الجندى
08-09-2008, 09:47 AM
الرد على شبهات الملحدين والمستشرقين والمبشرين
الشبهة الأولى: هل كان عليه الصلاة والسلام مخادعا كذابا؟
د. إبراهيم عوض
المصدر (http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=12559)
وُوجه الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل كثير من الخلق من أول يوم دعا فيه علانية إلى الإسلام، ولا يزال حتى يومنا هذا يُوَاجَه، بالتكذيب. وقد سجل القرآن في أكثر من موضع هذا الاتهام الذي رماه به مشركو قومه وردده النصارى واليهود. أما بالنسبة لخارج المحيط العربي فيقرر «شارل لودي» أن حكم الرومان عليه كان شديد القسوة، إذ اتهموه بأنه استولى على أموال خديجة وماشيتها، ولما افتضح أنه مصاب بالصرع أراد أن يواسيها، فزعم لها أن جبريل ينزل عليه بالوحي من السماء(1). وإذ غضضنا الآن البصر عن تهمة الصرع (لأننا سنعالجها مع غيرها من الاتهامات التي تشكك في صحته الجسدية أو النفسية والعقلية في فصل لاحق) تتبقى أمامنا تهمة الكذب واضحة لا تحتمل لبسًا. وليس الكُتَّاب الرومانيون القدماء هم وحدهم من بين الغربيين الذين يرمون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه التهمة، فإن طائفة كبيرة من المستشرقين، نصاراهم ويهودهم وعقلانييهم، يدعون أن القرآن هو اختراع محمدي نسبه «محمد» إلى الله (2)، وإن دفع بعضهم عن رسولنا هذه التهمة، كما فعل الكاتب البريطاني «توماس كارلايل» حين ساق ما زعمه «براديه» من أن القرآن طائفة من الأخاديع لفقها «محمد» ليسوِّغ ما اقترفه لبلوغ مطامعه (3). وقد بنى« كارلايل» دفاعه على أساس أن الإسلام لو كان دينا كاذبا لما استطاع أن يعيش طيلة هذه القرون تعتنقه كل هذه الملايين (4)، وكذلك على أساس أن محمدا لم يحاول، وهو في حرارة الشباب، أن يحدث ضجة جريا وراء الشهرة بل عاش مع زوجته عيشة هادئة (5)، أما «ألفريد جيوم» فإنه ينفي الكذب والادعاء عن الرسول، إذ يطبق عليه المقياس الذي يقاس به صدق النبي عند بني إسرائيل، وهو يتلخص في القول الثائر الملتهب، والشعر (6)، والإنشغال التام بالله والقضايا الأخلاقية، والشعور بأن ثمة ضغطا يسوقه سوقا لإعلان كلمة الله، فيجد أن هذه العلامات جميعها ظاهرة في حالة الرسول «محمد» عليه الصلاة والسلام. كما يرى في شكوكه عليه الصلاة والسلام في مصدر الوحي في أول الدعوة ومحاولته الانتحار دليلا قويا على صدقه، مقارنا إياه في هذا بالنبي أرميا(7). وبالمثل يؤكد «جب» أن محمدا كان مقتنعا تماما بأنه مبعوث من لدن رب العالمين(8).
وإلى جانب هذين الرأيين المتقابلين ثمة رأي ثالث يفرقُ بين الدعوة في مكة والدعوة في المدينة: ففي المرحلة الأولى كان «محمد» مخلصًا صادقًا: يتضح صدقه وإخلاصه في تحمسه الشديد، وتحمله المشاق، وإقناعه الأغنياء من أتباعه بالتواضع للفقراء والجلوس معهم. . . إلخ. أما في الثانية فقد أعماه نجاحه لدرجة أنه أخذ يخترع الوحي تلو الوحي لتحقيق شهواته وتسويغ انتهازيته. وهذا هو السبب، في نظر أصحاب هذا الرأي، في أن القرآن مليء بالمتناقضات والمزاعم الكاذبة(9).
والمقصود بالمزاعم الكاذبة هنا أن للرسول الحق في الاحتفاظ بأكثر من أربع زوجات، وأن «إبراهيم» هو الذي بنى الكعبة . . . إلخ. ومن أنصار هذا الرأي الكاتب الأمريكي الشهير «واشنجتن إرفنج»، الذي يرد على من اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بالزيف بأن النصف الأول من دعوته يكذب هذه التهمة، إذ ما الذي كان يبتغيه؟ أهو المال؟ لقد كان مال خديجة بين يديه، وهو من جهته لم يكن حريصا على الاستزادة منه. أهو الشرف إذن؟ لقد كان شريفًا في قومه، مُحترَما لذكائه وأمانته ومكانة أسرته، التي كان بيدها مقاليد الكعبة، فلِمَ يغامر بفقدان هذا كله في وقت كان يصعب عليه فيه بناء ثروته من جديد، وهو الذي فقد ماله كما فقد أصدقاؤه مالهم في سبيل الدعوة؟ ثم يمضي متسائلًا: لماذا يتحمل كل ألوان الاضطهاد إذن إذا كان نبيا زائفًا؟ (10)أما في المدينة فقد تغير، في نظر الكاتب الأمريكي، هذا كله، إذ بعد أن كان كل همه عليه الصلاة والسلام أن يجد من يحميه إذا به يرى أتباعه يقدسونه ويرى حوله جموعا بها رغبة إلى الحرب. عندئذ ثار طموحه الدنيوي وأصبح القرآن يسوغ له كل شيء، ووقع في كثير من المتناقضات.
باختصار: زال عنه صدقه وإخلاصه(11).
هذه هي النظرية الأولى التي حاول ومازال يحاول غير المسلمين تفسير ظاهرة الوحي القرآني بها. ولقد رد القرآن هذه التهمة عن الرسول وبين الباعث عليها، وذلك في الآية 33 من سورة «الأنعام» إذ يقول: {فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. بيد أننا لن نلجأ هنا إلى مثل هذه الآية، وإلا كان هذا مصادرة منا على المطلوب، فإن علينا أولًا أن نتأكد بالدليل القاطع من أن القرآن ليس اختراعا محمديا، وإلا كان «محمد» هنا، وهو المتهم بالكذب والتلفيق، يشهد لنفسه، وهى شهادة بالطبع مردودة، بل سوف نلجأ في مناقشتنا لهذه النظرية إلى سيرة الرسول في مصادرها الأولى، متتبعين ملامح شخصيته عن كَثَب، غير ملقين بالًا، من أخبار حياته وأخلاقه، إلا لما لاح عليه نور الصدق بمنطق العقل المجرد. وسوف نحاول أن تكون الزوايا التي ننظر منها إلى شخصيته والموازين التي نقيس بها أعماله عليه الصلاة والسلام زوايا وموازين جديدة بقدر الإمكان حتى لا تتحول هذه الدراسة إلى مجرد مضغ لآراء من سبقونا من الكتاب والمفكرين، وإن لم نقصد بأي حال من الأحوال، في ذات الوقت، أن نغمطهم حقوقهم، فمن المؤكد أننا لولاهم ما كنا ببالغي شيء مما بلغناه في هذه الدراسة.
لقد اشتهر الرسول بين قومه بالصدق والأمانة حتى لقد لقبوه بالأمين، ولم أجد أحدا من المستشرقين شاح في هذا. والملاحظ أنه عليه الصلاة والسلام، حين أعلن دعوته لعشيرته الأقربين أول مرة، قد اعتمد على استفاضة هذه الشهرة فيهم فلم يشأ أن يفاجئهم بالدعوة إلى الدين الجديد قبل أن يحصل على اعترافهم الصريح بصدقه وأمانته، إذ سألهم وهو واقف فوق أحد المرتفعات المحيطة بمكة: "أرأيتم لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا (يقصد: خيلًا مغيرة عليهم) أكنتم مصدقيّ؟ » فردوا جميعا في نفس واحد: «نعم» عندئذ دعاهم إلى الإسلام. لكنهم، ولما تنفض ثوانٍ على إقرارهم بصدقه وأمانته، عادوا فسفهوا حِلمه وانفضوا عنه(12). وقد كان «أبو بكر» نسابة يعلم ماضي كل إنسان في قريش وأسرته وأخلاقه، فلو كان يعرف أقل مغمز في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ما دخل في الإسلام، فضلا عن أن يدخل فيه بدون ذرة من تردد(13).
وقد بلغ من ثقتهم به أنهم كانوا يأتمنونه على أموالهم وودائعهم حتى بعد البعثة واستحكام عداوتهم له. ولو كان المؤتمن أحدًا آخر غير «محمد» لكان خليقا أن يحمل معه هذه الودائع ليلة الهجرة بعد أن وصلت هذه العداوة حد التآمر الخسيس على قتله. لكنه، وهو الصادق الأمين بحق، لم يستحل لنفسه منها دانقا، بل خلف وراءه ابن عمه وربيبه عليا، وكان لا يزال صبيا، فنام في فراشه تضليلا لهم حتى أصبح الصباح فغدا عليهم فسلم لكل منهم ما كان ائتمن عليه «محمدًا» عليه الصلاة والسلام(14). وهذه الأمانة وهذا الصدق في التعامل مع الناس لم يزايلاه لحظة واحدة طول حياته لا في مكة ولا في المدينة، على عكس ما يزعمه هؤلاء المستشرقون من أن تيار الأحداث بعد الهجرة قد جرفه بعيدا عما كان يحرص على الاستمساك به من مثالية في مطالع الدعوة. ولنترك «ابن هشام» يرو عن «ابن إسحاق» بأسلوبه البسيط التلقائي القصة التالية: «قال ابن إسحاق: وكان من حديث الأسود الراعي، فيما بلغني، أنه أتى رسول صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خبير، ومعه غنم له كان فيها أجيرًا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه. فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، أو كما قال، فقال الأسود: فأخذ حفنة من الحصا فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا. فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله . . . إلخ»(15). والشاهد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يلوث مسلم جديد إسلامه بمثل هذه الخيانة، مع العلم بأنه بعد انتصاره علي يهود خيبر قد حاز من أموالهم وأرضيهم وماشيتهم أضعافا أضعاف هذا القطيع من الغنم.
ولكن غنم الأموال في حرب شريفة شئ، واتخاذ الدخول في الإسلام تكأة لمثل هذا الاستيلاء الغادر عليها شيء آخر لا تقبله أخلاق الصادقين المطبوعين على الأمانة والوفاء حتى مع ألدَّ الأعداء.
وقد كان موقفه عليه الصلاة والسلام، حين نزل عليه الوحي أول مرة، دليلا من دلائل صدقه التي لا تقبل المماراة. لقد شك في مصدر هذا الوحي ورعب منه. وقصته حين عاد من الغار إلى بيته ليلا وهو يهتف: « دثروني. دثروني » أشهر من أن نحتاج إلى سوقها بالتفصيل(16). ووجه العبرة فيها، فيما نحن بصدده، أنه لو كان كاذبا في أمر جبريل والوحي لكانت له في ميدان الكذب مراغم واسعة يستطيع أن يصول فيها ويجول كيفما شاء. لقد كان الأحرى به، لو كان مزيفا دجالا، أن يدعي أن جبريل، بدلا من أن يغطه مرات ثلاثا حتى كادت روحه أن تزهق، قد أخذ بيده أخذا رفيقا حانيا، وسمر معه سمر الأصدقاء المتفاهمين بدلا من هذا الأمر الخاطف الجازم الذي لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يفهم كنهه ولا المقصود به: « اقرأ». كذلك كان الأحرى به عندئذ أن يعود إلى بيته مبتسما منشرح الصدر. أليس يزعم أنه قد نزل عليه وحي من عند رب العالمين؟ إذن فقد اصطفاه هذا الرب خليلا ورسولًا، وإذن فالنتيجة المنطقية لهذه الكذبة العريضة أن يشفعها بكذبة أخرى عريضة مثلها تبين كيف أن ربه تجلى له شخصيا، وكلمه مشافهة، وربت علي كتفه. . . إلى آخر هذا الهراء الذي هو بالكاذبين الدجالين أقمن، وبصدوره عن عقولهم ونفوسهم الملتوية أشبه(17).
