المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النص والمصلحة بين التطابق والتعارض



فخر الدين المناظر
03-04-2008, 01:29 PM
هذا مقال تكميلي لمقال الأخ الفارس المفروس أعزه الله، وجدته للأخ الحبيب الشيخ الأصولي أحمد الريسوني حفظه الله تعالى.


النص والمصلحة بين التطابق والتعارض

من القضايا الآخذة في البروز والاحتداد على صعيد التشريع الإسلامي بأصوله وفروعه، قضية النص والمصلحة. ويبدو أنها ستصبح محوراً أساسياً في الجدل العلمي الإسلامي في هذا العصر على غرار قضية العقل والنقل، وقضية خبر الواحد، وقضية خلق القرآن، ومسألة الصفات، ونحوها من القضايا الشهيرة في تاريخ العلوم الإسلامية.
وقضية النص والمصلحة قريبة جداً من قضية العقل والنقل، بل هي وجه من وجوهها، أو فرع من فروعها.
وقد بدأت هذه القضية في الرواج والنمو منذ انتشار رسالة الطوفي (توفي716ه) في المصلحة واشتهارها أوائل هذا القرن الميلادي على يدي الشيخين جمال الدين القاسمي ورشيد رضا، ثم تجدد نشرها أواسط هذا القرن على يدي الأستاذين مصطفى زيد وعبد الوهاب خلاف.
وها نحن في أواخر القرن نشهد انتعاشاً وتطوراً في الفكرة التي نادى بها نجم الدين الطوفي، كما نشهد بموازاة ذلك ردوداً وانتقادات مضادة.
وعلى العموم فإن عدداً من الكتّاب المفكرين "الحداثيين العصريين" ينادون بفكرة أولوية المصلحة على النص باعتبار النص خادماً للمصلحة وساعياً إلى تحقيقيها، والمصلحة هي الأساس وهي المقصد من التشريع ومن النص. أما "الأصوليون السلفيون" فيتلقون هذه الدعوة بالارتياب والرفض.
وقبل أن أفصل القول في هذه القضية وأبيّن وجهة نظري فيها، أريد أن نميز بين مجالين من مجالات إعمال المصلحة والاحتكام إليها:
1- مجال القضايا والمسائل التي تناولتها النصوص وقررت لها أحكامها بتفصيل ووضوح.
2- مجال القضايا المستجدة التي لا يتناولها نص خاص وبشكل محدد ومباشر. ولا شك أن النقاش الذي ينمو اليوم ويحتدم إنما يتعلق بالمجال الأول خاصة، أما المجال الثاني فالخَطْب فيها يسير والتنازع فهي قليل، على الأقل من حيث الأساس النظري. ولذلك أدع الحديث عن المجال الثاني مُرَكِّزاً على المجال الأول، وعلى بعض مسائله خاصة.

الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة

أما كون الشريعة مصلحة، فهو أمر مسلم به لدى عامة المسلمين وخاصتهم، مقول به عند جماهير العلماء من كل عصر وفي كل مصر وعند كل المذاهب سوى الظاهرية.
ومن أقوال العلماء المعبرة عن هذا المعنى:
- الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد.
- الشريعة نفع ودفع.
- الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها.
- الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً.
- الشريعة بمناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وصالح كلها.
- حيثما كانت المصلحة فَثَمّ شرع الله، وحيثما كان شرع الله فَثَمّ المصلحة.
بل إن نجم الدين الطوفي الذي اشتهر بالقول بإمكان التعارض بين النصوص والمصلحة، نجده في الكتاب ذاته يقول: "… وبالجملة، فما من آية من كتاب الله عز وجل إلا وهي تشتمل على مصلحة أو مصالح"،1 ثم يضيف أن شأن السنة كشأن القرآن لأنها، كما يقول: "بيان للقرآن، وقد بيّنا اشتمال كل آية منه على مصلحة والبيان على وفق المبيَّن".2 هذا عن كون الشريعة مصلحة، وهو كافٍ فيما أحسب.
أما عن كون المصلحة شريعة، فيتمثل عند علمائنا في عدد كبير من الأصول والقواعد التشريعية ترجع إلى اعتبار المصلحة. وأصرحها وأشهرها هو أصل "المصلحة المرسلة" الذي يُعَدُّ حجة ومصدراً تشريعياً عند عامة الفقهاء، خلافاً لمـا يشتهر من اختصاص المالكية بهذا الأصل. قال القرافي: "وأما المصلحة فغيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفوارق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة".3
وهناك –سوى أصل المصلحة المرسلة- أصول أخرى أساسها وجوهرها مراعاة المصلحة وبناء الأحكام عليها.
فهناك الاستحسان، الذي يرجع في كثير من صوره وتطبيقاته إلى مراعاة المصلحة، كما قال ابن رشد: "ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال: هو الالتفات إلى المصلحة والعدل".4
ولذلك قيل في بعض تعريفات الاستحسان: هو ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.
وهناك أصل سدِّ الذرائع، الذي يرجع حاصله إلى درء المفاسد.
وتظهر مصلحية هذا الأصل بقوة في كونه قد يسمح بمنع ما هو مباح بالنص. وفي هذا مخالفة ظاهرية للنص، تحقيقاً للمصلحة وحفاظاً عليها.
وهناك العرف، والاستدلال، وهما معاً متضمنان رعاية المصلحة وبناء الأحكام عليها.
كما أن هناك قواعد فقهية كثيرة تؤسس "التشريع المصلحي" وتضبطه، منها:
- الأصل في المنافع الحل وفي المضار المنع.
- لا ضرر ولا ضرار.
- الضرر يزال.
- الضرر لا يزال بمثله.
- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
- الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف.
- التصرف على الرعية منوط بالمصلحة.
وهكذا يظهر جلياً –من خلال ما ذكرته من أصول وقواعد تشريعية- مدى حجية المصلحة ومرجعيتها في التشريع الإسلامي. ولذلك حق لنا أن نقول: إن المصلحة شريعة، وهو مقصود قولهم: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، ولذلك قال الإمام الغزالي: "ونحن نجعل المصلحة تارة عَلَماً على الحكم، ونجعل الحكم أخرى علماً لها".

أي مصلحة نعني؟

من السهل جداً أن ندافع عن المصلحة وعن أحقيتها بالرعاية والاعتبار، وعـن حجيتها في التشريع، وعن أولويتها في الاجتهاد… لكن المشكلة هي: هل المدافعون عن المصلحة والمنادون بها، فيما بينهم أولاً، ثم فيما بينهم وبين مخالفيهم والمتحفظين عليهم ثانياً، هل هم جميعاً يتحدثون عن شيء واحد واضح، وعن معنى محدد مضبوط؟ أم كلٌّ يبكي على ليلاه؟ تلك هي المشكلة.
فالمشكلة إذاً هي: متى نعد الشيء مصلحة ومتى لا نعدّهُ كذلك؟ متى نعد الشيء مفسدة ومتى لا نعده كذلك؟ ومتى نعد الشيء نفعاً ومتى نعده ضرراً؟ ومتى نعده مصلحة راجحةً ومتى نعده مصلحة مرجوحة؟ ومتى نعده مصلحة حقيقية معتبرة ومتى نعده مصلحة وهمية متروكة؟
وإذا كنا نتسامى بمفهوم المصلحة حتى نضعها في مقـام الحجية والمرجعية الشرعية فإن مفهوم المصلحة يتدنَّى أحياناً حتى يصير معنى مذموماً، فنجد أن الشخص يذم لأنه إنسان "مصلحي"، ولأنه "صاحب مصلحة"، ونجد علاقات وتصرفات تنتقد لكونها "مصلحية" ولذلك كان من اللازم أن نقف ونتساءل: أي مصلحة نعني؟ مع العلم أننا نتحدث في نطاق المجال الشرعي والتشريعي.
ولأجل الحصول على إدراك جيد وصحيح لمفهوم المصلحة، لا بد أن ننظر إليها من عدة جهات وفي عدة مستويات:
- يمكن في البداية أن ننظر إليها نظرة مبسطة جامعة، فنقول: إن المصلحة هي كل ما فيه خير ومنفعة لمجموع الناس ولأفرادهم.
- وننظر من جهة أخرى، فنجد الوجه الآخر للمصلحة وهو درء المفسدة، بحيث لا نستطيع التمسك حقاً بالمصلحة ونحن غافلون عمّا يلازمها أو يتبعها من مفسدة وهكذا يصبح من صميم المصلحة اتقاء المفاسد التي في طريقها سواء كانت سابقة أو لاحقة أو ملابسة أو مصاحبة.
- وننظر من جهة ثالثة فنجد أن المصالح التي يحتاجها الناس وينتفعون بها تقع على أنواع وأشكال. وإذا اقتصرنا على الأنواع الأساسية –حسب تقسيم علمائنا- نجد خمس مصالح كبرى جامعة هي: مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة النسل، ومصلحة العقل، ومصلحة المال.
ويمكن أن ننوعها بشكل آخر، فنتحدث عن مصالح مادية، ومصالح معنوية، ويدخل في المصالح المادية: الأبدان والأموال وما يخدمهما. وتدخل في المصالح المعنوية المصالح الروحية والعقلية والنفسية والخلقية.
- وننظر من جهة رابعة، فنجد أن المصالح والمفاسد تتفاوت تفاوتاً كبيراً في رتبها وقيمها كماً وكيفاً. بل هناك مصالح تعد كلا شيء بجانب مصالح أخرى أعظم قدراً وأعلى قيمة. ولذلك قسم العلماء المصالح إلى : ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات. وداخل كل مرتبة مراتب متفاوتة لا حصر لها. فإذا نظرنا إلى مصلحة أو جملة مصالح فيجب ألا يغيب عنا غيرها، وخاصة مما يفوقها قدراً وقيمة.
- وننظر إلى المدى الزمني الواسع، فنجد الشيء يكون مصلحة، ثم يصير مع الزمن مفسدة والعكس. وتكون المصلحة صغيرة في الأمد القريب، فيعظم شأنها ويظهر خطرها مع تطاول الأزمان، وبالعكس. ونجد ما فيه مصلحة جيل معين، قد يكون ضرراً على الأجيال اللاحقة. وأكبر من هذا كله نجد ما قد يبدو مصلحة في هذه الدنيا يكون مفسدة ومهلكة في الدار الآخرة والعكس، ومن المصالح ما يكون مصلحة في زمن فهو مصلحة حقيقية في ذلك الزمن، ثم يصبح في زمن آخر مفسدة، فيكون حينئذٍ مفسدة دون أن ينقض كونه مصلحة في الزمن الأول.
ومن روائع الأمثلة لهذا الوجه، قضية الأراضي المفتوحة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث طالبه بعض الفاتحين –ومنهم بعض الصحابة- بقسمة تلك الأراضي عليهم، ولكن بعضهم عارض قسمتها حتى يبقى ريعها ونفعها للأجيال القادمة من لا مقاتلين ولغيرهم من المسلمين، وهو الرأي الذي صار إليه عمر وأيده فيه كبار المهاجرين والأنصار. وكان ممن أشار عليه بهذا الرأي –معارضة للرأي الأول- علي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، الذي قال لعمر: "إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم. ثم يبيدون، فيصير ذلك إلى الرجل أو المرأة. ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسدّاً وهم لا يجدون شيئاً. فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم…"، قال أبو عبيد: "فصار عمر إلى قول معاذ… وهو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه".6
لقد كانت القسمة على الفاتحين مصلحة لهم لا شك، ولكن النظر البعيد، والمستقبل المديد كان لهما كلمة أخرى، هي التي رجحت عند ذوي النظر الاستصطلاحي البعيد.
هذا يقودنا إلى جهة أخرى –سادسة- من جهات النظر إلى المصلحة، وهي جهة عمومها أو خصوصها. فما قد يكون مصلحة للخواص قد يكون مفسحة للعموم وضرراً عليهم. والمصلحة الحق هي التي يشمل نفعها وخيرها الخاصة والعامة معاً.
وهذا يوصلنا إلى التعارضات القائمة –على الدوام- بين المصالح. فلا تكاد توجد مصلحة نقدمها ونتمسك بها، إلاّ وفي تقديمها تفويت مصلحة ما، أو وقوع مفسدة ما. فيجب أن نضع في الميزان كل ذلك، ثم ننظر ونوازن من جميع الجهات الآنفة الذكر، وبعد ذلك يظهر لنا ما يستحق التقديم والاعتبار، وما يستحق التأخير والإهدار. وحينئذٍ فقط نكون قد عملنا بالمصلحة حقاً، مقدّرين لها حقّها. وتلك هي المصلحة التي أعني.

