المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرد على شبهات الملحدين والمستشرقين والمبشرين عن النبى



الجندى
08-09-2008, 09:47 AM
الرد على شبهات الملحدين والمستشرقين والمبشرين
الشبهة الأولى: هل كان عليه الصلاة والسلام مخادعا كذابا؟
د. إبراهيم عوض
المصدر (http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=12559)

وُوجه الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل كثير من الخلق من أول يوم دعا فيه علانية إلى الإسلام، ولا يزال حتى يومنا هذا يُوَاجَه، بالتكذيب. وقد سجل القرآن في أكثر من موضع هذا الاتهام الذي رماه به مشركو قومه وردده النصارى واليهود. أما بالنسبة لخارج المحيط العربي فيقرر «شارل لودي» أن حكم الرومان عليه كان شديد القسوة، إذ اتهموه بأنه استولى على أموال خديجة وماشيتها، ولما افتضح أنه مصاب بالصرع أراد أن يواسيها، فزعم لها أن جبريل ينزل عليه بالوحي من السماء(1). وإذ غضضنا الآن البصر عن تهمة الصرع (لأننا سنعالجها مع غيرها من الاتهامات التي تشكك في صحته الجسدية أو النفسية والعقلية في فصل لاحق) تتبقى أمامنا تهمة الكذب واضحة لا تحتمل لبسًا. وليس الكُتَّاب الرومانيون القدماء هم وحدهم من بين الغربيين الذين يرمون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه التهمة، فإن طائفة كبيرة من المستشرقين، نصاراهم ويهودهم وعقلانييهم، يدعون أن القرآن هو اختراع محمدي نسبه «محمد» إلى الله (2)، وإن دفع بعضهم عن رسولنا هذه التهمة، كما فعل الكاتب البريطاني «توماس كارلايل» حين ساق ما زعمه «براديه» من أن القرآن طائفة من الأخاديع لفقها «محمد» ليسوِّغ ما اقترفه لبلوغ مطامعه (3). وقد بنى« كارلايل» دفاعه على أساس أن الإسلام لو كان دينا كاذبا لما استطاع أن يعيش طيلة هذه القرون تعتنقه كل هذه الملايين (4)، وكذلك على أساس أن محمدا لم يحاول، وهو في حرارة الشباب، أن يحدث ضجة جريا وراء الشهرة بل عاش مع زوجته عيشة هادئة (5)، أما «ألفريد جيوم» فإنه ينفي الكذب والادعاء عن الرسول، إذ يطبق عليه المقياس الذي يقاس به صدق النبي عند بني إسرائيل، وهو يتلخص في القول الثائر الملتهب، والشعر (6)، والإنشغال التام بالله والقضايا الأخلاقية، والشعور بأن ثمة ضغطا يسوقه سوقا لإعلان كلمة الله، فيجد أن هذه العلامات جميعها ظاهرة في حالة الرسول «محمد» عليه الصلاة والسلام. كما يرى في شكوكه عليه الصلاة والسلام في مصدر الوحي في أول الدعوة ومحاولته الانتحار دليلا قويا على صدقه، مقارنا إياه في هذا بالنبي أرميا(7). وبالمثل يؤكد «جب» أن محمدا كان مقتنعا تماما بأنه مبعوث من لدن رب العالمين(8).
وإلى جانب هذين الرأيين المتقابلين ثمة رأي ثالث يفرقُ بين الدعوة في مكة والدعوة في المدينة: ففي المرحلة الأولى كان «محمد» مخلصًا صادقًا: يتضح صدقه وإخلاصه في تحمسه الشديد، وتحمله المشاق، وإقناعه الأغنياء من أتباعه بالتواضع للفقراء والجلوس معهم. . . إلخ. أما في الثانية فقد أعماه نجاحه لدرجة أنه أخذ يخترع الوحي تلو الوحي لتحقيق شهواته وتسويغ انتهازيته. وهذا هو السبب، في نظر أصحاب هذا الرأي، في أن القرآن مليء بالمتناقضات والمزاعم الكاذبة(9).
والمقصود بالمزاعم الكاذبة هنا أن للرسول الحق في الاحتفاظ بأكثر من أربع زوجات، وأن «إبراهيم» هو الذي بنى الكعبة . . . إلخ. ومن أنصار هذا الرأي الكاتب الأمريكي الشهير «واشنجتن إرفنج»، الذي يرد على من اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بالزيف بأن النصف الأول من دعوته يكذب هذه التهمة، إذ ما الذي كان يبتغيه؟ أهو المال؟ لقد كان مال خديجة بين يديه، وهو من جهته لم يكن حريصا على الاستزادة منه. أهو الشرف إذن؟ لقد كان شريفًا في قومه، مُحترَما لذكائه وأمانته ومكانة أسرته، التي كان بيدها مقاليد الكعبة، فلِمَ يغامر بفقدان هذا كله في وقت كان يصعب عليه فيه بناء ثروته من جديد، وهو الذي فقد ماله كما فقد أصدقاؤه مالهم في سبيل الدعوة؟ ثم يمضي متسائلًا: لماذا يتحمل كل ألوان الاضطهاد إذن إذا كان نبيا زائفًا؟ (10)أما في المدينة فقد تغير، في نظر الكاتب الأمريكي، هذا كله، إذ بعد أن كان كل همه عليه الصلاة والسلام أن يجد من يحميه إذا به يرى أتباعه يقدسونه ويرى حوله جموعا بها رغبة إلى الحرب. عندئذ ثار طموحه الدنيوي وأصبح القرآن يسوغ له كل شيء، ووقع في كثير من المتناقضات.
باختصار: زال عنه صدقه وإخلاصه(11).
هذه هي النظرية الأولى التي حاول ومازال يحاول غير المسلمين تفسير ظاهرة الوحي القرآني بها. ولقد رد القرآن هذه التهمة عن الرسول وبين الباعث عليها، وذلك في الآية 33 من سورة «الأنعام» إذ يقول: {فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. بيد أننا لن نلجأ هنا إلى مثل هذه الآية، وإلا كان هذا مصادرة منا على المطلوب، فإن علينا أولًا أن نتأكد بالدليل القاطع من أن القرآن ليس اختراعا محمديا، وإلا كان «محمد» هنا، وهو المتهم بالكذب والتلفيق، يشهد لنفسه، وهى شهادة بالطبع مردودة، بل سوف نلجأ في مناقشتنا لهذه النظرية إلى سيرة الرسول في مصادرها الأولى، متتبعين ملامح شخصيته عن كَثَب، غير ملقين بالًا، من أخبار حياته وأخلاقه، إلا لما لاح عليه نور الصدق بمنطق العقل المجرد. وسوف نحاول أن تكون الزوايا التي ننظر منها إلى شخصيته والموازين التي نقيس بها أعماله عليه الصلاة والسلام زوايا وموازين جديدة بقدر الإمكان حتى لا تتحول هذه الدراسة إلى مجرد مضغ لآراء من سبقونا من الكتاب والمفكرين، وإن لم نقصد بأي حال من الأحوال، في ذات الوقت، أن نغمطهم حقوقهم، فمن المؤكد أننا لولاهم ما كنا ببالغي شيء مما بلغناه في هذه الدراسة.
لقد اشتهر الرسول بين قومه بالصدق والأمانة حتى لقد لقبوه بالأمين، ولم أجد أحدا من المستشرقين شاح في هذا. والملاحظ أنه عليه الصلاة والسلام، حين أعلن دعوته لعشيرته الأقربين أول مرة، قد اعتمد على استفاضة هذه الشهرة فيهم فلم يشأ أن يفاجئهم بالدعوة إلى الدين الجديد قبل أن يحصل على اعترافهم الصريح بصدقه وأمانته، إذ سألهم وهو واقف فوق أحد المرتفعات المحيطة بمكة: "أرأيتم لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا (يقصد: خيلًا مغيرة عليهم) أكنتم مصدقيّ؟ » فردوا جميعا في نفس واحد: «نعم» عندئذ دعاهم إلى الإسلام. لكنهم، ولما تنفض ثوانٍ على إقرارهم بصدقه وأمانته، عادوا فسفهوا حِلمه وانفضوا عنه(12). وقد كان «أبو بكر» نسابة يعلم ماضي كل إنسان في قريش وأسرته وأخلاقه، فلو كان يعرف أقل مغمز في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ما دخل في الإسلام، فضلا عن أن يدخل فيه بدون ذرة من تردد(13).
وقد بلغ من ثقتهم به أنهم كانوا يأتمنونه على أموالهم وودائعهم حتى بعد البعثة واستحكام عداوتهم له. ولو كان المؤتمن أحدًا آخر غير «محمد» لكان خليقا أن يحمل معه هذه الودائع ليلة الهجرة بعد أن وصلت هذه العداوة حد التآمر الخسيس على قتله. لكنه، وهو الصادق الأمين بحق، لم يستحل لنفسه منها دانقا، بل خلف وراءه ابن عمه وربيبه عليا، وكان لا يزال صبيا، فنام في فراشه تضليلا لهم حتى أصبح الصباح فغدا عليهم فسلم لكل منهم ما كان ائتمن عليه «محمدًا» عليه الصلاة والسلام(14). وهذه الأمانة وهذا الصدق في التعامل مع الناس لم يزايلاه لحظة واحدة طول حياته لا في مكة ولا في المدينة، على عكس ما يزعمه هؤلاء المستشرقون من أن تيار الأحداث بعد الهجرة قد جرفه بعيدا عما كان يحرص على الاستمساك به من مثالية في مطالع الدعوة. ولنترك «ابن هشام» يرو عن «ابن إسحاق» بأسلوبه البسيط التلقائي القصة التالية: «قال ابن إسحاق: وكان من حديث الأسود الراعي، فيما بلغني، أنه أتى رسول صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خبير، ومعه غنم له كان فيها أجيرًا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه. فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، أو كما قال، فقال الأسود: فأخذ حفنة من الحصا فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا. فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله . . . إلخ»(15). والشاهد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يلوث مسلم جديد إسلامه بمثل هذه الخيانة، مع العلم بأنه بعد انتصاره علي يهود خيبر قد حاز من أموالهم وأرضيهم وماشيتهم أضعافا أضعاف هذا القطيع من الغنم.
ولكن غنم الأموال في حرب شريفة شئ، واتخاذ الدخول في الإسلام تكأة لمثل هذا الاستيلاء الغادر عليها شيء آخر لا تقبله أخلاق الصادقين المطبوعين على الأمانة والوفاء حتى مع ألدَّ الأعداء.
وقد كان موقفه عليه الصلاة والسلام، حين نزل عليه الوحي أول مرة، دليلا من دلائل صدقه التي لا تقبل المماراة. لقد شك في مصدر هذا الوحي ورعب منه. وقصته حين عاد من الغار إلى بيته ليلا وهو يهتف: « دثروني. دثروني » أشهر من أن نحتاج إلى سوقها بالتفصيل(16). ووجه العبرة فيها، فيما نحن بصدده، أنه لو كان كاذبا في أمر جبريل والوحي لكانت له في ميدان الكذب مراغم واسعة يستطيع أن يصول فيها و‏يجول كيفما شاء. لقد كان الأحرى به، لو كان مزيفا دجالا، أن يدعي أن جبريل، بدلا من أن يغطه مرات ثلاثا حتى كادت روحه أن تزهق، قد أخذ بيده أخذا رفيقا حانيا، وسمر معه سمر الأصدقاء المتفاهمين بدلا من هذا الأمر الخاطف الجازم ‏الذي لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يفهم كنهه ولا المقصود به: « اقرأ». كذلك كان الأحرى به عندئذ أن يعود إلى بيته مبتسما منشرح الصدر. أليس يزعم أنه قد نزل عليه وحي من عند رب العالمين؟ إذن فقد اصطفاه هذا الرب خليلا ورسولًا، وإذن فالنتيجة المنطقية لهذه الكذبة العريضة أن يشفعها بكذبة أخرى عريضة مثلها تبين كيف أن ربه تجلى له شخصيا، وكلمه مشافهة، وربت علي كتفه. . . إلى آخر هذا الهراء الذي هو بالكاذبين الدجالين أقمن، وبصدوره عن عقولهم ونفوسهم الملتوية أشبه(17).
إننا حين نسوق هذا الدليل لا نفعل ذلك لمجرد أننا مسلمون، فقد قمت بهذه الدراسة المضنية لتبرئة ضميري أمام نفسي وربي أ‏ولا وقبل كل شيء، لأني أحب أن أتثبت من كل ما أعتقد أنه حق على قدر ما تسع طاقتي العقلية والنفسية من بحث وتقص وتقليب للأمر على وجوهه المختلفة. ثم إننا قد رأينا «ألفريد جيوم»، و‏هو مستشرق بريطاني لا يؤمن بنبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام، يعتمد هذا المقياس دليلا على صدقه ورغبته في التثبت من أن ما تجلى له في غار حراء إنما هو حق لا ريب فيه. و‏ها هو ذا «واشنجتن إرفنج» أيضا يستخدم هذا المقياس ذاته دليلا على صدقه و ‏أنه لم يشأ أن يستسلم من فوره لما ‏كان يمكن، من باب الاحتمال العقلي المجرد، أن يكون ضربا من الوهم(18). ليس ذلك فحسب، فإن «مكسيم رودنسون»، وهو الشيوعي الذي لا يؤمن أصلا بقوى روحية ويرجع بكل شيء إلى البيئة المادية أو أ‏ثرها في النفس الإنسانية، لا يفوته أن يبرز هذه النقطة، إذ يعترف بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شك طويلا قبل أن يطمئن إلى أن الذي يأتيه هو وحي من عند الله(19). وهذا الشك وهذه الرغبة في التثبت هما بدورهما دليل قوي لا يمكن رده على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتطلع قبل الوحي إلي أن يكون رسولا، وذلك خلافا لما يدعيه بلا برهان بعض المستشرقين من أن حادثة نقل الحجر الأسود جعلته يعتقد أنه مدعوّ لحمل رسالة (20)، إذ فضلا عن أ‏ن أحدا منهم لم يورد من حياة الرسول ولا تصرفاته دليلا واحدا ولو متهافتا على ذلك، فإن استعانة قريش بمحمد، عن طريق المصادفة المحضة، في فض خصومتهم حول نقل الحجر الأسود، لا يمكن أن تستتبع منطقيا اعتقاده في كون ذلك نذيرا بأنه مدعو لحمل رسالة ما. إن عقل «محمد» لم يكن في يوم من الأيام بهذا التهافت ولا بهذه الفسولة في الربط بين المقدمات ونتائجها. ويتصل بهذا مسألة فتور الوحي بعد الدفقة الأولى إلى الدرجة التي وجدها قومه فرصة لإيذاء مشاعره مدّعين أن شيطانه قد هجره(21)، فينزل الوحي مطمئنًا الرسول إلى أن حب ربه له باق لم يتغير، مما يدل على أن أثر هذا الادعاء قد وجد إلى قلبه سبيلًا. ترى لو كان كاذبًا دجالًا فما الذي يجعله يتوقف عن ادعاء الوحي ولو باللغو الفارغ من القول أو بتدبيج المدائح الإلهية الملفقة في شخصه؟ ولو افترضنا أنه قد فاته هذا فَلِم يتأثر بمثل هذا الادعاء كما تشي بذلك سورة «الضحى» مادام يعلم من نفسه أنه كاذب وأن الأمر كله لا يعدو تلفيقًا في تلفيق؟ إن ما داخله من حزن بسبب تقوُّلات قريش عنه إنما هو حزن الصادقين. إن هذه السورة ليست دفاعًا عن «محمد» ولا مدحًا له ولا شتمًا لأعدائه، وإنما هي طمأنة له في جملة قصيرة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }«الضحى، آية 3»، وتذكير بنعمة الله عليه وأنه كان يتيمًا فآواه الله، ضالًا فهداه سبحانه . . . إلخ. وكيفما كان معنى الضلالة والهداية هنا فإن هذا الكلام هو آخر شيء يمكن أن يصدر عن كاذب محتال في مثل هذا الموقف. ثم بعد الطمأنينة والتذكير تأتي الأوامر الإلهية التي نحس فيها نبرة علوية لا يمكن أن تكون صادرة منه عليه السلام إلى نفسه. وعندما تتجلى مرحلة القلق الأولى بشكوكها وتوتُّراتها نجد «محمدًا» عليه الصلاة والسلام طيلة حياته قوي الإيمان بربه وبرسالته، عميق اليقين والاطمئنان لدرجة مذهلة. إنه برغم ألوان الأذى التي صُبَّت عليه وعلى أتباعه على قلتهم وغربتهم في بلدهم، وبرغم صنوف المؤامرات وتتالي الحروب التي فُرض عليه خوضها ضد جميع القوى في الجزيرة العربية وخارجها بعد هجرته إلى المدينة، فإنه عليه صلوات الله وسلامه لم يتزحزح قيد شعرة عن شيء من معتقداته. ثم إنه لو كان دجالًا مخادعًا فما الذي أجبره أن يبقى في مكة وحيدًا مع «أبي بكر» و«عليٍّ» حتى هاجر كل من أراد الهجرة؟ لماذا لم ينجُ بجلده أولًا؟ وليَنْجُ من يريد أن ينجو بعد ذلك؟ (22)
وإذا كان «إرفنج» قد جعل أحد ركائز اقتناعه بإخلاص الرسول وصدقه في المرحلة المكية تَحملُّه عليه السلام لألوان الاضطهاد المختلفة (23)، فإن مستشرقين آخرين يهوِّنون من مسألة الاضطهاد هذه ويقولون إنها قد بولغ فيها كثيرًا. وفي رأيهم أنه لو كان ثمة اضطهاد بهذه الدرجة لانتقمت للمسلمين قبائلهم جريًا على عادة العرب في تعصب كل قبيلة لأبنائها.
وهؤلاء المستشرقون ينسون أن هذا التعصب لم يمنع أبا لهب مثلًا وزوجته من إيذاء النبي والتحريض عليه، ولا «عمر» من البطش بأخته وزوجها، الذي كان هو أيضًا من أقربائه الأدنيين، وأين؟ في بيتهما. كذلك لم يمنع هذا التعصب قريشًا أن تقاطع بني هاشم وتحاصرهم في شعب أبي طالب أشهرًا عدة ثقالًا باهظات. أم هل ينبغي أن نكذب هذا كله ونكذب كذلك الحجارة التي رشقه بها، وهم يطاردونه، صبيان الطائف وعبيدهم وسفهاؤهم، ولا أحد من سادتهم يتدخل لمنعهم ولو من باب المجاملة الكاذبة؟ ثم هل ينبغي علينا أيضًا يا ترى أن ننبذ ما جاء في القرآن عن ائتمارهم به ليقتلوه عليه السلام؟ «الأنفال/30». لقد نسي هذا الفريق من الكُتّاب (24) أن القبيلة العربية كانت تخلع عنها من يخرج على تقاليدها وأعرافها. وأي خروج على هذه الأعراف والتقاليد أشنع في نظرهم من دين يسفه أحلامهم وأحلام آبائهم من قبلهم، ويسخر من أسلوب حياتهم وأصنامهم ومعتقداتهم التي ضربت بجذورها الحديدية في نفوسهم جيلًا بعد جيل؟ لقد بلغ من إصرار قريش على محاربة الإسلام وأتباعه أن تعقبتهم خارج حدود الجزيرة العربية حين تركوا لها الجمل بما حمل وفروا إلى الحبشة نجاة بحريتهم في الاعتقاد وبحياتهم وأولادهم، فأرسلت إلى النجاشي تحاول، عن طريق الهدايا والتملق والإيقاع بينه وبين هؤلاء المهاجرين المستضعفين، إقناعه بإرجاعهم إلى بلادهم. ولا أظن عاقلًا يتوهم ولو للحظة أن قريشًا كانت حريصة على استعادتهم لتفرغ عليهم حنانها وتذرف دموع الندم عند أقدامهم. ولولا أن النجاشي كان ملكًا عادلًا ومتعاطفًا مع هؤلاء المساكين لدرجة أنه دخل معهم في دينهم لعادوا كرة أخرى إلى التضييق والتعذيب. ومما يعطيك فكرة عن مدى خوف هؤلاء المهاجرين من قريش أنهم لم يرجعوا نهائيًّا إلى إخوانهم المسلمين إلا بعد أن هاجر هؤلاء إلى المدينة بعد سنين وأصبحت لهم دولة وشوكة(25).
أما في المدينة فكلنا يعرف أن حياة الرسول والمسلمين كانت كلها كفاحًا متصلًا ضد قوى الكفر والطغيان والنفاق سواء أكان ذلك في داخل المدينة أم خارجها، وفي نطاق الجزيرة العربية أم على تخومها مع الدولة البيزنطية. إن المستشرقين عادة ما يتهمون الرسول بالعدوان على الآخرين، ولكن وقائع التاريخ تكذب ذلك(26).
ترى لو كان الرسول كاذبًا فما الذي يضطره لتحمل كل هذا العناء والاضطهاد والاستهداف لعدوان قوى الشر وتآمرها عليه؟ إن آية صدقه أنه ظل وفيًا لعقيدته رغم هذه المحن المتلاحقة، سواء في حالة الضعف والتعرض للإيذاء أو في حالة القوة والمقدرة على رد العدوان، فلم يهن ولم يتبدل. ولو كان كاذبًا لنكّل عن هذا الطريق بعد قليل. ومع ذلك فإن المستشرقين يأبون إلا أن يتهموه في قوة إيمانه برسالته وبالوحدانية المطلقة التي هي محور هذا الرسالة، متشبثين في ذلك تشبثًا غريبًا برواية ضعيفة لا تثبت على محك النقد التاريخي أو المنطقي تزعم أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام قد قدم لقومه بعض التنازلات المتعلقة بعقيدة الوحدانية بُغية كسبهم على صفه، وذلك بعد ما يئس من أن يتبعوا دينه على ما هو عليه من عداء للأصنام والوثنية، فأورد آيتين يمجد فيهما اللات والعزى ومناة ويعلن أنها مناط الشفاعة يوم القيامة. ويستبعد «ألفريد جيوم» أن تكون هذه الرواية مصنوعة، وإلا كان معنى ذلك أن المسلمين قد أرادوا الإساءة إلى الإسلام والرسول، وهو ما يستبعد العقل صدوره من المسلمين المخلصين كما يقول(27). أما«مكسيم رودنسون»فإنه يورد القصة بشيء من التفصيل بناء على بعض المرويات الإسلامية، ثم يعقب عليها بقوله إن القرشيين عندما سمعوا هذه الآية (يقصد هاتين الآيتين) سُروا سرورًا عظيمًا وسجدوا جميعًا مسلمين ومشركين(28).