إننا حين نسوق هذا الدليل لا نفعل ذلك لمجرد أننا مسلمون، فقد قمت بهذه الدراسة المضنية لتبرئة ضميري أمام نفسي وربي أولا وقبل كل شيء، لأني أحب أن أتثبت من كل ما أعتقد أنه حق على قدر ما تسع طاقتي العقلية والنفسية من بحث وتقص وتقليب للأمر على وجوهه المختلفة. ثم إننا قد رأينا «ألفريد جيوم»، وهو مستشرق بريطاني لا يؤمن بنبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام، يعتمد هذا المقياس دليلا على صدقه ورغبته في التثبت من أن ما تجلى له في غار حراء إنما هو حق لا ريب فيه. وها هو ذا «واشنجتن إرفنج» أيضا يستخدم هذا المقياس ذاته دليلا على صدقه و أنه لم يشأ أن يستسلم من فوره لما كان يمكن، من باب الاحتمال العقلي المجرد، أن يكون ضربا من الوهم(18). ليس ذلك فحسب، فإن «مكسيم رودنسون»، وهو الشيوعي الذي لا يؤمن أصلا بقوى روحية ويرجع بكل شيء إلى البيئة المادية أو أثرها في النفس الإنسانية، لا يفوته أن يبرز هذه النقطة، إذ يعترف بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شك طويلا قبل أن يطمئن إلى أن الذي يأتيه هو وحي من عند الله(19). وهذا الشك وهذه الرغبة في التثبت هما بدورهما دليل قوي لا يمكن رده على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتطلع قبل الوحي إلي أن يكون رسولا، وذلك خلافا لما يدعيه بلا برهان بعض المستشرقين من أن حادثة نقل الحجر الأسود جعلته يعتقد أنه مدعوّ لحمل رسالة (20)، إذ فضلا عن أن أحدا منهم لم يورد من حياة الرسول ولا تصرفاته دليلا واحدا ولو متهافتا على ذلك، فإن استعانة قريش بمحمد، عن طريق المصادفة المحضة، في فض خصومتهم حول نقل الحجر الأسود، لا يمكن أن تستتبع منطقيا اعتقاده في كون ذلك نذيرا بأنه مدعو لحمل رسالة ما. إن عقل «محمد» لم يكن في يوم من الأيام بهذا التهافت ولا بهذه الفسولة في الربط بين المقدمات ونتائجها. ويتصل بهذا مسألة فتور الوحي بعد الدفقة الأولى إلى الدرجة التي وجدها قومه فرصة لإيذاء مشاعره مدّعين أن شيطانه قد هجره(21)، فينزل الوحي مطمئنًا الرسول إلى أن حب ربه له باق لم يتغير، مما يدل على أن أثر هذا الادعاء قد وجد إلى قلبه سبيلًا. ترى لو كان كاذبًا دجالًا فما الذي يجعله يتوقف عن ادعاء الوحي ولو باللغو الفارغ من القول أو بتدبيج المدائح الإلهية الملفقة في شخصه؟ ولو افترضنا أنه قد فاته هذا فَلِم يتأثر بمثل هذا الادعاء كما تشي بذلك سورة «الضحى» مادام يعلم من نفسه أنه كاذب وأن الأمر كله لا يعدو تلفيقًا في تلفيق؟ إن ما داخله من حزن بسبب تقوُّلات قريش عنه إنما هو حزن الصادقين. إن هذه السورة ليست دفاعًا عن «محمد» ولا مدحًا له ولا شتمًا لأعدائه، وإنما هي طمأنة له في جملة قصيرة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }«الضحى، آية 3»، وتذكير بنعمة الله عليه وأنه كان يتيمًا فآواه الله، ضالًا فهداه سبحانه . . . إلخ. وكيفما كان معنى الضلالة والهداية هنا فإن هذا الكلام هو آخر شيء يمكن أن يصدر عن كاذب محتال في مثل هذا الموقف. ثم بعد الطمأنينة والتذكير تأتي الأوامر الإلهية التي نحس فيها نبرة علوية لا يمكن أن تكون صادرة منه عليه السلام إلى نفسه. وعندما تتجلى مرحلة القلق الأولى بشكوكها وتوتُّراتها نجد «محمدًا» عليه الصلاة والسلام طيلة حياته قوي الإيمان بربه وبرسالته، عميق اليقين والاطمئنان لدرجة مذهلة. إنه برغم ألوان الأذى التي صُبَّت عليه وعلى أتباعه على قلتهم وغربتهم في بلدهم، وبرغم صنوف المؤامرات وتتالي الحروب التي فُرض عليه خوضها ضد جميع القوى في الجزيرة العربية وخارجها بعد هجرته إلى المدينة، فإنه عليه صلوات الله وسلامه لم يتزحزح قيد شعرة عن شيء من معتقداته. ثم إنه لو كان دجالًا مخادعًا فما الذي أجبره أن يبقى في مكة وحيدًا مع «أبي بكر» و«عليٍّ» حتى هاجر كل من أراد الهجرة؟ لماذا لم ينجُ بجلده أولًا؟ وليَنْجُ من يريد أن ينجو بعد ذلك؟ (22)
وإذا كان «إرفنج» قد جعل أحد ركائز اقتناعه بإخلاص الرسول وصدقه في المرحلة المكية تَحملُّه عليه السلام لألوان الاضطهاد المختلفة (23)، فإن مستشرقين آخرين يهوِّنون من مسألة الاضطهاد هذه ويقولون إنها قد بولغ فيها كثيرًا. وفي رأيهم أنه لو كان ثمة اضطهاد بهذه الدرجة لانتقمت للمسلمين قبائلهم جريًا على عادة العرب في تعصب كل قبيلة لأبنائها.
وهؤلاء المستشرقون ينسون أن هذا التعصب لم يمنع أبا لهب مثلًا وزوجته من إيذاء النبي والتحريض عليه، ولا «عمر» من البطش بأخته وزوجها، الذي كان هو أيضًا من أقربائه الأدنيين، وأين؟ في بيتهما. كذلك لم يمنع هذا التعصب قريشًا أن تقاطع بني هاشم وتحاصرهم في شعب أبي طالب أشهرًا عدة ثقالًا باهظات. أم هل ينبغي أن نكذب هذا كله ونكذب كذلك الحجارة التي رشقه بها، وهم يطاردونه، صبيان الطائف وعبيدهم وسفهاؤهم، ولا أحد من سادتهم يتدخل لمنعهم ولو من باب المجاملة الكاذبة؟ ثم هل ينبغي علينا أيضًا يا ترى أن ننبذ ما جاء في القرآن عن ائتمارهم به ليقتلوه عليه السلام؟ «الأنفال/30». لقد نسي هذا الفريق من الكُتّاب (24) أن القبيلة العربية كانت تخلع عنها من يخرج على تقاليدها وأعرافها. وأي خروج على هذه الأعراف والتقاليد أشنع في نظرهم من دين يسفه أحلامهم وأحلام آبائهم من قبلهم، ويسخر من أسلوب حياتهم وأصنامهم ومعتقداتهم التي ضربت بجذورها الحديدية في نفوسهم جيلًا بعد جيل؟ لقد بلغ من إصرار قريش على محاربة الإسلام وأتباعه أن تعقبتهم خارج حدود الجزيرة العربية حين تركوا لها الجمل بما حمل وفروا إلى الحبشة نجاة بحريتهم في الاعتقاد وبحياتهم وأولادهم، فأرسلت إلى النجاشي تحاول، عن طريق الهدايا والتملق والإيقاع بينه وبين هؤلاء المهاجرين المستضعفين، إقناعه بإرجاعهم إلى بلادهم. ولا أظن عاقلًا يتوهم ولو للحظة أن قريشًا كانت حريصة على استعادتهم لتفرغ عليهم حنانها وتذرف دموع الندم عند أقدامهم. ولولا أن النجاشي كان ملكًا عادلًا ومتعاطفًا مع هؤلاء المساكين لدرجة أنه دخل معهم في دينهم لعادوا كرة أخرى إلى التضييق والتعذيب. ومما يعطيك فكرة عن مدى خوف هؤلاء المهاجرين من قريش أنهم لم يرجعوا نهائيًّا إلى إخوانهم المسلمين إلا بعد أن هاجر هؤلاء إلى المدينة بعد سنين وأصبحت لهم دولة وشوكة(25).
أما في المدينة فكلنا يعرف أن حياة الرسول والمسلمين كانت كلها كفاحًا متصلًا ضد قوى الكفر والطغيان والنفاق سواء أكان ذلك في داخل المدينة أم خارجها، وفي نطاق الجزيرة العربية أم على تخومها مع الدولة البيزنطية. إن المستشرقين عادة ما يتهمون الرسول بالعدوان على الآخرين، ولكن وقائع التاريخ تكذب ذلك(26).
ترى لو كان الرسول كاذبًا فما الذي يضطره لتحمل كل هذا العناء والاضطهاد والاستهداف لعدوان قوى الشر وتآمرها عليه؟ إن آية صدقه أنه ظل وفيًا لعقيدته رغم هذه المحن المتلاحقة، سواء في حالة الضعف والتعرض للإيذاء أو في حالة القوة والمقدرة على رد العدوان، فلم يهن ولم يتبدل. ولو كان كاذبًا لنكّل عن هذا الطريق بعد قليل. ومع ذلك فإن المستشرقين يأبون إلا أن يتهموه في قوة إيمانه برسالته وبالوحدانية المطلقة التي هي محور هذا الرسالة، متشبثين في ذلك تشبثًا غريبًا برواية ضعيفة لا تثبت على محك النقد التاريخي أو المنطقي تزعم أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام قد قدم لقومه بعض التنازلات المتعلقة بعقيدة الوحدانية بُغية كسبهم على صفه، وذلك بعد ما يئس من أن يتبعوا دينه على ما هو عليه من عداء للأصنام والوثنية، فأورد آيتين يمجد فيهما اللات والعزى ومناة ويعلن أنها مناط الشفاعة يوم القيامة. ويستبعد «ألفريد جيوم» أن تكون هذه الرواية مصنوعة، وإلا كان معنى ذلك أن المسلمين قد أرادوا الإساءة إلى الإسلام والرسول، وهو ما يستبعد العقل صدوره من المسلمين المخلصين كما يقول(27). أما«مكسيم رودنسون»فإنه يورد القصة بشيء من التفصيل بناء على بعض المرويات الإسلامية، ثم يعقب عليها بقوله إن القرشيين عندما سمعوا هذه الآية (يقصد هاتين الآيتين) سُروا سرورًا عظيمًا وسجدوا جميعًا مسلمين ومشركين(28).