دعوى تعارض النص والمصلحة

من المعلوم أن الشيخ نجم الدين الطوفي قد ذهب إلى افتراض تعارض المصلحة مع النص، وهو يرى –في هذه الحالة- أنه يجب تقديم المصلحة على النص. وهذا عنده خاص بمجالي المعاملات والعادات، دون العبادات والمقدرات. قال: "أما المعاملات ونحوها، فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر. فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا. فإن اتفقا فبها ونعمت… وإن اختلفا، فإن أمكن الجمع فأجمع بينهما… وإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها، لقوله ?: "لا ضرر ولا ضرار"، وهو خاص في نفي الضرر، المستلزم لرعاية المصالح، فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصودة من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل. والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل".7
وقد احتفى كثير من المعاصرين بهذا الافتراض، وذهبوا يروجون له وينوهون به، ويلتمسون له التخريجات، ويضعون له الأمثلة والتطبيقات.
كما أن كثيرين آخرين –من المعاصرين أيضاً- قد ردوا على الطوفي وناقشوا ما ذهب إليه، وقد كنت أحد هؤلاء في مناسبتين سابقتين.8 ولذلك لا أريد هذه المرة أن أقف عند الطوفي، وإنما أتجاوزه إلى بعض الآراء المعاصرة المتعلقة بالموضوع. غـير أني أعيد القول: إن الطوفي لم يأتِ ولا بمثال واحد حقيقي يؤكد التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة، فبقي رأيه مجرد افتراض نظري.
أما المعاصرون –أو العصريون- فلهم أمثلة عديدة، يذهبون فهيا صراحةً أو ضمناً إلى أن المصلحة أصبحت تقتضي خلاف ما جاءت به بعض النصوص. وأنا أورد وأناقش ثلاث مسائل نموذجية لذلك، واحدة في العبادات، والثانية في العادات، والثالثة في الجنايات.
1. مسألة الصيام
ذهب الرئيس التونسي السابق ومؤسس الدولة التونسية الحديثة، الحبيب بورقيبة إلى أن صيام رمضان يسبب تعطيل الأعمال وضعف الإنتاج، ودعا العمال (سنة 1961) إلى الإفطار حفاظاً على الإنتاج الذي يدخل ضمن الجهاد الأكبر. فهل الصيام حقاً يتعارض مع مصلحة الإنتاج ومصلحة النهوض الاقتصادي؟ لعل أول ما كان ينبغي قبل إطلاق الدعوى السابقة هو إجراء دراسة شاملة ودقيقة عن مدى تأثير الصيام في الإنتاج سلباً وإيجاباً، وهو ما لم يقع، فبقي الادعاء مفتقراً لأي أساس علمي صحيح.
ثم، هب أنه تحصلت لدينا ملاحظات وانطباعات مفادها أن الصيام يسبب نقصاً ما في الإنتاج، فهل ذلك راجع إلى الصيام ذاته، أم إلى عادات وممارسات خاطئة يمارس فيها الصيام أو تمارس فيه، وليست من ضروراته ولا من شروطه الشرعية؟
فإذا كان العنصر الثاني هو السبب فقد برئت ذمة الصيام، وكان أولى بمن دعا إلى ترك الصيام أن يدعو إلى تغيير تلك العادات والممارسات السلبية، وهي دعوة أقرب إلى الواقعية والتحقيق والاستجابة من دعوة شعب مسلم إلى التخلّي عن ركن من أركان دينه.
ثم ألم يكن بالإمكان الاستفادة من الصوم في تنمية الإنتاج وزيادته. فالصوم مثلاً يلغي وجبتين غذائيتين تقعان عادة في وقت العلم: هما وجبة الإفطار ووجبة الغداء، والصوم يوفر على العمال والموظفين وقت هاتين الوجبتين. وهو وقت يمكن الاستفادة منه لصالح العمل والإنتاج، وكم من العمال والموظفين نراهم يحضرون إلى أماكن عملهم ثم يختلسون أوقاتاً لتناول الإفطار. ثم يأتي وقت الغذاء فيأخذون وقتاً أوسع، سواء بصفة قانونية أو غير قانونية. وفي الحالتين فإن الصيام يوفر هذا الوقت لصالح العمل.
ثم إن الصيام يمنع المدخنين عن التدخين ويوفر الوقت الضائع فيها. ومعلوم أن التدخين يأخذ من صاحبه دقائق متكررة كل يوم، قد تفوق ساعة كاملة من ساعات العمل.
وإذا تحدثنا عن التدخين الذي يتوقف في شهر رمضان، فلنتحدث عن التدخين وصلته بالإنتاج في غير رمضان، ذلك أن أي غيور حقاً على العمل والإنتاج، أو أي باحث محايد لا يمكنه أن يغفل عن النقص الكبير في الإنتاج الذي يتسبـب فيـه التدخين، سواء بشكل مباشر يتمثل في ضياع وقت التدخين، أو بأشكال غير مباشرة تنتج عن الحالة النفسية والبدنية والصحية للمدخنين. فلست أدري لماذا لم يتفطن الزعيم المذكور إلى هذه الآفة المحققة من آفات الإنتاج والعمل؟ لقد تغافل عن شيء يُرى ويلمس ويشم، وانتبه لشيء لا يرى ولا يلمس ولا يشم! ?فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ? (الحج: 46).
ومع ذلك فلنذهب مع هذا الافتراض إلى نهايته، ولنقل: إن للصيام أثراً في نقص الإنتاج، وقد نجد من يقول: إن الصلاة في وقت العمل تسبب هي الأخرى نقصاً في الإنتاج، وهو ما يتعارض مع المصلحة ويضر بها…
وهنا أذكر بما قدمته قبل قليل عن المفهوم الصحيح للمصلحة وإلى الوجوه المتعددة التي ينبغي النظر منها إلى أي مصلحة.
فإذا فرضنا أن إنتاجنا يصاب في رمضان بنقصان كمي يصل مثلاً إلى العشر (10?) أو نصف العشر (5?) فماذا نربح من الصيام؟
هذا يحيلنا إلى الفوائد الكائنة أو الممكنة في الصيام، سواء من الناحية الروحية، أو التربوية السلوكية، أو الصحية، ولا أتحدث عنا عن الثمرة الأخروية. وهذه الفوائد، أو المصالح، قد تكفلت ببيانها وتفصيلها كتاباتٌ كثيرة قديماً وحديثاً. ولذلك لا أريد الخوض فهيا هنا. فأكتفي بالإشارة إليها والتذكير بها، لأقول: إن أي عاقل يريد أن يتحدث عن النقص الذي قد يسببه الصوم في الإنتاج، لا بُدّ أن يضع في الميزان كل ما يجلبه الصوم لصاحبه أو لغيره، من فوائد ومصالح مادية أو معنوية عاجلة أو آجلة، وحينئذٍ سيختلف الوزن والتقويم قطعاً.
وحتى على صعيد الإنتاج نفسه، لا بُدّ أن نستحضر أن الصوم –إذا أُدّي على حقيقته- يعلّم صاحبه الإخلاص في العمل، والتخلي عن الغش والزور والاختلاس. وكل هذا في صالح الإنتاج كما لا يخفى. وهي آثار إيجابية تستمر طيلة السنة أو طيلة العمر، وليست منحصرة في أيام الصيام.
ومن طريف ما يتذكر ويذكر في هذا السياق ما حدثني به أحد أقاربي من أن رجلَ أعمال إسبانياً كان يحتفي بعماله المغاربة الذين كانوا يصومون ويصلون، وكان يشجعهم على الصيام، ويعتني بتهييء طعام فطورهم وسحورهم، لأنه كان يجد من الإخلاص والجدية والأمانة ما لا يجده في غيرهم من المسلمين غير المتدينين.
2. مسألة الحجاب
يقصد اليوم بالحجاب –على خلاف الاستعمال القرآني- اللباس الساتر الذي تلبسه المرأة المسلمة المتدينة، ليغطي كامل جسدها ما عدا الوجه والكفين. وقد يراد به بصفة خاصة تغطية الرأس والشعر.
ويرى عدد من المعاصرين العصريين أن هذا اللباس لم يعد اليوم ملائماً للعصر، ولا لمكانة المرأة وتحررها واقتحامها لمجالات الحياة العامة كافة، من مدارس وجامعات، ومن معامل وإدارات، ومن أسفار وتجارات. ويرون أن هذا الحجاب يعوق المرأة ويعرقل تقدمها وتحضرها.
ومرة أخرى، فأنا لن أناقش المسألة من الناحية الفقهية بنصوصها وأحكامها، فكل ذلك معلوم لدى الخاص والعام. ولكني أناقشها مناقشة مصلحية. فهل النصوص والأحكام المتعلقة بالموضوع تعارض المصلحة؟ وهل هي نفسها تخلو من المصلحة؟
إذا تجاوزنا الخطابات المبهمة والشعارات التحديثية ذات التأثير الإشهاري الجذاب، فإننا لا نجد أي مصلحة حقيقية راجحة يعوقها الحجاب ويفوّتها. وأحسب أن الواقع المعيش والمشاهد في العالم كله، في العالم الإسلامي، وفي العالم الغربي، أصبح اليوم يشكل أبلغ رد على كل ما يقال عن السلبيات المدّعاة للحجاب. فلم يعد الحجاب قريناً للجهل والأمية والخنوع والتخلف، بل أصبح في حد ذاته رمزاً للتحرر والتمسك بالحقوق والمبادئ، ورمزاً للثبات والمعاناة في سبيلها. وله معانٍ رمزية لم تكن له فيما سلف يوم كان شيئاً عادياً يقبله الجميع ويسلم به الجميع.
فالحجاب اليوم أصبح مصدر حرمان ومضايقة واستهزاء لكثير من المتمسكات به ولذلك صار التمسك به رمزاً للتمسك بالمبادئ والحقوق، ومقاومة الضغوط والتعسفات. فالمرأة المتحجبة هي امرأة متحررة ومناضلة بمجرد تسكها بحجابها في وجه الضغوط والمضايقات كافة.
وهذا فضلاً عن كون ذوات الحجاب يوجدن اليوم بجدارة وكفاءة في كل موقع من مواقع العلم والعمل الراقية المتقدمة، ولا يختفين إلا من المواقع التي يُمنعن منها، أو لا تليق بكرامتهن وخلقهن.
هذا من جهة الادعاء بأن حجاب المرأة يكرس تخلفها ويعوق تقدمها ويفوت مصالحها.
وأما من جهة أخرى، فإن الحجاب تظهر قيمته ومصلحته اليوم أكثر من أي وقت مضى. وبيان ذلك أن المرأة اليوم تنجرف مع تيار كاسح يكاد يختزل المرأة وقيمتها ووظيفتها في الجسد المزوّق المنمّق المعروض في كل مكان.
والمرأة على نطاق واسع –وعت أو لم تَعِ، قصدت أو لم تقصد- واقعة هي أيضاً في فتنة الجسد، وفي فتنة اللباس، أو بعبارة القرآن الجامعة في فتنة التبرج. وجميع المتبرجات -من حيث يدرين أو لا يدرين –هن عارضات أزياء وعارضات أجساد. وكثيرات منهن يعشن يومياً –وكلما خرجن إلى العموم- في منافسة استعراضية لا تنتهي، في الشوارع والإدارات، وعلى الشواطئ وفي المتنـزهات، وفي المدارس والجامعات، وفي المناسبات والحفلات. وكمن يصب الزيت على النار، يقوم عدد لا يحصى من الرجال بالإغراء والتشجيع، وتقوم مؤسسات تجارية وإعلامية وسياحية بتغذية هذا التوجه وتأطيره والمتاجرة به بشكل مباشر أو غير مباشر.
هكذا تدخل المرأة –الضحية الأولى لهذا المنـزلق- في دوامة تنحط فيها كرامتها وقيمتها، وتنحط فيها اهتماماتها وانشغالاتها،حيث تستهلك قدراً كبيراً من وقتها ومن مالها ومن تفكيرها في تدبير شؤون جسدها ولباسها ومظهرها.
والحقيقة أن الذي أصبح يعوق المرأة اليوم عن رقيها وتحررها، وعن دراستها وعملها، ليس الحجاب، بل هو الانغماس في التبرج والتزين والهواجس الاستعراضية.
وهذا كله لم يعد إثباته بحاجة إلى الروايات المتواترة، أو الاعترافات والشهادات الخاصة، بل أصبح واقعاً طافحاً يعرف ويشاهده من أحب ومن كره.
هذا الواقع الرديء الذي تنجرف فيه المرأة انجرافاً يخرج بها –أو يهبط بها- من التكريم إلى التجسيم، هو الذي يقف اليوم في وجهه اللباس الإسلامي، الذي يمنع المرأة من الانزلاق في المنحدر المذكور، ويمنعها من أن تصبح مفتونة أو فاتنة بجسمها وأعضائها، أو بلباسها وحليها، أو بأصباغها وعطورها، أو بمعاملاتها وعلاقاتها.
إن اللباس الساتر المتعفف، المعتدل المتواضع، أصبح اليوم ضرورة لوقف انحدار المرأة، ومساعدتها على إعلاء قيمتها وهمتها، وعلى استعادة كرامتها وتوازنها. وتلك هي المصلحة حقاً.
3. قطع يد السارق
لا أريد هنا أن أناقش الرافضين للشريعة الإسلامية، الذين يرون فيها مظهراً للتخلف والماضوية. ويرون بصفة خاصة أن بعض العقوبات البدنية التي نصت عليها تمثل بدائية وهمجية لا تليق بهذا العصر المتحضر. فأولئك يقال لهم: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ? (الكافرون:6).
ولكني أناقش بعض المفكرين المسلمين، الذين يبحثون عن فهم الشريعة فهماً متجدداً ومتطوراً، في حدود ما يظهر لهم من مقاصدها، وفي حدود تقديرهم للمصالح التي ينبغي رعايتها وتقديمها.
وفي هذه المسألة –مسألة قطع يد السارق- سأناقش بصفة خاصة ما ذهب إليه الدكتور محمد عابد الجابري، باعتباره نموذجاً لما يقال في مسائل أخرى من التشريع الإسلامي.
أورد الجابري مثال قطع يد السارق، ليوضح كيف ينبغي أن يكون الاجتهاد والتجديد اليوم، وذلك باعتماد مقاصد الشريعة واعتماد المصلحة التي هي المقصد النهائي للتشريع، وهي لذلك "أصل الأصول كلها".9
وعلى هذا الأساس يرى أن الحكم بقطع يد السارق كان في وقته وظروفه يحقق المصلحة ويلائمها تماماً، حيث لم يكن يومئذٍ سجن ولا جدران ولا سلطة تحرس المسجون وتطعمه… "وإذن فقطع يد السارق تدبير معقول تماماً في مجتمع بدوي صحراوي يعيش أهله على الحل والترحال".10
ومفهوم هذا الكلام وسياقه، يعنيان أن قطع يد السارق لم يعد محققاً للمصلحة ولم يعد ملائماً، ولم يبق لها ما يسوغه.
وجرياً على ما سرت عليه في المثالين السابقين، لا أريد أن أدخل في مناقشة فقهية أصولية لمسألة قطع يد السارق، وما تقتضيه الأدلة المعروفة من قرآن وسنة وإجماع إلخ، لأن ذك –أولاً- معلوم ومشتهر، ولأني –ثانياً- أبحث في مدى ما يقل من تعارض المصلحة مع النص.
وأود في البداية أن أوضح بإيجاز جملة أمور:
أولها: أني لست ممن يجعلون تطبيق الشريعة مرادفاً لإقامة الحدود. وإنما الحدود جزء صغير ومتأخر في الترتيب ضمن خريطة التشريع الإسلامي.
وثانيها: أن إقامة الحدود –ومنها حد السرقة- مشروطة بشروط ولوازم، يكون تطبيق الحدود بدونها عسفاً على الناس وعلى الشريعة نفسها.
وثالثها: أن العقوبات المنصوصة في الإسلام تتسم بقوة الزجر، وسهولة التنفيذ، فهي زاجرة إلى أقصى الحدود للجناة ولغيرهم. ومن حيث التنفيذ لا تكلف ميزانية ضخمة ولا جهازاً بشرياً واسعاً، ولا وقتاً طويلاً، كما هو الشأن في عقوبة السجن.
فإذا جئنا إلى حد السرقة –وهو القطع- وجدناه محققاً لمقصوده ومصلحته بدرجة عالية. والحق أن مجرد الإعلان عن إقرار عقوبة القطع يؤدي إلى زجر عدد واسع من السراق –أعني السراق المستحقين للقطع لا الجائعين والمعوزين- وإراحة المجتمع من سرقاتهم ومحاكماتهم وحراستهم وإطعامهم في سجونهم…
وتحقق هذا بدرجة أوسع وأبلغ حين يشرع فعلاً في تنفيذ العقوبة ولو على فرد واحد أو أفراد معدودين.
فإقرار عقوبة القطع والشروع في العمل بها يمكن أن يخفض جرائم السرقة إلى العشر أو أقل.
وهذا هو عين المصلحة وأقصى درجاتها في موضوعنا، الذي هو صيانة الأموال وأصحاب الأموال من العدوان والخوف.
بقي أن يقال: إن هذه العقوبة شديدة وفادحة، وقد أصبح بالإمكان اليوم الاستعاضة عنها بغيرها، وأقول: إن شدة هذه العقوبة تخف وتهون بعدة أسباب:
