وهو يتحدى إنذار جوبتر "لقد خلقتك وخلقت كل شئ يا اورستيا" بصرخة متمردة "إنني غريب على نفسي وأعرف ذلك. أعرف أنني خارج على الطبيعة، ضد الطبيعة، ولا عذر لي في ذلك، وليس لي ملجأ إلا نفسي. لكنني لن أعود إلى قانونك؛ إنه محكوم علىَّ بألا يكون لي قانون سوى قانون نفسي. لن ارجع إلى الطبيعة، حيث هنالك ألف طريق، كلها تقود إليك. لا أستطيع إلا أن أتبع طريقي الخاص. ذلك لأنني رجل يا جوبيتر، وعلى كل رجل أن يكتشف طريقة بنفسه". لكن الثورة تنتهي بالشعور بالقرف "بالغثيان". ليس هنالك إله، وليس هنالك معنى في الكون. وليس للإنسان معنى في كون لا معنى له : "دون أن أقوم بصياغة أي شئ بوضوح، فهمت أنني وجدت دليلاً للوجود، إلى غثياني، وإلى حياتي الخاصة. ويتلخص كل ما استطعت التوصل إليه من بعد في ذلك العبث الأساسي. العبث: مجرد كلمة أخرى".



ليس هنالك جمال حقيقي في الكون. "... الحقيقي لا يكون جميلاً أبداً. الجمال قيمة تنطبق فقط على المتخيل، ويتطلب إنكار العالم في تركيبه الأساسي". الشر، على النقيض من ذلك، حقيقي تماماً. "الشر ليس حقيقياً فقط، إنه لا خلاص منه أيضاً". تكاد بعض أفكار سارتر عن الشر تكون تفسيراً لأفكار ايفان كارامازوف، بطل دستويفسكى. فمع أن الإنسان عبث بلا معنى، إلا أنه مع ذلك يملك القدرة على الحرية. لكن حريته من نوع شاذ؛ إنها الحرية لأن يقول "لا". وبطرق تبدو لي مستعصية على الفهم "الحرية هي تعطيل الإنسان لماضيه بإفرازه لتفاهته". وأيضاً "تتميز الحرية التى تتكشف في كربة الإنسان وغمه بالالتزام بإعادة صياغة الذات صياغة تجسد الكائن الحر" (الاقتباس من كمنج Cumming 1965).



تبدو الفلسفة السارترية مواتية إما للانتحار أو النسك والاعتزال. لكن سارتر كان على النقيض من ذلك عضواً جم النشاط في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي وكاتباً غزير الإنتاج، ومجادلاً بارعاً شديد الدهاء. وهو يوجه ضغينته ضد النفاق الاجتماعي ودعاوى الاستقامة الكاذبة، وضد المؤسسة البرجوازية العدائية المتمكنة. وقد سعي للشراكة مع الشيوعية لكن الانحصار العقائدي الأورثوذوكسي للحزب كان فوق احتماله. وقد جعل من أحد المنبوذين "قديسا"، لأن ذلك الشخص المنكود "يضع المرآة قبالتنا فلا يكون هنالك مناص من أن ننظر فيها ونرى أنفسنا".



ينسب بارزون (1964) إلى الفنانين فضل اكتشاف "عفن الروح الجاف" في العالم الحديث الذى ينسبه المؤلف قطعياً للعلم والتكنولوجيا. وهو يفترض أن الفنانين "يمجون الثقافة العلمية ويحتقرونها" لأن "شيئاً يتخللها يفرق، لا بين الإنسان المتحضر والمتوحش، لا بين الإنسان والحيوان، وإنما بين الإنسان والروبوت، شئ يصاب بالخَدَر، يتصلب، يتساقط كاللحم الميت المسود حينما تهجم التقنية على الإحساس ويسيطر العلم على العقل". غير أن تمرد الفنان على المجتمع بعلمه وتقنيته ينتهي "بالخيانة". فقد أصبح الفنان الحديث حليفاً للعلم في عملية تجريد الإنسان من شخصيته الإنسانية التى كانت السبب في تمرده؛ فالفنان يكتشف بدوره أن الحالة الإنسانية، والحياة نفسها، ليست سوى "خداع مقيت".



ولم تعد أحاسيس الغثيان والقرف والعفن الجاف والفراغ وخداع الحياة المقيت .. الخ. حكراً للفنانين والصفوة الفكرية التى يُعد كل من سارتر وبارزون من أبرز ممثليها. لقد تسربت هذه الأحاسيس إلى "إنسان الجملة". ومن الواضح أن ذلك لم يكن لأن كتابات سارتر وبارزون صارت القراءة المفضَّلة للجماهير. السبب يكمن أعمق من ذلك. فقد جمعت تجارب مشتركة كل الفئات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. كانت هنالك حربان عالميتان ارتكبت فيهما الأمم المشهود لها بأعلى درجات التحضر أعمالاً همجية تفوق الوصف. نحن نعرف عن معسكرات اعتقال هتلر وستالين وبرامجهما للإبادة الجماعية. الاكتشافات العلمية الخارقة الذكاء سُخرت للاستخدام الحربي. والوفرة والترف المادي تحولتا إلى علقم في أفواهنا، لأن الكثيرين جداً تستلبهم الضخامة غير الشخصية التى أنتجت هذه الوفرة. والكثيرون، خاصة الصغار، أتخموا بكل تلك الأشياء التى يفترض أن تجعل الحياة جميلة - الأكل والشراب والملبس الأنيق والنقود. لكن لأن هذه الأشياء الجميلة تأتي بيسر شديد، فما لا يكابد الإنسان للحصول عليه تنخفض قيمته وتقل القناعة التى يجلبها.



ربما كان هنالك أناس، في كل مكان وكل جيل، يشعرون أن الأشياء في العالم لا تسير على ما يرام، أو أنها تسير من سيء إلى أسوأ. لكن تعبير الاستلابalienation حديث عهد. على أية حال فإنه ليس وضعاً عادياً أو صحياً لجمهرة الناس أن تشعر بالغربة عن المجتمعات التى تنتمي إليها. يجد جولس هنري، أخصائي علم الإنسان الاجتماعي، ذلك الوضع شائعاً في الولايات المتحدة لدرجة القلق؛ وقد جعل عنوان الكتاب الذى قدم فيه نتائج دراسته "الحضارة ضد الإنسان" (1963): "حضارتنا منقادة. إنها مساقة بدوافع إنجازها، دوافع المنافسة والربح والتعبئة، وبدوافع الأمن والمستوى الأعلى للحياة. فوق كل شئ فهي مدفوعة بقابليتها للتمدد". ما الذى يحول دون الرضى والقناعة بهذه الحضارة المدفوعة؟ كما يري هنري فانه: "فيما عدا المهنيين والتنفيذيين فإن معظم الأمريكيين لا يشتركون بعواطفهم، لا في حرفهم (ما يفعلونه) ولا في عملهم (المكان الذى يؤدونه فيه). وفي النهاية فإن ما ينسب الأمريكي المتوسط للحياة والمكان والناس هو اقتصاده الشخصي الخاص - أسرته وبيته وسيارته …. الخ. حقيقة أن أغلبية الناس لا يشاركون، أو يكادوا لا يشاركون في المؤسسات التى يعملون بها تعني أن العمل الذى كان يُعد عامل التماسك الاجتماعي واستمراريته في معظم الحضارات غير الصناعية صار يجرد الناس من التماسك الاجتماعي في أمريكا. بالنسبة لأي أمريكي تقريباً فإن رفاق العمل، مهما كانت رفقتهم ممتعة، يمكن استبدالهم. الرفقة التى يكونها المرء في وظيفة معينة يمكن استبدالها بمجموعة مماثلة في الوظيفة التالية. وقد صار هذا الإحساس بالاستبدالية، بأن الآخرين يمكنهم الاستغناء عن الواحد، بأن شخصاً آخر يكون مناسباً بالقدر نفسه، عامل كآبة وانقباض فعال في الشخصية الأمريكية".



أكثر فصول تحليل هنري إخافة تلك التى تتعلق بابتذال الإنسان، بمصير أولئك الذين لا يسعدهم الحظ بالموت قبل حلول علل تقدم السن. أظن أن توينبي هو الذى لاحظ الظاهرة التى لا مثيل لها في التاريخ المعروف، بأن المتقدمين في السن فقدوا الآن حقهم التقليدي المتعارف عليه بالحصول على رعاية الأعضاء الصحيحين في أسرهم النووية أو الممتدة.



وعلى أية حال فقد صار هنري "متأثراً بالهوَّة التى تفصل الكبار عن الصغار حتى حينما يكون الكبار متيقظين عقلياً، ذلك لأن حضارتنا صارت تيَهْور الابتذال الذى يطوّح بنفسه في بحر اللا وجود".



لقد انتاب كل واحد منا الشعور أحياناً على الأقل بأن الحياة لا معنيً لها، إن العالم لا يتجه إلى مكان ما بالتحديد، ان الإنسان ليس إلا جزءاً تافهاً في نظام الأشياء، ان التاريخ يمكن أن ينتهي بمجزرة بشريه، وان نهايته، مهما تكون، ليست ذات أهمية كبيرة للذين يعيشون الآن وسيفنيهم الموت قريباً. يلوذ البعض بالأديان التقليدية. ويهرب آخرون إلى عبادة الملذَّات. ويسلك آخرون، ربما الأغلبية، أيسر المسالك، فينتهون إلى الخضوع والامتثال، وقبول أحدث أشكال "طقوس الخصب".



لقد بدت الحياة المكرسة لبناء مسكن وإنشاء أسرة ثم الاختفاء بهدوء ذات معني بالنسبة للإنسان البدائي، فلماذا لا تناسب كل الناس إذن؟ يزعم قابور في كتابه الشيق الشهير "رد ابتداع المستقبل" (1964) أن مثل هذه الحياة تصلح "للشخص العادي"، لكنها لا تصلح للشخص "غير العادي". وفي تقديره : "الحياة دورة بالنسبة للشخص الاعتيادي. انها تبدأ باكتشاف العالم الذى كل ما فيه جديد حول الطفل، ثم تتدرج للاكتشافات العظيمة للجنس والحب، وتبلع أوجها في الأسرة الصغيرة. وداخل هذه الدوائر الكبيرة دوائر أخرى صغيرة للعمل والراحة والترفيه، ورغبات متواضعة تتم تلبيتها. يمكن أن تكون هذه الحياة سعيدة حتى النهاية لو خلت من المعاناة البدنية، الشديدة، وإذا ما تعلم الكبار من الرجال والنساء محبة الجيل الجديد أكثر من محبتهم لأنفسهم". وكان قابور متفائلاً حينما قرر أن "جنة الرجل الاعتيادي تلك صارت قريبة المنال". لكن تبدو بعيدة المنال تماماً للرجل غير الاعتيادي الذى "يريد أن يترك عالماً أحسن من الذى وُجد فيه، عالماً أفضل، يثريه بقدراته الشخصية. وهو مستعد في سبيل تحقيق هذا الهدف لأن يضحي بمعظم أو بكل السعادة التى يستمتع بها الرجل الاعتيادي".



لكن التفرع الثنائي للرجل الاعتيادي - غير الاعتيادي ينطوي على تبسيط خطير. يؤدي استخدامه إلى تغذية غرور الأفراد والجماعات وعنجهيتهم. وقد يقود إذا ما سرنا به لنهايته المنطقية إلى المذاهب المرعبة، مثل محقق دستويفسكي العظيم، أو لحكام مطلقين، مثل هتلر وستالين والذين يسلكون طريقهم. غير أن الطبائع البشرية تشكل في واقع الأمر طيفاً يمتد من أدني سلم الاعتيادية إلى القمة غير الاعتيادية وفقا لتعريفات قابور. فوق ذلك فإن الألوف المؤلفة، حتى الملايين من الناس الذين راودتهم طموحات الإنسان غير الاعتيادي، خاصة في شبابهم، وفشلوا في تحقيق تلك الطموحات لأسباب عديدة، ركنوا إلى الاكتفاء بما تيسر من نتف سعادة الإنسان غير الاعتيادي التى وقعت بين أيديهم. وهؤلاء يمكن أن يحتفظوا بأمل أن تتغير الأحوال العامة في المستقبل إلى الأفضل؛ وقد يأملون ضد الأمل في أن تسهم حياتهم، ولو قليلاً جداً، في هذا التحسن العام ولو بطريقة غير مباشرة.



على أية حال، فالإنسان الاعتيادي والإنسان غير الاعتيادي أعضاء في المجتمعات والحضارات نفسها، يجعلهم ورثة تجارب تاريخية متماثلة. وقد شكلت الأديان الكبرى نظم المعتقدات السائدة في الحضارات العظيمة للشرق والغرب، وهذه الأديان الكبرى تسعي لمُثُل وقيم الإنسان "غير الاعتيادي". هذه الحقيقة تحولت دون أن يجد أي شئ دون هذه القيم والمُثُل العليا قبولاً تماماً والسبب هو نفسه الذى يجعل مادة القراءة المعدَّة للأطفال والمراهقين غير مناسبة أو مقنعة للكبار الذين تعودوا على مواد قراءة الكبار.



لنفرض أنك تعيش لأجل أطفالك، وأن الأطفال سيعيشون لأجل أطفالهم، وأن الأحفاد سيعيشون لأجل أطفالهم أيضاً وهكذا دواليك، وإلى ما لا نهاية. إن لهذا معنى من الناحية البيولوجية، لكنه تكرار بلا معنى بالنسبة لبعض الناس العاديين ولغير العاديين على السواء. اننا نرغب في أن نرى، أو على الأقل نأمل في الوصول إلى وضع ليس جديداً فقط وإنما أفضل أيضاً. لقد كان معظم الناس في الغرب يؤمنون في القرن التاسع عشر بأن التقدم يسير بانتظام، وبأن حدوثه ربما كان محتماً. لكننا لم نعد الآن تمتلك الثقة بالقدر نفسه. غير أن هنالك بارقة أمل في تمثيل جديد.



هوامش وضعتها أركامانى

* لرؤية بعض تماثيل المرأة من مواقع العصر الحجري الحديث في السودان يمكن زيارة متحف السودان الإلكتروني أركاماني.

** في ملحمة جلجامش يرد نصاً على لسان سيدوري، ساقية حانة الآلهة، لجلجامش يعبر عن هذا المعنى:

"لكن صيدك يا مليك! بلا شباك

أهل السماء لما رأوا خلق الورى

حبسوا الحياة بهم وللناس الهلاك

منقول

lastmissions
01-22-2008, 09:10 AM
عن آلهة الفجوات



ينبغي أن تكون تجربة تعلم حقيقة جديدة مثيرة ومبهجة، وهى عادة كذلك لكن هنالك استثناءات غريبة ربما اعتاد معظم معلمي الأحياء أن يجدوا قلة من تلاميذهم ينزعجون لشرح بعض ما كانوا يعتبرونه في عداد "أسرار" الطبيعة وتفسيره، إن هؤلاء التلاميذ يرون في انحسار هذه الأسرار تهديداً لأمان معتقداتهم. لا بدَّ لهؤلاء التلاميذ من وجود فجوات بين الأحداث الطبيعية تأوي التدخل الإلهي، بالمقابل فإن الأشكال الفجة للدعاية المضادة للدين في روسيا وغيرها تزعم أن العلم قام بتفسير كل شيء تقريباً، ومن ثم لم يعد هنالك مجال للتدخل والوجود الإلهي الذى لا يرون فيه إلا مرتعاً للغموض والمعجزات.



لقد تمكن نيوتن Newton من تفسير حركة الكواكب حول الشمس بقوانين فيزيائية لكنه كان مع ذلك يعتقد بأن "الدوران اليومي للكواكب لا يمكن اشتقاقه من الجاذبية وإنما يحتاج لقوه إلهية لإحداثه". بعد قرن من ذلك الزمان سأل الإمبراطور نابليون الكوزمولوجى والرياضي لابلاس Laplace عن سبب غياب اسم الله في مؤلفه الشهير عن ميكانيكا الأجرام السماوية. ربما قصد الإمبراطور المزاح بذلك السؤال، لكن لابلاس أجاب بكل جديه بأنه "لم يكن محتاجاً لفرضية الله" في عمله. وقد اعتقد الكثيرون بأنه، ذلك ما لم يقله لابلاس، إذا لم تكن هنالك حاجه لله في شئون السماء، فالحاجة إليه في الشئون الأرضية تكون أقل. ونشرت مقالات وكتب لا حصر لها بلغات كثيرة عن الأفول المضطرد لجدوى "فرضية" الله في التفسير العلمي للعالم المحسوس. ويعتبر مؤلف هوايت White "حرب العلم والدين 1895" مرجعاً كلاسيكياً في هذا الموضوع.



وقد أعلنت المحكمة الثورية الفرنسية التى قضت بموت العالم لافوزيير Lavoisier أن الجمهورية ليست بحاجة إلى العلماء. "ولو أن كل شيء في العالم تقريباً صار معلوماً ومفهوماً فربما لا يكون هذا الرأي غير المستنير بعيداً عن الصواب، ويصبح البحث العلمي حينئذ مدعاة للضجر ولا يكون وجود العلماء مجموعةً مهنيةً ضرورياً. لكن هذا بعيد عن الحقيقة تماماً لأن مشروع العلم لا يزال في مراحله الابتدائية وفي واقع الأمر فإنه لم يتم إلا الفهم الجزئي لبعض ظواهر الطبيعة ولا يزال المجال الذى ينتظر التفسير العلمي أكبر من ذلك بكثير. إن المجهول هو الذى يلهم العلماء للجد في طلب العلم حقاً. لكن بعض الناس يجدون متعه في فجوات معرفتنا بالطبيعة لسبب مغاير، إذ يؤمل هؤلاء الناس في أن تدوم هذه الفجوات، وفى أن يصبح غير المعروف غير قابل للمعرفة، ثم يفترض، بالتواء عجيب في المنطق، أن يبقى المجهول مجالا للتدخل الإلهي. إن كل الاحتمالات التاريخية ضد استمرارية "آلهة الفجوات" في الاحتماء بها لكن ما من شيء يمكن أن يؤدي إلى إقناع مثل تلك العقول التى ترفض قبول شهادة التجربة التاريخية.



وفقاً لدوركهايم (1915) "تشترك كل المعتقدات الدينية، المعقد منها وغير المعقد، في خاصة مميزة: أنها تفترض تصنيف كل الأشياء التي يفكر فيها الناس، الواقعي منها والمثالي، إلى فئتين متعارضتين : الاعتيادي والمقدس. لا يعني هذا تماماً أن الاعتيادي هو مجال القوى الطبيعية والمقدس هو مجال القوى الغيبية". مثل هذا التصنيف يكون بلا معنى للإنسان البدائي، الذى يرى مظاهر القوى التى نعدها توهمية أو غيبية في كل مكان. وقد رأى تايلور وغيره من رواد علم الإنسان الثقافي أن الأرواحية* هي أصل الدين، ويفترض أن الإنسان البدائي لا يميز بين القوى المادية والروحية، وبالنسبة إليه فإن الحيوانات والنباتات والصخور والأنهار، وكذلك الطقس، لا الناس الآخرين وحدهم، لهم أرواح واردة بوسعها أن تفيد الإنسان أو أن تلحق به الأذى.



تتفق هذه التأملات عن أصل الدين تماماً مع المذاهب الفلسفية لكومت وسبنسر اللذان افترضا وجود ثلاثة مراحل للتنامي الفكري للجنس البشرى من الدين إلى العلم، مروراً بالميتافيزيقا لكن الدراسات اللاحقة عدت هذا التبسيط مفرطاً فقد أكد مالينوفسكى وآخرون 1931)) ، أن للأفكار الدينية والعلمية وظائف مختلفة في حياة الناس الاجتماعية، وقد أكد مالينوفسكى أنه "بمجرد أن أحكم الإنسان قبضته على البيئة باستخدام الأدوات، وبمجرد أن ظهرت اللغة، فقد صارت هنالك معرفة ذات طبيعة علمية، ولا يمكن لأية ثقافة أن تبقى لو كانت فنونها وحرفها وأسلحتها واقتصادها مؤسسة على مفاهيم ومذاهب خفيه وغير تجريبية". إن الأرواحية تنتسب إلى السحر وأن وظيفة السحر مختلفة لكنها مكملة ”للعلم ” البدائي. وتُعد معرفة الإنسان ناقصة؛ الكثير منها يعتمد على الحظ والمصادفة وقوى غير مفهومة يحاول الإنسان، كما يقول مالينوفسكى، أن يتحكم في تلك القوى بواسطة السحر... "السحر يستخدم كشيء إضافي لأدوات الإنسان وقوته، للتحكم في الصدفة ولاصطياد الحظ". وقد توصل الكُتاب ذو المنحى التحليلي النفسي إلى مفاهيم مختلفة أيضاً، بالنسبة لفرويد Freud فإن الإله ليس فقط فرضية لا ضرورة لها وإنما هو فكره توهمية ناتجة عن النزاعات التى لم يتم حسمها في الطفولة، أما يونق Jung فكان على النقيض من ذلك، يعتقد بأن هنالك لا وعى جماعي للنوع الإنساني يقبع خلف تجربة كل فرد، يعبر عن نفسه في صور رمزية (انظر مورو 1955 وكاردنكر 1963 Kardiner).



كما أن ديكارت تحرى قبل ثلاثة قرون من زماننا هذا العمق الكامل لانطباق المعرفة العلمية على فهم الطبيعة وكان الحل الديكارتى ثنائية جذرية العالم آلة: "لا أقبل ولا أرغب مبدأ آخر في الطبيعة سوى الهندسة والرياضيات المجردة، لأن كل ظواهر الحياة يمكن أن تفسر عن طريقها، ويتم إثباتها بها" الأجسام الحية آلات، وكذلك جسم الإنسان لكن الإنسان ليس آلة وحسب؛ إن له روح ليست آلية. ما هي الأدلة التى دفعت ديكارت لتقديم هذا التنازل للثنائية؟ الإنسان يعبر عن أفكاره بالكلام؛ وقد تخيل ديكارت (1637) تخيلاً تنبئياً بصنع آلة تنطق بالكلمات ثم حاجج بأن هذه الآلة لا يمكن أن "تنظم كلماتها بطرق مختلفة بحيث ترد رداً مناسباً على كل ما يقال في وجودها بالطريقة التى يستطيعها أدنى بني البشر". لكن من الواضح أن هذه الثنائية الديكارتية ليست مقنعة، لهذا لم تثبت ولم ير لامترى (1748)، ودي هولباش (1770)، وهلفيتس (1772)، سبباً بعد قرن من ديكارت لأن ينسبوا للإنسان شيئاً اسمه الروح. وبالنسبة لهم فالإنسان يمكن فهمه بحسبانه آلة مثله مثل أي حيوان آخر، لا يختلف كثيراً في تركيبه إلا من حيث أن هذا التركيب يبيح له إنجاز العمليات الذهنية المعقدة.



إن العالم الحديث ليعجب لشجاعة أو بالأحرى طيش ”فلاسفة” عصر الأنوار هؤلاء الذين قاموا بإطلاق مثل هذه التأكيدات الجارفة استناداً إلى أدلة تبدو بائسة بالمقارنة مع المعلومات التى توفرت لنا فيما بعد، والتي لا زالت تبدو ملتبسة قابلة لشتى التفسيرات. وربما كانت الحيوية لا الآلية هي الفرضية التى كانت تناسب حالة علم الأحياء في القرن الثامن عشر إذا ما استعدنا تلك الحالة اليوم.



فلننظر لتوضيح ذلك إلي مسألة واحدة، هي مسألة تنامي الجنين فقد اكتشف "هام" تلميذ الرائد المايكروسكوبى ليفنهوك Leeuwenhoek، السبيرمات (الحيوانات المنوية) البشرية الذكرية سنة 1678. وفى سنة 1694 أضاف مايكروسكوبى آخر اكتشافاً زائفاً أجمله مع الاكتشاف الحقيقي فتهيأ له انه رأى في رأس الحيوان المنوي الذكرى شكلا مصغراً جداً لإنسان "هومنكيولس"، ثم قام بنشر رسم تخيلي لذلك الاكتشاف المزعوم.



جعل ذلك الاكتشاف مسألة تنامي الجنين بسيطة على نحو خادع. فلو أن البدن مشكل على نحو مسبق في الخلايا الجنسية، فان التنامي لا يتطلب سوى زيادة حجم الجنين حتى يصل مرحلة البلوغ، هكذا حلت مسألة تشكيل جسد جديد حلاً سحرياً. لكن هذا الحل يخفى صعوبة بالغة : فمن أين يأتي الجيل التالي والأجيال التى تليه؟ لذا جاءت نظرية التقوقر embottlement بحل جذري لهذا اللغز: الهومونكيول يحتوى على سبيرمات صغيرة، والسبيرمات الصغيرة تحتوى على سبيرمات أصغر وهكذا دواليك، كل البشر كانوا مشكلين مسبقاً في الرجل الأول (أو في المرأة الأولى لو كانت الهومنكيولات مودعة في البويضات) ولو أن أحداً حاول تقدير حجم أصغر الهومونكيولات، فلا بدَّ أن التواضع حال دون قيامه بنشر نتيجة تلك الأبحاث هذا هو أصل نظرية التخليق المسبق preformati.



وقد نازل أنصار نظرية التخليق المتعاقب epigenesis دعاة التخليق المسبق. أوضح هؤلاء خلو الخلايا الجنسية من الهومونكيولات، وهذه حقيقة، كما أكدوا أن الجسد يتنامى من مادة غير مخلقة، وهذه الحقيقة لا تخلو من مبالغة. فقد أوضح ولف Wolff في عامي 1759 و1786 الغياب التام لما يشبه أجزاء الجسد البالغ في الأجنة المبكرة للحيوانات أو في بذور النباتات. ما هي إذن، أسباب التخليق؟ لم تكن إجابة ولف مقنعة. من السهل أن نسخر، بمزية الحكمة البعدية، من مفاهيم أسلافنا الخاطئة، فقد ارتأى ولف وآخرون وجود قوه حيوية via essentials توجه التنامي الجنيني وتصون حياة البدن البالغ فيما بعد. وقد كان الكثيرون من علماء الأحياء في القرن الثامن عشر حيويون، أمثال ولف وجون هنتر John Hunter وستاهل Stahl وبشات Bichat لكن في الوقت نفسه، عكفت على طريق الوصول إلى صورة على قدر من الوضوح للتنامي الجنيني، أجيال متتابعة من علماء الأجنة بأدواتهم التشريحية ومايكروسكوباتهم المضطردة التحسين، وثابروا على وضع الرسوم التوضيحية الدقيقة لوصف طريقة تكوين النماذج الجنينية الممثلة للمجموعات الحيوانية والنباتية المختلفة، ابتداءً بالبويضة المخصبة، مروراً بمختلف مراحل دورة الحياة، وانتهاءً بمولد الأجيال الجديدة.



قام فون بيير Von Baer 1828-1837 بتطوير نظرية الطبقات الجرثومية في الحيوانات وجعل أصحاب مبدأ الخلية شليدن Schleiden 1838 وشوان Schwann 1839 وصف التنامي دقيقاً وسهلاً وصاغ هيكل Haeckel 1866 قانون النشوء الإحيائي الذى يقول بأن تنامي الفرد ontogeny هو استعادة قصيرة للتنامي التطوري، أي، التاريخ النوعي phylogony للمجموعة التي ينتمي إليها ذلك الفرد، وقد صارت هذه النظرية نموذجاً نظرياً من حيث أنها احتوت على حقيقة جزئية فقط، لكنها قامت بدور هام جداً إذ حفزت اهتماماً ونشاطاً هائلاً بين الباحثين أدى إلى تطوير علم الأجنة.



قام هرتويق Hartwig 1879 وفول Fol 1879 بوصف ولوج الحيوان المنوي للبويضة والتحام نواتيهما. ثم قامت كوكبة نابغة من العلماء في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتحليل سلوك الكروموسومات ودورها في انقسام الخلية (الميتوزى)، وفى نضج الخلايا الجنسية (الميوزى) وفى عمليتي التخصيب وانقسام البويضات المخصبة.



صادف أن تزامن هذا مع إعادة اكتشاف قوانين الوراثة التى نشرها مندل Mendel سنة 1865 لكن تم تجاهلها حتى سنة 1955، ثم حلت حقبة النمو السريع لعلم الوراثة الذى يدرس أحد فروعه كيفية تحقيق الهبة الوراثية للفرد خلال تناميه الفردي (الأونتولوجى). هنا ذاب واختفى التغاير القديم بين نظريتي التخليق المسبق والتخليق المتعاقب، أو على الأقل تحول إلى مسألة أخرى ليست هنالك هومونكيولات في الخلايا الجنسية وإنما هنالك طواقم جينات تضم، إذا ما استعرنا تعابير علم الضبط (السبرانيه)، "معلومات" أو "أوامر" للتنامي صارت المسألة معرفة طريقة "تشفير" هذه المعلومات والأوامر في الجينات وقد صيغت أول الأمر فرضيات لها نكهة التخليق المسبق، مثل افتراض وجود علاقة أُحادية بين كل جينة، وكل جزء أو "سمة" من سمات الكائن البالغ، أو بين الجينة والأنزيم الذى يقوم بالتشفير لإنتاجه وكما نراها الآن فالمسألة تبدو أقل تعقيداً. إن فرضية واطسون - كريك (Watson-Crick) التى عززتها الحقائق تماماً، تقول أن الوراثة شفرة منقوشة في سلسلة جزئ الحمض النووي دنا DNA، فالجينات المختلفة تماثل الكلمات أو الفقرات في جمل على صفحة مطبوعة. إنها تعاقبات مختلفة لأربع نويات، هي "الحروف الوراثية" الأربعة ويتم "نسخ" الرسائل الوراثية المشفرة في دنا DNA الكروموسوم إلى شفرة أخرى في الحمض النووي رنا RNA، تحملها من النواة إلى الريبوسومات، حيث تتم ترجمتها إلى تعاقب الأحماض الأمينية التى تتشكل منها جزيئات البروتينات. والبروتينات منها لبنات بناء الجسم ومنها الأنزيمات، وهى المحفزات التى تقوم بعمليتي الهدم والبناء.



حقا لم يؤد كل هذا إلى الاختزال الديكارتي لعلميّ الأجنة والوراثة في ميكانيكا وهندسة ورياضيات لكن من الناحية الأخرى فإنه لم يتم اكتشاف أي شئ يلزم، أو حتى يوحي، بافتراض وجود شكل ما لقوة حيوية. لقد تلاشى مذهب الحيوية في علمي الأجنة والوراثة تدريجياً؛ القوة الحيوية التى بدى وجودها أكيداً للرواد الدارسين للتنامي لم يعثر على أثر لوجودها في أي مكان. وقد قام دريسش Driesch 1867-1941، الذى ربما كان آخر علماء الأجنة البارزين الذى يعلن قناعته بمذهب الحيوية، بإجراء تجارب بارعة عن تنامي قنفذ البحر في نهاية القرن الماضي. تمتلك أجنة هذه الحيوانات قدرة مميزة على تجديد أعضائها المفقودة؛ فالخلايا المنفردة التى يتم عزلها منها تستطيع أن تتنامى إلى يرقات صغيرة جداً لكنها كاملة، ذلك كما نرى الآن، يسببه وجود طاقم كامل لجينات البويضة في كل خلية من خلايا قنفذ البحر، لكن دريسش كانت له فكرة أخرى فقد قدر أن أية آلة لا يمكن أن يتم تصميمها بحيث تقوم بصنع قطع الهيكل المفقودة. إذن فلا بدَّ لتنامي قنفد البحر من قوة تقوده استعار لها تعبير “انتلشى” من أرسطو. لكن ما هى الأنتلشى؟ رأى دريسش أن الأنتلشى لا تتموضع مكانيكياً أو تشريحياً؛ إنها ليست مادة خاصة وليست طاقة جديدة؛ إنها "العامل الغائي الأولي للطبيعة" لكن معظم البيولوجيين قدروا أنها مجرد كلمه لا تعنى أي شئ.



