المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الدكتور الطيب بوعزة: تدنيس الدين انحطاط فلسفي.



فخر الدين المناظر
11-23-2008, 03:00 PM
هذا حوار أجراه الصحفي بلال التليدي مع الدكتور المغربي المفكر الطيب بوعزة حفظه الله، المعروف بالتصدي للفلسفات اللادينة والإلحادية والعلمانية، أنقله لنفاسته :

هناك مقولة شهيرة منسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارك تدلل على أهمية الاعتقاد والدين بالنسبة للإنسان على مر التاريخ تقول: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور.. ومدن بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد"، كذلك يقول موريس بلوندل: "ليس هناك ملحدون بمعنى الكلمة". وربما تمثل تلك المقولة الفلسفية مدخلا ملائما لفهم وتحليل ظاهرة الاعتداء المتكرر على الرموز الدينية وخاصة الإسلامية والتي أصبحت ظاهرة مقلقة في هذه الفترة، بعد اعتداء صحيفة دانماركية على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؛ وحادثة تكرار النشر في أكثر من صحيفة أوربية والتذرع بحرية التعبير التي تكفلها القوانين الأوربية كانت مدعاة للكثير من الأسئلة الملحة في محاولة الفهم والتحليل ومن ثم الإجابة.

فلماذا حدث ما حدث؟ ولماذا هذا الاستهتار بمشاعر أكثر من مليار مسلم؟ هذه الأسئلة على بساطتها الظاهرية يحاول المفكر المغربي الدكتور الطيب بوعزة أن يقدم تحليلا عميقا لها وذلك من الجذور الغربية وثقافته التي شكلتها فلسفته في محاولة فهم أعم وأشمل لفهم ظاهرة الاعتداء على المقدس وتدنيسه. وأكد أن السؤال الديني هو أكبر وأوسع وأعمق من أن يجاب من قبل الحقل المعرفي العلمي، وهذا السؤال عن الوجود يطرحه الطفل كما يطرحه الفيلسوف الكبير، ومن ثم فالأمر يتعلق بجوهر الإنسان وتركيبته.

ويرى بوعزة أن الاعتداء على الدين تاريخيا لم يكن إلا في حالات انحطاط الوعي الفلسفي، والحملة التي نراها اليوم على الإسلام والرسول هي أحقر من أن توصف بأن لها مرجعية فلسفية تصدر عنها. إنما هي انفعال سياسي رخيص تغذيه الكتابات والخطابات اليمينية المتداولة في الغرب.

ويشكك بوعزة في فكرة حرية التعبير كما يظهرها الغرب ويدعي امتلاكها وممارسته لها؛ فالشعارات التي يرفعها الغرب تحمل قدرا كبيرا من الزيف والتوظيف الأيديولوجي الرخيص.

كما يرى خلف كل المقاربات الفلسفية الغربية التي تدنس الدين، ومنه الإسلامي، سببا ثقافيا يرجع إلى إفلاس التجربة الدينية الغربية؛ وما نزوعات الفلسفة المعاصرة نحو اللاعقلانية إلا إفلاسا للوعي الأوربي ودليلا على عجزه عن تعويض الفراغ الاعتقادي الذي خلفه نقد الدين وتدنيس المقدس في الثقافة الأوربية. وفيما يلي نص الحوار


المدخل السياسي وزيف حرية التعبير

* أستاذ الطيب، لاحظنا في الفترة الأخيرة تصاعد حملة الاعتداء على رموز الدين الإسلامي في الغرب: الحجاب في فرنسا، وتدنيس المصحف الكريم في جوانتانامو، والآن الرسول الكريم، بوصفكم أحد المتخصصين في الفلسفة الغربية الحديثة، ما هي الأسباب التي يمكن أن نرجع إليها تصاعد هذه الظاهرة؟.

- يمكن تفسير هذا النوع من الأحداث من مدخل سياسي، فنرى خلفها عوامل وظروفا أهمها احتدام الصراع بين العالم الإسلامي والقوى الغربية، هذا الصراع الذي اشتد منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تزايدت حملات التنظير للإسلام بوصفه العدو الأول للحضارة الغربية، سواء في كتابات: "صمويل هنتجتون" أو "فوكوياما" أو "نيكسون"... لكن في هذه الأحداث الأخيرة، لا أظن أن وراءها على نحو مباشر موقف فلسفي. فالموقف الفلسفي الغربي هو موقف تجاه سؤال الدين عامة، وعندما يخص دينا بالنقد فغالبا ما يخص الدين المسيحي. أما الحملة التي نراها اليوم فهي أحقر من أن توصف بأن لها مرجعية فلسفية تصدر عنها. إنما هو انفعال سياسي رخيص تغذيه الكتابات والخطابات اليمينية المتداولة في الغرب.

* بالرجوع إلى جريدة "فرانس سوار" التي أعادت نشر الصور المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم نلاحظ أنهم يدافعون على تهجمهم على النبي بذريعة الحرية.. فإلى أي حد يمكن أن يكون لهذه الذريعة قيمة؟.