الأول: هو ما تحققه من المصلحة العامة الواسعة، مما سبقت الإشارة إليه.
والثاني: هو القلة المتزايدة في حالات القطع بمجرد الأخذ به والمضي في العمل به.
والثالث: هو كثرة الشروط التي يلزم توافرها للحكم بالقطع، وهي شروط مبسوطة في كتب الفقه لا يتسع المجال لذكرها الآن. لكن المهم هو أن تلك الشروط تضيق جداً من الحالات التي يطبق فيها القطع.
والرابع: هو قاعدة: ادرؤوا الحدود بالشبهات.
ومعنى هذا أننا سنكون أما مصالح عظمى سيجنيها الأفراد والمجتمع والدولة ومؤسساتها وميزانيتها مقابل أفراد قلائل سيتضررون جزاءً وفاقاً بما كسبوه ظلماً وعدواناً.
وإذا كان قطع بعض الأيدي يسبب تعطيلاً جزئياً لأصحابها في عملهم وإنتاجهم، فإن في سجن الألوف من السراق لشهور وسنوات تعطيلاً أكبر لهم. وفضلاً عن ذلك فإن السجن يشكل –في كثير من الحالات- مدرسة ممتازة لتعليم الإجرام وربط العلاقات بين المجرمين… فهاتان مفسدتان لا بُدّ من وضعهما في الميزان.
أضف إلى ذلك ما قد يرافق السرقة من اعتداء على الأبدان والأرواح… وهو ما يتقلص حتما بتقلص حالات السرقة لشدة العقوبة عليها.
فهل إذا نظرنا إلى المسألة من مختلف وجوهها المصلحية، مما ذكرت ومما لم أذكر، يبقى مجال للظن بأن حد السرقة لم يعد ملائماً للمصلحة ولظروفنا الحالية؟
أنا أعتقد أن الإشكال الحقيقي عند الذين لا يروقهم قطع يد السارق، هو أن هذه العقوبة وما شابهها من العقوبات البدنية المعمول بها في الشريعة الإسلامية، ليست معتمدة لدى الدول الغربية المتقدمة، بل أصبحت في نظر أهلها عقوبات مستهجنة ومستنكرة إلى درجة أصبح معها عسيراً على كثير من المسلمين، ومن مثقفيهم خاصة، استساغة هذه العقوبات والنظر إليها بتجرد وعقلانية.
ولذلك فأنا دائماً يراودني السؤال بعفوية وصدق: تُرى لو كانت الدول الأوربية أو بعضها، أخذت بعقوبة قطع يد السارق، هل كان السياسيون، والمفكرون، والقانونيون، في العالم الإسلامي سيجدون غضاضة أو حرجاً في تبني هذا الحكم وتفهم مصالحه وفوائده؟
وفي اعتقادي أن الضغط الجاثم على النفوس والعقول له أثر حاسم في تكييف النظرة وتوجيهها إلى كثير من القضايا التي استقرت عند العالم الغربي "النموذجي" على نحو مخالف لما في شريعتنا.
التعامل المصلحي مع النصوص
حين يتقرر بجلاء واتفاق كون الشريعة لا غرض لها سوى مصالح العباد، وأن كل نصوصها وأحكامها إنما تروم تحقيق تلك المصالح مع ما تستلزمه من درء للمفاسد… حين يتقرر هذا، يكون من حقنا ومن واجبنا أن نتعامل مع نصوص الشريعة وأحكامها كافة على هذا الأساس، فنفهمها فهماً مصلحياً، ونطبقها تطبيقاً مصلحياً، وأيضاً نتخذها معياراً مصلحياً.
وهذا التعامل المصلحي مع النصوص –الذي سأوضحه قليلاً في هذه الفقرة- هو البديل الصحيح عن افتراض تعارض النص والمصلحة، كما أنه بديل أيضاً عن افتراض خلو نص ما من المصلحة، وهو الافتراض الذي يساعد على التعامل الظاهري الجامد مع النصوص. فالتعامل المصلحي مع النصوص يجنبنا السقوط في ذلك الفخ المفترض (تعارض النص والمصلحة)، الذي يجعل النص في كفة والمصلحة في كفة، وكأن النص لا مصلحة فيها ولا مصلحة له. إن الوضع الصحيح للمسألة يتمثل في التسليم بأن النص مصلحة، وأنه لا يخلو نص من مصلحة، وحينئذٍ، فإن التقابل يكون بين المصلحة –أو المصالح- التي يتضمنها النص، وتلك التي يُفوِّتها التزامه والعمل به.
1. معيار النصوص في تقدير المصالح
حين نؤمن بالنصوص، ونؤمن بعصمتها وسموها على الآراء والاجتهادات، وحين نؤمن بأن النصوص عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ? (الأنبياء:10)، فإننا لا يسعنا إلاّ أن نتخذ النصوص معياراً لضبط المصالح المعتبرة وتقديرها، وتمييز المصلحة من المفسدة، وتمييز المصالح العليا من المصالح الدنيا، وتمييز المفاسد الخطيرة من المفاسد الهينة.
لا أقول: إن النصوص ستعطينا دائماً الإجابات التفصيلية والمحددة عن كل المصالح والمفاسد ومراتبها، ولكني أقول إن النصوص معيار أساسي لذلك، ويبقى المجال واسعاً ويزيد اتساعاً باستمرار –للاجتهاد الآني الذي يزن المستجدات- ويقدر التطورات ويوازن بين الاحتياجات في ضوء هداية النصوص ومعيارتها.
وحين نتخذ النصوص معياراً مصلحياً، فإننا تلقائياً نـزيح قدراً كبيراً من التعارض بين النص والمصلحة، لأننا حينئذ نتعامل مع المصالح في تساوق وانسجام مع النصوص.
أما حين ننطلق من ذاتيتنا وحدها، ومن آرائنا ومشاعرنا واحتياجاتنا وحدها، ومن إيحاءات زمننا ومقتضياتها وحدها، ونقدر المصالح ونرتبها بناءً على ذلك، بمعزل عن النصوص وقيمها ومقتضياتها وحدها، ونقدر المصالح ونرتبها بناءً على ذلك، بمعزل عن النصوص وقيمها ومقتضياتها، فإنه لا بد أن يقع تضاد واسع بين النصوص وما نعدّه "مصالح"، وحينئذٍ سنجد النصوص تُشرِّق ونحن نغرِّب.
لقد علمتنا النصوص مثلاً أن هناك مصالح روحية عظيمة الشأن جليلة الفائدة في حياة الإنسان وسعادته الدنيوية، منها ما يشير إليه قوله تعالى: ?الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ? (الرعد:28).
وعلمتنا النصوص قيمة المصالح الخلقية وأفاضت في بيانها والحث عليها مما لا يتسع المقام لذكرها وتفصيلها، وهي معلومة.
وقد نبه الإمام ابن تيمية على أن بعض الذين يتحدثون عن المصالح يغفلون "العبادات الباطنة والظاهرة، من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله، وأحوال القلوب، وأعمالها: كمحبة الله وخشيته، وإخلاص الدين له، والتوكل عليه، والرجا لرحمته ودعائه، وغير ذلك من أنواع المصالح في الدنيا والآخرة. وكذلك فيما شرعه من الوفاء بالعهود، وصلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمر به ونهى عنه، حفظـاً للأحوال السنية وتهذيب الأخلاق. ويتبيّن أن هذا جزء من أجزاء ما جاءت به الشريعة من المصالح".11
وحين نبه رسول اله ? على حرمة الحقوق والمصالح الأساسية للمسلم قال: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه…".12
فذكر مصلحة قلما ينتبه الناس إليها، وقلما يقيمون لها وزناً، وهي: العرض. فيفهم من هذا النص ومن نصوص أخرى كثيرة أن أعراض الناس، بكل ما يندرج فيها من قيم وصفات معنوية اعتبارية، مصلحة معظمة ومرفوعة ومصونة في أحكام الشريعة. وهكذا، فإننا حين نعتمد النصوص معياراً لتحديد المصالح ومعرفة قيمها ومراتبها، تتغير نظرتنا إلى موضوع المصلحة وتتعمق وتتسع وتتوازن بفارق كبير جداً عما إذا اقتصرنا على النظرة الذاتية والعرفية للمصالح.
2. التفسير المصلحي للنصوص
ومعناه النظر والبحث في مقاصد النصوص والمصالح المتوخاة من أحكامها، ثم تفسيرها واستخراج معانيها ومقتضياتها وفق ما لاح من مقاصد ومصالح، وذلك. طبعاً –دون تكلف ولا تعسف. وهذا التفسير ليس سوى إعمال للأصل المقرر، وهو أن الشريعة مصالحُ كلها ورحمة كلها… فليس من المنطقي أن نقرر ونكرر باستمرار أن أحكام الشريعة كلها مصلحة ورحمة، ثم نحجم أو نتهيب عن تحقيق ذلك وإظهاره بأقصى ما نستطيع وفي أكثر ما نستطيع من النصوص والأحكام.
والتفسير المقاصدي المصلحي للنصوص يزيل من أمامنا قدراً آخر، كبراً أيضاً، من دعاوي تعارض النص والمصلحة، وإلا فإن هذا التعارض سيوجد حقيقة بين المصلحة والفهم الظاهري الجامد او المقصر للنصوص، لأن النصوص كلما فسرت تفسيراً يسقط مقاصدها ويضيع مصالحها أصبحت متنافية مع المصلحة بدرجة أو بأخرى.
فالعبادات مثلاً حين تفهم مقاصدها وأبعادها العقدية والفكرية، وآثارها التربوية والنفسية، ومصالحها الاجتماعية، فإن أحكامها تصير ملاذاً للمتوسمين ومدرسة للسالكين ومنهجاً للمربين والمصلحين. وإذا اعتبرت مجرد تكاليف تحكُّمية ومجرد أعباء تعبدية ومراسيم شكلية لا بُدَّ من قضائها وكفى، فإنها تصبح حينذاك مجرد "دّين يُقضى" على حساب ما يستهلكه من وقت أو جهد أو مال. وهكذا يمكن أن تعتبر هذه العبادات مفوتة للمصالح ومتعارضة معها، فيكون أصحاب هذه النظرة بين من يؤديها فقط ليستريح منها ومن حسابها، وبين من يتركها بالمرة وينصرف إلى "مصالحه"!
وقد سادت لدى كثير من فقهاء المذاهب عقلية تتبنى التعامل مع أحكام العبادات على أنها مجرد كلفة وإلزام، فيجب أداؤها بانضباط وحرفية أداءً لحق الله تعالى وإبراءً للذمة لا غير، ولذلك ألحقوا بها من المبالغات والاحتياطات ما عقدها وضاعف من كلفتها. وغيّبوا روحها ومقاصدها، وكونها رأفة ورحمة وصلاحاً ويسراً. وحتى الرخص المنصوصة أحيطت بشروط تكاد تكون شروطاً تعجيزية، وقد ألف شيخنا العلامة المرحوم عبدالحي بن الصديق كتاباً كاملاً في إبطال التشديدات الفقهية الخاصة بالطهارة والصلاة. وذكر أن الرخص التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده تيسيراً عليهم ورفعاً للحرج عنهم أشد عساً من العمل بالعزيمة المشروعة ابتداءً.13
3. التطبيق المصلحي للنصوص
وهو فرع وامتداد للتفسير المصلحي للنصوص، وهو أيضاً يرفع قدراً آخر من الحالات التي يظن فيها قيام التعارض بين النص والمصلحة. وأعني بالتطبيق المصلحي للنصوص، مراعاةً لمقاصد النصوص والمصالح المتوخاة منها عند التطبيق. وهو ما يقتضي تكييفها معيناً لتنـزيل النصوص، وتكييفاً للحالات التي تنطبق عليها النصوص والتي لا تنطبق، والحالات التي يتعين استثناؤها بصفة دائمة أو بصفة عارضة…
وأصل ذلك كله ومرجعه إلى نهج النبي ? وصحابته رضي الله عنهم، ومن أمثلته حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: دخلت على النبي ? أنا ورجلان من بني عمي، فقال أحد الرجلين: يا رسول الله أمِّرنا على بعض ما ولاّكَ اله عز وجل، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه".14
فهذا الحديث صريح، مؤكد بالقسم، في أن من طلب الإمارة أو حرص عليها لا تعطى إيّاهُ. ولذلك مقاصد ومصالح لا تخفى. وحسبنا أن أعظم مصائبنا هو الصراع على الإمارة بين طلابها، وتسلطهم على الأمة من غير أهلية منهم ولا موافقة منها. وللحديث مرامٍ تربوية تتمثل في كبح أطماع النفوس من حب للرياسة والعلو والظهور وما في ذلك من مكاسب مادية ونفسية.
ومع هذا كله فإن التطبيق المصلحي المتبصر ينظر ويميز ويستثني الحالات التي تكون مبرأة من هذه الآفات، وتكون محققة لمصالح أخرى واضحة. ولذلك وجدنا النبي ? يولّي ويؤمّر من سأله ذلك، كما في قصة زياد بن الحارث من قبيلة صُداء. وكان هذا الرجل هو الذي قاد وفد قبيلته إلى رسول الله ? ليعلنوا إسلامهم الذي تبعه إسلام قبيلتهم. قال زياد: "وكنت سألته أن يؤمرني على قومي، ويكتب لي بذلك كتاباً، ففعل…".15
وقد علق ابن القيم على هذه القصة فقالك –فيما قال-: "وفيها جواز تأمير الإمام وتوليته لمن سأله ذلك إذا رآه كفئاً. ولا يكون سؤاله مانعاً من توليته. ولا يناقض هذا قوله في الحديث الآخر: إنا لن نولي على عملنا هذا من أراده، فإن الصدائي (زياد بن الحارث) إنما سأله أن يؤمره على قومه خاصة، وكان مطاعاً فيهم، محبباً إليهم. وكان مقصوده إصلاحَهم ودعاءَهم إلى الإسلام. ورأى أن ذلك السائل (الذي في الحديث الأول) إنما سأله الولاية لحظ نفسه ومصلحته هو، فمنعه منها. فولى للمصلحة، ومنع للمصلحة، فكانت توليته لله، ومنعه لله".16
ومن أمثلته أيضاً الأحاديث العديدة التي لا تأمر بطاعة الأمير ولو كان عبداً حبشياً وبطاعته في المنشط والمكره والعسر واليسر، وبخاصة في المهام العسكرية.
ومع ذلك فقد حاء في الصحيح عن علي رضي الله عنه، أن رسول الله ? بعث جيشاً وأمَّر عليهم رجلاً. فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها. فأراد ناس أن يدخلوها، وقال الآخرون: إنا قد فررنا منها. فذُكر ذلك لرسول الله ? فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، وقال للآخرين قولاً حسناً.17
وفي الموقف النبوي من هذه الواقعة تنبيه وتوبيخ لمن يتعاملون مع النصوص تعاملاً جامداً يتعامى عن المصالح والمفاسد، ولا يتدبر مقاصد النصوص. وفيه ثناء على الذين يطبقون النصوص بوعي وتبصر، وينظرون إلى النتائج والمآلات.
ومن التطبيق المتبصر للنصوص ما رواه الأئمة مالك والبخاري ومسلم – في كتاب الجنائز وغيره من مصنفاتهم- أن امرأة مسكينة كانت تقوم بتنظيف المسجد، فمرضت "فأُخبر رسول الله ? بمرضها، وكان رسول الله ? يعود المساكين ويسأل عنهم فقال رسول الله ?: إذا ماتت فآذنوني. فخُرج بجنازتها ليلاً، فكرهوا أن يوقظوا رسول الله ?. فلما أصبح رسول الله ? أُخبر بالذي كان من شأنها. فقال: ألم آمركم أن تؤذِنوني بها؟. فقالوا: يا رسول الله كرهنا أن نخرجك ليلاً ونوقظك. فخرج رسول الله ? حتى صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات.
فها هنا كان الصحابة أمام خيارين: إما أن يلتزموا الأمر النبوي ويطبقوه تطبيقاً حرفياً لا يلتفت إلى شيء، وإما أن يستحضروا إلى جانب الأمر ما يحيط بتنفيذه في الحالة التي وقعتن من أدب ومصلحة ومفسدة في حق رسول الله ?، عملاً بمنهج التطبيق المصلحي المتبصر للنصوص.
ومن طرائف الأمثلة في هذا الباب ما رواه ابن القيم عن شيخ ابن تيمية قال: "مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار على قوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال، فدعهم".18
فهذا هو التطبيق الصحيح للنصوص، بل هذا هو الفقه الصحيح للدين وشريعته، كما قال ابن الجوزي: "والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد".19
ونخلص مما سبق إلى أن ما قد يظهر من أشكال التعارض بين المصلحة والنص، إنما مرده إلى أحد أمرين: إما خلل في فهم المصلحة وتقديرها، وإما خلل في فهم النصوص وتطبيقها.