الوضع في بقية فروع علم الأحياء مماثل لهذا المخطط العام : الهضم، والتنفس، ومفعول الهرمونات، وتقلص العضلات، وتوصيل العصبونات، وأخيرا بنية الدماغ وتشغيله؛ كلها تطرح مسائل لا حصر لها قامت أجيال متعاقبة من البيولوجيين بدراستها. لقد انتصرت فرضية الآلية في كل مجال غيابياً، إذا جاز التعبير. فما من صيرورة (عملية) بيولوجية تم تحليلها وفهمها إلا وتم البرهان على أنها تمثل نمطاً من المكونات الفيزيائية والكيميائية التى كثيراً ما تكون شديدة التعقيد. إن هذا التعقيد الرائع، لا وجود القوه الحيوية المبهمة، هو جوهر المسألة البيولوجية. أما نزاع الآلية / الحيوية، فقد صار موضوعاً ميتاً لقرابة نصف قرن.



إنه ينتظر من كل طالب يؤدى المقرر التمهيدي لعلم الأحياء الآن أن يعرف أن الآلية نظرية علمية صحيحة وان الحيوية نظرية خاطئة. لكن ليس كل طالب، ولا حتى كل بروفيسور، يفهم هذا السبب بوضوح أن علم الأحياء بعيد جداً من تحقيق المشروع الديكارتى الذى يختزل كل الظواهر البيولوجية إلى كيمياء وفيزياء ورياضيات. ولا يتوقع ذلك دعاة هذا المذهب المستنيرين ذلك لأنه يكون بمثابة البرهنة على النفي المطلق؛ فهنالك أعداد مهولة من الكائنات الحية لها تركيبات ووظائف لا حصر لها ومن الممكن دائما تخيل قوة حيوية متربصة في مكان ما لم يصله البحث. إن مذهب الحيوية مرفوض لسبب آخر. فهنالك ما يشبه الإجماع على أن الحيوية لا نفع منها فرضيةً إجرائيةً للبحث في علم الأحياء. لقد فقدت جدواها حتى كمهماز لحث معارضيها لتبرير نظرياتهم. ما السبب إذن؟



كان التحدي أمام العلم حينما قام فوهلر Wohler بتركيب اليوريا سنة 1828، هو إثبات أن إحدى المواد التى لا يتم العثور عليها إلا داخل الكائنات الحية يمكن أن يتم تركيبها خارجها. أما الآن فإن تركيب مادة عضوية جديدة لا يعد خبراً، إلا لو كان لهذا المركب أهميه خاصة لسبب ما. إن إجراء تجارب علمية بيولوجية أو كيموحيوية بغرض الحصول على أدله إضافية تدحض الحيوية لم يعد إلا ضرباً من محاربة طواحين الهواء. لقد خطونا مؤخراً خطوات جبارة في مجالي البيولوجيا الجزيئية والكيمياء الحيوية. إن البيولوجيا الجزيئية ديكارتية الإيحاء، لكن هدفها الرئيس لم يعد اختبار نظرية الإنسان-الآلة. إن اكتشاف تركيب الحوامض النووية، وفك رموز الشفرة الوراثية، وكشف آلية تضاعف الجزيئات الحاملة للمعلومات الوراثية، تعد من أعظم إنجازات العلم الحديث. إنها مهمة لأنها تعيننا على فهم آلية الوراثة؛ لكننا لا نحتاج إليها لإقناع البيولوجيين بأن الجينات تؤدي وظيفتها لا باجتهاد قوه حيوية ما وإنما عن طريق المراسلات الكيميائية. لقد كان وجود بعض المراسلات الكيميائية أمراً مؤكداً تقريباً في نظر مورقان Morgan وجولد شميدت Goldshmidt وعلماء وراثة آخرين قبل بضعة عقود من حقبة الـ DNA. فقد كان أمراً صعباً جداً تصور فاعلية الجينات بدون توسط المراسلات الكيميائية.



إن القضايا العلمية لا يمكن حسم الخلاف حولها بالتصويت. وهرطقة الأقلية التى ترى في حالة علم الأحياء الراهن مادية فجة لا تستسيغها ينبغي الاستماع إليها بإنصاف. إنهم يرون إزاء الإنجازات الرائعة الراهنة للعلم الآلي أن البيولوجيا بحاجة إلى إعادة توجيه حيوي. وما يميز الوضع أكثر مما عداه أن دعاة المذهب الحيوي الحديثين يودون تفادى إطلاق صفة الحيوية عليهم. ونادراً ما وردت هذه الكلمة المنكرة في دفع سينوت Sinnott 1955; 1957 وحججه البليغة. الاقتباس التالي يعطينا صورة منصفة لقناعات سينوت البيولوجية الأساسية : "النسق المنظم، الذى تضبطه رقابة أنشطته، يوحي بوجود شئ بداخله تنحو هذه الأنشطة للتوافق معه، معيار، مستوى، هدف أو غاية، ما يمكن أن يسميه الفيلسوف تيلوس (Telos)، كامن في مجمل الكتلة الحية". إن سينوت، وهو عالم الأحياء البارز، على سجيته تماماً مع الحالة الراهنة لعلم الأحياء وتاريخه. لكن محاجته البيولوجية لا تختلف جوهرياً عن محاجة دريسش التى مضت عليها سنوات طويلة. يمكن اقتضاب حجج سينوت في تأكيدين : الأول: ان تنامي الكائن الحي موجه لغاية، وهذه الغاية هي بلوغ حالة النضج. الثاني : ان فسيولوجيا الكائن الحي وسلوكه موجهان لهدف أيضاً، وهذا الهدف هو استمرار الحياة.



من الممكن قبول حقائق سينوت، أما استنتاجاته فلا. مع أن بعض المتشددين يختلفون مع عبارة أن الأنساق المنظمة لها أهداف أو غايات، إلا انني لا أرى هنالك حاجه للمماحكة حول الكلمات. فالعمليات التى تجري داخل الجنين المتنامي لا يكون لها معنى إلا بعد معرفة ما ينشأ عن ذلك الجنين. وكل ما يؤديه الكائن الحي تقريباً، فيزيولوجياً وسلوكياً، يخدم استمرارية بقائه ومقاومته للفناء (انظر سمبسون Simpson 1964 لمناقشه رفيعة لهذا الموضوع).



المشكلة الحقيقية هي هل يبرهن هذا على صحة افتراض "شيء ما" اسمه الـ "تيلوس" أو القوة الحيوية، أو يجعل ذلك الافتراض معقولاً؟ إنه لا يفعل ذلك، في تقديري. إن حقيقة تكيف الكائنات الحية للبيئات التى تعيش فيها والتى لا يتطرق إليها الشك مفهومة تماماً في ضوء النظرية التطورية. النسق المنظم الذي تضبطه رقابة "أنشطتها" لا يوحي بالـ "تيلوس"، وإنما بتاريخ للضبط التطوري.



سنناقش هذا الأمر للضرورة باقتضاب في الفصل القادم، نركز هنا على الوظيفة التي ينبغي ان تقوم بها التفسيرات التطورية في علم الأحياء عموماً. وفي تقديري فإن تبخيس أهمية الأصل التطوري للكائنات الحية هو السبب الذى يكمن وراء المفاهيم الخاطئة للحيوية الجديدة.



يمكن أن نقول، ونحن نخاطر بالتبسيط الذى قد يكون مخلاً لقضية أبعد ما تكون عن البساطة، أن هنالك طريقتين لدراسة العالم الحي، بما فيه الإنسان. الطريقتان مشروعتان وضروريتان، لكنهما تطرحان أسئلة مختلفة بعض الشيء، ومن الطبيعي أن تجيئا بأجوبة مختلفة، وإن كانت مكملة لبعضها البعض. الطريقة الأولي هي المنهج الاختزالي، أي الديكارتي. يتم في هذه الطريقة فحص مكونات الجسم الحي وتحليلها، وهى في النهاية المواد الكيمائية التى تبنى منها هذه الأجسام، بشكل عام فإننا نحصل من هذا المنهج على تفسيرات من نوع الكائن ـ الآلة. وبكلمات والدWald 1963.."الكائنات الحية تعبيرات مجسمة جداً للجزيئات التى تتكون منها". المنهج الثاني هو الدارويني، إنه ينطبق لحد كبير على علم الأحياء لكنه ليس مقصوراً عليه. إننا نسأل كيف بنيت الكائنات الحية وصارت بالطريقة التي هي عليها، وبهذا المنهج فإن الحياة والكائنات الحية يمكن أن تصبح مفهومة على ضوء أصولها وتناميها التطوري، أي في ضوء التطور. عبر عن ذلك سمبسون (1964) كالآتي :

"لا بدَّ في علم الأحياء إذن من إضافة شكل تفسيري ثان للمنهج الأول، أي منهج التفسير الاختزالي reductionist الذى يقوم على مبادئ فيزيائية وكيميائية وميكانيكية. الشكل الثاني للتفسير، الذى يمكن أن نسميه التركيبي composisionist في مقابل الاختزالي، معاييره هى المنفعة التى تجلبها البنيات والعمليات التكيفية للكائن الحي ككل، وللنوع التى هي جزء منه، وما هو أبعد من ذلك، الوظيفة البيئية لتلك البنيات والعمليات التكيفية التى تؤديها في المجتمعات البيئية التى يوجد فيها النوع".



عموماً كلما اقترب الباحث في عمله من المستوى الكيميائي كلما كانت التفسيرات الديكارتية أقرب إلي التمام. وكلما اقترب الباحث من المستوى الكلي للكائن الحي كلما زادت الحاجة للتفسيرات الداروينية. للتأكيد، ليس هنالك تفرع حاد. كلا التفسيرين الديكارتي والدارويني ذو معني في كافة المستويات البيولوجية، برغم حقيقة انهما ينظران إلى المسالة من زوايا مختلفة. إنهما ليسا متزاحمان ولا متنافسان لكنهما مكملان لبعضهما البعض.



لننظر إلى هذه المعجزة اليومية التي لا تدهش أحداً، مجيء حياة إنسانية جديدة. تزن البويضة الإنسانية جزءاً واحداً من عشرين مليون جزء من الأوقية. الشخص البالغ يزن خمسين مليون ضعف وزن البويضة. من أين تجئ مادة هذا النمو؟ من الواضح انها تستمد من البيئة، من الطعام الذى يستهلك ويستوعب. الإنسان حرفياً خليط من البقالات المحولة. لكن هذا الخليط حي، يحس البهجة والمعاناة، ويمتلك الوعي والوعي بالذات، ويقدر على أفعال تتراوح من الحنان إلى الفروسية ومن البطولة إلى الأنانية. تصدم فكرة ان خليط البقالات، مهما تحول، يقدر على الإتيان بأي من هذه الأفعال يظن بعض الناس بأنها هراء بكل ما في الكلمة من معني. وحينما يبدو أنه لا مناص من هذه الفكرة فإنها تصبح مدعاة لليأس. هكذا بالنسبة لبارزون Barzun 1964 "كل هذا لا يعزز إلا الاحساس بأن الحياة لا تستحق أن تعاش بأي صورة. وكلما كان قلب الإنسان وعقله كبيراً كلما اشتدت عليه وطأة هذه المخاوف والهواجس والدوافع الملحة ولا يرغب شيئاً سوى النهاية المبكرة للحياة : من الواضح إنه لا معني للنضال لإنقاذ عالم يجد الناجون الحياة فيه جحيماً".



وبالنسبة لماتسون (1964) فإن العلم يحيل الإنسان إلى "آلة مستلبة". إن مذهب حيوية سينوت محاولة منه للهروب من هذا اليأس. "أم إنه ليس ممكناً" يسأل سينوت (1957) - وهذا هو البديل المقترح هنا - إن هنالك توجه طبيعي كامن في المادة الحية، يعبر عن نفسه فيما يفعله ويفكر فيه ويكونه الفرد، يخضع للتحوير بتأثير عوامل داخل الجسم وخارجه؟ أليست الحياة نفسها، لدرجة ما على الأقل، خلاقة؟" . وأيضا: "لو أن الافتراض المقترح هنا صحيح ، فإن هذه الخاصة تكون جزءاً من القوة الكونية الخلاقة المنظمة للطبيعة والتى يمكن التفكير فيها بحسبانها إحدى صفات الذات الإلهية". من الواضح أن سينوت يحس بالحاجة لوجود فجوات بين الأحداث الطبيعية تؤوي آلهة".



أود أن اقترح أن هنالك طريقاً ثالثاً يتفادى كلا من يأس بارزون وحيوية سينوت التى تنطوي على مفارقة تاريخية. إن وصف الإنسان بكونه خليطا من البقالات المحولة صحيح وواقعي، لحدود معينة. إن حدود هذا الوصف تضعها طبيعته الاختزالية. ما نحتاج له إضافة إليه هو النظير التركيبي. الإنسان يتكون بالتأكيد من جزيئات وذرات، لكنة لا ينشأ بالالتقاء العشوائي لتلك الجزيئات والذرات. الحقيقة التى ينبغي أن لا تغيب عن أعيننا أبداً هى أن كل كائن حي، من أي نوع من الأنواع الموجودة الآن، قد تحدر سلالياً مباشرة من أحد أشكال الحياة الابتدائية التى يقدر أنها نشأت قبل أكثر من بليوني عام.



هنالك في كل جيل عملية تشكيل وتحلل تشمل الأفراد من كل نوع، الذين هم من وجهة النظر الاختزالية أنماط من الجزيئات والذرات، كلها تجئ من “البقالات” أي من الطعام. لكن تاريخ الحياة ليس تكراراً نيتشوياً أبدياً. إن الأنماط التى تبنى في الأجيال المتعاقبة ليست تكراراً صارماً. كما أن الأجيال المتعاقبة ليست مختلفة اختلافاً كلياً عن بعضها البعض. إن الوراثة تجعل الأجيال المتعاقبة متشابهة لكنها لا تفرض التطابق التام. التشابهات والاختلافات هامة بدرجة متساوية. الوراثة تجعل الكائنات الحية ساعات بيولوجية؛ فالتكيفات التى تحققت في الماضي لا تتبدد بسهولة. كما أن التباين يتيح تراكم المعلومات الجديدة عن البيئة التى يعيش فيها النوع في الوقت الراهن. هذه المعلومات تنتظم وتدخر في الجينات عن طريق الاصطفاء الطبيعي؛ الانتخاب الطبيعي عملية ضبط اوتوماتي سبرانية تستجيب لتحديات البيئة وتحيل تلك الاستجابة للطاقم الوراثي للنوع.



يبدأ الكائن الحي وجوده بويضةً مخصبةً، ويواصل التنامي عبر سلسلة معقدة من المناورات البارعة. إن بنيات الجسم ووظائفه لا تتآلف مع بعضها لوجود أداة توجيه متربصة اسمها “التيلوس”، وإنما لأن تنامي الفرد جزء من التتابع الدوري (أو على الأصح الحلزوني) لتنامي أسلافه. يبدو أن التنامي الفردي منجذب من نهايته وليس مدفوعاً من بدايته؛ الأعضاء في الفرد المتنامي تتكون للاستخدام في المستقبل لأنها تكونت تطورياً لمنفعة كانت راهنة. التنامي الفردي مفهوم جزءاً من التنامي التطوري للنوع، وليس العكس. إن تاريخ العالم الحي لا يضيع هباء وسدى؛ الذرات والجزيئات و”البقالات” في الكائنات الحية تحقق البراعات الفذة لأن الاصطفاء الطبيعي هو العملية التى تجعل ممكنا تحقيق ما يكون غير محتمل لأقصي درجة بدونه.



إن رفض مذهب الحيوية لا يتناقض بأي حال مع ما أسماه ألبرت شويتزر Albert Schweitzer "تقديس الحياة". إن ضمير الإنسان ووجود الحياة والكون نفسه، كلها أجزاء من السر الأعظم. ولا يبدو أن إيجاد فجوات في المعرفة العلمية، وهو شئ سهل جداً طبعاً، هو أكثر الطرق حكمة للاقتراب من ذلك السر. بالنسبة لكولسن Coulson 1955.



يبدو أن هنالك مخرجاً واحداً من أزمتنا. لو أننا لا نستطيع إدخال الله في نهاية العلم، فلا بدَّ وان يكون موجوداً هناك، من البداية وعلى طول الطريق. ولم يكن عالم اللاهوت هايم Heim1953 أقل وضوحا : لا يمنحنا الإيمان القوة التى نحتاج إليها في حياتنا اليومية حينما يكون مدعوماً بحدوث المعجزات التى تخرق ناموس الطبيعة ... وإنما فقط حينما يبدو لنا الحدث والحدث نفسه الذى نفهم أسبابه الطبيعية تماماً... يبدو لنا هو نفسه فعلاً واقعياً نتقبله رأساً من لدنه.



وعلى أية حال فإن الإنتلشي أو التيلوس يشكل حلاً زائفاً لمسائل البيولوجيا. فلننظر كيف يمكن أن يكون لـ “عامل غائي أولي، غير مادي"، كما أسماه دريسش، دور في توجيه تنامي الجنين، أو في التحوير التكيفي للكائن الحي البالغ. لقد أصر دريسش كما ذكرنا، على أن الإنتلشي لا هو مادة خاصة ولاهو نوع جديد من الطاقة. ويحتفظ سينوت برأي مماثل على الرغم من غموضه المتعمد. لكن الجسم أو الدماغ نسق مادي - هذا مؤكد حتى للحيويين. ولا بدَّ للتيلوس غير المادي أو الغيبي من أن يتدنى آخر الأمر إلى المستويات المادية والطبيعية ليحدث أثراً ملحوظاً في هذه المستويات. هل يكون الإنتلشي في النهاية إنزيماً شديد الفعالية أو نمطاً فريداً من الإشعاعات؟ لكن الإنزيمات والإشعاعات تكون إما مادة أو طاقة.



لنفترض جدلاً أن علماء التخاطر توصلوا إلى برهان لا يتطرق إليه الشك لحقيقة التخاطر أو لظواهر التوسط بين الأرواح. هل يبرر ذلك أن الحيوية نظرية بيولوجية؟ هذه هى الظواهر التى يرى فيها معظم الناس نموذجاً للظواهر غير المادية والغيبية. فهل هي حقاً كذلك؟ فمهما تكون القوة غير المعروفة المسئولة عن نقل التخاطر فلا بدَّ لها من أن تكون قادرة على التأثير في خلايا المتلقي العصبية. لا بدَّ لهذا الشكل الجديد من الطاقة من إحداث تأثير فسيولوجي أو كيموحيوي في هذه الخلايا تتم ترجمته فسيولوجياً آخر الأمر إلى تلفظات ورسائل منطوقة أو مكتوبة أو متخيلة. وما لم يكن المرء معتنقاً لبعض أفكار التوازي النفسي- المادي الليبنتزي، فلا بدَّ لغير المادي من أن يتدنى إلى المستوى الفسيولوجي وبالتالي المادي طال الزمن أم قصر.



تمت محاولات للالتفاف حول هذه الضرورة التى لا يمكن تجاوزها باللجوء، كما هو متوقع ، إلى مبدأ عدم اليقين وإلى القوى والظواهر تحت الذرية. وقد تضمنت هذه المحاولات أخطاءً في الحكم والتقدير قام رنش Rensch 1960 وناجل Nagel 1963 وآخرون بتعريتها تماماً. فقد يصعب تماماً تصور ما يجري في المستويات تحت الذرية بالمفاهيم التي نستخدمها عادة في التعامل مع الظواهر العيانية. لكن ليس هنالك ما هو لا- سببي بطبعة في الظواهر تحت الذرية أبداً.



أكد عالم فسيولوجيا الأعصاب العظيم اكلز Eccles 1953 على الصغر المتناهي لبعض البنيات البيولوجية التى يفترض أن الاتصال بين العقل والمادة يتم فيها. تلك هي المشابك التى تلتقي فيها التغضنات، أي، أفرع الخلايا العصبية المختلفة، والتي يقدر وزنها من 12 إلى 13 جرام. ويمكن أن تؤدي الإثارة عبر كتلة بهذا التناهي في الصغر إلى إطلاق مئات الآلاف من العصبونات في أقل من جزء من الألف من الثانية. هل تخول لنا كفاءة هذه الألية التضخيمية الافتراض بأن قوة "لا-مادية" يمكن أن تحدث تأثيراً قوياً في عمليات الجسم العيانية وحركاته؟ هنا أيضاً تتم الاستغاثة بمبدأ لا- يقينية هايزنبرج Heisenberg. لكن هذه الحجة لا قوام لها؛ فمهما تناهي صغر حجم المشابك العصبونية، فلا بدَّ للشئ الذى يؤدي لإثارتها من أن يكون مادة أو طاقة مادية أخرى. إن ولع بعض الناس بمبادئ اللا- يقين ينطوي على قدر كبير من سوء الفهم. إن ما ينبغي أن نبحث عنه هنا بالذات هو عوامل اليقين الموجه، لا عوامل عدم اليقين.



بذلت محاولات لقلب هذه الحجة بصورة أخرى. فبدلاً من افتراض أن العوامل غير المادية التى تحدث تأثيراً على المادة بشكل ما، فإنه تفترض أن المادة - كل المادة - تكمن فيها بداءات الحياة والإحساس والإرادة. وقد تقدم بهذه النظريات التى تطلق عليها أسماء مختلفة كوحدة الوجود والحلولية فلاسفة حديثون بارزون أمثال هوايتهيد Whitehead وهارتشورن Hartshorne وعلماء أحياء أمثال رنش و تيلار دي شاردن Teilhard de chardin و بيرش Birch ورايت Wright وآخرين. يسير تعليل رنش (1960) على النحو التالي : ليست هنالك فجوات في الصعود التطوري للإنسان والحيوانات العليا من الدنيا؛ لذلك ليس هنالك أساس لإنكار أن لكل الحيوانات، بما في ذلك وحيدة الخلية، أحاسيس ومشاعر نابعة منها؛ ولا أساس لإنكار الإحساس لدى النباتات، "برغم أن هذه الأحاسيس لا تكون مرتبطة ببعضها البعض، لذا فهي تشكل وحدات أساسية تختلف اختلافاً جوهرياً عن أحاسيسنا الدفينة في نهر الوعي الجاري". ويمتد التواصل التطوري إلى العالم اللا عضوي؛ ولذلك فإن الذرات والجزيئات ينبغي "أن تنسب إليها مكونات موازية من نوع ما". وإذ يرفض رنش كل أشكال المذهب الحيوي فإنه يخلص إلى أنه "بما أن كل الظواهر نفسية فليس هنالك تغايراً للذات والموضوع أو للمادة والروح، ولا يحتاج العالم الطبيعي لأن يبحث عن عالم مجرد للمادة المختزلة وراء عالم الوعي العام".



وتختلف محاججة رايت (1964) عن رنش، التى لا يبدو أن رايت أطلع عليها، في بعض التفاصيل الهامة، وإن كانت موازية لها بشكل عام. ففي رأي رايت "لا يستطيع عالم الأحياء الفيلسوف أن يتفادى مسألة علاقة العقل بالمادة" وذلك لأنه "لو كان العالم غير الحي خالياً من العقل تماماً، ولو أنه مضي وقت لم يكن وجود الحياة فيه ممكناً كما هو واضح، فكيف ظهر العقل إذن؟" وعلى الرغم من أن رايت يُعد أحد مؤسسي نظرية التطور إلا أنه يعتقد أن "انبثاق العقل من لا عقل بتاتاً ليس إلا محض سحر". وخلص رايت إلى أنه لتفادي هذا "السحر المحض … يبدو أن المخرج المقنع الوحيد أن يكون العقل عالمياً، موجوداً لا في كل الكائنات الحية وخلاياها وحسب، وإنما في الجزيئات والذرات حتى في الجسيمات الأولية".



أما هارتشورن 1937،1962 فقد عمم مبدأ النفسية والألوهية الكونية في نسق فلسفي. وبالنسبة إليه فإن كل "الوحدات الفردية للطبيعة"، أي، الأفراد البيولوجيين والجزيئات والذرات والجسيمات الأولية، حية ولها شكل من التجريب أو الإحساس. غير أن هذا لا يعني أن المركبات مثل الصخور والسحب... الخ، حية أيضاً، فهي مركبات وليست أفراداً. ويحل التناقض الظاهري هنا بالاستناد إلى مقولة "المجتمعي" التى ترجع إلى هوايتهيد وإلى ليبنتز قبل ذلك، بأن الفرد الذى يمتلك الإحساس يمكن أن يكون مجتمعاً منظماً، أو مجموعة من الأفراد المحسين. وبناءً على ذلك فإن الله يكون كلاً جماعياً، وكل الأفراد يصبحون مكوناته الجزئية. وحيث أن الله هو "الكائن الكوني" فبالتالي، بما أن استمتاعنا بالصحة هو مشاركتنا في صحة الخلايا الأخرى، فإن سعادة الكون هي تكامل سعادة أجزائه. وأن رحمة الله هى الطريق الوحيد لتصور الطبيعة النفسية للكائن الكوني".



رأينا أن جاذبية النفسية-الكونية لدى كل من رنش ورايت تكمن في تفادي افتراض ظهور خصائص جديدة تماماً في التطور. يقول رنش "على كل حال فإن المسألة الجوهرية هى تكون النفس من لا نفس". ومع أنه ينبغي علينا أن لا نبخس الصعوبة الفلسفية التى تواجهنا، فإنني أثق أننا يمكن أن نجابهها وأن نتغلب عليها. هذا الوضع يوازي مشكلة تفسير التنامي بنظريتي التخليق المسبق والتخليق المتعاقب. فقد كانت الرؤية الظاهرية البسيطة هى أن الجنين موجود هناك، مختبئاً في الخلايا الجنسية، وما عليه إلا أن ينمو ويزداد حجماً ليبلغ حالة النضج. وقد اتضح عند الفحص الدقيق أن البساطة الظاهرية كانت خادعة. فمع أن الارشادات لعملية التنامي “مكونة مسبقاً” في الجينات، على غرار الوجود المسبق لارشادات الكمبيوتر في ثقوب أشرطته، فإن تنامي الجنين متعاقب، بمعني تكون جسم جديد لم يكن موجوداً وجوداً متفرداً من قبل.



إن إمكانية الحياة، إذا ما نظرنا إليها تطورياً، كانت بالتأكيد موجودة في العالم اللا-عضوي. الدليل على ذلك ببساطة هو أننا نعرف أن الحياة ظهرت فيما بعد. بالقدر نفسه فلا بدَّ وأن إمكانية العقل كانت موجودة في مادة الخلايا الأولية الحية، لأننا نعرف حقاً أن كائنات عاقلة نشأت فيما بعد. يقول رايت (1964) محقا "مع أن البويضة المخصبة خلية حية، إلا أنها توحي بالعقل دائماً بتفسير فزيو- كيميائي محض". لكنة يواصل : "لو أننا لا نريد للعقل الإنساني أن يظهر بطريقة سحرية، فلا بدَّ له من ان يكون قد تنامي من عقل البويضة، وظاهرياً قبل ذلك، من جزيئات الحمض النووي (دنا) في نويتي البويضة والسبيرم اللذان يشكلان طاقمهما الوراثي". غير أن هذا الاستنتاج لا يبدو متفقاً مع المقدمات. لا بدَّ بالطبع من أن تكون إمكانية العقل موجودة في البويضة والسبيرم وجزيئات الدنا. لكن لا يتبع ذلك ان البويضات والسبيرمات نفسها لها عقول. إن للحجر إمكانية أن يصبح تمثالا، لكن لا يتبع ذلك أن هنالك تمثالاً خبيئاً داخل كل حجر.



لا بدَّ من التسليم بأن إمكانية الطفل موجودة، أو كانت موجودة، في والديه. لكن لنلاحظ أنه حتى الطاقم الوراثي لهذا الطفل المعين لم يتحقق إلا بعد أن توحدت هاتان الخليتان الجنسيتان. وحيث أنه كانت للأبوين مئات البويضات وبلايين السبيرمات، فقد كانت لهما أيضاً إمكانية إنجاب أعداد لا حصر لها من الأطفال الآخرين. ولم تتقرر إمكانية تحقق بعض هذه الطواقم الوراثية التى تفوق الحصر إلا عند التخصيب (إلا إذا كان ذلك بمعنى الحتمية عند لابلاس الذى سنشير إليه فيما بعد). حتى بعد التخصيب فقد صار الجنين وليداً، وأصبح الوليد شخصاً، بالتدرج المنتظم، وبلا انقطاع في التنامي المتواصل الذى لا يتيح لنا مجالا لتخيل ولوج "عقل" أو "روح" فيه. ولا أرى هنالك جدوى مثل افتراض وجود عقول في البويضات والسبيرمات، مهما تناهت درجة تخفيف تلك العقول. كما وليس هنالك معنى للقول بأن لفافات الطعام الموجودة في أرفف البقالات حية وانها تحتوي على جرثومة شخصي، على الرغم من أن بعض محتوياتها قد تصبح كذلك بعد أن يتم استيعابها في جسدي.



إن افتراض الوجود المسبق للعقول ولفكرة خلودها أو على الأقل بقائها لأمد طويل يمثل إغراءً شديداً للكثير من الناس. فقد كانت الثيوصوفية آني بيسان Annie Besant متأكدة تماماً ان تسعة عشر من التناسخات الستة وثلاثين الأخيرة لروحها حدثت في الهند، كما كانت واثقة من أن روحها ستتعرض للمزيد من التناسخ. لكن لحسن الحظ أو لسوئه فليس هنالك ما يمكن ان يقيم الدليل على صحة أو معقولية هذه الافتراضات. وان المظاهر الخارجية على الأقل توحي بأن العقول تنشأ وتتنامى ثم تختفي. فقد نشأ العقل الذى هو أنا على درجات، بدأت قبل حوالي ستة وستين عاماً، بوضوح من لا-عقل بتاتاً، وإنما فقط من كروموسومات وسيتوبلازم ومواد غذائية لا عقل لها. قبل ذلك بسبعين سنة مثلاً لم يكن لهذا العقل أي وجود. ولو أن هذا "محض سحر" فهو سحر يملأ الدنيا. ومما لا شك فيه أن عقلي هذا سيختفي من الوجود بعد بضعة سنوات. البديل لذلك هو اقتفاء أثر أولئك الناس الذين يعتقدون بأن العقول لا تختفي وإنما يتم تخزينها في أماكن للنعيم المقيم أو اللعنة الأبدية المحتومة. غير أن هذا يصعب تصديقه، وأصعب منه أن أصدق أن عقلي كان متربصاً في مكان ما خارج المسرح قبل سبعين سنة، منتظراً دوره للولوج في الكروموسومة أو الخلية التى تناسبه.



يزيح هارتشون نظريته من مجال العلم بجرة من قلمه حينما يكتب أن "أية وحدة من وحدات الطبيعة تكون كذلك، ولا تعرف بأنها مركبة، يكون لها، للمدى الذى يقدر لأي شخص أن يدركه، أشكال من المشاعر والخصائص النفسية الخاصة بها". ذلك لأن مثل هذا الافتراض الذى لا يمكن دحضه لا مجال له في العلم. ومع التسليم بعدم وجود تعريف رسمي مقنع للحياة، فنحن نعرف الخصائص المميزة لظاهرة الحياة الموجودة في كل كائن حي، وإحدى هذه الخصائص القدرة على التضاعف الذاتي (انظر الفصل القادم). وأن الحديث عن مثل هذه "الوحدات الفردية" مثل الذرات والإلكترونات، بحسبانها على نحو ما حية، قد يكون استعارة شاعرية، لكنها خالية تماماً من أي معني كفرضية علمية.



الصعوبة مع "عقل" الخلية أو الذرة أشد. يطرح الفسيولوجي العظيم شرينجتون Sherriington 1953 الوضع كالتالي : "مع أن الحياة يمكن تحليلها ووصفها بواسطة العلم الطبيعي، فإن قرينها، الفكر يظل عصياً متكسراً بالنسبة للعلم الطبيعي الذى يقصيه ويعده خارجاً عن مجاله. وقد نشأ نتيجة لذلك تمييز جذري بين ظاهرتي الحياة والعقل؛ الأولى، مجالها الكيمياء والفيزياء، والثانية، تخرج عن نطاقهما". ولا يعني هذا أن شرنجتون كان داعية لنوع من أنواع المذهب الحيوي.



