المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبدالرحمن الكواكبي



سليمان الخراشي
03-18-2008, 03:17 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


قال الأستاذ خالد الدبيان في رسالته القيّمة " الجمعيات القومية العربية وموقفها من الإسلام والمسلمين " ، ( ص 258 – 283 ) :
( وأختار نموذجاً واحداً للدعاة والمفكرين القوميين، وهو: عبدالرحمن الكواكبي، وسأحصر الحديث عن الموضوعات التي طرحها وكانت سبباً من أسباب نشأة الجمعيات القومية.
يذكر أحد معاصريه بأن الكواكبي قد أكثر من الكتابة في أغراض سياسية وإدارية وحقوقية واقتصادية. وألف أربعة كتب لم يبق منها إلا (طبائع الاستبداد) و(أم القرى). أما الكتابان الآخران فـ(صحائف قريش) و(العظمة لله). وكانت كتابات الكواكبي تدور في دائرة لا تكاد تتبدل، وهي الإصلاح السياسي والديني. وأنشأ في مصر حلقة واسعة ومتنوعة تضم النصارى واليهود إلى جانب المسلمين، وكان يُطبق في حياته المبدأ الذي دعا إليه.
وعن تأثير كتابات عبدالرحمن الكواكبي في تأسيس الجمعيات القومية العربية، فقد قال محمد كرد علي: بأن له الفضل بتنبيهه الأفكار، ووصف شقاء الأمة ، فأبدع بدعوته بدعة حسنة لم يُسبق إليها. فأودى بحياته ليؤسس للعرب دولة ترعاهم، وتوفَّرَ على حمل النور إليهم( ).

كتاباه الشهيران ( طبائع الاستبداد ) و ( أم القرى ) :

قدم الكواكبي – كما سبق -كتابين عرض فيهما أطروحاته الفكرية ، التي أثرت في أعضاء الجمعيات القومية العربية، وهما كتابا: (طبائع الاستبداد) وكتاب (أم القرى) ( ). وفي هذين الكتابين بيان لضعف العالم الإسلامي عامة ، وأقطاره العربية خاصة، وبيان أسباب هذا الضعف وأنواع علاجه الممكنة، وفيهما دعوة حارة إلى اقتباس العلاج الصحيح.. وهذان الكتابان من حيث هما مشاركة في الحركة العربية، يتبوأن مكانة فريدة وحدهما في أصالتهما، واتساع أفقهما وجرأتهما( ).
ويؤكد محمد عزة دروزة -أحد أعضاء الجمعيات القومية العربية- أن ما قدمه الكواكبي من كتابات ومقالات كان لها أثر عظيم في أفكار ناشئة العرب ووعيهم ويقظتهم، مما جعلهم يعدونه من أبرز رجال النهضة القومية وموقظيها( ).
بل لقد قرر بعض القوميين أن آراء الكواكبي لا تختلف عما ينادي به اليوم أعمق الوطنيين من زعماء العرب، فهو يدعو إلى التسامح الديني، واجتماع المسلمين والنصارى على حب الوطن والدفاع عنه، ويهاجم الاستعمار الغربي( ).
ويقول مصطفى الشهابي - أحد أعضاء الجمعيات القومية-: لقد عُد الكواكبي من كبار رجال النهضة الحديثة، وانتفع بكتاب (أم القرى) كثير من شبان الرعيل الأول ، وكانوا يطالعونه في دمشق، وينقلونه في السر من واحد إلى آخر( ).
وعن علاقة الكتابين وترابطهما الفكري القومي، يقول رشيد رضا: ( إن سجل (أم القرى) يتطرق إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، وكتاب طبائع الاستبداد يتطرق إلى الإصلاح السياسي) ( ).
ولم تقتصر الجهود الفكرية التي قدمها الكواكبي في هذين الكتابين، فقد كان له جهود في المجال الصحفي، فمن ذلك: تولى في شبابه تحرير جريدة (الفرات) الرسمية التي كانت تصدر باللغتين العربية والتركية، وأصدر خلال ذلك جريدة سماها (الشهباء) فأغلقتها الحكومة بعد مدة بدعوى أنها نشرت أفكاراً لا يجوز نشرها.. ووافى مصر وأخذ ينشر في مصر جريدة (المؤيد) ( ).
لم تكن معالجات الكواكبي لواقع مجتمعه مجرد أطروحات فكرية فقط، وإنما قال عنه أعضاء الجمعيات القومية دخل إلى ميدان الوظائف الحكومية، وأعلن سخطه على الطغيان وندد به.. وهرب إلى مصر ليعيش في جوها الذي يتيح قسطاً أكبر من الحرية( ).
وباستعراض الموضوعات التي ناقشها الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) نجد أنه يُعتبر من أجرأ من كتب في الدعوة إلى الحرية وإلى الحياة النيابية. وفي محاربة الاستبداد وبيان أثره السييءّ في شتى نواحي المجتمع، علمية وخلقية ودينية واقتصادية وعمرانية( ).
وكتاب طبائع الاستبداد، يحتوي على مقدمة وسبعة فصول ؛ منها، الاستبداد والدين، الاستبداد والمجد، الاستبداد والتربية، الاستبداد والترقي، الاستبداد والتخلص منه( ).
وفي تفصيل أدق لبعض مباحث هذا الكتاب، نجد الكواكبي حينما يعالج موضوع الاستبداد في الحياة السياسة وأبعاد هذه المسألة يقول: (هذه خمسة وعشرون مبحثاً كل منها يحتاج إلى تدقيق عميق، وتفصيل طويل، وتطبيق عن الأحوال والمقتضيات الخصوصية، وقد ذكرت هذه المباحث تذكرة لأولى الألباب وتنشيطاً للنجباء. نذكر بعض هذه المباحث.
1-مبحث ما هي الأمة أي الشعب.
2-مبحث ما هي الحكومة.
3-مبحث ما هي الحقوق العمومية.
4-مبحث التساوي في الحقوق.
5-مبحث الحقوق الشخصية.
6-مبحث نوعية الحكومة.
7-مبحث المراقبة على الحكومة.
8-مبحث حفظ السلطة في القوانين.
9-مبحث كيف توضع القوانين.
10-مبحث توزيع الأعمال والوظائف.
11-مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم( ).
وتعرض الكواكبي لبعض الأفكار والمبادئ عن موضوع الاستبداد التي ذكرها في كتابه. فقال: (الاستبداد ريح صرصر فيه إعصار يجعل الإنسان كل ساعة في شأن، وهو مفسد للدين في أهم قسمية، أي الأخلاق.. ولما كان ضبط أخلاق الطبقات العليا من الناس من أهم الأمور، أطلقت الأمم الحرة حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات) ( ).
ولما كانت الإرادة والاستبداد عنصران متناقضان، قرر الكواكبي قيمة الإرادة، بأنها (لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة، فهي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النباتات في تعريفه بأنه متحرك بالإرادة. فأسير الاستبداد الفاقد الإرادة هو مسلوب حق الحيوانية فضلاً عن الإنسانية) ( ).
وبيّن الكواكبي مفهوم الحرية، وأن أكثر المصائب جاءت بفقدانها، فقال: (إن البلية فقدُنا الحرية، وما أدري ما الحرية، هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه، وقد عرف الحرية من عرفها: بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم . ومن فروع الحرية : تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في المطالبة وبذل النصيحة. ومنها: حرية التعليم، وحرية الخطابة والمطبوعات، وحرية المباحثات العلمية، ومنها العدالة بأسرها( ).
ومطلب الحرية أكثرت الجمعيات القومية في مطالبته، حتى أصبح من الشعارات التي نادت به، وأكد أعضاء الجمعيات القومية في المؤتمر العربي الأول، أن من أماني العرب أن تكون صحافتهم مطلقة، وأقلام كتابهم غير مقيدة، ومدارسهم تضاء بكهرباء الوطنية السورية( ).
ويرى الكواكبي أن موضوع الاستبداد داء ينتشر في الأمة أجمع، فقال: (الحكومة المستبدة تكون طبعاً مستبدة في كل فروعها، من المستبد الأعظم إلى الشرطي إلى الفرّاش إلى كنّاس الشوارع) ويشير بعبارة موجزة إلى أن هذا التسلسل لا يكون في الحكومة الدستورية، حيث: (إن وزير المستبد هو وزير المستبد، لا وزير الدولة، كما هو في الحكومات الدستورية..) ( ).
وللاستبداد دور مهم في قلب كثير من المفاهيم، فمن ذلك كما يقول: (وقَبِل الناس من الاستبداد ما ساقهم إليه، من اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مطيع، والمشتكي المتظلم مفسد. والنبيه المدقق ملحد، والخامل المسكين هو الصالح الأمين. وقد اتّبع الناسُ الاستبداد في تسميته النصح فضولاً، والغيرة عداوة، والشهامة عتواً، والحمية جنوناً كما جاروه على اعتبار أن النفاق سياسة، والتحايل كياسة..) ( ).
وهكذا صور الكواكبي في كتابه آثار السلطة المطلقة التي لا يحدها قيد في الحاكم والمحكومين على السواء، ليصل آخر الأمر إلى أن كل عللنا يمكن أن ترد آخر الأمر إلى الاستبداد، وحينما حدد الداء قدم حلاً لهذه المشاكل، وهو التخلص من الاستبداد. ويكون ذلك بالطريقة التالية: (..إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقية الأمة في الإدراك والإحساس، وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس.. ومَبْنى قاعدةٍ، وأنه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ماذا يستبدل به( ).
لقد كانت هذه الكتابات من أبرز القضايا التي تبنتها الجمعيات القومية، بل قد يقال إن الجمعيات القومية العربية لم تؤسس إلا لتحقيق هذه القضايا. وبطرحه القومي لموضوع الاستبداد، قد يظهر عليه التأثر بالثورة الفرنسية، حيث عرض في كتابه طبائع الاستبداد سبيلين من سبل الإصلاح في نظره وأثنى عليهما، فأولهما: (سبيل النبيين) وثانيهما: (سبيل الفئة التي اتبعت أثرهم) ، يعني (فئة الحكماء الذين لم يأتوا بدين جديد، ولا تمسكوا بمعاداة كل دين، بل ارتقوا فوق الدهر في دينهم بما نقحوا وهذبوا وسهلوا وقربوا) وضرب مثلاً لهذه الفئة ، فذكر (مؤسسي جمهورية الفرنسيس) ( ).