ايمان نور
03-04-2008, 08:00 PM
وهناك أصل سدِّ الذرائع، الذي يرجع حاصله إلى درء المفاسد.
وتظهر مصلحية هذا الأصل بقوة في كونه قد يسمح بمنع ما هو مباح بالنص. وفي هذا مخالفة ظاهرية للنص، تحقيقاً للمصلحة وحفاظاً عليها.
بعدها بعدة سطور ذكر الكاتب تحت عنوان اى مصلحة
وننظر من جهة أخرى، فنجد الوجه الآخر للمصلحة وهو درء المفسدة، بحيث لا نستطيع التمسك حقاً بالمصلحة ونحن غافلون عمّا يلازمها أو يتبعها من مفسدة وهكذا يصبح من صميم المصلحة اتقاء المفاسد التي في طريقها سواء كانت سابقة أو لاحقة أو ملابسة أو مصاحبة.

وقال الكاتب
غـير أني أعيد القول: إن الطوفي لم يأتِ ولا بمثال واحد حقيقي يؤكد التعارض الذي افترضه بين النص والمصلحة، فبقي رأيه مجرد افتراض نظري.
نعم هذا ما رأيته لان نظريته بنيت على احتمال وما بنى على احتمال لا يصح به استلال وهى نظرية وضعها من افتراض لم يضع له مثال وسىء استخدامها

اعجبنى جدا رد الكاتب بنظرة مصلحية حول مسألة الصيام والحجاب وقطع يد السارق ونفس الاسلوب يمكن تطبيقه فى كل التكاليف والحدود والنصوص الشرعية وارى ان مثال الحجاب وقطع اليد والاعدام والرجم وغيرها من اممثلة يثيرها المصلحيون القصد الاول والاخير منها نقد الشريعة الاسلامية والا الاولى بهم نقد ما يحدث فى سجون امريكا والعراق احيانا يتخذ البعض مسمى ليرمى به من مكان بعيد هدف ما
نأتى لمسألة سد الذرائع التى اثارت انتباهى لان البعض يثيرها دون شرح كاف قد يؤدى إلى التباس للقارىء الغير دارس او الغير مطلع
سد الذرائع ( الطرق والوسائل والاساليب )الذى يرجع حاصله إلى درء المفاسد (النتيجة والمحصلة والغاية )
من باب لا خير فى خير بعده شر
وحصر العلماء ذلك فى امثلة معدودة ولكن من ينادون بالمصلحة زادوها لحد غريب
مثلا
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم
سب الحجر الذى يعبده المشركين ليس بحرام ولكن النهى عنه لانه قد ؤدى الى مفسدة عظمى فيقيس من يقول بالمصلحة على هذا الدليل وغيره لتقديم منفعة على مصلحة ولكن ان تعارضت مع نص صريح ارى عدم جوازها وان جلبت مصلحة ولم تعارض نص فلا بأس
مثلا لو منعت الحكومة توصيل وصلات الدش انا مع ذلك رغم انه مباح للمرء ان يشترى مايريد وله حرية اختيار الصواب او الخطأ ولكن بذلك نمنع حرام وخطر يعهدد الامة
اذا مثلا الحكومة قررت توحيد اللبس فى الجامعات كالحكومة المصرية والجامعات المختلطة ارى ذلك منع حلال وهو اختيار الملبس والالوان على هوى الفرد ولكن لجلب مصلحة اعم وهى درء مفسدة الاختلاط بين الشباب والمساعدة على غض البصر
اقصد بذلك قد نمنع حلال لنمنع فساد ونحصل على حلال اكبر
الحلال الاكبر بتوحيد الملبس عدم انشغال الجنسين بعضهم بالاخر الى حد اكبر والاهتمام بالدراسة تخريج دفعة همها العلم والتعليم الحد من العلاقات المحرمة وهكذا
اما جملة حيثما وجدت مصلحة فثم شرع الله ايضا كلمة مطاطة لو شرحت او لاكون دقيقة لانها شرحت جيدا من الكثير لو فهمت جيدا طبقت جيدا وما نادى اصحاب القوانين الوضعية بقوانين خرافية لا يقبلها العقل كالتى تظهر لنا بين الحين والاخر ولا نرى فيها اى مصلحة الا الطعن فى الشريعة كما حدث فى مصر من منع عمل المنقبات
لى عودة اخرى إن شاء الله
واتمنى التوسع فى شرح ما قاله الطوفى ليقف اى متابع على نظريته
وبارك الله فيكم