وقبل أن نناقش هذه الآراء أحب ألا تفوتني الإشارة إلى أن بعض المستشرقين، مثل«كايتاني»، المستشرق الإيطالي، قد رفضوا قبول هذه الرواية(29)، وهو ما يأخذ به المسلمون بعامة، وبخاصة المعاصرون منهم : تقليديوهم وعقلانيوهم على السواء(30). والآن إلى مناقشة هذه الرواية. وأول شيء أفضل أن أتناوله هو ما ساقه «جيوم» مما ظنه حجة قاطعة على صحتها، إذ ما أدراه أن المسلمين المخلصين هم الذين وضعوا هذه القصة؟ إن ابن إسحاق بن خزيمة قد عزاها دون تردد إلى بعض الزنادقة(31)، علاوة على أنها لم ترد في «ابن هشام» ولا في أي من كتب الصحاح على هذا النحو. ومع ذلك فإني لن أعتمد على شيء من هذا. إنما سأعتمد على التحليل المنطقي لمضمون الرواية ذاتها وللملابسات التاريخية التي أحاطت بأحداثها، وهو منهجي العام في هذه الدراسة بل في كل ما أكتبه عادة. إننا لو أعدنا قراءة ما كتبه «رودنسون» في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين والمشركين جميعًا لدى سماعهم هاتين الآيتين قد خروا على الأرض سجدًا بهجة وسرورًا. وإني في الحقيقة لا أدري كيف ولا لِمَ يسجد هؤلاء أو أولئك عند هاتين الآيتين: فأما المشركون فإني لم أقرأ قط أنهم كانوا يسجدون لأصنامهم. وإليك القرآن، وإليك «ابن هشام»، وقد تناول عبادة الأوثان في جزيرة العرب بالتفصيل، وإليك كذلك «ابن الكلبي»، الذي خص هذا الموضوع بكتاب مستقل وهو «الأصنام» وقلّب هذه المصادر كلها على مهل كما يحلو لك، فلن تجد أن مشركًا قد سجد لصنم. لقد كانوا يطوفون بالحجارة والأصنام والكعبة. وكانوا يبنون البيوت لهذه الأصنام ويعينون لها السدنة، ويهدون إليها، ويتقربون إليها بالذبائح، ويقسمون لها من أنعامهم وحرثهم، ويحجون إليها ويحلقون رؤوسهم عندها، ويتمسحون بها، ويجعلون ما حولها حمى، ويستقسمون لديها بالقداح، ويقسمون بها ويتسمون بعبد اللات وعبد مناة. . إلخ. ولكن لم يرد في أي منهم أنهم كانوا يسجدون لصنم أو وثن ولا حتى في الكعبة. فإذا كانوا لا يسجدون عندها فكيف سجدوا إذن عند مجرد سماعهم أسماء اللات والعزى ومناة في آية قرآنية؟ والمسلمون: ما الذي يجعلهم يسجدون عند ذكر هاتين الآيتين؟ إن هاتين الآيتين ليستا موضع سجدة، ومواضع السجدة في القرآن معروفة ولها قاعدتها التي لا تنطبق على هاتين الآيتين ولا على الآيات التي نزلت بعد ذلك، بناء على هذه الرواية لتنسخها. والعجيب أن «رودنسون»، الذي تحمس تحمسًا شديدًا لنقل هذه الرواية وما جاء فيها من أن القرشيين جميعًا، مسلمين ومشركين، قد سجدوا لدى سماعهم هاتين الآيتين، يعود بعد أقل من صفحة فيعزو رجوع «محمد» عليه السلام عن هذا التخاذل إلى تمرد المسلمين وحنقهم، وهو ما لم يحدث. فهل ثمة اضطراب في الرواية أشنع من ذلك؟ (32) هذا على الرواية كما عرضها «رودنسون»، أما الدكتور «هيكل»، فيقول إن الرسول بعد أن تلا الآيتين موضوع بحثنا مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها. هنالك سجد القوم جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم(33). فالسجود إذن، على هذه الرواية، لم يقع إلا في آخر السورة، أي عند قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} لا عند سماع الحاضرين الآيتين المشار إليهما. وهو على هذا النحو مفهوم من المسلمين، أما من المشركين فكلا، إذ إنهم لم يتعودوا السجود لأصنامهم ولا لله، وليس يعقل أن ينقلبوا هذا الانقلاب الفجائي لمجرد أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام ذكر بعض أصنامهم بخير. على أن هذا ، برغم كل شئ، لا يهمني كثيرًا، بل المهم هو أن السورة كلها من أول آية فيها إلى الآية الأخيرة ترفض هاتين الآيتين بعنف كما يرفض الجسم عضوا غريبًا عنه لا يمكنه التفاعل معه. إن الدكتور هيكل يرد هاتين الآيتين لأن الآيات التي تتلوهما تجري هكذا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}. وهي، كما ترى، تعيب هذه الأصنام، فكيف يتعاقب مدح وذم على هذا النحو؟ (34) والحقيقة أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يرد موردو هذه الرواية ومشايعوهم بأن هذه الآيات الثلاث إنما جاءت في موضع الآيتين المشار إليهما فنسختهما، ولم تكن موجودة منذ البداية(35). ومن ثم فإني لا أعول كثيرًا على التناقض بين الآيات المتعاقبة التي تتحدث عن اللات والعزى ومناة مدحًا وقدحًا قدر تعويلي على تحليل مضمون السورة كلها والجو النفسي الذي يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها، وهو جو عداءٍ مستحكم بين الرسول وقومه: فالآيات (1-18) ترد على تكذيب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام ورميهم إياه بالضلالة والغواية واتِّباع الهوى. وإن القارئ المتذوق ليلمح عنف الرد في قسمه سبحانه بـ{النجم إذا هوى}، الذي يشير في رأيي إلى تهديد القرآن لمشركي مكة بأنهم سيلاقون مصير النجوم حين تنخلع من مداراتها التي كانت مستقرة فيها على مدى الأحقاب المتطاولة وتهوى متبددة في الفضاء اللانهائي. كذلك يتبدى عنف الرد في التفصيل الذي تحدثت به الآيات عن تجلي الوحي للرسول، وفي تعدد الصفات التي وُصِفَ بها جبريل عليه السلام، وفي إعادة التأكيد على أن ما رآه «محمد» عليه الصلاة والسلام حين نزول الوحي عليه إنما هو حقٌّ لا مرية فيه. ولا يفوتَنَّ القارئ إشارةُ الآيات الأخيرة من هذه المجموعة(13 – 18)إلى حادثة المعراج، وهي الحادثة التي كذب بها أهل مكة تكذيبًا شديدًا. وإذا قفزنا فوق الآيات التي تتحدث عن الأصنام الثلاثة، فإننا سنجد أن الله عز وجلَّ ينفي أن يكون لملك من الملائكة أية شفاعة إلا بعد إذن الله ورضاه، ثم تعود الآيات فتتهكم بمن يؤنثون الملائكة بلا علم أو تثبت، وتأمر الرسول بالإعراض عنهم لتوليهم عن ذكر الله ولهاثهم وراء الحياة الدنيا(36). أما الآيات(33 – 58)، فإنها تتحدث عن أحد القرشيين المفتونين بثرواتهم والباخلين مع ذلك بها، وتقرعه تقريعا شديدا، مسفهةً اعتقاده المنحرف في الجزاء والمسئولية الأخلاقية، ومهددة إياه بمثل مصائر عاد وثمود وقوم نوح، ومعلنة بصوت مجلجل أن هذا ليس إلا نذيرًا من النذر الأولى وأن ساعة الغضب الإلهي والعقاب المزلزل قد دنت. ثم تنتهي السورة بالتعجب من تكذيب قريش للرسول وللقرآن وتصلُّب قلوبهم حتى إنهم ليضحكون ولا يبكون، وتأمرهم أمر تقريع وتهديدبأن{اسجدوا لله واعبدوا}. أيمكن أن يرد في مثل هذا السياق الفكري والنفسي آيات تمجد بعض آلهة قريش؟ إن ذلك هو المستحيل بعينه. ثم لو قبلنا جدلا أن هذا ممكن، فكيف فات قريشًا أن السورة جمعاء هي حملة عنيفة عليهم وعلى موقفهم من الدعوة الجديدة وتسفيه لعقولهم وتهديد جليٍّ لهم، وانخدعوا ببعض كلمات معسولة عن آلهتهم وسجدوا مع المسلمين؟ فهذه واحدة. والثانية أن الآيتين المزعومتين تجعلان الآلهة الثلاث مناطا للشفاعة يوم القيامة، وهو ما لم يسنده القرآن على هذا النحو لأي كائن مهما تكن منزلته عند الله. ولماذا نذهب بعيدًا وثمة آية في سورة «النجم» ذاتها لا يفصِلُها عن الآيتين المزعومتين إلا خمس آيات جدُّ قصيرة، نصها كالآتي: {وكم من مَلَكٍ في السموات لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى؟ }(النجم/26). فكيف يقال هذا عن الملائكة في ذات الوقت الذي تؤكد فيه إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة السالف ذكرها جديرة بالرجاء من غير تعليقٍ لها على إذن الله؟
أما النقطة الثالثة فهي أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لم يكن من شيمته التردد حتى يقال إنه قد تذبذبت قدماه في منتصف الطريق وتراجع عن بعض مبادئه. إن صلابة استمساكه بدينه لهي مضرب المثل في صفاء اليقين والشجاعة المثلى. بل إنه لم يؤثر عنه مثل هذا التذبذب ولا في الحرب حيث يعيد الإنسان دائمًا حساباته. ولقد رأيناه (وقد لبس لأمَتَه ووافق على الخروج لملاقاة مشركي قريش خارج المدينة عندما عزموا على مهاجمتها في غزوة أحد، وكان يرى البقاء فيها والتحصن بداخلها)يرفض الرجوع حين أبدى الندم من خالفوه في التحصن داخل المدينة، قائلًا قولته الشهيرة: «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل»(37)فما عدا إذن مما بدا؟ ومن قَبْلُ ترجَّاه عمه أبو طالب أكثر من مرة أن يخفف من موقفه تجاه الأصنام وعُبَّادها فرفض رفضا قاطعا وصاح قائلًا: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»(38). أفبعد أن عضده عمه كل هذه المدة، وبعد أن وقف معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمُهم وكافرهم(إلا أبا لهب)وتحمَّلوا من أجله قسوة الحصار والمقاطعة في الشِّعب شهورًا عددا، يتراجع هو هذا التراجع المشين؟ ومتى؟ بعد أن أعزَّ الله الإسلام بدخول اثنين من صناديد مكة فيه: «عمر بن الخطاب» (39)وحمزة بن عبد المطلب، وأخذ يفشو بين القبائل. ثم ما الذي دفعه إلى هذا التنازل وقد أتاه عتبة بن ربيعة موفدا من زعماء قريش يعرض عليه، على طبق من ذهب، المال والرئاسة فرفض أن يجيبه، مكتفيًا بقراءة صدر سورة «السجدة»بآياته التي زلزلت قلب عتبة حتى لقد رجع إلى أصحابه بوجه غير الذي انصرف به عنهم؟ (40) إن الرسول لم يتساهل يوما في مسألة التوحيد، حتى ولا عندما كانت العرب تتهاوى أمام دعوة الإسلام قبيلة إثر قبيلة، واتضح تماما أن دين الله غالب لا شك في ذلك. لقد أعفى قوما من الالتزام بخمس صلوات كاملات، ولكنه لم يوافق ثقيفا على أن يبقي لها وثنها ولو شهرًا واحدًا يستطيع بعده أن يفعل به ما يشاء(41). إنه لم يشأ التدرج في هذه المسألة مع ما عُرِف عنه من أنه كان كثيرا ما يأخذ الناس به. فإذا كان لم يوافق على شئ من ذلك، وهو أقل ألف مرة من تمجيده بنفسه وفي قرآنه اللات والعزى ومناة واعترافه بأن شفاعتهن مرتجاة، وكان ذلك في أواخر حياته وتمكُّن سلطانه واطمئنانه إلى أنه لا ردة بعد ذلك إلى الوثنية، فكيف مالأَ الكفار على وثنيتهم وهو لا يزال في أول الطريق وكله حماسة ونار مشتعلة؟ ثم أيكون أتباعه يستمدون منه الثقة والإيمان والصبر على البلاء؟ لقد صمدوا في وجه المؤامرة التي دبرها لهم رسولا قريش عند النجاشي وبطارقته، إذ جئ بهم ليعرضوا على الملإ في البلاط الملكي دينهم وعقيدتهم في عيسى عليه السلام فلم يكتموا منها حرفا وهم الأغراب المشردون المحتاجون إلى تملق مشاعر مضيِّفيهم ولو عن طريق التعبير الروَّاغ عن رأي الإسلام في المسيح صلوات الله وسلامه عليه.
لقد ذكر ابن السائب الكلبي في الصفحة التاسعة عشرة من كتاب«الأصنام» أن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، وأنها كانت تعتقد أنهن بنات الله (عز وجل عن ذلك)، وأنهن يشفعن إليه، فلما بعث الله ورسوله، أنزل عليه: {أفرأيتم اللات والعزى*ومناة الثالثة الأخرى*ألكم الذكر وله الأنثى*تلك إذن قسمة ضيزى*إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}. والحقيقة أن هذا هو الأشبه بأن يكون هو الصواب. ويبدو أن أحد الزنادقة قد أخذ هذه الرواية وحرفها، واضعًا كلام قريش في أصنامها على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أننا بعد هذا كله قد ضربنا عُرْضَ الحائط بكل هذا التحليل التاريخيّ والنصيّ، وقلنا إن هذه الآيات قد جرت فعلا على لسان الرسول، فهل يعني ذلك تذبذبا في إيمانه؟ أم هل الأحرى أن نفسها بأنها زلة لسان مما نقع فيه جميعًا كل يوم، وعذره أن هذه الكلمات المزعومة، من كثرة ما كان القرشيون يرددونها أمامه، قد علقت بذهنه فجرى بها لسانه في لحظة من لحظات السهو ولكنه سرعان ما تنبه لها فتراجع عنها قبل أن تلصق بدينه؟ أقول هذا برغم تفنيدي لها، وذلك قطعا للطريق على ذوي اللجاجة المكابرين. ولكي أخفف المسألة على ضمير المسلم أذكره بزلة اللسان التي وقع فيها أحد المؤمنين الأتقياء، وكانت قد ضلت ناقته كما جاء في الحديث الشريف، فلما وجدها انطلق لسانه ليشكر ربه، الذي ردها عليه، فإذا به من شدة الفرحة يضطرب قائلًا: «شكرا يا عبدي!أنا ربك»، والمقصود العكس طبعًا. وهي، لو حاسبناه على طريق المستشرقين، أفدح من زلة اللسان المفترضة في رواية الغرانيق.
فإذا انتقلنا إلى المرحلة المدنية، وهي التي يتهمه من يسلِّم من المستشرقين بصدقه وأمانته في النصف الأول من تاريخ الدعوة بأنه اطَّرح عن ضميره فيها مؤنة الصدق والأمانة، وجدنا أن أهم ما اتُّهم به صلى الله عليه وسلم به هو قسوته على اليهود، وعدم احترامه للمعاهدات التي عقدها مع المشركين، وتساهله(مرة أخرى، لاحِظْ)في قضية الوحدانية، إذ أبقى في فريضة الحج على بعض الشعائر الوثنية، ثم الانغماس في شهوات الجنس.