الحقيقة ببساطة هى أن العقل وفعاليته، الفكر، يتخبرهما الإنسان ولا تتم ملاحظتهما. إنني أعي مباشرة بعقلي الخاص فقط وأتخبر مباشرة أفكاري الخاصة فقط. وأنا افترض أن الآخرين يتخبرون أيضاً شيئاً كأفكاري لأن سلوكهم الظاهري يبين ملامح تناظر ملامحي وأعرف في دخيلتي أنها تلازم التفكير عندي. لكن، واقتبس شرينختون مرة أخري، "إننا لا نعرف شيئاً عن العلاقة بين الأفكار والدماغ سوى التناسب الإجمالي في الزمان والمكان". هل يمنحنا هذا القدر من المعرفة ترخيصاً لافتراض وجود العقول والأفكار في الجزيئات والذرات في كل مكان؟ إننا لا نستطيع أن نبرهن بسهولة أو ندحض دحضاً قاطعاً افتراض أن بعض الحيوانات مثل الكلاب والخيول لها نوع ما من العقول، ونحن نفترض عند التعامل معها أنها كذلك. لكن كلما ابتعدنا عن الإنسان كلما صار التناظر واهياً ولذا فإن الأرواحية البيولوجية والفلسفية الجذرية تصبح أقل إقناعاً.



لا يبدو ان الأصل التطوري للعقل يحتاج لأي "سحر". كل واحد منا يعرف بالتأكيد أن عقله لم يكن دائما بالحالة التى هو عليها الآن. لقد ومضت خلجات عقولنا الأولى حينما كنا في الطفولة؛ وقد نمت واتخذت شكلها الراهن بالتدريج على مراحل خلال سيرورة الحياة. ولست أرى ما يمنع سيرورة نظيرة لذلك خلال التنامي التطوري. لقد نشأت القدرة على تكوين العقل في النوع الإنساني، أو لدى أسلافه القريبين لدرجة ما، ثم نمت وصار لها قوامها المعروف. أما مدى تدرج سيرورة النمو والتشكيل فسؤال تصعب الإجابة علية. إن السيرورة التطورية ليست مثل سريان النهر الهادئ الذى يجري دائماً بالسرعة نفسها. فقد تكون لها حيناً فترات هدوء نسبي، وأحياناً أخرى فترات إبداع كثيف.



لقد كان أصل الحياة وأصل الإنسان نتاجاً لأزمات تطورية، لحظات تغيير بلا عودة، لحظات تحقق أشكال إبداعية للوجود. يمكن أن توصف هذه الإبداعات الجذرية بأنها انبثاقات، أو تجاوزات في السيرورة التطورية. ولا تخلو أي من هذه التعابير من دلالات ليست مرغوبة؛ لكن "التجاوز" يبدو تعبيراً أفضل، لذا نواصل استخدامه في الفصول القادمة. لم ينشأ العقل الإنساني من شكل ما لبداءات "عقول" الجزيئات والذرات. وليس التطور ببساطة عملية إفراغ لما كان في حالة مختبئة منذ البداية. إنه مصدر إبداع لأشكال من الوجود لم تطرأ أبداً من قبل على الحالات السالفة.



لا مفر هنا من السؤال الشائك : هل كان ظهور هذه الأشكال من الوجود أمراً حتمياً؟ ولو أن الأمر كذلك فهل تكون إبداعاً حقاً؟ قال لابلاس في إفادته الشهيرة عن الحتمية الآلية : "الفكر الذى يعرف كل القوى الفاعلة في الطبيعة في لحظة معينة من الزمان، والأوضاع الخاطفة لكل الأشياء في الكون، يكون قادراً على إدراك حركة أكبر الأجسام وأصغر الذرات في العالم بمعادلة واحدة، شريطة أن يكون من القوة بحيث يخضع كل المعطيات للتحليل؛ حينئذ لا يكون أي شئ ملتبساً لدية، ويكون الماضي والمستقبل ماثلان أمام عينيه".



لا يكون بالنسبة لمثل هذا الفكر إبداع في العالم، ولا يشكل الزمن عائقاً أمامه. وبالطبع لا بدَّ لمثل هذا الفكر أن يكون إلهياً. إن العقل الإنساني المتناهي المجرد والمحدود لا يستطيع أن يتحدث عن السرمدي إلا بالرموز الشعرية؛ وقد حاول تيلار دي شاردن أن يتحدث بمثل هذه الرموز عن الجوانب الوجودية، لا الظاهراتية، للتطور. وبغض النظر عن نجاح أو فشل هذه المحاولة، فهي تختلف تماماً عن التوق لإيجاد فجوات في الصورة العلمية للعالم، خصوصاً التطور، واستخدام هذه الفجوات للتدليل على وجود الله. وقد كان بيرش (1965) محقاً تماماً حينما قال "إن التصالح بين الأصولية الدينية والعلم الحديث مستحيل". فقد مات آلهة الفجوات؛ قتلهم أولئك الذين تعلقوا بهم وودوا حمايتهم. وقد عبر تيليش عن ذلك بوضوح شديد، وهو عالم لاهوت وليس أخصائياً علمياً : "لقد كان الذى اتخذ الخطوة الأولى نحو لا- دينية الغرب هو الدين نفسه. حدث ذلك حينما دافع عن الرموز العظيمة التى كانت وسيلته لتفسير العالم والحياة، لا بوصفها رموزاً، وإنما عن حرفيتها قصصاً واقعية. وقد خسرت تلك المعركة بمجرد أن فعلت ذلك". لكن مع ذلك، كما أضاف تيليش : "ان ما يحدث في الزمان و المكان، في أصغر الجسيمات ولدى أكبر الشخصيات، مهم بالنسبة للحياة الأبدية. وبما أن الحياة الأبدية هى المشاركة في الحياة القدسية، فإن أي حدث محدود مهم لدى الإله"(تيليش) .



إن هذا قريب من مأثورة شلير ماتشر Sehleiermacher 1963، عالم اللاهوت في القرن التاسع عشر "المعجزة هي الاسم الديني للحدث. وإن كل حدث، حتى أكثر الأحداث الطبيعية تكراراً وألفة، يصبح معجزة بمجرد أن تكون الرؤية الدينية له هى السائدة".



هوامش وضعها الناشر

* الأرواحية animism: الاعتقاد بالنفس أو الأرواح التى تؤثر في حياة الناس والحيوانات، والتي تمارس تأثيراً على الأشياء والظواهر في العالم المحيط. وقد ظهرت مفاهيم الأرواحية في المجتمع البدائي. فقد كان الإنسان البدائي يتخيل أن للأشياء والنباتات أرواحاً (روزنتال ويودين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة بيروت، 1974، ص.20-21).



(1) White, A.D, A History of the Warfore of Science With Theology in Christendom.New York, Brazillen 1895, London, Arco publishers 1955.

(2) Durkheim, E., The Elementary Forms of the Religions Like. W. A. Lessa and E. Z. Vogt Eds Readers in Comparative Religion, Evanston, Row Peterson 1958.

(3) Munroe, R. L., Schools of Psychoanalytic. New York Holt, Rinehant, 1955, London, Hutchinson 1957.

(4) Kardiner, A.,

(5) Simpson, G.G, This View of like, New York, Harcount, Brace&World, 1964.

(6) Barzun, J., Science, the Glorious Entertainment, New York, Harper&Row,1964.

(7) Coulson, G.H., Science and Christian Belief, New York, Oxford University Press,1955.

(8) Heim, K., Christian Faith and Natural Science, New York, Harper and Row,1953.

lastmissions
01-22-2008, 09:12 AM
الفصل الثالث

التطور والتجاوز



أشار الراحل ا. ل. كروبر Kroeber، الذى كان عميداً لعلم الإنسان الأمريكي لعدة سنوات، إلى أن كلمة التطور صارت كلمة "منزلية" شائعة. وبالتأكيد لم تكن تساور كروبر أية أوهام على أن لدى أغلبية "أرباب البيوت"، حتى في أكثر البلاد تمدناً، أشد الأفكار غموضاً عن ماهية التطور. مع ذلك كما أشار سوروكين Sorokin1937 فقد صار التطور "المقولة السائدة للإدراك العقلي". و"النظرة إلى الأشياء من منطلق أصولها وتناميها وتطورها هي رؤيتنا لكل شئ من الدين إلى البورصة. لقد تجذر هذا المنظور في عقولنا وأضحى على درجة من العمق بحيث لا يستطيع الكثيرون منا أن يتصوروا أي مدخل لا تاريخي أو لا تطوري أو لا تناموي لدراسة أية ظاهرة".



تشير كلمة "التطور" لدى معظم الناس إلى النظرية البيولوجية التى اقترحها شارلس داروين. لقد درس التطور البيولوجي الكثيرون ممن سبقوا داروين، لكن داروين هو الذى حشد جملة من الأدلة الغامرة لدعم نظريته. غير أن التطور ينطبق على مجالات أوسع بكثير من التطور البيولوجي. فقد تم الاعتراف أو على الأقل النقاش في تطور المجموعة الشمسية والكرة الأرضية والمجتمعات البشرية قبل التطور البيولوجي. ليس هنالك تعريف عام مقبول لكلمة التطور. إن تعبير "التغير المتواصل أي المستدام" يقارب المعنى أكثر من غيره في الوقت الراهن. يمكن تعديل هذا المفهوم في حالة التطور البيولوجي إلى "التغير المتواصل عبر أجيال متتابعة"، وذلك لتمييز تنامي المجموعة "فايلوجينى"، أي تاريخ النوع أو الأنواع عن تنامي الفرد "أونتوجيني". اقترح هكسلى Huxeley 1955 تعريفاً أكثر تفصيلاً، وفي تقديره أكثر تعميماً، للتطور: "التطور عملية ذاتية الدفع وذاتية التحول وذاتية التجاوز، محددة الاتجاه زمنياً ولذلك فهو غير قابل للإلغاء، ويولد في مساره إبداعاً متجدداً وتنوعاً متزايدًاً وتنظيماً معقداً ومستوىً أعلى للوعي وفاعلية عقلية واعية متصاعدة". هذا التعريف لا يكفي، لسوء الحظ، للتطور البيولوجي وحده. فحالات الركود التطوري تبين أن التطور ليس ذاتي الدفع؛ التطور أساساً صيرورة تلمس، وهو صيرورة توجيهية في المرتبة الثانية فقط؛ وأحياناً يكون التطور تقهقرياً بدلاً من أن يكون تقدمياً؛ الإنشطار التطوري "زيادة التنوع" يتكرر بدرجة التركيز التطوري نفسها "التغيير داخل المجموعة نفسها"؛ وقد نشأ الوعي والوعي بالذات، حسبما نعلم، في خط تطوري واحد هو الذى يقود إلى الإنسان.



يكاد الإنكار التام لحدوث التطور يكون مستحيلاً، على الرغم من أن بارمنيدس Parmenides كان يؤمن بأن التغيير ليس سوى خداع للحواس. وعلى أية حال فحتى لو كان هنالك واقع أبدي علوي لا يتغير، فالسؤال وارد حول مدى التغيرات التى أوهمتنا حواسنا بحدوثها. وقد قامت كل الشعوب حتى البدائية تماماً، بتأليف أساطير للخلق تحكي أصول العالم والجنس البشري. وغالباً ما تكسو هذه الأساطير مشاعر وجدانية رائعة تنبع، كما تقول بعض النظريات، من أشد أغوار النفس البشرية عمقا Long 1963. تحكي أساطير الخلق أفعال الشخصيات المقدسة التى نتج عنها عالم اليوم. وقد حدثت هذه الأفعال البطولية والأحداث العاصفة أساساً في بدايات العالم. وبمجرد اكتمال تلك الأحداث فإن العالم يتم تصويره في حالة ثابتة نسبياً ولا تقبل التغيير.



إن قصة الخلق في سفر التكوين إذا ما أخذت وحدها يمكن أن تفسر، وقد فسرت فعلاً أساساً لرؤية "لا تطورية" للطبيعة والكون والإنسان. وقد سادت هذه الرؤية اللا تطورية حتى تحطمت تحت تأثير الاكتشافات العلمية في العصر التالي للنهضة. حقاً لم ينكر كل تغيير، لكن التاريخ المفترض القريب جدا لبداية العالم، سنة 4004 ق.م. وفقاً لتقديرات الأسقف اوشر، أوحي بأنه لم يكن متاحاً للعالم أن يتغير كثيراً منذ بداية الخلق. ومن هنا جاءت الكلمات الاكليركية : "ما كان هو الذى سيكون، وما يقضي به العرف هو الذى سيتم؛ وليس هنالك جديد تحت الشمس".



تفترض روايات أخرى للخلق تكراراً أبدياً لخلق العالم وتحلله. تتضمن بشكل ما الرؤيتين التطورية واللا تطورية للعالم. وتُعد كونيات فيشنو بورانا Vishnu Purana مثلاً جيداً لهذه الروايات. فالكون يتكرر على دورات تبلغ الواحدة منها 4320000 بليون سنة بالضبط، وهذا رقم مهول حتى بالنسبة لحوالي خمسة عشر بليون سنة هي التقدير الراهن لعمر الكون. وتتخلل هذه الدورات الكبرى دورات صغرى مداها 432000 سنة تخضع لتغيرات جذرية من بداية خلق (كرتا يوقا) إلى نهايته المدمرة (عهد كالي الذى نتوسطه الآن). كان الفيثاغوريون أيضاً مغرمين بالنظريات الدورية التي اختلف طول دوراتها (إنوس ماقنوس) من 5552 إلى 100020 سنة. وكان نيتشة من أشد دعاة الإيمان حماسة بالتكرار الأبدي؛ وجدت النظريات الدورانية للتاريخ حظوة لدى كل من دانيلفسكي وشبنقلر وإلى حد ما سوروكين.



تُعد المسيحية من أكثر الأديان العظمى وعياً بالتاريخ، وهى بهذا المعنى تطورية. إنها تؤكد أن تاريخ البشرية والعالم ليس مجرد وهم وليس شراً لا خلاص منه. فالتاريخ هو مركبة الخلق. لقد كانت للعالم بداية وستكون له نهاية. وقد وقع حدث محوري في لحظة معينة من التاريخ إذ اتخذ الله هيئة إنسانية وعاش بين الناس. لذا فإن الإنسان يتموضع في مركز المعنى في التاريخ. وبكلمات تيليش (1963) فان التاريخ يتأكد في نداء الوعي الباطني المسيحي بطريقة تجعل الإجابة عن الأسئلة التي توحيها التباسات الحياة في بعدها التاريخي تكمن في رمز "مملكة الله". ولا يعني هذا بالضرورة عقيدة للتطور التقدمي صوب حالة من الكمال؛ وفي الواقع فإن المسيحية ورثت عن اليهودية مبدأ السقوط المأساوي للإنسان من حالة كمال بدئي.



ليس صدفة إذن أن فكرة التقدم نمت وترعرعت في الخلفية الثقافية المسيحية ـ اليهودية، على الرغم من الإطار العلماني، لا الإطار الديني الذى نشأت فيه Bury 1932. وقد اعتقد الموسوعيون أن "الكتلة الكلية للجنس البشري تتحرك ببطء دائما إلي الأمام". وقد ارتأى فولتير ان الإنسان يتقدم من "البساطة البربرية الخرقاء" إلى "تهذيب زماننا". ثم ظهرت أول نظرية ناضجة لتقدم الجنس البشري التطوري في نهاية عصر الأنوار، تلك هي نظرية كوندورسيه. إنها ترنيمة لتفاؤل طليق نُظمت في ظلال الموت. وقادت الأفكار التطورية لهيردر Herder، وكانت ،Kantوفخت Fichte على أساس فلسفي مختلف إلى نسق هيجل الذى ينظر فيه إلى التاريخ بحسبانه التجلي المضطرد للروح. ويضع ماركس الإنتاج والاقتصاد محل الروح ليصل إلى بديل لمملكة الله اسمه الاشتراكية والشيوعية. وقد اكتشف ماركس "تطور" مجتمعه تقريباً في الوقت نفسه الذى نشر فيه داروين روايته للتطور البيولوجي. وكان ماركس ثاقب الذهن للدرجة التى جعلته يكتشف في داروين زميلاً تطورياً، وهو انتماء رغب عنه داروين. ولم يمض وقت طويل قبل أن يشرع سبنسر وتايلور ومورغان وآخرون في تأسيس علم الإنسان الاجتماعي القائم على مقدمات داروينية صريحة.



وقد ظهرت نظريات التطور الكوني والأرضي اللا عضوي قبل نظريات التطور العضوي بقدر من الوقت. فقد تقدم كانت (1755) في سنه اليافعة قبل أن يصبح أمير الفلاسفة، بنظرية السديم الأولي. ارتأى كانت Kant أن قوى الجاذبية النيوتونية أدت إلى تجميع مادة الكون المبعثرة أصلاً وتكثيفها في الشمس والكواكب. وتصور لابلاس في عامي 1796 و1808 أن الشمس الأولية كانت كرة غازية في حالة دوران سريع. وقد انفصلت أجزاء من تلك الكرة الغازية وتكثفت بفعل قوى الطرد المركزي القوية فشكلت الكواكب والأقمار. وطور ليل* في القرن التاسع عشر مبدأ التساوق الذى تقدم به كل من بفون Buffon وهتون Hutton في القرن الثامن عشر، وجعله أساساً لدراسة التغيرات الجيولوجية للأرض. وقد الهم ليل داروين وعضده، بعد أن تشكك بادئ الأمر في نظرية التطور البيولوجي.



لكن النظريات الكونية الحديثة جديدة عهد تماماً. إنها نتاج تقدم الفيزياء وعلم الفلك في القرن العشرين. وهى تتلخص في نظريتين تبدوان مختلفتين ومتناقضتين، على الأقل بالنسبة لغير المتخصص. ولا يبدو الحسم النهائي لهاتين النظريتين ممكناً الآن، ويمنح ذلك دراسة الكونيات إثارة شديدة في الوقت الراهن. فقد طور بوندي Bondi وقولد Gold وخصوصاً هويل Hoyle نظرية حالة الثبات. إن الافتراض الأساسي لهذه النظرية هو أن المادة الجديدة تنشأ باستمرار في الكون المتمدد. وأن هنالك تناسب بين وتائر تمدد الكون وخلق المادة الجديدة، ويؤدي ذلك لأن تكون كثافة المادة في الكون في حالة ثبات تقريباً كل الوقت. وهكذا فإن المجرات الجديدة يتم تكونها باستمرار. أما النظرية الأخرى فإنها تفترض أن الكون نشأ قبل حوالي خمسة إلى عشرة بليون سنة، من حالة انضغاط بلغت فيها كثافة المادة والإشعاع مائة مليون ضعف كثافة الماء. كانت البداية انفجاراً مهولاً (ومن هنا جاء اسم نظرية "الانفجار الكبير" التى ارتبطت خصوصاً مع النظرية التي اقترحها قاماو Gamow). وقد بدأت ذرات العناصر الكيمائية تتكون خلال الدقائق الخمسة الأولي بعد الانفجار الكبير حينما بلغت درجة الحرارة حوالي بليون درجة مئوية؛ ويُعزى التوفر النسبي للعناصر في الكون الآن لهذه العملية التى يقدر أنها استمرت لمدة خمسة وعشرين دقيقة فقط. وتفترض نظريات حالة الثبات على النقيض من ذلك أن العناصر الأثقل من الهيدروجين والهليوم يتم "طبخها" باستمرار داخل النجوم الساخنة جداً.



وهكذا فإن أصل المادة التطوري إما أن يكون قد حدث في الماضي البعيد جداً أو أنه صيرورة تجري تحت شروط وظروف معينة في الوقت الراهن. من الناحية الأخرى فبينما كانت النجوم تعتبر رمزاً للثبات ولزمن لا نهاية له، فقد صار الآن مؤكداً بشكل أن النجوم تخضع للتغيرات التطورية. زيادة على ذلك، إذا ما اعتمدنا هذه النظريات على الأقل، فإن مجرى هذه التغيرات يمكن التنبؤ به تماماً. فمن المتوقع أن يزداد توهج شمسنا توهجاً شديداً بسبب زيادة في حجمها مرتبطة بانخفاض في درجة حرارة سطحها. وستبلغ الشمس في ذروة تمددها مائتين إلى ثلاثمائة ضعف حجمها الراهن. وسيعقب هذا التمدد انكماش، لكن ليس إلى ما دون حجمها الراهن، تصحبه زيادة كبيرة في درجة الحرارة. في ذلك الوقت يقترب "الوقود" النووي من مرحلة النفاد ويتوقف في النهاية إنتاج الطاقة.



التطور البيولوجي هو العنصر الوسيط في الثلاثي التطوري - الكوني والبيولوجي والإنساني. وقد تمت الإشارة إلى أن اكتشاف التطور البيولوجي كان لاحقاً للتطورات الأخرى. كان داروين هو المكتشف الحقيقي، وإن سبقه آخرون لهم إسهامات هامة كان لامارك** أبرزهم وأكثرهم إثارة للجدل. إن تحديد تلك الإسهامات ودراستها شئ ممتع، لكن القول بأن داروين لم يقم إلا بفرز أفكار استعارها من سابقيه كما يقول البعض الآن ليس صحيحاً. فقد ثبتت نظرية داروين بصورة جيدة لاختبار الزمن. إن النظرية الحديثة بعيدة جداً بالطبع عن التطابق مع نظرية داروين التى انقضى عليها أكثر من قرن، لكن هنالك استمرارية فكرية لم تنقطع بينهما. النظرية الجديدة تسمي "البيولوجية" أو "التركيبية" لأنها تمثل تداخلاً وتركيباً للاكتشافات من كل العلوم البيولوجية تقريباً. هذا إبداع في حد ذاته لأن علماء الوراثة والتصنيف والإحاثة والأجنة وغيرهم كانوا يقومون بصياغة النظريات التى كانت تبدو لهم متفقة مع مادتهم الخاصة دون أن يمنحوا للعلوم المجاورة لهم اعتباراً كافياً.



إن جوهر النظرية البيولوجية بسيط تماماً، وستتم مناقشته في إطار مختلف في الفصل السادس. ولا نحتاج لأكثر من تخطيط مقتضب هنا. الفرضية الأساسية هي أن التطور يتألف بشكل رئيس من استجابة النوع البيولوجي لتحديات بيئاته. الحياة عموماً حالة غير محتملة للمادة؛ إنها إنجاز دال على البراعة تحقق ضد كل المصاعب واحتمالات الفناء طريق الصعود التطوري البطئ. وكان على الحياة لكيلا تضع البيئات غير المواتية حداً لوجودها أن تحافظ على تكيفها للبيئات المحيطة بها وأن تحسن منه طوال الوقت. تشكل البيئات المتغيرة أقصى التحديات، وذلك لأنه من غير المحتمل تماماً أن يكون الطاقم الوراثي الذى تشكل استجابة لتحديات البيئة القديمة مناسباً للبيئات الجديدة بالمصادفة وبالقدر نفسه.



إن الاصطفاء الطبيعي هو الطريقة التى تستجيب بها الكائنات الحية لتحديات البيئة. هذا ما تصوره داروين بوضوح، لكن الفهم الجديد للاصطفاء الطبيعي ناتج عن البيولوجيا الجديدة. فخامات التطور هي الأشكال المغايرة التى تنشأ عن طريق الطفرات الوراثية. الخاصة المذهلة لعملية الطفور هي التباسه التكيفي. الطفرات تنشأ بغض النظر عن فائدتها أو عن احتمال أن تصبح مفيدة، عوضاً عن ظهورها وقت الضرورة وحيث تتم الحاجة لها. ومعظم الطفرات في الحقيقة ضارة. الطفور بمفرده ودون ضبط الاصطفاء الطبيعي لا يقود إلا إلى التدهور والاضمحلال والانقراض.



كثيراً ما شُبه الاصطفاء الطبيعي بالمنخل لأنه يبقي الطفرات القليلة المفيدة ويدع الطفرات الضارة الكثيرة تمر. لكن هذا التشبيه مضلل للغاية. إنه يغفل الجنس وتفاعل الجينات. إن التوالد الجنسي يبدع دوماً توليفات من الأطقم الوراثية المتغايرة المتجددة التى نشأت أصلاً كطفرات. هذا التوليف أهم بكثير جداً من مجرد خلط الوحدات المستقلة وإعادة خلطها؛ إذ غالباً ما يعتمد التكيف لا على الطفرة في حد ذاتها وإنما على النسق الوراثي الذى توجد فيه. فالطفرة التى تكون مفيدة في توليفة جينية معينة قد تكون ضارة في توليفات أخرى.



علينا لكي نجعل التشبيه بالمنخل صحيحاً أن نتصور "منخلاً" من نوع غير اعتيادي. يتم تصميم هذا المنخل بطريقة تمكنه من تسريب أو إبقاء الحبيبات المنفردة لا على أساس حجمها وحدها وإنما بالأخذ في الحسبان خصائص كل الحبيبات الأخرى الموجودة. ما يكون لدينا في هذه الحالة ليس منخلاً وإنما أداة ضبط سبراني تنقل للكائن الحي "معلومات" عن حالة البيئة. هذه الأداة أيضاً تجعل التغيرات التطورية الآتية متسقة مع السابقة. لذلك يحتوي الطاقم الوراثي للنوع الحي على سجل لبيئاته السابقة وعلى بصمة بيئته الراهنة. إذن فالهبة الوراثية التى تنتج ليست "موزايكو" من الجينات التى تحتفظ كل منها بتأثيرها المستقل؛ بل هى نسق متكامل، لا يتأهل للبقاء إن لم تتوافق أجزاؤه مع بعضها البعض.



من الغريب جداً أن فكرة كون الإنسان والعالم الذى يعيش فيه نتاج التنامي التطوري تبدو مخزية لبعض الناس "تحط" من قدرهم. لكنها في الواقع وعلى النقيض من ذلك شرط أساس للإنسانية بمفهوم تيليش (ص2) لأنه لكي تكون للإنسان إمكانيات قابلة للتحقيق فلا بدَّ من أن تكون لديه قابلية التطور في المكان الأول. لا بدَّ للإنسان، فردياً وجماعياً، أن يكون صيرورة متحولة لا حالة ثابتة. لا بدَّ للكون أن يكون تكويناً. وبكلمات تيلار دي شاردن (1964) "إننا نرى بوضوح أكثر مع كل زيادة في معرفتنا أننا مشاركون، جميعنا، في صيرورة التكونن الذى يبلغ ذروته بتمركز الكون حول الإنسان والذي يعتمد عليه بشكل ما التحقق النهائي لذواتنا - بل سعادتنا الأبدية".



السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو هل التطورات الكونية والبيولوجية والإنسانية صيرورات منفصلة أم انها أجزاء وفصول أو مراحل لتطور كوني واحد. إن طرح هذا السؤال إنما هو طريقة أخرى لإثارة الأسئلة الكبرى عن كيفية نشأة الأجسام الحية من المادة غير الحية، وكيفية نبع نهر الوعي وسريانه، وإدراك الذات من الصيرورات الفسيولوجية المباشرة لدى أسلافنا الحيوانيين. تتضح صعوبة هذه الأسئلة من العبارة التالية لعالم بيولوجي بارز : "ما هو غامض تماماً يكتسب بعداً صوفياً لدى أناس كثيرين، أن تكون الحياة نشأت من مادة غير حية وأن يكون الجنس البشري بدأ مسيرته في ذلك الطريق الذى يبعده أكثر وأكثر من أصوله الحيوانية" (دوبوا Dubos 1962). من المهم أن نحتاط هنا لحالتين من التبسيط المفرط، متعارضتين في الدلالة لكن متساويتين في التضليل. الأولي تفترض انقطاعاً تاماً في الاستمرارية التطورية بين الحياة واللا حياة وبين الإنسانية والحيوانية. والثانية تتغاضى عن الاختلاف بين التطورات الكونية والبيولوجية والإنسانية، فتفلت منها لذلك رؤية مصدر الإبداع. إن استخدام مفهوم مستويات وأبعاد الوجود الذى نماه الديالكتيكيون الماركسيون من ناحية وعالم اللاهوت العظيم بول تيليش من ناحية أخرى هو في تقديري الحل الأمثل لهذا الإشكال.



ببساطة شديدة فإن الظواهر في المستويات غير العضوية والعضوية والإنسانية تخضع لقوانين مختلفة خاصة بتلك المستويات. ليس ضرورياً أن نفترض عدم قابلية هذه القوانين للتعميم الاختزالي، لكنه ليس مجدياً أن نصف ظواهر المستوى الأعلى بقوانين المستويات الأدنى. يعبر أحد كبار كهنة الماركسية السوفيت، بريزنت Present 1963، عن ذلك بوضوح تام كما يلي : "حيثما نشأ، فلا بد أن المجتمع الإنساني جاء من العالم الحيواني، وقد كان العمل، صيرورة الإنتاج، هي التى جعلت من الحيوان البشري إنساناً. وعلى أي حال، فإن الذي نقل البشر من طريقة الحياة الحيوانية ومنح حياتهم الجديدة خصوصيتها صار جوهر التاريخ وأساسه التالي. الشيء نفسه يصدق في دنيا الطبيعة الحية، فإن الذي نقل الشكل الجديد لحركة المادة من ما ـ قبل تاريخها غير الحي هو الذي صار بالضرورة جوهر الحياة وقاعدتها الأساسية".



ووفقا لتيليش (1963)، "لا يمكن تحقيق البعد العضوي ما لم يتحقق البعد اللا-عضوي، ويظل البعد الروحي احتمالاً كامناً ما لم يتحقق البعد العضوي. لقد تحققت كل هذه الإمكانيات في الإنسان كما نعرفه، لكن الطبيعة الخاصة بهذا العالم تحددها الأبعاد الروحية والتاريخية... إن البعد العضوي موجود أساساً في اللا-عضوي؛ ويعتمد ظهوره الفعلي على شروط تحددها البيولوجيا والكيمياء الحيوية".



تقع التطورات غير العضوية والعضوية والإنسانية في أبعاد أو مستويات مختلفة لتنامي الكون التطوري. من المؤكد أن هذه الأبعاد أو المستويات ليست منفصلة تماماً عن بعضها البعض؛ بل هنالك على النقيض من ذلك علاقات تغذية استرجاعية بين الحي وغير الحي وبين الإنساني والحيواني. مع ذلك فالأبعاد المختلفة تتميز بقوانينها ووتائرها المختلفة التى يستحسن فهمها وفحصها في الإطار الذي ينتمي إليه كل منها. إن التغيير في مستوى التطور العضوي أسرع من مثيله غير العضوي. لكن التطور غير العضوي لا يتوقف بظهور الحياة؛ لأن التطور العضوي مركب فوق التطور غير العضوي. والتطور البيولوجي للجنس البشري أبطأ من التطور الثقافي؛ فالتغيرات البيولوجية لم تتوقف حينما انبثقت الثقافة؛ التطور الثقافي مركب فوق مثيله البيولوجي واللا-عضوي. وكما ذكرنا فإن التغيرات التطورية في الأبعاد المختلفة ترتبط بعلاقات تغذية استرجاعية.



إن بلوغ بعد تطوري جديد يعتبر حدثاً حرجاً في التاريخ التطوري، وإنني أقترح أن نسميه التجاوز التطوري. من الواضح أن كلمة "التجاوز" لا تستخدم هنا بمعنى الفلسفة المتعالية؛ أن تتجاوز يعني أن تذهب إلي أبعد من حدود الإمكانيات التى كانت مستخدمة أو سالكة في نسق ما أو أن تتفوق عليها. هذا هو المعني الذي أشار إليه هالاويل Hallowell 1961 حينما كتب : "يكمن الأساس النفسي للثقافة ليس فقط في اكتساب أشكال تعلم معقدة للغاية وإنما أيضا في اكتساب قدرة على تجاوز ما تم تعلمه، وعلى إمكانية الابتكار والخلق وإعادة التنظيم والتغيير". وكتب اريك فروم Erich Fromm 1959 إن الإنسان "يحفزه دافع تجاوز الدور البهيمي".. وأنه "يتجاوز انفصالية وجوده الفردي بأن يصبح جزءاً من شخص ما أو شئ ما أكبر منه".