والكتاب الآخر للكواكبي هو كتاب (أم القرى) وهو عبارة عن أسلوب محاضر جلسات مؤتمر تخيل انعقاده في مكة لبحث شؤون المسلمين، وما ألم بهم وبالإسلام وطرق معالجة ذلك، يحضره علماء وزعماء المسلمين، من اثنين وعشرين قطراً من أقطار العالم الإسلامي، قد اجتمعوا في مكة للحج. ويناقش المجتمعون أحوال المسلمين. وينددون في سياق ذلك بالاستبداد والظلم وانتقاد الحرية.
وبعد أن تبادلوا الآراء في أكثر من اثني عشر اجتماعاً رسمياً، قرروا أن ينشئوا جمعية ترمي إلى إحياء الإسلام والنهوض به( )، ونبذ سيادة الجهل والبدع والضلالات والتدجيل، ويقررون وجوب الرجوع إلى المبادئ الإسلامية من حق وعدل وحرية ومساواة وشورى وعلم وعمل، وإقامة خلافة عربية قرشية مستكملة للشروط الشرعية، وقائمة على أساس الشورى والحرية والحق، على أن يقوم في كل قطر حُكْمٌ يقوم عليه الصالحون من أهله بمصادقة الخليفة ، وعلى أساس الحرية والحق والشورى( ).
وكتاب أم القرى قد يكون أقوى صراحة في عباراته ومعانيه في مواجهة الدولة العثمانية، والحكم العثماني، حيث صرح الكواكبي في أم القرى بأن الخلافة يجب أن تكون عربية، بل يجب إقامة خلافة عربية مقام الخلافة العثمانية، وألقى بذور الشك في صحة اعتبار السلاطين العثمانيين خلفاء المسلمين( ).