صهيب
03-05-2008, 07:20 AM
السلام عليكم


من كتاب
المصلحة عند الحنابلة
سعد بن ناصر الشثري
المبحث الثاني: المصلحة الملغاة :
ا - آراء الحنابلة فيها :
جميع العلماء على أن ما يتوهم أنه مصلحة إذا كان يخالف الأدلة الشرعية فإن المصلحة لاغية لا عبرة بها ، وقد وقع الإجماع على ذلك عدة قرون ، فتتابعت العصور على عدم اعتبار ما يظن كونه مصلحة إذا كان يخالف دليلا من الأدلة الشرعية .

وخرق الطوفي هذا الإجماع ، فقال بتقديم المصلحة على النصوص من باب التخصيص والبيان ، وساق أدلة على مذهبه نسوقها:

أدلة الطوفي :
الدليل الأول : حديث : « لا ضرر ولا ضرار »
فالضرر والمفاسد منتفية شرعا .
ولو كان ذلك الضرر في اتباع النصوص فإن الضرر يزال شرعا ، مما يدل على تقديم المصالح على النص ، فنفي الضرر والضرار يستلزم رعاية المصلحة ، فيجب تقديمها إذن على جميع الأدلة عملا بهذا الحديث.
وأجيب :
أ - بأن الحديث فيه ضعف وأحسن درجاته أن يكون حسنا لغيره ، فيكون من أقل درجات الحديث المقبول ، فكيف يقدم على جميع الأدلة الشرعية .
ب - أن هذا الحديث خبر آحاد ، وغيره من الأدلة متواتر نقلا ومعنى ، ولا يقول عاقل بتقديم خبر آحاد على المتواتر .
ج - أن الحديث نفي للضرر والضرار ، والضرر هو كل ما عده الشارع كذلك ، فالأحكام الشرعية لا ضرر فيها ، فلا تعارض بينها وبين الحديث ، فكل له مجال يخالف الآخر ، إذ الحديث نهي للعباد بطريق النفي عن الإضرار بالغير ، كما قال تعالى: ﴿ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا ﴾ [ سورة البقرة الآية 233 ] .
د - أن الحديث عام ، والأدلة الشرعية الأخرى في مجالها خاصة ، وإذا تقابل العام والخاص قدم الخاص فيما يختص به .
هـ - أن هذا الاستدلال مبني على أن المصالح يتصور أن تعارض النصوص وهو خطأ ظاهر .

الدليل الثاني : أن الشرع اهتم بالمصلحة جملة وتفصيلا وبنى عليها الأحكام ، فإن أحكام الله معللة بمصلحة العباد ، فيجب علينا أن نسير على هذا المنهج فنحكم بالمصالح ولو خالفت النصوص .
وأجيب :
بأن هذا الدليل مبني على تضمن أحكام الشرع للمصالح ، وأصل المسألة حكم النصوص التي تعارض المصالح ، فالدليل يخالف الدعوى ويبطلها .

الدليل الثالث : قال: من المحال أن يراعي الله - عز وجل - مصلحة خلقه في مبدئهم ومعادهم ومعاشهم ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية فهي أولى ، كيف وهي من مصلحة معاشهم .
وأجيب :
أ - أن هذا الاستدلال اعتراض على الله في فعله ، والله عز وجل لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ب - أن مقتضى هذا الدليل تضمن الأحكام الشرعية للمصالح ، فإذا كانت الأحكام الشرعية متضمنة للمصالح فكيف يوجد التعارض بينهما .
الدليل الرابع : أن رعاية الشارع للمصلحة محل وفاق ، والإجماع محل خلاف ، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه .
وأجيب :
أ - أن هذا الاستدلال مبني على الإجماع على المصلحة ، وهو يتضمن في نفسه تضعيف دليل الإجماع . وهذا تناقض .
ب - لا تلازم بين القول برعاية المصالح ، وبين تقديم رعاية المصالح على الإجماع ، فالمسألتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى ، وكل من قال بالمصلحة قدم الإجماع عليها .
ج - أن الخلاف في المصالح قديم معروف ، ولا وجه لإنكار هذا الخلاف ، فالقائلون بالإجماع وحجيته أكثر من القائلين برعاية المصالح .
د - أن المخالف في الإجماع شذاذ ، كالشيعة ، وبعض الخوارج والنظام ، وهم محجوجون بالأدلة الشرعية الكثيرة الدالة على اعتباره .
هـ - أن الشيعة لا يقولون برعاية المصالح ؛ لأنها رأي ، والدين لا يقال بالرأي وإنما يتلقى عن المعصوم ، والخوارج مختلفون في أمرها ، وهم يقولون : إن الحكـم إلا لله ، ونقل عن النظام جواز اجتماع الأمة على الرأي والقياس ، ورعاية المصالح تعتمد على الرأي والقياس ، فكيف يقول النظام برعاية المصالح([1]).
و - أن المتفق عليه هو رعاية الشارع للمصلحة ، والمراد بالبحث هنا هو اتباعنا للمصلحة المخالفة للنصوص الشرعية ، وفرق بين رعاية الشارع للمصلحة وبين اتباع المصالح المخالفة للنصوص .
ز - أن الدليل مبني على أن الشارع رعى المصالح ، ومعناه : أنه استقصاها فلم يبق شيء منها لم يرعه ، فنصوصه راعية للمصالح ، فالمصالح والنصوص دائما مجتمعة فكيف يتصور التعارض بين النصوص وما تضمنته من المصالح .

الدليل الخامس : أن النصوص سبب للخلاف في الأحكام ، لأن كثيرا منها متعارض والمصلحة سبب للاتفاق ؛ لأنها لا تختلف ، واتباع ما يؤدي إلى الاتفاق مقدم على ما يؤدي إلى الخلاف إذ الخلاف مذموم شرعا .
وأجيب :
أ - أن النصوص يصدق بعضها بعضا فلا تتعارض ، فقد نفى الله عز وجل عنها الاختلاف والتناقض ، قال تعالى : ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [ سورة النساء الآية 82 ] .
ب - أن المصالح مختلفة باختلاف الآراء والأهواء والأزمنة والأمكنة ، بخلاف النصوص فهي لا تختلف باختلاف ذلك .
ج - أن هذا الاستدلال مبني على دعوى اختلاف النصوص ، سواء ما كان في العادات أو العبادات أو المعاملات ، فهذا يقضي أن تعطى النصوص كلها نتيجة واحدة من أجل هذا الاختلاف والتعارض ، لكننا نراه يفرق بين أحكام المعاملات - فيجعل المصالح أولى من النصوص - وبين العبادات فيجعل النصوص مقدمة على المصالح .

الدليل السادس : أن هناك نصوصا قدمت المصلحة على النصوص ، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه بعد الأحزاب : « لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة » ، فصلى بعضهم قبلها ، فقررهم على ذلك إذ فيه تقديم المصلحة (مصلحة إدراك الوقت) على النص ، وحديث : « لولا أن قومك حديثوا عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض ، وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر ، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة ».
وهذا يدل على أن بناءها على قواعد إبراهيم هو الواجب ، فتركه لمصلحة الناس . وذكر في ذلك آثارا عن الصحابة .
وأجيب :
أ - أن المصلحة أن الإمام مطاع في كل أوامره ، وأن الشرع يقدم على أهواء الناس ، ولكنه ترك هذه المصلحة هنا للنصوص .
ب - أن هذه القضايا حصلت في أمور العبادة ، والطوفي لا يقول بتقديم المصالح على النصوص في أمور العبادات .
ج - أن المعارضة هنا ليست بين النصوص والمصالح ، بل بين النصوص والنصوص ، إذ من السنة إقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - .
د - ما ذكر من الآثار ما هي إلا اختلاف في الأفهام ، واجتهادات الصحابة منها ما أقروا عليها ، ومنها ما لم يقروا عليها ، وقول الصحابي إذا خالف النص فلا عبرة به ، وهذه المعارضة التي سلكها الصحابة رضوان الله عليهم لم تكن
من قبيل النظر في المصلحة المجردة عن الدليل ، بل إنهم يستنـدون فـي ذلـك إلـى أدلـة أخرى ، فهذا اجتهـاد فـي النصوص .

تنبيه :
الطوفي بنى رأيه على فرض تضمن بعض النصوص ضررا يعارض مصلحة راجحة ، وهذا خطأ وباطل ، وعليه فتقديم المصلحة على النص والإجماع محال غير متصور الوقوع ، فإن فرض مخالفة المصلحة للكتاب والسنة والإجماع مجرد فرض لا واقع له ، ويشهد لذلك أنه لم يقدم لما فرضه مثالا واحدا من الواقع ، والأعجب من هذا أن الطوفي نفسه قد مهد لبيان كون هذا محالا إذ ساق الأدلة على أن كتاب الله جاء مهتما بمصالح الخلق متضمنا لها واستدل لذلك بقوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [ سورة يونس : 57-58 ] ، وذكر سبعة وجوه لدلالتها على ذلك([2]).

---------------------------------------------------------------------
(1) المصلحة في التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفي ص 228 ، وأدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ص (206) .

(1) أدلة التشريع المختلف في الاحتجاج بها ، ص (127).


حمل الكتاب من هنا مهم جدا في قضية النص والمصلحة
المصدر: http://www.saaid.net/book/open.php?cat=4&book=3612



http://www.9ksa.com/up/get-1-2008-edllnmq3.gif

فخر الدين المناظر
03-19-2008, 01:49 PM
وهذا مقال من موقع الجيش الإسلامي بالعراق نصره الله ووفقه يصب في موضوعنا هذا وهو المصالح والمفاسد ،، هذا التنظيم الذي استطاع أن يجاهد المحتل على بصيرة نتيجة لوجود منظرين به وعلماء يضبطون عملياته، فنعم الزرع هو .