وقبل أن نناقش هذه الآراء أحب ألا تفوتني الإشارة إلى أن بعض المستشرقين، مثل«كايتاني»، المستشرق الإيطالي، قد رفضوا قبول هذه الرواية(29)، وهو ما يأخذ به المسلمون بعامة، وبخاصة المعاصرون منهم : تقليديوهم وعقلانيوهم على السواء(30). والآن إلى مناقشة هذه الرواية. وأول شيء أفضل أن أتناوله هو ما ساقه «جيوم» مما ظنه حجة قاطعة على صحتها، إذ ما أدراه أن المسلمين المخلصين هم الذين وضعوا هذه القصة؟ إن ابن إسحاق بن خزيمة قد عزاها دون تردد إلى بعض الزنادقة(31)، علاوة على أنها لم ترد في «ابن هشام» ولا في أي من كتب الصحاح على هذا النحو. ومع ذلك فإني لن أعتمد على شيء من هذا. إنما سأعتمد على التحليل المنطقي لمضمون الرواية ذاتها وللملابسات التاريخية التي أحاطت بأحداثها، وهو منهجي العام في هذه الدراسة بل في كل ما أكتبه عادة. إننا لو أعدنا قراءة ما كتبه «رودنسون» في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين والمشركين جميعًا لدى سماعهم هاتين الآيتين قد خروا على الأرض سجدًا بهجة وسرورًا. وإني في الحقيقة لا أدري كيف ولا لِمَ يسجد هؤلاء أو أولئك عند هاتين الآيتين: فأما المشركون فإني لم أقرأ قط أنهم كانوا يسجدون لأصنامهم. وإليك القرآن، وإليك «ابن هشام»، وقد تناول عبادة الأوثان في جزيرة العرب بالتفصيل، وإليك كذلك «ابن الكلبي»، الذي خص هذا الموضوع بكتاب مستقل وهو «الأصنام» وقلّب هذه المصادر كلها على مهل كما يحلو لك، فلن تجد أن مشركًا قد سجد لصنم. لقد كانوا يطوفون بالحجارة والأصنام والكعبة. وكانوا يبنون البيوت لهذه الأصنام ويعينون لها السدنة، ويهدون إليها، ويتقربون إليها بالذبائح، ويقسمون لها من أنعامهم وحرثهم، ويحجون إليها ويحلقون رؤوسهم عندها، ويتمسحون بها، ويجعلون ما حولها حمى، ويستقسمون لديها بالقداح، ويقسمون بها ويتسمون بعبد اللات وعبد مناة. . إلخ. ولكن لم يرد في أي منهم أنهم كانوا يسجدون لصنم أو وثن ولا حتى في الكعبة. فإذا كانوا لا يسجدون عندها فكيف سجدوا إذن عند مجرد سماعهم أسماء اللات والعزى ومناة في آية قرآنية؟ والمسلمون: ما الذي يجعلهم يسجدون عند ذكر هاتين الآيتين؟ إن هاتين الآيتين ليستا موضع سجدة، ومواضع السجدة في القرآن معروفة ولها قاعدتها التي لا تنطبق على هاتين الآيتين ولا على الآيات التي نزلت بعد ذلك، بناء على هذه الرواية لتنسخها. والعجيب أن «رودنسون»، الذي تحمس تحمسًا شديدًا لنقل هذه الرواية وما جاء فيها من أن القرشيين جميعًا، مسلمين ومشركين، قد سجدوا لدى سماعهم هاتين الآيتين، يعود بعد أقل من صفحة فيعزو رجوع «محمد» عليه السلام عن هذا التخاذل إلى تمرد المسلمين وحنقهم، وهو ما لم يحدث. فهل ثمة اضطراب في الرواية أشنع من ذلك؟ (32) هذا على الرواية كما عرضها «رودنسون»، أما الدكتور «هيكل»، فيقول إن الرسول بعد أن تلا الآيتين موضوع بحثنا مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها. هنالك سجد القوم جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم(33). فالسجود إذن، على هذه الرواية، لم يقع إلا في آخر السورة، أي عند قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} لا عند سماع الحاضرين الآيتين المشار إليهما. وهو على هذا النحو مفهوم من المسلمين، أما من المشركين فكلا، إذ إنهم لم يتعودوا السجود لأصنامهم ولا لله، وليس يعقل أن ينقلبوا هذا الانقلاب الفجائي لمجرد أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام ذكر بعض أصنامهم بخير. على أن هذا ، برغم كل شئ، لا يهمني كثيرًا، بل المهم هو أن السورة كلها من أول آية فيها إلى الآية الأخيرة ترفض هاتين الآيتين بعنف كما يرفض الجسم عضوا غريبًا عنه لا يمكنه التفاعل معه. إن الدكتور هيكل يرد هاتين الآيتين لأن الآيات التي تتلوهما تجري هكذا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}. وهي، كما ترى، تعيب هذه الأصنام، فكيف يتعاقب مدح وذم على هذا النحو؟ (34) والحقيقة أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يرد موردو هذه الرواية ومشايعوهم بأن هذه الآيات الثلاث إنما جاءت في موضع الآيتين المشار إليهما فنسختهما، ولم تكن موجودة منذ البداية(35). ومن ثم فإني لا أعول كثيرًا على التناقض بين الآيات المتعاقبة التي تتحدث عن اللات والعزى ومناة مدحًا وقدحًا قدر تعويلي على تحليل مضمون السورة كلها والجو النفسي الذي يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها، وهو جو عداءٍ مستحكم بين الرسول وقومه: فالآيات (1-18) ترد على تكذيب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام ورميهم إياه بالضلالة والغواية واتِّباع الهوى. وإن القارئ المتذوق ليلمح عنف الرد في قسمه سبحانه بـ{النجم إذا هوى}، الذي يشير في رأيي إلى تهديد القرآن لمشركي مكة بأنهم سيلاقون مصير النجوم حين تنخلع من مداراتها التي كانت مستقرة فيها على مدى الأحقاب المتطاولة وتهوى متبددة في الفضاء اللانهائي. كذلك يتبدى عنف الرد في التفصيل الذي تحدثت به الآيات عن تجلي الوحي للرسول، وفي تعدد الصفات التي وُصِفَ بها جبريل عليه السلام، وفي إعادة التأكيد على أن ما رآه «محمد» عليه الصلاة والسلام حين نزول الوحي عليه إنما هو حقٌّ لا مرية فيه. ولا يفوتَنَّ القارئ إشارةُ الآيات الأخيرة من هذه المجموعة(13 – 18)إلى حادثة المعراج، وهي الحادثة التي كذب بها أهل مكة تكذيبًا شديدًا. وإذا قفزنا فوق الآيات التي تتحدث عن الأصنام الثلاثة، فإننا سنجد أن الله عز وجلَّ ينفي أن يكون لملك من الملائكة أية شفاعة إلا بعد إذن الله ورضاه، ثم تعود الآيات فتتهكم بمن يؤنثون الملائكة بلا علم أو تثبت، وتأمر الرسول بالإعراض عنهم لتوليهم عن ذكر الله ولهاثهم وراء الحياة الدنيا(36). أما الآيات(33 – 58)، فإنها تتحدث عن أحد القرشيين المفتونين بثرواتهم والباخلين مع ذلك بها، وتقرعه تقريعا شديدا، مسفهةً اعتقاده المنحرف في الجزاء والمسئولية الأخلاقية، ومهددة إياه بمثل مصائر عاد وثمود وقوم نوح، ومعلنة بصوت مجلجل أن هذا ليس إلا نذيرًا من النذر الأولى وأن ساعة الغضب الإلهي والعقاب المزلزل قد دنت. ثم تنتهي السورة بالتعجب من تكذيب قريش للرسول وللقرآن وتصلُّب قلوبهم حتى إنهم ليضحكون ولا يبكون، وتأمرهم أمر تقريع وتهديدبأن{اسجدوا لله واعبدوا}. أيمكن أن يرد في مثل هذا السياق الفكري والنفسي آيات تمجد بعض آلهة قريش؟ إن ذلك هو المستحيل بعينه. ثم لو قبلنا جدلا أن هذا ممكن، فكيف فات قريشًا أن السورة جمعاء هي حملة عنيفة عليهم وعلى موقفهم من الدعوة الجديدة وتسفيه لعقولهم وتهديد جليٍّ لهم، وانخدعوا ببعض كلمات معسولة عن آلهتهم وسجدوا مع المسلمين؟ فهذه واحدة. والثانية أن الآيتين المزعومتين تجعلان الآلهة الثلاث مناطا للشفاعة يوم القيامة، وهو ما لم يسنده القرآن على هذا النحو لأي كائن مهما تكن منزلته عند الله. ولماذا نذهب بعيدًا وثمة آية في سورة «النجم» ذاتها لا يفصِلُها عن الآيتين المزعومتين إلا خمس آيات جدُّ قصيرة، نصها كالآتي: {وكم من مَلَكٍ في السموات لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى؟ }(النجم/26). فكيف يقال هذا عن الملائكة في ذات الوقت الذي تؤكد فيه إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة السالف ذكرها جديرة بالرجاء من غير تعليقٍ لها على إذن الله؟
أما النقطة الثالثة فهي أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لم يكن من شيمته التردد حتى يقال إنه قد تذبذبت قدماه في منتصف الطريق وتراجع عن بعض مبادئه. إن صلابة استمساكه بدينه لهي مضرب المثل في صفاء اليقين والشجاعة المثلى. بل إنه لم يؤثر عنه مثل هذا التذبذب ولا في الحرب حيث يعيد الإنسان دائمًا حساباته. ولقد رأيناه (وقد لبس لأمَتَه ووافق على الخروج لملاقاة مشركي قريش خارج المدينة عندما عزموا على مهاجمتها في غزوة أحد، وكان يرى البقاء فيها والتحصن بداخلها)يرفض الرجوع حين أبدى الندم من خالفوه في التحصن داخل المدينة، قائلًا قولته الشهيرة: «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل»(37)فما عدا إذن مما بدا؟ ومن قَبْلُ ترجَّاه عمه أبو طالب أكثر من مرة أن يخفف من موقفه تجاه الأصنام وعُبَّادها فرفض رفضا قاطعا وصاح قائلًا: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»(38). أفبعد أن عضده عمه كل هذه المدة، وبعد أن وقف معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمُهم وكافرهم(إلا أبا لهب)وتحمَّلوا من أجله قسوة الحصار والمقاطعة في الشِّعب شهورًا عددا، يتراجع هو هذا التراجع المشين؟ ومتى؟ بعد أن أعزَّ الله الإسلام بدخول اثنين من صناديد مكة فيه: «عمر بن الخطاب» (39)وحمزة بن عبد المطلب، وأخذ يفشو بين القبائل. ثم ما الذي دفعه إلى هذا التنازل وقد أتاه عتبة بن ربيعة موفدا من زعماء قريش يعرض عليه، على طبق من ذهب، المال والرئاسة فرفض أن يجيبه، مكتفيًا بقراءة صدر سورة «السجدة»بآياته التي زلزلت قلب عتبة حتى لقد رجع إلى أصحابه بوجه غير الذي انصرف به عنهم؟ (40) إن الرسول لم يتساهل يوما في مسألة التوحيد، حتى ولا عندما كانت العرب تتهاوى أمام دعوة الإسلام قبيلة إثر قبيلة، واتضح تماما أن دين الله غالب لا شك في ذلك. لقد أعفى قوما من الالتزام بخمس صلوات كاملات، ولكنه لم يوافق ثقيفا على أن يبقي لها وثنها ولو شهرًا واحدًا يستطيع بعده أن يفعل به ما يشاء(41). إنه لم يشأ التدرج في هذه المسألة مع ما عُرِف عنه من أنه كان كثيرا ما يأخذ الناس به. فإذا كان لم يوافق على شئ من ذلك، وهو أقل ألف مرة من تمجيده بنفسه وفي قرآنه اللات والعزى ومناة واعترافه بأن شفاعتهن مرتجاة، وكان ذلك في أواخر حياته وتمكُّن سلطانه واطمئنانه إلى أنه لا ردة بعد ذلك إلى الوثنية، فكيف مالأَ الكفار على وثنيتهم وهو لا يزال في أول الطريق وكله حماسة ونار مشتعلة؟ ثم أيكون أتباعه يستمدون منه الثقة والإيمان والصبر على البلاء؟ لقد صمدوا في وجه المؤامرة التي دبرها لهم رسولا قريش عند النجاشي وبطارقته، إذ جئ بهم ليعرضوا على الملإ في البلاط الملكي دينهم وعقيدتهم في عيسى عليه السلام فلم يكتموا منها حرفا وهم الأغراب المشردون المحتاجون إلى تملق مشاعر مضيِّفيهم ولو عن طريق التعبير الروَّاغ عن رأي الإسلام في المسيح صلوات الله وسلامه عليه.
لقد ذكر ابن السائب الكلبي في الصفحة التاسعة عشرة من كتاب«الأصنام» أن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، وأنها كانت تعتقد أنهن بنات الله (عز وجل عن ذلك)، وأنهن يشفعن إليه، فلما بعث الله ورسوله، أنزل عليه: {أفرأيتم اللات والعزى*ومناة الثالثة الأخرى*ألكم الذكر وله الأنثى*تلك إذن قسمة ضيزى*إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}. والحقيقة أن هذا هو الأشبه بأن يكون هو الصواب. ويبدو أن أحد الزنادقة قد أخذ هذه الرواية وحرفها، واضعًا كلام قريش في أصنامها على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أننا بعد هذا كله قد ضربنا عُرْضَ الحائط بكل هذا التحليل التاريخيّ والنصيّ، وقلنا إن هذه الآيات قد جرت فعلا على لسان الرسول، فهل يعني ذلك تذبذبا في إيمانه؟ أم هل الأحرى أن نفسها بأنها زلة لسان مما نقع فيه جميعًا كل يوم، وعذره أن هذه الكلمات المزعومة، من كثرة ما كان القرشيون يرددونها أمامه، قد علقت بذهنه فجرى بها لسانه في لحظة من لحظات السهو ولكنه سرعان ما تنبه لها فتراجع عنها قبل أن تلصق بدينه؟ أقول هذا برغم تفنيدي لها، وذلك قطعا للطريق على ذوي اللجاجة المكابرين. ولكي أخفف المسألة على ضمير المسلم أذكره بزلة اللسان التي وقع فيها أحد المؤمنين الأتقياء، وكانت قد ضلت ناقته كما جاء في الحديث الشريف، فلما وجدها انطلق لسانه ليشكر ربه، الذي ردها عليه، فإذا به من شدة الفرحة يضطرب قائلًا: «شكرا يا عبدي!أنا ربك»، والمقصود العكس طبعًا. وهي، لو حاسبناه على طريق المستشرقين، أفدح من زلة اللسان المفترضة في رواية الغرانيق.
فإذا انتقلنا إلى المرحلة المدنية، وهي التي يتهمه من يسلِّم من المستشرقين بصدقه وأمانته في النصف الأول من تاريخ الدعوة بأنه اطَّرح عن ضميره فيها مؤنة الصدق والأمانة، وجدنا أن أهم ما اتُّهم به صلى الله عليه وسلم به هو قسوته على اليهود، وعدم احترامه للمعاهدات التي عقدها مع المشركين، وتساهله(مرة أخرى، لاحِظْ)في قضية الوحدانية، إذ أبقى في فريضة الحج على بعض الشعائر الوثنية، ثم الانغماس في شهوات الجنس.
فأما بالنسبة لموقفه من اليهود، فقد أدخلهم عليه الصلاة والسلام في المعاهدة التي عقدها مع كل الأطراف الموجودة في المدينة آنذاك وسوَّى فيها بين الجميع، وألزمهم أن يكونوا يدًا واحدة على من يريدهم بشر. ولم تكن هذه التسوية، بالنسبة لليهود، مع غيرهم من سكان المدينة فقط، بل مست أيضًا علاقتهم بعضهم ببعض، إذ كانوا في الجاهلية، قبل أن يقدم عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، متعادين منقسمين يرى فريق منهم أن له فضلا وعلوًّا على إخوان الدين والوطن حتى في الديَّات، فأبطلت المعاهدة هذا كلَّه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبرهم على الدخول في الإسلام ، تبين لنا كيف أن ما ابتُلي به الرسول والمسلمون من قِبَلِ هؤلاء القوم من غدر كان سَخَفًا شديدًا فوق كونه خيانة لا تغتفر. ولقد كان الرسول رحيما مع بني النضير وبني قينقاع، فاكتفى بالعقوبات المالية إلى جانب الطرد، إلى أن جاء دور بني قريظة، وكانت جريمتهم هي الخيانة العظمى، إذ انقلبوا أثناء حرب الخندق على المسلمين برغم أُخُوَّة الوطن وبرغم المعاهدة الوثيقة التي كانت تربطهم بهم، يريدون أن يستأصلوا شأفتهم ويمحقونهم مع دينهم محقًا، مع أن هذه المعاهدة كانت توجب عليهم أن يحاربوا مع المسلمين(42)، فما الذي كان ينبغي على الرسول أن يفعله؟ هل كان عليه أن يربت على ظهورهم ويعتذر لهم عمَّا ارتكبوه من خيانة بشعة في حقه وحق دينه وحق المسلمين؟ إن أحد المستشرقين مثلًا يتعجب كيف أن دينًا يدعي أن إلهه هو الرحمن الرحيم يفعل ببني قريظة ما فعله الرسول(43). فمن الجدير إذن بأن يشعر تجاهه هذا المستشرق بالرثاء؟ إنهم المسلمون بكل تأكيد، الذي لو، لا قدر الله، استطاع اليهود تنفيذ خطتهم التي اشتركوا فيها مع قوى الشرك والوثنية من جميع أرجاء الجزيرة العربية وقضوا على المسلمين، ما رأينا من هذا الكاتب دمعة تُذْرَف، بل ابتسامة تشفٍّ وابتهاج. إنَّ المستشرقين يدَّعون دائمًا(كذِبًا) أنَّ التوحيد عند اليهود أظهَرُ منه في الإسلام وأصفى(44). أتعرف ماذا كان اليهود فاعليه بموجب حكم التوراة(التي أوحاها إلى نبيِّهِم إلهُهُم الذي يوحِّدونه، على هذا الزعم، خيرًا مما يوحِّدُ المسلمون ربَّ العالمين)لو أنهم هم الذين انتصروا وفتحوا بلاد المسلمين؟ تقول التوراة: «حين قرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهك إلى يديك، فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كل غنيمتها، فاغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهك. وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا». وهو ما لا ينطبق على المسلمين، لأنهم لم يكونوا بالنسبة لليهود، الذين يجاورونهم في نفس المدينة، من الأمم البعيدة، بل ينطبق عليهم الآتي: «وأما هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبقِ منهم نسمة ما»(45). أفلا يرى القارئ أن إله المسلمين كان رحيما باليهود حتى بمقياسهم؟ فما الذي أنسى المستشرق البريطاني هذا وجعله أكثر ملكيةً من الملك؟ إنَّ واحدًا من اليهود على الأقل، هو «عمرو بن سعدي»، رفض أن يشاركهم في غدرهم الدنيء وقال: لا أغدر بمحمدٍ أبدًا(46). وهو موقف رجوليٌّ كريم، إذ إنه لم يشأ أن يغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين لم تُؤْثر عنهم غدرة ولو تافهة في حقِّ اليهود. ولكي يرى القارئ مبلغ دناءة القوم وغبائهم وجبنهم ساعة الجدِّ، وإن انتفشوا انتفاش الدِّيَكَة حين يتوهمون أنهم في مأمن، أذكرُ له أن أحدهم، وهو كعب بن أسد، حين فرغ لهم الرسول عليه السلام، بعد انفضاض الأحزاب من حول المدينة، وحاصرهم، عرض عليهم أن يسلِّموا أو على الأقل أن يكونوا رجالًا ويخرجوا على المسلمين مباغتة من داخل الحصن فيحاربوهم مواجهة، لكنهم رفضوا ذلك كله، فما كان منه إلا أن قال حانقًا: «ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا»(47). وهنا العجب كل العجب، بل هنا عبرة العبر يستخلصها الباحث الموضوعيُّ من الصراع بين الإسلام واليهود. تُرى لو كان اليهود مخلصين في التمسك بدينهم والكفر بمحمد، فلمَ لمْ يستعينوا بربهم كما كان «محمد» عليه الصلاة والسلام يستعين بربه ويواجهوا «محمدًا» مرة واحدة في حرب صريحة شريفة؟ لقد كان مشركو العرب، برغم وثنيتهم، أشرف منهم وأَرْجَل ألف مرة. أم ترى كان اليهود ينفذون أمر ربهم حين وضعوا أيديهم في أيدي الشرك والوثنية ليحاربوا محمدًا، الذي، حتى لو سلمنا بأنه رسول زائف، فهو على كلِّ حال يدعو إلى التوحيد ويؤمن بموسى وبقية أنبياء بني إسرائيل؟ أتراهم كانوا مصغين للصوت الخارج من أعماق ضمائرهم حين أكدوا لقريش أن وثنيتهم خيرٌ من دين «محمد» وأنهم أولى بالحق منه؟ (48) إن «إدمون باور» يدعي على الرسول الكريم أنه أكل اليهود لينقذ بأموالهم أتباعه من الفقر، وينكر أن يكون هناك دليل على خيانة بني قريظة(49). وهذا غير صحيح بالمرة، وإلا لاكتفى الرسول بإجلائهم ومصادرة أموالهم أو لأبقاهم في المدينة بعد أن يستصفي ممتلكاتهم لحساب أتباعه. أما بالنسبة للخيانة فإنهم أنفسهم لم يفكروا لحظة في إنكارها. ومن المضحك إذن أن يأتي مثل هذا المستشرق بعد تلك القرون المتطاولة ويتظاهر بأنه ملكيٌّ أكثر من الملك. وأما «ألفريد جيوم» فإنه يعزو ما فعله الرسول بهم إلى أنهم رفضوا الإيمان به وأخذوا يسخرون منه ويكثرون من مجادلته، وإلى أنهم كانوا متفوِّقين اقتصاديًّا. ثم أرجع عدم إيمانهم به إلى اعترافه بنبوة عيسى. والحقيقة أن الرسول لم يحاول قط أن يكرههم على ترك دينهم، كما أن نصَّ المعاهدة التي سلفت الإشارة إليها يؤكد حرية العقيدة الدينية(50). أما اليهود أنفسهم، فإنهم كانوا، قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، يهددون به الأوس والخزرج، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وبدينه وتراجعوا عما كانوا يقولون. ولا يمكن أن يكون هذا مجرد ادعاء من المسلمين، فإنه مسجل في القرآن الذي كان يتلى على اليهود ولم يحدث أن اعترضوا عليه(51). وهذا يبين لنا حقيقة موقفهم ودوافعهم، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم كان إذا لقي المسلمين أظهر الإسلام، فإذا خلا إلى أمثاله من اليهود قرَّعوه وطلبوا منه أن يخفي ما يعلمه من الحق(52)، كما أن بعضًا منهم كان ينتهج خطة جهنمية لتدمير ثقة المسلمين بدينهم، إذ كان يعلن إسلامه أول النهار، ولا يكاد النهار يولِّي حتى يعلن كفره(53)، أفهذا هو المقابل للحرية الدينية التي منحهم إياها الإسلام؟ أم هل هذه تصرفات أناس يعتقدون فعلًا أنهم على الحق؟ لقد كان باب الحِجاج أمامهم مفتوحًا، الحجاج العاقل لا الحجاج السفيه من مثل«إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء»، و«يد الله مغلولة»، و«لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة»، و«نحن أبناء الله وأحباؤه. . . » إلى آخر هذا الهراء الذي لا يخطر إلا في عقول الهازلين المخرفين. لكن لا عجب، فقد نزلوا في ذلك على طبيعة الغدر والنذالة المتأصلة فيهم. ومع هذا فقد آمن منهم بالإسلام صادقًا طائفة كان من بينهم بعض أحبارهم كـ«أُبَيِّ بن كعب»(54) و«مُخَيْريق» و«عبد الله بن سلام». أما بالنسبة إلى مسألة التفوق الاقتصادي، فإن أموال الغنائم لم تكن لتترك المسلمين بحاجة إلى ما في أيدي اليهود. ومعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان زاهدًا في المال، وليس من المعقول أن يخطط لقتل بني قريظة ليوزع بعد ذلك أموالهم على المسلمين الذين لم يكونوا حينئذٍ فقراء كما أوضحنا. ثم لو كانت الرغبة في الاستيلاء على أموال اليهود هي دافعه عليه السلام إلى قتلهم، فلم لم يقتل من قبل بني قينقاع أو بني النضير؟ وإذا قيل إن مشاعر الغيظ والكراهية عنده تجاه اليهود كانت تتصاعد وتشتد مع مرور الزمن، لقد كان الأحرى إذن أن ينكِّل بيهود خيبر، الذين حاربهم بعد بني قريظة، تنكيلا لا يغادر منهم كبيرًا ولا صغيرًا ولا رجلًا ولا امرأة. بيد أن عقوبته لهؤلاء اليهود كانت أخفُّ كثيرًا من عقوبات نظرائهم السابقين، بل أخف مما طلبوه هم أنفسهم(55). وانظر عدله واحترامه عليه السلام لإرادة اليهودي الذي كان له دَيْنٌ عند جابر بن عبد الله ورفض شفاعة النبي له، فأعطاه عليه السلام حتى أرضاه، وكيف أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي كان قد استدان منه طعامًا. ثمَّ إن الرسول لو كان طامعًا في ثروات اليهود لما أفلت أية فرصة يمكنه فيها أن يستولي على أموالهم، ومع ذلك فقد رأينا من قبلُ رفضه عليه السلام للغنم التي كان يرعاها خادم لليهود وأحضرها للرسول عند إسلامه أثناء حصار خيبر، فأمره بأن يعيدها إليهم. وإليك قصة أخرى تبين إنصافه وتحرُّجه عليه الصلاة والسلام من أخذ أي شئ منهم بغير حق: «أصيب عبد الله بن سهل بخيبر، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمرًا، فوُجِدَ في عينٍ قد كُسِرَت عنقه ثم طرح فيها، فأخذوه فغيبوه ثم قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكروا له شأنه، فتقدم إليه أخوه عبد الرحمن بن سهل، ومعه ابنا عمه حُويِّصة ومُحَيِّصة ابنا مسعود، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنًّا، وكان صاحب الدم، وكان ذا قدم في القوم. فلما تكلم قبل ابني عمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبِّر، كبِّر(أي دع من هو أكبر منك يتكلم. )فتكلم هو بعد، فذكروا لرسول الله قتل صاحبهم، فقال الرسول: أتسمُّون قاتلكم(أي هل تستطيعون أن تذكروا بالاسم أحدًا تتهمونه)ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم. قال: أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلًا ثم يبرأون من دمه؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود. ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم. فوداه(أي دفع ديته)رسول الله من عنده مائة ناقة(56). إن رسولًا يربي أتباعه على هذه التربية السامية التي تمنعهم من أن يحلفوا على قاتل لم يشاهدوه بأعينهم، رغم تأكدهم أن القاتل واحدًا من اليهود ورغم العداوة التي بين الفريقين وانعدام الثقة في اليهود ودينهم لدى المسلمين، لهو رجل جدير أن يعلو فوق الشكوك والاتهامات. وقد كان بمستطاع الرسول، لو أراد، أن يُلْزِم اليهود بدفع الدية تحت أي حجة، وليس بأضعفها أن القتيل قد وُجِدَ في إحدى عيونهم وأنه لم تكن بينه وبين أحدٍ آخر عداوة، وإلا لذكر ذلك للرسول أولياء دمه، ولكنه عليه السلام آثر أن يدفع الدية من ماله(57).