فأما بالنسبة لموقفه من اليهود، فقد أدخلهم عليه الصلاة والسلام في المعاهدة التي عقدها مع كل الأطراف الموجودة في المدينة آنذاك وسوَّى فيها بين الجميع، وألزمهم أن يكونوا يدًا واحدة على من يريدهم بشر. ولم تكن هذه التسوية، بالنسبة لليهود، مع غيرهم من سكان المدينة فقط، بل مست أيضًا علاقتهم بعضهم ببعض، إذ كانوا في الجاهلية، قبل أن يقدم عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، متعادين منقسمين يرى فريق منهم أن له فضلا وعلوًّا على إخوان الدين والوطن حتى في الديَّات، فأبطلت المعاهدة هذا كلَّه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبرهم على الدخول في الإسلام ، تبين لنا كيف أن ما ابتُلي به الرسول والمسلمون من قِبَلِ هؤلاء القوم من غدر كان سَخَفًا شديدًا فوق كونه خيانة لا تغتفر. ولقد كان الرسول رحيما مع بني النضير وبني قينقاع، فاكتفى بالعقوبات المالية إلى جانب الطرد، إلى أن جاء دور بني قريظة، وكانت جريمتهم هي الخيانة العظمى، إذ انقلبوا أثناء حرب الخندق على المسلمين برغم أُخُوَّة الوطن وبرغم المعاهدة الوثيقة التي كانت تربطهم بهم، يريدون أن يستأصلوا شأفتهم ويمحقونهم مع دينهم محقًا، مع أن هذه المعاهدة كانت توجب عليهم أن يحاربوا مع المسلمين(42)، فما الذي كان ينبغي على الرسول أن يفعله؟ هل كان عليه أن يربت على ظهورهم ويعتذر لهم عمَّا ارتكبوه من خيانة بشعة في حقه وحق دينه وحق المسلمين؟ إن أحد المستشرقين مثلًا يتعجب كيف أن دينًا يدعي أن إلهه هو الرحمن الرحيم يفعل ببني قريظة ما فعله الرسول(43). فمن الجدير إذن بأن يشعر تجاهه هذا المستشرق بالرثاء؟ إنهم المسلمون بكل تأكيد، الذي لو، لا قدر الله، استطاع اليهود تنفيذ خطتهم التي اشتركوا فيها مع قوى الشرك والوثنية من جميع أرجاء الجزيرة العربية وقضوا على المسلمين، ما رأينا من هذا الكاتب دمعة تُذْرَف، بل ابتسامة تشفٍّ وابتهاج. إنَّ المستشرقين يدَّعون دائمًا(كذِبًا) أنَّ التوحيد عند اليهود أظهَرُ منه في الإسلام وأصفى(44). أتعرف ماذا كان اليهود فاعليه بموجب حكم التوراة(التي أوحاها إلى نبيِّهِم إلهُهُم الذي يوحِّدونه، على هذا الزعم، خيرًا مما يوحِّدُ المسلمون ربَّ العالمين)لو أنهم هم الذين انتصروا وفتحوا بلاد المسلمين؟ تقول التوراة: «حين قرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهك إلى يديك، فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كل غنيمتها، فاغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهك. وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا». وهو ما لا ينطبق على المسلمين، لأنهم لم يكونوا بالنسبة لليهود، الذين يجاورونهم في نفس المدينة، من الأمم البعيدة، بل ينطبق عليهم الآتي: «وأما هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبقِ منهم نسمة ما»(45). أفلا يرى القارئ أن إله المسلمين كان رحيما باليهود حتى بمقياسهم؟ فما الذي أنسى المستشرق البريطاني هذا وجعله أكثر ملكيةً من الملك؟ إنَّ واحدًا من اليهود على الأقل، هو «عمرو بن سعدي»، رفض أن يشاركهم في غدرهم الدنيء وقال: لا أغدر بمحمدٍ أبدًا(46). وهو موقف رجوليٌّ كريم، إذ إنه لم يشأ أن يغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين لم تُؤْثر عنهم غدرة ولو تافهة في حقِّ اليهود. ولكي يرى القارئ مبلغ دناءة القوم وغبائهم وجبنهم ساعة الجدِّ، وإن انتفشوا انتفاش الدِّيَكَة حين يتوهمون أنهم في مأمن، أذكرُ له أن أحدهم، وهو كعب بن أسد، حين فرغ لهم الرسول عليه السلام، بعد انفضاض الأحزاب من حول المدينة، وحاصرهم، عرض عليهم أن يسلِّموا أو على الأقل أن يكونوا رجالًا ويخرجوا على المسلمين مباغتة من داخل الحصن فيحاربوهم مواجهة، لكنهم رفضوا ذلك كله، فما كان منه إلا أن قال حانقًا: «ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا»(47). وهنا العجب كل العجب، بل هنا عبرة العبر يستخلصها الباحث الموضوعيُّ من الصراع بين الإسلام واليهود. تُرى لو كان اليهود مخلصين في التمسك بدينهم والكفر بمحمد، فلمَ لمْ يستعينوا بربهم كما كان «محمد» عليه الصلاة والسلام يستعين بربه ويواجهوا «محمدًا» مرة واحدة في حرب صريحة شريفة؟ لقد كان مشركو العرب، برغم وثنيتهم، أشرف منهم وأَرْجَل ألف مرة. أم ترى كان اليهود ينفذون أمر ربهم حين وضعوا أيديهم في أيدي الشرك والوثنية ليحاربوا محمدًا، الذي، حتى لو سلمنا بأنه رسول زائف، فهو على كلِّ حال يدعو إلى التوحيد ويؤمن بموسى وبقية أنبياء بني إسرائيل؟ أتراهم كانوا مصغين للصوت الخارج من أعماق ضمائرهم حين أكدوا لقريش أن وثنيتهم خيرٌ من دين «محمد» وأنهم أولى بالحق منه؟ (48) إن «إدمون باور» يدعي على الرسول الكريم أنه أكل اليهود لينقذ بأموالهم أتباعه من الفقر، وينكر أن يكون هناك دليل على خيانة بني قريظة(49). وهذا غير صحيح بالمرة، وإلا لاكتفى الرسول بإجلائهم ومصادرة أموالهم أو لأبقاهم في المدينة بعد أن يستصفي ممتلكاتهم لحساب أتباعه. أما بالنسبة للخيانة فإنهم أنفسهم لم يفكروا لحظة في إنكارها. ومن المضحك إذن أن يأتي مثل هذا المستشرق بعد تلك القرون المتطاولة ويتظاهر بأنه ملكيٌّ أكثر من الملك. وأما «ألفريد جيوم» فإنه يعزو ما فعله الرسول بهم إلى أنهم رفضوا الإيمان به وأخذوا يسخرون منه ويكثرون من مجادلته، وإلى أنهم كانوا متفوِّقين اقتصاديًّا. ثم أرجع عدم إيمانهم به إلى اعترافه بنبوة عيسى. والحقيقة أن الرسول لم يحاول قط أن يكرههم على ترك دينهم، كما أن نصَّ المعاهدة التي سلفت الإشارة إليها يؤكد حرية العقيدة الدينية(50). أما اليهود أنفسهم، فإنهم كانوا، قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، يهددون به الأوس والخزرج، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وبدينه وتراجعوا عما كانوا يقولون. ولا يمكن أن يكون هذا مجرد ادعاء من المسلمين، فإنه مسجل في القرآن الذي كان يتلى على اليهود ولم يحدث أن اعترضوا عليه(51). وهذا يبين لنا حقيقة موقفهم ودوافعهم، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم كان إذا لقي المسلمين أظهر الإسلام، فإذا خلا إلى أمثاله من اليهود قرَّعوه وطلبوا منه أن يخفي ما يعلمه من الحق(52)، كما أن بعضًا منهم كان ينتهج خطة جهنمية لتدمير ثقة المسلمين بدينهم، إذ كان يعلن إسلامه أول النهار، ولا يكاد النهار يولِّي حتى يعلن كفره(53)، أفهذا هو المقابل للحرية الدينية التي منحهم إياها الإسلام؟ أم هل هذه تصرفات أناس يعتقدون فعلًا أنهم على الحق؟ لقد كان باب الحِجاج أمامهم مفتوحًا، الحجاج العاقل لا الحجاج السفيه من مثل«إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء»، و«يد الله مغلولة»، و«لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة»، و«نحن أبناء الله وأحباؤه. . . » إلى آخر هذا الهراء الذي لا يخطر إلا في عقول الهازلين المخرفين. لكن لا عجب، فقد نزلوا في ذلك على طبيعة الغدر والنذالة المتأصلة فيهم. ومع هذا فقد آمن منهم بالإسلام صادقًا طائفة كان من بينهم بعض أحبارهم كـ«أُبَيِّ بن كعب»(54) و«مُخَيْريق» و«عبد الله بن سلام». أما بالنسبة إلى مسألة التفوق الاقتصادي، فإن أموال الغنائم لم تكن لتترك المسلمين بحاجة إلى ما في أيدي اليهود. ومعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان زاهدًا في المال، وليس من المعقول أن يخطط لقتل بني قريظة ليوزع بعد ذلك أموالهم على المسلمين الذين لم يكونوا حينئذٍ فقراء كما أوضحنا. ثم لو كانت الرغبة في الاستيلاء على أموال اليهود هي دافعه عليه السلام إلى قتلهم، فلم لم يقتل من قبل بني قينقاع أو بني النضير؟ وإذا قيل إن مشاعر الغيظ والكراهية عنده تجاه اليهود كانت تتصاعد وتشتد مع مرور الزمن، لقد كان الأحرى إذن أن ينكِّل بيهود خيبر، الذين حاربهم بعد بني قريظة، تنكيلا لا يغادر منهم كبيرًا ولا صغيرًا ولا رجلًا ولا امرأة. بيد أن عقوبته لهؤلاء اليهود كانت أخفُّ كثيرًا من عقوبات نظرائهم السابقين، بل أخف مما طلبوه هم أنفسهم(55). وانظر عدله واحترامه عليه السلام لإرادة اليهودي الذي كان له دَيْنٌ عند جابر بن عبد الله ورفض شفاعة النبي له، فأعطاه عليه السلام حتى أرضاه، وكيف أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي كان قد استدان منه طعامًا. ثمَّ إن الرسول لو كان طامعًا في ثروات اليهود لما أفلت أية فرصة يمكنه فيها أن يستولي على أموالهم، ومع ذلك فقد رأينا من قبلُ رفضه عليه السلام للغنم التي كان يرعاها خادم لليهود وأحضرها للرسول عند إسلامه أثناء حصار خيبر، فأمره بأن يعيدها إليهم. وإليك قصة أخرى تبين إنصافه وتحرُّجه عليه الصلاة والسلام من أخذ أي شئ منهم بغير حق: «أصيب عبد الله بن سهل بخيبر، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمرًا، فوُجِدَ في عينٍ قد كُسِرَت عنقه ثم طرح فيها، فأخذوه فغيبوه ثم قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكروا له شأنه، فتقدم إليه أخوه عبد الرحمن بن سهل، ومعه ابنا عمه حُويِّصة ومُحَيِّصة ابنا مسعود، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنًّا، وكان صاحب الدم، وكان ذا قدم في القوم. فلما تكلم قبل ابني عمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبِّر، كبِّر(أي دع من هو أكبر منك يتكلم. )فتكلم هو بعد، فذكروا لرسول الله قتل صاحبهم، فقال الرسول: أتسمُّون قاتلكم(أي هل تستطيعون أن تذكروا بالاسم أحدًا تتهمونه)ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم. قال: أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلًا ثم يبرأون من دمه؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود. ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم. فوداه(أي دفع ديته)رسول الله من عنده مائة ناقة(56). إن رسولًا يربي أتباعه على هذه التربية السامية التي تمنعهم من أن يحلفوا على قاتل لم يشاهدوه بأعينهم، رغم تأكدهم أن القاتل واحدًا من اليهود ورغم العداوة التي بين الفريقين وانعدام الثقة في اليهود ودينهم لدى المسلمين، لهو رجل جدير أن يعلو فوق الشكوك والاتهامات. وقد كان بمستطاع الرسول، لو أراد، أن يُلْزِم اليهود بدفع الدية تحت أي حجة، وليس بأضعفها أن القتيل قد وُجِدَ في إحدى عيونهم وأنه لم تكن بينه وبين أحدٍ آخر عداوة، وإلا لذكر ذلك للرسول أولياء دمه، ولكنه عليه السلام آثر أن يدفع الدية من ماله(57).