لقد أبرز الكواكبي في (أم القرى) عدة قضايا فكرية هامة كانت سبباً في تأسيس الجمعيات القومية العربية، ويمكن حصرها بالنقاط التالية:
1-تحقيق مطلب إقامة خلافة عربية قرشية:
قال عبدالرحمن الكواكبي: (الجمعية لا يعنيها غير أمر النهضة الدينية بناء عليه رأت الجمعية.. أن يكون الخليفة، خليفة المسلمين، عربياً قرشياً مستجمعاً للشرائط في مكة) ( ).
وقد نادت الجمعيات القومية العربية بوجوب إقامة خلافة عربية قرشية يكون مقرها مكة المكرمة، ويتمتع الخليفة الديني باحترام الملك ، ويملك سلطة روحية فعليه على كافة مسلمي الأرض( ).
ولتحقيق هذا المطلب تبنت الجمعيات القومية العربية قضية ومناصرة ثورة الشريف (!)حسين بن علي، لإقامة خلافة عربية، فهو عربي ينتهي نسبه ببيت النبوة. كما تبنت أن يكون مقر الخلافة في مكة( ). ويذكر نبيه العظمة –أحد أعضاء الجمعيات القومية العربية – في مذاكراته أن الشريف حسين كان يقول لنا: (أنا خاتم في إصبعكم) ( ).
فيكون طرح الكواكبي لمسألة شروط اختيار الخليفة( ) ومقر الخلافة، من أبرز أسباب اختيار الجميعات القومية العربية للشريف حسين قائداً للثورة العربية.
وتأكيداً( ) لأحقية العرب بالخلافة بيّن الكواكبي قيمة العرب وبالذات عرب الجزيرة ومكانة الجزيرة العربية، ومدى صلاحية أهلها أن يقوموا بالخلافة الدينية، لذا أصدرت الجمعية القرارات ومنها:
قرار عدد (6) : إن الجمعية بعد البحث الدقيق والنظر العميق في أحوال وخصال الأقوام المسلمين الموجودين، وخصائص مواقعهم، والظروف المحيطة بهم، واستعداداتهم، وجدت أن الجزيرة العربية ولأهلها بالنظر إلى السياسة الدينية مجموعة خصائص وخصال لم تتوفر في غيرهم... والتي منها:
1-الجزيرة أنسب المواقع لأن تكون مركزاً للسياسة الدينية لتوسطها بين أقصى آسيا شرقاً وأقصى أفريقيا غرباً.
2-الجزيرة أسلم الأقاليم من الأخلاط جنسية وأدياناً ومذاهب.
3-الجزيرة أبعد الأقاليم عن مجاورة الأجانب.
4-عرب الجزيرة مستحكم فيهم التخلق بالدين ؛ لأنه مناسب لطبائعهم الأهلية أكثر من مناسبته لغيرهم.
5-عرب الجزيرة أحرص الأمم الإسلامية على الحرية والاستقلال( ).
وعلى منهج الكواكبي في قيمة الجنس العربي، قرر أعضاء الجمعيات القومية أن الدم العربي الأصلي ما يزال حياً متمثلاً إلى الآن في جزيرة العرب، التي يتصل سكانها بسائر مواطن العرب الأخرى... اتصالاً وثيقاً، والتي ظلت وما تزال تمدهم من آن لآخر بحيويتها المستمرة وموجاتها الكبرى والصغرى الدائمة( ).

2-الطعن في حكم الأتراك:
قد يكون هناك تلازم في الفكر القومي عند الكواكبي بين الثناء على العرب، وبين القدح في الأتراك، وقد أكثر من ذم سلاطين الترك في كتابه أم القرى، من جوانب متعددة ؛ من أبرزها ما يلي:
أ-الشك في إسلام الترك: فقد قال: (إن إسلامهم -الترك- فيه ريبة، وسبب الريبة أن الأتراك لم يخدموا الإسلام بغير إقامة بعض جوامع ، لولا حظ نفوس ملوكهم بذكر أسمائهم على منابرها لم تقم. وأنهم أتوا الإسلام بالطاعة العمياء للكبراء) ( ).
وعن إعلان حكام الترك للإسلام وإقامة شرع الدين، بين الكواكبي أنهم يفعلون ذلك بقصد الرياء، فإنهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطتهم على البسطاء من الأمة، كما أن ظواهر عقائدهم وبواطنها تحكم عليهم بأنهم مشركون ولو شركاً خفياً من حيث لا يشعرون( ). فاحترام الشعائر الدينية في أكثر ملوك آل عثمان هي ظواهر محضة، وليس من غرضهم، بل ولا من شأنهم أن يقدموا الاهتمام بالدين على مصلحة الملك( ).
ب-ضعف قدرة سلاطين الأتراك على سياسة البلاد: الترك قد تركوا الأمة أربعة قرون ولا خليفة، وتركوا الدين تعبث به الأهواء ولا مرجع، وتركوا المسلمين صماً بكماً عمياً ولا مرشد. أليس الترك قد تركوا الهند مساهلة، وتركوا الممالك الجسيمة الآسيوية للروسيين، وتركوا قارة أفريقيا الإسلامية للطامعين... أفما آن لهم –الترك- أن يستيقظوا ويصبحوا من النادمين على ما فرطوا في القرون الخالية، فيتركون الخلافة لأهلها والدين لحماته( ).
ووقعت حوادث بعد إعلان الدستور، أظهرت عند أعضاء الجمعيات القومية حقيقة ضعف الأتراك على إدارة الدولة، فمن تلك: موقف حكومة الاتحاديين من غزو إيطاليا لطرابلس الغرب، وكتابة معاهدة بينها وبين إيطاليا في عام 1912 تقضي باعتراف تركيا بسيادة إيطاليا على طرابلس ، وأن تكون خاضعة خضوعاً تاماً للسيادة الملكية الإيطالية. فكان لهذا الصلح أثره السيئ على أعضاء الجمعيات القومية العربية، مما جعل عزيز المصري -مؤسس جمعية العهد- يترك طرابلس الغرب ويعود إلى الآستانة، وأصبح يقال ويشاع: (إن الترك قد سلموا العرب لأعدائهم) ( ).
ومن صور قدح الكواكبي في حكام الأتراك، قضية توزيع الزكوات، حيث قال: إن شريعتنا مبنية على أن في أموال الأغنياء حقاً معلوماً للبائس والمحروم، فيؤخذ من الأغنياء ويوزع على الفقراء، وهذه الحكومات الإسلامية، قد قلبت الموضوع، فصارت تجبي الأموال من الفقراء والمساكين وتبذلها للأغنياء، وتحابي بها المسرفين والسفهاء( ).
وعلى غرار مآخذ الكواكبي على سلاطين الدولة العثمانية، سلكت الجمعيات القومية العربية هذا المسلك متأثرة بكتابات الكواكبي، فمما قالوا: (لم يهتم الترك منذ أن استولوا على البلاد العربية وعلى الخلافة بالتفاهم مع العناصر الأخرى التي يحكمونها، ولا سيما العنصر العربي، وقد جعل هذا العنصر بعد ثورة 1909 يشكو من سوء ما يعامل به، وكيف أن المراكز التي جعلت للعرب في الوزارات المتعاقبة كانت ثانوية لا تتكافأ مع أهميتهم، -ثم بينوا هضم العرب- وقالوا: كأن الترك يخافون منا، ومن عددنا، ومن فكرتنا الاستقلالية( ).
ويصف أعضاء الجمعيات القومية الدولة العثمانية بأنها دولة محتلة للبلاد العربية، وأن اعتقاد المسلمين بالخلافة العثمانية، قوى نفوذ الدولة العثمانية وسهل حكمها تسهيلاً كبيراً.. بل إن فكرة (الخلافة العثمانية) ساعدت كثيراً على استسلام العرب للحكم العثماني، وأخرت كثيراً نشوء فكرة القومية العربية( ).
وقد بين عبدالغني العريسي أثناء المؤتمر الأول الذي عقد في باريس، أن الحكومة العثمانية تعامل الجنسيات العثمانية معاملة الغالب للمغلوب على قاعدة (حق الفتح)، وأكد بأن الدولة العثمانية إذا استطاعت أن تدعي (حق الفتح) في بلاد البلقان مثلاً فلا تستطيع أن تدعيه لاحقّاً ولا حقيقة في البلاد العربية.. فإنما نحن الرعاة لا الرعية( ).