لقد تجاوز التطور الكوني ذاته حينما أنتج الحياة. ومع أن العمليات الفيزيائية والكيميائية التى تجري في الأجسام الحية لا تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التى تجري في الطبيعة العضوية، فإن أنماط هذه العمليات تختلف في الطبيعة العضوية عن غير العضوية. لقد تجاوز التطور غير العضوي حدود الأنماط الفيزيائية والكيميائية السابقة حينما انبثقت عنه الحياة. بالمعني نفسه فقد تجاوز التطور البيولوجي نفسه حينما انبثق عنه الإنسان. من الواضح أن هنالك ظواهر وصيرورات تتراوح من الوعي بالذات إلى الأشكال الإنسانية للمجتمع والتاريخ تتواجد اقصائياً، أو تقريباً كذلك، في المستوى الإنساني وحده. ولا يبدو ضرورياً أن نجهد أنفسنا كثيراً للتأكد من أن هنالك إمكانيات عظيمة متاحة للإنسان.



من المفهوم أن أصل الإنسان وأصل الحياة تُعد من أكثر قضايا التاريخ التطوري تحدياً وأشدها صعوبة. وليس من الحكمة في شئ أن نضفي مظهراً تبسيطياً خادعاً على تلك القضايا المعقدة على نحو استثنائي. من الناحية الأخرى فقد عرفنا الكثير الجديد عن هذه القضايا، في السنوات الخمسين حتى العشر الماضية، مما يجعل الرؤية الخاطفة لهذه القضايا مفيداً (انظر لمعلومات أكثر تفصيلا كالفنز Calvins 1964 وفوكس Fox 1965 واوبارين Oparin 1961 واوري Urey 1952 وخصوصاً كتاب سوليفان Sullivan الواسع الانتشار الصادر سنة 1964). وربما لا تكون محاولات اكتشاف حياة خارج الأرض بعيدة عن التحقق والنجاح. وبغض النظر عن تقدير الواحد منا لفرص هذا النجاح، فلا بدَّ للمرء من الاتفاق مع ليديربيرج Lederberg 1965 على أن هذا المشروع يجسد بكل المقاييس مطلعا لعهد جديد : حدثاً فريداً في تاريخ المجموعة الشمسية والنوع الإنساني، ومحورا للتفاني والتكريس الهائل للجهد والإمكانيات".



يقدر عمر الحياة في الأرض بحوالي بليوني سنة أو أكثر. لقد نشأت الحياة أول مرة في ظروف بيئية مختلفة تماماً عن تلك القائمة الآن، ولا يمكن استعادة تركيب هذه الظروف صناعياً الآن إلا بصعوبة بالغة. لقد تكون الغلاف الجوي حينما بردت الأرض بروداً يكفي لتكثف بخار الماء وتكوين المحيطات، من غازات مثل الهيدروجين والميثان والأمونيا وثاني أكسيد الكربون مع كميات أقل من النيتروجين والقليل من الأوكسجين السائب. وقد تمت دراسة التفاعلات الممكن حدوثها في مثل هذه الخلائط دراسة واسعة في المختبرات، دلت على احتمال تكوين الفورمالدهايد وحامض الخليك وحامض السكسنك وحوالي عشرة حوامض أمينية. هذه ومواد أخرى أشد تعقيداً ولا يتم تكوينها أساساً أو قطعياً الآن إلا في الكائنات الحية، نشأت وتراكمت في محلول مياه المحيطات الخالية تماماً من الحياة، جاعلة منها نوعاً من "حساء" المركبات العضوية. وكان ممكناً لهذه المركبات، وفقا لبونامبيروما Ponnamperuma (في فوكس 1965) أن تشمل البيورينات أدنين وقوانين والسكر الريبوزي والسكر الريبوزي الناقص الأوكسجين والنيوكلوسيدأدينوسين. وهذه المركبات بالذات هامة على وجه خاص لأنها من بين مكونات الحمضين النوويين دنا DNA ورنا RNA.



وصف هالدين Haldane (في فوكس 1965) الحياة بأنها "استنساخ لا نهائي لأنماط الجزيئات الكبيرة". وقد بذلت براعة شديدة لبناء نماذج العمليات التى كان يمكن أن تؤدي إلى تجميع المكونات الجزيئية الصغيرة في جزيئات كبيرة تستطيع تسهيل استنساخ ذاتها، مثل الدنا. أفضل ما يمكن أن يقال عن هذه النماذج أنه كان ممكناً حدوث بعض العمليات التى تفترضها لكن ليس بالضرورة أنها حدثت فعلاً في التاريخ التطوري للأرض. أيضاً ليس هنالك اتفاق عام بأن الاستنساخ الذاتي هو الشرط الضروري والكافي لعد نسق كيمائي ما حياً، وإن كان هنالك اتفاق على أنه شرط ضروري. السبب لهذا كالتالي : لا يعني الاستنساخ الذاتي فقط ان النسق يبتلع مادة معينة من بيئته (طعام) ويحولها إلى شبيهه (توالد) وإنما يعني أيضاً أن أي تغيرات يمكن أن تحدث في عملية الاستنساخ الذاتي (طفرات) ، يمكن أن تنعكس بمرور الوقت في الوتائر النسبية لتردد الأنساق التي تغيرت والتى لم تتغير (اصطفاء طبيعي). بكلمات أخرى فإن بداية الاستنساخ الذاتي تفسح المجال للتطور البيولوجي. يمكن لهذا التطور، أن يكون متصاعداً رغم أنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك. فتطور هذا النسق يمكن أن يتوقف بسبب إنهاك البيئة أو لحدوث تغيرات تقلل من كفاءته (الانقراض). ويمكن، لو ظهرت أنساق الاستنساخ الذاتي مراراً، أن يكون معظمها قد ضاع دون أن يترك خلفاً. الذى يهم هو أن نسقاً واحداً على الأقل بقي و "ورث الأرض" بأن أصبح نقطة بدء التطور البيولوجي.



هكذا فإننا يمكن أن نتصور تفسير التجاوز التطوري الذى نشأ في المستوى أو البعد غير العضوي وانتقل به إلى البعد العضوي بلغة علمية، وبالتحديد بلغة بيولوجية وكيموحيوية. لكن ذلك لا يعني أن تفسيراً بتلك اللغة قد تحقق فعلاً. كما قال وارن ويفر Warren Weaver 1964 "يحسب الإنسان عادة أن إفادة ما قد تم تفسيرها إذا ما شعر بارتياح فكري حول الموضوع نتيجة ذلك التفسير". ولا تجلب الروايات الراهنة لأصل الحياة لنا ذلك القدر من الارتياح، لنقص المعلومات المتاحة وإنما لأن تلك المعلومات تتضمن الخطأ المعروف باسم المبادئ الصغيرة. من هنا يقال على المستوى البيولوجي أن عملية الاصطفاء الطبيعي يمكن أن تحقق ما يستحيل تحقيقه تماماً بدونها. وكما ذكر في الفصل السابق فإن الإنسان يتكون من ذرات وجزيئات، من "بقالات" محولة، وأن هذه البقالات المحولة تتجمع في تنامي الفرد بالضبط بالطريقة الصحيحة لتكوين إنسان. وهي تفعل ذلك لأن الفرد حلقة في سلسلة أجيال تبدأ ببداية الحياة، ولأن الاصطفاء الطبيعي يودع في تلك الأجيال الإرشادات الضرورية لحدوث التنامي الفردي.



لو أن الاصطفاء الطبيعي حقق ذلك الإنجاز الفذ في التطور البيولوجي، فإنه يصعب مقاومة الإغراء باللجوء إليه لتفسير أصل التطور البيولوجي نفسه. هل كان هنالك شكل ما من الاصطفاء الطبيعي ما قبل-بيولوجي لاختراع أبسط الكائنات الحية من المركبات الكيمائية التى حققت قدراً من التعقيد في "الحساء" المخفف للمحيطات القديمة؟ لقد ابتدع اوبارين وبرنال وفوكس عدداً من المشروعات الذكية لـ "بداية عناصر الاصطفاء" التى كان ممكناً أن تكون "نقطة البدء لنشأة الاصطفاء الداروني". ويتحدث باتي (في فوكس 1965) عن التطور الكيمائي "الذي يوحي بتفاعلات إجمالية فقط، بدون نظام وراثي أو استنساخ"، وعن الوراثة بحسبانها "أية عملية تنتقل عن طريقها المعلومات من بنية (الأب أو الأم) لبنية ثانية (متلقي الوراثة) بحيث تنتج عنها زيادة صافية في النظام الفيزيائي للنسق كله"، وعن التطور بوصفة "التوالد والتكاثر التدريجي للمعلومات الوراثية عبر الزمن". ويصل باتي بعد أن أعاد تعريف المفاهيم لتناسبه، إلى أنه "ليس مجدياً أن نسأل متى يصبح توالد النظام استنساخاً أم نسخاً ذاتياً، متى أصبحت علاقات التغذية الاستراجعية المباشرة مع البيئة اصطفاء طبيعياً. الاختلاف هنا اختلاف درجة فقط، والحالتان تطورتا باستمرار". لكن هذه المحاججة الدائرية للأسف تتفادى القضية؛ فالاختلاف في الدرجة ينمو ليصبح اختلافاً في النوع. ان لب مسألة أصل الحياة هو السؤال كيف ومتى نشأ الاصطفاء الطبيعي. الاصطفاء الطبيعي هو التوالد التفاضلي؛ حينما يتوالد شكلان للحياة بنسب متفاوتة يقوم الاصطفاء الطبيعي بدوره، لكن لكي يقوم الاصطفاء الطبيعي بدوره فلا بدَّ من أن يكون هنالك توالد، والتوالد هو مفتاح الحياة.



لقد صارت مسألة أصل الحياة فجأة ذات جاذبية شديدة في أيام اكتشاف الفضاء هذه. فالاعتقاد بوجود حياة خارج الأرض ووجود كائنات عاقلة غير أرضية فتنة رومانسية شديدة. وقد نشرت الكتب، وانعقد على الأقل مؤتمر واحد ليناقش بكل جدية أنجع السبل لالتقاط الرسائل التى قد تكون موجهة إلينا من قاطني الفضاء الكوني، وأفضل الطرق لمحاولة الاتصال بهم. وأن تفنيد فكرة خلابة بهذه الدرجة يكاد يكون أمراً قاسياً يدعو للشفقة والرثاء. لكن ما هي مؤهلاتها الثبوتية؟ ربما يكون أهمها التأكيد بوجود حوالي مائة مليون كوكب على الأقل في الكون يعتقد علماء فلك موثوقون بتشابه بيئاتها تشابهاً مقبولاً مع البيئات الأرضية. وبالفرص المتاحة بهذه الدرجة فإن أقل الأحداث احتمالاً يمكن أن يحدث أكثر من مرة. وتكون هذه الحجة قوية لو أننا عرفنا مدى احتمال أو عدم احتمال الحدث قيد البحث، لكن ليس لدينا الأساس الكافي للحكم في هذا المضمار.



الحجة الثانية وهي الافتراض بأنه بمجرد ظهور الحياة فإن تطورها يكون مشابها بالتقريب لتطورها في الأرض أقل اعتماداً من الأولي. قد لا يبدو هذا الاحتمال مستبعداً للوهلة الأولى؛ فالكثير من البنيات الجسمانية للكائنات الحية الراهنة هي تكيفات تساعد في حل مسائل طرحتها البيئة لأجل البقاء، وقد يبدو أن الاصطفاء الطبيعي يمكن أن يستدعيها حينما تدعو الحاجة إليها بالطريقة التى تمت في الأرض. لكن الأمر ليس بالضرورة كذلك؛ بالمحل الأول فإن المسألة التكيفية قد لا تحل أبداً ، والنوع قد ينقرض؛ علاوة على ذلك، وهذا حاسم، فالكثير من المسائل التطورية قد تحل بأكثر من طريقة. ولا يضمن أن تكون الحلول التى نعلم أن الكائنات استخدمتها في الأرض هي أفضل الحلول، أو أنها الحلول التى قد تتكرر هنا في الأرض إذا ما تكررت الظروف نفسها (انظر لمزيد من الحجج عن بعد احتمال وجود حياة شبه-إنسانية خارج الأرض دوبجانسكي 1960 وسمبسون1964 Simpson ).



لا أريد أن يفهم عني الاعتقاد بأن أصل الحياة تتضمن عوامل أو عمليات توقفت عن الفاعلية في الأرض سابقاً أو لاحقاً. فجريان الأحداث التطورية ليس هادئاً ومنتظماً دائماً؛ إنه يتضمن الأزمات ونقاط الانتقال التى تبدو عند استعادتها وتأملها كأنها انقطاعات في الاستمرارية. كان أصل الحياة إحدى تلك الأزمات الجوهرية التى أهلها عمقها وتجذرها لأن تكون تجاوزاً. وكان أصل الإنسان تجاوزاً آخر. لا ينبغي أن يستنتج من ذلك أن أصل الحياة وأصل الإنسان كان فجائياً أو سريعاً جداً. فالأحداث التى تبدو سريعة جداً جيولوجياً، أو على وجه الدقة احاثياً، قد تبدو ممتدة وبطيئة بمقياس حياة فرد أو جيل. كان ظهور الحياة والإنسان التجاوزان الحاسمان اللذان وسما بداية عهود تطورية جديدة. وقد تميز الحدثان بتجذر إبداعهما وعمقه، لكن هنالك أمثلة أخرى عديدة ومعروفة. فقد فتح انتقال الفقاريات البرية الشبيهة بالأسماك عالماً جديداً للإشعاع التكيفي في البيئات البرية كان مغلقاً للكائنات المائية. وكانت نتيجة ذلك ما أسماه سمبسون (1953) "التطور الكمي" الذى أحدث تغييراً فجائياً في طرق الحياة وفي بنية الأجسام. وكانت أنسنة النار واكتشاف الزراعة من الأحداث الخطيرة التى فتحت آفاقا جديدة للتطور الإنسانيº. وفي محيط أضيق فإن التحقق الأرقى لحياة إنسانية فردية يعد تجاوزاً للذات.



بينما يعد أصل الحياة في الأرض حدثا من الماضي البعيد، فإن الإنسان قادم جديد (مع أن تقدير عمره تضاعف تقريبا نتيجة للاكتشافات الأخيرة)•. حقا لا يزال السجل الأحفوري متشظياً، لكن التعرف على الخطوط العريضة على الأقل للجوانب الخارجية لانبثاق الإنسان صار ممكناً. فقد عاش في شرق وسط أفريقيا والأجزاء الجنوبية منها خلال عصر البلايستوسين قبل مليون إلى مليوني عام على الأقل نوعان من الأسترالبيتكوس (الإنسان القردي الجنوبي)، وهو جنس بشري (هومنيد) من عائلة الإنسان. كان الأكبر حجما من هذين النوعين، يمثل زقاقاً تطوريا مقفولاً انقرض فيما بعد. أما النوع الثاني الذى كان أصغر حجماً وأكثر ليناً في بنيته، واسمه الاسترالبيتكوس أفريكانوس، فربما كان أحد أسلافنا.



كانت بنية عظام الحوض لهذين النوعين شاهداً قوياً على أنهما كانا يمشيان بقامة مستقيمة؛ وكانت أسنانهما أقرب بكثير إلى أسناننا منها إلى أسنان القردة العليا الشبيهة بالبشر. ومع أن سعة الجمجمة كان كبيراً بالمقارنة مع حجمهما، إلا أنه كان في مدى السعة المميزة للقردة العليا. وربما صنع واستخدم هذان النوعان أو أحدهما أدوات حجرية بدائية. وقد وجدت مؤخراً بقايا مخلوق طريف للغاية في الترسبات الفلافرانشية في شرق-وسط أفريقيا، أطلق عليه اسم الإنسان القردي (بيتيكانثروبوس). ويدل الاسم في رأي مكتشفيه بأن هذا المخلوق تم انتقاله من الجنس استرالبيتكوس إلى الجنس الهومو الذى ننتمي أيضاً إليه. من الناحية الثانية فهو شديد القرابة لأسترالبيتكوس أفركانوس، بل ربما كان أحد سلالاته. ومن الواضح أنه وبغض النظر عن الاسم الذى يطلق عليه يشكل بوضوح أحد "الحلقات المفقودة" التى لم تعد مفقودة.



وقد عاشت في وقت لاحق في البليستوسين الأوسط عدة سلالات من الجنسHomo eractus (الإنسان منتصب القامة) المتفق على أنه سلف الإنسان الحديث، إنسان العاقل (هومو سابينز). وقد وجدت بقايا الإنسان منتصب القامة في جاوة والصين وأفريقيا وربما أوروبا أيضاً. وقد عاشت في عصر الثلج الأخير قبل حوالي مائة ألف سنة تقريبا فصائل إنسان نياندرثال الذى ينتمي إلى نوع الهومو سابينز واحتل المساحة الممتدة من غرب أوروبا إلى تركستان والعراق وفلسطين.



وجدت أدوات حجرية خشنة مرتبطة ببقايا الاسترالبيتكوس في كل من شرق-وسط وجنوب أفريقيا. ويعد الكائن منتصب القامة الذى وجد في الصين أول من استخدم النار، كما دفن النياندرثاليون موتاهم، وبعد ذلك من علامات الأنسنة. فكل الحيوانات تموت، لكن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذى يعرف ذلك. وكما سنناقش بتفصيل أكثر في الفصل التالي، فإن الدفن دلالة على الوعي بالموت وربما الاهتمام بالمصير. وربما بدأ أسلاف الإنسان في تجاوز حيوانيتهم قبل حوالي مليون وسبعمائة ألف سنة. ولا زلنا نحن أنفسنا في صيرورة هذا التجاوز. ولم يشخص أحد هذه الصيرورة بوضوح أكثر من بدني Bidney 1953 الذى كتب أن : "الإنسان حيوان متأمل لذاته، لأنه الحيوان الوحيد القادر على موضعه نفسه، على أن يقف بعيداً عن نفسه، وأن يتأمل نوع الكائن الذى هو والشيء الذى يود أن يفعله والحالة التى يود أن يكونها. قد تكون الحيوانات الأخرى واعية بشعورها وبالأشياء التى تدركها بحواسها؛ لكن الإنسان وحده الذي يقدر على التأمل وعلى الوعي بالذات والتفكير في نفسه موضوعاً. وكما يقول هالويل (1960) "لم يكن الإبداع الرئيس في تطور الرئيسات هو ببساطة تنمية نمط تكيف ثقافي في حد ذاته، وإنما كان إعادة الهيكلة النفسية التى لم تجعل نمط الوجود الجديد ممكناً فحسب بل أمدته بالأساس النفسي لإعادة التكيف والتغيير الثقافي".



لقد كتب داروين سنة 1871 أن : "الفرق في العقل بين الإنسان والحيوانات العليا على الرغم من عظمته هو بالتأكيد اختلاف في الدرجة وليس في النوع". وهذه هي الحالة الراهنة للقضية تقريباً. وقد تفاوت تقدير هذا الفرق تفاوتاً عظيماً؛ فقد بخسه أولئك الذين يؤكدون أن الإنسان ليس سوى حيوان، وعظم منه الذين يضعونه خارج نظام الطبيعة. بالنسبة للفئة الأولى ليس هنالك فرقاً عظيماً بين السمكة والفيلسوف، وليس هنالك ما يجعل من إفراز دماغ الفيلسوف للأفكار استثناءً عظيماً عن إفراز كبده للمرارة. ويعتقد العالم الأنثروبولوجي لسلي هوايت Leslie White أنه : "سواء كان المرء– الشخص المتوسط الممثل لمجموعته– يؤمن بالمسيح أو بوذا، التسيير أو التخيير، فليس مرد ذلك لاختياره. أن فلسفته ليست سوي استجابة نسقه العصبي-الحسي-العضلي-الفطري لتيار المؤثرات الثقافية التى تدمغه من الخارج". لكن المؤلف نفسه يقول في الكتاب نفسه (هوايت 1949) لأن السلوك الإنساني سلوك رمزي ولأن سلوك الأنواع الأدنى منه ليس رمزياً، فإنه يتبع لذلك أننا لا يمكن أن نعرف أي شئ عن السلوك الإنساني من الملاحظات والتجارب التى تجري على الحيوانات الأدنى.



لقد اعتقد والاس Wallace الذي شارك داروين في اكتشاف دور الاصطفاء الطبيعي في التطور أن عقل الإنسان بثته فيه قوى غيبية واعتقد لاك Lack 1975، وهو من أبرز علماء البيئة التطوريين المعاصرين، الشيء نفسه : "على المسيحي الذي يقبل مبدأ أصل الإنسان التطوري عن طريق الاصطفاء الطبيعي أن يتحفظ بشأن خصائص الإنسان الروحية ونوازع الخير والشر فيه التى لم تنتج عن هذا التطور وإنما هى ذات أصل غيبي". ويمكن أن يعد برونر Brunner 1952 نموذجاً لنمط تفكير علماء اللاهوت الذين يسلمون بأصل الإنسان التطوري لكنهم يتمسكون بتفرد خاصة الهيومانوم أو عنصر الإنسانية الذي يميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى : "يتميز الهيومانوم بشيء ما تفقده الحيوانات الأخرى تماماً، يعبر عن نفسه ذاتياً بالروح وموضوعياً بخلق الثقافة. انه بعد لا وجود له في البيولوجيا، قانون المعايير، القدرة على إدراك المعنى والحرية والمسئولية" (نقد أفكار برونر في بيرش 1957 و1965).



كثيرا ما تم إعداد قوائم بالخصائص التشريحية والفسيولوجية والنفسية المميزة للنوع الإنساني. والإنسان حيوان من الرئيسات-منتصب-يمشى على قدمين ، دماغه كبير إذا ما قيس بالنسبة لحجمه البدني، يداه تصلحان لمعالجة الآلات ولصنعها ولحمل الأدوات. إنه ينهمك في اللعب ويقدر على التفكير التجريدي والضحك وتأليف الرموز واستخدامها، وعلى التعلم واستخدام اللغة الرمزية, وعلى تعلم التمييز بين الخير والشر، والشعور بالتقديس والتقوى. ينتمي بعض هذه الخصال على الأقل إلى الهيومانوم. كيف نشأت تطورياً؟ إنه يصعب بالتأكيد وربما يستحيل علينا إعادة بناء التتابع الدقيق للأحداث خلال تلك الفترة الحرجة لانبثاق الإنسان من أسلافه قبل الإنسانيين، حتى لو توفرت لنا معلومات أكثر تفصيلاً مما لدينا الآن. لكن الفهم العام للاتجاهات الرئيسة لتاريخ الإنسان التطوري لم يعد مستحيلاً وذلك بفضل بعض الأنساق البيولوجية الشاملة التى ألقت عليه بصيصاً من الضوء مؤخراً.



لا يعنى اختلاف نوع ما في عدة خصال عن السلف الذي انحدر منه استقلال تلك الخصال عن بعضها البعض من حيث المنشأ. قد تتغاير هذه الخصال معا لسببين على الأقل. فهي قد تكون آثاراً متعددة لتغير العامل الوراثي نفسه، كما في حالة الأعراض والتشوهات المتعددة الملازمة لمرض وراثي يسببه طفور جينة منفردة. كما يمكن لتلك الخصال أن تكون مرتبطة وظيفياً. وقد ثار جدل بين علماء الإنسان فيما لو كان اكتساب القامة المنتصبة والمهارة اليدوية سابقاً أو لاحقاً لاستخدام الآلات وصنعها. ويمكن أن تثار قضية مماثلة بشان القدرة على التفكير الرمزي وتأليف الرموز واللغة الرمزية والتوارث الثقافي. لكن هذه القضايا تجافي المنطق في مجملها، إن لم يكن في كل النقاط التي تثيرها. فالناتج ينمو مع الأداة والأداة تنمو مع الناتج. الأيدي التي تحررها القامة المنتصبة من مهمة المشي تكون أقدر على تنمية البراعة اللازمة لمعالجة الأدوات. لكن القامة المنتصبة ليست ضماناً لأن تستخدم الأطراف الأمامية الأدوات؛ فالكانقارو العملاق في استراليا لا يستخدم أطرافه الأمامية لا للمشي ولا لمعالجة الآلات. بالمقابل فإن لبعض القرود والسعادين أيدي على قدر كبير من الطلاقة، لكنها لا تمشى بقامة منتصبة. من الواضح أن الحيوان الذى يشرع في معالجة الأدوات يستفيد من المهارة التى تكتسبها أطرافه الأمامية بتلك المعالجة؛ والعكس صحيح، إذ قد ينتفع الحيوان الذي يطور المشي على قدمين باستخدام أطرافه الأمامية لمهمة أخرى. لب الموضوع هو أن اضطراد استخدام الأدوات يمنح ميزة اصطفائية لتطور المشي على قدمين، والعكس صحيح.



تعتبر اللغات الإنسانية أشكالاً سلوكية مختلفة عما يسمى "بلغة" الحيوانات، على الرغم من أن الاثنين يخدمان وظيفة الاتصال. وقد قام هوكيت Hockett 1959 وهوكيت وآشر Ascher 1964 بتقديم تفسير مقنع لهذه القضية المعقدة التي حار الكثيرون بشأنها . فنداءات الحيوانات أو إشاراتها تقصى بعضها البعض تبادليا ، بمعنى أن الحيوان قد يستجيب لأحد المواقف بواحدة أو أخرى من ذخيرة نداءاته، أو قد يبقى صامتاً. بينما اللغة منتجة ، بمعنى أن الإنسان يصدر تلفظات لم يسبق أن صدرت عنه أو عن غيره، وهي مع ذلك مفهومة لأولئك الذين يتحدثون اللغة نفسها. و يستطيع الناس التحدث عن أشياء ليست في نطاق رؤيتهم، وعن الماضي والمستقبل والأشياء المتخيلة. وذلك ما يعرف بخاصة الإزاحة. إضافة لذلك فللغة ما يعرف بخاصية التنميط المزدوج. إذ أنها تتألف من وحدات أو فونيمات ليست ذات معنى بذاتها لكن يمكن تجميعها في تفوهات ذات معنى. إن القدرة على تعلم لغة خاصة متوارثة بيولوجياً ؛ إنها القدرة على تعلم إحدى اللغات الإنسانية، على الأقل في زمن الطفولة. ولا يستطيع الشمبانزي أن يفعل ذلك على الرغم من قدرة حنجرته الظاهرية على إصدار كل الأصوات الضرورية؛ ويعزى ذلك العجز لغياب بعض الآليات الذهنية اللازمة. فاللغات الإنسانية تتألف من تفوهات يترسخ معناها بالعرف الاجتماعي. ولا تتوانى التعابير الجديدة واللهجات المتغيرة عن الظهور أبداً .



إن إشارات الحيوانات ونداءاتها و "رقصات" نحل العسل تعتبر وسائل اتصال من الكفاءة لدرجة تثير الإعجاب، لكن فقط في المجال الضيق لاحتياجات النوع المعين الذي تتواجد فيه. ومن البداهة بمكان أن اللغة الإنسانية تتميز بطلاقة لا حد لها إذا ما قورنت بتلك الإشارات والنداءات والرقصات. ذلك لأن لغة الإنسان رمزية. ويعتبر كاسيرر Cassirer 1944 وآخرين أن قدرة الإنسان على تأليف الرموز واستخدامها هي أهم الخصال المميزة له".



تنتمي الإشارات والرموز إلى عالمين مختلفين للخطاب : الإشارة جزء من عالم الوجود الطبيعي؛ والرمز جزء من عالم المعنى الإنساني. ذلك ما كتبة كاسيرر الذى أضاف قائلاً : "إن مبدأ الرمزية بشموله وصدقه وعمومية انطباقه هو كلمة السر، افتح يا سمسم التى تتيح الدخول إلى خصوصية العالم الإنساني، إلي عالم الثقافة الإنسانية. وقد صار التطور اللاحق مضموناً بمجرد أن امتلك الإنسان ذلك المفتاح السحري.



إن القدرة على تأليف الأفكار التجريدية والرموز والعيش بمقتضاها أمران متلازمان تطورياً، إن لم يكن فسيولوجياً، مع استخدام اللغة. هنا أيضاً ينمو الناتج مع الأداة، والعكس صحيح. وترتبط هذه القدرات بدورها مع القدرة على صنع الأدوات. ولا بد أن نلاحظ أن استخدام الأدوات وصنعها فعاليتان مختلفتان بنفس درجة عمق الاختلاف بين الإشارات والرموز. فصنع أداة لاستخدام مقبل يستدعى أكثر من مجرد البراعة اليدوية ؛ إنه يتطلب تشكيل صورة ذهنية لموقف يحتمل حدوثه مستقبلاً لكنه ليس معطى للحواس. وقد ارتبطت كل هذه القدرات بعلاقات تغذية راجعة في الصيرورة التطورية. أدى ذلك لأن يرفع الترقي في أي منها القيمة التكيفية لكل القدرات الأخرى المرتبطة بها، وأن يمنح تحسن تلك الأخيرة قيمة اصطفائية استثنائية للمزيد من ترقي الأولى. وقد وصل النوع الإنساني الابتدائي المنتقل تدريجياً من الحيوانية إلى طرق الحياة الإنسانية نقطة اللاعودة التطورية نتيجة لعلاقات الضبط السبرانية المتداخلة. وقد صار الارتداد من الإنسانية النامية إلى الحيوانية السالفة متعذراً وراثياً، حتى لو أصبح مجدياً تكيفياً. في تلك الحالة فإن الانقراض صار أشد احتمالا من التقهقر التطوري.



يلزمنا أن نستعيد هنا بعض المبادئ التطورية التي وردت سابقاً في سياق آخر. ينشأ التطور بفعل الاصطفاء الطبيعي استجابة لمقتضيات البيئة. الاصطفاء الطبيعي صيرورة منفعية؛ لأنه يحافظ على التكيف البيئي ويرقيه. إنه ليس نوعاً من الأشباح الخيرة، فهو اوتوماتي بلا بصر وبلا بصيرة. وهو قناص للفرص بمعنى أنه يكيف الكائن الحي للبيئات التي تتوفر هنا والآن ويعجز عن أن يضع التغيرات البيئية المستقبلية في حسبانه. وقد يكون الانقراض، كما ألمحنا، نتيجة هذا الأفق الانتهازي الحسير. فالتكيف معرض لأن يدفع النوع إلى زقاق ذو اتجاه واحد مقفول (انظر الفصل السادس) .



هنالك نتيجة أخرى لتلك الانتهازية أكثر انطباقاً على التطور الإنساني. فالصلاحية التى يتم اصطفاءها ليست صلاحية الأعضاء والصيرورات والقدرات المنفردة المنفصلة عن بعضها البعض وإنما هي الصلاحية العامة للكائن الحي للبقاء والتوالد. وبسبب ذلك فإن الناتج يكون، خصوصاً في حالات إعادة البناء التطوري الجذري، خليطاً مربكاً من التفوق والضعف. وإن انطباق هذه الحقيقة على التطور الإنساني جلي تماماً. بكلمات هوكيت وآشر (1964) : "لقد أدت اللغة والثقافة كما شهدنا إلى اصطفاء أدمغة أكبر". والأدمغة الكبيرة تعنى الرؤوس الكبيرة. والرؤوس الكبيرة تعنى صعوبة أشد عند المخاض. حتى في حالنا الراهن فان الرأس هو سبب مصاعب الولادة الرئيس. ويمكن التغلب على هذه الصعوبة بقذف الجنين في مرحلة مبكرة من مراحل تناميه. وقد تم بالفعل اصطفاء القذف المبكر للجنين. لكن قذف الجنين المبكر يطيل أمد عجز الطفولة التى هي في الوقت نفسه فترة لدونة قصوى يكتسب الطفل خلالها تراث مجتمعه غير البيولوجي المعقد. ويستدعى عجز الطفولة رعاية أطول وأكثر اتقاناً، مما يجعل مساعدة الذكور البالغين للأمهات أمراً ضرورياً. ولا تتأتى بعض المهارات التى يتعين على الذكور اليافعين تعلمها إلا من الذكور البالغين. ويؤدى كل ذلك إلى تأنيث الآباء.