الجندى
08-09-2008, 09:49 AM
أما الاتهام الثاني فهو عدم احترامه عليه السلام لمعاهداته مع مشركي مكة. والحقيقة أن هذا كلام من لا يجد شيئا يقوله، وإلا فالدنيا كلها تعلم أن المشركين هم الذين نقضوا صلح الحديبية برغم أنهم هم الذين أملوا شروطها، ووافقهم عليها النبي ابتغاء السِّلم وليكونوا هم الحكام على أنفسهم إذا غدروا. وكان من جرَّاء هذه الموافقة أن المسلمين حرنوا عليه، ربما لأول مرة، عندما أراد أن يحلق رأسه ويضحِّي الهَدْيَ الذي كان أحضره معه ليذبحه. ولولا أن أم سلمة عليها رضوان الله طيبت خاطره واقترحت عليه أن يقوم فيحلق شعره ويضحي هديه حتى يراه المسلمون فيستحوا منه ويصنعوا صنيعه لظلوا حَرِنين(58). ومعروف كذلك اعتراض «عمر» على شروط الصلح وقولته المشهورة: «علامَ نعطي الدنيَّة في ديننا؟ » لقد أملى المشركون شروطهم المتعنتة أشد التعنت، ووفَّى لهم الرسول أعظم توفية أُثِرَت عن إنسان، فردَّ، ولم تكن الاتفاقية قد جف حبرها، مَنْ جاء من معسكر المشركين مسلمًا لأن شرط موافقة أهله على هذا الإسلام لم يكن متوفرًا. بل إنه لم يقبل، ولو في السرِّ، أحدًا ممن أسلم من أهل مكة بغير موافقة ذويه، حتى جاء القرشيون إليه يترجَّوْنه أن يقبل كلَّ من جاءه منهم مسلمًا، إذ شكَّل الداخلون من أهل مكة في الإسلام على كرهٍ من أهليهم عصابةً في طريق تجارة قريش فسببوا لها المتاعب. ومع ذلك كله فإن المشركين هم الذين نقضوا الصلح حتى لقد اضطر أبو سفيان، بجلالة قدره، أن يفد على المدينة قلقًا مذعورًا يحاول أن يسترضي الرسول، كأن الأمر لعب عيال، فقوبل من ابنته أم حبيبة زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام مقابلة جافة، إذ رَبَأت بفراش رسول الله أن يجلس عليه أبوها الكافر. وعبثًا حاول أن يضحك على المسلمين، وكانت آخر محاولاته أن رجا فاطمة بنت رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام أن تأمر ابنها الحسن، وكان طفلًا صغيرًا يدب بين يديها، أن يجير بين الناس ليكون، على حدِّ قوله، سيد العرب إلى آخر الدهر(59)، ظنًّا منه أنه يستطيع أن يضحك على ذقنها بمثل هذا الكلام، وهو الذي أبى حتى تلك اللحظة أن يعترف لأبيها بالسيادة على العرب. فكيف يزعم زاعم، وهذه الحقائق سافرة، أنَّ الرسول قد قام بهجوم غادر على مكة بعد محاولات فاشلة سابقة؟ (60) إن المقصود هنا هو الأحداث المسجلة في أول سورة «التوبة»، مع أن الآيات هناك تغني عن كلِّ تعليق، إذ القرآن يفرق بين من وفَّى من هؤلاء المشركين بعهوده مع المسلمين، فهذا يُتمُّ إليه المسلمون عهده إلى مدته، وبين من غدر وفجر، فهؤلاء يُمْنَحون مهلة أربعة أشهر، وبعد ذلك يعاملون معاملة العدو المحارب، فأين الغدر هنا؟ (61) إن الغادرين هم المشركون، الذين حظوا مع ذلك بفترة سماح أربعة أشهر كاملة يسيحون فيها في الأرض بملء حريتهم. ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام غادرًا، فلم لم يقتل رسولَيْ مسيلمة، الذي نازعه الرسالة والسلطان، وكان الرسول في أوج سلطانه؟ لكنه عليه السلام عفَّ عن ذلك برغم تغيُّظه من صفاقة مسيلمة وصفاقة رسوليه وفداحة الأمر، إذ يريد هذا المسيلمة الذي كان قد ورد عليه قبل ذلك بقليل مع من أسلم من قومه أن يأتيَ في آخر المطاف فيهدم الصرح الشامخ الذي قضى «محمد» عليه الصلاة والسلام عمره كله يضحي من أجل بنائه ورفع سمكه عاليًا إلى السماء(62).
ونصل إلى التهمة الكبيرة الثالثة، تهمة التساهل في قضية الوحدانية أو، كما يقول بعض المستشرقين، المصالحة مع الوثنية، إذ تحول الرسول إلى الكعبة بعد أن كان يصلي نحو بيت المقدس(63). ويرميه بعض آخر بأنه زيَّف وحيًا في المدينة لربط الكعبة ب«إبراهيم» عليه السلام(64)، على حين يستغرب بعض ثالث أنه عليه الصلاة والسلام قد أبقى على الحجر الأسود، وهو شعيرة وثنية(65). ويستطيع القارئ أن يرى أن المجادلة في تحول النبي صلى الله عليه وسلم من بيت المقدس إلى الكعبة ليست إلا مماحكة فارغة(66)، إذ ما الفرق بين اتجاه المسلم إلى هذه الجهة أو تلك ما دام الأمر كله رمزًا على طاعة الله سبحانه وتعالى على وحدة المسلمين؟ هل استقبال بيت المقدس دليل على التوحيد واستقبال الكعبة دليل على الوثنية؟ ولكن لم؟ إن الله موجود سبحانه أينما تولى المؤمن، والمهم الاتفاق على وجهة ما، ويا حبذا لو كانت مهوى الأفئدة المؤمنة. وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هو والمسلمون بعد الهجرة زمنًا إلى بيت المقدس وقيل إن هذا كان تألفًا منه لليهود كي يجتذبهم إلى الدين الجديد، فما العيب إذن في ذلك؟ على أننا ينبغي ألا ننسى أن الرسول في صلاته في مكة قبل الهجرة كان يستقبل القبلتين معًا. يتضح ذلك من عبارة ابن هشام: «وكان رسول الله بمكة وقبلته الشام، فكان إذا صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام»(67). فما معنى ذلك؟ أليس معناه أنه كان يجمع بين التوجه إلى الكعبة وبيت المقدس معًا من قبل الهجرة؟ لكنه لم انتقل إلى يثرب، التي تقع في شمال مكة بينها وبين الشام، وكان من المستحيل الجمع بين القبلتين، ظل يصلي إلى بيت المقدس وهو يتوق إلى أن يستدير إلى الجنوب، إلى الكعبة التي بناها أبو الأنبياء «إبراهيم» وابنه «إسماعيل» عليهما السلام. فلو كان الأمر مجرد عواطف شخصية تجاه اليهود، فهل كانت عواطف الرسول نحو قريش في ذلك الوقت هي عواطف الحب والوله حتى يتحول عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، التي كانوا يقومون عليها؟ وهل كان موقف مشركي مكة منه صلى الله عليه وسلم ومن أتباعه في ذلك الوقت المبكر(بعد 71 شهرًا من الهجرة)مما يبعث الأمل في إسلامهم كي يتبع قبلة البيت الحرام، الذي مقاليده في أيديهم؟ إن العلاقة بين الرسول عليه الصلاة والسلام واليهود لم تكن بعدُ قد تطورت إلى ما تطورت إليه من عداوة مستحكمة، فليس ثمة وجه إذن للقول بأنه تحول إلى الكعبة من تلقاء نفسه يأسًا منهم. وفضلًا عن ذلك، فلو كان الرسول قد قصد حقًا بالصلاة إلى بيت المقدس تألُّف قلوب اليهود، وإن كنت لا أرى في ذلك ما يشينه من أي وجه، فلِمَ نفر من اتخاذ البوق أداة لنداء المسلمين إلى الصلاة، وقد كانت اليهود تدعو به لذات الغرض؟ ولمَ لم يعد إلى بيت المقدس عندما عرض عليه ذلك نفرٌ من أشرافهم ليؤمنوا به(68)؟ وهنا ينبري بعض المستشرقين يتهمونه بأنه اخترع قصة زيارة «إبراهيم» لمكة وبنائه الكعبة، ناسين بذلك أمورًا ثلاثة هامة: الأمر الأول أن العرب كانوا يؤمنون بهذا أجيالًا بعد أجيال، أي النبي لم يخترع هذه القصة. وقد جاء في تاريخ «ديودورس الصقلي»، الذي كان يعيش في القرن الأول للميلاد، أن من العرب في ذلك الوقت من كانوا ينتسبون إلى «نبات ابن «إسماعيل»»، وهو ما نجده في شعر جاهليٍّ لجد الصحابي حسان بن ثابت يفتخر فيه بوراثته مفاخر نبت بن «إسماعيل»(الذي ذكر في العهد القديم). كما جاء في التوراة السامرية أن برِّية فاران(موطن «إسماعيل» كما جاء في العهد القديم أيضًا)تقع في الحجاز. ويذكر المؤرخ «سوزومين» أن اليهود كانوا ينظرون إلى العرب الساكنين شرق الحد العربي على أنهم من نسل «إسماعيل» و «إبراهيم» وأنهم من ثمَّ من ذوي رحمهم. وهناك نص لـ«تيودوريتو» من النصف الأول للقرن الخامس الميلادي يصف العرب فيه بالقبائل ال«إسماعيل»ية(69). إذن، ف«إبراهيم» عليه السلام هو جدُّ العرب، و«إسماعيل» ابنه كان يعيش في الحجاز، ومعنى ذلك أنه هو نفسه قد زار هذا الإقليم. كذلك كان الحنفاء يقولون بعضهم لبعض: «تعلموا والله ما قومكم على شئ. لقد أخطأوا دين أبيهم «إبراهيم». ما حجرٌ نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع. يا قوم، التمسوا لأنفسكم، فإنكم والله ما أنتم على شئ. » ويعقب «ابن هشام» قائلا: «فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين «إبراهيم»»(70). وكان «زيدٌ بن عمرو بن نفيل»، وهو أحد المتحنفين، يقول: «أعبدُ رب «إبراهيم»»، وقال يومًا وقد أسند ظهره إلى الكعبة: «يا معشر قريش، والذي نفس «زيد بن عمرو» بيده، ما أصبح منكم أحد على دين «إبراهيم» غيري»(71). والأمر الثاني هو أن المشركين كانوا قد صنعوا لـ«إبراهيم» و«إسماعيل» عليهما السلام صورة في الكعبة مع ما صنعوا من صور للملائكة وفي أيديهما الأزلام يستقسمان بها(72). وإن دلالة ذلك واضحة تمام الوضوح، وهي أن الرسول لم يخترع العلاقة بين الكعبة و«إبراهيم» عليه السلام، بل كانت العرب تؤمن بذلك إيمانًا جازمًا. وثالثًا: لو كان الرسول هو الذي زيف مثل هذه العلاقة، أو لو كان العرب واهمين فيما كانوا يعتقدون بشأنها، لما سكت اليهود وهم البارعون في إثارة الفتن، ولملأوا الدنيا ضجيجًا وعجيجًا. وأخيرًا فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد اخترع قصة بناء «إبراهيم» و«إسماعيل» عليهما السلام للكعبة، فلماذا، بدلا من ذلك، لم ينسب بناءها إلى «هود» مثلا أو «صالح» أو أي نبيٍّ عربيٍّ آخر، وبذلك يكون البيت عربيًّا وبانيه عربيًّا، مادام المقصود هو تملق العروبة لكسب قلوب مشركي مكة؟
وما قيل عن استقبال الكعبة أثناء الصلاة يقال مثله عن الحجر الأسود، فإن الوثنية لا تقوم في الأشياء أو الأفعال ذاتها، بل في العقل والضمير. والمسلمون حين يحجون إلى مكة ويستلمون الحجر الأسود لا يفعلون ذلك لأنهم يعبدونه كي يقربهم إلى الله زلفى(بل لم يؤثر عن عرب الجاهلية أنفسهم أنهم كانوا يعبدونه كما كانوا يعبدون الأصنام). إنما هو سنة من سنن الطواف، وكل ما يفعله الحاج هو أن يلمسه بيده، فإن تعذر ذلك بسبب الزحام اكتفى بالإشارة إليه من بعيد. وقد قال الرسول لـ«عمر» رضي الله عنه: «يا أبا حفص، إنك رجل قوي، فلا تزاحم على الركن(أي الحجر)، فإنك تؤذي الضعيف، ولكن إذا وجدت خلوة فاستلم، وإلا فكبِّر وامْضِ». وقد روى ابن «عمر» أن رسول الله عليه الصلاة والسلام استلم الحجر ثم وضع شفتيه يبكي طويلا، فإذا «عمر» يبكي طويلا، فقال: يا «عمر»، هنا تُسْكَبُ العَبَرات. ومن المأثور أن يقول الحاج عند استلامه الحجر: «اللهم إيمانًا بك، وتصديقًا بكتابك، ووفاءً بعهدك، واتِّباعًا لسنة نبيك، سيدنا محمد»(73). ويرى القارئ كيف أن كل كلمة وكل حركة بل كل خالجةِ إحساس تدل على الإيمان العميق بالله سبحانه وتعالى وحده. فهذا هو الحجر الأسود الذي يدعي كثير من المستشرقين أنه بقية من الوثنية الجاهلية. لقد كان الرسول حتى في الجاهلية ينبذ العادات الوثنية في الحج. وقد شهدت السنة التاسعة بعد الهجرة القضاء على هذه العادات السخيفة(74). إن شعائر الحج كلها، مثلها كمثل شعائر الصلاة والصوم والزكاة، هي عنوان على طاعة الله والمسارعة في مرضاته. كما أنها تعبير عن الوحدة بين المسلمين، إذ يرتبطون جميعهم على تنائي البلاد واختلاف اللغات والسِّحَن بقِبلة واحدة على كلٍّ منهم أن يحج إليها ويجتمع عندها بإخوانه المسلمين من كل صقع مرةً في العمر. ثم أكان الحجر الأسود أهمُّ من هُبَل أو بقية الأصنام الثلاثمائة والستين التي أطيح بها جمعاء غداة الفتح إلى الأبد؟
والآن نصل إلى التهمة الأخيرة، وهي الانغماس في شهوات الجنس واختراع الوحي بعد الوحي لتسويغها. والمستشرقون حين يتناولون هذه النقطة لا يلتزمون بحقائق التاريخ حتى لو كانت استنتاجاتهم خاطئة من وجهة نظرنا، بل إن بعضهم ليخترع من عنده أشياء ما أنزل الله بها من سلطان: فـ«إدمون باور» مثلا يزعم أن الرسول قد أعفى نفسه من الالتزام بحرمة زواج المحارم(75)، أما«واشنجتن إيرفنج» فإنه يدعي أن آية«الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدة منهما مائة جلدة. . . »(76) قد منعته عليه الصلاة والسلام من اتخاذ «مارية» حظية، فاخترع وحيًا خاصًّا به(77)، مع أن مارية كانت ملك يمين، وهذا جائز في الإسلام لأي مسلم، ولا تسبب حالتها أية مشكلة من أي نوع، فضلا عن أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أعطى «حسان بن ثابت» أختها «سيرين»، فهل اخترع له الرسول أيضًا وحيًا له؟ أم ماذا؟ ولقد أفاض الكتاب والمفكرون المسلمون في العصر الحديث في الرد على اتهامات المستشرقين للرسول عليه الصلاة والسلام فيما يتعلق بزواجه مما لا أجد معه ضرورة لتناول هذه المسألة، وإن كنت أرى مع ذلك أن الأمر، قبل نزول الوحي بتحديد الزوجات اللاتي يستطيع المسلم أن يحتفظ بهن في نفس الوقت بأربع، لا يحتاج كل هذا العناء، فما دام التزوج بأكثر من أربع كان قبل ذلك مباحًا، فما معنى اختصاص أعداء الإسلام للرسول عليه السلام بالنقد؟ أما احتفاظ الرسول بكل زوجاته بعد التحديد وهن أكثر من أربع، فهو الذي يحتاج إلى بيان. وإن أهم سؤال في نظري هو: أكان الأمر هنا أمر شهوة وتلفيق وحيٍ لتسويغها أم أمر سماحٍ إلهيٍّ؟ (78) وأحب أن أبادر فأقول: لقد أُثِرَ عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما أُثِرَ عنه أن مما حُبِّبَ إليه من دنيانا النساء، وإن كان قد ذكر أيضًا أن الصلاة هي قرةُ عينه. لكنَّ حب الرجال للنساء، والعكس أيضًا، ليس عيبًا. إنما القضية هي: أكان الرسول متهالكا على المرأة؟ (79) إن المعروف مثلا عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يعزف عن مصافحة النساء(81). ترى لو كان شهوانيًّا، كما يحلو لأعدائه أن يتقوَّلوا عليه، أفما كان الأحرى به أن يحرص على مصافحتهن والتلذذ بلمس أيديهن الرَّخْصة واستبقائها بين يديه مدة أطول؟ بل لم شَرَّعَ الاحتشام في الملبس بحيث لا يظهر من المرأة إذا بلغت المحيض إلا وجهها وكفَّاها؟ أفما كان الأجدر بمثل هذا الرجل الشهواني كما تصوره كتابات هؤلاء المستشرقين ألا يفكر مجرد التفكير في وضع مثل هذا التشريع الذي سيوقف عينيه النهمتين عند حدهما؟ إنه عليه الصلاة والسلام لم تُؤْثَر عنه طيلة حياته، لا قبل المبعث ولا بعده، في مكة أو في المدينة، ريبة قط ولو كلمة غزل عابرة أو غامضة. وحياته الشخصية والحمد لله، واضحة وضوح الشمس ليس فيها أسرار(82). ثم إنَّ حياته عليه الصلاة والسلام كانت، بوجهٍ عام، حياة تقشف، ولم يعرف عنه اهتمام بالغذاء، بل كان يأكل ما تيسر، وكانت الأسابيع تمرُّ على بيته لا يوقد فيها نار، ولا يتعدى طعامه أثناءها التمر والماء. وفي بعض الأحيان كان لا يوجد في البيت شئ أصلا. وهذا ثابت مستفيض لا أحتاج إلى أن أحيل القارئ على مصادره. ولا يمكن أن يقول عاقل أبدًا إن هذا سلوك المتعبدين لشهواتهم. كذلك لو كان الرسول عبدًا لشهوة الجنس أكان بمقدوره أن يفطم نفسه عن زوجاته شهرًا حين أبدَيْنَ شيئا من التطلع إلى عيشة أرفه مما كنَّ فيه؟ قد يقال إنه أراد أن يعاقبهنَّ. لكن السؤال هو: ولم يريد أن يعاقبهنَّ أصلا، والشهواني في مثل هذه الحالة يعمل بكل ما في وسعه وما في غير وسعه لإرضاء من يهواهنَّ الفؤاد؟ ثمَّ لو سلمنا بهذا، وهو لا يمكن التسليم به، أفما كان عليه السلام قادرًا على أن يتزوج خلال هذا الشهر الجاف جنسيًّا مَنْ تبُلُّ ريقه وتخفف عنه الحرقات التي بين الضلوع؟ بل إن الولائم التي كان يصنعها في أعراسه عليه الصلاة والسلام كانت تتسم بالبساطة الشديدة، مع أن أموال الدولة كانت كلها تحت يده يقدر أن يغترف منها بالكفين كما يشاء ليرضي زوجاته، وهنَّ بعدُ نساء لا يكرهْنَ، على الأقل، أن يعبر زوجهن عن رغبته بإقامة الولائم الفخمة التي تراق فيها الخمور ويكوم فيها اللحم تكويمًا. لا، ليس هذا سلوكَ شهوانيٍّ متهالك على المرأة. وكذلك ليس شهوانيًّا لئيمًا من تستعيذ منه إحدى زوجاته حين أراد الدخول بها، وكانت حديثة عهدٍ بكفر، فلا يكون ردُّ فعله إن ان يقول: «مَنيعٌ عائذ الله»، ثم يسرحا بإحسان ويردها إلى أهلها معززة مكرمة دون كلمة تسئ إليها أو نية في تأديبها على ما بدر منها(83). للتفكهة ألفت نظر القارئ هنا لما زعمه«واشنجتن إيرفينج»(84)من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا رأى امرأة جميلة سوى شعره ومسح على حواجبه. ولا أدري من أين أتى بهذه الرواية التي لا تنطبق إلا على المتعطلين الذين يقفون على النواصي يعاكسون العابرات ويحتكون بهن. والغريب أن «إرفينج» نفسه قد وصف الرسول قبل ذلك بصفحة بأنه كان محبًّا للصوم، بسيط الملبس، يكره بطبيعته المظاهر الفارغة. كما وصفه في موضع آخر بأن الصلاة كانت سلوى روحه(85). وفي موضع ثالث، يقف عند بساطة معيشته وبيته كما رسمها «عدي بن حاتم» حين وفد عليه(86)، وهو ما يتعارض تمام التعارض مع الشهوانية. أما بالنسبة لاحتفاظه بزوجاته جميعًا بعد نزول القرآن بتحديد زوجات المسلم بأربع غير ما ملكت يمينه، فأول ما ينبغي أن نذكره هنا هو أن هذا التحديد لم يتم إلا في السنة الثامنة للهجرة، أي في آخر حياة الرسول، وكان قد جاوز الستين وبنى بزوجاته جميعًا فلم يتخذ بعد ذلك زوجة أخرى. وإن المرء ليتساءل: ‏ترى لو كان الرسول متدلها في حب النساء فلِمَ حددهن حينئذ بأربع إذا كان لن يلتزم بذلك التحديد؟ أكانت غايته أن يحرج نفسه بإصدار تشريع لا يلتزم هو به؟ أم يا ترى كان حتى ذلك الحين، ‏أي بعد ثماني سنين من التهالك على النساء كما يصوره أعداء الإسلام، يجهل هذا الضعف في نفسه وأخلاقه؟ إن الرسول لو كان هو مؤلف الوحي لما أصدر مثل هذا التشريع أبدًا حتى لو انطبقت السماء على الأرض، ‏أو على الأقل كان ينبغي عليه أن ينسخه إذا وجد أنه لن يستطيع الالتزام به كما ظن قبلا. ولا يقولن قائل إن النسخ في الشريعة إنما يكون تدرجا نحو الأصعب، ‏فإن القرآن قد توقع من المسلمين في بداية معاركهم مع الكفار أن يهزم الواحد منهم عشرة من أعدائهم ثم خفف ذلك إلى اثنين فقط(87). كذلك شرع القرآن في فترة من الفترات على كل من يريد مناجاة الرسول على حِدةَ أن يقدم بين يدي نجواه صدقة ثم نسخ ذلك(88). فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فلم أصدر مثل هذا التشريع وقد كان التعدد بلا ضابط عُرْفَا متبعا؟ أكان هناك حزب نسائي بين أتباعه يقوم بالضغط عليه ويلوح له بأنه لن يعطيه أصواته في الانتخابات إلا إذا حدد عدد الزوجات؟ أم تمرد عليه أحب أربع زوجاته إلى قلبه وخيّرنه بين التحديد أو تركه واللحاق بأهلهن؟ ولكن من هن يا ترى هؤلاء الأربع الواثقات بأنفسهن كل هذه الثقة؟ ولِمَ لمْ يسرِّح الباقي من زوجاته ويحتفظ بهؤلاء وحدهن وله فيما ملكت يمينه مندوحة عن مخالفة التحديد؟ بل لقد كان يستطيع، ‏مادام نوى أن يصدر هذا التشريع، ‏أن يطبقه على نفسه مع إرضاء شهوته الجسدية بأن يطلق كل زوجاته القديمات اللاتي لم يكن له من واحدة منهنَّ ولد يمكن أن يبقي عليها من أجله ويتزوج بدلا منهن أربعا من أجمل بكارى العرب. إن العجيب أن يكون «محمد» شهوانيا إلى هذا الحد الذي يتفنن في تصويره هؤلاء المستشرقون ويخترع مثل هذا الوحي المحرج مع أنه قبل ذلك بسنة واحدة كان قد تزوج «صفية بنت حُيَيّ»، ‏رضوان الله عليها، ‏اليهودية الأصل، ‏وكان يستطيع أن يبقيها أمَة لأنها من السبي. وقبل صفية بسنة اتخذ «جويرية بنت الحارث» زوجة، ‏مع أنها كانت من نصيب أحد المسلمين من سبي بني المصطلق، ‏فكان الأحرى أن يتخذها عليه الصلاة والسلام أمَة، ‏ولكنه لم يفعل هذا أيضا. فهل كان يبحث عن المتاعب يخلقها لنفسه خلقا ليزداد إحراجا فوق إحراج بإضافة زوجتين إلى زوجاته اللائي سيصدر بعد شهور تشريعا لا يسري عليهن؟ إن هذا إنما يدل على التخبط، ‏وهو لم يكن يوما من سمات الرسول عليه الصلاة والسلام.
‏كذلك فإن الذين يأخذون عليه أنه أعفى نفسه من الالتزام بأربع زوجات يتناسون أن القرآن بعد ذلك بقليل قد نزل يحرّم عليه هو وحده من دون المسلمين أن يستبدل بأي من زوجاته زوجة جديدة، مما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان له وضع خاص في هذه المسألة، فتارة يلتزم المسلمون بما لا يلتزم به، وتارة العكس. وفي النهاية أود أن أشير إلى أن أحدا من المسلمين أو حتى من المشركين لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك. ولو قد أحس المسلمون أن في الأمر ما يدعو إلى الريبة لما سكتوا، وفيهم «عمر» النقادة، وكان حمًا للرسول ويهمه ألا يكون لبنته كل هؤلاء الضرائر، فيضطر الرسول إلى إصدار تشريع يعفيهم مثله من الاقتصار على أربع زوجات ليسكتهم فلا يسببوا له المشاكل. الحقيقة أنني كيفما قلبت هذه المسألة لا أجد فيها ما يؤخذ على الرسول، فإن السماء هي التي شرّعت، أما هو فلم يشرع لنفسه ولا للمسلمين من عنده شيئًا. وأظنني كنت صريحًا جدا في معالجة الأمر كله سلبا وإيجابا(89).
‏ويتصل بهذا الاتهام المتهافت ما تلقفه المستشرقون من رواية ضعيفة اخترعها ورواها بعض من ينتسبون إلى الإسلام ولا يقدرون المسؤولية فيما بقولون ويتناقلون، وهي الرواية التي تتعلق بزواج الرسول الأكرم بابنة عمته زينب بنت جحش وتتلخص هذه الرواية في أن رسول الله ذهب يوما إلى بيت زيد في أمر فلم يجده، وكلمته زوجته زينب من وراء الستار وهي تلبس ملابسها على عجل، فإذا بالهواء يرفع الستارة بغتة ليراها الرسول حاسرة، مما كان له تأثير طاغ على مشاعره فانصرف وهو يردد : « سبحان مقلب القلوب!» ولما جاء زيد وعلم من زوجته بما حدث فهم أن الرسول قد عَلِق زوجته، فذهب إليه وعرض عليه أن يطلقها ويتزوجها هو فأمره عليه الصلاة والسلام أن يمسك عليه زوجته ويتقي الله. ولكن الوحي ما لبث أن نزل على الرسول يكشف مشاعره التي حاول عبثا أن يخفيها، ويأمره في صراحة أن يتخذ زينب زوجة. هذا، وقد أضاف «واشنجتن إرفنج» من عنده بعض التوابل، إذ ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي فاجأ زينب وهي في مباذل البيت، ‏وذلك حين اقتحم عليها خلوتها في بيتها بصفته أبا لزوجها بالتبني، ‏فرأي جمالها مكشوفا أمام عينه المحملقة(90).
‏وأول شيء أحب أن أسارع فأقوله هو أننا لم نسمع بمثل حادثة الستار هذه في أية رواية أخري عن ذلك العهد، ‏بل إن الستور لم ترخ في بيوت الرسول إلا بعد زواجه من زينب(91) الحقيقة أن هذه رواية من الروايات الغرامية التي هي بامرئ القيس وابن أبي ربيعة أليق. أما ادعاء «إرفنج» بأنه قد اقتحم على زينب خلوتها فليقل لنا أولا من أين له به، ‏فإن مثل هذا السلوك، ‏فضلا عن أنه يجافي خلق الرسول والصحابة، ‏لم يرد ولا حتى في تلك الرواية التافهة التي هي محل كلامنا الآن.
‏وثمة نقطة هامة جدا في قصة زينب هذه هي أنها وأهلها كانوا قد رفضوا رفضًا باتًّا أن تتزوج زيدًا، ‏الذي لم يكن إلا عبدًا للرسول أهدته إليه خديجة عند زواجها فأعتقه عليه السلام، ‏بينما زينب هي ابنة عمة «محمد» زعيم المسلمين وحاكمهم ورسول السماء، ‏وأسرتها من أرفع أسر قريش عزةً ومكانةً، ‏ولولا أن وحيًا قرآنيًا شديد اللهجة قد نزل في زينب وأهلها يعنفهم على هذا الرفض ما رضيت ولا رضوا أبدا. والشاهد هنا أن هذه هي المرة الوحيدة تقريبا التي أرغم فيها الرسول امرأة على التزوج ممن لا تريد(92)، ‏فإن الشريعة الإسلامية تتشدد في هذه المسألة حتى إن فتاة ذهبت إلى الرسول تشكو له من أن أباها قد زوجها من ابن عمها ليرفع بذلك الزواج خسيسته، ‏ففكَّ الرسول عليه الصلاة والسلام عقد الزواج بسبب رفض الفتاة، ‏التي عادت بعد فسخ العقد فأعلنت موافقتها قائلة إنها إنما فعلت ذلك ليعرف الآباء أن لبناتهم إرادة مستقلة لا يجوز لهم أن يجوروا عليها(93). بل إن الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لم يحاول، ‏ولو من بعيد، ‏إرغام زوجته التي استعاذت بالله منه( وكانت حديثة عهد بكفر) على البقاء في عصمته، ‏وإنما سرحها تسريحا جميلًا وفضلا عن ذلك فلدينا حالة بريرة، ‏وكانت أمَة فأُعْتِقت، ‏وعندئذ أعلنت أنها لا تريد البقاء مع زوجها، ‏الذي أخذ يجوب شوارع المدينة وراءها وهو يبكي من فرط تعلقه بها، ‏وقلبها لا يرق له. وعبثا حاول الرسول عليه الصلاة والسلام الشفاعة له، فقد أصرت على أن ينفصلا، فكان لها ما أرادت(94). فأين بريرة من زينب سليلة العز والشرف؟ ولماذا ينزل وحي فيها هي وأهلها خاصة يرغمهم على أن يرضوا بالزوج الذي اقترحه الرسول عليهم وهو عبد عتيق؟ ألا إن في الأمر سرا سوف ينجلي حين ينزل وحي آخر يرغم الرسول عليه الصلاة والسلام بدوره على أن يتزوج زينب هذه. ولكن فلننتظر قليلا.
‏ثم لو أن الرسول كان طالب شهوة فلِمَ لمْ يدخل البيت عندما رأى زينب على تلك الهيئة المزعومة( فهو على كل حال ابن خالها) ويتودَّد إليها متظاهرا بأنه يريد أن يكَفِّرَ عن إرغامه إياها على الزواج من زيد، وبخاصة أن العلاقة بينها وبين زوجها لم تكن على ما ترام بسبب إحساسها أنها مغموطة في هذا الزواج، ثم يتخذها ( أستغفر الله) عشيقة، وهي بعد ليست إلا زوجة لمن كان في يوم من الأيام له عبدا فمنَّ عليه بالحرية وقربه منه، أما هو فزعيم الأمة وحاكمها المطلق على زعم المستشرقين، أمره مطاع ولا يتورع عن تلفيق الوحي لتسويغ ما يريد. إن القارئ يمكنه أن يتصور منطقية هذا الجدل إذا وضع في ذهنه أن مَلِكا حَسُنَتْ في عينه زوجة خادمه أو سائقه مثلًا، وكان هذا الملك لا يبالي بخلق ولا عُرْف كريم، فماذا تراه فاعلًا إلا أن يأمرها بأن تتبعه إلى فراشه فتفعل؟ وذلك بدلًا من أن يتزوجها وينزل في نظر الناس من عليائه إلى اتخاذ امرأة خادمه زوجة له. ثم إن هناك في المسألة جانبا خطيرا أشد الخطورة، فإن العرب لم تكن تُقر قط مثل هذا الزواج، لأن التبني في نظرهم كان هو والأبوة الطبيعية شيئًا واحدًا. وهذا هو لب المشكلة كلها، ومن ثمة نستطيع أن نفهم تردد الرسول وعدم رغبته في إتمام هذا الزواج، كما هو واضح من قوله تعالى { وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ }(95) الذي فهمه رودنسون على أنه إشارة إلى أن «محمدًا» قد خاف أن يعرف الناس تعلق قلبه بزينب ووقوعه في هواها منذ نلك النظرة المزعومة(96)، مع أن له تفسيرا آخر يتسق مع تحليلنا هذا الذي نراه أقرب تماما إلى المنطق، ولا ندري لِمَ لمْ يشر إليه بكلمة واحدة، وهو أن الرسول لم يشأ أن يواجه الناس بأن عليه أن يتزوج زينب. لكنَّ وحي الله ينبغي أن يُبلغ للناس مهما تكن مرارته، وشرع الله لابد أن يطبق مهما يتعارض مع التقاليد الحديدية. وليكن أول من يطبق هذا التشريع هو الرسول نفسه على رغم ما سوف يثيره من لغط لما سيسببه للناس من صدمة شديدة. أما الادعاء بأن نظرة واحدة مباغتة لزينب، ولما تكن قد استكملت ارتداء ملابسها، قد زلزلت قلب «محمد» فمن الصعب جدًا قبوله. لماذا؟ لأن الرسول هو الذي أرغمها على الزواج من زيد، وكان ذلك منذ وقت قريب. فما الذي تغير فيها في هذه المدة القصيرة جدا حتى ترج كيانه نظرة إليها؟ لو أنه عليه الصلاة والسلام لم يرها منذ طفولتها ثم فوجئ بها امرأة ناضجة الأنوثة لقلنا: ‏هذا معقول، فإن فترة المراهقة تُحدث من التغييرات في الفتيات الأعاجيب. أما أن تتغير امرأة ناضجة فعلا في هذا الزمن الوجيز فهو غير معقول، ‏وبالذات إذا عرفنا أن زينب لم تكن راضية عن زوجها ودائما تعيره ‏بأنها أشرف منه، ‏لأن مثل هذه ‏الزوجة لا تجد في حياتها الزوجية دافعًا إلى الاهتمام بشكلها أو ملابسها أو زينتها، ‏وهي الأشياء التي يمكن أن تجعلها تبدو جميلة إذا لم تكن كذلك، ‏أو تزيدها، ‏إن كانت، ‏جمالا فوق جمال.
‏إن القصة تمضي فتقول إن «محمدًا» عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، عندما وقع بصره عليها وهي في حالتها تلك، قد انصرف من فوره وهو يردد: «سبحان مقلب القلوب!» فقف معي هنا أيها القارئ وقل لي: علام تدل هذه العبارة؟ ألا تدل، حتى بفرض صحة هذه الرواية، على أن الإيمان بالله كان يملأ قلب «محمد» عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يرى ربه مطلق المشيئة؟ تُرى أهذه مشاعر دجال يزعم كذبًا أنه متصل بالله يأتيه الوحي من لدنه بينما هو في الحقيقة يلفق هذا الوحي ليحقق به شهواته؟ على أية حال لقد رجع محمد، بناء على هذه الرواية، ولم يفكر ولو لحظة في الدخول على زينب برغم أن البيت كان خاليا عليها. إن رد الفعل الطبيعي هنا، مادام «محمد» أسيرا لشهوته كما تصوره كتابات المستشرقين، هو أن يدخل وينفرد بمن زلزلت كيانه، حتى لو كان كل ما سيفوز منها حينذاك هو مجرد الأنس بالحديث معها ساعة وملء العين من جمالها إلى أن يعود الزوج المسكين من الخارج.