الشبهة الأولى: هل كان عليه الصلاة والسلام مخادعا كذابا؟
د. إبراهيم عوض
المصدر (http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=12559)
وُوجه الرسول عليه الصلاة والسلام من قبل كثير من الخلق من أول يوم دعا فيه علانية إلى الإسلام، ولا يزال حتى يومنا هذا يُوَاجَه، بالتكذيب. وقد سجل القرآن في أكثر من موضع هذا الاتهام الذي رماه به مشركو قومه وردده النصارى واليهود. أما بالنسبة لخارج المحيط العربي فيقرر «شارل لودي» أن حكم الرومان عليه كان شديد القسوة، إذ اتهموه بأنه استولى على أموال خديجة وماشيتها، ولما افتضح أنه مصاب بالصرع أراد أن يواسيها، فزعم لها أن جبريل ينزل عليه بالوحي من السماء(1). وإذ غضضنا الآن البصر عن تهمة الصرع (لأننا سنعالجها مع غيرها من الاتهامات التي تشكك في صحته الجسدية أو النفسية والعقلية في فصل لاحق) تتبقى أمامنا تهمة الكذب واضحة لا تحتمل لبسًا. وليس الكُتَّاب الرومانيون القدماء هم وحدهم من بين الغربيين الذين يرمون الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه التهمة، فإن طائفة كبيرة من المستشرقين، نصاراهم ويهودهم وعقلانييهم، يدعون أن القرآن هو اختراع محمدي نسبه «محمد» إلى الله (2)، وإن دفع بعضهم عن رسولنا هذه التهمة، كما فعل الكاتب البريطاني «توماس كارلايل» حين ساق ما زعمه «براديه» من أن القرآن طائفة من الأخاديع لفقها «محمد» ليسوِّغ ما اقترفه لبلوغ مطامعه (3). وقد بنى« كارلايل» دفاعه على أساس أن الإسلام لو كان دينا كاذبا لما استطاع أن يعيش طيلة هذه القرون تعتنقه كل هذه الملايين (4)، وكذلك على أساس أن محمدا لم يحاول، وهو في حرارة الشباب، أن يحدث ضجة جريا وراء الشهرة بل عاش مع زوجته عيشة هادئة (5)، أما «ألفريد جيوم» فإنه ينفي الكذب والادعاء عن الرسول، إذ يطبق عليه المقياس الذي يقاس به صدق النبي عند بني إسرائيل، وهو يتلخص في القول الثائر الملتهب، والشعر (6)، والإنشغال التام بالله والقضايا الأخلاقية، والشعور بأن ثمة ضغطا يسوقه سوقا لإعلان كلمة الله، فيجد أن هذه العلامات جميعها ظاهرة في حالة الرسول «محمد» عليه الصلاة والسلام. كما يرى في شكوكه عليه الصلاة والسلام في مصدر الوحي في أول الدعوة ومحاولته الانتحار دليلا قويا على صدقه، مقارنا إياه في هذا بالنبي أرميا(7). وبالمثل يؤكد «جب» أن محمدا كان مقتنعا تماما بأنه مبعوث من لدن رب العالمين(8).
وإلى جانب هذين الرأيين المتقابلين ثمة رأي ثالث يفرقُ بين الدعوة في مكة والدعوة في المدينة: ففي المرحلة الأولى كان «محمد» مخلصًا صادقًا: يتضح صدقه وإخلاصه في تحمسه الشديد، وتحمله المشاق، وإقناعه الأغنياء من أتباعه بالتواضع للفقراء والجلوس معهم. . . إلخ. أما في الثانية فقد أعماه نجاحه لدرجة أنه أخذ يخترع الوحي تلو الوحي لتحقيق شهواته وتسويغ انتهازيته. وهذا هو السبب، في نظر أصحاب هذا الرأي، في أن القرآن مليء بالمتناقضات والمزاعم الكاذبة(9).
والمقصود بالمزاعم الكاذبة هنا أن للرسول الحق في الاحتفاظ بأكثر من أربع زوجات، وأن «إبراهيم» هو الذي بنى الكعبة . . . إلخ. ومن أنصار هذا الرأي الكاتب الأمريكي الشهير «واشنجتن إرفنج»، الذي يرد على من اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بالزيف بأن النصف الأول من دعوته يكذب هذه التهمة، إذ ما الذي كان يبتغيه؟ أهو المال؟ لقد كان مال خديجة بين يديه، وهو من جهته لم يكن حريصا على الاستزادة منه. أهو الشرف إذن؟ لقد كان شريفًا في قومه، مُحترَما لذكائه وأمانته ومكانة أسرته، التي كان بيدها مقاليد الكعبة، فلِمَ يغامر بفقدان هذا كله في وقت كان يصعب عليه فيه بناء ثروته من جديد، وهو الذي فقد ماله كما فقد أصدقاؤه مالهم في سبيل الدعوة؟ ثم يمضي متسائلًا: لماذا يتحمل كل ألوان الاضطهاد إذن إذا كان نبيا زائفًا؟ (10)أما في المدينة فقد تغير، في نظر الكاتب الأمريكي، هذا كله، إذ بعد أن كان كل همه عليه الصلاة والسلام أن يجد من يحميه إذا به يرى أتباعه يقدسونه ويرى حوله جموعا بها رغبة إلى الحرب. عندئذ ثار طموحه الدنيوي وأصبح القرآن يسوغ له كل شيء، ووقع في كثير من المتناقضات.
باختصار: زال عنه صدقه وإخلاصه(11).
هذه هي النظرية الأولى التي حاول ومازال يحاول غير المسلمين تفسير ظاهرة الوحي القرآني بها. ولقد رد القرآن هذه التهمة عن الرسول وبين الباعث عليها، وذلك في الآية 33 من سورة «الأنعام» إذ يقول: {فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}. بيد أننا لن نلجأ هنا إلى مثل هذه الآية، وإلا كان هذا مصادرة منا على المطلوب، فإن علينا أولًا أن نتأكد بالدليل القاطع من أن القرآن ليس اختراعا محمديا، وإلا كان «محمد» هنا، وهو المتهم بالكذب والتلفيق، يشهد لنفسه، وهى شهادة بالطبع مردودة، بل سوف نلجأ في مناقشتنا لهذه النظرية إلى سيرة الرسول في مصادرها الأولى، متتبعين ملامح شخصيته عن كَثَب، غير ملقين بالًا، من أخبار حياته وأخلاقه، إلا لما لاح عليه نور الصدق بمنطق العقل المجرد. وسوف نحاول أن تكون الزوايا التي ننظر منها إلى شخصيته والموازين التي نقيس بها أعماله عليه الصلاة والسلام زوايا وموازين جديدة بقدر الإمكان حتى لا تتحول هذه الدراسة إلى مجرد مضغ لآراء من سبقونا من الكتاب والمفكرين، وإن لم نقصد بأي حال من الأحوال، في ذات الوقت، أن نغمطهم حقوقهم، فمن المؤكد أننا لولاهم ما كنا ببالغي شيء مما بلغناه في هذه الدراسة.
لقد اشتهر الرسول بين قومه بالصدق والأمانة حتى لقد لقبوه بالأمين، ولم أجد أحدا من المستشرقين شاح في هذا. والملاحظ أنه عليه الصلاة والسلام، حين أعلن دعوته لعشيرته الأقربين أول مرة، قد اعتمد على استفاضة هذه الشهرة فيهم فلم يشأ أن يفاجئهم بالدعوة إلى الدين الجديد قبل أن يحصل على اعترافهم الصريح بصدقه وأمانته، إذ سألهم وهو واقف فوق أحد المرتفعات المحيطة بمكة: "أرأيتم لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلًا (يقصد: خيلًا مغيرة عليهم) أكنتم مصدقيّ؟ » فردوا جميعا في نفس واحد: «نعم» عندئذ دعاهم إلى الإسلام. لكنهم، ولما تنفض ثوانٍ على إقرارهم بصدقه وأمانته، عادوا فسفهوا حِلمه وانفضوا عنه(12). وقد كان «أبو بكر» نسابة يعلم ماضي كل إنسان في قريش وأسرته وأخلاقه، فلو كان يعرف أقل مغمز في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ما دخل في الإسلام، فضلا عن أن يدخل فيه بدون ذرة من تردد(13).
وقد بلغ من ثقتهم به أنهم كانوا يأتمنونه على أموالهم وودائعهم حتى بعد البعثة واستحكام عداوتهم له. ولو كان المؤتمن أحدًا آخر غير «محمد» لكان خليقا أن يحمل معه هذه الودائع ليلة الهجرة بعد أن وصلت هذه العداوة حد التآمر الخسيس على قتله. لكنه، وهو الصادق الأمين بحق، لم يستحل لنفسه منها دانقا، بل خلف وراءه ابن عمه وربيبه عليا، وكان لا يزال صبيا، فنام في فراشه تضليلا لهم حتى أصبح الصباح فغدا عليهم فسلم لكل منهم ما كان ائتمن عليه «محمدًا» عليه الصلاة والسلام(14). وهذه الأمانة وهذا الصدق في التعامل مع الناس لم يزايلاه لحظة واحدة طول حياته لا في مكة ولا في المدينة، على عكس ما يزعمه هؤلاء المستشرقون من أن تيار الأحداث بعد الهجرة قد جرفه بعيدا عما كان يحرص على الاستمساك به من مثالية في مطالع الدعوة. ولنترك «ابن هشام» يرو عن «ابن إسحاق» بأسلوبه البسيط التلقائي القصة التالية: «قال ابن إسحاق: وكان من حديث الأسود الراعي، فيما بلغني، أنه أتى رسول صلى الله عليه وسلم وهو محاصر لبعض حصون خبير، ومعه غنم له كان فيها أجيرًا لرجل من يهود، فقال: يا رسول الله، اعرض علىّ الإسلام، فعرضه عليه، فأسلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحقر أحدا أن يدعوه إلى الإسلام ويعرضه عليه. فلما أسلم قال: يا رسول الله، إني كنت أجيرًا لصاحب هذه الغنم، وهى أمانة عندي، فكيف أصنع بها؟ قال: اضرب في وجوهها، فإنها سترجع إلى ربها، أو كما قال، فقال الأسود: فأخذ حفنة من الحصا فرمى بها في وجوهها وقال: ارجعي إلى صاحبك، فوالله لا أصحبك أبدا. فخرجت مجتمعة كأن سائقا يسوقها حتى دخلت الحصن، ثم تقدم إلى الحصن ليقاتل مع المسلمين فأصابه حجر فقتله . . . إلخ»(15). والشاهد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يلوث مسلم جديد إسلامه بمثل هذه الخيانة، مع العلم بأنه بعد انتصاره علي يهود خيبر قد حاز من أموالهم وأرضيهم وماشيتهم أضعافا أضعاف هذا القطيع من الغنم.
ولكن غنم الأموال في حرب شريفة شئ، واتخاذ الدخول في الإسلام تكأة لمثل هذا الاستيلاء الغادر عليها شيء آخر لا تقبله أخلاق الصادقين المطبوعين على الأمانة والوفاء حتى مع ألدَّ الأعداء.
وقد كان موقفه عليه الصلاة والسلام، حين نزل عليه الوحي أول مرة، دليلا من دلائل صدقه التي لا تقبل المماراة. لقد شك في مصدر هذا الوحي ورعب منه. وقصته حين عاد من الغار إلى بيته ليلا وهو يهتف: « دثروني. دثروني » أشهر من أن نحتاج إلى سوقها بالتفصيل(16). ووجه العبرة فيها، فيما نحن بصدده، أنه لو كان كاذبا في أمر جبريل والوحي لكانت له في ميدان الكذب مراغم واسعة يستطيع أن يصول فيها ويجول كيفما شاء. لقد كان الأحرى به، لو كان مزيفا دجالا، أن يدعي أن جبريل، بدلا من أن يغطه مرات ثلاثا حتى كادت روحه أن تزهق، قد أخذ بيده أخذا رفيقا حانيا، وسمر معه سمر الأصدقاء المتفاهمين بدلا من هذا الأمر الخاطف الجازم الذي لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يفهم كنهه ولا المقصود به: « اقرأ». كذلك كان الأحرى به عندئذ أن يعود إلى بيته مبتسما منشرح الصدر. أليس يزعم أنه قد نزل عليه وحي من عند رب العالمين؟ إذن فقد اصطفاه هذا الرب خليلا ورسولًا، وإذن فالنتيجة المنطقية لهذه الكذبة العريضة أن يشفعها بكذبة أخرى عريضة مثلها تبين كيف أن ربه تجلى له شخصيا، وكلمه مشافهة، وربت علي كتفه. . . إلى آخر هذا الهراء الذي هو بالكاذبين الدجالين أقمن، وبصدوره عن عقولهم ونفوسهم الملتوية أشبه(17).