كما تعتبر بنية النفس الإنسانية التى اكتشفها فرويد وأتباعه حزمة من التناقضات والتنافر الذى يبدو لأول وهلة وكأنه نتاج لأي شيء إلا التطور التكيفي. غير أنه ينبغي علينا أن ننظر إلى تلك البنية لا في ذاتها وإنما في الإطار التطوري الكلي. وليس الإنسان في ذلك الإطار نوعاً بيولوجياً ناجحاً وحسب وإنما هو أنجح الأنواع التى أنتجها التطور البيولوجي على الإطلاق. وبكلمات هوكيت وآشر مرة أخرى : "لقد صارت الكائنات الشبيهة بالبشر بشراً بمجرد أن اكتسبت القامة المنتصبة واستخدمت أيديها لمعالجة الأدوات وصنعها ولحمل الأشياء؛ وحينما عرفت اللغة. حينئذ اكتملت الثورة الإنسانية".


لقد تجاوز التطور البيولوجي نفسه في "الثورة" الإنسانية، والتي بلغ بها مستوى وبعداً جديداً، وأخذ فيه بريق الروح الإنسانية في اللمعان. لقد ولد الهيومانوم عنصر الإنسانية.



بقى أخيراً أن ننظر بإيجاز في مواطن الريبة التى قد تنشأ فيما يتعلق بهذه النبذة عن التجاوز التطوري الذى يؤدي إلى الإنسان. فالذين يرون وجود فجوة لا تسد بين الهيومانوم والحالة السابقة للإنسانية يرتابون حتى في مجرد وجود البداءات التي يمكن أن ينشأ منها الهيومانوم في الحيوان. الآن فالذي يفوت على أولئك الذين يعتقدون في الفجوات التى يستحيل عبورها أن الجدة النوعية للحالة الإنسانية هى جدة ذلك النمط وليست جدة مكوناته. التجاوز لا يعنى أن قوة أو طاقة جديدة هبطت من لا مكان ؛ وإنما يعنى أن شكلاً جديداً من الوحدة والانسجام قد برز للوجود.



وعلى أية حال فمع أن إنكار وجود أي من مكونات الهيومانوم في الحيوانات لم يعد ممكناً، إلا أن الكوكبة الكاملة لتلك البداءات لا تتذكرها بالتأكيد. وقد تمت مؤخراً دراسة هذه المسألة عن طريق إجراء الكثير من التجارب الحاذقة التصور، البارعة الإنجاز (انظر رنسش 1960 وثورب Thorpe 1962;1963. من الممكن إثبات قدرة الطيور والثدييات على تشكيل "مفاهيم غير لفظية مجردة" كالعدد كما دلت تلك التجارب. وقد تعلم طائر (غراب) في تجارب أجراها كوهلير Koehler أن يختار الصحن الذى يحتوي على طعام من بين خمسة صحون وضعت عليها نقاط ملونة، من نقطتين إلى ستة نقاط، بالترتيب. وقد تمكن الطائر بعد التدريب من التقاط الصحن الصحيح بعد أن عرضت علية اللافتة التى تحوى ذلك العدد من بين لافتات أخرى. وقد تمكن طائر آخر (ببغاء) من اختيار الصحن الصحيح بعد أن تعرض للعدد الصحيح من المنبهات السمعية التى تدرب عليها.



إن "لغة" رقص النحل رمزية ، يشير فيها النحل المخبر بحركاته على قرص العسل إلى اتجاه مصدر ما للطعام. وهي بالطبع لا تملك أية خاصة من خواص اللغات الإنسانية التى سبق أن تمت مناقشتها. وقد قام كوهلير ولادقنا-كوتس وآخرون بإثبات "التعلم بالبصيرة" في الشمبانزي. كتب ثورب : "أن المدركات الحسية للفرد المجرب الناضج سواء في الطيور أو الناس يتم بناؤها في عملية تعلم إدراكي-حسي تتألف فيها المدركات الحسية الأولية وتبنى في صور (جشطالت) أكثر تعقيداً؛ وحقاً لا توجد اختلافات جوهرية يمكن تمييزها في القواعد التى تستند إليها العمليتان".



فاللعب الحقيقي يتواجد في الحيوانات كما في الناس ويؤدى وظيفة تدريب الصغار نفسها وإعدادهم لفعاليات الأفراد الناضجين. وقد تم إظهار وجود بداءات البواعث "الجمالية-الأولية" في القردة والنسانيس التى يمكن دفعها للانهماك في الزخرفة بالألوان بنتائج قد لا تختلف اختلافاً كبيراً جداً عن بعض أعمال الرواد الطليعيين. وقد تم الإعلان مراراً عن وجود بوادر أولية للسلوك التعاوني والأخلاقي حتى الإيثاري في بعض الحيوانات، لكن يصعب بطبيعة الحال إثبات تلك الحالات بما يبعد الريبة تماماً (انظر ثورب لعرض نقدي لهذه الحالات) .



هنالك صعوبة أخرى ذات طابع أكثر عمومية تجابهها التفسيرات التطورية لأصل الإنسان. فكثيراً ما يعزى حدوث الطفرات الوراثية والاصطفاء الطبيعي "للصدفة". فهل يمكن الاعتقاد أبداً بنشأة الهيومانوم عن طريق تراكم سلسلة من المصادفات؟ يعترض على ذلك الإحاثي الفرنسي دى كايوكس De Cayeux 1958 بشدة : "الاصطفاء اللوتري لا يفي بالغرض. والطفورية فشل مزدوج. إن أصل الأنواع لا يمكن أن يعزى للصدفة وحدها، حتى بعد أن يصححها الاصطفاء الطبيعي". وقد تقدم كتاب مثل جوزيف وكرتش وبارزون وآخرين باعتراضات مماثلة على قدر كبير من البلاغة. الآن فان قدراً كبيراً من هذه الاعتراضات بنى على مجرد سوء فهم. ما هو المعنى المقصود حقيقة من "الصدفة" و"العشوائية" في التطور؟ لقد سبق أن أشرنا إلى حقيقة أن الطفرات الوراثية ملتبسة تكيفياً. الطبيعة لم تر مناسباً أن تجعل الطفرات الوراثية المرغوبة تنشأ حيثما وحينما تكون هنالك حاجة لها. ويصعب جداً على عالم الوراثة أن يتصور طريقة معقولة تحقق ذلك. لكن حتى الطفرات ليست عشوائية لأنه من الواضح أن ماهية الطفرة التى تحدث في جينة معينة تحددها بنية تلك الجينة. ثم أن الطفرات ليست التطور؛ وإنما هي المادة الخام التى يتولى الاصطفاء الطبيعي معالجتها لتحقيق التطور.



الاصطفاء الطبيعي ليس صدفة إلا بمعنى أن معظم الطواقم الوراثية في عشيرة ما لا تملك تميزاً مطلقاً بالنسبة للطواقم الوراثية الأخرى وإنما تتميز عنها تميزاً نسبياً فقط (وذلك برغم صيغة التفضيل "الأصلح" في عبارة "البقاء للأصلح"). فالاصطفاء الطبيعي يكون متنفذاً إذا ما انجب طاقم وراثي مائة فرد مقابل تسعة وتسعين أنجبه حاملو طاقم آخر يختلف في وجود جينة طافرة بعينها. فيما عدا ذلك فالاصطفاء الطبيعي عامل مضاد للصدفة. أنه يمنح معنى تكيفياً للفوضى النسبية لتوليفات الجينات الطافرة التى لا حصر لها. وهو يفعل ذلك دون أن تكون له إرادة أو قصد أو بصيرة. وإن التناظر بين فعل الاصطفاء الطبيعي والمنخل في الأدبيات الكلاسيكية لعلم الوراثة مضل كما أسلفنا. إن أفضل نظير للاصطفاء الطبيعي هو آلية ضبط سبرانية تنقل للطاقم الوراثي "معلومات" عن حالة البيئة.



النقطة المحورية التي ينبغي التركيز عليها هي أن الانتخاب الطبيعي عملية خلاقة بمعنى حقيقي تماماً (انظر للمزيد الفصل السادس). أنه يمنح إبداعات حقيقية للوجود- طواقم وراثية لم توجد من قبل أبداً. علاوة على ذلك فان هذه الطواقم أو بعضها على الأقل، متناسقة ومتوازنة داخلياً وتصلح للبقاء في بعض البيئات التى يثريها. ونادراً ما يدرك الكتاب والشعراء ودعاة المذهب الطبيعي الذين يظنون في الإشادة بروعة وخصب الطبيعة وإبداعها المثير، أن الاصطفاء الطبيعي هو موضوع ثنائهم. لكن الصيرورة الإبداعية تتعرض بطبعها لمخاطر الفشل والخلل الإبداعي. الذي يعنى في البيولوجيا الفناء والانقراض وهنا يبدو الإبداع أقل أمنا من الركون إلى إنتاج الجملة من طاقم وراثي مسبق التكوين. ويزخر علم الاحاثة بالأدلة التى تشير إلى أن الانقراض هو المصير الطبيعي الذي آلت إليه معظم الخطوط التطورية. وقد اعتقد بعض البيولوجيين الذين ارتأوا في الاصطفاء الطبيعي عملية آلية بلا روح في نظرية التكون القويم. وهي نظرية يكون التطور بمقتضاها مجرد تكشف الصور المشكلة والمقررة سلفا (انظر الفصل السادس). لكن هذا التطور لا يخلق شيئاً جديداً أبداً في حالة الخلق المسبق، كما أن الانقراض يصير إما لغزاً أو هراءً.



وتشكل مسألة الحتمية جانباً آخر لإشكالية الإبداع والخلق الذي نتعرض له في الفصل السادس أيضاً، وأكتفي بإبداء بعض الملاحظات هنا. يسأل اتكن (1964) عن السبب في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تمكن من تحقيق نمط التكيف عن طريق الثقافة : "ما هو ذلك الشيء الذي امتلكه أسلاف الإنسان (الرئيسات) دون سائر الحيوانات الأخرى فمنحه القدرة على حل ضائقته التطورية؟" والجواب هو أن نمط التكيف الإنساني كان واحداً من عدة خيارات محتملة توفرت لأسلافنا البعيدين، أما النمط المعين الذي يتبعه أي من خطوط الرئيسات التطورية فلم يكن مقرراً سلفاً. لقد كان إبداعاً تطورياً ولم يكن قدراً محتوماً. هنالك بشكل عام نوعان من تفاسير التطور. يفترض أحد هذين النوعين أن أيا وكلا من التغييرات التطورية التي حدثت كان حدوثها محتما. يقر النوع الثاني وجود عدة طرق لحل معضلات التكيف لنفس البيئة؛ و يرى أن اختيار أحدها أو تفادي أي منها ليس مقرراً سلفاً. وإنني أميل بسبب رفض لهذا التقدير المسبق لأن أبدي اعتراض على الاعتقاد الشائع بأنه، لو وجدت حياة في أجزاء أخرى من الكون، فلا بدَّ وان تنتج عنها كائنات عاقلة شبيهة بالبشر أو على شاكلة السيوبرمان. أنني أشارك سمبسون (1964) وبلوم Blum 1965 الرأي بان هذا الأمر ليس فقط موضع شك وإنما هو غير محتمل للدرجة التى تعنى الرفض بالنسبة لأية نظرية علمية.



هوامش وضعتها أركامانى

*شارلس ليل محامي تأهيلاً وجيولوجياً هواية. انعكس إسهامه العلمي في مؤلفه المكون من ثلاثة مجلدات بعنوان "مبادئ الجيولوجيا" الذى رفض فيه نظرية النكبات التى نادى بها كوفيه، مؤكداً من جانبه على مبدأ "التشاكل"، أي الفرضية القائلة بأن العمليات الجيولوجية كانت دائماً هي ذاتها في الماضي كما تبدو عليه في الوقت الحالي، وهو ما يعني عدم وجود قوة كانت فاعلة في تاريخ الأرض السابق وأصبحت غير فاعلة حالياً. وقد أوضح ليل من خلال مبدأ التشاكل أن قشرة الأرض تكونت عبر سلسلة من التغيرات البطيئة والتدريجية. لم يكن تكون الجبال، والأنهار، والوديان، والبحيرات، والصحارى، والسواحل نتيجة حدث فجائي نجم عن وقوع تغيرات عنيفة، بل كان ذلك، أغلب الظن، نتيجة لفاعلية قوى طبيعية صرفة مثل التعرية بالأتربة وبالماء، والتجمد والثلج، والأمطار وهى القوة ذاتها التى نلاحظها فاعلة اليوم في حاضرنا ويمكن لها - بافتراض مرور الزمن الكافي - أن تكون قد تسببت في كل أحداث الماضي الجيولوجية (الناشر : نقلاً عن تاريخ الإنسان حتى ظهور المدنيات، ص. 100-101)

** جان بابتيست دي لامارك (1744- 1829) طور معظم الأجزاء المقومة لمفهوم التطور، وقد قال عنه ارنست هاينرخ هايكل في أواخر القرن الماضي "سيظل لامارك دائماً صاحب الفضل إذ أنه أول من أبدع نظرية التحدر مقولة علمية من الدرجة الأولى، وأساساص فلسفياً لمجمل علم الأحياء" (انظر Edward Clodd, Pioneers of Evolution from Thales to Huxley, New York: Freeport 1972m p.115). ركز لامارك على تفاعل الكائنات العضوية مع البيئة. إن استقرار الكائنات العضوية، حسب لامارك، دائماً ما يكون في حالة تناسب مباشر مع استقرار ظروف الحياة، وأنه كلما تغيرت ظروف الحياة كلما تبدلت الكائنات العضوية، وتنتج التعديلات عن المجهود الذى تبذله الكائنات عند استخدامها الأجزاء من جسمها الأكثر تكيفاً في ظروف بيئة محددة. وينتج عن تلك التغيرات مع مرور الزمن بصورة تدريجية أعضاء جديدة يتم من ثم انتقالها عن طريق الوراثة. أما بشأن الميكانيزم الذى يحدث هذا التغيير فإن لامارك يقول بأنه حينما يشعر جزء من الجسم باحتياج ما يتم توجيه السوائل والقوى إلى تلك النقطة من الجسم الشئ الذى ينجم عنه ببطء إنتاج عضو جديد لتلبية ذلك الاحتياج. ندرك اليوم بالطبع حقيقة التأثير الذى تمارسه البيئة وما يمكن أن تحدثه من تغيير في الكائنات الحية، لكننا ندرك أيضاً أنه غير صحيح أن تكون تلك الأحاسيس بالاحتياج ميكانيزماً للعملية التطورية. اعتقد لامارك بأن السمة المكتسبة بالطريقة الموضحة، أي العضو الجديد، يمكن انتقالها بالوراثة للجيل اللاحق. من جانب آخر يتوجب التأكيد أن العديد من آراء لامارك الخاصة بالطبيعة والتطور لازالت صالحة بهذا القدر أو ذاك. تأكيده على ديناميكية تفاعل الكائنات العضوية مع البيئة، والتكيف الناتج هو تأكيد سليم. لكنه من جانب ثان عجز في تقديم إجابة للكيفية التى يعمل بها التطور. يجدر أن نشير إلى أن شارلس داروين في الوقت الذى استخدم فيه مفهوم الاصطفاء الطبيعي ميكانيزماً للعملية التطورية فإنه استخدم أيضاً، في حالات، فكرة السمات المكتسبة القابلة للانتقال من جيل إلى جيل عن طريق التوريث.

º للمزيد من القراءة حول دور النار واكتشاف الزراعة ودورهما في الانتقال إلى إنتاج الطعام وفرض الإنسان لسيادته على الطبيعة انظر: أسامة النور وأبوبكر شلابي، تاريخ الإنسان، مرجع سابق، الصفحات 626- 659، وكذلك أسامة النور، المدن والمدنية من منظور رؤية تطورية للتعقد الثقافي، أركامانى، العدد السادس، فبراير 2005.

• راجع للمزيد حول الموضوع، أسامة النور، تطور الإنسان: عملية بيوثقافية، أركامانى، العدد الأول، أغسطس 2001

• راجع لمزيد من المعلومات حول تفسيرات متحجرات الإنسان القردي الجنوبي، أسامة النور وأبوبكر شلابي، تاريخ الإنسان، مرجع سابق، الصفحات 315- 331 .

lastmissions
01-22-2008, 09:13 AM
الفصل الرابع

الوعي بالذات والوعي بالموت



ليست هنالك إفادة عن الخاصة المميزة لطبيعة الحياة الإنسانية أكثر بلاغة ودقة في الوقت نفسه من تعبير دستويفسكى : "الإنسان بحاجة إلى الذي يتعذر فهمه ولا يسبر غوره وإلى اللانهائي بقدر حاجته إلى الكوكب الصغير الذي يعيش فيه". ويقدم قاردنر مورفي (Gardner Murphy 1958) صياغة أقرب إلى البيولوجيا وإن كانت سلبية : "يتملك الجهاز العصبي الإنساني توقاً وأشواقاً عميقة غريبة لأشياء ليست لحماً ولا شراباً، لا تشبع الحاجة للأوكسجين ولا الجنس، وهي ليست حاجات مادية وليست من المتطلبات البينة لبدن الإنسان". ما هو "غريب" حول هذه الاحتياجات هو أصلها في التطور البيولوجي. فنحن نعرف أن التطور منفعي؛ التغيرات التطورية تجيء استجابة لتحديات البيئة، ويوظفها الاصطفاء الطبيعي لصالح استمرارية النوع الذي تتواجد فيه. وتعمل التغيرات التى يتم اصطفاءها للمحافظة على تكيف الكائن ولترقية تكيفه لبيئاته، أي لزيادة قدرته على البقاء والتوالد في تلك البيئات. لكن لا يبدو أن هذا التوق "للمطلق والذي يتعذر فهمه ولا يسبر غوره" يؤدي إلى ترقية التكيف؛ انه يحد في واقع الأمر من فرص بقاء حامليه، خصوصاً أولئك الذين يكون التعبير عنه لديهم أشد. ومع ذلك فمن المؤكد أن كمون هذه الشهوات منغرس بيولوجياً ووراثياً في الطبيعة الإنسانية. الدليل على ذلك أن هذه الشهوات توجد فقط في الإنسان؛ ولا يستطيع أذكى الحيوانات أن يتخيل المطلق وهو بالتالي لا يستطيع أن يتوق إليه.



لقد أشرنا من قبل إلى أن خصالاً غير مفيدة وربما ضارة يمكن أن تترسخ تطورياً لو كانت جزءاً من أجهزة عضوية مفيدة تكيفياً في كليتها. يصعب أن يتصور المرء مثلا شيئاً منافياً للطبيعة البيولوجية من مخاطر المخاض وآلامه لدى الإنسان. لكن هذه الخصال غير التكيفية الفظيعة تشكل جزءاً من المركب الذي يشمل أيضاً خصالاً مثل القامة المنتصبة، والأدمغة والرؤوس الكبيرة، والطفولة الطويلة التى يكتسب الأطفال خلالها التراث الثقافي للمجموعات التى ينتمون إليها، والتنظيم الأسرى الخ. يدعو هذا التعقيد إلى الحذر في محاولة الوصول إلى تفسيرات تطورية. إن افتراض وجود قيمة بيولوجية تكيفية لكل خصلة بمفردها وبمعزل عن بقية أجزاء النسق الحي مفهوم خاطئ. علينا أن نتذكر أن الذي يحيا أو يموت، يتوالد أو تنقطع ذريته هو الفرد الحي، لا الأجزاء المنفصلة من الجسم ولا الجينات المنعزلة. يمكن بالطبع أن يقرر أداء جهاز أو وظيفة بعينها مصير الفرد في ظروف معينة. غير أن القيمة التكيفية والصلاحية الداروينية لطائفة من الأفراد يقررها توازن المزايا والمثالب، القوة والضعف، القدرة والعجز.



لا يسع الأخصائي في علم الأحياء إلا أن يدهش للاهتمام الذي ناله علم النفس وللنتائج البائسة التى أحرزها هذا العلم في مجال دراسة فوارق القدرات العقلية بين الإنسان والحيوان وفهمها. وبالتأكيد لم يك ذلك لقصور النقص في الكلمات التى استخدمت لوصف خصال الإنسان المتفردة. إذ يقال أن الإنسان كائن يتميز بالعيش بالمنطق عوضاً عن الغريزة؛ الإنسان مدرك لنفسه واع بذاته؛ له عقل؛ له ذات (ايقو) وضمير (سيوبر ايقو)؛ قادر على التبصر والتجريد وتأليف الرموز والتفكير الرمزي واستخدام اللغة الرمزية. لكن التيار السائد في علم النفس الأكاديمي، الذي كان يتشكل في الولايات المتحدة من أنصار المذهب السلوكي لوقت قريب، يرفض هذه الكلمات والمفاهيم التى تستند إليها. تلك الكلمات محكوم عليها بأن تكون مبهمة بأكثر مما يلزم وغير دقيقة وغير مجدية كمفاهيم إجرائية للبحث في علم النفس. وببساطة تغفل الكثير من كتب علم النفس التى صدرت مؤخراً ذكر هذه الكلمات الزلقة. لكن مهما يكن الأمر فان التظاهر بعدم وجود مشكلة فيما يتعلق بالفارق بين العقل الإنساني وبداءات العقل الموجودة في الحيوانات لا يقربنا من الوصول لحل المشكلة. وحينما يتخلى أولئك الذين يلحون على الاقتصار على استخدام أشد المناهج الآلية دقة في العلم، ذلك الذي يلقب أحيانا بالعلم "الصارم"، عن معالجة المشكلة، فإن مهمة حلها يقع غيابياً على أنصار العلم "الرخو".



يؤكد ثورب (1965) أن الايثولوجيا، علم دراسة سلوك الحيوان المقارن، "تقدم أدلة مقنعة لا يتسع المجال لسردها هنا على أن شيئاً كالعقل الواعي لا بدَّ وأن يكون قد ظهر عدة مرات في التاريخ التطوري للمملكة الحيوانية". لكن ما هو هذا العقل الواعي، وما هي أوجه اختلاف العقل الإنساني الواعي عما يعتقد ثورب، وهو أحد أبرز الأيثولوجيين (علماء السلوك) الأحياء، أنه ظهر مراراً في التاريخ التطوري؟ اقتبسنا من قبل ما ارتآه شرينجتون بأن العقل "يفلت من الكيمياء والفيزياء "وأن" العلم الطبيعي ينكر العقل شيئاً خارجاً عن مدى رؤيته". ينبغي ألا تؤخذ هذه الإفادات بحسبانها إنكاراً لحقيقة العقل الذي يعرف شرينجتون أنه لا مفر منه. "أنا أشك إذن أنا موجود" حقيقة استحال الشك فيها حتى على ديكارت. ما قاله شرينجتون هو ببساطة أننا نتخبر العقل لكن لا نلاحظه ولذلك فإن معرفتنا به تجيء عن طريق التخبر لا الملاحظة. وقد طرح فسيولوجي آخر هو هريك (Herrick 1956) الفكرة نفسها بوضوح أكثر. أنه يساوى "العقل" بـ "الوعي". لا يمكن اختزال الوعي إلى كيمياء،" أو وصفه وصفاً علمياً وافياً بتفسير تام للآلية التى يستخدمها. "الوعي هو الوعي بالذات" ولا يستطيع أن يدركه إلا ذات الشخص المعني الذي لا يقدر على تمييزه إلا بالاستبطان. وهو مع ذلك ليس طرزاً من القوى الحيوية؛ وإنما هو ظاهرة تتعلق بالكائن الحي : الجسد يصنع العقل، لكن العقل ليس ناتجاً يصنعة الجسد كما تصنع المعدة العصارة المعدية. انه الجسد فاعلاً، نمط عمل مميز لجهاز جسماني من نوع خاص، تماماً كما يعتبر المشي نمطاً لعمل جهاز جسماني من نوع مختلف.



وقد كان بنفيلد Penfield وروبرتس Roberts، أخصائيا فسيولوجيا للدماغ وجراحته، أكثر تحديداً (1959): "إن تقديم تعريف وافي للعقل صعب اليوم تماماً كما في أي وقت مضى. الوعي هو إدراك، تفكير، تركيز انتباه، تخطيط فعل، تفسير تجربة حاضرة، إدراك حسي". هذه الكلمات وصفية، لكنها بالكاد تشكل تعريفاً مقنعاً.



أما عالم فسيولوجيا الأعصاب البارز السير جون اكلز (John Eccles1965) فقد أثار سؤالاً شائكاً في محاضرته بمناسبة ذكرى أ. س. ادنجتون. كانت نقطة بدء المحاضرة "أننا نعتبره أمراً مؤكداً أن ذاتي الواعية تعتمد اعتماداً متفرداً على دماغي أنا لا على أدمغة أخرى... ينشأ هنا سؤالان : ما هي طبيعة هذه الذات المتخبرة تخبراً واعياً؟ وكيف صارت منتسبة لدماغ معين بهذه الطريقة المتفردة؟" إن تفرد الذات هذا لا يمكن أن يستمد كلياً من الطاقم الوراثي للفرد، لأن كلاً من التوائم المتطابقة المتشاركة في الطواقم الوراثية الابتدائية يتخبر ذاته الواعية بصورة متميزة عن توأمه. من الناحية الأخرى فمع أن التأثيرات البيئية والتجارب الشخصية لحياة بكاملها قد تحور الخصائص المميزة للفرد، ألا انها لا تحول دون تواصل ذاكرته واستمراريتها حتى بدايات يقظتها عند الطفولة.



يقتبس السير جون اكلز باستحسان بعد ذلك التأمل القديم الذي قال به ح.س.جننقز السابق باحتمال وجود عدد محدود من الذوات المتربصة للالتصاق بـ "قوام" خليتين جنسيتين متحدتين، ويخلص إلى "أننا نصل إلى المفهوم الديني للروح التى خلقها الله خلقاً خاصاً". لكن يبدو لي من ذلك أننا نستطيع أن نرى أساساً لفعل إلهي في تكوين الذات الإنسانية كما في أي حدث طبيعي آخر. إن التنوع الراهن للذوات جزء متناهي الصغر من الذوات المحتملة، لأن عدد الناس الذين عاشوا أو يحتمل أن يعيشوا في هذا الكون جزء صغير متناهي في صغره إذا ما قورن بقدرة التكاثر الجنسي على توليد أنماط جديدة من الطواقم الجينية المتفردة. كما وأنه واضح أيضاً أن أي إنسان آخر سيشعر، بغض النظر عن جيناته، أنه مختلف عنى حتى لو كان ممكنا تصور حدوث تطابق تام في تجربتنا الحياتية. ذلك لأن الاتصال الذي لا انقطاع فيه لتجاربي، الذي أتذكره منها والذي أكون نسيته، المستمد من ظروف حياتي، المتكيف بطاقمي الوراثي، هو الذي يجعل منى شخصاً متفرداً لا يتكرر، متميزاً عن أي شخص آخر موجود الآن أو عاش في الماضي أو يحتمل أن يوجد في المستقبل.



لم يعط الكتاب ذوو المنحى التحليلي- النفسي إلا اهتماماً قليلاً للأصل التطوري للنفس البشرية، وان كانت هنالك استثناءات مميزة. يستمد فرويد العضو الأول من الثلاثي الكلاسيكي الـ هذا-الـ أنا- الـ أنا العليا من الدوافع الملحة لطبيعة الإنسان الحيوانية المحددة بيولوجياً، بينما يعتبر العضوان التاليان من أصل إنساني متميز. وبصيغة فرويد البليغة "يحل الأنا حيث كان الهو". ويقدم مناكر ومناكر (1965) رؤية بيولوجية أشد تماسكاً : "كان محتماً حينما تطور الوعي باعتباره التعبير الأرقى لتطور التحكم العصبي أن تطورت معه قاعدته التوحيدية. فلم يكن ممكناً للإنسان أن يتخبر الوعي والإدراك دون أن تتطور لدية طريقة لتنظيم وتوحيد وتنسيق الإدراكات المختلفة"، وإلا أصبح في حالة من الفوضى النفسية. هذا المنظم هو الأنا، الذي هو "القدرة النفسية التى تنظم الوعي وتقوم بتوحيده وتهيئ الشخص بدنياً وعقلياً للأداء الوظيفي، وتجعل التفكير والسلوك التكيفي ممكناً".



يؤكد الوجوديون أن الإنسان والإنسان وحده هو الذي "يوجد" حقاً. هذا "الوجود" هو الذي يميز الإنسان عن سائر أشكال الحياة الأخرى. وربما أن الوجوديين ساروا على الطريق الصحيح بغية تعريف التفرد البيولوجي النفسي الأساسي للإنسان. لكن يصعب البرهان الصارم على وجود بعض عناصر الإدراك أو غيابها في الحيوانات الأخرى لأن الإنسان يتخبر على وجه الدقة وعيه وإدراكه الذاتي فقط. لكن صياغة فروم (1964)، على ما فيها من نقص، هي الأشد اقناعاً للمتخصص البيولوجي وبكلماته : "يمتلك الإنسان ذكاء مثل الحيوانات الأخرى، يبيح له استخدام العمليات العقلية بطريقة تمكنه من تحقيق أهداف عملية مباشرة؛ لكنه يمتلك إضافة لذلك خاصة عقلية أخرى يفقدها الحيوان. إنه مدرك لذاته، واع بتاريخه وبمستقبلة الذي هو الموت؛ انه عليم بضآلته وبعجزه؛ وهو يدرك الآخرين كآخرين- كأصدقاء أو أعداء أو غرباء. يتجاوز الإنسان كل الحياة الأخرى لأنه حياته تدرك ذاتها للمرة الأولى في تاريخها. الإنسان كائن في الطبيعة يخضع لإملاءاتها وصد فها، لكنه يتجاوزها لأنه يفقد تلك الغفلة التى يكون الحيوان بسببها جزءاً مندمجاً في الطبيعة- واحداً منها".



إذن فالوعي بالذات هو أحد أهم خصائص النوع الإنساني الجوهرية، وربما كان أهمها. وهو إبداع تطوري؛ فلم يكن النوع البيولوجي الذي انحدر منة الإنسان يملك سوى بدايات الوعي بالذات، أو ربما كان يفقدها تماماً. وقد جلب الوعي بالذات في قافلته رفقة كئيبة - الخوف والقلق والوعي بالموت. وقد صاغ مناكر ومناكر (1965) ذلك كالتالي : "كان القلق-أو فلنقل الخوف - في العالم الحيواني الذي جئنا منه يخدم وظيفة البقاء على قيد الحياة، وهو يمثل إنذاراً بالخطر المحدق الذي يتم التفاعل معه بكامل معدات البقاء الأتوماتية الغريزية المتوفرة للفرد. يطرح التطور الإنساني مسألة جديدة هنا، وان كانت مدفوعة بالحاجة نفسها للبقاء. إذ من الواضح أنه لا بدَّ لهذا الإنجاز التطوري العظيم، الإدراك، من أن يضيف بعداً خاصا للخوف".



إن الإنسان مثقل بالوعي بالموت. فقد انبثق كائن يعرف أنة سيموت من أسلاف لم يعرفوا ذلك. وإن الرؤية من منظور تطوري تدل على أن الوعي بالذات أولي والوعي بالموت ثانوي؛ الوعي بالموت هو الثمرة المرة لصعود الإنسان إلى مراقي الوعي ولتطور الأنا الفاعل فيه. لقد تنامى الوعي بالذات تكيفاً ضروري الجانب؛ أما الوعي بالموت فلا يبدو أن الجانب التكيفي بين فيه بل أنه ربما كان ضاراً من الوجهة البيولوجية. لكن ظهورهما يدعم وجهة نظر المؤرخ اريك كاهلر (Erick Kahler 1964) الذي كتب : "لا يغيب عن بالنا إذا ما ألقينا نظرة عامة على مجرى التاريخ، والتطور حقيقة أن نلاحظ التوسع التدريجي للمجال الوجودي، ولبعض الأحداث التى تشكل فواصل، أو نقاط تحول برغم امتدادها لفترات طويلة، لأن محور وجودها ينتقل من مستوى إلى آخر، من مستوي أدنى محدود المدى إلى مستوى أعلي رحب المدى. وقد كان الانتقال التطوري من مستوى الوجود الحيواني إلى الوجود الإنساني أحد هذه الفواصل".