‏ولنفترض أن «محمدًا» قد أخطأ خطأ العمر حين ترك هذه الفرصة الغالية تفلت منه فانصرف بدلا من أن يدخل، فلم لم يهتبل تلك الفرصة الأخرى التي قدمها إليه في منديل من حرير الزوج الساذج السادر في حب سيده غفلةً منه وحمقًا، أستغفر الله، حين أتي إليه توَّ علمه بالحادثة وعرض عليه بإخلاص السذج وحرارة الحمقى أن يتنازل له عن زوجته، التي وقعت في قلبه موقعًا؟ لقد كان جواب الرسول على هذا العرض هو «أمسك عليك زوجك واتق الله » أتراه كان يتردد خوفا من كلام الناس، حتى إذا ما تهيأ الرأي العام لذلك لم يجد غضاضة في قبول العرض؟ لكن هذا الأمر قد ظل سرا بين أطراف هذا المثلث فلم يبلغ آذان الرأي العام، ولم يتهيأ من ثمة هذا الرأي العام لذلك الأمر الجلل. ثم ألم يكن أفضل من هذا كله وأسرع وأبلغ بمحمد إلى غرضه وشهوته أن يتفاهم مع زوجة عبده السابق على ترتيب لقاء سري بينهما كلما سنحت الفرصة بدلا من وجع الدماغ هذا والدخول في هذه المتاهات المعقدة والتعرض لألسنة الناس؟ أم تراه حين أخطأ وأفلت فرصة الخلوة بها قد فاته أيضا أن يلجأ إلى حيلة داود على حسب ما يرويه الكتاب المقدس، الذي يتهم هؤلاء المستشرقون أنفسهم سيدنا رسول الله بالسرقة منه، فيرسل زيدًا في غزوة من الغزوات المهلكة بعد الاتفاق مع واحد من أصحابه الذين يغارون منه على أن يضعه في مقدمة الصفوف عرضة لرماح الأعداء وسهامهم وسيوفهم كي يموت، بالضبط كما فعل داود مع أوريا قائده المقرب إليه عندما وقع له شيء مشابه لما وقع لمحمد على حسب هذه الرواية الملفقة، على رغم أنه، على عكس محمد، قد أروى غلته من امرأة هذا القائد قبل أن يرسله إلى الحرب ليموت هناك ويخلو له بذلك وجه الزوجة؟ لقد فعل داود هذا بقائده المقرب إليه، فلم لمْ يفعله «محمد» مع عبده السابق؟ إن التخلص من عبد سابق لأهون ألف مرة من التخلص من قائد له مكانته الاجتماعية والسياسية الرفيعة مثل أوريا(97). أم تراه عليه الصلاة والسلام لم يكن يسرق من اليهود إلا الأفكار الطيبة بينما يعف عن الأفكار الشريرة؟
‏على أنني مازلت أرى أن من المستحيل أن يكون الأمر قد تم على النحو الذي تزعمه تلك الرواية المتهافتة، فقد كانت علاقة الحب المتبادلة بين «محمد» صلى الله عليه وسلم وزيد من المتانة ‏والعمق والرسوخ حتى إن زيدًا في صباه قد فضله على أبيه وأمه وكل أهله الذين لم يكن قد رآهم منذ اختطف وبيعَ بَيْعَ العبيد وتقاذفته المقادير حتى استقر في يد محمد، ورفض أن يرجع معهم حين خيره النبي بين البقاء معه أو الذهاب مع أهله(98). ولم يؤثر عنه بعد ذلك قط أنه حنَّ إلى أهله مرة. ترى أيمكن أن يبلغ الحب من قلبه هذا المبلغ المستحيل لو أنه شام من «محمد» ريبة على مدى هذه السنوات الطويلة؟ أم ترى كان يبقى بعد هذه الحادثة معه عليه الصلاة والسلام لو أن مجرد صدى هاجس خافت قد عبر قلبه؟ أم ترى محمدًا، وهذه أبوته لزيد الذي رباه على يديه وسقاه من كـؤوس حنانه الصافية منذ كان صبيًّا حتى أصبح الآن رجلا فأرغم بنت عمته هو ، الزعيم والحاكم المطلق السلطان، على الزواج من هذا العبد السابق، يمكن أن يقع في مثل هذا الغرام المشتعل فجأة مع زوجة ابنه؟ أم تراه، بافتراض صحة وقوعه في هواها من مجرد نظرة عابرة، كان يرضى أن يتزوجها لولا أمر السماء له بأن يكون أول من يطبق ذلك التشريع الجديد على نفسه ليحطم التقليد الجاهلي الذي كان يعد الابن بالتبني مثل الابن الحقيقي تماما؟
‏على أن هناك شيئا فات هؤلاء المسارعين إلى تصديق كل ما من شأنه أن يلطخ سمعة الرسول الأعظم محمد، وهو أن تلك الرواية المتهافتة تقول إن زواج «محمد» من زينب بعد طلاقها من زيد قد أثار زوبعة شديدة لأن الناس لم يستطيعوا بسهولة أن يهضموا زواج رجل من مطلقة ابنه، حتى لو كان ابنًا سابقًا بالتبني. أفلم يكن المنطقي إذن ألا يفكر زيد في عرض تطليق زوجته على أبيه السابق ليتزوجها ما دام الناس كانوا يستنكرون مثل هذا الزواج إلى هذه الدرجة العنيفة؟ ثم أليس من المنطقي أن ننكر نحن إمكان حدوث ذلك؟
‏ثم عائشة ! لقد كانت زوجة غيورًا، ولو أنها أحست بشيء يحاك في الخفاء لما سكتت. ولقد سمعته عليه الصلاة والسلام يقول عن رجل جاء إلى بيته في أمر ما: « ‏بئس أخو العشير هو!»، فلما قابله وهشَّ له وألان الكلام لم تسكت على ذلك رغم تفاهة الأمر ورغم أن هذه هي المرة الوحيدة ( فيما نعرف) التي وقع ذلك فيها من الرسول عليه الصلاة والسلام وسألته عن سر هذا التناقض التافه(99) فأحرى بها هنا ألا تسكت لو ‏شعرت بشئ مما يتقوله المستشرقون. لكن كان لعائشة الجريئة ذات الدلال على رسول الله رأي آخر، إذ قالت: لو كان رسول الله كاتما شيئا لكتم هذه(100). ذلك أنها كانت تدرك تمام الإدراك فداحة الصدمة التي سيخلفها زواج رسول الله عليه الصلاة والسلام من زينب كما مرَّ بيانه.
‏مما سبق يتبين لنا أن المستشرق البريطاني «مونتجمري وات» كان على حق عندما اتفق رأيه في هذه القضية مع آراء المسلمين المعاصرين، وأنه لا معني لاستغراب «مكسيم رودنسون» رأي رصيفه البريطاني هذا(101). ثم فلنفترض أن وقائع القصة كلها صحيحة، فما الذي يؤخذ على الرسول فيها؟ أيؤخذ عليه أن نظره وقع عفوا على زينب فكان لذلك تأثيره على قلبه؟ أم يؤخذ عليه أنه بدلا من أن يدخل انصرف وهو يتمتم: « سبحان مقلب القلوب »؟ أم يؤخذ عليه نهيه زيدًا أن يطلق زوجته من أجله(102)، وقوله له: « أمسك عليك زوجك واتق الله »؟ أم يؤخذ عليه أنه تزوج زينب زواجًا شرعيًّا بعد أن طلقها زوجها بملء إرادته وحريته؟ ألا يرى القارئ أن الأمر كله عراك في غير معترك، وأن ما يتقوله المستشرقون إنما هو ضجة فارغة، وأن الآية محل النقاش ليست إلا وحيا إلهيا نزل يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يكون أول من يطبق على نفسه التشريع الجديد؟

الجندى
08-09-2008, 09:51 AM
‏ومن دلائل صدقه عليه الصلاة والسلام في دعوته أنه كان أول الناس وأشدهم التزاما بمبادئ الإسلام عقيدة وعبادة وتشريعا. إن إيمانه بربه وشعوره بقدرته وعظمته ومجده ورحمته ونعمه وأنه محاسب عباده يوم القيامة على ما اقترفت أيديهم من خير أو شر كان يفعم عقله وقلبا وضميره، وينبجس دائما على لسانه في كل ساعة. لقد كان يدعو دائما ربه في كل وقت وفي كل مناسبة: فهو إذا استيقظ دعاه سبحانه بما يدل على تقديره نعمة الحياة ليوم جديد، وإذا أخلد إلى فراشه دعاه عز وجل دعوة المطمئن إليه المسلم له نفسه وكل كيانه. وهو إذا هطل المطر دعا، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر صلى ودعا، وإذا أجدبت السماء صلى ودعا، وإذا سافر ابتهل إلى ربه، وإذا عاد رفع صوته بالحمد والشكران، وإذا حجَّ لبَّى ورددت تلبيته الجبالُ والفجاج والوهاد. وهو لا ينسى ربه ولا يكف لسانه عن اللهج بذكره في سلمٍ أو حرب. وهو يدعو للموتى ويدعو للأحياء في ضوء النهار وفي جوف الليل. لقد كان عليه الصلاة والسلام إذا ركب دابته هتف: « سبحان الذي سخر لنا هذا، وما كنا ‏له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضْى. اللهم هوِّن علينا سفرنا هذا واطو عنا بعده. اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر وسوء المنقلب في المال والأهل والولد. » وإذا رجع قالهن وزاد فيهن: « ‏آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون»(103). وكان إذا قفل من الحج أو العمرة كبَّر ثلاثا كلما أوفى على ثنية أو فدفد ثم قال: «‏لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير. آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون. صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»(104). وكان إذا خاف قوما قال: «‏اللهم نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم»(105) وعند لبسه ثوبا جديدا كان عليه الصلاة والسلام يقول: «‏اللهم لك الحمد، أنت كسوتنيه. أسألك خيره وخير ما صُنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له»(106) وإذا أوى إلى النوم قال: «اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت»(107)، وإذا استيقظ قال: «‏الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وإليه النشور»(108). ومن أدعيته عليه الصلاة والسلام: «‏اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت في الناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»(109). وكان يدعو وهو داخل المرحاض أو خارج منه. وقلما قام عليه الصلاة والسلام من مجلس إلا ودعا قائلا: «‏اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا»(110). ترى لو كان «محمد» كذابا أكان يعترف هكذا أنه، وهو رسول الله الذي ‏يتنزل عليه الوحي من السماء، يحتاج إلى بذل الجهد للفوز بالجنة، ويعلن خوفه من المعصية على هذا النحو؟ وهل يمكن أن يفنى الكاذب الدجال في ربه على هذا النحو العجيب؟ وكان دعاؤه للمرضى: «اللهم رب الناس، أذهب اليأس واشف، أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما»(111) أما أدعيته وصلواته عند الكسوف والخسوف والاستسقاء وموت أحد الناس فمعروفة في جميع كتب الفقه. وفي آخر لحظات حياته كان دعاؤه: «اللهم أعني على غمرات الموت وسكرات الموت، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى»(112). فهل هذا كلام مزيف محتال؟ أم هل يُقبل المزيف المحتال على الموت بمثل هذا التعلق بالله، الذي يكذب عليه ويضع الوحي وينسبه إليه؟ كذلك كان يطلب من بعض صحابته أن يدعوا له، كما هو الحال مثلا عندما قال لـ«عمر بن الخطاب»: «‏لا تنسنا من دعائك يا ‏أخي»(113). ومن ذلك طلبه من المؤمنين أن يسألوا له الوسيلة رجاء أن تكتب له(114). أما القرآن فكان ربيع قلبه، كما كان يبكي أحيانا لدي سماعه(115). وهل رؤي كاذب يبكي لسماعه كلاما يعلم في قرارة نفسه تمام العلم أنه هو الذي زوره ونسبه إلى الله؟ اللهم إلا إذا قيل إنه كان عليه الصلاة والسلام ممثلا بارعًا. لكن تحليل شخصيته واستقصاء دقائق حياته يبعدان عنه تماما شبهة التظاهر بالبكاء من غير تأثر حقيقي. ليس هذا فقط بل كان عليه الصلاة والسلام يَرْقِي نفسه بالقرآن، وعندما يأوي إلى فراشه كان يقرأ المعوذتين ويمسح بهما جسده(116).
‏أما بالنسبة لعبادته صلى الله عليه وسلم فقد أعلن أن الصلاة هي قرة عينه، بل كان يبكي أحيانا وهو يصلي(117). ولم يكن عليه الصلاة والسلام يكتفي بالمفروضة على ما في صلاة الفجر وحدها من ترك الفراش الدافئ وبخاصة في ليالي الشتاء واستعمال الماء البارد في الوضوء. ويتنبه« كِـلِتْ» إلى هذه النقطة من شخصيته فيشير إلى أنه ظل يؤدي الصلاة حتى اللحظة الأخيرة من حياته(118). بل كانت له نوافل عند كل ‏صلاة، وذلك غير صلاة القيام والضحى. و كان لا يدع هذه النوافل حتى في الحرب أو المرض أو وهو مسافر راكب حماره أو بعيره. وتأمل كيف أنه، وقد فتحت جيوشه مكة معقل الوثنية الأعظم (مكة التي أخرجته من بيته وبلده وتآمرت على قتله وناصبته الحرب الضروس طيلة هذه الأعوام، مكة أبي سفيان وهند وأضرابهما)، لا يزدهيه هذا النصر فينسيه ربه ولو للحظة من نهار، بل يبادر فيصلي الضحى ثماني ركعات، مما يدل على أنه كان موصول القلب والضمير بالله مشدودا إليه بأمراس من الإيمان لا تنقطع أبدًا(119)، ولم يكن يُخْرج الزكاة فقط، بل كان يخرج كل ما يصله من مال على كثرته، كما كانت زوجاته اللائي اتُّهم بأنه تزوجهن زواج الشهوة المغتلمة يخرجنها مضاعفة، وذلك على عكس زوجات الكذابين الذين يتوسلون بالدين وبالدعوات النبيلة لاحتبال أموال الآخرين والتنعم بها خلف أسوار قصورهم المبنية من عرق الكادحين المخدوعين. وكان عليه الصلاة والسلام عندما يصوم ويتصادف أن يكون الجوُّ شديد الحرارة لا يستنكف أن يصب الماء على رأسه، وفي هذا من التواضع والصدق ما فيه، وإلا لتظاهر بالتحمل ليكبر في أعين أتباعه، شأن المنافقين، وله فيما يستطيع أن يكرعه من ماء إذا خلا بنفسه مندوحة واسعة(120). ولست بحاجه إلى أن أشير إلى حجه وما لقى فيه سَفرًا وحِلًّا من متاعب ما كان أغناه عنها وأقمنه أن يزعم أن الله قد أعفاه منها لو أنه كان كاذبا. وكانت النية عنده هي الأساس في هذا كله، مما يدل أقوي الدلالة على أن مدار أمره كله هو الصدق والإيمان الصحيح لا مجرد التظاهر والتمسك بالشكليات(121). وكانت زوجاته في الصف الأول بين المطيعين لما جاء به عليه السلام. وانظر كيف أفطرت «عائشة» و«حفصة» يوما في صيام نفل لم يكن يعرف عنه شيئا فأخبرتاه تستفتيانه، وما كانتا بحاجة إلى ذلك لو لم يكن الإيمان قد خالط قلبيهما وغمرهما تماما. ولكنه عليه الصلاة والسلام رغم أخذه دائما بظاهر الأعمال كان يتشدد مع زوجاته. ومن ذلك أنه لم يسترح لتنافسهن في الاعتكاف في الموضع الذي علمن أنه سيعكف فيه، ‏إذ حدث أن رأى في المسجد بعض الأخبية فسأل عنها فأخبر أنها لـ«عائشة» و«حفصة» و«زينب»، ‏فقال: « ‏آلبرَّ تقولون بهن؟ »، ‏ثم انصرف فلم يعتكف حتى اعتكف عشرا من شوال(122). ولو لم يكن صادقا يتضوع الصدق من كل كيانه ونواياه وأفعاله لأثنى عليهن ساعتها أمام الناس خيرا وزعم أنهن في كل شيء نِعْمَ المثال المحتذى.
‏وله عليه لصلاة والسلام في هذا الباب عجائب لا تكاد تصدق: فقد سها في صلاته بأصحابه مرة، فلما نبهوه إلى ذلك لم يتمحَّل ولم يدَّع مثلا أنه لا يسهو وأن ما ظنوه سهوًا إنما كان تخفيفا من الله في هذه الصلاة بالذات لسبب أو لآخر كان بإمكانه اختراعه، بل أقر بخطئه وعاد ليكمل الصلاة بهم(123). كما سها مرة أخري في صلاته، فسجد سجدة السهو من تلقائه من غير أن ينبهه أحد(124)، وهو ما يعد اعترافًا منه تلقائيًّا بأنه يجوز عليه النسيان رغم أنه رسول ربٍّ لا يضل ولا ينسى، بل لقد قال ذلك صراحة في إحدى المرات(125). كذلك فقد حدث أن أقيمت الصلاة ذات مرة وعُدِّلت الصفوف ثم خرج النبي عليه الصلاة والسلام، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جُنُب فقال لأصحابه: «مكانكم»، ثم رجع فاغتسل، وخرج إليهم ورأسه يقطر ماء فأمّهم في الصلاة(126). لقد كان عليه السلام يستطيع، لو كان نبيًّا مزيَّفًا، أن يصلي جُنُبًا، إذ من ذا الذي كان يعرف من المصلين أنه جنب؟ لكن حرصه على أن يرجع فيغتسل أولًا، برغم خروجه للصلاة بالناس الذين كانوا ينتظرونه وقد أقيمت الصلاة وعُدِّلت الصفوف، وبرغم ما في ذلك من إحراج ضاعفه أن في ذلك اعترافًا منه بجواز النسيان عليه حتى في مسائل الطهارة والاستعداد للصلاة، التي هي عماد الدين، هو من الدلائل القاطعة على صدقه. إن مثل هذا الرجل الذي كان يسأل الله أن يرزقه لسانًا صادقًا(127) لا يمكن أن يكون من الكذابين، وإلا فليس ثمة إنسان في الدنيا أهل للثقة إذن(128).
ولم يكن النسيان هو العرض البشري الوحيد الذي اعترف النبي عليه الصلاة والسلام بجوازه عليه، فهو لم يدّع يومًا أنه يعلم الغيب ولا حتى فيما يتعلق بمواقيت الصيام، وهو العبادة الثانية في الإسلام، إذ غمّ هلال شوال في إحدى السنين فصام المسلمون ومعهم الرسول، ليأتي في اليوم التالي من يخبرهم وهم صائمون بأن الهلال قد رُئي البارحة في مكان آخر فيفطر عليه السلام ويفطرون. وقد كان يستطيع، لو كان كذَّابًا يدعي معرفة الغيب من السماء، أن يشكك هذا القادم في رؤيته ويصر على مواصلة الصيام حتى لا يقال عنه إنه لا يعرف الغيب. ذلك أن كثيرًا من العرب في ذلك الوقت كانوا يظنون أن النبوة تستلزم هذا(129). كما أكد لأصحابه أنه إذا قضى بين اثنين فإن أحدهما يمكنه، لو أراد، أن يخدعه بالباطل إذا كان أبرع في القول من خصمه(130). كذلك لم يكن عليه السلام يدّعي أنه يعرف مصائر الموتى، بل كان يقول عن نفسه: «والله ما أدري وأنا رسول ما يفعل بي(131). ومثل ذلك أن عائشة حين رُمِيت بما رُميت به، عليها رضوان الله، لم يسارع الرسول عليه السلام، وهي زوجته ويهمه ألا يلوك الناس سيرتها، بتبرئتها، بل انتظر حتى نزول الوحي بعد وقت يعد طويلًا جدًا في تلك الظروف(132). وكان يستطيع، لو كان كاذبًا، أن يصنع وحيًا منذ أول لحظة يُخرس به الألسنة، ويضاف إلى ذلك اعترافه بأن علمه بأمور الدنيا محدود، برغم أنه رسول الله خالق الدنيا والآخرة. وحادثة تأبير النخل مشهورة مستفيضة. ومثلها أنه هم بالنهي عن الغيلة لولا أنه نظر إلى الروم وفارس فإذا هم يغيلون فلا يضر ذلك أولادهم في شيء(133) ليس ذلك فقط، بل كانت تقع له أمور لو وقعت لغيره لكتمها خوفًا من أن تسيء إليه في نظر الناس، لكنه عليه السلام كان يصرخ بها رغم أنه لم يؤمر بتبليغها لأحد. ومنها أنه زار ذات يوم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، إلى هنا والأمر مفهوم، لكن الغريب أن يتطوع فيذكر لهم أنه استأذن ربه في زيارة قبر أمه فأذن له، بينما حين استأذنه أن يستغفر لها لم يأذن . أفهذا فعل أم كلام دجال؟ (134).
ومن عجائبه في هذا الباب، باب الصدق، أنه عليه السلام لم يدّع يومًا أنه قادر على الإتيان بمعجزة، فما هو (كما كان يقول دائمًا في الرد على من يتحدونه من المشركين أو اليهود) إلا بشر رسول. ولرُب من ينبري قائلًا: وهل كان المراد أن يدّعي قدرته على صنع المعجزات حتى إذا سُئِل أن يصنع واحدة عجز وانكشف كذبه؟ إن دهاءه إذن لا صدقه وإخلاصه هو الذي منعه من مثل هذا الادعاء. وبغض النظر عن أنه لم يحاول أن يهتبل فرصة كسوف الشمس يوم موت ابنه وفلذة كبده «إبراهيم» مثلًا ويدّعي أنها آية إلهية على مشاركة الكون له في أحزانه(135)، فإنه عليه الصلاة والسلام كان بإمكانه أن ينكر وقوع المعجزات ممن تقدّمه من الرسل والأنبياء حتى يسوي بينهم وبينه في هذا المجال، وعلى من لا يصدقه أن يثبت العكس، وهو مستحيل طبعًا، فإن هؤلاء الأنبياء والرسل كانوا قد ماتوا وشبعوا موتًا منذ أحقاب متطاولة. ولا أعتقد أن أحدًا يمكنه أن يعزو عدم نفيه عليه الصلاة والسلام وقوع المعجزات من الأنبياء السابقين إلى أن ذلك كان مقررًا في العقل والنفوس، فإن ما كان قد رسخ في نفوس النصارى وعقولهم من الإيمان مثلًا بألوهية المسيح أو على الأقل بنوته لله وموته عليه السلام على الصليب تكفيرًا عن خطيئة آدم، وهما أساس النصرانية وبهدمها تنهدم من قواعدها، لم يمنعه من أن يحمل على هذه العقيدة وينسفها نسفًا، مسفِّهًا لها ولمن يتمسكون بها. ومثل ذلك وأشد صنعه مع اليهود ومع الكفار، فلماذا لم ينف معجزات الرسل الماضيين ليغلق باب التحدي والإحراج الذي كان القوم مغرمين بفتحه ظنًا منهم أنهم يفحمونه؟ لقد اعترف عليه الصلاة والسلام بمعجزات إخوانه السابقين، وفي نفس الوقت أكّد أنه ليس إلا بشرًا رسولًا وأن المعجزة مهما كانت غرابتها وشدهها للعقول فإنها لا تغني عن التأمل والنظر واستخدام العقل نعمة كبرى على الإنسان. أفهذا موقف مزيف كذاب؟ بل لقد بلغ من صدقه أنه كان يكون له في المسألة المعروضة عليه رأي ثم ينزل الوحي بغير ذلك فيعلنه ولا يكتمه، وفي ذلك ما فيه(136).