إننا حين نسوق هذا الدليل لا نفعل ذلك لمجرد أننا مسلمون، فقد قمت بهذه الدراسة المضنية لتبرئة ضميري أمام نفسي وربي أولا وقبل كل شيء، لأني أحب أن أتثبت من كل ما أعتقد أنه حق على قدر ما تسع طاقتي العقلية والنفسية من بحث وتقص وتقليب للأمر على وجوهه المختلفة. ثم إننا قد رأينا «ألفريد جيوم»، وهو مستشرق بريطاني لا يؤمن بنبوة «محمد» عليه الصلاة والسلام، يعتمد هذا المقياس دليلا على صدقه ورغبته في التثبت من أن ما تجلى له في غار حراء إنما هو حق لا ريب فيه. وها هو ذا «واشنجتن إرفنج» أيضا يستخدم هذا المقياس ذاته دليلا على صدقه و أنه لم يشأ أن يستسلم من فوره لما كان يمكن، من باب الاحتمال العقلي المجرد، أن يكون ضربا من الوهم(18). ليس ذلك فحسب، فإن «مكسيم رودنسون»، وهو الشيوعي الذي لا يؤمن أصلا بقوى روحية ويرجع بكل شيء إلى البيئة المادية أو أثرها في النفس الإنسانية، لا يفوته أن يبرز هذه النقطة، إذ يعترف بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد شك طويلا قبل أن يطمئن إلى أن الذي يأتيه هو وحي من عند الله(19). وهذا الشك وهذه الرغبة في التثبت هما بدورهما دليل قوي لا يمكن رده على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يتطلع قبل الوحي إلي أن يكون رسولا، وذلك خلافا لما يدعيه بلا برهان بعض المستشرقين من أن حادثة نقل الحجر الأسود جعلته يعتقد أنه مدعوّ لحمل رسالة (20)، إذ فضلا عن أن أحدا منهم لم يورد من حياة الرسول ولا تصرفاته دليلا واحدا ولو متهافتا على ذلك، فإن استعانة قريش بمحمد، عن طريق المصادفة المحضة، في فض خصومتهم حول نقل الحجر الأسود، لا يمكن أن تستتبع منطقيا اعتقاده في كون ذلك نذيرا بأنه مدعو لحمل رسالة ما. إن عقل «محمد» لم يكن في يوم من الأيام بهذا التهافت ولا بهذه الفسولة في الربط بين المقدمات ونتائجها. ويتصل بهذا مسألة فتور الوحي بعد الدفقة الأولى إلى الدرجة التي وجدها قومه فرصة لإيذاء مشاعره مدّعين أن شيطانه قد هجره(21)، فينزل الوحي مطمئنًا الرسول إلى أن حب ربه له باق لم يتغير، مما يدل على أن أثر هذا الادعاء قد وجد إلى قلبه سبيلًا. ترى لو كان كاذبًا دجالًا فما الذي يجعله يتوقف عن ادعاء الوحي ولو باللغو الفارغ من القول أو بتدبيج المدائح الإلهية الملفقة في شخصه؟ ولو افترضنا أنه قد فاته هذا فَلِم يتأثر بمثل هذا الادعاء كما تشي بذلك سورة «الضحى» مادام يعلم من نفسه أنه كاذب وأن الأمر كله لا يعدو تلفيقًا في تلفيق؟ إن ما داخله من حزن بسبب تقوُّلات قريش عنه إنما هو حزن الصادقين. إن هذه السورة ليست دفاعًا عن «محمد» ولا مدحًا له ولا شتمًا لأعدائه، وإنما هي طمأنة له في جملة قصيرة: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى }«الضحى، آية 3»، وتذكير بنعمة الله عليه وأنه كان يتيمًا فآواه الله، ضالًا فهداه سبحانه . . . إلخ. وكيفما كان معنى الضلالة والهداية هنا فإن هذا الكلام هو آخر شيء يمكن أن يصدر عن كاذب محتال في مثل هذا الموقف. ثم بعد الطمأنينة والتذكير تأتي الأوامر الإلهية التي نحس فيها نبرة علوية لا يمكن أن تكون صادرة منه عليه السلام إلى نفسه. وعندما تتجلى مرحلة القلق الأولى بشكوكها وتوتُّراتها نجد «محمدًا» عليه الصلاة والسلام طيلة حياته قوي الإيمان بربه وبرسالته، عميق اليقين والاطمئنان لدرجة مذهلة. إنه برغم ألوان الأذى التي صُبَّت عليه وعلى أتباعه على قلتهم وغربتهم في بلدهم، وبرغم صنوف المؤامرات وتتالي الحروب التي فُرض عليه خوضها ضد جميع القوى في الجزيرة العربية وخارجها بعد هجرته إلى المدينة، فإنه عليه صلوات الله وسلامه لم يتزحزح قيد شعرة عن شيء من معتقداته. ثم إنه لو كان دجالًا مخادعًا فما الذي أجبره أن يبقى في مكة وحيدًا مع «أبي بكر» و«عليٍّ» حتى هاجر كل من أراد الهجرة؟ لماذا لم ينجُ بجلده أولًا؟ وليَنْجُ من يريد أن ينجو بعد ذلك؟ (22)
وإذا كان «إرفنج» قد جعل أحد ركائز اقتناعه بإخلاص الرسول وصدقه في المرحلة المكية تَحملُّه عليه السلام لألوان الاضطهاد المختلفة (23)، فإن مستشرقين آخرين يهوِّنون من مسألة الاضطهاد هذه ويقولون إنها قد بولغ فيها كثيرًا. وفي رأيهم أنه لو كان ثمة اضطهاد بهذه الدرجة لانتقمت للمسلمين قبائلهم جريًا على عادة العرب في تعصب كل قبيلة لأبنائها.
وهؤلاء المستشرقون ينسون أن هذا التعصب لم يمنع أبا لهب مثلًا وزوجته من إيذاء النبي والتحريض عليه، ولا «عمر» من البطش بأخته وزوجها، الذي كان هو أيضًا من أقربائه الأدنيين، وأين؟ في بيتهما. كذلك لم يمنع هذا التعصب قريشًا أن تقاطع بني هاشم وتحاصرهم في شعب أبي طالب أشهرًا عدة ثقالًا باهظات. أم هل ينبغي أن نكذب هذا كله ونكذب كذلك الحجارة التي رشقه بها، وهم يطاردونه، صبيان الطائف وعبيدهم وسفهاؤهم، ولا أحد من سادتهم يتدخل لمنعهم ولو من باب المجاملة الكاذبة؟ ثم هل ينبغي علينا أيضًا يا ترى أن ننبذ ما جاء في القرآن عن ائتمارهم به ليقتلوه عليه السلام؟ «الأنفال/30». لقد نسي هذا الفريق من الكُتّاب (24) أن القبيلة العربية كانت تخلع عنها من يخرج على تقاليدها وأعرافها. وأي خروج على هذه الأعراف والتقاليد أشنع في نظرهم من دين يسفه أحلامهم وأحلام آبائهم من قبلهم، ويسخر من أسلوب حياتهم وأصنامهم ومعتقداتهم التي ضربت بجذورها الحديدية في نفوسهم جيلًا بعد جيل؟ لقد بلغ من إصرار قريش على محاربة الإسلام وأتباعه أن تعقبتهم خارج حدود الجزيرة العربية حين تركوا لها الجمل بما حمل وفروا إلى الحبشة نجاة بحريتهم في الاعتقاد وبحياتهم وأولادهم، فأرسلت إلى النجاشي تحاول، عن طريق الهدايا والتملق والإيقاع بينه وبين هؤلاء المهاجرين المستضعفين، إقناعه بإرجاعهم إلى بلادهم. ولا أظن عاقلًا يتوهم ولو للحظة أن قريشًا كانت حريصة على استعادتهم لتفرغ عليهم حنانها وتذرف دموع الندم عند أقدامهم. ولولا أن النجاشي كان ملكًا عادلًا ومتعاطفًا مع هؤلاء المساكين لدرجة أنه دخل معهم في دينهم لعادوا كرة أخرى إلى التضييق والتعذيب. ومما يعطيك فكرة عن مدى خوف هؤلاء المهاجرين من قريش أنهم لم يرجعوا نهائيًّا إلى إخوانهم المسلمين إلا بعد أن هاجر هؤلاء إلى المدينة بعد سنين وأصبحت لهم دولة وشوكة(25).
أما في المدينة فكلنا يعرف أن حياة الرسول والمسلمين كانت كلها كفاحًا متصلًا ضد قوى الكفر والطغيان والنفاق سواء أكان ذلك في داخل المدينة أم خارجها، وفي نطاق الجزيرة العربية أم على تخومها مع الدولة البيزنطية. إن المستشرقين عادة ما يتهمون الرسول بالعدوان على الآخرين، ولكن وقائع التاريخ تكذب ذلك(26).
ترى لو كان الرسول كاذبًا فما الذي يضطره لتحمل كل هذا العناء والاضطهاد والاستهداف لعدوان قوى الشر وتآمرها عليه؟ إن آية صدقه أنه ظل وفيًا لعقيدته رغم هذه المحن المتلاحقة، سواء في حالة الضعف والتعرض للإيذاء أو في حالة القوة والمقدرة على رد العدوان، فلم يهن ولم يتبدل. ولو كان كاذبًا لنكّل عن هذا الطريق بعد قليل. ومع ذلك فإن المستشرقين يأبون إلا أن يتهموه في قوة إيمانه برسالته وبالوحدانية المطلقة التي هي محور هذا الرسالة، متشبثين في ذلك تشبثًا غريبًا برواية ضعيفة لا تثبت على محك النقد التاريخي أو المنطقي تزعم أنه عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام قد قدم لقومه بعض التنازلات المتعلقة بعقيدة الوحدانية بُغية كسبهم على صفه، وذلك بعد ما يئس من أن يتبعوا دينه على ما هو عليه من عداء للأصنام والوثنية، فأورد آيتين يمجد فيهما اللات والعزى ومناة ويعلن أنها مناط الشفاعة يوم القيامة. ويستبعد «ألفريد جيوم» أن تكون هذه الرواية مصنوعة، وإلا كان معنى ذلك أن المسلمين قد أرادوا الإساءة إلى الإسلام والرسول، وهو ما يستبعد العقل صدوره من المسلمين المخلصين كما يقول(27). أما«مكسيم رودنسون»فإنه يورد القصة بشيء من التفصيل بناء على بعض المرويات الإسلامية، ثم يعقب عليها بقوله إن القرشيين عندما سمعوا هذه الآية (يقصد هاتين الآيتين) سُروا سرورًا عظيمًا وسجدوا جميعًا مسلمين ومشركين(28).