وتكمن الأهمية التطورية التكيفية للوعي بالذات في الدور الذي يقوم به في تنظيم وتوحيد قدرات الإنسان البدنية والعقلية التى يقوم عن طريقها بالتحكم في بيئته. وكما كتب هالويل (1961) "كان أهم ما حدث في البعد النفسي لتطور عائلة الإنسان تنامي بنية الشخصية الإنسانية التى صار للوعي بالذات المستند إلى الأنا (الإيقو)، أهمية محورية بها. و كما أشار رو (1963) فإن هذه البنية تشكل مركباً يضم التفكير الرمزي، والاتصال، واللغة الرمزية، والذكاء، والتفكير المنطقي؛ كما يضم بطريقة غير مباشرة استخدام الآلات وصنعها، والثقافة" (رو 1963).



إن الوعي بالموت ملازم للوعي بالذات، لكن بينما تخضع المعرفة في أخر المطاف للاستبطان والملاحظة الخارجية فإن الأول يقود لأشكال من السلوك تسهل ملاحظة نتائجها. أحد أشكال هذا السلوك دفن الموتى. إن النمل والنحل والحشرات الاجتماعية الأخرى تثابر على إزالة الموتى من بين أعضاء المستعمرة وبقايا الطعام والشرانق الفارغة وغير تلك البقايا من أعشاشها. لكن هذا السلوك يعد جزءاً من تنظيف الأعشاش، وهو إجراء صحي غريزي يختلف عن الدفن تماماً. وأن مزاعم وجود "مدافن" يأوي إليها الضعفاء والطاعنون في السن من تلك الحشرات مشكوك فيه، وهو على أية حال لا علاقة له بالممارسة الطقوسية لدفن البشر للموتى من بني جنسهم.



وهنالك أدلة قاطعة على أن أفراد نوع الإنسان القديم نياندرثال كانوا يدفنون موتاهم. وفقا لهوكس وولي (1963) فإن وادي المغارة في فلسطين هو أقدم المدافن. وقد وجدت في هذا المدفن بضعة جثث مسجاة في قبور محفورة في قاع الكهف وضعت إلى جانبها قرابين من الطعام وأسلحة. كما وجدت جثة ليافع من نياندرثال أيضاً في قبر محفوف بالألواح في تشيك- تاش بـ تركستان، وضعت حول رأسه قرون لستة أغنام جبلية. كذلك اكتشفت بضعة قبور نياندرثالية في أوربا توحي حالة بعضها إيحاء قوياً بالدفن "الطقوسي". وقد سجيت تلك الجثث في حالة أشبه بالنوم ودهنت بالمغرة الحديدية الحمراء، ووضعت إلى جانبها آلات حجرية وبقايا طعام. ويعتقد أن المغرة الحمراء استخدمت وهماً يعطي انطباعاً باحتفاظ الجسد بالدم واهب الحياة *.



أما بقايا إنسان بكين (بيثكانثروبوس = القرد الإنسان) الذي ينتمي إلى نوع الإنسان المنتصب القامة (هومو اركتس Homo erectus) الذي انحدر منه نوعنا الإنسان العاقل (هومو سابينز Homo sapiens) فيبدو أنها تحكي قصة لا للمدافن وإنما لولائم أكلة لحوم البشر. فقد وجدت سلسلة من الجماجم المفصولة عن أجسادها في كهف شوكوتين وقد هشمت قواعدها بطريقة توحي بتسهيل استخراج الدماغ. وقد لا يوحي هذا بأكثر من وجود مذاق قاسترونومي "رفيع". لكن من الناحية الأخرى فقد مارست بعض القبائل عمليات مماثلة في الأزمنة التاريخية بغرض السحر وتقديم القرابين. وقد ساد اعتقاد بأن الذي يأكل جسد المحارب، خاصة دماغه يكتسب قوته وبسالته وقدرته على الاحتمال.



أما مدافن العصور الحجرية القديم الأعلى (Upper Palaeolithic) والوسيط (Mesolithic) والحديث (Neolithic) فهى تتواجد على نحو متزايد. ومن الواضح أن الاهتمام بشأن الموتى قد شاع في فجر الإنسانية. انه أحد العموميات الثقافية لدى البشر. وهنالك تنوع شديد في التعبير عن هذا الاهتمام في الثقافات المختلفة، يتراوح من الخوف والرهبة تجاه أرواح الموتى إلى نشدان العون والحماية باستحضار تلك الأرواح. فقد يتم دفن الجثث في أرضية المساكن التى يأوي إليها أقارب الموتى، أو تدفن في مقابر خاصة على مبعدة من المساكن، أو توضع في كهوف طبيعية أو أضرحة خاصة. وقد يحرق الجثمان وتحفظ البقايا في أوعية خاصة أو تدفن أو تذرى للرياح أو تلقى في الماء. وقد تضمخ الجثث وتحنط وتتم المحافظة على مظهرها الخارجي باهتمام بالغ أو يلقى بها عمداً للحيوانات المفترسة والنسور الجارحة. ليست هنالك حاجة لاستعراض ذلك التنوع الهائل في الأعراف والطقوس والمواقف التى سجلها علماء الإنسان (الأنثروبولوجيا) في مختلف بقاع العالم. الحقيقة الرئيسة هي أن جميع الناس في كل مكان يهتمون بموتاهم بطريقة أو أخرى، بينما لا يفعل أي حيوان شيئاً من هذا القبيل. إن الأرضة وبعض الحيوانات الأخرى تأكل جيف موتاها، لكن ذلك أقرب إلى الإجراء الصحي منه إلى الدفن. وتحمل إناث القرود والنسانيس جثث صغارها وأحيانا جيفهم المتحللة لبضعة أيام، بينما يبحث جرحاهم ومرضاهم عن مخابئ تحميهم من الحيوانات المفترسة، ويلوذون بها حتى الشفاء أو الموت. وهنالك نوادر تحكي عن الأفيال والحيوانات الأخرى التى تحاول أن تعين الأفراد الضعفاء من مجموعاتهم، لكنهم بالتأكيد لا يدفنون موتاهم (ثورب1965 ).



ان عمومية خصلة ثقافية لا يبرهن على وجود وحدة وراثية خاصة بها في الطاقم الوراثي الإنساني أو أنها تعزى لغريزة خاصة أو لدافع فطري. وقد افترض البعض (وسلر على سبيل المثال) أن هنالك نوعان متميزان من الخصال الثقافية : الخصوصيات الثقافية التى يتم اكتسابها بالتعلم والعموميات الثقافية الفطرية. لكن هذا الافتراض لا يجد تعاطفاً شديداً عند علماء الإنسان (الأنثروبولوجيين)، كما لا يلقي هذا التشعب الثنائي قبولاً بيولوجياً. ويصعب تماماً تصور استناد القدرات الثقافية الإنسانية على آلية أُحادية بسيطة وفجة مثل وجود جينة (مورثة) واحدة مقابل كل خصلة أو قدرة ثقافية. إن العلاقات بين البيولوجيا والثقافة أكثر التباساً وحذقاً لكنها مع ذلك حقيقية. لقد صار نشوء الثقافة ممكناً بفضل الجينات، وهي أساسية للمحافظة عليها ولتطورها. لكن الجينات لا تحدد ماهية الثقافة التى تنشأ ومكان تناميها وزمانه وكيفيته. يشابه ذلك الوضع علاقة الجينات باللغة والكلام - الجينات تجعل اللغة والكلام ممكناً، لكنها لا تقضي بما يقال.



إن الكائن الذي يعرف أنه سوف يموت هو وحده الذي يمكن أن يهتم اهتماماً حقيقياً بموت الآخرين. ولا يفسد تبصر جون دون العميق في قوله "موت أي إنسان يجعلني أتلاشي لأنني متشابك في الإنسانية" انه تحول إلى اكليشيه مبتذل. فقد أدرك جون دون أنه متشابك في الإنسانية أساساً بسبب وعيه بالموت. وقد سجل علماء الإنسان تنوعاً فريداً في العادات والمواقف المتعلقة بالموت وبعواقبه لدى الشعوب المختلفة. وقد استندت كل تلك الأعراف والعادات على الحقيقة الأساسية للوعي بالموت التى هي حقاً إحدى العموميات والخصائص الأساسية المميزة للبشر نوعاً بيولوجياً.



لا يقصد من هذا الإيحاء بأن الوعي بالموت أولي لا يقبل الاختزال أو أنه كينونة وراثية أو سيكولوجية متكاملة. إنه أقرب لأن يكون، كما أسلفنا، ثمرة الوعي بالذات وحالة ضرورية ملازمة له. القول بأن الوعي بالذات والوعي بالموت مكيفان وراثياً لا يوحي بأنهما خصلتان وراثيتان بسيطتان. ليس هنالك شئ اسمه جينة للوعي بالذات أو للوعي أو الأنا (ايقو) أو للعقل. هذه القدرات الإنسانية الأساسية مستمدة من الهبة الوراثية بكاملها، لا من نوع معين من الجينات الخاصة. انها تنشأ خلال تنامي الفرد بحسبانه جزءاً من نظام الضبط السبراني والتغذية الراجعة الذي يقود إلى النضج الجسدي والعقلي للإنسان. وأن السمات الثقافية والسلوكية التى يدرسها علماء النفس والإنسان تبعد بدرجات عن الجينات التى تشغل اهتمام المختصين في علمي الأحياء والكيمياء الحيوية. وتقع دراسة طبيعة هذه السمات الثقافية والسلوكية وأصلها في مجال الاهتمام المشروع والمشترك للبيولوجيين التطوريين ولعلماء الإنسان والنفس والإنسانيات والمؤرخين والفلاسفة، سواء بسواء. ينبغي لهذه المداخل أن تكون متكاملة لا متنافسة **.



يفرض سؤال بيولوجي نفسه وتلزم معالجته هنا. قلنا أن الوعي بالذات، وكذلك الوعي بالموت الذي هو من ثماره، مكيفان وراثياً. لو أن الأمر كذلك فهل يمكن أن تكون نشأتهما وتناميهما عملية بيولوجية خضعت لفعل الاصطفاء الطبيعي بحسبانها عناصر مساعدة لما يسمي بغريزة حفظ الذات؟ على وجه الخصوص، هل يمكن أن يكون اكتساب الوعي بحتمية الموت حدثاً مستقلاً ومفيداً بالمعني البيولوجي؟ أرى أن الإجابة عن هذا السؤال الأخير ينبغي أن تكون سلباً. يكون الوعي بالموت مواتياً لو أنه يمد الأب بالحافز لتوفير متطلبات الحفاظ على نسله وبقائه توقياً لوفاته. لكن هذا يفترض قدراً من السعة العقلية ويتعذر تصور التنامي الثقافي خارج إطار ما يقارب العقلية الإنسانية كما هي موجودة الآن. ربما كان الوعي بالذات سابقاً للوعي بالموت وشرطاً لازماً لتحققه. وما من شك بالطبع في أن إدراك خطورة بعض الأشياء على الحياة وتمييزها كان مهماً للغاية منذ المراحل الأولى لبدايات الصعود البيولوجي والثقافي للإنسان. لقد كان الصائد الماهر يوفر الرزق لنفسه ولنسله في الوقت الذي يفقد فيه الأخرق أو الغبي حياته ويدع نسله يموت جوعاً. لكن ماذا كان يمكن أن تكون فائدة أن يعلم الصائد البدائي أنه إن عاجلاً أو آجلاً سيموت، بغض النظر عن مدى مهارته وشجاعته وبسالته؟



هنالك ارتباك شديد حول ما تعنيه "غريزة حفظ الذات" بالضبط. ينبغي أن لا نتصور أن الكائن "يعرف" ما يلزم أن يفعله ليبقى على قيد الحياة عن طريق إدراك غريب أو خارق للطبيعة. صحيح تماماً أن كل الكائنات، من الأدنى إلى الأعلى، تتفاعل مع المؤثرات التى تتوفر عادة في بيئاتها المعتادة بأساليب تتوخى تحقيق الاحتمال الأقصى لبقائها. الكلمات المفتاحية في الجملة السابقة هي "تتوفر عادة" و "بيئاتها المعتادة". ان ما وصفة العالم الفسيولوجي العظيم كانون بـ "حكمة البدن" يمدنا ببعض الفصول الآسرة في البيولوجيا، لكن البدن حكيم أساساً في الظروف التى سبق أن تعرض لها النوع البيولوجي. وإذا ما وضع أفراد النوع في بيئات جديدة تماماً فإنهم يفقدون حكمتهم، وغالباً ما يتبلدون بصورة مذهلة. فأبداننا - فيما عدا المهق منا - تتفاعل مع ضوء الشمس باسمرار البشرة الواقي، لكنها تصاب بالمرض الإشعاعي عند التعرض للأشعة السينية أو الذرية. ذلك لأن أسلافنا تعرضوا كثيراً لأخطار ضربة الشمس، لكنهم لم يتعرضوا لأخطار الإشعاعات ذات الطاقة العالية. باختصار ليست هنالك غريزة لحفظ الذات، لو أننا نعني بمثل هذه "الغريزة" القدرة على التفاعل مع كل المؤثرات البيئية بالطريقة التى تحافظ دائماً على حياة الفرد. بدلاً عن ذلك هنالك استجابات متنوعة، ومعظم التى حدثت منها مراراً في البيئات الاعتيادية للنوع صارت تكيفية. وقد تأسست وانتظمت الحصيلة التكيفية لهذه الاستجابات بفعل الاصطفاء الطبيعي خلال الصيرورة التطورية.


لقد اعتقد فرويد في سنواته الأخيرة أن للإنسان غريزة أو دافع للموت إضافة لغريزة البقاء. قد يعطي تشعيب فرويد للوجدان والعقل، الموت والحياة، البقاء والفناء، وصفاً مجازياً رفيعاً لبعض جوانب النفس الإنسانية. لكن هذا الوصف لا يستقيم إذا قصد منه أن يكون نظرية بيولوجية. صحيح أن تنامي الفرد ينتهي في معظم الكائنات الحية بالوهن والهرم والعجز ثم الموت. فقط بعض أشكال الحياة وحيدة الخلية الأقل تعقيداً، تلك التى تتوالد بالانقسام البسيط لخلاياها إلى فردين أو أكثر، يمكن أن توصف بقابلية الخلود. غير أن التـأسيس التطوري للدافعية لتحطيم الذات وللموت يبدو بعيد الاحتمال. يمكن تصور تحقق هذا الوضع فقط لو صار بقاء الأفراد الذين أكملوا دورة التوالد ورعاية النسل عبئاً على الجزء النشط تناسلياً من العشيرة. فلو صار الأفراد الذين انتهي دورهم التناسلي يستهلكون الطعام بطريقة تؤدي لتجويع الصغار أو إعاقتهم أو اعتراض سبيلهم بطريقة أو أخرى، فقد يواتي الاصطفاء الطبيعي القبائل أو العشائر الصغيرة التى يعقب الموت فيها التوقف عن التوالد بزمن وجيز. إلا أنه من غير المحتمل تماماً انطباق هذا الوضع على الإنسان، خصوصاً عند بدء اكتسابه للثقافة. لقد كان الكبار هم مستودع المعلومات والحكمة، إضافة لدورهم في رعاية الأطفال.



إن افتراض سيطرة هاجس الموت على أفكار كل الناس طول الوقت خاطئ بالتأكيد. فالاختلافات وظلال الاختلافات هنا لا حصر لها. من ناحية فإن عدم الاكتراث والقبول العقلاني البارد بالمحتوم غالباً ما يتظاهر به الذين لا يشعرون حقيقة بذلك الشعور في دخيلتهم. غير أن الانشغال المستمر والقلق أعراض مرضية. من الطبيعي أن يكون المتقدمون في السن في المتوسط أكثر انشغالاً ووعياً بالموت من الصغار، والمرضى أكثر من الأصحاء، والذين لديهم الفراغ الكافي للتأمل وإطالة التفكير أكثر من المنهمكين في النشاط العملي. يستعرض الوجيزان اللذان كتبهما شورون Choron (1963و1964) ويلخصان باقتدار تعدد المواقف والأفكار والتأملات الفلسفية عن الموت. فالوعي بحتمية الموت ينشأ لدى الأطفال، على الأقل في الثقافة الغربية ببطء، ابتداءً من حوالي سن السادسة لكنه لا يرسخ إلا في الثامنة أو التاسعة وربما بعد تلك السن.



وقد تشكك بعض دارسي الشعوب البدائية في عمومية الوعي بالموت لدى بعض الهمجيين. وقد كتب رادين (1957) معلقاً في دراسته المتميزة عن الإنسان البدائي فيلسوفاً عن تلك الشكوك : "لقد تكرر الزعم مؤخراً بأن كل الناس البدائيين يفترضون أن الموت لا يكون طبيعياً أبداً وأن التحزر الوحيد الذي ينغمسون فيه هو اكتشاف من تسبب في الموت. هذان الزعمان خاطئان تماماً. فكثيراً ما يتردد ذكر حتمية الموت ونفاذ القدر في أغانيهم وأمثلتهم، أحياناً بتسليم باسل، وأحياناً بشكوى مريرة، وأحياناً أخري بحزن وأسي...إن فكرة حتمية الموت تتخلل عملياً أمثال كل القبائل وشعرها".



كثيراً ما صُور الموت في ثقافتنا هيكلاً أو رجلاً عجوزاً مسلحاً بمنجل، لكن لا يتبع ذلك أن وصول هذا المنجل آخر الأمر يُعد طبيعياً وحتمياً. إن كلمة "طبيعي" هي التى تغير معناها. إن الوعي بالموت عام، كما أشرنا سابقاً، وقد كان معروفاً في عهد الإنسان النياندرثالي. أما إن كان عاماً في ذلك الوقت أم لا فمسألة فيها نظر.



تنبثق من الاعتبارات الوارد ذكرها صورة ذات مغزى للتطور النفسي الإنساني. لقد ترسخ الوعي بالموت خصلة نوعية للإنسان. غير أن هذه الخصلة لم تكن وربما ليست الآن تكيفية. إنها جزء مكمل لمركب القدرات الإنسانية التى محورها الوعي بالذات، والقدرة على التفكير التجريدي، وتأليف الرموز واستخدام اللغة. إن الفعالية التكيفية لهذا المركب لا يتطرق إليها الشك. فقد جعل هذا المركب التحكم في البيئة عن طريق التغيير الثقافي الأسرع وتيرة من تغيير الجينات الموروثة ممكنا. النتائج الأخرى لهذا المركب لا تقل في أهميتها، وان كانت أقل وضوحاً. لقد ذاق الإنسان الفاكهة المحرمة حينما صار واعياً بحتمية الموت. هذا الوعي هو أهم مصادر الهم الشاغل، إن لم يكن أهمها.



الإنسان هو الوجود الذي تطور ليكون واعياً بذاته. انه يعرفه حدثاً عابراً في مسرح الطبيعة. وهو يشعر ببعض القلق إزاء الموت، وإن كانت حدة هذا القلق تختلف من شخص لآخر. انه يسأل عما إذ لم تكن حياته فرداً وحياة الناس الآخرين القريبين والبعيدين، بكلمات هوايتهيد "أنفاس التفاهة العابرة". يختلف الإلحاح الذي يلازم توجيه هذا السؤال اختلافاً كبيراً من شخص آلي آخر، لكن ربما لا يوجد أحد متحرر تماماً من الاندهاش أمام هذا اللغز الخالد سوى من هم تحت خط البلاهة. وقد اعتقد تيليش (1963) أن لكل إنسان "وعي مباشر بأنه محدود وأنه يتجاوز محدوديته تماماً بهذا الوعي".



لا أريد أن يفهم عني أنني أساوي مخاوف الموت وهواجسه بالهم الشاغل، كما لم يزعم تيليش زعماً من هذا القبيل. أننا أمام وضع معقد. فليس هنالك اجماع من الدراسين عن أصل الدين البدائي. وقد قاد علم الاجتماع المقارن إلى صياغة بضعة نظريات، قد تحوي كل واحدة منها عنصراً من عناصر الحقيقة. وقد شدد تايلور، وهو أحد رواد علم الإنسان الثقافي "التطوري" في القرن التاسع عشر، على أن الإنسان البدائي يرى مظاهر للعوامل الروحية المشخصنة في الطبيعة الحية وغير الحية وفي الظواهر الإنسانية. وقد نشأ الدين في اعتقاده من هذه الأرواحيه المتخللة لكل شئ. وقد افترض ماكدوقال وجود غريزة دينية خاصة، زعم ولهلم شمدت أنها قادت الإنسان إلى نوع من التدين الأولي الذي تفرعت منه الأديان الروحية والشركية تفرعاً ثانوياً، وذلك عند انحلاله. وشدد دوركهايم على الرابط بين الدين البدائي والطوطمية والبنية الاجتماعية.



تبدو لي أفكار مالينوفسكي (1931) أكثر تلك الآراء فطنة. وبكلماته : "يمكن توضيح الارتباط الجوهري للدين، إن لم يكن المباشر، باحتياجات الإنسان الأولية، أي البيولوجية. إن الدين يجئ، مثل السحر، من لعنة التروي والخيال التى تصيب الإنسان حال بزوغه فوق مستوى الطبيعة الحيوانية البهيمية". وإحدى البؤر التى تتركز فيها "لعنة التروي والخيال" هذه هى وقتية الإنسان وزواله : ربما كان وجود الارتباطات الشخصية القوية وحقيقة الموت التى هى من بين جميع الأحداث الإنسانية أكثرها زعزعة وإحباطاً لخطط الإنسان، أهم أسباب نشأة الاعتقاد الديني. إن إثبات كون الموت ليس حقيقياً، وأن للإنسان روح خالدة، ينشأ من احتياج عميق لا ينبع من غريزة سيكولوجية وإنما تحدده الثقافة والتعاون ونمو التعاطف الإنساني.



ويشدد طبيب الأعصاب فيبلمان (Feibleman 1963) تشديداً مناسباً على الجانب النفسي البيولوجي: "الأديان أنساق استجابة نوعية تعد بالبقاء. وبغض النظر عن صدقها أو زيفها فإن الإحصاءات الغامرة بانتشارها تدل علي ضرورتها لاختزال حاجة ضرورية لدى الإنسان. هذه بالطبع هي الحاجة للبقاء، للأمن الأولي، ولتجاوز أسي الموت. الفرد الإنساني يعرف أنه سيموت، لكن أفكاره أكبر من مصيره....الدين مسعى للانخراط في مجال أوسع وأكثر ثباتاً من الوجود المجرد".



تزخر آداب العالم الكبرى أحياناً بوصف نجاحات، وأحياناً أكثر بفشل هذه المشاريع الإنسانية. وتتطابق اهتمامات الآداب والفنون مع العلم التطوري في هذا المجال. هل الحوار بين الفنانين والعلماء ممكن؟ لم يسبق لي أن اطلعت على صورة أشد بلاغة وأكثر إثارة للفشل المذل، لكن الشائع، للانخراط في مجال "أكثر ثباتاً من الوجود المجرد" من تلك التى قدمها تولستوى في "موت ايفان ايليش". يبدأ رجل عادي متوسط الثراء والنجاح، ليس سعيداً جداً في حياته الأسرية، في إدراك حقيقة أنه مصاب بمرض خطير وأن موته صار وشيكاً. يحاول أن يكون عقلانياً بشأن حالته؛ يتذكر مثلا للقياس المنطقي في كتاب مدرسي :" قايوس رجل، كل الرجال فانون، إذن لا بد لقايوس أن يموت". لكنه ينكص فجأة عن أي منطق - "كان ذلك القايوس رجلاً، رجلاً بشكل عام، وكان ذلك عدلاً تماماً؛ لكنني لست قايوساً، أنا لست رجلاً بشكل عام، لقد كنت دائماً كائناً مختلفاً تماماً، تماماً، عن كل الآخرين...لذا لا يمكن لي أنا أيضاً أن أموت. سيكون هذا مرعباً جداً ". ونحن لا نعرف ما يشعر به الحيوان الذي يموت، لكن احتمال تعرضه لمعاناة ورعب شبيه بايفان ايليش بعيد الاحتمال تماماً؛ أهذا هو الكسب التطوري المقابل لرمز السقوط في الإنجيل؟



يعالج دستويفسكي في "المجنون" نوعاً مختلفاً تماماً من التمرد على الحياة والموت هو بمعني ما نقيض حالة ايفان ايليش. لا يجد المتمرد، كيريلوف، معقولية أو معنى في أي مكان في العالم بأسره. كل شئ، بما في ذلك الطبيعة كلها وجميع قوانينها، نسيج من الأكاذيب و"الملهاة المسرحية". وفي وسط هذا العالم العبثي يوجد شخص واعي، كيريلوف، الذي يعرف أن العالم بلا معنى. وهو يعرف أنه صادف أن وُضع هنا، دون إذنه، ممثلاً في هذه "الرقصة الشيطانية. ويدله ديالكتيكه إلى طريقة واحدة فقط للإفلات بكرامة من مأزقه. أن يحطم ذاته. القرار الذي يتخذه بالانتحار بمحض ارادته هو الطريق الفذ الوحيد للرجل للإمساك بالسمة الرئيسة للمقدس – الحرية التى لا تحدها حدود. يقتل كيريلوف نفسه لتأكيد "حريته الجديدة المرعبة" حتى يتشبه بالآلة. هنالك في كل هذا شئ واحد لا ينكر؛ أن ديالكتيك كيريلوف يتجاوز حيوانيته. لا، وليس هو جبان رعديد مثل ايفان ايليش.



لقد كان معنى الحياة والموت وأهميتهما من بين المسائل الرئيسة في الفلسفة لألفيتين ونصف من الزمان، منذ فجر التأمل الفلسفي في اليونان القديمة. وأن مدرسة التحليل المنطقي الحديثة القوية النفوذ والتى تعتز "بعلميتها" الصارمة هى وحدها التى أعلنت أن هذه المسائل لا معنىً لها. مع ذلك، هنالك شئ ملح وخلاب وغامر بطريقة لا تقاوم حول هذه المسائل التى "لا معنى" لها. ومع أن العلم لا يزعم لنفسه القدرة على حلها، إلا أنه ربما يقدر على توفير المعلومات الوثيقة الصلة بتأملات الفلاسفة.



قال سقراط أن "الفلاسفة الحقيقيون يدرسون الموت أبداً" وأن الفيلسوف "أبداً يلاحق الموت ويموت". وقد تردد صدى هذه الأقوال المأثورة عبر القرون. وينسب إلى سينيكا أن الفلسفة تعلمنا أن الإنسان ينبغي أن يعيش "وكأنما هو معار لنفسه، وأن يكون على استعداد لرد القرض كاملاً عند الطلب" (هذا الاقتباس والاقتباسات التى تليه مأخوذة من شورون (1963). وقد ارتأى مونتاق أن "التفلسف هو أن نتعلم كيف نموت". وكان سبينوزا يأمل أن يكون الفيلسوف "أقل انفعالاً بتلك المشاعر التى هى شر، وأن يكون خوفه من الموت أقل". ويسجل شوبنهور إفادة لا ينكرها أي عالم بيولوجي : "لقد ولجت حقيقة حتمية الموت المرعبة عقل الإنسان بالضرورة في صحبة العقل"، ويواصل مؤكداً أن : "كل الأنساق الدينية والفلسفية موجهة بصفة رئيسة لهذه الغاية، وهى أساساً الترياق المضاد لحتمية الموت التى يصل إليها العقل التأملي بطبعه". لكن الوجوديين هم الذين يجعلون وقتية الإنسان مركز الثقل الحقيقي لكل التفكير الفلسفي. وقد كان جاسبرز قاطعاً في هذا: "لو أن التفلسف يعني أن نتعلم كيف نموت، فإن هذا التعلم يصبح شرطاً لتحقيق الحياة الطيبة. لذا فأن نتعلم كيف نعيش وأن نتعلم كيف نموت شئ واحد حقاً".



ينبغي أن يكون واضحاً تماماً أن الذين يعتقدون في شكل من أشكال خلود الروح، أو في بعث الموتى حيناً ما في المستقبل، ليسوا بأقل انشغالاً بمسألة وقتية الإنسان من أولئك الذين يعتقدون بأن الموت هو الزوال التام والنهائي للإنسان. ذلك ما تعلنه بوضوح تام الآثار المجيدة لقدماء المصريين، واللوحات والتماثيل الموجودة في كل كنيسة مسيحية تقريباً (باستثناء بعض بيوت اللقاء الجرداء لبعض الطوائف البروتستانتية)؛ والمعتقدات الأساسية للأديان العظيمة الأخرى – الإسلام والبوذية والهندوسية. وبالتأكيد فإن وجود اختلاف جوهري لا ينكر هنا. فالوجود الزمني ليس إلا مجرد تهيئة للحياة القادمة بالنسبة للذين يؤمنون في البعث والخلود؛ أما بالنسبة للذين يعتقدون أن الموت هو الفناء والتحلل النهائي، فإن معنى الحياة يكرسه ما يحدث بين الميلاد والموت، و ألا يكون هنالك أي معنى. يمكن للذى يعتقد في الخلود إذن أن يعد خلاصه الشخصي همه الشاغل، والهدف من حياته. ولو لم يكن هنالك خلود فإن المسألة تكون معقدة وصعبة لأبعد مدى. فلا يمكن العثور على معنىً للحياة إلا في شئ أكبر من الوجود الشخصي لكنه يتضمنه في الوقت نفسه.



هوامش وضعتها أركاماني

* يجدر هنا إضافة الآتي :

أ- مدافن النياندرتال في شانيدار بشمالي العراق، والتي نقب فيها ريتشارد سولسكى، وفي تركستان الروسية. احتوت مقبرة شانيدار على جثمان رجل يبلغ من العمر 45 عاماً، نثرت عليه الزهور. واحتوت مقبرة تركستان على طفل في الرابعة من عمره دفن مع عتاد لمحارب.

ب- لا تمثل مقبرة شانيدار في حد ذاتها بينة دالة على الاعتقاد في حياة آخرة. لكن حالة الطفل من تركستان، وعلى المرء أن يتساءل لماذا دفن الطفل، الذي ما كان له أن يكون محارباً، مع مثل ذلك العتاد إلا إذا ما كان هنالك توقع باحتمال حاجته له؟ هذه أفضل بينة دالة على الاعتقاد في حياة آخرة منذ 45.000 سنة مضت، برغم أنها ليست إثباتاً.