3-العداء بين العرب والترك:
قد يكون إثارة موضوع الخلاف بين الترك والعرب من الموضوعات التي أثيرت بعد إعلان الدستور، ومحاولة فرض سيطرة أعضاء تركية الفتاة على زمام الحكم ومن ثم الدعوة إلى تتريك الدولة، إلا أن في كتابات الكواكبي نجده طرح مسألة الخلاف بين الترك والعرب، مما يؤكد أن كتاباته تعد من أبرز أسباب تحيز العرب لعروبتهم.
وقد استعرض الكواكبي قضية عدم تطابق الأخلاق بين الرعاة والرعية، وبين أن هناك أممًا مختلفة قد تخلقت بأخلاق الرعية، واتحدت معها في عوائدها ومشاربها حتى ولو في العوائد غير المستحسنة في ذاتها( ).
وبعد هذا العرض لموقف الدولة العثمانية من رعاياها، قال: (فلم يشذ في هذا الباب غير المغول الأتراك أي العثمانيين، فإنهم بالعكس يفتخرون بمحافظتهم على غيرية رعاياهم لهم، فلم يسعوا باستتراكهم ، كما أنهم لم يقبلوا أن يستعربوا.. ولا يعقل لذلك سبب غير شديد بغضهم للعرب كما يستدل عليه من أقوالهم التي تجري على ألسنتهم مجرى الأمثال في حق العرب: كإطلاقهم على عرب الحجاز (ديلنجي عرب) أي العرب الشحاذين.. وتعبيرهم بلفظة (عرب) عن الرقيق ، وعن كل حيوان أسود. وقولهم (بس عرب) أي عربي قذر) ( ).
لقد كانت هذه الكلمات من المبررات عند العرب للتحيز لعروبتهم، كما قال أحمد قدري: (أنه شاهدنا ضابطاً تركيا يخطب في جمهور غفير عن حسنات الدستور والعهد الجديد وعن مساوئ العهد البائد، ويتحامل أثناء ذلك على اثنين من كبار خاصة السلطان عبدالحميد، وهما عزت العابد، والشيخ أبو الهدى الصيادي، فينعتهما بقوله "الخائن عرب عزة" و"الخائن عرب أبو الهدى"( ).

4-فصل السياسة عن الدين:
من أبرز المسائل التي ناقشتها الجمعية في اجتماعها، مسألة علاقة السياسة بالدين، وما مدى علاقة الخليفة (الديني) بتنظيم الدولة.
لقد كان من مبادئ جمعية أم القرى، كما في القضية (14): لا تتداخل في الشؤون السياسية مطلقاً فيما عدا إرشادات أو إخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه( ).
وعن قرارات وأنشطة الجمعية ما ورد في القضية رقم (43): تتجول الجمعية في البلاد الإسلامية القريبة والبعيدة، للاطلاع على أحوال البلاد وأهلها من حيث الدين والمعارف، وإرشادهم إلى ما يلزم إرشادهم إليه في ذلك حسبما تقتضيه الأخوة الدينية، بدون التعرض للأحوال السياسية قطعياً( ).
وبهذا حدد مجال نظر الجمعية بأنه منحصر في النهضة الدينية فقط، وتؤمل أن يأتي الانتظام السياسي تبعاً للدين، ولكن الأصل في قرار الجمعية: أن السلطان المعظم يصلح أن يكون عضداً عظيماً في الأمر، أما إذا أراد أن يكون هو القائم به فلا يتم قطعياً، لأن الدين شيء والملك شيء آخر، والسلطان غير الدولة( ).
وبعد فصل السلطة السياسية عن الدين، أصّل الكواكبي قواعد ومهام الخلافة، في نظر الجمعية، فقال:
فقرة (2): يكون حكم الخليفة سياسة مقصوراً على الخطة الحجازية، ومربوطاً بشورى خاصة حجازية.
فقرة (4): تتشكل هيئة الشورى العامة من نحو مائة عضو منتخبين، مندوبين من قبل جميع السلطنات والإمارات الإسلامية، وتكون وظائفها منحصرة في شؤون السياسة العامة الدينية فقط.
فقرة (12): الخليفة لا يتداخل في شيء من الشؤون السياسية والإدارية في السلطنات والإمارات قطعياً.
فقرة (14): الخليفة لا يكون تحت أمره قوة عسكرية مطلقاً، ويذكر اسمه في الخطبة قبل أسماء السلاطين... أما وظائف الشورى العامة فيقتضي أن لا تخرج عن تمحيص أمهات المسائل الدينية التي لها تعلق مهم في سياسة الأمة، وتأثير قوي في أخلاقها ونشاطها. ومن ذلك: ...فتح أبواب حسن الطاعة للحكومات العادلة والاستفادة من إرشاداتها وإن كانت غير مسلمة، وسد أبواب الانقياد المطلق ولو لمثل عمر بن الخطاب( ).
ولقد أكثر أعضاء الجمعيات القومية العربية من الحديث في مسألة الظلم والعدل، والطاعة المستنيرة والطاعة المطلقة، وقرر أعضاء الجمعيات القومية العربية أن حكومة الآستانة غير مستوفية الشروط والأركان من وجهة العدل ما دام حقنا غير محفوظ، لأن الحكومات في نظر (إعلان حقوق الإنسان) لا تكون مشروعة إلا إذا احترمت حق الأفراد ، فمن باب أولى حق الجماعات والشعوب( ).