ومما ينبغي ذكره في هذا السياق أنه عليه الصلاة والسلام لم تُمسك عليه كذبة واحدة. كيف لا وقد جعل الصدق يهدي إلى البر فالجنة، والكذب يؤدي إلى الفجور فالنار؟ . كذلك كان يوجه أصحابه إلى توخي الدقة في الكلام والوعود حتى إنه عند مبايعتهم له على السمع والطاعة، كان يعقب على ذلك بقوله: «فيما استطعتم»(137). كما كان يحب لأصحابه إذا مدح بعضهم أحدًا أن يقول: «أحسبه كذا»(138). ويتصل بهذا كراهيته للتكلف في العبادة(139). وقد بلغ حبه للصدق أنه لم يجوّز الكذب قط مهما كانت الظروف إلا فيما لا يمكن لعاقل صادق بالغًا ما بلغ من تحرج وتأثّم أن يدّعي أن الصدق مفضل فيه، وذلك في الحرب والإصلاح بين الناس وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها(140). وكان عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليمات أشبه الخلق جميعًا ظهرًا ببطن. وقد رأينا كيف أن عائشة، في المرة الوحيدة التي رأته يبتسم ويُلين القول لرجل لم يكن رأيه فيه طيِّبًا، لم تشأ أن تدع الأمر يمر من غير استغراب واستفسار، وهو ما يدل على أنها لم تتعود منه إلا الوضوح التام. ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام قد استنكف أشد الاستنكاف أن يغمز بعينه لأحد الصحابة من حوله بعد فتح مكة ليقوم فيضرب عنق عبد الله بن سعد كاتب الوحي الخائن الهارب حين ناشده عثمان العفو عنه، واكتفى عليه السلام بالصمت لعل أحدهم ينهض فيقتله من تلقاء نفسه جزاء خيانته ونذالته، فلما لم يفعلوا وهبه العفو المطلوب. ولما فُتح الموضوع بعد ذلك وعرفوا ماذا كان يدور في نفسه عليه السلام ساعتها سألوه لِم لَم يغمز لهم بعينه، فكان جوابه أن مثل هذا العمل لا يليق بالأنبياء(141).
وإن تفانيه في الصدق ونفوره القاطع من الكذب هو الذي جعله يلتفت إلى ما اضطر إليه أبو الأنبياء «إبراهيم»، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، من تجاهل للحقيقة، وإن لم يتجاوز ذلك ثلاث مرات(142).
ولا يحسبن ظانٌ أنه عليه السلام قد قال عن خليل الرحمن ذلك لمزًا له من طرف خفي، فقد كان صلى الله عليه وسلم لا يذكر إخوانه الأنبياء إلا بخير: ومن ذلك وصفه في أحد ابتهالاته لربه «إبراهيم» عليه السلام بأنه عبد الله وخليله ونبيه، بينما لم يصف نفسه إلا بالعبودية والنبوة فقط(143). كما كان ينهى أن يفضله أحدٌ على «يونس بن متى» عليه السلام(144). أما عن «يوسف» عليه السلام فكان يقول: «لو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبت» (يشير عليه الصلاة والسلام إلى أن يوسف رفض أن يخرج من السجن إلا بعد ظهور براءته تمامًا خالية من أي شك)(145). كذلك لما سُئل: «أي الناس أكرم»، كان جوابه: «يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله»(146). وعن أحب صيام وصلاة إلى الله قال إن أحب الصيام إلى الله صيام «داود»، وأحب الصلاة إليه سبحانه هي صلاة «داود»(147). حتى «موسى» عليه السلام، نبي اليهود، الذين لقى سيدنا رسول الله من خبثهم وقلة أدبهم وخيانتهم ما لقى، والذين كانت بينه وبينهم حروب وثارات ذحلاء رفض أن يخيّره أصحابه عليه قائلًا: «لا تخيّروني على «موسى»، فإنَّ الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أو كان ممن استثنى الله». وحتى يعرف القارئ عظمة هذه الشهادة ودلالاتها على صدقه عليه السلام أذكر أن ذلك القول منه كان تعقيبًا على مشادة وقعت بين مسلم ويهودي أقسم المسلم فيها قائلًا: «والذي اصطفى «محمدًا» على العالمين»، فقال اليهودي بدوره: «والذي اصطفى موسى على العالمين». فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم اليهودي، فذهب هذا على رسول الله فأخبره بالأمر(148). غير أن ذلك كله لا يعني أنه كان يرى نفسه ضئيلًا بجانب إخوانه الأنبياء. إنما هي العظمة والثقة والتواضع، وإلا فهو القائل إنه يرجو أن يكون أكثر الأنبياء أتباعًا يوم القيامة(149). كما أن الشفاعة الكبرى قد ادُّخرت له(150). وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: «قال رسول الله: أُعطيت ما لم يعطَ أحد من الأنبياء: نصرت بالرعب، وأُعطيت مفاتيح الأرض، وسُميت أحمد، وجعل لي التراب طهورًا، وجعلت أمتي خير الأمم»(151). فهل رأيت دقة في تقويم قدره وأقدار العظماء من إخوانه الأنبياء أدق من هذه؟ إنها الموضوعية بدون شقشقة أو ادعاء.
وهذه العظمة النبوية والثقة بالنفس التي جعلته يتواضع لإخوانه الأنبياء هي التي جعلته يرسل الرسل والكتب إلى ملوك العالم من حوله ، هؤلاء الملوك الذين تعود زعماء العرب منذ أدهار أن ينحنوا لهم إذا دخلوا عليهم(152)، وكان أقصى ما يتطلع إليه أنظار هؤلاء الزعماء هو أن يكون الواحد منهم على دُويلة تتبع إمبراطورية كسرى في الشمال الشرقي أو إمبراطورية هرقل في الشام. أما «محمد» عليه الصلاة والسلام فقد حطم هذا كله تحطيمًا حين أرسل كتبه على هؤلاء الملوك يدعوهم في عبارة موجزة حاسمة كلها ثقة بالسماء وبالدين الذي أوحي إليه وبرسالته على الدخول في الإسلام، وإلا فإنهم يتحملون وزر أتباعهم المستضعفين. وقد أخرجت كسرى عن طوره هذه الجرأة التي سوَّلَت لمحمد أن يضع اسمه قبل اسم الإمبراطور الجبار، فمزق الكتاب وأرسل إلى عامله على اليمن أن يأتيه برأس محمد(153)، وهو ما يدل على خطورة الخطوة التي خطاها الرسول والتي لا يمكن تفسيرها إلا بأنه رسول موحى إليه من السماء، وإلا ما فكر مجرد تفكير في إرسال خطاب إلى كسرى أو هرقل أو مقوقس مصر ولو لعرض خدماته عليهم(154).
على أن ثمة مقياسًا نفسيًّا آخر يقاس به صدقه عليه أفضل الصلاة والسلام وأمانته هو أنه لم ينقلب قط على أحد من أصحابه، وكذلك لم ينتقض واحد من أصدقائه عليه ولم يتنكر له أو يغير رأيه فيه ولو بعد وفاته عليه السلام بعشرات السنين. إن من المستحيل أن يحتفظ كاذب مخادع بمثل هذه الصداقات النادرة المتنوعة كـ«أبي بكر» و«عمر» و«عثمان» و«علي» و«معاوية» و«أُبيّ» و«خالد» و«عمر» و«أبي موسى الأشعري» و«أبي ذر» و«أبي هريرة» ومئات غيرهم من الذين عاشوا على مقربة منه واستحقوا أن نقول عنهم إنهم أصحابه (أصحابه بمعنى«أصدقائه»، لا بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، فهذه تشمل عشرات الألوف). إننا نرى الحاكم أو الزعيم من هؤلاء في الماضي أو في الحاضر لا يكاد أحيانًا يمر يوم عليه من غير أن تسوء العلاقة بينه وبين هذا أو ذاك ممن وقفوا معه وآزروه وأتوا به إلى الحكم فينقلب أحدهما على الآخر، أما مع «محمد» فالأمر مختلف تمام الاختلاف. ومثل هذا الصِّديق لا يمكن أن يكون مزورًا كذابًا(155).
وما قيل عن أصدقائه يقال عن زوجاته، فقد كان رفيقًا معهن جمعاوات، وكنّ من جانبهن يحببنه حبًا جمًا ويغِرْن عليه، وبالذات عائشة، التي كانت أصغرهن سنًا والعذراء الوحيدة بينهن. كما كن من أشد أتباعه تمسُّكًا بالدين عبادة وأخلاقًا وكرمًا ورفقًا بالمساكين، سواء في حياته أو بعد مماته. أوليس عجيبًا أن يحظى بحبهن كلهن على هذا النحو رغم أنهن كن في وقت من الأوقات تسعًا، ورغم اختلافهن سنًا وبيئة وشكلًا ودينًا؟ ترى لو كان كاذبًا محتالًا أفما كُنّ أو كان بعضهن على الأقل سيلحظن ذلك؟ وعندئذ أوَما كُنّ سيتمردن عليه أو تتناثر من أفواههن بعض الكلمات هنا أو هناك يعبرن بها عن ارتيابهن فيه ولو بعد وفاته، وبخاصة أنهن كن ضرائر؟ . لقد بلغ من حبهن له أن رفضن جميعهن رفضًا باتًا أن يطلقهن عليه السلام حين عرض عليهن ذلك إثر مطالبتهن له بأن تكون حياتهن معه أرفه قليلًا. وكلنا يعرف كيف كان تقشف حياة الرسول! وبلغ من حب أم حبيبة له، عليها رضوان الله، أنها ربأت بفراشه عليه السلام أن يجلس عليه أبوها أبو سفيان، الذي لم تكن رأته منذ أعوام بعد غربة طويلة في بلاد النجاشي وموت زوجها الأول في المهجر، فطوت الفراش عنه وجبهته بالحقيقة حين حاول أن يخدع نفسه بأنها إنما ربأت به هو أن يجلس عليه(156). وأعجب من ذلك أنه عليه السلام لم يكن شابًا ولا كانت حياته في بيته، كما قدمنا، لينة بله مترفة(157). ثم تأتي عجيبة العجائب! لقد نزل الوحي يحرم الزواج على هؤلاء الزوجات جمعاوات إلى الأبد، ومعظمهن شوابّ، فلم تنبس واحدة منهن ببنت شفة تذمُّرًا. ثم مات الرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك بقليل فلم تفلت من فم واحدة منهن ولو عفوًا كلمةً تنفِّس بها عن ضيقها من هذا الحرمان الذي كتب عليها إلى آخر حياتها. لو أن الرسول مات وهو شاب لقلنا: لقد امتثلن لهذا التحريم وفاءً لشبابه الذي اغْتُضِر! لو أنهن عشن معه عيشة مترفة لقلنا: إنهن سيعشن ما بقي لهن من عمر على ذكرى الأيام الناعمة! لو أنهن أنجبن منه لقلنا: أنهن سيخصصن حياتهن الباقية لتربية الأولاد، وسوف يجدن في إغداق الحنان عليهم تعويضًا عن فقدان الزوج! لو أنهن ورثن مالًا عريضًا لقلنا: لقد جعلن من هذا المال سلوتهن! لكن شيئًا من ذلك لم يكن. وقد عشن جميعهن بعده عليه السلام ما عدا زينب أم المساكين رضي الله عنها، وبعضهن امتدت حياتهن بعده عشرات السنين، مثل عائشة، التي ظلت على قيد الحياة بعده تسعة وأربعين عامًا(158)، وصفية التي ماتت في خلافة معاوية بعد أن عاشت بعده أربعين عامًا(159)، وميمونة، التي لاقت ربها سنة 36 أو 66 هـ(160)، فلم تُسمع عن واحدة منهن ولو همسة ريبة، فهل يُعقل أن يلتزمن كلهن بهذا التشريع المقصور عليهن وحدهن من بين نساء المسلمين جمعاوات لو أنهن ارتبن في «محمد» عليه الصلاة والسلام ذرة من ارتياب؟ أيرضين أن يحرمن أنفسهن هذا الحرمان القاسي الذي امتد في حالة عدد منهن عشرات السنين، وكان معظمهن(كما قلت) شابات حين تأيَّمن، لمجرد تشريع اخترعه زوج كذاب فلا يتخذن العشاق(161)، أو على الأقل يهربن إلى خارج البلاد؟ ولهن في «جبلة بن الأيهم»حين هرب من العقوبة إلى بلاد الروم وتنصر هناك أسوة. ولا شك أن ملوك البلاد التي حول جزيرة العرب كانوا سيرحبون بهن كل الترحيب، إن لم يكن من أجل شيء فمن أجل استغلالهن في الدعاية ضد الدين الجديد الذي ابتدأ يهدد عروشهم(162).
والآن بعد أن أثبتنا أن «محمدًا» لا يمكن أبدًا أن يكون كاذبًا، وبعد التحليلات التاريخية والنفسية المطولة والمفصلة التي أثبتنا بها ذلك على نحو قاطع لا يحتمل لجاجة ولا ترددًا، فإننا سوف نعد ما مر كله كأنه لم يكن، وسنقلب الورقة على وجهها الثاني لنرى إن صحت التهمة، وهذا مستحيل، كيف ألف «محمد» قرآنه المزيف ومن أين استقاه، ومن الذين أعانوه. ألم يُتّهم عليه الصلاة والسلام من أعدائه منذ أن دعا إلى دين الله حتى الآن بأنه أخذه عن قوم آخرين؟
لقد اتهمه كفار مكة بأنه إنما يعلمه بشر، وأن الوحي ما هو إلا أساطير الأولين اكتتبها(163). فأما التهمة الأولى فإن القرآن يدحضها على أساس أن المعلم المزعوم كان أعجمي اللسان، إذ لم يكن يستطيع من العربية إلا ما يقوم بحاجاته العامة، ومن ثم فمظنة مناقشته والأخذ والرد معه من قِبل الرسول عليه السلام مستحيلة(164). ولو كان رد القرآن على هذه التهمة غير صحيح لما سكت الكفار عليه بل فنّدوه، وعندئذ كان القرآن سيسجل التفنيد ويرد عليه بدوره كما هي عادة الوحي، فما من شيء رمى الكفار أو غيرهم من أعداء الإسلام الرسول به إلا حفظته آياته، لم يشذ أي شيء عن هذا، كذلك فإن الملاحظ أن الكفار لم يحددوا شيئًا بعينه في القرآن قد تعلمه من هؤلاء، وإنما هو كلام عام عليه مسحة الرغبة في التشويش على الدعوة الجديدة ورسولها عليه السلام. وإن الذي عنده دليل لا يكتفي أبدًا بمثل هذه التهمة، بل يقصد قصدًا التحديد، ويأتي بالشهود، ويعين الزمان والمكان والظروف التي لابست الواقعة. وليس شيء من ذلك في كلام الكفار. أما الذين قيل إن الرسول عليه السلام قد اتُّهم بالتعلم على أيديهم فبالنسبة لمن أسلم منهم فإن إسلامه دليل على كذب هذه التهمة، إذ لا يعقل أن يتابع الأستاذ تلميذه فيما علمه إياه ويكتم الحقيقة بلا أي سبب، فإن رسول الله في ذلك الوقت لم يكن يملك لغيره رغبة ولا رهبة(165). أما من لم يسلم فلماذا سكت فلم يفضح «محمدًا» هذا الذي تعلم عليه ما تعلم ثم انقلب فادعى أنه نبي وخطّأ دين أستاذه؟ وذلك كله على فرض أنه كانت هناك وسيلة اتصال لغوية كافية لتأدية مهمة التعليم المزعومة هذه، وهو افتراض مستحيل كما سبق أن بيّنا.
أما الاتهام الثاني فإن من الملاحظ أن القرآن لا يقف عنده بل يكتفي بوسمه بالظلم والزور، مؤكدًا أن الوحي منزل من عند الله(166). أيًا ما كان الأمر فلو كان ها الاتهام صحيحًا لردده «عبد الله بن جحش» (الذي تنصر في الحبشة بعد إسلامه) هو ورسولا قريش على مسامع النجاشي حين ذهب هذان لتأليبه على المسلمين المهاجرين لديه، أو لردده أبو سفيان ومن معه أمام هرقل حين سألهم عن «محمد» وعن صفاته. وقد كانت هاتان فرصتين ثمينتين للدعاية ضد دعوة محمد. بيد أن قريشًا كانت تعرف أنها تكذب وتتقول رغبة منها في التشويش بالباطل على دعوة الإسلام، وإلا فإذا كانوا صادقين لم آمنوا بمحمد بعد ذلك وحاربوا أعداء دينه ولم نسمع أحدًا منهم بعد قط يردد هذه التهمة القديمة ولو من باب استعادة الذكريات؟ وهنا نقطة مهمة، فإن المستشرقين يزعمون أن الرسول عليه السلام كان يستطيع القراءة والكتابة. وهم يريدون من وراء ذلك أنه كان يقرأ الكتب السماوية السابقة وما إلى ذلك، وأنه قد تعلم منها. وهو مزعم متهافت، فإن القرآن قد وصفه في موضع بـ «النبي الأمي»(167). كما أكد في موضع آخر أنه لم يكن يتلو قبل نزول القرآن عليه من كتاب أو يخطه بيمينه(168). ولو كان كلام القرآن غير صحيح لما سكت الكفار، ولسجل القرآن نفسه كالعادة رده عليه. إن «ألفريد جيوم» مثلًا يشكك في أمِّيَّة النبي عليه الصلاة والسلام، وحجته أنه من غير المعقول أنه كان يطمئن إلى أحد غيره في قراءة الفواتير أيام اشتغاله بالتجارة، أو في قراءة ما يرد إليه من رسائل بعد ذلك عندما أصبح نبيًّا. كما أن إحدى الروايات المبكرة تعزو إليه الكتابة يوم صلح الحديبية. وهو يفسر آية: { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} بأن المقصود بذلك هو كتب اليهود والنصارى، وان أميته (إن صح ما تقوله الآية) إنما استمرت إلى بداية رسالته فقط(169). والحقيقة أن الآية المذكورة تنفي أنه كان يقرأ أي كتاب، فلا معنى إذن لقصر ذلك على كتب اليهود والنصارى. أما فهمه لقوله تعالى: « وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ» بمعنى أنك، وإن كنت قبل ذلك تجهل القراءة والكتابة، فإنك الآن تستطيع ذلك فهو فهم غريب، إذ أن حجة القرآن بذلك تتهافت وتصبح غير ذات معنى، لأن رد الكفار حينئذ سيكون كالتالي: «ما دمت تعرف الآن القراءة والكتابة فهذا معناه أنك تستطيع أن تنظر في كتب السابقين وتنقل منها». ولكنهم لما لم يجدوا جوابًا كان ذلك دليلًا على أن فهم «جيوم» للآية غير سليم، وأن المقصود منها هو أنه عليه الصلاة والسلام كان قبل ذلك وظل بعده أمِّيًّا، وإلا فالواحد يستطيع، على طريقة هذا المستشرق، أن يقول إن القرآن ينفي أن يكون «محمد» قادرًا على أن يخط شيئًا بيمينه، ولكنه لم ينف قدرته على ذلك بيده الشمال، فمحمد إذن كان يكتب ولكن بيسراه وهو كما ترى فهم مضحك.
إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد فسر الأُمِّية عرضًا أثناء حديثه عن الشهور القمرية إذ قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. الشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين»(170). أما قول «جيوم» إن إحدى الروايات قد ذكرت أن الرسول كتب بيده في صلح الحديبية فالرد عليه هو أن الرواية المتلقاة بالقبول هي أنه أمر بكتابة ما طلب المشركون من تعديل في بعض ألفاظ الصلح(171). أما الرواية التي يشير إليها فهي إن صحت يكن المقصود منها هو المعنى المجازي كما هو الحال في قولنا: «حارب السادات إسرائيل» و «بنى عبد الناصر السد العالي» وما إليه. ومثله ما ورد في البخاري(172) من أن الرسول عليه السلام قد اتخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه«محمد رسول الله»، إذ لا يعقل أن الرسول هو الذي نقش ذلك بنفسه، فهو لم يكن نقاش خواتم، بل المقصود أنه أمر بذلك، وإن كانت الرواية التي أشار إليها «جيوم» قد نصت على أن الرسول كتب فعلًا بيده اسمه فلا يدل على معرفة بالقراءة والكتابة، فربما كان عليه السلام يستطيع كتابة اسمه وقراءته فقط كما هو الحال بين كثير من الأُمِّيِّين الذين نعرفهم. على أية حال فليس من الحكمة في شيء أن نتمسك برواية واحدة غير مشهورة ولم ترد في المصادر الأصلية لسيرة الرسول عليه السلام ونترك كل الروايات الأصلية المتضافرة على أنه عليه السلام كان أمِّيًا. أما استبعاده أن يطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى أحد غيره يكتب له الفواتير ويقرأ له الرسائل التي ترد فليس له أساس إلا مجرى الهوى، وإلا فإن كثيرًا من التجار والمقاولين في القاهرة المعاصرة، التي لا شك أن مستواها الحضاري والثقافي أرقى ألف مرة من مستوى مكة في ذلك الزمان، لا يستطيعون القراءة والكتابة ولا يمنعهم ذلك من النجاح في تجارتهم إلى درجة أن بعضهم يصبح مع مر الأيام مليونيرًا(173). لا ليس من المعقول أن يعيش النبي ثلاثًا وستين سنة فلم نسمع بواقعة محددة كتب فيها رسالة أو قرأ فيها كتابًا أو حتى ورقة سوى هذه الإشارة المقتضبة إلى أنه كتب في صلح الحديبية كلمة لم يرض الكاتب المسلم أن يكتبها بنفسه، فنسارع إلى تصديق هذه الإشارة المقتضبة المغموزة ونهمل كل تلك الوقائع القاطعة.