** بهذا الخصوص، وتأكيداً لمقولة دوبجانسكي هذه، يكتب فابريزيو موري، الذي قام بدراسة الفن الصخري الصحراوي، بأن دراسة العلاقة المتبادلة بين التطور البيولوجي والثقافي مسألة جد معقدة بالنسبة للمتخصص في الدراسات الاثنولوجية القديمة. يكمن هذا التعقيد، في نظره، في حقيقة أنه يصعب تحديد ما قد حدث بالفعل في الماضي البعيد، وفي حقيقة أن المكتشفات الآثارية تصبح أكثر ندرة كلما توغل المرء إلى الخلف في الزمان، وأن تلك المخلفات لا يمكن تفسيرها بقدر من الثقة، وأنه من الصعب للغاية الوصول إلى استنتاجات من خلال دراسة البقايا المادية بشأن حياة أسلافنا وأصل نشاطات الإنسان المحددة وتطورها والتحولات المتعاقبة التى تعرضت لها تلك النشاطات. تصبح المسألة برمتها أكثر تعقيداً بفعل المشكلة الناشئة عن حقيقة أن "طريقتنا" في إدراك العالم والواقع تنطلق من مجتمع متخصص بدرجة عالية محكوم بشكل كبير بوضعه وسط مجتمعات معاصرة أخرى، والتي لكل منها مواقعها المختلفة في المدى الأفقي للاختلافات الثقافية، وهى نائية للغاية عن ما كان عليه عالم إنسان ما قبل التاريخ. في حالات تعقد مقارنات بين الإنسان الحديث وإنسان ما قبل التاريخ، لكن مسألة سلوك "البدائيين" الحديثين والرئيسات لا بدَّ من التعامل معها بحذر شديد. علينا الاعتراف بأن حجماُ كبيراً من المعلومات قد فات على بحثنا وسيظل دوماً غير معروف، لكنه صحيح أيضاً أنه وبفعل التعقيد الشديد للبحث، فإن كل من يعمل في مجال ما قبل التاريخ ويهتم بتقييم الوقائع وتفسيرها والتي لها تأثير على الطريقة التى تطورت بها الحياة الإنسانية، يجد نفسه مضطراً للاستعانة بالعلوم الطبيعية، والجيولوجيا، وعلم النباتات القديمة، والباليواثنولوجيا والتي ترافقه في دربه، إلى جانب تلك الفروع الأخرى للمعرفة التى التصقت بالبحث الباليواثنولوجي منذ أن أصبح مفهوم التطور، مع كل ما ترتب عليه من نتائج، جزءاً من الفكر المعاصر. الفرع المعرفي الذي أقصده هو البيولوجيا (علم الأحياء)، والمعني أكثر من فروعه، تحديداً علم الوراثة. يبدو لي أن الدراسات المستقبلية في مجال ما قبل التاريخ ستولي اهتماماً متزايداً بالجانب البيولوجي؛ وفي ضوء النقد الجاري لمجمل بنية البحث في مجال ما قبل التاريخ، فإنني لا أتصور كيف يمكن لأي باحث يعمل في مجال الباليوإثنولوجيا ويسعى إلى تقييم الحياة الإنسانية في الماضي البعيد، أن يتجنب البحث عن المساعدة التى يمكن أن يقدمها كل من علم الأعراق البشرية وعلم الاجتماع وعلم النفس (انظر موري، الحضارات العظيمة للصحراء القديمة، ترجمة د. أسامة عبدالرحمن النور، مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية، طرابلس، 2006).

lastmissions
01-23-2008, 07:15 AM
الفصل الخامس

البحث عن معنى الحياة



عرَّف أرسطو الإنسان بأنه حيوان اجتماعي. وبالطبع فالإنسان ليس الحيوان الاجتماعي الوحيد. هنالك حيوانات أخرى كثيرة، من بينها من هو أكثر اجتماعية، ببعض المقاييس، من الإنسان. فقد وصل تقسيم العمل بين أعضاء مجتمعات الأرضة والنمل والنحل الاجتماعي والزنبور حداً أبعد مما في المجتمعات الإنسانية. يصنف معظم أفراد هذه الحشرات "عمالاً" لأنها فقدت الوظيفة الأساسية للتوالد؛ أو أنها عقيمة أو إن شئت محيرة، ليست ذكراً ولا أنثى، وإن كانت من الناحية التشريحية إناث غير مكتملة التكوين أو، كما في حالة الأرضة، ذكوراً وإناث معاً. وقد فوض التوالد لطائفه متخصصة من الأفراد، ذكوراً وإناث مخصبات. ويطلق اسم "الملكات" المضل على الإناث المخصبات التى لا تقود ولا تحكم.



إن اجتماعية الإنسان من نوع خاص جداً كما أدرك أرسطو بوضوح. لقد أوحت كلمة اجتماعي بالحياة في دول المدن؛ فالإنسان إذن "حيوان سياسي". وبينما تعتمد اجتماعية الإنسان على الوعي بالذات والاتصالات الرمزية فإن اجتماعية الحيوانات ليست إلا غرائز موروثة. والوحدة الأساسية في التنظيم الاجتماعي للإنسان هي العائلة النووية التى تتشكل بارتباط الأم والأب والأطفال. هذه الأسرة النووية تمثل عمومية ثقافية بشريه على الرغم من التنوع الذى لا حد له في العلاقات العرفية بين الأفراد في الثقافات المختلفة.



إن تحديد مكان وكيفية نشأة العائلة النووية خلال التاريخ التطوري للنوع الإنساني أمر يخضع للحدس والتخمين. فهي لا توجد بشكلها الإنساني لدى الرئيسات غير الإنسانية التى تبدي مع ذلك تنوعاً مدهشاً في التنظيم الاجتماعي. وقد كان سلوك الرئيسات ووظيفتها التناسلية وممارساتها لتربية الأطفال مواضيع لدراسات بارعة شديدة الاتساع. وقد دلت هذه الدراسات على أن حجم المجموعة الاجتماعية يتراوح من 2 إلى 5 في القردة العليا الشبيهة بالإنسان ومن 13 إلى 185 في بعض القرود الأفريقية. تميل المجموعات التى تعيش وتتغذى على الأرض لأن تكون أكبر حجماً من تلك التى تعيش بين الأشجار وفروعها. تتكون الزمرة عادة من عدد معتبر من الإناث البالغات جنسياً ومن واحد إلى عدة ذكور بالغين إضافة لبعض الصغار الذين لم يبلغوا مرحلة النضج الجنسي. وتكون بعض الإناث البالغات في حالة استقبال جنسي والأخريات بين حبلى ومرضع. وفيما عدا الرضع الذين تتم رعايتهم فإن جميع الأفراد الآخرين يبحثون عن الطعام بأنفسهم. وليس هنالك تعاون للحصول على الطعام بين الأفراد في معظم الأنواع، ويكون التعاون محدوداً جداً إن وجد. لكن هنالك تعاون فيما يخص الحماية المتبادلة. على وجه الخصوص فإن الذكور الأقوياء يتخذون مواقع دفاعية عند تعرض الزمرة للخطر، خصوصاً خطر الحيوانات المفترسة مثل القطط الكبيرة.



هنالك اختلاف في وجهات النظر حول مدى الاقتتال الذى يتم بين أفراد الزمرة. فقد يكون هنالك قتال شرس بين ذكور القرد الأفريقي المحبوسين الذين يذودون عن الإناث اللائي يستميلونهم في حديقة الحيوان. أما على الطبيعة فإن المشاهدات تكشف عن وضع مختلف تماماً. فهنالك نظام صارم بعض الشيء للسيطرة والطاعة بين أعضاء الفرقة، وهذا النظام يتم تأسيسه والحفاظ عليه عادة بالتهديد الطقوسي لا بالاقتتال الفعلي. ويتم في بعض الأنواع استبعاد الأفراد الضعفاء من الذكور البالغين الذين يشكلون فرقاً من "العزاب" يتسكعون قرب الزمرة انتظاراً لفرصتهم. ومع أنه تتوفر فرص أكثر للذكور السائدين لمضاجعة المستقبلات من الإناث، إلا أنه ليس صحيحاً أن الزمرة تنتسب كلها إلى ذكر واحد. العكس هو الصحيح لأنه يوجد دائماً عدد من الذكور النشطين، كما يسود في بعض الأنواع قدر كبير من الحرية الجنسية. الفرق الأهم في السلوك الجنسي بين الإنسان وأقاربه يقع في مضمار آخر. فالأنثى في كل الرئيسات عدا الإنسان تكون مستقبلة جنسياً خلال فترات محددة من الدورة النزوية فقط. أما أنثى الإنسان البالغ جنسياً فهي دائمة الاستقبال.



ومع أن قله فقط من إناث القرود في الفرقة تكون في الدورة النزوية في أي وقت ما، فإن واحدة إلى بضعة إناث يكن دائماً على تلك الحالة. وهكذا يتوفر للذكور النشطين جنسياً الوصول باستمرار إلى إناث مستقبلات، لكنهن إناث مختلفات. ذلك يجعل أُحادية الارتباط وأبوية الرعاية بعيدتا الاحتمال. حقيقة كما أسلفنا فإن ذكور القرود يتولون حماية الصغار وبقية أفراد الفرقة. وعلى الأقل في بعض الأنواع فإن الذكور يتسامحون في أحسن حالاتهم مع الصغار، كما يأخذ أولئك حذرهم من آبائهم وأعمامهم. أما في الإنسان فإن استمرارية تلقى الإناث تساعد على تقليل حدة المنافسة بين الذكور وتجعل العلاقة الأُحادية ممكنة.



تفرض استطالة أمد عجز الطفولة الإنسانية عبئاً أكبر بكثير على الأمهات بالمقارنة مع الأمد القصير لطفولة القردة والنسانيس الأكثر خفة ورشاقة. فغالباً ما تكون أنثى الإنسان عاجزة عن جلب الطعام لنفسها ولصغارها بعد الوضع. يصدق ذلك أكثر حينما يعتمد توفير الطعام على الصيد بدلاً عن جمع الثمار والحشرات والحيوانات الصغيرة الأخرى القريبة من المعسكر. ويفرض هذا الوضع على الذكر الإنساني القيام بمهمة توفير مستلزمات العائلة. ووفقاً لعبارة هوكيت وآشر السلسة التى سبقت الإشارة إليها فإن "كل ذلك يؤدى إلى تأنيث الآباء".



العائلة أقدم المؤسسات الاجتماعية الإنسانية وأكثرها دواماً. وهى ثابتة لا بمعنى أنها لا تتغير، فالاختلافات في تركيب الأسرة لا حصر لها، وإنما لأنها ربما تبقى على هذا الشكل أو ذاك مؤسسه قاعدية للإنسان ما بقى النوع الإنساني. كان هنالك جدل كثير حول الأهمية النسبية لكل من المحددات الوراثية والثقافية للدافع الجنسي والتنظيم الأسرى للإنسان. فمن الواضح أن الاثنين مهمان. ربما لا يتطرق لأحد الشك في حقيقة أن الدافع الجنسي نتاج آليات وظيفية ترسخت وراثياً. لكن مظاهر هذا الدافع يكيفها الإطار الثقافي. ولا يجوز افتراض انتظام الأساس الوراثي لجينات الإنسان بسبب انتشارها الواسع في النوع الإنساني. على العكس تماماً، فإن التباين الوراثي في الأشكال المفضلة المختلفة لإشباع الدافع الجنسي وفى حدته وتوقيته، مألوف وهام. ويحدد تعقيد العادات والعوامل الاجتماعية-الثقافية الأخرى السلوك الصريح والقنوات التى ينبغي أن توجه إليها الرغبات الجنسية. وقد نمى صرح هائل من القواعد السلوكية والمحظورات صار مفروضاً على الدوافع الفسيولوجية المكيفة وراثياً. بعض المجتمعات أكثر إباحية وبعضها أشد تزمتاً في القواعد التى تضعها للتحكم في علاقات الجنس والأسرة والنسل. ولم يترك أي مجتمع معلوم في الماضي أو الحاضر هذه الأمور كلياً لهوى الأفراد وتقديرهم.



تتشابك العوامل الوراثية والثقافية في علاقات الأب/الأم-الطفل أيضاً. هنالك احتمال كبير بأن يكون تركيز الارتباط العاطفي للأم بابنها أو أبنائها متأصلاً في الجينات، وإن لم يكن هذا الموضوع قد أوفى حقه في الدراسة من الوجهة الوراثية. ويحتمل أن يصدق الشئ نفسه على علاقات الأب-الابن، وان كانت الجذور الثقافية أقل تعمقاً هنا، كما أن علماء الأنثروبولوجيا أفاضوا في وصف الحالات المحددة ثقافياً.



تصعب تماماً المبالغة في أهمية عجز الطفل الإنساني واعتماده الكلى على الأم بالنسبة لتنامي الإنسان. فلا بد لكي يبقى النوع من التعديل والضبط التطوري، ولهذا التعديل والضبط أهميته من الوجهتين البيولوجية والثقافية. وكما أشار وادنجتون (1960) فإن للطفل سعة وراثية ليكون "متلقياً للسلطة" وليكون "كائنا أخلاقياً". ولم تزود العملية التطورية الإنسان بمبادئ وقيم أخلاقية محددة، لكنها هيأت أطفاله وأعدتهم لاستيعاب مثل هذه المبادئ والقيم من الأبوين ومن الأقارب وغيرهم من ذوى السلطان. يجعل هذا من اليسر بمكان انتقال الأخلاق والقيم التى يتم تطويرها ثقافياً ويجري توارثها جيلاً بعد جيل.



طرح بعض علماء الأحياء، ومنهم من صار من دعاة المذهب "الإنساني"، فكرة مفادها أن الأخلاق تم تشكيلها وتثبيتها بحسبانها دوافع غريزية وراثية عن طريق الاصطفاء الطبيعي. لكن الذى حدث فعلاً أكثر إثارة ومدعاة للاهتمام. ما يتم ترسيخه بالتكيف البيولوجي ليس طبيعة المبادئ الأخلاقية ومحتواها وإنما القدرة على الصيرورة الأخلاقية. أما طبيعة المبادئ الأخلاقية ومحتواها فتجيء من التطور الثقافي البيولوجي. وربما أمكن أن نقول بتعبير فرويد أن الذى يورث هو القدرة على تكوين ذات عليا (سيوبر ايقو) لا نوع الذات العليا التى تتكون. ويلزم تذكير الذين يستنتجون من ذلك أن الأساس البيولوجي للذات العليا ليس مهماً، بالمدى الواسع للتباين بين المتلهفين على تلقى السلطة والمتمردين عليها، وبأن قدراً من هذا التباين يمكن أن يكون وراثياً.



لقد اكتسبت الأبوة بالنسبة للإنسان، افتراضاً في المراحل الباكرة لتطور الإنسانية، معنىً لم يكن ممكناً لحيوان أن يمنحه لها. يجيء هذا المعنى من اكتساب الإنسان للوعي بالذات وبالموت. فالأب صار يعي بزواله ووقتيته. ومن المحتمل أن يعيش الأطفال والأحفاد وأبناء الأحفاد حينما لا يكون الأب حياً. وللإنسان أمل، ربما توهم، أنه سيبقى بشكل ما في ذريته. وتبدو الحياة التى يكرسها الفرد لأسرته ولذريته ذات معنى؛ وهو يمكن أن يتخبره بأن يقبض على جزء دقيق ويسير جداً من ذلك الخلود الذى يصبو إليه ولا يستطيع تحقيقه منفرداً.



وتعد رموز الخصوبة من أقدم الأدلة على يقظة الإنسان الروحية. ووفقا لهوكس و ولى (1963) "استمدت الدوافع الدينية للعصر الحجري قديمه وحديثه أقوى عناصر تماسكها وأكثرها تحديداً من الرغبة المشتركة في الخصب. وقد لوحظ أنه على الرغم من التداخل والارتباط الشديد للدين في العصر الحجري القديم مع الطقوس الطوطمية الأرواحية وسحر الصيد، فإن أكثر مواضيع تلك الطقوس تطويراً وأشدها وضوحاً تماثيل الأم-الآلهة وأعضاء الذكورة المنقوشة. ولا تزال لهذين الرمزين السيادة المطلقة في الآثار الثقافية الأولية للعصر الحجري الحديث*... ومهما كانت الشكوك، فلا شيء يمكن أن يزعزع الشهادة الصامتة للمئات فوق المئات من الدُمى الطينية والعظمية والحجرية الصغيرة للآلهة الأم.



قد تبدو هذه التماثيل الفينوسية العتيقة ببطونها الحبلى وأردافها المبالغ في ضخامتها سخيفة ومنافية لمزاجنا العصري. لكن مع ذلك فإن طقوس الخصب المتقنة الإخفاء لا تزال باقيه. ولا تزال الرموز المتعلقة بعضو الذكورة بارزه في أدياننا البدائي منها والمتقدم. ويرمز إلى الإله سيفا في الديانة الهندوسية بذكر وفرج منقوشين بطريقه اصطلاحية. وقد قام الفيلسوف الروسي رازانوف Rozanow بمحاولة ملفتة للنظر لتفسير النكاح والتناسل البشري بحسبانهما طقوساً شبه دينيه. وطرق قودينف (Goodenough 1965) أفكاراً مشابهة.



يمكن بمعنى أوسع أن نقول أن أشكالاً حديثه لطقوس الخصب تمنح معنىً لوجود ملايين غفيرة من الناس الأحياء. فالإنسان يسعى للإشباع الجنسي، ثم الارتباط الأسرى، ويكد لتحقيق أمن ذريته ورفاهيتها. ويشكل هذا المسعى خططاً للحياة ترسخت في دوافعنا الغريزية المؤسسة وراثياً بحيث صار الجميع تقريباً يسلمون ببداهتها وقلة صغيره فقط تساورها حولها الشكوك. ومع أن الجذور البيولوجية لهذا الجهد والمسعى الإنساني لا يتطرق إليها الشك، إلا أنه يتخذ على المستوى الإنساني الإتقان والزخرف الثقافي العفوي للرمزية والأسطورة والتصوف والشعر والفن. وتحظى الأمومة بالتقدير وربما التقديس لدى معظم الناس. وقد صارت المادونا والطفل رموزاً مقدسة للمسيحية. ولا نحتاج للذهاب بعيداً لنرى هنا الآلهة الأم التى استعادت وقارها القديم؛ فالتعلق العاطفي العميق برمز الأمومة بين تماماً.



لا يتفرد الإنسان بالتأكيد بخاصة كونه يسعى لا للجماع مع قرينه وحسب وإنما للتعاون معه في تربية النسل أيضاً. هذا التعاون مفهوم ومتوقع تماماً من الناحية البيولوجية. وقد تطور بصورة مستقلة في المجموعات الحيوانية المختلفة التى ظهر فيها. ففي الكثير من أنواع الطيور لا يكون الأبوان أُحاديا العلاقة وحسب وإنما يتعاونان على تغذية النسل وحمايته. ألا يكون في ذلك تفسيراً للتعلق الشديد للكثيرين بمراقبة الطيور؟ حتى تضحية الأبوين بالنفس لصالح النسل ليس أمراً نادراً تماماً؛ فالأب في بعض الطيور والثدييات يضع نفسه في موقع الخطر ليدرأ عن صغاره أذى العدو المهاجم. أما مسألة تطابق هذا السلوك الإيثارى موضوعياً مع السلوك الإيثارى للإنسان فموضوعه مختلف. لقد مال كثير من المراقبين لتلك المطابقة؛ لكن من المشكوك فيه تماماً أن يوجد الإيثار الإنساني - حب الخير - حينما لا تكون هنالك قدرة على التمييز بين خيارات بديلة وعلى اتخاذ القرار الحر باختيار أحدها. من الناحية الأخرى فالرعاية الأبوية ليست بالتأكيد مقصورة على الإنسان. لكن هذا الدافع الغريزي ضعيف نسبياً ولا يتدعم بالتوق للانتساب للآخرين إلا لدى الإنسان وحده. ولهذا السبب فإن الإنسان وحده هو الذى يمكن أن يصاب بخيبة الأمل حينما يلقى الأبوان العقوق والرفض بدلاً من محبة الأبناء.



هل يكفى إذن أن يعيش الإنسان ليحيا، يعيش لينجب مزيداً من الحياة، حياة تصل السلسلة إلى الأبد كما يأمل؟ هذا هو الجواب الوحيد المعقول للسؤال عن معنى الحياة بالنسبة للكثيرين، فسلسلة الحياة الأبدية هي النوع الوحيد من الخلود الذى يمكنهم الاعتقاد به. ولو أمكن لحيوان أن يسأل عن معنى الحياة لكان الجواب الوحيد هو أن الحياة نفسها هي معنى الحياة. لكن هل يكفي هذا الجواب بالنسبة للإنسان؟ لا بدَّ وأن يكون الحيوان الذى يفطن لهذا السؤال في المكان الأول إنساناً.



لقد رأى كامو في لمحة شديدة الفراسة "إنني أعرف أن لشيء في هذا العالم معنى هو الإنسان، لأنه الكائن الوحيد الذى يطلب أن يكون له معنى". هنا تكمن قوة الفكرة الأزلية وضعفها.. إن الحياة غاية في ذاتها. هذه الفكرة تبقى على الحياة، فهل يمكنها أيضاً أن تشبع عقلاً أسبغت عليه نعمة أو نقمة الوعي بالذات وبالموت؟ هل لا بدَّ من العثور على معنى للحياة الإنسانية في شيء يتجاوزها ويعلو عليها، إن كان العثور على هذا المعنى ممكناً؟



كان على الإنسان دائماً أن يكدح ويناضل للحفاظ على حياته قبل أن يسأل عن السبب الذى يعيش لأجله. يعجز الذين يعيشون منا في رغد وأمن نسبى أن يدركوا أن مهمة البقاء على قيد الحياة كانت ولا زالت تستغرق كل الوقت لأناس كثيرين. فالجوع لم يكن بعيداً جداً أبداً، والأمراض والكوارث من كل الأنواع تتعقب الناس. الذين خبروا الحياة تحت ظروف كهذه يعرفون أن دافع البقاء يكون كثيفاً بلا تردد ولا انقطاع، لكنه مع ذلك لا يحل كلياً محل السؤال عن المعنى وراء كل ذلك العناء.



اقتفى كثير من علماء الإنسان أثر تايلور وفريزر بالقول أن الإنسان اخترع السحر خلال نضاله لكي يبقى على قيد الحياة، وأنه من السحر نشأت الأديان. ولا يشترك كل دارسي هذه المواضيع مع هذا الرأي، إذ يفترض الكثيرون وجود منشأ مستقل لكل من السحر والدين. الدين هو ما يفعله الإنسان بهمه الشاغل، بمصيره، أما السحر فنفعي. لقد رغب الإنسان في مراودة قوى الطبيعة التى أعيته ولم يفهمها، في السيطرة عليها وتطويعها لإرادته. وصف مالينوفسكى هذه الوظيفة النفعية للسحر، وقد اقتبسنا ذلك من قبل. لكن المعتقدات السحرية تعلق بكل الأديان تقريباً، البدائي منها والمتقدم. ولا نحتاج للدخول هنا حلبة الجدال لنقرر إن كانت الأسحار مجديه أحياناً. ولا يلزم أن نكون في عداد الغيبيين للتسليم بأن الأسحار قد تحقق ضرباً من الأعاجيب لمن يؤمنون بها.



يشدد قود (Goode 1955) محقاً على أننا : "مطالبون بمنح نفس الأهمية الفكرية والعلمية لكل من الأنظمة الدينية الخاصة بداهومى والرومان الأوغسطيين، زوفو والتبت، اللاكونديين والنفعيين، باختصار للأديان البدائية والمتمدينة على السواء. صحيح أن وقع بعض الأديان كان أشد على حياتنا الخاصة لأنها شكلت جزءاً كبيراً من تقاليدنا ومعتقداتنا الجماعية، كالعبرانية مثلاً. لكن ذلك لا يميزها عن الأديان البدائية بحسبانها مصادر للبحث عن الحقائق البنيوية الأساسية في الأنظمة الدينية".



يصدق الشيء نفسه على جانب المسألة الذى يشغل عالم الأحياء التطوري. لقد تنامت لدى الإنسان سعة، حاجة في واقع الأمر، لأن يكون له دين؛ فما ترى كان ممكناً أن تكون الدوافع أو الوظائف التى منحت قدرة اصطفائية وصلاحية تطورية لأولئك الذين تمت تلبية هذه الحاجة لديهم؟ هذه مسألة لا طائل وراءها، حتى لو كان قود محقا في أن "أديان الإنسان الفطري ستظل مجهولة لكل العلماء الاجتماعيين إلى الأبد، برغم أن الكثيرين من العلماء - الشعراء سيثابرون على الاقتناع بأنهم ألهموا تلك المعاني".



لا يمنح السحر تبصراً في معنى الحياة مهما بلغت درجه الإيمان والتعلق به. وسواء كان السحر مفيداً للبقاء أم لا فهو لا يفيد في معرفة ما نعيش لأجله. الأديان هي التى توفر الأجوبة على تلك الأسئلة، أما مصداقية تلك الأجوبة فهي بالطبع مسألة أخرى. لقد وجد الإنسان في العالم بمشيئة الله، ومعنى وجوده هو أن يعبد الله. والله أو الآلهة، مهما كان تصورها في الأديان المختلفة، أزلية لا تموت. أما الإنسان فهو واع بوقتيته وتشظيه**. ويصف هارتشون الدين بأنه "قبول الإنسان لتشظيه". ويتغلب الإنسان على تشظيه ووقتيته بأن يكون جزءاً من الحياة الأزلية الجليلة، على الأقل في خياله.



هنالك تصورات مختلفة لمشاركة الناس في الحياة الأزلية في الأديان المختلفة. ليس هنالك وعد أو وعيد بالجنة أو النار في التوراة، لكن عقيدة بعث الموتى ترسخت في اليهودية في الحقب التالية للإنجيل. وهذه العقيدة واضحة بجلاء في المسيحية والإسلام. وقد صور المفهوم الأصولي في آلاف اللوحات التى تبين القضاء الأخير في الكنائس المسيحية، غالباً بتفاصيل مرعبة؛ كما وصفت بالقدر نفسه من الاهتمام بتفاصيلها المرعبة في ملحمة دانتى الكلاسيكية. ليس الموت سوى وقفه عابرة في مدرج الروح الأبدي. ويحل البعث في النهاية محل الموت، لا بعث الروح فحسب (فهى لا تموت أبداً) وإنما أيضاً بعث الجسد الذى يعيش أبداً فيما بعد. لكن الحياة الأبدية تتفرع تفرعاً ثنائياً مفزعاً، ليس فيها سوى بديلين، أما الثواب والنعيم الأبدي لصالح الأعمال أو عذاب النار وغمها لطالحها.



ترفض البوذية والهندوسية هذا النوع من الخلود كلياً. فالأرواح التى تتحرر من إسار البدن عند الموت تتناسخ، هنا في الأرض، مرة تلو المرة، في أجساد أخرى. ويعتمد نصيب التجسدات المتتابعة من النبل والانحطاط على الحسنات والسيئات التى تراكمت خلال التجسد السابق. ولا يُعد تجوال الروح عبر التجسدات المتعاقبة شيئا طيباً أو مرغوباً. العكس تماماً صحيح لأن غاية الترقي الروحي هى انتهاء غربة الروح واندماجها في الذات الإلهية أو في جوهر براهما الكون الأصلي أو النيرفانا.



ويبدو أن الفكر الخلاق في المسيحية يتجه إلى نوع من تمثيل الوجهات المتعارضة المتعلقة بالخلود. فالإنسان المعاصر يشمئز من عسف التفرع الثنائي بين الجنة والنار، السعيد والشقي. ومن الواضح أن طهارة الحياة الإنسانية أو فسادها يشكل سلسله متصلة، لا تفرعاً متعسفاً إلى طائفتين منفصلتين. يحاول تيليش (1963) حل هذا الأشكال كالتالي : "على المسيحية أن ترفض إنزال رمز الخلود واستخدامه للتعبير عن هذه الخرافة العامية رفضا تاماً؛ وذلك لأن المشاركة في الأبدية ليست "الحياة القادمة". لا وليست هي خاصة نوعية طبيعية للروح الإنسانية. المشاركة في الأبدية فعل خلقي إلهي يبيح به للزمني أن ينفصل عن الأبدي وأن يعود إليه". ويتابع تيليش : "كثيراً ما يستخدم رمز البعث استخداماً عاماً لتأكيد حتمية انبثاق الحياة الأبدية من موت الحياة الزمنية. انه بهذا المعنى طريقة رمزية للتعبير عن المفهوم اللاهوتي الأساسي للوجود الجديد. وكما أن الوجود الجديد ليس وجوداً آخر وإنما هو تحول من الوجود القديم، فإن البعث ليس خلقاً لحقيقة أخرى في مواجهة الحقيقة القديمة، وإنما هو تحول ينشأ نتيجة لموت الواقع القديم وينبثق منه".



لقد توصل الناس في كل مجتمع إنساني معروف، وفى كل حضارة سلفت وأبقت سجلاً تاريخياً يدل عليها إلى أنساق من الأفكار الدينية يتعلق بمعنى حياتهم والطريقة المناسبة لتوجيهها. ومع أن الأنساق الدينية المختلفة ليست متشابهة، بل تتعارض في بعض النقاط أحياناً، فهي تؤدي وظيفة لا غنىً عنها. الدين يمكن الناس من تحقيق السلام مع أنفسهم ومع العالم الرهيب الغامض الذى أوجدتهم فيه قوى أكبر منهم. وقد كان الدين عمومية ثقافية شاملة للنوع الإنساني منذ أقدم العصور لأن رموزه وأساطيره وفلسفاته وفرت الأجوبة لمسائل الوجود الإنساني التى تفوق حد الوصف. ولأن الدين يجيب على تلك الأسئلة، أو لأنه يبدو كذلك، فقد صار أداة التماسك الاجتماعي.



كثيراً ما زعم أن الدين مفيد اجتماعياً حتى بيولوجياً لأنه يمنح إقراراً غيبيا للأخلاق؛ وأن هذه الوظيفة انتهت أو أنها حتماً إلى زوال بعد أن يتوقف الناس عن عدّ مثل هذا التصديق الغيبي ضرورياً. لكن الدين لم يتمكن من توفير هذا الإقرار إلا لكونه منح معنىً لأفعال الإنسان بأن أعطاها مرجعية في مصيره. فحياة الأفراد وربما المجتمعات التى ينتمون إليها، ينظر إليها بحسبانها جزءاً من مخطط جليل فرضته سلطة الأهمية. حقاً تمت المبالغة في هذه الفكرة من حين لآخر لإيجاد المبررات الزائفة للحروب والاضطهاد الديني. غير أنها بالمقابل حدت بالكثيرين لتكريس حياتهم لخدمة بنى جنسهم بدافع الإحسان والتواضع والمحبة، مطمئنين إلى أنهم بذلك يخدمون الرب. هكذا مكّن الدين الفرد من اكتساب هُويَّة تماثله مع مجموعات أخرى أكثر ثباتاً من ذريته وعائلته النووية.



تبقى القبيلة والأمة والإنسانية ككل أكثر من مدى حياة الفرد، وربما إلى الأبد. كذلك يؤمل أن تفعل مهنة مثل العلم والفن أو حركة مثل الكنيسة أو الطائفة، أو مؤسسة مثل الحزب السياسي. وقد أثبت الناس حيناً بعد الآخر قدرتهم على التضحية بأنفسهم لمصلحة، حقيقية أو متخيلة، لحركات تستمر في البقاء والنمو بعد أن يموت الشخص الذى ضحى بحياته. وتضفي قدرة الناس على اكتساب هُويَّة تماثلهم مع مجموعات وحركات ومؤسسات معينة تماسكاً شديداً عليهم. ولهذا التماسك أهمية كبيرة جداً في تطور الإنسان. إنها تجعل التاريخ الإنساني مختلفاً عن التاريخ البيولوجي. النقطة الجوهرية هى أن تماسك المجموعات الإنسانية يستمد من وعيها بذاتها بينما تماسك السرب والقطيع وخلية النحل أو النمل مستمد من سلوك غريزي ينتقل من جيل إلى آخر عن طريق المورثات البيولوجية.



ولا بدَّ، بغض النظر عن اختيار المرء الديني أو اللا ديني، من الاعتراف بأن الدين جزء أساسي من الثقافة. ويذهب توينبى (1961) أبعد من ذلك إذ يتفق مع مؤرخ آخر هو دوسون على أن "الحضارات العظيمة في العالم تنتج عن الأديان العظيمة بحسبانها إفرازاً ثقافياً ثانوياً؛ الأديان العظيمة هي الأساس الذى تنبني عليه الثقافات العظيمة". ومهما يكن الأمر فإنه يستحيل لفظ جزء من ثقافة دون أن تسبب الأذى للكل. وكما أشار ميد (Mead 1955) "فسواء كانت حضارة ما محكمة التماسك أو مرنة مسترخية، وسواء كانت أخلاقها متوافقة داخلياً أو كانت عميقة التناقض، سواء كانت الممارسات في أحد جوانب الحياة متطابقة أو متعاكسة،، أو لو كانت تبدو عند الفحص الخارجي منفصلة عن الجوانب الأخرى، فلا بدَّ أن يتضح عند الفحص الأنثروبولوجي الدقيق انتسابها بعضها للبعض بطريقة نظامية".