5-الحكم المركزي واللامركزي عند الكواكبي:
في تحديد مهام الملك عند الكواكبي يظهر طرحه لمبدأ الحكم المركزي واللامركزي، فقد قال: (الملك وظيفته النظارة العامة وانتخاب وزير يثق بأخلاقه، ويعتمد على خبرته... فالملك إذا تغرر وتنـزل للتداخل في أمور السياسة أو الإدارة الملكية أو الأمور الحربية أو القضاء، فلا شك أنه يكون كرَبِّ بيت يداخل طبّاخه في مهنته، ويشارك بستانيه في صنعته، فيفسد طعامه ويبور بستانه، فيشتكي ولا يدري أن آفته في نفسه( ).
ويندرج هذا الحكم على الأمة، فتصاب بالفتور ، والذي من أبرز أسبابه: السياسة المطلقة من السيطرة والمسؤولية. وحرمان الأمة من حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل، وكذلك فقدان العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة، وإبعاد الأمراء النبلاء والأحرار وتقريب المتملقين والأشرار. وينتج من هذا فقدان قوة الرأي العام بالحجر والتفريق( ).
لقد ركز الكواكبي على مطلب الحكم اللامركزي، وبين أن اللامركزية في الحكم، لا تتحقق بتوحيد القوانين في الدولة، مع اختلاف طبائع أطراف المملكة واختلاف الأهالي في الأجناس والعادات، وأكد الكواكبي ضرورة أن يحصل كل قوم من أهالي تركيا على استقلال نوعي إداري، يناسب عاداتهم وطبائع بلادهم، كما هي الحالة في إمارات ألمانيا وولايات أمريكا الشمالية.
وبعد أن بين الكواكبي مفاسد الحكم المركزي، ومحاسن الحكم اللامركزي، ذكر أن الدولة العثمانية تطبق الحكم المركزي، ذاكراً بعض صور مركزية الحكم في ذلك، منها:
التمسك بأصول الإدارة المركزية مع بُعد الأطراف عن العاصمة وعدم وقوف رؤساء الإدارة في المركز على أحوال تلك الأطراف المتباعدة وخصائص سكانها.
وكذلك: التزام المخالفة الجنسية في استخدام العمال بقصد تعسر التفاهم بين العمال والأهالي، وتعذر الامتزاج بينهم لتأمين الإدارة غائلة الاتفاق عليها. والتميز الفاحش بين أجناس الرعية في الغُنْم والُغْرم، وإدارة المصالح المهمة السياسية والملكية بدون استشارة الرعية ولا قبول مناقشة فيها. وإن كانت إدارة مشهودة المضرة في كل حركة وسكون.
وهذا المسلك غير محمود في الحكم، كان من آثاره على الدولة العثمانية –كما ذكر الكواكبي- أن الدولة العثمانية وقعت في الغفلة أو التغافل عن مقتضيات الزمان ومباراة الجيران وترقية السكان، بسبب عدم الاهتمام بالمستقبل والضغط على الأفكار المنتبهة بقصد منع نموها وسموها ، واطلاعها على مجاري الإدارة، محاسنها ومعايبها( ).
إن قضية الحكم اللامركزي شغلت حيزاً كبيراً من مطالب الجمعيات القومية العربية، ولذا أسس أعضاء الجمعيات القومية العربية جمعية باسم (الجمعية اللامركزية). وخلال المؤتمر العربي الأول تناول أعضاء الجمعيات القومية العربية، قضية الحكومة اللامركزية، وكان أكثر من تناولها بالتركيز، مندوب الجمعية اللامركزية (اسكندر عمون) ( )( ).
ويتفق مفهوم الحكومة اللامركزية عند الجمعيات القومية العربية، مع مفهوم الكواكبي، بأنها توزيع السلطة الإدارية على المراكز المختلفة التي يتألف منها الجسم السياسي والاجتماعي، عوضاً عن حصرها في جزء واحد مركزي، ليتيسر لكل جزء الاهتمام بتدبير شؤونه الخاصة به بنفسه عن علم، مع حفظ الصلة بالمركز حرصاً على مصلحة الكل( ).
ويُعتبر ما قدمته مجلة (المنار) من كتابات حول موضوع فوائد الحكم اللامركزي، تأصيلاً لهذه القضية، فقد قامت (المنار) بدراسة مقارنة عن فوائد الحكم اللامركزي، وضرر المركزية، مبينة أن الحكومة العثمانية قد أعجزها تنائي أطراف المملكة، واختلاف لغات وأجناس ومشارب أهلها عن تنفيذ قوانينها في كل ولاية، فجاءت اللامركزية توزع التبعة على أفراد الأمة بمقدار ما تعطيهم من السيطرة على مصالح الوطن... وتصل دراسة (المنار) إلى: أن الحكومة المركزية غير قادرة على الدفاع عن أكثر البلاد العثمانية إذا هاجمها عدو أجنبي، ولذلك فإن المملكة ستكون عرضة لخطر الزوال، وبالتالي تكون الحكومة المركزية مهددة بفقد الاستقلال( ).