دراسات في السياسة الشرعية ((المصالح والفاسد )) - بقلم: أمير الجيش الإسلامي في العراق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد:


بسم الله الرحمن الرحيم
دراسات في السياسة الشرعية - بقلم: أمير الجيش الإسلامي في العراق
المصالح والفاسد (1)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ،أما بعد:-
فقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن التكاليف إنما شرعت لمصالح العباد، وأن مقاصد الشريعة هي تحقيق مصالح العباد في الدارين، وأن الشريعة قد جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها،فإذا تلاقت المصالح والمفاسد في مناط واحد أو استلزم أحدهما الآخر لسبب ما، كان تحقيق أكمل المصلحتين بتفويت أدناهما ودفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما هو الدين.
وهذه المصالح إما دنيوية أو أخروية؛ أما الأخروية فراجعة إلى مآل المكلف في الآخرة ليكون من أهل النعيم لا من أهل الجحيم. وأما الدنيوية فإن الأعمال عند التأمل مقدمات لنتائج المصالح، فهي أسباب لمسببات مقصودة للشارع، ومن هنا كان اعتبار المسببات في جريان الأسباب مطلوبا. وعلى سبيل المثال: فإن الشريعة قد أوجبت إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله ، فهذه النتيجة مقصودة للشارع، ومن أجلها شرع السبب الموصل إليها فيجب اعتبارها عند النظر إلى السبب، فإذا كان إنكار المنكر لا يحصل به ذلك المعروف، بل تحصل به من المفاسد ما يساوي مفسدة المنكر أو يزيد عليها فقد خرج من المصلحة إلى المفسدة ومن المشروعية إلى الحظر.
وقد يكون الفعل مشروعاً في ذاته ومع هذا لا يمكن إطلاق القول بمشروعيته نظراً لما يفضي إليه من المفسدة التي تساوي ما فيه من مصلحة أو تربو عليها، وعلى العكس فقد يكون الفعل غير مشروع في ذاته إلا أنه لا يمكن إطلاق القول بعدم مشروعيته نظراً إلى ما يفضي إليه ذلك من مفسدة تزيد على مفسدة هذا الفعل أو تساويها.
وعلى هذا فلابد من النظر في المآلات والموازنة بين ما تفضي إليه الأعمال من مصلحة أو مفسدة، وبين ما تتضمنه في ذاتها من ذلك، وعلى هذا الأصل تقام السياسة الشرعية، وبه تتحقق الحكمة بوضع الأمور في نصابها الصحيح، ومن خلاله ينضج قرار الدعاة والقادة. قال الشاطبي(الموافقات 4/194-195):النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، فقد يكون مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول في الثاني بعدم المشروعية، وربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة.أهـ
ولو لم يكن النظر في المآلات معتبراً شرعاً لأمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال، وهو غير صحيح لما تقرر من أن التكاليف مشروعة لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد. ولكان معنى ذلك أن لا نتطلب مصلحة بفعل مشروع وأن لا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع، وهو خلاف وضع الشريعة كما تقرر. ففي المثال السابق لو لم يكن النظر في المآل معتبراً لصح أن نتصور أنه قد شرع إيجاب إنكار المنكر لتحقيق المزيد من المنكرات أو إضاعة الكثير من الحسنات، وهو باطل بلا نزاع، بل ولأمكن ألا نتطلب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة أو نتوقع من فشو المنكرات مفسدة، وبطلانه بين.
ومن الأدلة الشرعية على اعتبار المآلات وترتب كثير من الأحكام عليها:
1. قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، فقد نهى المؤمنين عن سب الأوثان رغم ما يتضمنه من مصلحة توهين أمر الشرك، وتخذيل المشركين وإذلالهم دفعاً لما يفضي إليه ذلك من سب المشركين لله سبحانه وتعالى.
2. الترخيص للمرأة أن تهاجر بلا محرم، وتقديمه على بقائها في دار الحرب بين أظهر المشركين حيث تفتن في دينها لأنه هذا أعظم مفسدة من سفرها بغير محرم كما فعلت أم كلثوم، وأنزل الله فيها آية الامتحان:يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ.
3. في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا:[يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ]، فإن قريشا لما بنت البيت استقصرت بها النفقة فنقصت من البيت ستة أذرع عن أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام من جهة الحطيم وهو المسمى بالحجر عند القوس، وجعلت للبيت بابا شرقيا ورفعته عن الأرض حتى لا يدخل أحد إلا بإذنهم وألغت الباب الغربي،فترك النبي صلى الله عليه وسلم البيت على هذا الحال ولم يعده على هيئتة التي بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام وعلى أساسه، دفعاً للفتنة التي يمكن أن تترتب على ذلك، لحداثة عهد الناس بجاهلية.
4. في الصحيحين،أن النبي قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استأذنه في قتل عبد الله بن أبي رأس المنافقين :[دَعْهُ لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ]؛فقد منع النبي صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين في ابتداء الإسلام؛ لأنَّ مصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل،وفي حياتهم مفسدة لما يسعون به من إفساد حال المسلمين، إلا أنها دون مفسدة قتلهم لما يترتب عليه من التهمة التي تبعد الطمأنينة عن مريدي الإسلام، والناس لا يميزون بين المنافق وغيره في أول الإسلام. قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 28/131):ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي بن سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لمالهم من أعوان فإزالة منكرهم بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمداً يقتل أصحابه.أهـ
5. تولي نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام على المالية والخزائن لملك هو وقومه كفار، قال تعالى:قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (يوسف:55-56)، قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 20/48):ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر بل ومسألته أن يجعله على خزائن الارض وكان هو وقومه كفارا، كما قال تعالى: https://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifوَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌhttps://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gif وقال سبحانه: https://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifيَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ*مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَhttps://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gif ومعلوم أنه مع كفرهم؛ لابد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته؛ ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد، وهو ما يراه من دين الله فان القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان، ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك وهذا كله داخل في قوله https://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifفَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْhttps://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gif.أهـ
6. في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَالَ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَامُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:[لا تُزْرِمُوهُ]، ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ.فأمره صلى الله عليه وسلم بترك الأعرابي حتى يفرغ من بوله لدفع ضرر أكبر وهو انتشار النجاسة، وما قد يحدث القطع المفاجئ عن البول من ضرر، ثم أمر بتطهير الموضع برش الدلو من الماء عليه، من هذا الباب.
7. نهي النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر عن الإمارة أو القيام على مال اليتيم، رغم أن كلا العملين من أفضل القربات عند الله لمن قام بحقها، ففي الإمارة والحكم: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :[إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِى حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا]رواه مسلم ، وفي كفالة اليتيم: قَالَ صلى الله عليه وسلم:[أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا]، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. رواه البخاري، فنهى أبا ذر عنهما لما علم له خصوصاً في ذلك من الصلاح.
8. الترخيص في السكوت عن إنكار المنكر إذا ترتب عليه تعريض النفس للهلاك دون أن يكون له أثر في دفع المنكر، لأن غاية ما يحمد في هذا المقام أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه. أما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له، بخلاف ما إذا كان لحسبته نوع تأثير في دفع المنكر، أو في كسر جاه الفاسق وتقوية قلوب أهل الدين، فإنه يستحب له أن ينكر ويصبر على ما يصيبه. والأصل في ذلك أن نوازن بين مصلحة الإنكار على الفجرة والفساق، وبين المفسدة التي تترتب على ذلك.
9. الأدلة الدالة على سد الذرائع كلها ، فإن غالبها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل على المشروعية ولكن مآله غير مشروع.
تفاوت المصالح وترتيبها :
لقد ثبت من الاستقراء أن كليات المصالح المعتبرة شرعاً والتي تدور حولها كافة الأحكام الشرعية خمس: حفظ الدين، حفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول فهو مصلحة، وكل ما يفوتها أو بعضها فهو مفسدة .
وهذه المصالح متفاوتة، وينتظم ترتيبها حسب الأهمية في خمس مراتب هي:1- حفظ الدين 2- حفظ النفس 3- حفظ العقل 4-حفظ النسل 5- حفظ المال، فما يكون به حفظ الدين مقدم على ما يكون به حفظا لنفس عند التعارض، وما يكون به حفظ النفس مقدم على ما يكون به حفظ المال وهكذا.
ومن الأدلة على ترتيب المصالح على خمس مراتب :
1. مشروعية الجهاد الذي يتضمن التغرير بالنفوس، دليل على أن مصلحة حفظ الدين مقدمة على مصلحة حفظ النفس، ولذلك شرعت التضحية بها في سبيله، قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)
2. الإجماع على جواز شرب المسكر بالقدر الضروري إذا تعين سبيلاً لإزالة الغصة مما يدل على أن حفظ النفس مقدم على حفظ العقل.
3. قوله تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [النور:33]. يدل على أن مصلحة المال وكسبه متأخرة عن مصلحة حفظ النسل.
ومن أدلة تفاوت مراتبها:
https://alboraq.info/images/smilies/up-icon.gif قوله تعالى : https://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifإِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماًhttps://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gif[النساء:31] . فقد دلت الآية على أن المعاصي متفاوتة في الإثم المترتب على ارتكابها، وتفاوت الإثم على المعاصي ليس لتفاوت القوة في طلب الترك، وإنما لتفاوت حجم المفاسد المترتب عليها، وغير خاف أن المفاسد ليست إلا نقائض للمصالح، فتفاوتها في الخطورة ليس إلا فرع تفاوت المصالح في الأهمية.
https://alboraq.info/images/smilies/up-icon.gif في الصحيحين –واللفظ لمسلم- عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:[الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ]، فقد دل الحديث على أن المصالح التي أتى بها الدين متفاوتة في العلو والرتبة فإذا كان أعلاها متمثلاً في شهادة التوحيد، وأدناها ممثلاً بإماطة الأذى عن الطريق، فإن ما بين هذين الطرفين من المصالح متدرج في العلو والنزول بينهما حسب مدى القرب والبعد إلى كل منهما.
الوسائل للمصالح وترتيبها:
وكما أن المصالح متدرجة في الأهمية على النحو السابق فإن الوسائل إلى تحقيقها متدرجة كذلك من الضروري إلى الحاجي إلى التحسيني .
فالضروري ما لا بد منه لحفظ هذه المصالح الخمسة وذلك بإقامتها من ناحية ودرء الفساد الواقع أو المتوقع عليها من ناحية أخرى، مثل:
1. الضرورة إلى إقامة الأركان وإلى الجهاد لحفظ الدين.
2. والضرورة إلى إباحة أصل الغذاء وتشريع القصاص لحفظ النفس.
3. والضرورة إلى تحريم الخمر والعقوبة عليها لحفظ العقل.
4. والضرورة إلى إباحة الزواج وحرمة الزنا لحفظ النسل.
5. والضرورة إلى إباحة المعاملات المالية وتحريم السرقة لحفظ المال وكسبه.
والحاجي ما يحتاج إليه لحفظ هذه المصالح ولا يصل إلى حد الضرورة، فيمكن أن تتحقق من دونه هذه المصالح الخمسة ولكن مع الضيق،مثل:
1. الحاجة إلى الرخص عند المشقة لحفظ الدين.
2. الحاجة إلى إباحة الصيد والتمتع بالطيبات – أي ما زاد على الغذاء – لحفظ النفس.
3. الحاجة إلى العلوم والمعارف لحفظ العقل.
4. التوسع في شرعية المعاملات كالقراض والسلم والمساقاة لحفظ المال.
5. تشريع المهور والطلاق لحفظ النسل.
والتحسيني ما استحسن في العادة لحفظ هذه المصالح دون احتياج بالمعنى السابق فهو ما لا يؤدي تركه إلى ضيق، ولكن مراعاته تتفق مع مبدأ الأخذ بما يليق وتجنب ما لا يليق،مثل:
1. أخذ الزينة وستر العورة وأحكام النجاسات والطهارات والتقرب بنوافل الخير لحفظ الدين.
2. آداب الأكل والشرب لحفظ النفس .
3. اجتناب اللهو وكل ما ينصرف به العقل عما خلق من أجله لحفظ العقل.
4. آداب المعاشرة لحفظ النسل.
5. المنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ لحفظ المال.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



دراسات في السياسة الشرعية ((المصالح والفاسد 2)) فقه الموازنات أو فقه الأولويات
فإن موضوع الموازنة بين المصالح والمفاسد أو فقه الأولويات معلم عظيم من معالم ديننا الحنيف، وهو ثابت في الكتاب والسنة وقد كان هذا العلم رائد الصحابة، وعلماء الأمة، فما كان أحدهم يفتي إلا وهو يوازن بين المصالح لتحقيق مراد الله، وهو أعظم مصلحة يبتغيها الإنسان.