ومما اتهم به المستشرقون نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأعطر السلام أنه قد تعلم أشياء من «بَحِيرا»، بل إن بعضهم يزعم كذبًا أنه عليه السلام قد سكن مع هذا الراهب أثناء إحدى رحلاته إلى الشام(174)، وهو ما يدلك على أسلوب القوم في محاربة الإسلام، إذ أن السيرة واضحة تمام الوضوح هنا. وقريش نفسها، وقد كان منها من حضر واقعة اجتماع «بحيرا» بالصبي محمد، إن صحت الرواية أصلًا، لم تتهم الرسول بذلك، فكيف يأتي الأوروبيون بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا فيتخيلون ويزعمون؟ إن «واشنجتن إرفنج» يفسر اهتمام «بحيرا» بالصبي «محمد» بأنه كان يريد تنصيره حتى إذا ما رجع إلى قومه قام هو بدوره بحمل بذور النصرانية إليهم(175). أتدري ماذا كان عُمْرُ «محمد» عليه الصلاة والسلام آنذاك؟ لقد كان عمره اثني عشر عامًا! ومع ذلك يزعم «إرفنج» هذا الزعم السخيف، وكأن لم يكن في القافلة العربية، التي تقول الرواية إنها حطت رحالها قريبًا من صومعة «بحيرا»، رجال يمكن لهذا الراهب أن يتوجه إليهم بدعوته. أليست هذه بالذمة «مَعْيَلة» من «بحيرا» أو من «إرفنج» أو من كليهما؟ لقد سفّه «كارلايل» احتمال أن يتعلم صبي في هذه السن من راهب يتحدث لغة أجنبية شيئًا ذا بال(176). ومع ذلك كله فإن السيرة لم تتحدث عن أي تعليم بين «بحيرا» و«محمد». ثم فلنفترض أن «بحيرا» قد لقنه(بأية لغة؟ لا ندري) أشياء من النصرانية، فأين كان «بحيرا» يوم ادّعى «محمد» أنه أتى بدين جديد يخطّيء فيه دين «بحيرا»؟ أو أين من شاهد «بحيرا» أو سمع منه أو من غيره أن هذا النبي الجديد كان تلميذًا في صباه لذلك الراهب؟ لماذا لم ينْبَرِ «بحيرا» أو غيره ليكشف زيف هذا النبي ويبين المصدر الحقيقي لما يزعم أنه وحي من السماء؟ أكانت الدولة البيزنطية أو الدويلات العربية على حدودها تسكت على «محمد» وعلى مزاعمه ورسائله التي أرسلها إلى «هرقل» وغيره من ملوك العالم المحيطين بالجزيرة العربية يدعوهم إلى الإسلام فلا تحاربه أو تحارب خلفاءه بهذه الورقة؟ إن ذلك لغريب!
ولا يكتفي المستشرقون بتضخيم هذه المقابلة التي ترويها كتب السيرة بين الصبي «محمد» وبحيرة الراهب والتي يجعلون من حبتها قبة ضخمة تناطح السماء(177)، بل يؤكدون أنه لابد أن يكون قد عرف في رحلاته التجارية بعد ذلك إلى الشام واليمن أشياء كثيرة من اليهود والنصرانية. وهم كعادتهم لا يشيرون إلى شئٍ محدَّدٍ جاءت به الروايات الموثقة أو حتى غير الموثقة، بل يكتفون بإطلاق القول على عواهنه. وفاتهم أن «محمدًا» في هذه الرحلات لم يكن وحده بل كان معه مواطنون من مكة، فلماذا لم يتحدثوا عن شئ من ذلك؟ لقد كان ما وجهوه إليه من اتهام هو أنه كان يتعلم من بعض الرقيق الأجنبي المقيم بمكة والذي لا يستطيع التفاهم بالعربية إلا في أضيق نطاق. وأين كان ميسرة من هذا كله، وهو الذي كان ملازما له؟ ثم ألم يتذكر فيما بعد أحد من الدولة البيزنطية أومن اليمن ممن شاهدوه واختلطوا به وتناقشوا معه في هذه الرحلات أن النبي الجديد ليس إلا ذلك التاجر الذي كان يفد إلى بلادهم فيشترى منهم عروض التجارة ويأخذ معها الأفكار اليهودية والنصرانية؟ أم ترى قد طمس الله على ذاكرتهم؟ إن اللافت للنظر أن المستشرقين لا يثبتون على حل واحد، فقد كانوا يقولون أولا إن الإسلام مأخوذ من اليهودية وإلى حد ما من النصرانية، ثم عادوا فقالوا إنه مأخوذ أساسًا من نصرانية السريان، ولكنهم مع ذلك لا يقدمون أبدا دليلا موثقا على هذا الأخذ ولا يرسمون لنا الطريق الذي سلكته هذه الأفكار حتى وصلت إلى محمد، بل هي مجرد تخمينات(178)، مما يدل على أنهم قد عقدوا العزم منذ البداية، مثل مشركي مكة وكفار العرب بالضبط، على تخطئة «محمد» والسلام. لقد وفد على الرسول نصارى من نجران فناقشهم وأراد أن يحسم الأمر معهم فدعاهم، لو كانوا صادقين، إلى المباهلة، أي أن يبتهلوا جميعا(هو وهم ومعهم ذووهم نساءً وأطفالا) ويجعلوا لعنة الله على الظالمين، فنكصوا على أعقابهم ونزلوا على شروطه ولم يدخلوا معه في هذه المباهلة، وهو ما يوحى بخبيئة نفوسهم أيما إيحاء. ترى لمَ لم يحرجه نصارى نجران منذ البداية فيقولوا له إنهم يعرفون أنه هو ذلك التاجر الذي كان يتردد على بلادهم وكنائسهم ويتعلم على رهبانهم ويغلقوا بذلك باب المباهلة ودفع الجزية لو أن شيئا من ذلك قد حدث؟ (179) ثم أكان أبو عامر الراهب، الذي كان يحقد على الرسول أشد الحقد والذي كان المنافقون يجتمعون به سرا في المدينة ونزلت فيه آيات الضرار(180)، يدع فرصة مثل هذه تلفت من يديه هو الذي ذهب إلى هرقل يستعين به ضد «محمد» ودينه لو أنه نما إلى سمعه، ولو بالباطل، أن النبي قد تعلم في أثناء رحلاته التجارية على أحد اليهود أو النصارى؟ (181) واليهود أكانوا يتركونه لو شموا من بعيد أنه سرق شيئا من كتبهم عن أي طريق؟ لقد كانوا يلقنون كفار مكة أسئلة يتحدُّونه بها عن الروح وأهل الكهف وذي القرنين(182)، وهو دليل قاطع على أنهم لم يشكوا فيه من هذه الناحية. ذلك أن اليهود كانوا مشهورين بأنهم يضنون بما عندهم من العلم، ومن ثم نراهم يحتكمون إلى «محمد» عليه الصلاة والسلام في زنا اثنين منهم، وكانوا يريدونه ألا يرجمهما. فلو كانوا يشتبهون في أنه على علم بالتوراة لما احتكموا إليه مخافة أن يحكم بالرجم الموجود في التوراة. بل إنه حينما سألهم عما في التوراة فأنكروه وأمر بإحضارها وضع قارئهم يديه على حكم الرجم، ظنا من عقله السخيف أن ذلك سيعمى «محمدًا» عليه الصلاة والسلام والمسلمين من حوله عما تحت هذه اليد النجسة(183). كما لم تكن التوراة حتى ذلك الحين على الأقل قد ترجمت إلى العربية. وفى البخاري أن اليهود في المدينة كانوا يقرأون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام(184).
والآن بعد أن طوفنا مع المستشرقين شمال وجنوب الجزيرة العربية وفى جنوب بلاد الروم ووجدنا أنه ما من دليل واحد على أن النبي قد تعلم من يهودي أو نصراني شيئا انتفع به في تأليف دينه وتلفيق الوحي الذي كان يزعم، بناء على اتهامات هؤلاء المستشرقين، أنه يتنزل عليه من السماء، نعود إلى مكة لنناقش اتهامهم له عليه أفضل الصلوات وأعطر التسليمات بأنه قد تعلم من ورقة بن نوفل(185). ويكتفي «إرفنج» هنا بترديد القول بأنه عليه السلام أخذ أشياء كثيرة مما ترجمه «ورقة» من العهدين، القديم و الجديد ومن مرويات المشنا والتلمود وضمنها قرآنه ومع خطورة هذا الاتهام فأنه لا يسوق عليه دليلًا واحدًا، بل كل ما عنده هو أن المفترض حدوث ذلك(186).
ومثله «كلت»، الذي يقول إن من الممكن أن يكون «ورقة» قد قص على «محمد» بعض الروايات النصرانية(187)، وإن ما ورد في إحدى السور(يقصد سورة مريم) عن السنوات الأولى من حياة المسيح عليه السلام ربما أخذ منه(188). فها أنت ذا ترى أن الآمر لا يعدو «من الممكن»و«ربما»(189).
هذا كل ما قاله المستشرقون عن «ورقة بن نوفل» وتأثيره المزعوم في النبي والوحي والحقيقة أن «ورقة» لم يظهر في كتب السيرة والتاريخ إلا بعد أن نزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، أما قبل ذلك فلا(190). ومن المستحيل أن يكون المؤرخون والمحدثون وكتاب السيرة المسلمون قد حذفوا من حياة ورقة وعلاقته بالنبي ما يمكن أن يثير الشك في مصادر النص القرآني، إذ لم يكن ديدنهم التحرج من رواية أي شئ يتعلق بسيرة المصطفى عليه السلام قط. وإليك تعليق «ورقة» عندما أتته «خديجة» ليبدى رأيه فيما شاهده النبي وسمعه عند غار حراء. قال: «قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا «خديجة» لقد جاءه الناموس الأكبر الذي يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت»(191)، وهو ما يدل على أن «ورقة» قد صدق بنبوة «محمد» ودخل في الإسلام. ومما يدل أيضًا على أن ذلك لم يكن مجاملة فارغة أو حماسة طارئة منه، رضي الله عنه، أنه كان يمر بعد ذلك ب«بلال» وهو يقاسى وطأة التعذيب الفاجر ويصيح: «أحدٌ أحد» فيؤمن على صياح «بلال» قائلا«أحدٌ أحدٌ والله يا «بلال»!»، ثم يقبل على «أمية بن خلف» ومن يصنع ذلك به من بنى جمح فيقول «أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانًا»أي لأتبركن بقبره(192). أما عن دين ورقة وثقافته فيقول «ابن إسحاق»: «وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل»(193). لكن أية كتب هذه ؟ وبأية لغة كان يقرؤها ؟ ذلك ما لم يوضحه «ابن إسحاق». أما «البخاري» فإنه مرة يورد رواية مفادها أن ورقة كان يكتب الكتاب العربي وكان يكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب(194)، ومرة يورد رواية ثانية تقول إنه يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب(195). فأين الحقيقة بين الروايتين؟ علم ذلك عند الله، وإن كان «مالك بن نبي» يرى أنه لو كانت الفكرة اليهودية والنصرانية قد تغلغت حقًّا في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس. كما يؤكد أنه حتى القرن الرابع الهجري لم تكن قد وضعت للإنجيل ترجمة عربية(196). أياما يكن الأمر فإن الثابت تاريخيًّا هو أن ورقة قد صدق بنبوة «محمد» صلى الله عليه وسلم. فإذا لاحظنا أنه كان في ذلك الوقت شيخا طاعنا في السن أدركنا قيمة شهادته، إذ كان من الصعب على شيخٍ مكيٍّ في ذلك الحين أن يتقبل فكرة أو عقيدة جديدة كذلك ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن «محمدًا» كان أصغر كثيرا من ورقة ولا يملك في يده في ذلك الوقت أي سلطان ومعنى هذا أن إيمان ورقة به كان إيمانًا صادقًا خاليًا من الغرض، وإذن فمن المضحك أن نظن بعد ذلك كله أن «محمدًا» كان يتعلم منه، وأنه هو قد سكت عن هذا، بله قد آمن به واتبعه ووقف من معذبي أتباعه مواقف الرافض لما يفعلون. وكعادتنا سوف ننسى ما مر ونتجاهل تفاهة وتهافت هذه الاتهامات التي فندناها تماما بالاستناد إلى الروايات التاريخية الموثقة بعد عرضها على ضوء المنطق الإنساني العام ووضعها تحت مجهر التحليل النفسي والاجتماعي للبيئة والأشخاص والرسول على وجه خاص، سوف ننسى هذا كله ونمضى مع المستشرقين إلى نهاية الشوط لنرى ما هم قائلون. إن «جب»مثلا يعدد ما أخذه الرسول من اليهود بعدها هاجر إلى يثرب، فيذكر صيام عاشوراء وصلاة الظهر واستقبال بيت المقدس(197). ولنبدأ بآخر شيء ذكرًا فنقول إننا قد ناقشنا هذه النقطة من قبل، وخلاصة ما قلناه هناك إنه عليه الصلاة والسلام كان يصلى إلى هذه القبلة قبل الهجرة ولكنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها، أي أنه كان يستقبل القبلتين. فلما هاجر إلى المدينة استحال عليه أن يجمع بينهما، فاستقبل بيت المقدس لفترة، ثم نزل الوحي الإلهي بالتحويل إلى الكعبة وقد عرض اليهود عليه أن يعود إلى قبلة المقدس ويتبعوه، وهو ما بين التواءهم وخبثهم، فالصادق في التمسك بدينه لا يعرض مثل هذا العرض. لكنه عليه السلام قد رفض ذلك. أما الزعم بأنه تحول إلى الكعبة بعد أن يئس من اليهود فهو زعم أعرج، إذ إنه عليه الصلاة والسلام لم يعهد فيه اليأس يوما، فضلا عن أن موقف كفار مكة منه ومن دينه في ذلك الحين لم يكن مما يبعث على توقع إيمانهم وشيكا بحيث يصح القول بأنه كان يهدف إلى إقامة دين عربي قبلته عربية. ثم لو صح هذا التعليل أفلا يدل على أن النبي، برغم كل هذا العمر الذي قضاه يدعو قومه إلى دين الله فلم يؤمن به إلا القليل، كان لا يزال عنده أمل كبير في أن يتبعوه يوما؟ فكيف يقال إذن إنه يئس من اليهود هكذا سريعا؟ (198)أم تراه وجد أن اليهود أشد مراسًا من كفار مكة؟ بالعكس لقد كان اليهود في يثرب حينذاك أذل وأخنع من هذا ألف مرة، لأن المسلمين هناك كانوا أغلبية، وكان السلطان في أيديهم وكان لهم جيش وظفر وناب وهو ما لم يكن منه شئ في مكة. ثم إن عددًا كبيرًا منهم نسبيا قد آمن به، وفيه بعض أحبارهم كما مر ثم فلنفترض أن اليهود كانوا صادقين في كفرهم به، فلماذا تحاكموا إليه في أمر الزانيين وهى عقوبة دينية منصوص عليها في توراتهم؟ (199) بل لماذا لم يستعينوا بإلههم الذي جعلهم شعبا مختارًا مميَّزًا على سائر البشر ويحاربوا «محمدًا» ويقضوا عليه مرة واحدة؟ لقد كان «محمد» وأتباعه هم الذين استعانوا عليهم بالله فنصرهم عليهم أعظم انتصار. فهذا عن القبلة، أما صلاة الظهر فإني لا أفهم كيف تجاهل «جِبْ» أن الصلوات الخمس قد فرضن كلهن بما فيهن الظهر في مكة ليلة الإسراء والمعراج؟ ويبقى صوم عاشوراء والواقع أن الوحي سرعان ما نزل بصوم رمضان فنسخ عاشوراء إلى الأبد. ومع ذلك فيهمني أن أوضح أمرا على قدر كبير جدا من الأهمية وهو أن صوم يوم عاشوراء كان معروفا في مكة في الجاهلية. كذلك لا يقل أهمية عن هذا أن الرسول، حين وفد
إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم، أمر أتباعه أن يصوموه قائلا لليهود: «نحن أولى بموسى منكم»(200)، وهو ما يعنى بمنتهى الوضوح أنه لم يتملقهم ولم يتابعهم، بل واجههم منذ البداية برأيه فيهم وأنه يفرق بينهم وبين نبيهم موسى، الذي هو مثله رسول من عند رب العالمين وعلى أية حال فإن صيام يوم عاشوراء كان تطوعيًّا، أي أنه ليس من أركان الإسلام من قريب أو بعيد. وبرغم هدمنا لمزاعم «جب» السابقة فها نحن أولاء ماضون معه إلى زعم جديد مؤداه أن محمدًا، عندما كان اليهود ينتقدون أخطاءه فيما يرويه من قصص الأنبياء التي تختلف عما جاء في كتبهم، كان يرد عليهم بقوله: «أأنتم أعلم أم الله؟ »(201). ويتصل بذلك قول «مرجليوث» إن أسماء بعض الرسل في القرآن مختلفة عنها في العهد القديم اختلافا كبيرا(202). والواقع أن العهدين القديم والجديد لا يتمتعان، حتى عند كثير جدا من الدارسين الغربيين، بعشر معشار هذه الثقة التي يوحي بها كلام هذين المستشرقين(203). فالإحالة إليهما إذن من جانب المستشرقين على أنهما الأساس الذي ينبغي أن يحاكم إليه القرآن هي مغالطة فادحة. وهاهو ذا «مرجليوث» نفسه(204) يشير إلى نظرية يعتنقها اللاهوتيون النصارى ليسوغوا بها التناقضات التي تعج بها كتبهم المقدسة ويسميها «colouring by the medium» ومعناها أن الوحي إنما ينزل كفكرة، ثم يقول النبي الذي نزل عليه الوحي بصياغة هذه الفكرة بعقله وأسلوبه هو، ومن ثم فإن الأخطاء التي توجد في الكتاب المقدس ترجع إلى هذا الوسيط لا إلى السماء، وهو ما يدل على أنه حتى لاهوتيوهم يتقهقرون من خط دفاع إلى آخر.
هذا، ويمكن للقارئ أن يرجع إلى الكتاب المقدس ويقرأه بعين مفتوحة، ولسوف يجد ما يصدم عقله في كل مكان منه، فمن تصوير لله تصويرًا وثنيًّا كأنه أحد آلهة الإغريق إلى حكايات عن فجور أنبيائهم يشيب لهولها الولدان إلى تناقضات تاريخية وداخلية لا يمكن التوافق بينها بحال(205). وقبل أن أنتقل إلى النقطة الأخيرة في ملاحظات المستشرقين عن علاقة القرآن بكتب اليهود والنصارى أطرح هذا السؤال: لقد كان بين أتباع «محمد» أعداد كبيرة من أهل الكتاب الذين دخلوا الإسلام ونصروه وآزروه، وحاربوا أهل أديانهم السابقة، وكانوا على دراية واسعة بكتبهم الدينية، فلماذا لم يحاول «محمد» أن يستطلع ما عندهم قبل اختراع أي وحي يتعلق بتاريخ بني إسرائيل والنصارى حتى لا ينكشف خطؤه فيريح بذلك نفسه من التناقض بين القرآن وهذه الكتب؟ إن الإجابة على هذا السؤال هي أنه كان يعلم يقينا أن قرآنه موحى به من عند الله وأن التوراة والإنجيل قد أصابهما التحريف.
وبذلك نبلغ النقطة الأخيرة وهى استغراب «جب» أنه في الوقت الذي يرفض فيه القرآن بنوة عيسى لله رفضًا حاسمًا وينفى بنفس القوة أن يكون قد صلب إذا به يتحدث عن النصارى أنفسهم أكثر من مرة بعبارة ودية وهو يعزو هذا إلى أن معرفة الرسول عليه الصلاة والسلام بالنصرانية لم تكن معرفة مباشرة(206). وعلى رغم أن جب لم يحدد المواضع التي يقول إن القرآن يتحدث فيها عن النصارى بعبارات ودية فإننا نستطيع أن نشير إلى الآية 69 من سورة المائدة: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} «وتشبهها إلى حد كبير الآية 62 من سورة البقرة»، وكذلك الآية 82 من سورة «المائدة» أيضا: {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى}.
والحقيقة أنه لا تعارض هناك إطلاقا، فالآية الأولى تشترط في نجاة النصارى وغيرهم أن يؤمنوا بالله واليوم الآخر ويعملوا صالحًا، وهو ما يستلزم أن يؤمنوا بكل الرسل من آدم إلى محمد(207). وتوضح ذلك الآيتان / 150 – 151 من سورة النساء، إذ تقولان: {إن الذين يكفرون بالله ورسله، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا، وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا} ومثلها الآية 92 من سورة «الأنعام» التي تشير إلى القرآن قائلة: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به، وهم على صلاتهم يحافظون} وتأتى الآية 29 من سورة «التوبة» لتوضح الأمر توضيحا ساطعًا لا لبس فيه، إذ تقول{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}وغير ذلك كثير، مما يقطع بأن رأى القرآن كان دائما أن اليهود والنصارى إذا بقوا على ما هم عليه رغم اتضاح الحقيقة لهم فلن يمكنهم أن يفوزوا بالنجاة يوم الدين، هذا عن الآية الأولى، أما الآية الثانية فإنها وما بعدها من آيات تشير إلى واقعة بعينها، إذ ورد على النبي عليه السلام وهو في المدينة فريق من النصارى وفيهم قساوسة ورهبان مخلصون وكانت هذه الطائفة من النصارى تتحلى برقة القلب والتواضع للحق، فأسرعت إلى إعلان الإيمان بالإسلام والقرآن عندما تليت عليهم آياته وفاضت أعينهم من الدمع(208). هذا، وسوف نبين في موضع تالٍ من هذا الكتاب أن الإسلام قد جاء لتصحيح ما أصاب اليهودية والنصرانية من تحريف وتشويه ولتخفيف القيود التي جعلها الله على بني إسرائيل وان الأمر لم يكن أخذا ولا اقتباسا كما يكذب الزاعمون.
وممن زعم المستشرقون أنه عليه السلام قد أخذ منهم الحنفاء وهم أفراد من العرب ظهروا قبيل البعثة النبوية لم يقنعهم ما عليه أقوامهم من عبادة أصنام وتظالم وغير ذلك من مظاهر التحلل الروحي والفساد الاجتماعي وبدلا من أن يرى المستشرقون في ذلك دليلا على أن الجو كان يستدعى ظهور نبي يصلح هذا الحال المائل في جزيرة العرب وفى العالم معًا، إذ كانت الأوضاع في الإمبراطوريات العالمية في ذلك الوقت مثلها في شبه الجزيرة سواءً بل أسوأ(209)، نراهم، كعهدهم فيما يتعلق بالإسلام ونبيه، يتهمونه عليه الصلاة والسلام بالأخذ من هؤلاء الحنفاء.