6-الولاء والبراء عند الكواكبي:
إن ما كتبه الكواكبي عن موضوع الولاء والبراء يُمَكن من حَصْرِ القضايا التي تناولها في المناقشة، بما لي:
أ-الرابطة القومية مقدمة على الرابطة الدينية: قال الكواكبي : (يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين. أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلّكم من أن لا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون. فهذه أمم أستراليا وأمريكا قد هداها العلم لطرائق شتى، وأصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري.. –ويتساءل الكواكبي- فما لنا نحن . ألا نفتكر في أن نتبع إحدى تلك الطرائق أو شبهها، فيقول عقلاؤنا لمثيري الشحناء من الأعاجم والأجانب: دعونا يا هؤلاء نحن ندبر شأننا نتفاهم بالفصحاء، ونتراحم بالإخاء، ونتواسى في الضراء، ونتساوى في السراء، دعونا ندبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الآخرة فقط، دعونا نجتمع على كلمات سواء ألا وهي (فلتحيى الأمة، فليحيى الوطن، فلنحيا طلقاء أعزاء) ( ).
لقد كانت هذه الكلمات ومثيلاتها، من أبلغ الحجج عند أعضاء الجمعيات القومية، في تأسيس الجمعيات القومية العربية على أساس الرابطة القومية، وأن يقولوا: استطاعت المثل العليا المشتركة أن تجمع بين العقائد المتناحرة، وتوحدها في رابطة إيجابية فعالة، تعمل لتحقيق أهداف مشتركة، وأن يكون الحافز لهم إلى العمل هو اهتمامهم بتقدم البلاد على أساس الوحدة الوطنية. كما أصبح الرابط الذي يؤلف بينهم هو اعتزازهم بالتراث العربي( ).
ب-مجاراة العرب للغرب: إن النهوض العلمي المادي في الدول الغربية كان من عوامل انبهار الكواكبي بالدول الأوربية، ووجوب الأخذ بما عندهم من الصغير والكبير. فمما قال في تطور العلوم الرياضية والطبيعية في أوربا: أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب، وعلى مرِّ القرون، ترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشئون المادية والأدبية، حتى صارت كالشمس، لا حياة لذي حياة إلا بنورها، فأصبح المسلمون مع شاسع بعدهم عنها محتاجين إليها لمجاراة جيرانهم، احتياجاً يعم الجزئيات والكليات: من تربية الطفل إلى سياسة الممالك... بل أضحى المسلمون محتاجين للحكمة العقلية، التي كادت تجعل الغربيين أدرى منا حتى في مباني ديننا( ).
ويقرر الكواكبي أن مبدأ مجاراة المسلم للغرب، والأخذ عنهم من الشئون المادية والأدبية، ويعم الجزئيات والكليات: من تربية الطفل إلى سياسة الممالك. أنه مبدأ لا يخالف الإسلام، حيث أن أصل الإسلامي لا يستلزم الوحشة بين المسلمين وغيرهم، بل يستلزم الألفة، وذلك أن العرب أينما حلوا من البلاد، جذبوا أهلها بحسن القدوة والمثال لدينهم ولغتهم. ويشمل مبدأ الألفة للغرب كما قرره الكواكبي لو أن الغرب استعمروا بلاد المسلمين، فيقول: إن المسلمين لم ينفروا من الأمم التي حلت بلادهم وحكمتهم، فلم يهاجروا منها كعدن وتونس ومصر بخلاف الأتراك، بل يعتبرون دخولهم تحت سلطة غيرهم من حكم الله لأنهم يذعنون لكلمة ربهم تعالى ( وتلك الأيام نداولها بين الناس)( ) !
ج-تفضيل الحكم الأجنبي الكافر على حكم الأتراك: انطلاقاً من دافع مقاومة ما يسميه الكواكبي -ظلم واستبداد حكام الأتراك-. ففضل حكم من سماه الكافر العادل على حكم الأتراك، إذ أن حكام الترك حينما يضاف إلى شركهم ما هم عليه من الظلم والجور، يحكم عليهم بالشرع والعقل بأن ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين، لأنهم أقرب للعدل ولإقامة المصالح العامة، وأقدر على إعمار البلاد وترقية العباد( ). قد يكون من أسباب تفضيل الكواكبي حكم الكفار أنهم: لا يحذرون من الخلافة العربية، بل يرون من صوالحهم الخصوصية، وصوالح النصرانية، وصوالح الإنسانية أن يؤيدوا قيام الخلافة العربية( ).
وينقم الكواكبي على من يتنقد طالبي الإصلاح وبخاصة حينما يتعرضون لنقد أمراء المسلمين، فيقول عن معارضي الإصلاح: يعتبرون طالبي الإصلاح من المارقين من الدين، كأن مجرد كون الأمير مسلماً يغني عن كل شيء حتى عن العدل، وكأن طاعته واجبة على المسلمين، وإن كان يخرب بلادهم ويقتل أولادهم ويقودهم ليسلمهم لحكومات أجنبية( ).

7-التنظير في مسألة تأسيس الجمعيات:
في كتاب الكواكبي (أم القرى) إشارات وتصريحات في فضائل الجمعيات، وقد تعتبر بعض الآراء التي ذكرها الكواكبي، في مقام التنظير لتأسيس الجمعيات القومية العربية، ومن تلك الآراء، قال الكواكبي: (.. إن الجمعيات المنتظمة يتسنى لها الثبات على مشروعها عمراً طويلاً.. وتأتي بأعمالها كلها بعزائم صادقة لا يفسدها التردد.. وهذا هو سر كون الجمعيات تقوم بالعظائم وتأتي بالعجائب، وهذا لا يبعد أن يتم لنا انعقاد جمعية منتظمة تنعقد الآمال بناصيتها، ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلاً، ولا سيما إذا كانت فقيرة ، ولم تكن كغالب الأكاديميات (أي المجامع العلمية) تحت حماية رسمية، بل الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب .. انتظام جمعية يكون لها صوت جهوري، إذا نادى مؤذنها حي على الفلاح.. ووظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة وترقى بها في معارج المعارف، متباعدة عن كل صبغة سياسية( ).
ويعتبر عبدالرحمن الكواكبي فقدان الجمعيات في بلاد المسلمين من أسباب انحطاط المسلمين، فيقول: لا تربية قويمة المبادئ، ينتج منها رأي عام لا يطرقه تخاذل وانقسام، ولا جمعيات منتظمة تسعى بالخير وتتابع السير، ولذلك حل فينا الفتور.. فلا تفقد الجمعيات إلا بسبب فقد الإحساس( ).
إن ظهور الفتور في الأمة في رأي الكواكبي بسبب فقد قوة الجمعيات وثمرة دوام قيامها( ). حيث أن دور الجمعيات عند الكواكبي أنها تسعى إلى:
أولاً: لتنوير الأفكار بالتعليم، ثانياً: إيجاد شوق للترقي في رؤوس الناشئة( ).
وهذا الانحطاط الذي حل بالمسلمين، لا يوجد بالأمم الغربية- كما يقول الكواكبي- لاهتمامهم بوسائل الاجتماعات والمفاوضات، فذكر من تلك الوسائل: إعدادهم في مدنهم ساحات ومنتديات، تسهيلاً للاجتماع والمذاكرات وإلقاء الخطب وإبداء التظاهرات. ومنها: نشرهم في الجرائد اليومية كل الوقائع والمطالعات الفكرية( ).
هذا بعض ما قدمه الكواكبي من أطروحات قومية، كانت – مع الأسباب الأخرى- سبباً من أسباب نشأة الجمعيات القومية العربية. ) . انتهى كلام الأستاذ خالد - وفقه الله - ، والهوامش موجودة في رسالته القيّمة .

يُضاف :
1- قال الشيخ سفر الحوالي - سلمه الله - في كتابه " العلمانية " ( ص 580 ) : ( إنه - أي الكواكبي - أول من نادى بفكرة العلمانية حسب مفهومها الأوربي الصريح ... - ثم نقل بعض عباراته - ) .

2- اعترف حفيده سعد الكواكبي أن جده كان من أسرة شيعية ! فنسبه يعود إلى الأسرة الصفوية الشهيرة التي حكمت إيران ، وأرغمت أهل السنة بالقوة على التشيع . إلا أنهم تسننوا كما يدعي . ثم قال : ( ويصر الإخوة ! الشيعة على أن ذلك كان من أفراد الأسرة على سبيل التقية ! ) . ( حركة الإصلاح في العصر الحديث - الكواكبي نموذجًا - ، ص 36-37 ) .ويُنظر أيضًا كتاب ( الإمام الكواكبي - فصل الدين عن الدولة ، لجان دايه ، ص 100 ) .