لقد تأسست الحضارة الغربية على الأساس الديني اليهودي-المسيحي (بما في ذلك الروسية التى أسماها توينبى الحضارة المسيحية الأرثوذوكسية). وقد ذودت المسيحية تلك الحضارة لأكثر من ألف سنه بمعاني الوجود الفردي وأهدافه والمشروعات الجماعية التى تكمن في أعماق تراثنا الحضاري. لكن هذا الأساس الديني تعرض للتآكل منذ قرنين ونصف من الزمان بسبب تعارضه الحقيقي أو الظاهري مع القوة المتنامية للكشف العلمي، ولا يزال هذا التأثير ينمو نمواً مضطرداً. وقد كُتبت آلاف الكتب والمقالات حول هذا النزاع، بعضها يسعى لما يسمى بـ "التوفيق" بين العلم والدين، وبعضها يحاول أن يبين أن العلم وحده هو القادر على توفير الأساس الروحي للوجود الإنساني، معتبراً بذلك أن كل الأديان قد استنفذت أغراضها. ليس في نيتي أن ألخص هذه الأدبيات المرتبكة والمربكة ولو باقتضاب. إنني أعتقد أن العلم، وعلم الأحياء على وجه الخصوص، ذو علاقة وثيقة بمصير الإنسان، ولا بدَّ لتبيان هذه العلاقة من التذكير ببعض الحقائق، وببعض المحاولات لربط هذه الحقائق في الإطار العام للأمر قيد البحث.



كان كوبرنيق على فراش الموت حينما نُشر كتابه الذى أوضح فيه أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها مجرد كوكب يدور حول الشمس، وذلك في عام 1543. ولم يجذب الكتاب إلا اهتماماً قليلاً في بادئ الأمر. وقد نبذ كالفن نتائجه تلك بازدراء متسائلا "من يجرؤ على وضع حجة كوبرنيق فوق سلطان الكتاب المقدس؟". لكن الأمر لم يترك للسكون عند هذا الحد. فقد أوضح كبلر في سني 1609-1619، وجاليليو في سني 1610- 1632 أن كوبرنيق كان على حق. أثار ذلك زوبعة، فاستدعى جاليليو للمثول أمام محكمة التفتيش وأجبر على الإقلاع عن هرطقته. ثم جاء كتاب ديكارت "خطاب في المنهج" عام 1637، وكتاب نيوتن "المبادئ الرياضية" في 1682، وكتاب لوك "مقال بخصوص الفهم الإنساني" عام 1690. وقد رأى نيوتن مناسباً أن يصف نفسه في أخريات أيامه بأنه "جامع الحصى اللامع في شاطئ المجهول العظيم". لكن صورة نيوتن عن العالم وجدت مع ذلك قبولاً عاماً جعل الكنيسة تراعي الحذر في معارضة اكتشافاته بالطريقة التى اتبعتها مع جاليليو. لكن تكرر ذلك المشهد غير اللائق بعد قرنين، وذلك في عام 1859 وبعده. فقد صرفت نظرية داروين للتطور العضوي بدعوى أنها تناقض ما يعتقد البعض أنه قصة الخلق الموحى بها. وتعرض العالم سنة 1925 لمهزلة "محاكمة القرد" في ولاية تنسى. في الوقت نفسه تقريباً قام رؤساء تيلار دى شاردن في جمعية المسيح، وهو أحد أعمق الفلاسفة الدينيين في زماننا، بمنعه دون ضجيج إعلامي من نشر كتابه الذى يرسم الخطوط العريضة لمفهومه للإنسان بحسبانه نتاجاً للتطور.



لا يزال هنالك الكثير من الناس الذين يحسون بالسعادة والراحة في التمسك بعقائدهم الأصولية. ولا ينبغي أن يثير ذلك الدهشة، لأن أغلبية كبيرة منهم تتساوى في جهلها بالاكتشافات العلمية مع الناس الذين عاشوا قبل قرون. لكن الظاهرة غير الاعتيادية حقاً هي الوجود المستمر لأقلية صغيرة من الأصوليين الدينيين ذوى الثقافة العلمية الذين يعرفون أن معتقداتهم تتعارض تعارضاً تاماً، بيناً، صارخاً مع الاكتشافات العلمية الراسخة. وتنشر في الولايات المتحدة (أو ربما كانت تنشر حتى وقت قريب) مجلة جيولوجيا الطوفان، كما طبع على الأقل كتاب "علمي" واحد يتناول هذا الموضوع الغريب. وكانت لي مراسلة عقيمة مثيرة للحنق مع أحد معارضي التطور "الخلقيين" ممن لا يمكن اتهامهم بعدم معرفة الحقائق والأدلة العلمية. إن المناقشة مع مثل هؤلاء الناس مضيعه للوقت، وإني أعتقد أنهم أناس تعساء يحسدون أولئك الذين يعينهم جهلهم الصريح على التمسك بمثل تلك الأفكار.



العلم والدين يتناولان جانبين مختلفين للوجود، يمكن مراعاة للتبسيط أن نقول أنهما جانبا الحقيقة والمعنى. فمن الممكن للمرء أن يدرس الحقائق دون أن يكترث لمعناها. لكن هنالك حقيقة واحدة هائلة جابهت الناس طوال مراحل استنارتهم حاولوا معرفة معناها بلا انقطاع، تلك الحقيقة هي الإنسان. فالكتب المقدسة (المسيحية - اليهودية - الإسلامية - البوذية والأخرى) ليست مراجع علميه. إنها تتحدث برموز دينيه. تفتح هذه الرموز : "مستوى من الواقع يظل مغلقاً وخبيئاً تماماً بدونها. نستطيع أن نسمى هذا العمق بُعد الواقع نفسه...إن هذه الرموز الدينية تفتح تجربة بُعد هذا العمق في نفس الإنسان وأن مناقشة الحقيقة النهائية هي بُعد المقدس. وهكذا يمكننا أن نقول أيضا أن الرموز الدينية هي رموز المقدس" (تيليش 1964).



لا يعنى ذلك أن على الإنسان أن يفصل أفكاره العلمية والدينية عن بعضهما البعض ويضعهما في حاويتين محكمتي الاقفال. لذلك فنحن نجابه دائماً الخطر الذى رآه سانتايانا بوضوح : "الدين الذى يضع يده على جوهر الحياة كالمسيحية، ينبغي أن يكون ديناً أبدياً. لكنه يمكن أن يفقد هذه الميزة حينما يوقع نفسه في حبائل روايات معينة تتعلق بعالم الحقائق، وهى مسائل لا علاقة لها بأهميته المثلى".



تنشأ مثل هذه التعقيدات باستمرار. من الواضح أن الفهم العلمي للطبيعة ليس مكتملاً. بعض الظواهر الطبيعية مفهوم وبعضها الآخر غير مفهوم. ويبدو مغرياً لبعض الناس، حتى لبعض العلماء، أن يسدوا تلك الفجوات في المعرفة العلمية بالقدرة الإلهية. وقد سبق أن تعرضنا لعقم هذه الاستراتيجية الدينية في الفصل الثاني. فليس هنالك ما هو أيسر من اكتشاف مثل هذه الفجوات لأن أي عالم طبيعي يرجى منه أي نفع يعرف الكثير من هذه المسائل والظواهر التى لا زالت قيد البحث أو التى استعصى فهمها. هل هذه هى المسائل المفضلة لتدخل الآلهة؟ وهل تخرج الظواهر المفهومة علمياً عن نطاق الفعل الإلهي؟ لا يمكن لأحد أن يدافع بجدية عن مثل هذا التفكير المختل. مع ذلك فلا حدَّ للسرور الذى يمكن أن يدخل على ذلك النوع الشائع من المتدينين حينما يقال لهم أن العلم لا يستطيع أن يفسر هذا أو يعلل ذلك. فما لم يتم تفسيره يؤخذ على انه غير قابل للتفسير، مع أن أولويات المعرفة بتاريخ العلم تكفى لدحض هذه المغالطة العتيقة. وقد بذلت محاولات لحجب مساحات شاسعة للمعرفة عن العلم، من الكاردينال بلا رينين Cardinal Bellamine الذى قال عن كوبرنيق وجاليليو ان "اكتشافاتهما الكاذبة أفسدت مشروع الخلاص المسيحي بكامله" إلى وليام جننق برايان الذى قال "الأفضل أن نضع ثقتنا في صخرة الزمان من أن نعرف أزمان الصخور" .. وان "النزاع بين التطور والمسيحية مناجزة حتى الموت". وكان هناك دائماً دافع واحد لذلك، هو حماية التراث الديني من هجمات المتشككين والمرتابين. سببه الاعتقاد أنه لو تم التسليم بطرح أي جزء من التراث الديني فلن يكون هنالك حداً للتنازلات يمكن الوقوف عنده. قاد ذلك إلى عجز القادة الدينيين عن أداء واجبهم الرئيس، وهو التمييز بين الأبدي في معتقداتهم والمكونات الوقتية التى جاءت اعتباراً لمستوى معين من الفهم العام أو للوضع الاجتماعي- السياسي الذى وجد الدين نفسه فيه خلال تاريخه. وقد أدى ذلك التضاد الحرون إلى التراجع المستمر المشين للدين الأصولي.



كانت المسيحية ديناً تخلل بعمق كل جوانب حياة الناس في الحضارة الغربية. ثم اكتشف "المستنيرون" في القرن الثامن عشر، عصر الاستنارة، إن فرضيه الله لا ضرورة لها. فالعالم آلة ضخمة لكنها دقيقة جداً، تسير وفق القوانين الثابتة التى اكتشفها نيوتن. وقد سلم بعض "المستنيرين" بأنه ربما كان هنالك إله صمم تلك الآلة وقام بصنعها، لكنه لم يعد يتدخل في سيرها بعد ضبطها، كآلية ساعة ضخمه فائقة الدقة. انه أشبه بالمالك الغائب الذى لا يشارك إلا نادراً، أو لا يشارك إطلاقاً في إدارة شئون أملاكه. من الواضح أنه لا فائدة ترجى من التوجه بالصلاة والابتهال لهذا الرب الغائب. والآن لم تعد اللا-إدرية واللا-تفريقية امتيازاً للصفوة الشديدة الاستنارة. وربما صارت أغلبية الناس في الغرب وفى بلدان الشرق المتقدمة مثل اليابان لا تؤمن بأديانها إلا إيماناً شفوياً لا يصدر عن القلب. ذلك يصدق حتى على بعض الذين يذهبون إلى الكنيسة صباح كل أحد ويضخمون سجلات الملل الدينية.



مع ذلك فالإنسان الحديث، هذا اللا ديني المستنير المرتاب، لا يستطيع أن يمسك نفسه من التساؤل، على الأقل سراً، عن القضايا القديمة : هل لحياتي معنى وهدف أبعد وأسمى من الحفاظ على حياتي ومواصلة سلسلة الحياة؟ هل للكون الذى أعيش فيه أي معنى؟ أم أن كل شيء فيه لا يعدو أن يكون ملهاة هزلية ورقصة شيطانية؟ العجيب حقاً أن هذه الأسئلة صارت مؤخرا أشد إلحاحاً بعد أن سرت أقوال الفلاسفة بأن على العقلاء أن يكفوا عن توجيه هذه الأسئلة التى لا معنىً لها. وقد أخذت الأديان البديلة تنمو نتيجة لذلك وتكسب أتباعاً كثيرين، لأنها تنفى عن نفسها التناقض مع العلم وتدعى الإجابة عن تلك الأسئلة القديمة "علمياً". والدين البديل الأكبر بما لا يقارن أنبياؤه ماركس ولينين. وهو يزعم أنه لا يستند إلى الإيمان المجرد، بل أن صدقه يمكن إثباته بالبرهان العلمي. وهو يعد كل إنسان بنصيبه العادل، وإن لم يكن بالضرورة المتساوي، من ثمرات الأرض، ويتعهد بمنع الجشعين من اغتصاب الملك العام. وهو يلتزم بأن يوقف استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وأن يمكن كل فرد من التنامي الكامل والتحقق التام لمواهبه الفردية وذوقه وقدراته المفيدة اجتماعياً. كما سيجعل كل فرد يعيش ويعمل لأجل الصالح العام - صالح الذين يعيشون الآن والذين يأتون فيما بعد.



الآن فذلك ما تعتبره المسيحية مرغوباً أيضاً، لكن من الواضح أنها فشلت في تحقيقه خلال ألف وخمسمائة عام من هيمنتها على الحضارة الغربية. وتأتى الشيوعية فتتبنى البرنامج الاجتماعي للمسيحية وتعد بتحقيقه عالمياً وبسرعة، وتعلن أن كل ما عداه في المسيحية وهم وأحبولة وأفيون للجماهير المُستَغلة. لهذا السبب فإن الشيوعية تُعد هرطقة مسيحية "بمعنى أنها أفردت بضعة عناصر منها وركزت عليها لدرجة إقصاء العناصر الأخرى" (توينبى 1961). وأن تشذيب وتبسيط الأفكار الدينية في الشيوعية، مقارناً بتعقدها ومفارقاتها في المسيحية، يزيد من إغرائها لملايين الناس. وقد صارت قوة عالمية، ويبدو أن قوتها لا زالت تتزايد في البلدان النامية. فهي تبعث تفانياً جلياً تاماً في بعض الناس، خصوصاً الشباب، وتوقظ ديناميكية اجتماعية لم يسبق لكثافتها مثيل.



لكن شبه الدين الشيوعي يتداعى عند التعرف علية والاقتراب الشديد منه تداعياً كلياً يفوق أي دين آخر. ولم يوضح أي شخص السبب في ذلك ببساطة وحسم أكثر من باسترناك: "كل ذلك (النموذج الشيوعي) لا يزال بعيداً عن التحقيق، لكن أنهر الدماء التى أسالها مجرد الحديث عنه لا يجعل الغاية حقيقة تبرر الوسيلة". ولم يجلب ذلك الحديث للملايين التى لا حصر لها من القتلى والمعذبين والمشوهين روحياً من ضحايا ستالين سوى الخوف والقهر والمعارضة المكتومة والغم ولا شيء تقريباً من السعادة الإنسانية البسيطة.



ليس هنالك في الفلسفة الشيوعية بأكملها سوى ملاحظات عابرة لإقناع الشخص الأمين المرتاب بأن الحياة التي تكرَّس لخدمة الآخرين أفضل من الحياة المكرسة للمنفعة الذاتية المباشرة. وليس بديهياً أن مستقبل الإنسانية عزيز لدينا للدرجة التى تجعل أياً وكل منا يكرس، وربما يضحي بحياته لأولئك القوم الفرضيين البعيدين الذين سيوجدون في المستقيل. ونحن بالتأكيد لن نكون موجودين لمجرد المشاهدة، دعك عن المشاركة، في ذلك النعيم. ويجعل دستويفسكى ذلك جلياً تماماً بهذه الكلمات: "لقد قاسيت لا لكي يخصب عذابي وشقائي الأرض لأجل توفيق شخص آخر. لا. أنني أرغب في أن أري بعيني رأسي الأسد والظبي يرقدان في سلام جنباً إلى جنب، والقتيل ينهض لحضن قاتليه".



إن النظرة السامية النبيلة التى ترى أن معنى الحياة يكمن في النضال لكي يصبح العالم مكاناً أفضل مما وجدناه تشكل بالتأكيد جزءاً من عدد من الديانات العلمانية البديلة عدا الشيوعية. وليس هنالك سبب واضح يمنع الناس في المجتمعات الديمقراطية من التشبع بمثل هذه الأفكار النبيلة والحماس نفسه الذى يتسم به على الأقل بعض الشيوعيين الغيورين. لكن ذلك لا يحدث في واقع الأمر إلا لأقليات صغيرة. ولا يكمن سبب ذلك القصور في الدعاية والتثقيف. فالسياسيون من كل الألوان يتشدقون بهذه الفكرة باستمرار، خصوصاً في المقدمات والتمهيدات والمحسنات البديعية التى ينمقون بها بياناتهم. وغالباً ما تتضمن تلك البيانات إشارة عابرة للمسيحية أو غيرها من الأديان العظمى لدعم الحجة. وصدق كل ذلك لا يخلو على الأقل من الارتياب والحياة لأجل الأهداف النبيلة يمكن أن يوصى بها أيضاً بحسبانها خلقاً علمانياً. وقد قدَّم فرانكل (1959) في كتابة عن قضية الإنسان العصري دفاعاً متيناً بليغأً عن هذا المبدأ الأخلاقي بحسبانه أساساً لما يمكن أن يكون ديناً علمانياً. لكن لا هو ولا أي شخص غيرة استطاع أن يجيب على شكوك ايفان كارامازوف وريبته.



أن يعيش الإنسان حياة محتشمة ويساعد الآخرين الذين هم في حاجة للمساعدة ويعمل ما بوسعه لسعادة الذين يأتون من بعده، فتلك مبادئ أخلاقية تجد قبولاً عاماً، نظرياً على الأقل. وتأتى الجدوى النظرية لهذه المبادئ في الغرب من التراث الديني اليهودي - المسيحي، لكنها الآن تحررت تماماً من الاعتماد عليه. أما قدرة هذه المبادئ الأخلاقية وحدها لأن تشبع توق الإنسان لحياة ذات معنى فذلك موضع شك. وقد ترنحت هذه المحاولات اثر النقد الكاسح الذى أوسعتها به كتابات الوجوديين الحديثين. وكما يليق بالمثقفين الحقيقيين، فإنه لا يكاد يتفق اثنان منهم على وجهة نظر واحدة. لذا فإنني اتخذ من سارتر نموذجاً لتلك الأفكار، لكنني اعترف بعجزي عن إنصاف الأفكار الكثيرة المتداخلة الظلال والمعاني لهذا الكاتب الذرب.



يبدو لي ان أدق تعبير عن فلسفة سارتر يأتي، لا من كتاباته الفلسفية الأساسية، وإنما من مسرحية الذباب les morieles وهى مسرحية جادة في قالب هزلي عن Aeschygus’s Ortsteia محاكاة ساخرة لأورستيا اسشيلس. يتحدى اورستيا سارتر الآلهة بدلاً من أن يخضع لحكمها. وهو يتحدى إنذار جوبتر "لقد خلقتك وخلقت كل شئ يا اورستيا" بصرخة متمردة "إنني غريب على نفسي وأعرف ذلك. أعرف أنني خارج على الطبيعة، ضد الطبيعة، ولا عذر لي في ذلك، وليس لي ملجأ إلا نفسي. لكنني لن أعود إلى قانونك؛ إنه محكوم علىَّ بألا يكون لي قانون سوى قانون نفسي. لن ارجع إلى الطبيعة، حيث هنالك ألف طريق، كلها تقود إليك. لا أستطيع إلا أن أتبع طريقي الخاص. ذلك لأنني رجل يا جوبيتر، وعلى كل رجل أن يكتشف طريقة بنفسه". لكن الثورة تنتهي بالشعور بالقرف "بالغثيان". ليس هنالك إله، وليس هنالك معنى في الكون. وليس للإنسان معنى في كون لا معنى له : "دون أن أقوم بصياغة أي شئ بوضوح، فهمت أنني وجدت دليلاً للوجود، إلى غثياني، وإلى حياتي الخاصة. ويتلخص كل ما استطعت التوصل إليه من بعد في ذلك العبث الأساسي. العبث: مجرد كلمة أخرى".



ليس هنالك جمال حقيقي في الكون. "... الحقيقي لا يكون جميلاً أبداً. الجمال قيمة تنطبق فقط على المتخيل، ويتطلب إنكار العالم في تركيبه الأساسي". الشر، على النقيض من ذلك، حقيقي تماماً. "الشر ليس حقيقياً فقط، إنه لا خلاص منه أيضاً". تكاد بعض أفكار سارتر عن الشر تكون تفسيراً لأفكار ايفان كارامازوف، بطل دستويفسكى. فمع أن الإنسان عبث بلا معنى، إلا أنه مع ذلك يملك القدرة على الحرية. لكن حريته من نوع شاذ؛ إنها الحرية لأن يقول "لا". وبطرق تبدو لي مستعصية على الفهم "الحرية هي تعطيل الإنسان لماضيه بإفرازه لتفاهته". وأيضاً "تتميز الحرية التى تتكشف في كربة الإنسان وغمه بالالتزام بإعادة صياغة الذات صياغة تجسد الكائن الحر" (الاقتباس من كمنج Cumming 1965).



تبدو الفلسفة السارترية مواتية إما للانتحار أو النسك والاعتزال. لكن سارتر كان على النقيض من ذلك عضواً جم النشاط في المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي وكاتباً غزير الإنتاج، ومجادلاً بارعاً شديد الدهاء. وهو يوجه ضغينته ضد النفاق الاجتماعي ودعاوى الاستقامة الكاذبة، وضد المؤسسة البرجوازية العدائية المتمكنة. وقد سعي للشراكة مع الشيوعية لكن الانحصار العقائدي الأورثوذوكسي للحزب كان فوق احتماله. وقد جعل من أحد المنبوذين "قديسا"، لأن ذلك الشخص المنكود "يضع المرآة قبالتنا فلا يكون هنالك مناص من أن ننظر فيها ونرى أنفسنا".



ينسب بارزون (1964) إلى الفنانين فضل اكتشاف "عفن الروح الجاف" في العالم الحديث الذى ينسبه المؤلف قطعياً للعلم والتكنولوجيا. وهو يفترض أن الفنانين "يمجون الثقافة العلمية ويحتقرونها" لأن "شيئاً يتخللها يفرق، لا بين الإنسان المتحضر والمتوحش، لا بين الإنسان والحيوان، وإنما بين الإنسان والروبوت، شئ يصاب بالخَدَر، يتصلب، يتساقط كاللحم الميت المسود حينما تهجم التقنية على الإحساس ويسيطر العلم على العقل". غير أن تمرد الفنان على المجتمع بعلمه وتقنيته ينتهي "بالخيانة". فقد أصبح الفنان الحديث حليفاً للعلم في عملية تجريد الإنسان من شخصيته الإنسانية التى كانت السبب في تمرده؛ فالفنان يكتشف بدوره أن الحالة الإنسانية، والحياة نفسها، ليست سوى "خداع مقيت".



ولم تعد أحاسيس الغثيان والقرف والعفن الجاف والفراغ وخداع الحياة المقيت .. الخ. حكراً للفنانين والصفوة الفكرية التى يُعد كل من سارتر وبارزون من أبرز ممثليها. لقد تسربت هذه الأحاسيس إلى "إنسان الجملة". ومن الواضح أن ذلك لم يكن لأن كتابات سارتر وبارزون صارت القراءة المفضَّلة للجماهير. السبب يكمن أعمق من ذلك. فقد جمعت تجارب مشتركة كل الفئات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية. كانت هنالك حربان عالميتان ارتكبت فيهما الأمم المشهود لها بأعلى درجات التحضر أعمالاً همجية تفوق الوصف. نحن نعرف عن معسكرات اعتقال هتلر وستالين وبرامجهما للإبادة الجماعية. الاكتشافات العلمية الخارقة الذكاء سُخرت للاستخدام الحربي. والوفرة والترف المادي تحولتا إلى علقم في أفواهنا، لأن الكثيرين جداً تستلبهم الضخامة غير الشخصية التى أنتجت هذه الوفرة. والكثيرون، خاصة الصغار، أتخموا بكل تلك الأشياء التى يفترض أن تجعل الحياة جميلة - الأكل والشراب والملبس الأنيق والنقود. لكن لأن هذه الأشياء الجميلة تأتي بيسر شديد، فما لا يكابد الإنسان للحصول عليه تنخفض قيمته وتقل القناعة التى يجلبها.



ربما كان هنالك أناس، في كل مكان وكل جيل، يشعرون أن الأشياء في العالم لا تسير على ما يرام، أو أنها تسير من سيء إلى أسوأ. لكن تعبير الاستلابalienation حديث عهد. على أية حال فإنه ليس وضعاً عادياً أو صحياً لجمهرة الناس أن تشعر بالغربة عن المجتمعات التى تنتمي إليها. يجد جولس هنري، أخصائي علم الإنسان الاجتماعي، ذلك الوضع شائعاً في الولايات المتحدة لدرجة القلق؛ وقد جعل عنوان الكتاب الذى قدم فيه نتائج دراسته "الحضارة ضد الإنسان" (1963): "حضارتنا منقادة. إنها مساقة بدوافع إنجازها، دوافع المنافسة والربح والتعبئة، وبدوافع الأمن والمستوى الأعلى للحياة. فوق كل شئ فهي مدفوعة بقابليتها للتمدد". ما الذى يحول دون الرضى والقناعة بهذه الحضارة المدفوعة؟ كما يري هنري فانه: "فيما عدا المهنيين والتنفيذيين فإن معظم الأمريكيين لا يشتركون بعواطفهم، لا في حرفهم (ما يفعلونه) ولا في عملهم (المكان الذى يؤدونه فيه). وفي النهاية فإن ما ينسب الأمريكي المتوسط للحياة والمكان والناس هو اقتصاده الشخصي الخاص - أسرته وبيته وسيارته …. الخ. حقيقة أن أغلبية الناس لا يشاركون، أو يكادوا لا يشاركون في المؤسسات التى يعملون بها تعني أن العمل الذى كان يُعد عامل التماسك الاجتماعي واستمراريته في معظم الحضارات غير الصناعية صار يجرد الناس من التماسك الاجتماعي في أمريكا. بالنسبة لأي أمريكي تقريباً فإن رفاق العمل، مهما كانت رفقتهم ممتعة، يمكن استبدالهم. الرفقة التى يكونها المرء في وظيفة معينة يمكن استبدالها بمجموعة مماثلة في الوظيفة التالية. وقد صار هذا الإحساس بالاستبدالية، بأن الآخرين يمكنهم الاستغناء عن الواحد، بأن شخصاً آخر يكون مناسباً بالقدر نفسه، عامل كآبة وانقباض فعال في الشخصية الأمريكية".



أكثر فصول تحليل هنري إخافة تلك التى تتعلق بابتذال الإنسان، بمصير أولئك الذين لا يسعدهم الحظ بالموت قبل حلول علل تقدم السن. أظن أن توينبي هو الذى لاحظ الظاهرة التى لا مثيل لها في التاريخ المعروف، بأن المتقدمين في السن فقدوا الآن حقهم التقليدي المتعارف عليه بالحصول على رعاية الأعضاء الصحيحين في أسرهم النووية أو الممتدة.



وعلى أية حال فقد صار هنري "متأثراً بالهوَّة التى تفصل الكبار عن الصغار حتى حينما يكون الكبار متيقظين عقلياً، ذلك لأن حضارتنا صارت تيَهْور الابتذال الذى يطوّح بنفسه في بحر اللا وجود".



لقد انتاب كل واحد منا الشعور أحياناً على الأقل بأن الحياة لا معنيً لها، إن العالم لا يتجه إلى مكان ما بالتحديد، ان الإنسان ليس إلا جزءاً تافهاً في نظام الأشياء، ان التاريخ يمكن أن ينتهي بمجزرة بشريه، وان نهايته، مهما تكون، ليست ذات أهمية كبيرة للذين يعيشون الآن وسيفنيهم الموت قريباً. يلوذ البعض بالأديان التقليدية. ويهرب آخرون إلى عبادة الملذَّات. ويسلك آخرون، ربما الأغلبية، أيسر المسالك، فينتهون إلى الخضوع والامتثال، وقبول أحدث أشكال "طقوس الخصب".



لقد بدت الحياة المكرسة لبناء مسكن وإنشاء أسرة ثم الاختفاء بهدوء ذات معني بالنسبة للإنسان البدائي، فلماذا لا تناسب كل الناس إذن؟ يزعم قابور في كتابه الشيق الشهير "رد ابتداع المستقبل" (1964) أن مثل هذه الحياة تصلح "للشخص العادي"، لكنها لا تصلح للشخص "غير العادي". وفي تقديره : "الحياة دورة بالنسبة للشخص الاعتيادي. انها تبدأ باكتشاف العالم الذى كل ما فيه جديد حول الطفل، ثم تتدرج للاكتشافات العظيمة للجنس والحب، وتبلع أوجها في الأسرة الصغيرة. وداخل هذه الدوائر الكبيرة دوائر أخرى صغيرة للعمل والراحة والترفيه، ورغبات متواضعة تتم تلبيتها. يمكن أن تكون هذه الحياة سعيدة حتى النهاية لو خلت من المعاناة البدنية، الشديدة، وإذا ما تعلم الكبار من الرجال والنساء محبة الجيل الجديد أكثر من محبتهم لأنفسهم". وكان قابور متفائلاً حينما قرر أن "جنة الرجل الاعتيادي تلك صارت قريبة المنال". لكن تبدو بعيدة المنال تماماً للرجل غير الاعتيادي الذى "يريد أن يترك عالماً أحسن من الذى وُجد فيه، عالماً أفضل، يثريه بقدراته الشخصية. وهو مستعد في سبيل تحقيق هذا الهدف لأن يضحي بمعظم أو بكل السعادة التى يستمتع بها الرجل الاعتيادي".



لكن التفرع الثنائي للرجل الاعتيادي - غير الاعتيادي ينطوي على تبسيط خطير. يؤدي استخدامه إلى تغذية غرور الأفراد والجماعات وعنجهيتهم. وقد يقود إذا ما سرنا به لنهايته المنطقية إلى المذاهب المرعبة، مثل محقق دستويفسكي العظيم، أو لحكام مطلقين، مثل هتلر وستالين والذين يسلكون طريقهم. غير أن الطبائع البشرية تشكل في واقع الأمر طيفاً يمتد من أدني سلم الاعتيادية إلى القمة غير الاعتيادية وفقا لتعريفات قابور. فوق ذلك فإن الألوف المؤلفة، حتى الملايين من الناس الذين راودتهم طموحات الإنسان غير الاعتيادي، خاصة في شبابهم، وفشلوا في تحقيق تلك الطموحات لأسباب عديدة، ركنوا إلى الاكتفاء بما تيسر من نتف سعادة الإنسان غير الاعتيادي التى وقعت بين أيديهم. وهؤلاء يمكن أن يحتفظوا بأمل أن تتغير الأحوال العامة في المستقبل إلى الأفضل؛ وقد يأملون ضد الأمل في أن تسهم حياتهم، ولو قليلاً جداً، في هذا التحسن العام ولو بطريقة غير مباشرة.



على أية حال، فالإنسان الاعتيادي والإنسان غير الاعتيادي أعضاء في المجتمعات والحضارات نفسها، يجعلهم ورثة تجارب تاريخية متماثلة. وقد شكلت الأديان الكبرى نظم المعتقدات السائدة في الحضارات العظيمة للشرق والغرب، وهذه الأديان الكبرى تسعي لمُثُل وقيم الإنسان "غير الاعتيادي". هذه الحقيقة تحولت دون أن يجد أي شئ دون هذه القيم والمُثُل العليا قبولاً تماماً والسبب هو نفسه الذى يجعل مادة القراءة المعدَّة للأطفال والمراهقين غير مناسبة أو مقنعة للكبار الذين تعودوا على مواد قراءة الكبار.



لنفرض أنك تعيش لأجل أطفالك، وأن الأطفال سيعيشون لأجل أطفالهم، وأن الأحفاد سيعيشون لأجل أطفالهم أيضاً وهكذا دواليك، وإلى ما لا نهاية. إن لهذا معنى من الناحية البيولوجية، لكنه تكرار بلا معنى بالنسبة لبعض الناس العاديين ولغير العاديين على السواء. اننا نرغب في أن نرى، أو على الأقل نأمل في الوصول إلى وضع ليس جديداً فقط وإنما أفضل أيضاً. لقد كان معظم الناس في الغرب يؤمنون في القرن التاسع عشر بأن التقدم يسير بانتظام، وبأن حدوثه ربما كان محتماً. لكننا لم نعد الآن تمتلك الثقة بالقدر نفسه. غير أن هنالك بارقة أمل في تمثيل جديد.



هوامش وضعتها أركامانى

* لرؤية بعض تماثيل المرأة من مواقع العصر الحجري الحديث في السودان يمكن زيارة متحف السودان الإلكتروني أركاماني.

** في ملحمة جلجامش يرد نصاً على لسان سيدوري، ساقية حانة الآلهة، لجلجامش يعبر عن هذا المعنى:

"لكن صيدك يا مليك! بلا شباك

أهل السماء لما رأوا خلق الورى

حبسوا الحياة بهم وللناس الهلاك"

للمزيد من الدراسة لملحمة جلجامش انظر محاضر د. أسامة عبدالرحمن النور، المنشورة هنا في أركامانى