وقبل أن نناقش هذه الآراء أحب ألا تفوتني الإشارة إلى أن بعض المستشرقين، مثل«كايتاني»، المستشرق الإيطالي، قد رفضوا قبول هذه الرواية(29)، وهو ما يأخذ به المسلمون بعامة، وبخاصة المعاصرون منهم : تقليديوهم وعقلانيوهم على السواء(30). والآن إلى مناقشة هذه الرواية. وأول شيء أفضل أن أتناوله هو ما ساقه «جيوم» مما ظنه حجة قاطعة على صحتها، إذ ما أدراه أن المسلمين المخلصين هم الذين وضعوا هذه القصة؟ إن ابن إسحاق بن خزيمة قد عزاها دون تردد إلى بعض الزنادقة(31)، علاوة على أنها لم ترد في «ابن هشام» ولا في أي من كتب الصحاح على هذا النحو. ومع ذلك فإني لن أعتمد على شيء من هذا. إنما سأعتمد على التحليل المنطقي لمضمون الرواية ذاتها وللملابسات التاريخية التي أحاطت بأحداثها، وهو منهجي العام في هذه الدراسة بل في كل ما أكتبه عادة. إننا لو أعدنا قراءة ما كتبه «رودنسون» في هذه المسألة فسنجد أن المسلمين والمشركين جميعًا لدى سماعهم هاتين الآيتين قد خروا على الأرض سجدًا بهجة وسرورًا. وإني في الحقيقة لا أدري كيف ولا لِمَ يسجد هؤلاء أو أولئك عند هاتين الآيتين: فأما المشركون فإني لم أقرأ قط أنهم كانوا يسجدون لأصنامهم. وإليك القرآن، وإليك «ابن هشام»، وقد تناول عبادة الأوثان في جزيرة العرب بالتفصيل، وإليك كذلك «ابن الكلبي»، الذي خص هذا الموضوع بكتاب مستقل وهو «الأصنام» وقلّب هذه المصادر كلها على مهل كما يحلو لك، فلن تجد أن مشركًا قد سجد لصنم. لقد كانوا يطوفون بالحجارة والأصنام والكعبة. وكانوا يبنون البيوت لهذه الأصنام ويعينون لها السدنة، ويهدون إليها، ويتقربون إليها بالذبائح، ويقسمون لها من أنعامهم وحرثهم، ويحجون إليها ويحلقون رؤوسهم عندها، ويتمسحون بها، ويجعلون ما حولها حمى، ويستقسمون لديها بالقداح، ويقسمون بها ويتسمون بعبد اللات وعبد مناة. . إلخ. ولكن لم يرد في أي منهم أنهم كانوا يسجدون لصنم أو وثن ولا حتى في الكعبة. فإذا كانوا لا يسجدون عندها فكيف سجدوا إذن عند مجرد سماعهم أسماء اللات والعزى ومناة في آية قرآنية؟ والمسلمون: ما الذي يجعلهم يسجدون عند ذكر هاتين الآيتين؟ إن هاتين الآيتين ليستا موضع سجدة، ومواضع السجدة في القرآن معروفة ولها قاعدتها التي لا تنطبق على هاتين الآيتين ولا على الآيات التي نزلت بعد ذلك، بناء على هذه الرواية لتنسخها. والعجيب أن «رودنسون»، الذي تحمس تحمسًا شديدًا لنقل هذه الرواية وما جاء فيها من أن القرشيين جميعًا، مسلمين ومشركين، قد سجدوا لدى سماعهم هاتين الآيتين، يعود بعد أقل من صفحة فيعزو رجوع «محمد» عليه السلام عن هذا التخاذل إلى تمرد المسلمين وحنقهم، وهو ما لم يحدث. فهل ثمة اضطراب في الرواية أشنع من ذلك؟ (32) هذا على الرواية كما عرضها «رودنسون»، أما الدكتور «هيكل»، فيقول إن الرسول بعد أن تلا الآيتين موضوع بحثنا مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها. هنالك سجد القوم جميعًا لم يتخلف منهم أحد، وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم(33). فالسجود إذن، على هذه الرواية، لم يقع إلا في آخر السورة، أي عند قوله تعالى: {فاسجدوا لله واعبدوا} لا عند سماع الحاضرين الآيتين المشار إليهما. وهو على هذا النحو مفهوم من المسلمين، أما من المشركين فكلا، إذ إنهم لم يتعودوا السجود لأصنامهم ولا لله، وليس يعقل أن ينقلبوا هذا الانقلاب الفجائي لمجرد أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام ذكر بعض أصنامهم بخير. على أن هذا ، برغم كل شئ، لا يهمني كثيرًا، بل المهم هو أن السورة كلها من أول آية فيها إلى الآية الأخيرة ترفض هاتين الآيتين بعنف كما يرفض الجسم عضوا غريبًا عنه لا يمكنه التفاعل معه. إن الدكتور هيكل يرد هاتين الآيتين لأن الآيات التي تتلوهما تجري هكذا: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}. وهي، كما ترى، تعيب هذه الأصنام، فكيف يتعاقب مدح وذم على هذا النحو؟ (34) والحقيقة أنه لا يُسْتَبْعَدُ أن يرد موردو هذه الرواية ومشايعوهم بأن هذه الآيات الثلاث إنما جاءت في موضع الآيتين المشار إليهما فنسختهما، ولم تكن موجودة منذ البداية(35). ومن ثم فإني لا أعول كثيرًا على التناقض بين الآيات المتعاقبة التي تتحدث عن اللات والعزى ومناة مدحًا وقدحًا قدر تعويلي على تحليل مضمون السورة كلها والجو النفسي الذي يخيم عليها من مفتتحها إلى مختتمها، وهو جو عداءٍ مستحكم بين الرسول وقومه: فالآيات (1-18) ترد على تكذيب قريش للنبي عليه الصلاة والسلام ورميهم إياه بالضلالة والغواية واتِّباع الهوى. وإن القارئ المتذوق ليلمح عنف الرد في قسمه سبحانه بـ{النجم إذا هوى}، الذي يشير في رأيي إلى تهديد القرآن لمشركي مكة بأنهم سيلاقون مصير النجوم حين تنخلع من مداراتها التي كانت مستقرة فيها على مدى الأحقاب المتطاولة وتهوى متبددة في الفضاء اللانهائي. كذلك يتبدى عنف الرد في التفصيل الذي تحدثت به الآيات عن تجلي الوحي للرسول، وفي تعدد الصفات التي وُصِفَ بها جبريل عليه السلام، وفي إعادة التأكيد على أن ما رآه «محمد» عليه الصلاة والسلام حين نزول الوحي عليه إنما هو حقٌّ لا مرية فيه. ولا يفوتَنَّ القارئ إشارةُ الآيات الأخيرة من هذه المجموعة(13 – 18)إلى حادثة المعراج، وهي الحادثة التي كذب بها أهل مكة تكذيبًا شديدًا. وإذا قفزنا فوق الآيات التي تتحدث عن الأصنام الثلاثة، فإننا سنجد أن الله عز وجلَّ ينفي أن يكون لملك من الملائكة أية شفاعة إلا بعد إذن الله ورضاه، ثم تعود الآيات فتتهكم بمن يؤنثون الملائكة بلا علم أو تثبت، وتأمر الرسول بالإعراض عنهم لتوليهم عن ذكر الله ولهاثهم وراء الحياة الدنيا(36). أما الآيات(33 – 58)، فإنها تتحدث عن أحد القرشيين المفتونين بثرواتهم والباخلين مع ذلك بها، وتقرعه تقريعا شديدا، مسفهةً اعتقاده المنحرف في الجزاء والمسئولية الأخلاقية، ومهددة إياه بمثل مصائر عاد وثمود وقوم نوح، ومعلنة بصوت مجلجل أن هذا ليس إلا نذيرًا من النذر الأولى وأن ساعة الغضب الإلهي والعقاب المزلزل قد دنت. ثم تنتهي السورة بالتعجب من تكذيب قريش للرسول وللقرآن وتصلُّب قلوبهم حتى إنهم ليضحكون ولا يبكون، وتأمرهم أمر تقريع وتهديدبأن{اسجدوا لله واعبدوا}. أيمكن أن يرد في مثل هذا السياق الفكري والنفسي آيات تمجد بعض آلهة قريش؟ إن ذلك هو المستحيل بعينه. ثم لو قبلنا جدلا أن هذا ممكن، فكيف فات قريشًا أن السورة جمعاء هي حملة عنيفة عليهم وعلى موقفهم من الدعوة الجديدة وتسفيه لعقولهم وتهديد جليٍّ لهم، وانخدعوا ببعض كلمات معسولة عن آلهتهم وسجدوا مع المسلمين؟ فهذه واحدة. والثانية أن الآيتين المزعومتين تجعلان الآلهة الثلاث مناطا للشفاعة يوم القيامة، وهو ما لم يسنده القرآن على هذا النحو لأي كائن مهما تكن منزلته عند الله. ولماذا نذهب بعيدًا وثمة آية في سورة «النجم» ذاتها لا يفصِلُها عن الآيتين المزعومتين إلا خمس آيات جدُّ قصيرة، نصها كالآتي: {وكم من مَلَكٍ في السموات لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى؟ }(النجم/26). فكيف يقال هذا عن الملائكة في ذات الوقت الذي تؤكد فيه إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة السالف ذكرها جديرة بالرجاء من غير تعليقٍ لها على إذن الله؟
أما النقطة الثالثة فهي أن الرسول عليه أفضل الصلوات والتسليم لم يكن من شيمته التردد حتى يقال إنه قد تذبذبت قدماه في منتصف الطريق وتراجع عن بعض مبادئه. إن صلابة استمساكه بدينه لهي مضرب المثل في صفاء اليقين والشجاعة المثلى. بل إنه لم يؤثر عنه مثل هذا التذبذب ولا في الحرب حيث يعيد الإنسان دائمًا حساباته. ولقد رأيناه (وقد لبس لأمَتَه ووافق على الخروج لملاقاة مشركي قريش خارج المدينة عندما عزموا على مهاجمتها في غزوة أحد، وكان يرى البقاء فيها والتحصن بداخلها)يرفض الرجوع حين أبدى الندم من خالفوه في التحصن داخل المدينة، قائلًا قولته الشهيرة: «ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل»(37)فما عدا إذن مما بدا؟ ومن قَبْلُ ترجَّاه عمه أبو طالب أكثر من مرة أن يخفف من موقفه تجاه الأصنام وعُبَّادها فرفض رفضا قاطعا وصاح قائلًا: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»(38). أفبعد أن عضده عمه كل هذه المدة، وبعد أن وقف معه بنو هاشم وبنو عبد المطلب مسلمُهم وكافرهم(إلا أبا لهب)وتحمَّلوا من أجله قسوة الحصار والمقاطعة في الشِّعب شهورًا عددا، يتراجع هو هذا التراجع المشين؟ ومتى؟ بعد أن أعزَّ الله الإسلام بدخول اثنين من صناديد مكة فيه: «عمر بن الخطاب» (39)وحمزة بن عبد المطلب، وأخذ يفشو بين القبائل. ثم ما الذي دفعه إلى هذا التنازل وقد أتاه عتبة بن ربيعة موفدا من زعماء قريش يعرض عليه، على طبق من ذهب، المال والرئاسة فرفض أن يجيبه، مكتفيًا بقراءة صدر سورة «السجدة»بآياته التي زلزلت قلب عتبة حتى لقد رجع إلى أصحابه بوجه غير الذي انصرف به عنهم؟ (40) إن الرسول لم يتساهل يوما في مسألة التوحيد، حتى ولا عندما كانت العرب تتهاوى أمام دعوة الإسلام قبيلة إثر قبيلة، واتضح تماما أن دين الله غالب لا شك في ذلك. لقد أعفى قوما من الالتزام بخمس صلوات كاملات، ولكنه لم يوافق ثقيفا على أن يبقي لها وثنها ولو شهرًا واحدًا يستطيع بعده أن يفعل به ما يشاء(41). إنه لم يشأ التدرج في هذه المسألة مع ما عُرِف عنه من أنه كان كثيرا ما يأخذ الناس به. فإذا كان لم يوافق على شئ من ذلك، وهو أقل ألف مرة من تمجيده بنفسه وفي قرآنه اللات والعزى ومناة واعترافه بأن شفاعتهن مرتجاة، وكان ذلك في أواخر حياته وتمكُّن سلطانه واطمئنانه إلى أنه لا ردة بعد ذلك إلى الوثنية، فكيف مالأَ الكفار على وثنيتهم وهو لا يزال في أول الطريق وكله حماسة ونار مشتعلة؟ ثم أيكون أتباعه يستمدون منه الثقة والإيمان والصبر على البلاء؟ لقد صمدوا في وجه المؤامرة التي دبرها لهم رسولا قريش عند النجاشي وبطارقته، إذ جئ بهم ليعرضوا على الملإ في البلاط الملكي دينهم وعقيدتهم في عيسى عليه السلام فلم يكتموا منها حرفا وهم الأغراب المشردون المحتاجون إلى تملق مشاعر مضيِّفيهم ولو عن طريق التعبير الروَّاغ عن رأي الإسلام في المسيح صلوات الله وسلامه عليه.
لقد ذكر ابن السائب الكلبي في الصفحة التاسعة عشرة من كتاب«الأصنام» أن قريشًا كانت تطوف بالكعبة وتقول: «واللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، فإنهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى»، وأنها كانت تعتقد أنهن بنات الله (عز وجل عن ذلك)، وأنهن يشفعن إليه، فلما بعث الله ورسوله، أنزل عليه: {أفرأيتم اللات والعزى*ومناة الثالثة الأخرى*ألكم الذكر وله الأنثى*تلك إذن قسمة ضيزى*إن هي إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان}. والحقيقة أن هذا هو الأشبه بأن يكون هو الصواب. ويبدو أن أحد الزنادقة قد أخذ هذه الرواية وحرفها، واضعًا كلام قريش في أصنامها على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام. ولنفترض أننا بعد هذا كله قد ضربنا عُرْضَ الحائط بكل هذا التحليل التاريخيّ والنصيّ، وقلنا إن هذه الآيات قد جرت فعلا على لسان الرسول، فهل يعني ذلك تذبذبا في إيمانه؟ أم هل الأحرى أن نفسها بأنها زلة لسان مما نقع فيه جميعًا كل يوم، وعذره أن هذه الكلمات المزعومة، من كثرة ما كان القرشيون يرددونها أمامه، قد علقت بذهنه فجرى بها لسانه في لحظة من لحظات السهو ولكنه سرعان ما تنبه لها فتراجع عنها قبل أن تلصق بدينه؟ أقول هذا برغم تفنيدي لها، وذلك قطعا للطريق على ذوي اللجاجة المكابرين. ولكي أخفف المسألة على ضمير المسلم أذكره بزلة اللسان التي وقع فيها أحد المؤمنين الأتقياء، وكانت قد ضلت ناقته كما جاء في الحديث الشريف، فلما وجدها انطلق لسانه ليشكر ربه، الذي ردها عليه، فإذا به من شدة الفرحة يضطرب قائلًا: «شكرا يا عبدي!أنا ربك»، والمقصود العكس طبعًا. وهي، لو حاسبناه على طريق المستشرقين، أفدح من زلة اللسان المفترضة في رواية الغرانيق.
فإذا انتقلنا إلى المرحلة المدنية، وهي التي يتهمه من يسلِّم من المستشرقين بصدقه وأمانته في النصف الأول من تاريخ الدعوة بأنه اطَّرح عن ضميره فيها مؤنة الصدق والأمانة، وجدنا أن أهم ما اتُّهم به صلى الله عليه وسلم به هو قسوته على اليهود، وعدم احترامه للمعاهدات التي عقدها مع المشركين، وتساهله(مرة أخرى، لاحِظْ)في قضية الوحدانية، إذ أبقى في فريضة الحج على بعض الشعائر الوثنية، ثم الانغماس في شهوات الجنس.