تنبيه :

لايعارض ماسبق بعض أقوال الكواكبي في كتابه " أم القرى " في دعوته إلى العودة في الدين لماكان عليه الصحابة رضي الله عنهم ؛ لأن الدين مادام محصورًا عنده في العبادات فلا تعارض بينه وبين دعوته " القومية " و " العلمانية " .
ومن تلك الأقوال الجيدة ، قوله على لسان العالم النجدي :
( ثم يا أيها الإخوان : أظنكم كذلك تستصوبون أن نترك جانباً اختلاف المذاهب التي نحن متبعوها تقليداً فلا نعرف مآخذ كثير من أحكامها ، وأن نعتمد ما نعلم من صريح الكتاب وصحيح السنة وثابت الإجماع ، وذلك لكيلا نتفرق في الآراء ، وليكون مما نقرره مقبولاً عند جميع أهل القبلة ، إذ إن مذهب السلف هو الأصل الذي لا يرد ، ولا تستنكف الأمة أن ترجع إليه ...
فقال العالم النجدي : إني أستسمح السادة الإخوان عن إملالهم بمقدمات وتعريفات هم أعلم مني بها، بل هي عندهم في رتبة البديهيات، ولكن ، لا بد منها للباحث رعاية لقاعدة التسلسل الفكري والترتيب القياسي، فأقول: ..
ومن أمهات قواعد ديننا ، أن نعتقد : أن محمداً عليه السلام بلغ رسالته، لم يترك ،ولم يكتم منها شيئاً ، وأنه أتم وظيفته بما جاء به من كتاب الله ، وبما قاله ، أو فعله ، أو أقره على سبيل التشريع إكمالاً لدين الله .
ومن أهم قواعد ديننا أيضاً : أنه محظور علينا أن نزيد على ما بلغنا إياه رسول الله ، أو ننقص منه أو نتصرف فيه بعقولنا ، بل متحتم علينا أن نتبع ما جاء به الصريح المحكم من القرآن ، والواضح الثابت مما قاله الرسول ، أو فعله ، أو اقره ، وما أجمع عليه الصحابة ، إن أدركنا حكمه ذلك التشريع ، أو لم نقدر على إدراكها ، وأن نترك ما يتشابه علينا من القرآن ، فنقول فيه : (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من عند ربنا)
ومن قواعد ديننا كذلك : أن نكون مختارين في باقي شؤوننا الحيوية، نتصرف فيها كما نشاء، مع رعاية القواعد العمومية التي شرعها ، أو ندب إليها الرسول ، وتقتضيها الحكمة أو الفضيلة ، كعدم الإضرار بالنفس أو الغير ، والرأفة على الضعيف ، والسعي وراء العلم النافع ، والكسب بتبادل الأعمال ، والاعتدال في الأمور ، والإنصاف في المعاملات ، والعدل في الحكم ، والوفاء بالعهد ، إلى غير ذلك من القواعد الشريفة العامة . وهذه مقدمة ثانية.
وبما ذكر وغيره من الآيات البينات جعل الله هذه الأعمال لقريش شركاً به حتى صرح النبي صلى الله عليه وسلم في الحلف بغير الله أنه شرك فقال : ( من حلف بغير الله فقد أشرك) . وجعل الله القربان لغيره والإهلال والذبح على الأنصاب شركاً، وحرم تسييب السوائب والبحائر لما فيها من ذلك المعنى. ومكان المشركون يحجون لغير بيت الله بقصد زيارة محلات لأصنامهم ،فنهى النبي عليه الصلاة والسلام أمته على مثل ذلك ، فقال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) بناء عليه ، لا ريب أن هذه الأعمال وأمثالها شرك ، أو مدرجة للشرك. (مرحى) .
فلينظر الآن ، هل فشا في الإسلام شيء من هذه الأعمال وأشباهها في الصورة أو الحكم ؟ ومن لا تأخذه في الله لومة لائم ، لا يرى أبداً من التصريح بأن حالة السواد الأعظم من أهل القبلة ، في غير جزيرة العرب، تشبه حالة المشركين من كل الوجوه ، وأن الدين عندهم عاد غريب كما بدأ كشأن غيرهم من الأمم.
فمنهم الذين استبدلوا الأصنام بالقبور ، فبنو عليها المساجد والمشاهد، وأسرجوا له ، وأرخوا عليها الستور ، يطوفون حولها مقبلين مستلمين أركانها، ويهتفون بأسماء سكانها في الشدائد ، ويذبحون عنده القرابين يهل بها عمداً لغير الله ،وينذرون لها النذور ، ويشدون للحج إليها الرحال ، ويعلقون بسكانها الآمال ، يستنزلون الرحمة بذكرهم وعند قبورهم ، ويرجونهم ـ بالإلحاح وخضوع ومراقبة وخشوع ـ أن يتوسطوا لهم في قضاء الحاجات وقبول الدعوات ، وكل ذلك من الحب والتعظيم لغير الله ، والخوف والرجاء من سواه.
ومنهم من استعاضوا ألواح التماثيل عند النصارى والمشركين بألواح فيها أسماء معظميهم ، مصدرة بالنداء تبركاً وذكراً ودعاءً ، يعلقونها على الجدران في بيوتهم ، بل في مساجدهم أيضاً ويتوجون بها الأعلام من نحو : يا علي ، يا شاذلي ، يا دسوقي ، يارفاعي ، يابهاء الدين النقشي ، يا جلال الرومي ، يا بكتاش ولي.
ومنهم ناس يجتمعون لأجل العبادة بذكر الله ، ذكراً مشوياً بإنشاد المدائح والمغالاة لشعراء المتأخرين ، التي أهون ما فيها الإطراء الذي نهانا عنه النبي عليه الصلاة والسلام حتى لنفسه الشريفة فقال : (لا تطروني كما أطرت اليهود والنصارى أنبياءهم) . وبإنشاد مقامات شيوخية ، تغالوا فيها بالاستغاثة بشيوخهم والاستمداد منهم بصيغ لو سمعها مشركو قريش لكفروهم ، لأن أبلغ صيغة تلبية كانت لمشركي قريش قولهم : (لبيك ، اللهم لبيك لا شريك غير شريك واحد ، تملكه وما ملك) ، وهذه أخف شركاً من المقامات الشيوخية التي يهدرون بها إنشاداً بأصوات عالية مجتمعة ، وقلوب محترقة خاشعة كقولهم.
عبدالقادر يا كيلاني
صرت في خطب شديد
ياذا الفضل والإحسان
من إحسانك لا تنساني