وفى مناقشتنا لهذا الادعاء أحب أن أضع تحت بصر القاريء هذه الحقائق التالية: أن أحدا من الحنفاء لم يدع هذا. ولو حدث أن النبي قد تعلم من أيٍّ منهم لانبرى واحد منهم على الأقل (وليكن أمية بن أبي الصلت، الذي لم يشأ أن يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولأنه كان يطمع أن يكون هو الرسول المختار) وقال: « لا تصدقوا محمدا، فإنه دعي كذاب لقد تعلم منا، وأخذ ما علمناه إياه ولفق منه دينا». ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فكيف يحق لأي مستشرق أن يتقدم بمثل هذا الاتهام بعد أكثر من أربعة عشر قرنا وليس في يديه أي دليل؟ أهذه هي الموضوعية التي يتشدقون دائما بها بينما يرموننا نحن المسلمين بأننا ندافع عن ديننا بالحق والباطل، مع أن كثيرين منا نحن الذين نتناول هذه الموضوعات لم يخروا على القرآن عُمْيًا وصُمًّا وبُكْمًا، بل كانت لهم مع أنفسهم محاورات طويلة قلبوا فيها الفكر والمراجع وأعادوا النظر في أشياء كثيرة؟ ثانيا لو أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام كان قد تعلم من الحنفاء، فمن كان أولى إذن بادعاء النبوة ؟ واحدٌ من الأساتذة الأصلاء أم «محمد» تلميذ هؤلاء الأجلاء؟ ولا يقولن أحد إنهم كانوا مشغولين فقط بمصائرهم الفردية، فقد كانوا دائما يعيبون على أقوامهم قبح ما يعتقدون ويصنعون، وكان لبعضهم مواعظ في الأسواق والمجامع(210)، ولكن أحدا منهم قط لم يدع النبوة، فما السبب في ذلك ما دام ادعاؤها سهلا إلى حدِّ أن تلميذًا من تلاميذهم مثل «محمد» قد زعم أنه نبي يوحى إليه من السماء؟ لقد أسلم «ورقة» بعد أن استحكم في النصرانية(211)، كما أسلم أيضا عبيد الله بن جحش بعد الالتباس الذي كان فيه، ثم ظل مسلمًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، وهناك تنصر ومات نصرانيا. والملاحظ من سيرته أنه كان لا يحترم غربة المسلمين في تلك البلاد، إذ كان يغيظهم بقوله: «فقَّحْنا وصاصأتم»(212). وواضح أنه لم يصبر على بلاء الاختبار الذي محص الله به المسلمين في النصف الأول من عمر الدعوة فانقلب في أول فرصة ودخل دين الدولة المضيفة، ممثلا بذلك الشذوذ على القاعدة التي يمثلها بقية المهاجرين جميعا. وأرجح أنه لو كان قد نُسئ له في عمره ورجع مع سائر المهاجرين لعاد كرة أخرى إلى الإسلام، فإن نفسيته فيما يبدوا من أخباره لم تكن نفسية متماسكة. وينبغي ألا يفوتنا أنه لو كان سمع أو شهد أن «محمد» قد سرق أفكاره من أحد لما آمن به في البداية أو لفضحه بذلك عند النجاشي ومطارنته، وبخاصة في ذلك اليوم المشهود، يوم المناظرة التي أقيمت في بلاط الإمبراطور الحبشي بين المسلمين المهاجرين وبين رسولي قريش بحضور كبار رجال الدين هناك. وعلى أية حال فلا يمكننا أن نغفل أن زوجته، وهى أم حبيبة بنت أبي سفيان، أحد زعماء الكفر في ذلك الحين، لم تتابعه في ارتداده، بل ظلت متمسكة بدينها. ليس هذا فقط، بل عقد عليها الرسول وهى لا تزال في الحبشة وأناب عنه النجاشي رضي الله عنه، وكان قد أسلم، في عقد نكاحه عليها بعد وفاة زوجها(213). وأم حبيبة هذه هي التي استنكفت أن يلمس جسد أبيها فراش رسول الله حتى لا ينجسه، وصارحته بذلك، وكان أبوها حينذاك قد أصبح هو الزعيم الأوحد لمعسكر الكفر والطغيان. فلعل هذا كله يعطيك فكرة عن قيمة ارتداد عبيد الله بن جحش في بلاد النجاشي، الذي صدق هو نفسه بالدين الجديد. وكي تزداد ضآلة قيمة ارتداده وضوحا أحب أن أذكر لك أنَّ كل إخوته قد أسلموا، وهم عبد الله ( وقد استشهد في أحد )، وأم حبيب( زوجة عبد الرحمن بن عوف ) وزينب( زوجة زيد بن حارثة ثم الرسول من بعده). وفضلا عن ذلك فإن أحد هؤلاء الإخوة وهو عبد ( أبو أحمد ) كان ضريرا، ولم يمنعه ذلك من مناصرة الإسلام والهجرة فيمن هاجر إلى يثرب. ومما له دلالة هنا أنه كان أيضا زوج إحدى بنات «أبى سفيان» زعيم الوثنية في ذلك الوقت. فلو كان أخوه قد تنصر عن بصيرة لتابعه، فهو لم يكن أخاه فقط بل عديله أيضا، أو على الأقل كان ينبغي، وهو الضرير الضعيف القادر بغيره، أن ينحاز إلى معسكر الأقوياء( أي الكفار) حتى تقوى شوكة المسلمين فيدخل معهم في دينهم(214). ومن الحنفاء أيضا «عثمان بن الحويرث»، وقد قدم على قيصر فتنصرَّ وحسنت منزلته لديه( لاحظ أن من تنصر منهم قد تنصر في الغربة). ويذكرون أن قيصر توَّجه وولاه أمر مكة ولكن أهل مكة رفضوه. وقد مات بالشام مسموما على يد ««عمرو بن جفنة»، الملك الغساني(215)، وهو ما يعطيك فكرة عن نواياه ودوافعه ولا بأس أن نعد «أمية بن أبي الصلت»واحدا من هؤلاء الحنفاء. وهو شاعر جاهلي حكيم من أهل الطائف كان مطلعا علي الكتب القديمة، ولبس المسوح وامتنع عن الخمر والأوثان. وقد رحل إلى دمشق ثم إلى البحرين حيث ظل هناك حتى ظهرت دعوة الإسلام وبلغه خبر «محمد» عليه الصلاة والسلام عليه الصلاة والسلام، فقدم إلى مكة واستمع منه صلى الله عليه سلم إلى آيات من القرآن. ولما سأله أهل مكة رأيه فيه قال: «إنه على حق». ولكنه مع ذلك أجّل الدخول في الإسلام حتى ينظر، فيما قال، في أمره. وبعد ذلك سافر إلى الشام ثانية، وهاجر رسول الله إلى يثرب. ثم عاد أمية من الشام وفي نيته إعلان إسلامه، لكن مقتل ابني خال له كافرين في بدر منعه من ذلك وقد أقام أمية في الطائف إلى أن مات(216). ومن الواضح أن هذا التردد الطويل إلى أن هلك يؤكد ما قاله المؤرخون المسلمون عنه من أن الحسد والطمع في النبوة لنفسه كانا هما السبب الحقيقي أو على الأقل الرئيسي في توقفه عن إعلان إيمانه بنبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام عليه أفضل الصلاة والسلام(217). وطبعا لو أن «أمية» بلغه من أي طريق شئ مريب عن «محمد» عليه الصلاة والسلام لما سكت لسانه، وهو الشاعر. كذلك لو أنه أحس أن «محمدًا» نبيٌّ مزيف لادعى هو أيضا النبوة، وقد كان له معين في شهرته في الجاهلية بالتعبد ومعرفة الكتب القديمة. أما «زيد بن عمرو بن نفيل»، فقد اتبع دين «إبراهيم» واعتزل الأوثان والميتة والدم والقرابين، ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية. ولكن مغزى قصته لا يتم إلا إذا علمنا أن ابنه «سعيد بن زيد»، وابن عمه وابنة عمه، وهما «عمر بن الخطاب» وأخته(التي هي زوجة «سعيد بن زيد» نفسه)، قد دخلوا كلهم في الإسلام. ونحن جميعا نعرف الإيذاء الذي أوقعه «عمر» بـ«سعيد» هذا وزوجته والذي انتهى خير نهاية، إذ ترتب عليه إسلامه رضي الله عنه. فلو أن «سعيدًا» هذا أحس أن «محمدًا» قد تعلم من أبيه، أو لو أن أباه صارحه بشيء من ذلك لما أسلم البتة، وبالذات في ذلك الوقت المبكر جدا من تاريخ الدعوة الإسلامية، أو لو أن «عمر» صاحب العين اليقظة والعقل اللماح واللسان الجريء حاكت في قلبه أية ذرة من ريبة حول «محمد» وأخذه المزعوم عن الحنفاء أو عن ابن عمه بخاصة، لما دخل في الإسلام أبدا ليتحدى الكفار جميعا جهرة وليكون إسلامه فتحًا(218). أما في المدينة فهل يمكننا أن نعد «أبا عامر الراهب»(أو الفاسق كما سماه الرسول عليه الصلاة والسلام) من بين هؤلاء الحنفاء؟ إن قصته لتشبه قصة «ابن الحويرث المكي»، إذ إنه لما هاجر النبي إلي المدينة فارقها هو غلًّا وحقدًا وأخذ يؤلب الكفار عليه، ثم ذهب إلي قيصر يستعين به وقد اشترك ضد المسلمين في غزوة أحد، وأوعز إلى منافقي المدينة أن يبنوا مسجدا في محلتهم بعيدا عن عيون الرسول والمخلصين من أتباعه ليشق به وحدة الجماعة ويجتمع بهم فيه. ولكن كل ذلك لم يُغْنِه فتيلا، وحقت عليه لعنة نفسه، إذ قال لرسول الله عليه الصلاة والسلام أول مقدمه إلى المدينة: «الكاذب أماته الله طريدًا غريبًا وحيدًا»، يعرَّض برسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات هو بالشام غريبًا طريدًا وحيدًا بعد فشله وإطلاقه آخر سهم في جعبته، إذ خرج إلى الطائف يحرض أهلها ويقوي قلوبهم على حرب رسول الله، ولكنهم أسلموا فلحق بالشام وهلك هناك. والذي يهمني قوله هنا هو أن أحدا من أهل المدينة لم يتبعه، وحين ناداهم وهو يحارب في صفوف المشركين يوم أحد لينبههم إلى وجوده فينحازوا معه قائلًا: «أنا أبو عامر» ردوا عليه بقولهم: « فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق ». حتى ابنه كذبه واتبع «محمدًا» عليه الصلاة والسلام، وحارب في تلك المعركة نفسها جنديًّا في صفوف المسلمين واستشهد فيها. وهو «حنظلة» المسمى« غسيل الملائكة»، رضي الله عنه رضًا واسعًا(219). كذلك هل يمكننا أن نلحق بالحنفاء أيضا «أبا قيس صرمة بن أبي أنس»، الذي ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان، وهمَّ بالنصرانية ولكنه أمسك عنها وأخذ يعبد الله على دين «إبراهيم» عليه السلام حتى هاجر الرسول إلى المدينة فأسلم رغم أنه كان شيخًا كبيرًا، وطفق ينافح عن الإسلام بأشعاره الحسان(220). فمن هذا العرض نخرج بالنتيجة ‏التالية: أن بعض هؤلاء الحنفاء قد أسلموا، ومن لم يسلم منهم انحاز إلى أحد الأباطرة لمصلحة له، ولم يتابعه حتى أقرب المقربين إليه بل دخلوا في الإسلام واتبعوا «محمدًا» عليه الصلاة والسلام. أما «زيد بن عمرو بن نفيل»، فقد رأينا ابنه وأقرباءه يصدقون بالنبي ودعوته ويفدونهما بالنفس والنفيس . وقد عرفنا من أمر «أمية بن أبي الصلت» ما عرفنا، فما دلالة هذا كله؟ أترك ذلك للقارئ ليحكم هو بنفسه على مفتريات المستشرقين التي لم يفكر في توجيهها إلى «محمد» صلى الله عليه وسلم مجرد تفكير أيُّ واحد من معاصريه بالغًا ما بلغت عداوته له.

‏إن أحدا من هؤلاء الحنفاء لو شعر أن «محمدًا» إنما هو دعي نبوة لا نبي حقيقي لادعى هو أيضا النبوة . ولا يصحن أن يقول قائل: ولكن لقد ظهر فعلا متنبئون مثل «مسيلمة» و«طليحة»، أفليس هذا كافيا؟ لا يصحن أن يقول قائل هذا لأن سير هؤلاء المتنبئين كافية عند العقلاء لرفضهم ورد ادعائهم: ف«الأسود العنسي» مثلا كان بطاشا جبارًا. وقد أسلم لما أسلمت اليمن ثم ارتد أول واحد، ولكنه قتل بعد تنبئه بأربعة أشهر فقط. وسبق أن ذكرنا الدور الذي قامت به زوجته في عملية اغتياله. ولا أظن في هذه المعلومات عن شخصيته وحياته وموقف زوجته منه ما يدعو عاقلا إلى تصديقه، وبخاصة أنه أسلم ثم ارتد وتنبأ، إذ ليس هذا فعل الصادقين بَلْه رسل الله(221). وأما «مسيلمة» فقد أسلم أيضا، لكنه لما رجع إلى اليمامة ارتدَّ وتنبأ قائلًا: « إني اُشْرِكْتُ في الأمر معه»(أي أنه شريك لمحمد عليه الصلاة والسلام في النبوة) وهي كلمة تمحق ادعاءه محقًا، إذ هي اعتراف منه لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة، ومحمد عليه الصلاة والسلام قد كذبه تكذيبا قاطعًا. وثمة ما هو أكثر من ذلك، فقد أحلَّ لمن تابعوه الخمر والزنا وحط عنهم الصلاة(222). و قد هلك في حروب الردة: قتله «وحشي» (قاتل حمزة رضي الله عنه في أحد)، واشترك معه في قتله رجل من الأنصار(223). وكان قد تزوج «سجاح» المتنبئة، فأقامت معه قليلا. وكانت قد نزلت اليمامة بجيش كبير، ولكنها لما أدركت صعوبة الإقدام على قتال المسلمين انصرفت راجعة إلى الجزيرة (بالعراق)، ثم لما بلغها قتل «مسيلمة» أسلمت . وعند وفاتها صلى عليها والي البصرة من قبل معاوية بن أبي سفيان. وأظن أن في هذا معنى لمن يريد أن يعرف حقيقة «مسيلمة» وحقيقة «سجاح»(224). ويبقي «طليحة الأسدي»، وقد أسلم قبل تنبئه كما أسلم زميلاه في التنبؤ: «مسيلمة» و«الأسود»، لكنه لما رجع مع وفود قومه بني أسد إلي بلادهم ارتد وادعى النبوة . وقد هزمه «خالد» في عهد «أبي بكر الصديق» رضي الله عنهما فهرب إلى الشام، ثم عاد إلى الإسلام في عهد «عمر» وأبلى بعد ذلك في الفتوح الإسلامية بلاء حسنا حتى استشهد في «نهاوند»(225). وها أنت ذا ترى أن اثنين من هؤلاء المتنبئين لم يكملا الطريق وعادا إلى الإسلام، أما الاثنان الآخران اللذان هلكا فقد أسلما أولا ثم ارتدا وتنبآ، وليس هذا بفعل الأنبياء الحقيقيين.
‏وهناك مصدر آخر يلمح بعض المستشرقين إلى أن الرسول كان يمتح منه أحيانا، وهو «عمر بن الخطاب». فهذا «مكسيم رودنسون» يقول: «وقد افتخر «عمر» في براءة بأن ثلاثًا من نصائحه قد وافقت الوحي على نحو معجز »(226). وإن عبارتَيْ« في براءة» و«علي نحو معجز» تدلانك وحدهما على ما يريد هذا المستشرق أن يقول، حتى لو لم تعرف أنه غير مسلم وأنه يرجع الوحي إلى مصدر بشري. وإني في الوقع لست أدري لم يعتقد «رودنسون» وأمثاله أن الوحي لا بد أن يخالف كل فكرة أو اقتراح بشري؟ إن البشر ليسوا على كل حال شياطين، بل فيهم من روح الله كما يقول القرآن، فإذا توافقت أفكار بعض الصحابة مع الوحي فما وجه الغرابة في هذا؟ إن «رودنسون» نفسه قد حضر موافقات الوحي لـ«عمر» في ثلاث، فهل هذا كثير على رجل مسلم اشتهر بتقوى الله وصفاء البصيرة وعمق الفهم لدينه وجرأته في التعبير عما يعتقد أنه الحق؟ أم كان يجب على الله سبحانه أن يغيظ «عمر» في كل مرة من هذه المرات الثلاث ويغير وحيه حتى لا يتوافق مع رأي «عمر»؟ أم ماذا؟ أما غمز «رودنسون» ولمزه لـ«عمر» حين أشار إلى «براءته» فهو دليل على عجزه عن فهم الرجال وسبر أغوار شخصياتهم. فلم يكن «عمر» ذلك الرجل البريء ( أي الساذج، كما يحاول أن يوحي لنا «رودنسون»)، بل كان نافذ البصيرة، نقادة، حاد الملاحظة، كبير العقل. لقد حكم الإمبراطورية الإسلامية عشر سنين وهي في أوج صراعها مع دهاقنة العالم من الفرس والروم فحطمهم تحطيمًا. وأظن أن هذا هو السبب الذي أملى على هذا الشيوعي الأوروبي أن يلمز أمير المؤمنين هذه اللمزة السمجة. على أنه إذا كان الوحي قد وافق «عمر» ثلاث مرات، فقد خالف الوحي «عمر» والدنيا كلها حين كان «عمر» كافرًا، وكان على «عمر» أن يغير عقائده وأسلوب حياته ويتوافق مع ذلك الوحي. أما بعد الإسلام فما أكثر المرات التي خالفه فيها النبي عليه الصلاة والسلام: فقد كان «عمر» مثلا يحلف بأبيه فنهاه النبي فانتهى(227). كما أنه عليه السلام قد نصر مرة رأي امرأة على رأي «عمر»(228). وحتى في حجاب زوجاته عليه السلام فإن الوحي لم يوافقه على طول الخط . لقد نزل القرآن بالحجاب علي زوجات رسول الله صيانة لهن من نظرات الزائرين لبيت النبوة وتطلعات السفهاء، وكان هذا أيضا رأي «عمر» رضي الله عنه وأرضاه. لكن «عمر» قابل ذات ليلة أم المؤمنين «سودة بنت زمعة»، رضي الله عنها، فتعرف عليها وقال لها: «إنك والله يا «سودة» ما تَخْفَيْنَ علينا»، فرجعت إلى النبي فذكرت ذلك وهو في حجرة «عائشة» يتعشى، وكان في يده عرق فأُنْزِلَ عليه، ثم رفع عنه وهو يقول: «قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن»(229). كما طلب من النبي في أكثر من مناسبة أن يقتل هذا الرجل أو ذاك لأنه، في نظره، منافق قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فكان عليه الصلاة والسلام يرفض اقتراحه ويرشده إلى ما هو أقوم(230). بل لقد بلع من هيبة «عمر» له أنه، لما نسى عليه السلام فصلى إحدى الصلوات الرباعية ركعتين فقط، لم يستطع أن يفاتحه في الأمر لا هو ولا «أبو بكر»(231). كما أنه و«أبا بكر» قد اختلفا عند النبي على أمر وارتفعت أصواتهما، فنزل قوله تعالي: {يا أيها الذين آمنوا، لا ترْفعوا أصواتكُم فوقَ صوتِ النبي، ولا تجْهَروا له بالقوْل كجَهْرِ بعْضِكم لبَعْضِ أن تحْبَط أعْمالكم وأنتم لا تشْعُرون}، فكان «عمر» بعد ذلك إذا حدث النبي بحديث خفض صوته كأنه يسر إليه بشيء(232). فهل يَسُوغُ القول تصريحًا أو تلميحًا بأن «عمر» كان مصدرًا لبعض الوحي؟ «عمر» الذي كان يقبل الحجر الأسود وهو يقول: «إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك»(233)؟ ولكن لم؟ أكان عليه الصلاة السلام يخافه؟ أبدًا، فهو الذي كان يهاب النبيَ، وهو الذي تابعه وتحدى الدنيا من أجله وأجل دينه. أكانت موافقات «عمر» للوحي في أمور عويصة حيرت بال الرسول عليه الصلاة والسلام وأسهرته الليل حائرا يتقلب على فراشه؟ ولا هذه أيضا، فها هي ذي الأمور التي اتفق الوحي فيها معه رضي الله عنه: « قال «عمر»: وافقت الله في ثلاث. . . قلت: « ‏يا رسول الله، ‏لو اتخذت مقام «إبراهيم» مصلى. وقلت: ‏«يا رسول الله، ‏يدخل عليك البر والفاجر، ‏فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب. فأنزل الله آية الحجاب. . . وبلغني معاتبة النبي بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: ‏إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن. . . فأنزل الله: {عسى ربُهُ إن طلقكن أن يُبْدِلهُ أزاجًا خَيْرًا منكُنَ}(234). فالآن نستطيع أن ندرك أسلوب المستشرقين في الطنطنة على لا شيء!
‏وفي نهاية هذا الفصل نتساءل: هب أن الرسول، وذلك مستحيل بعد كل ما قلناه، كان كاذبًا، فما الذي كان يريده من وراء هذا الكذب؟ المال؟ الشرف؟ الرياسة والسلطان؟ إن تفاصيل حياته كلها تكذب ذلك أشد تكذيب . ومع هذا فسوف نتناول هذه الدوافع بالمناقشة المفصلة الموثقة، كعادتنا دائما، في الفصل الثاني الذي ‏سنخصصه للشبهة الثانية التي يحاول غير المسلمين تفسير ظاهرة الوحي بها، وهي أن «محمدًا» كان واهمًا مخدوعًا. كأنهم لما تيقنوا فشل الشبهة الأولى وعرفوا أن اتهامه بالكذب والخداع هو اتهام متهافت عاد فريق منهم فقال إنه لم يكن خادعا بل مخدوعًا.

مالك مناع
04-15-2010, 06:01 PM
جزاكم الله خيراً ..

ontology
04-15-2010, 08:01 PM
ما شاء الله ...

بالتوفيق...