فأما بالنسبة لموقفه من اليهود، فقد أدخلهم عليه الصلاة والسلام في المعاهدة التي عقدها مع كل الأطراف الموجودة في المدينة آنذاك وسوَّى فيها بين الجميع، وألزمهم أن يكونوا يدًا واحدة على من يريدهم بشر. ولم تكن هذه التسوية، بالنسبة لليهود، مع غيرهم من سكان المدينة فقط، بل مست أيضًا علاقتهم بعضهم ببعض، إذ كانوا في الجاهلية، قبل أن يقدم عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، متعادين منقسمين يرى فريق منهم أن له فضلا وعلوًّا على إخوان الدين والوطن حتى في الديَّات، فأبطلت المعاهدة هذا كلَّه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبرهم على الدخول في الإسلام ، تبين لنا كيف أن ما ابتُلي به الرسول والمسلمون من قِبَلِ هؤلاء القوم من غدر كان سَخَفًا شديدًا فوق كونه خيانة لا تغتفر. ولقد كان الرسول رحيما مع بني النضير وبني قينقاع، فاكتفى بالعقوبات المالية إلى جانب الطرد، إلى أن جاء دور بني قريظة، وكانت جريمتهم هي الخيانة العظمى، إذ انقلبوا أثناء حرب الخندق على المسلمين برغم أُخُوَّة الوطن وبرغم المعاهدة الوثيقة التي كانت تربطهم بهم، يريدون أن يستأصلوا شأفتهم ويمحقونهم مع دينهم محقًا، مع أن هذه المعاهدة كانت توجب عليهم أن يحاربوا مع المسلمين(42)، فما الذي كان ينبغي على الرسول أن يفعله؟ هل كان عليه أن يربت على ظهورهم ويعتذر لهم عمَّا ارتكبوه من خيانة بشعة في حقه وحق دينه وحق المسلمين؟ إن أحد المستشرقين مثلًا يتعجب كيف أن دينًا يدعي أن إلهه هو الرحمن الرحيم يفعل ببني قريظة ما فعله الرسول(43). فمن الجدير إذن بأن يشعر تجاهه هذا المستشرق بالرثاء؟ إنهم المسلمون بكل تأكيد، الذي لو، لا قدر الله، استطاع اليهود تنفيذ خطتهم التي اشتركوا فيها مع قوى الشرك والوثنية من جميع أرجاء الجزيرة العربية وقضوا على المسلمين، ما رأينا من هذا الكاتب دمعة تُذْرَف، بل ابتسامة تشفٍّ وابتهاج. إنَّ المستشرقين يدَّعون دائمًا(كذِبًا) أنَّ التوحيد عند اليهود أظهَرُ منه في الإسلام وأصفى(44). أتعرف ماذا كان اليهود فاعليه بموجب حكم التوراة(التي أوحاها إلى نبيِّهِم إلهُهُم الذي يوحِّدونه، على هذا الزعم، خيرًا مما يوحِّدُ المسلمون ربَّ العالمين)لو أنهم هم الذين انتصروا وفتحوا بلاد المسلمين؟ تقول التوراة: «حين قرب من مدينة لكي تحاربها، استدعها إلى الصلح، فإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها، وإذا دفعها الربُّ إلهك إلى يديك، فاضرب جميع ذكورها بحدِّ السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وكلُّ ما في المدينة، كل غنيمتها، فاغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الربُّ إلهك. وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا». وهو ما لا ينطبق على المسلمين، لأنهم لم يكونوا بالنسبة لليهود، الذين يجاورونهم في نفس المدينة، من الأمم البعيدة، بل ينطبق عليهم الآتي: «وأما هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا، فلا تستبقِ منهم نسمة ما»(45). أفلا يرى القارئ أن إله المسلمين كان رحيما باليهود حتى بمقياسهم؟ فما الذي أنسى المستشرق البريطاني هذا وجعله أكثر ملكيةً من الملك؟ إنَّ واحدًا من اليهود على الأقل، هو «عمرو بن سعدي»، رفض أن يشاركهم في غدرهم الدنيء وقال: لا أغدر بمحمدٍ أبدًا(46). وهو موقف رجوليٌّ كريم، إذ إنه لم يشأ أن يغدر بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين لم تُؤْثر عنهم غدرة ولو تافهة في حقِّ اليهود. ولكي يرى القارئ مبلغ دناءة القوم وغبائهم وجبنهم ساعة الجدِّ، وإن انتفشوا انتفاش الدِّيَكَة حين يتوهمون أنهم في مأمن، أذكرُ له أن أحدهم، وهو كعب بن أسد، حين فرغ لهم الرسول عليه السلام، بعد انفضاض الأحزاب من حول المدينة، وحاصرهم، عرض عليهم أن يسلِّموا أو على الأقل أن يكونوا رجالًا ويخرجوا على المسلمين مباغتة من داخل الحصن فيحاربوهم مواجهة، لكنهم رفضوا ذلك كله، فما كان منه إلا أن قال حانقًا: «ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازمًا»(47). وهنا العجب كل العجب، بل هنا عبرة العبر يستخلصها الباحث الموضوعيُّ من الصراع بين الإسلام واليهود. تُرى لو كان اليهود مخلصين في التمسك بدينهم والكفر بمحمد، فلمَ لمْ يستعينوا بربهم كما كان «محمد» عليه الصلاة والسلام يستعين بربه ويواجهوا «محمدًا» مرة واحدة في حرب صريحة شريفة؟ لقد كان مشركو العرب، برغم وثنيتهم، أشرف منهم وأَرْجَل ألف مرة. أم ترى كان اليهود ينفذون أمر ربهم حين وضعوا أيديهم في أيدي الشرك والوثنية ليحاربوا محمدًا، الذي، حتى لو سلمنا بأنه رسول زائف، فهو على كلِّ حال يدعو إلى التوحيد ويؤمن بموسى وبقية أنبياء بني إسرائيل؟ أتراهم كانوا مصغين للصوت الخارج من أعماق ضمائرهم حين أكدوا لقريش أن وثنيتهم خيرٌ من دين «محمد» وأنهم أولى بالحق منه؟ (48) إن «إدمون باور» يدعي على الرسول الكريم أنه أكل اليهود لينقذ بأموالهم أتباعه من الفقر، وينكر أن يكون هناك دليل على خيانة بني قريظة(49). وهذا غير صحيح بالمرة، وإلا لاكتفى الرسول بإجلائهم ومصادرة أموالهم أو لأبقاهم في المدينة بعد أن يستصفي ممتلكاتهم لحساب أتباعه. أما بالنسبة للخيانة فإنهم أنفسهم لم يفكروا لحظة في إنكارها. ومن المضحك إذن أن يأتي مثل هذا المستشرق بعد تلك القرون المتطاولة ويتظاهر بأنه ملكيٌّ أكثر من الملك. وأما «ألفريد جيوم» فإنه يعزو ما فعله الرسول بهم إلى أنهم رفضوا الإيمان به وأخذوا يسخرون منه ويكثرون من مجادلته، وإلى أنهم كانوا متفوِّقين اقتصاديًّا. ثم أرجع عدم إيمانهم به إلى اعترافه بنبوة عيسى. والحقيقة أن الرسول لم يحاول قط أن يكرههم على ترك دينهم، كما أن نصَّ المعاهدة التي سلفت الإشارة إليها يؤكد حرية العقيدة الدينية(50). أما اليهود أنفسهم، فإنهم كانوا، قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، يهددون به الأوس والخزرج، فلما بعثه الله من العرب، كفروا به وبدينه وتراجعوا عما كانوا يقولون. ولا يمكن أن يكون هذا مجرد ادعاء من المسلمين، فإنه مسجل في القرآن الذي كان يتلى على اليهود ولم يحدث أن اعترضوا عليه(51). وهذا يبين لنا حقيقة موقفهم ودوافعهم، وبخاصة إذا علمنا أن بعضهم كان إذا لقي المسلمين أظهر الإسلام، فإذا خلا إلى أمثاله من اليهود قرَّعوه وطلبوا منه أن يخفي ما يعلمه من الحق(52)، كما أن بعضًا منهم كان ينتهج خطة جهنمية لتدمير ثقة المسلمين بدينهم، إذ كان يعلن إسلامه أول النهار، ولا يكاد النهار يولِّي حتى يعلن كفره(53)، أفهذا هو المقابل للحرية الدينية التي منحهم إياها الإسلام؟ أم هل هذه تصرفات أناس يعتقدون فعلًا أنهم على الحق؟ لقد كان باب الحِجاج أمامهم مفتوحًا، الحجاج العاقل لا الحجاج السفيه من مثل«إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء»، و«يد الله مغلولة»، و«لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة»، و«نحن أبناء الله وأحباؤه. . . » إلى آخر هذا الهراء الذي لا يخطر إلا في عقول الهازلين المخرفين. لكن لا عجب، فقد نزلوا في ذلك على طبيعة الغدر والنذالة المتأصلة فيهم. ومع هذا فقد آمن منهم بالإسلام صادقًا طائفة كان من بينهم بعض أحبارهم كـ«أُبَيِّ بن كعب»(54) و«مُخَيْريق» و«عبد الله بن سلام». أما بالنسبة إلى مسألة التفوق الاقتصادي، فإن أموال الغنائم لم تكن لتترك المسلمين بحاجة إلى ما في أيدي اليهود. ومعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان زاهدًا في المال، وليس من المعقول أن يخطط لقتل بني قريظة ليوزع بعد ذلك أموالهم على المسلمين الذين لم يكونوا حينئذٍ فقراء كما أوضحنا. ثم لو كانت الرغبة في الاستيلاء على أموال اليهود هي دافعه عليه السلام إلى قتلهم، فلم لم يقتل من قبل بني قينقاع أو بني النضير؟ وإذا قيل إن مشاعر الغيظ والكراهية عنده تجاه اليهود كانت تتصاعد وتشتد مع مرور الزمن، لقد كان الأحرى إذن أن ينكِّل بيهود خيبر، الذين حاربهم بعد بني قريظة، تنكيلا لا يغادر منهم كبيرًا ولا صغيرًا ولا رجلًا ولا امرأة. بيد أن عقوبته لهؤلاء اليهود كانت أخفُّ كثيرًا من عقوبات نظرائهم السابقين، بل أخف مما طلبوه هم أنفسهم(55). وانظر عدله واحترامه عليه السلام لإرادة اليهودي الذي كان له دَيْنٌ عند جابر بن عبد الله ورفض شفاعة النبي له، فأعطاه عليه السلام حتى أرضاه، وكيف أنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي كان قد استدان منه طعامًا. ثمَّ إن الرسول لو كان طامعًا في ثروات اليهود لما أفلت أية فرصة يمكنه فيها أن يستولي على أموالهم، ومع ذلك فقد رأينا من قبلُ رفضه عليه السلام للغنم التي كان يرعاها خادم لليهود وأحضرها للرسول عند إسلامه أثناء حصار خيبر، فأمره بأن يعيدها إليهم. وإليك قصة أخرى تبين إنصافه وتحرُّجه عليه الصلاة والسلام من أخذ أي شئ منهم بغير حق: «أصيب عبد الله بن سهل بخيبر، وكان خرج إليها في أصحاب له يمتار منها تمرًا، فوُجِدَ في عينٍ قد كُسِرَت عنقه ثم طرح فيها، فأخذوه فغيبوه ثم قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فذكروا له شأنه، فتقدم إليه أخوه عبد الرحمن بن سهل، ومعه ابنا عمه حُويِّصة ومُحَيِّصة ابنا مسعود، وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنًّا، وكان صاحب الدم، وكان ذا قدم في القوم. فلما تكلم قبل ابني عمه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبِّر، كبِّر(أي دع من هو أكبر منك يتكلم. )فتكلم هو بعد، فذكروا لرسول الله قتل صاحبهم، فقال الرسول: أتسمُّون قاتلكم(أي هل تستطيعون أن تذكروا بالاسم أحدًا تتهمونه)ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلمه إليكم؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنحلف على ما لا نعلم. قال: أفيحلفون بالله خمسين يمينا ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلًا ثم يبرأون من دمه؟ قالوا: يا رسول الله، ما كنا لنقبل أيمان يهود. ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم. فوداه(أي دفع ديته)رسول الله من عنده مائة ناقة(56). إن رسولًا يربي أتباعه على هذه التربية السامية التي تمنعهم من أن يحلفوا على قاتل لم يشاهدوه بأعينهم، رغم تأكدهم أن القاتل واحدًا من اليهود ورغم العداوة التي بين الفريقين وانعدام الثقة في اليهود ودينهم لدى المسلمين، لهو رجل جدير أن يعلو فوق الشكوك والاتهامات. وقد كان بمستطاع الرسول، لو أراد، أن يُلْزِم اليهود بدفع الدية تحت أي حجة، وليس بأضعفها أن القتيل قد وُجِدَ في إحدى عيونهم وأنه لم تكن بينه وبين أحدٍ آخر عداوة، وإلا لذكر ذلك للرسول أولياء دمه، ولكنه عليه السلام آثر أن يدفع الدية من ماله(57).