وقولهم :
ألاهم يا رفاعي لي
رفاعي لا تضيعني
أنا المحسوب أنا المنسوب
أنا المحسوب أنا المنسوب

على نحو ذلك مما لايشك فيه شك أنه من صريح الإشراك الذي يأباه الدين الحنيف.
ومنهم جماعة لم يرضوا بالشرع المبين ، فابتدعوا أحكاماً في الدين سموها علم الباطن ، أو علم الحقيقية ، أو علم التصوف . علماً لم يعرف شيئاً من الصحابة والتابعون وأهل القرون الأولى المشهود لهم بالفضل في الدين . علماً نزعوا مسائله من تأويلات المتشابه من القرآن ، ومع أن الله تعالى أمرنا أن نقول في المتشابه منه (ءامنا به كل من عند ربنا) ، وقال تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله). وقال عز شأنه في حقهم : (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) . وقال تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم) . وقال تعال : (فاستقم كما أمرت) وقال تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) .
وانتزع هؤلاء المداجون أيضاً بعض تلك المزايدات من مشكلات الأحاديث والآثار ، ومما جاء عن النبي عليه السلام من قوله على سبيل الحكاية ، أو عمل على سبيل العادة ، أي لم يكن ذلك منه عليه السلام على سبيل التشريع. أو من الأحاديث التي وضعها أساطينها إغراباً في الدين لأجل جذب القلوب ، كما ورد في الحديث ومعناه: (يفتح بالقرآن على الناس حتى يقرأه المرأة والصبي والرجل ، فيقول الرجل قد قرأت القرآن فلم أتبع ، لأقومن به فيهم لعلي أتبع فيقوم فيهم فلا يتبع؛ فيقول قد قرأت القرآن ، وقمت به فلم أتبع ، لاحتضرن في بيتي مسجداً لعلي أبتع ، فيحتضر في بيته مسجداً لا يتبع، فيقول قدر قرأت القرآن ، وقمت به ، واحتضرت في بيتي مسجداً فلم أتبع ، والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ، ولم يسمعوه عن رسول الله لعلي أتبع ) .
ومنهم فئة اخترعوا عبادات وقربات لم يأت بها الإسلام ،ولا عهد له بها على أواخر القرن الرابع ؛ فكأن الله ـ تعالى ـ ترك لنا ديننا ناقصاً فهم أكملوه، أو كأن الله ـجل شأنه ـ لم ينزل يوم حجة الوداع : (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) .
أو كأن النبي عليه السلام لم يتمم ـ كما يزعمون ـ تبليغ رسالته ، فهم أتموها لنا ، أو كتم شيئاً من الدين وأسر به إلى بعض أصحابه وهم أبو بكر وعلي وبلال رضي الله عنهم ، وهؤلاء أسروا به إلى غيرهم ؛ وهكذا تسلسل حتى وصل إليهم ، فأفشوه لمن أرادوا من المؤمنين ، تعالى الله ورسوله عما يأفكون . وهل ليس من الكفر بإجماع الأمة اعتقاد أن النبي عليه السلام نقص التبليغ ، أو كتم أو أسر شيئاً من الدين. (مرحى) .
ومنهم جماعة اتخذوا دين الله لهواً ولعباً ، فجعلوا منه التغني والرقص ، ونقر الدفوف ودق الطبول ، ولبس الأخضر والأحمر، واللعب بالنار والسلاح والعقارب والحيات ، يخدعون بذلك البسطاء ، ويسترهبون الحمقاء.
ومنهم قوم يعتبرون البلادة سلاحاً ، والخمول خيراً ، والخبل خشوعاً، والصرع وصولاً ، والهذيان عرفاناً . والجنون منتهي المراتب السبع للكمال.
ومنهم خلفاء كهنة العرب ، يدعون علم الغيب بالاستخراج من الجفر والرمل وأحكام النجوم ، أو الروحاني الزايرجة ، أو الأبجدات ، أو بالنظر في الماء أو السماع والودع ، أو باستخدام الجن والمردة ؛ على غير ذلك من صنائع التدليس والإيهام والخزعبلات . وليس العجب انتشار ذلك بين العامة الذين هم كالأنعام في كل الأمم والأقوام ، بل العجب دخول بعضه على كثير من الخواص وقليل من العلماء ، كأنه من غريز الكمالات في دين الإسلام. (مرحى) .
فهذه حالات السواد الأعظم من الأمة ، وكلها إما شرك صراح ، أو مظنات إشراك ، حكمها في الحكمة الدينية حكم الشرك بلا إشكال ، وما جر الأمة إلى هذه الحالات الجاهلية ، وبالتعبير الأصح رجع بها إلى الشرك الأول ، إلا الميل الطبيعي للشرك كما سبق بيانه ، مع قلة علماء الدين ، وتهاون الموجودين في الهدى والإرشاد.
نعم رد العامة عن ميلها أمر غير هين ، وقد شبه النبي عليه السلام معاناته الناس فيه بقوله : (مثلي كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ، ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بحجزكم عن النار ، وأنتم تقتحمون فيها) .
وقد قال الله ـ تعالى ـ في العلماء المتهاونين عن الإرشاد كيلا يقابلوا الناس بما لا يهون : (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا الناس) وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي : نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وأكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكان يعتدون) .
بناء عليه فالتبعة كل التبعة على العلماء الراشدين ، ولم يزل ـ والحمد لله ـ في القاموس منزل ، ولم يستغرقنا بعد انتزاع العلماء بالكلية كما أنذرنا به النبي عليه السلام في قوله : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من الناس ، ولكن يقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم أتخذ الناس رؤساء جهلاء ، فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا). ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الأستاذ الرئيس : إن أخانا النجدي يعلم أن ما أفاض به علينا لا غبرا عليه بالنظر إلى قواعد الدين وواقع الحال، وكفى بما استشهد به من الآيات البينات براهين دامغة ، ولله على عباده الحجة البالغة... ) . ( ص 91-114 ) .
وقال عن جمعيته المقترحة :
( قضية (16) : لا تنتسب الجمعية إلى مذهب أو شيعة مخصوصة من مذاهب وشيع الإسلام مطلقاً.
قضية (17): توفق الجمعية مسلكها الديني على المشرب السلفي المعتدل ، وعلى نبذ كل زيادة وبدعة في الدين ، وعلى عدم الجدال فيه إلا بالتي هي أحسن ) . ( ص 182 ) .
والله الموفق ..