بسم الله الرحمن الرحيم
دراسات في السياسة الشرعية - بقلم: أمير الجيش الإسلامي في العراق
المصالح والفاسد (2)
فقه الموازنات أو فقه الأولويات

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى أله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإن موضوع الموازنة بين المصالح والمفاسد أو فقه الأولويات معلم عظيم من معالم ديننا الحنيف، وهو ثابت في الكتاب والسنة وقد كان هذا العلم رائد الصحابة، وعلماء الأمة، فما كان أحدهم يفتي إلا وهو يوازن بين المصالح لتحقيق مراد الله، وهو أعظم مصلحة يبتغيها الإنسان.
تعريف الموازنة:
لبيان معنى الموازنة لا بد من التطرق لبيان معنى التعارض والترجيح لارتباط بعضها ببعض.وقد أشار إلى هذا العز بن عبد السلام بقوله (قواعد الأحكام 98): قاعدة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضت مصلحتان، وتعذر جمعهما، فإن علم رجحان إحداهما قدمت. أهـ
تعارض المصالح: هو تقابل المصالح على وجه يمنع العمل بإحداهما العمل بالأخرى.
تعارض المصالح: هو تقابل المصالح على وجه يمنع العمل بإحداهما العمل بالأخرى.
فالموازنة بين المصالح: هي المفاضلة بين المصالح المتعارضة والمتزاحمة لتقديم الأولى بالتقديم منها، وتتضمن الموازنة ثلاثة أمور :
الأول: الموازنة بين المصالح والمفاسد . الثاني: الموازنة بين المصالح بعضها وبعض. الثالث: الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض
أدلة مبدأ الموازنة
مبدأ الموازنة بين المصالح في الشريعة الإسلامية له أدلة كثيرة ومنها : قصة موسى عليه الصلاة والسلام في سورة الكهف مع العبد الصالح، قال تعالى حكاية عن الرجل الصالح: http://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً http://alboraq.info/images/smilies/mid-icon.gif وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماًhttp://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gifالآيات. وقال تعالى: http://alboraq.info/images/smilies/start-icon.gifيَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَاhttp://alboraq.info/images/smilies/end-icon.gif وفي البخاري أن أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَامَ أَعْرَابِىٌّ فَبَالَ فِى الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:[دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ، أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ]. قال النووي (شرح مسلم 2/194): وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما، لقوله صلى الله عليه وسلم:دعوه، قال العلماء:وهذا لمصلحتين إحداهما أنه لو قطع عليه بوله تضرر، وأصل التنجيس قد حصل فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به، والثانية: أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد.أهـ وقال ابن حجر (فتح الباري 1/595):لم ينكر النبي على الصحابة، ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي؟ بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة،وهو دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما،وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.أهـ في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ:[نَعَمْ] قُلْتُ فَلِمَ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِى الْبَيْتِ؟ قَالَ:[إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ] قُلْتُ فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ:[فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافَ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ لَنَظَرْتُ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْزِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ]وترجم له البخاري (الفتح 1/421) :باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه. قال ابن حجر (الفتح1/422):وفي الحديث معنى ما ترجم له، لأن قريشاً كانت تعظم أمر الكعبة جداً، فخشي صلى الله عليه وسلم أن يظنوا لأجل قرب عهدهم بالإسلام أنه غير بنائها ليتفرد بالفخر عليهم في ذلك، ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرما. وقال النووي (شرح مسلم5/421): في هذا الحديث دليل لقواعد من الأحكام منها : إذا تعارضت المصالح، أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدئ بالأهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن نقض الكعبة وردها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم عليه السلام مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهي خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة فيرون تغييرها عظيماً فتركها صلى الله عليه وسلم. قال الزركشي (المنثور في القواعد 1/348):قاعدة "تعارض المفسدتين" قال ابن عبد السلام : أجمعوا على دفع العظمى في ارتكاب الدنيا.
تفاوت المصالح شرعاً :
لقد امتهد أن المصالح متفاوتة وأن بعضها أهم من بعض، وأن المفاسد متفاوتة وأن بعضها أسوء من بعض، ومن ذلك:إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل لما أرسله داعياً إلى اليمن أن يبدأ بالأهم فالمهم وهو في الصحيحين وفيهما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم أَىُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ:[أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهْوَ خَلَقَكَ] قُلْتُ إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ ثُمَّ أَىُّ؟ قَالَ:[وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ]قُلْتُ ثُمَّ أَىُّ؟ قَالَ:[أَنْ تُزَانِىَ حَلِيلَةَ جَارِكَ]
تقسيمات المصالح :
الموازنة بين المصالح تعتمد أساساً على إيجاد مرجح في إحدى المصلحتين يجعل كفتها تميل عند مقارنتها من حيث الأهمية والأثر واعتبار الشارع، وغيره من موازين الترجيح على المصلحة المقابلة والمزاحمة.ويؤخذ من كلام العلماء أنه يمكن تقسيم المصالح باعتبارات عدة،ومن ذلك:
القسم الأول وهو المرتبط بمقاصد الشريعة الإسلامية ويحوي التقسيمات التالية :
أولاً: المصلحة المعتبرة والملغاة والمرسلة. ثانياً: الفرض والمندوب والمباح والمكروه والمحرم.
ثالثاً: الضروريات والحاجيات والتحسينيات. رابعاً: مصلحة حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال.
القسم الثاني وهو المبني على الاعتبارات الأخرى المختلفة لتقسيم المصالح ويحوي:
أولاً: مصلحة حق الرب وحق العبد. ثانياً: المصلحة القطعية والظنية والمتوهمة. ثالثاً: المصلحة المتفق عليها والمختلف فيها.
رابعاً:المصلحة الدائمة والمنقطعة. خامساً:مصلحة جلب المنفعة ودرء المفسدة. سادساً:المصلحة المتعلقة بالذات والمتعلقة بالغير.
سابعاً:مصلحة العزيمة والرخصة. ثامناً: المصلحة العامة والخاصة. تاسعاً: المصلحة المضيقة والموسعة. عاشراً:المصلحة الكبرى والصغرى.
قال ابن تيمية (مجموع الفتاوى22/344):وقد استحب أحمد لمن صلى بقوم لا يقنتون بالوتر، وأرادوا من الإمام أن لا يقنت لتأليفهم فقد استحب ترك الأفضل لتأليفهم، وهذا يوافق تعليل القاضي، فيستحب الجهر بها –البسملة– إذا كان المأمومون يختارون الجهر لتأليفهم، ويستحب أيضاً إذا كان فيه إظهار السنة، وهم يتعلمون السنة منه ولا ينكرونه عليه.وهذا كله يرجع إلى أصل جامع وهو أن المفضول قد يصير فاضلاً لمصلحة راجحة، وإذا كان المحرم كأكل الميتة قد يصير واجباً للمصلحة الراجحة ودفع الضرر، فلأن يصير المفضول فاضلاً لمصلحة راجحة أولى.وقال (المجموع 22/407):ويستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب بترك هذه المستحبات، لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب، وأنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متماً وقال :الخلاف شر.وقال (المجموع 24/194):فالعمل الواحد يكون فعله مستحباً تارة وتركه تارة، باعتبار ما يترجح من مصلحة فعله وتركه، بحسب الأدلة الشرعية، والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحته
ميزان الترجيح بين المصالح عند التعارض :
إذا تعارضت المصالح والمفاسد في مناط واحد كان الترجيح بينها على أساس ثلاثة أمور:
1. الأهمية الذاتية للمصلحة والوسيلة إليها:
تبين مما سبق أن المصالح متفاوتة، وأنها متدرجة بحسب أهميتها في مراتب أعلاها حفظ الدين، وأدناها حفظ المال، كما تبين أن الوسائل إلى تحقيقها متفاوتة كذلك بدءاً من الضروري وانتهاء بالتحسيني.
ويمثل هذا التدرج في الأهمية بالنسبة للمصالح والوسائل الميزان الأول للترجيح عند التعارض، فما تكون به ضرورة حفظ الدين مقدم على ما تكون به ضرورة حفظ النفس ، وما يكون به ضرورة حفظ النفس مقدم على ما يكون به ضرورة حفظ العقل وهكذا.وذلك كالترخيص في شرب الخمر لإزالة الغصة تقديماً لضرورة حفظ النفس على ضرورة حفظ العقل، وكإزالة محال الخمور وإن ترتب على ذلك إتلاف الأموال الطائلة التي قامت بها هذه المحال تقديماً لمصلحة حفظ العقل على مصلحة حفظ المال.
والضروري الذي تتحقق به إحدى هذه المصالح مقدم على الحاجي عند التعارض، وهذا الحاجي مقدم على التحسيني.ولا يستثنى من هذه القاعدة إلا استحباب تقديم الحاجي المتعلق بحفظ الدين على الضروري المتعلق بحفظ النفس ، وذلك إعزازاً لجانب الدين الذي هو أساس القيم كلها ، وذلك كقيام المسلم بأمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر وإن غلب على ظنه قتله، وإنما قلنا بالاستحباب فقط استصحاباً للأصل الذي هو جواز الترخص في مثل هذه الحال.وبناء على ذلك فلو تعارضت ضرورة حفظ الدين بالجهاد مع حاجي ككون الأئمة عدولاً غير فساق، فإنه يقدم الضروري على هذا الحاجي، فيجب الجهاد مع الأئمة أبراراً كانوا أو فجاراً، ويمضي الجهاد لا يبطله جور الأئمة ولا فسقهم. ولو تعارض أداء الجماعة وهو حاجي مع الاقتداء بالإمام الصالح وهو تحسيني –بأن كان الإمام فاسقاً أو مبتدعاً ولم يوجد غيره– ألغينا التحسيني من أجل الحاجي، وتعين إقامة الجماعة خلف هذا الفاسق أو المبتدع، لأن التزام التحسيني هنا وهو لا يكون إلا بترك الجماعة يؤدي إلى انتفاء الحاجي والتحسيني معاً.
2. مدى شمول المصلحة :
إذا كانت المصلحتان المتعارضتان في درجة واحدة من الأهمية الذاتية بأن كانتا في رتبة واحدة، ومتعلقتين بكلي واحد، انتقلنا إلى ضابط آخر للترجيح وهو مقدار شمولهما للناس وانتشار آثارهما بينهم، فنقدم أشملهما على الأخرى، إذ لا يعقل إهدار مصلحة جمهور الناس من أجل مصلحة فرد أو فئة قليلة منهم، وذلك كترجيح الاشتغال بتعليم العلوم الشرعية على الاشتغال بنوافل العبادات لأن الأول أشمل فائدة من الثاني، وترجيح مصلحة حفظ عقول الناس من الزيغ على مصلحة الفرد في ممارسة حرية الرأي والكتابة عند تعارضهما، وكترجيح مصلحة عامة أهل السوق على مصلحة الواحد منهم في تلقيه للركبان والشراء منهم خارج البلدة.
مدى توقع الوقوع :
وهو آكد ضوابط الترجيح بين المصالح عند التعارض، ذلك أن أساس اتصاف الفعل بكونه مصلحة أو مفسدة، إنما يكون بالنظر إلى ما يتمخض عنه في الخارج من النتائج وهي ثلاثة أنواع:1- مؤكد الحصول في العادة 2- مظنون الحصول 3- موهوم الحصول.
·فحفر بئر خلف باب دار في الظلام مفسدة مؤكدة، والتجارة في مال اليتيم نقداً مصلحة مؤكدة.
·وبيع السلاح في الفتنة وبيع العنب للخمار مفسدة راجحة، والتجارة في مال اليتيم ديناً مع التوثيق مصلحة راجحة.
·وهجوم فئة قليلة من عزل المسلمين على أضعافهم من الكفار المدججين بالسلاح مصلحة موهومة، وبيع العنب لمن جهلت صنعته مفسدة موهومة .وعلى هذا فلا يجوز ترجيح مصلحة على أخرى إذا كانت مشكوكة أو موهومة مهما بلغت أهميتها أو درجة شمولها بل لا بد أن تكون مع ذلك مقطوعة الحصول أو راجحة.
الرخص والتخفيفات الشرعية وأحكام الضرورة :
الرخص والتخفيفات الشرعية وأحكام الضرورة :
والرخص:ما وسع للمكلف في فعله لعذر وعجز عنه مع قيام السبب المحرم، وهي مجموعة من التخفيفات شرعها الله في حالات معينة دفعاً لمفسدة واقعة أو متوقعة، ومن ذلك القصر والجمع في السفر، والتيمم عند فقد الماء أو خشية استعماله، والفطر في رمضان من السفر والمرض والهرم والحمل. والعبادات مصالح ولما تعارضت مع مفاسد أكبر منها شرعت لها الرخص درءاً لأعظم المفسدتين وجلباً لأعظم المصلحتين.
وكذلك فيما يتعلق بمبدأ الضرورة، وهي الحالة الملجئة لتناول أو فعل الممنوع شرعاً. ففي هذه الحال تتغير موازين المصلحة والمفسدة عن حالة الاعتياد، فتصبح المفسدة التي من أجلها حرم المحرم مرجوحة مقابل المصلحة المتحققة من إباحة هذا المحرم، وهي عين الموازنة بين المصالح والمفاسد. قال ابن تيمية (المجموع20/305):والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، فيفرق بين أحكام الأمور الواقعة الكائنة والتي يراد إيقاعها في الكتاب والسنة، ليقدم ما هو أكثر خيراً وأقل شراً على ما هو غيره، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك كان قوله وعمله بجهل، ومن عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.
تغير الفتوى بتغير متعلقاتها:
وقد عقد ابن القيم في (إعلام الموقعين3/11) فصلاً بعنوان (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) قال فيه :هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.
صفات الموازن :
أولاً : الإلمام بمقاصد الشريعة الإسلامية وهي الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد.
ثانياً : الإلمام بقواعد ودرجات المصالح من حيث الأهمية.
ثالثاً : العلم الوافي بالفن الذي تتعلق به الموازنة .
رابعاً : الإلمام بحاجة العصر وضرورياته (فقه الواقع).
وفهم المقاصد شرط لبلوغ درجة الاجتهاد قال الشاطبي(الموافقات4/105):إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين :1- فهم مقاصد الشريعة على كمالها، 2-التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.



دراسات في السياسة الشرعية ((المصالح والفاسد 3)) التعارض بين الحسنات والسيئات http://iaisite.org/images/M_images/printButton.png (http://iaisite.org/index2.php?option=com_content&task=view&id=366&pop=1&page=0&Itemid=34)http://iaisite.org/images/M_images/emailButton.png (http://iaisite.org/index2.php?option=com_content&task=emailform&id=366&itemid=34)
فإن الدين هو طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الدين والتقوى والبر والعمل الصالح والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما. ..


بسم الله الرحمن الرحيم


دراسات في السياسة الشرعية - بقلم: أمير الجيش الإسلامي في العراق
المصالح والمفاسد (3)
التعارض بين الحسنات والسيئات


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن الدين هو طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الدين والتقوى والبر والعمل الصالح والشرعة والمنهاج وإن كان بين هذه الأسماء فروق، وإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما.


وفي موضوع الحسنات والسيئات، فإن الترجيح بينها أمر سهل عندما لا تتعارض ويمكن الجمع، لكنه يصعب ويحتاج إلى عدة متطلبات حينما تتعارض وتزدحم، ولا يمكن الجمع بينها، وهنالك خمسة أحوال للتعارض لكل حال حكمه وهي:


· الأول: إذا تعارضت حسنتان بحيث لا يمكن الجمع بينهما فتقدم أحسنهما بتفويت المرجوح منهما.كالواجب والمستحب وكفرض العين وفرض الكفاية مثل تقديم قضاء الدين المطالب به على صدقة التطوع. وتقديم نفقة الأهل والوالدين على نفقة الجهاد الذي لم يتعين، في الصحيحين عن ابن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَىُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ:[الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا] قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:[ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ] قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ:[ثُمَّ الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ] قَالَ حَدَّثَنِي بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي. وتقديم الجهاد على الحج كما في الكتاب والسنة، متعين على متعين ومستحب على مستحب، وتقديم قراءة القرآن على الذكر إذا استويا في عمل القلب واللسان وتقديم الصلاة عليهما إذا شاركتهما في عمل القلب وإلا فقد يترجح الذكر بالفهم والوجل على القراءة التي لا تجاوز الحناجر.
· الثاني: إذا تعارضت سيئتان بحيث لا يمكن دفعهما جميعا فتدفع أسوأهما باحتمال أدناهما، كتقديم قطع السارق ورجم الزاني على مضرة السرقة والزنا، وكذلك سائر العقوبات المأمور بها، فإنما أمر بها مع أنها في الأصل سيئة وفيها ضرر لدفع ما هو أعظم ضررا منها، وهي جرائمها إذ لا يمكن دفع ذلك الفساد الكبير إلا بهذا الفساد الصغير.
· الثالث: إذا كان التعارض بين حسنة وسيئة بحيث لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة لكن منفعة الحسنة أرجح قدمت ولو تضمن مضرة السيئة،كتقديم قتل النفس على الكفر، كما قال تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)، فتقتل النفوس التي تحصل بها الفتنه عن الإيمان لأن ضرر الكفر أعظم من ضرر قتل النفس.
وكذلك في باب الجهاد وإن كان قتل من لم يقاتل من النساء والصبيان وغيرهم حراما، فمتى احتيج إلى قتال قد يعمهم مثل الرمي بالمنجنيق والتبييت بالليل جاز ذلك، كما جاءت فيها السنة في حصار الطائف ورميهم بالمنجنيق وفى أهل الدار من المشركين يبيتون، وهو دفع لفساد الفتنه أيضا بقتل من لا يجوز قصد قتله.ومن ذلك إباحة نكاح الأمة خشية العنت.
· الرابع: إذا كان التعارض بين حسنة وسيئة بحيث لا يمكن التفريق بينهما، بل فعل الحسنة مستلزم لوقوع السيئة، وترك السيئة مستلزم لترك الحسنة، لكن منفعة فعل السيئة أعظم منفعة من تركها، مثل أكل الميتة عند المخمصة.
· الخامس: إذا تساوت منفعة الحسنة ومضرة السيئة، أو لم يمكن الترجيح فتدرأ السيئة ولو أدى إلى ترك الحسنة، وفي القاعدة المشهورة، "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح إذا كانت متساوية".

والحسنة تترك في موضعين :


إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها كترك الواعظ الإنكار على رجل يسيء الصلاة إذا ترتب على ذلك انقطاع الوعظ بالمرة.

إذا كانت مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة هذه الحسنة، كمنعه قتل المنافقين حتى لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.

والسيئة تحتمل في موضعين :


دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها،فالسكوت على المعاصي مفسدة لكن إذا ترتب على الإنكار ما هو أعظم فساداً تعين السكوت

تحصيل ما هو أنفع من تركها، إذا لم يمكن تحصيله إلا بها، كقبول الولاية التي تتضمن شيئاً من الجور أو الظلم لا تنفك عنه، لتخفيف الظلم الواقع على المسلمين، وإقامة ما يمكن إقامته من العدل فيهم، إذا كانت هذه المصالح أعظم مما يشوب الولاية من المفاسد.

قال شيخ الإسلام: فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصل بما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها، والحسنة تترك في موضعين إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها أو مستلزمة لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة.أهـ


الأوامر والنواهي:



vلقد أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بأفعال واجبة ومستحبة، وإن كان الواجب مستحبا وزيادة، وكذلك حمد أفعالا هي الحسنات ووعد عليها، والحسنات لها منافع، وإن كانت واجبة كان في تركها مضار.



vونهى عن أفعال محرمة أو مكروهة، وذم أفعالا هي السيئات وأوعد عليها، والسيئات فيها مضار وفي المكروه بعض حسنات.

الموازنات الدينية وقيد الاستطاعة:


http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif وقيد سبحانه وتعالى الأمور بالقدرة والاستطاعة والوسع والطاقة،



http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif ففي الطاعات، قال سبحانه: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ) وقال: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )، وقال عز من قائل: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، وفي الصيام والإحرام والطهارة والصلاة والجهاد من هذا أنواع.


http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif وفي المنهيات، قال تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) ،وقال: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ)، وقال: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقال تبارك وتعالى: (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ)


http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif وفي المتعارض، قال عز وجل: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) ،وقال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) ، وقال سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً) ، وقال سبحانه:(وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ).

الموازنات المتعلقة بأمر دنيوي:


http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif سقوط الواجب لمضرة في الدنيا كسقوط الصيام لأجل السفر وسقوط محظورات الإحرام وأركان الصلاة لأجل المرض.



http://alboraq.info/images/smilies/orange-pullet.gif إباحة المحرم لحاجة في الدنيا كوجود السلطان مع ظلمه على عدم السلطان كما قالوا:ستون سنة من سلطان ظالم خير من ليلة بلاسلطان

وهذا باب آخر يدخل في سعة الدين ورفع الحرج الذي قد تختلف فيه الشرائع بخلاف الموازنات الدينية التي سبق تفصيلها أعلاه، فإن جنسها مما لا يمكن اختلاف الشرائع فيه وان اختلفت في أعيانه، وكله ثابت في العقل كما يقال ليس الفقيه الذي يعلم الخير من الشر إنما الفقيه الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد:
إن اللبيب إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان داوى الأخطرا


وكله ثابت في سائر الأمور، فإن الطبيب مثلا يحتاج إلى تقوية القوة ودفع المرض، والفصاد أداة تزيدهما معا، فإنه يرجح عند وفور القوة تركه إضعافا للمرض، وعند ضعف القوة فعله، لأن منفعة إبقاء القوة والمرض أولى من إذهابهما جميعا، فإن ذهاب القوة مستلزمة للهلاك، ولهذا استقر في عقول الناس أنه عند الجدب يكون نزول المطر لهم رحمة، وإن كان يتقوى بما ينبته أقوام على ظلمهم، لكن عدمه أشد ضررا عليهم،


vوالعمل وإن كان جائزا أو مستحبا أو واجبا فقد يكون في حق الرجل المعين غير هذا العمل أوجب أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى.


حكم فعل الراجح وترك المرجوح حين التزاحم:


vإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أو كدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تاركا لواجب في الحقيقة،وإن سمي ترك واجب باعتبار الإطلاق. ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر. كما يقال لمن نام عن صلاة أو نسيها وصلاها فى غير الوقت المطلق قضاءا، في الصحيحين عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:[مَنْ نَسِىَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا].فيسمى قضاءا باعتبار الإطلاق وإلا فهو وقتها بالنسبة لمن نسي أو نام لوجود العذر.



v إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما، لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا فعل المحرم للمصلحة الراجحة أو لضرورة أو لدفع ما هو أشد حرمة.

الأحوال التي تكثر فيها المتعارضات:
إن باب التعارض واسع جدا، لاسيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة فان هذه المسائل تكثر فيها وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة.


إختلاف أنظار الناس في المتعارضات:

إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، واختلفت أنظار الناس:


· فأقوام ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن فعل سيئات عظيمة.



· وأقوام ينظرون إلى السيئات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن ترك حسنات عظيمة.


· والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء، ويزداد هذا تعقيدا في المسائل الحادثة الأمنية والعسكرية وأشدها تعقيدا السياسية.

فينبغي للعالم أن يتدبر أنواع هذه المسائل، وقد يكون الواجب في بعضها العفو عند الأمر والنهي في بعض الأشياء لا التحليل والإسقاط، مثل أن يكون في أمره بطاعة فعلا لمعصية أكبر منها فيترك الأمر بها دفعا لوقوع تلك المعصية، مثل أن ترفع مذنبا إلى ذي سلطان ظالم فيعتدي عليه في العقوبة ما يكون أعظم ضررا من ذنبه، ومثل أن يكون في نهيه عن بعض المنكرات تركا لمعروف هو أعظم منفعة من ترك المنكرات، فيسكت عن النهي خوفا أن يستلزم ترك ما أمر الله به ورسوله مما هو عنده أعظم من مجرد ترك ذلك المنكر، والعالم تارة يأمر وتارة ينهى وتارة يسكت، كالأمر بالصلاح الخالص أو الراجح أو النهي عن الفساد الخالص أو الراجح، وعند التعارض يرجح الراجح بحسب الإمكان.
فأما إذا كان المأمور والمنهي لا يتقيد بالممكن إما لجهله وإما لظلمه، ولا يمكن إزالة جهله وظلمه فربما كان الأصلح الكف والإمساك عن أمره ونهيه، كما قيل إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء والنهي عن أشياء حتى علا الإسلام وظهر، فالعالم في البيان والبلاغ كذلك قد يؤخر البيان والبلاغ لأشياء إلى وقت التمكن، كما أخر الله سبحانه إنزال آيات وبيان أحكام إلى وقت تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيانها، يبين حقيقة الحال في هذا أن الله يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)،

والحجة على عباد الله تعالى والوجوب والتحريم إنما تقوم بشيئين:


1- التمكن من العلم بما أنزل الله.



2- والقدرة على العمل به.

فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم فانه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير والمسئول أن يوجبه جميعه ابتداءا، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عليه الصلاة والسلام عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط فتدبر هذا الأصل فانه نافع.ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وان كانت واجبة أو محرمة في الأصل لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم فان العجز مسقط للأمر والنهي وإن كان واجبا في الأصل.
وقد كتب شيخ الإسلام في هذه المسائل كثيرا، وجل هذه الرسالة هو مقتطفات من حدائقه ذات البهجة والنور وخاصة ما ورد في (مجموع الفتاوى20/48 وما بعدها).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

بقلم: أمير الجيش الإسلامي في العراق -حفظه الله-

ايمان نور
03-26-2008, 05:43 PM
حفظه وحفظك الله
إضافة مفيدة جدا رفع الله قدركما بها