أولا: ليس في هذه الصور أي مصداقية معرفية تجيز أن ندرجها تحت مسمى الحرية الفكرية. فمرحبا بالنقد المعرفي للإسلام -إن استطاعوا إنجازه أصلا- أما هذا النوع من الحملات الكاريكاتورية فهو مجرد هجاء رخيص يليق به أن يُدرج تحت مسمى السب لا مسمى التفكير.

ثم ثانيا: ليس لديهم أي حق في تناول معتقدات ملايين الناس بالسب والسخرية. أما مقولة الحرية الفكرية، فأنا أرد عليهم بسؤال هل هي بالفعل عندكم؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، بدليل أنهم لا يستطيعون باسم حرية الفكر أن يضعوا مثلا أسطورة اضطهاد اليهود محل البحث العلمي التاريخي الجاد. فعندما يصل الأمر في فرنسا إلى اغتيال المؤرخ الفرنسي "فرنسوا دوبرا" لأنه نشر كتابا لباحث أسترالي شكك في رقم ستة ملايين يهودي المزعوم هلاكهم على يد الألمان، فذاك يكشف عن حقيقة مناخ الحرية الفكرية في الغرب.

وعندما يصل الأمر بالمؤسسات العلمية أن تقدم على تجريد من حصلوا على درجات الدكتوراة لمجرد تشكيكهم في هذه الأرقام، مثل "هنري روك" الذي جرد من لقب الدكتوراة التي حصل عليها بتقدير جيد جدا، وذلك بسبب انتقاده لتقرير جيرشتاين، ومثل تجريد القاضي فلهم ستاجليتش في ألمانيا من لقب الدكتوراة في القانون إثر نشره لكتابه "أسطورة أوشفيتز"... وغير هذا وذاك من الحوادث دليل واضح على أن شعار حرية البحث العلمي في الغرب شعار يحمل مقدارا غير قليل من الزيف والتوظيف الأيديولوجي الرخيص.


الخلفية الفلسفية للاعتداء على المقدس

* أستاذ الطيب، أريد أن أنتقل من هذا الحدث الآني إلى بحث الخلفية الفلسفية للاعتداء على الدين والمقدس في الثقافة الغربية، فما هي اللحظة التاريخية التي يمكن أن نرى فيها المرحلة المركزية في العداء للدين في الغرب؟.

اللحظة الكبرى هي القرن الثامن عشر، فهذا القرن هو أهم لحظة شهدت حملة فكرية مناهضة للدين في الثقافة الأوربية. وهنا لدي ملاحظة فيما يخص تاريخ الفلسفة عامة، وهي أن الاعتداء على الدين فلسفيا لا يكون إلا في لحظات انخفاض وانحطاط الوعي الفلسفي. فبالرجوع إلى تاريخ الفلسفة الغربية منذ لحظتها الإغريقية نرى أن ظهور الفكر الإلحادي المناهض للدين كان في لحظات تراجع الفلسفة وانحطاطها لا لحظات تطورها وازدهارها.

فلحظة سقراط وأفلاطون وأرسطو -التي هي حسب غالبية المؤرخين والفلاسفة- لحظة سمو الوعي الفلسفي اليوناني، هي لحظة إيمان واعتقاد، وإذا أردنا أن نقف على لحظات استعداء الدين فيجب أن ننتقل إلى لحظة خريف الفلسفة الإغريقية، أقصد لحظة أبيقور صاحب الأسئلة الإلحادية الشهيرة المرتكزة على إشكالية وجود الشر في العالم.

كذلك الشأن فيما يخص تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، فالقرن السابع عشر قرن عملاق في صيرورة تطور الفكر الفلسفي الأوربي، قرن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولايبنز... وهم فلاسفة مؤمنون ومعتقدون، بل حتى سبينوزا الذي كان حلوليا فهو في نزوعه الفكري والفلسفي يتسم بنزوع اعتقادي ديني عميق.

وهنا أعود إلى ما قلته لك في البداية، وهو أن لحظة القرن الثامن عشر هي الأكثر استعداء للدين في فلسفة الغرب، وعند بحث المحصول الفلسفي لهذا القرن سنلاحظ أنه قرن قزم، وعطاؤه الفلسفي لا يستحق الذكر؛ فإذا استثنيت إيمانويل كانط -وهو كما هو معلوم فيلسوف مؤمن بل شديد التدين رغم أن فلسفته ستوظف لاحقا لدعم النزعات التشكيكية والإلحادية- لا تجد في هذا القرن أي قامة فلسفية تستحق التنويه، ففولتير وروسو ومونتيسكيو... هم أدباء متفلسفون لا فلاسفة بحصر المعنى. فلو عايرت كتبهم بمعيار الصناعة الفلسفية فلن تجد فيها ما يستحق التنويه، والإسهام المعرفي لهؤلاء الأدباء المتفلسفة كان إسهاما في الفلسفة السياسية، خاصة في نظرية العقد الاجتماعي وفصل السلطات. أما الصناعة الفلسفية الثقيلة، كالمنطق ونظرية المعرفة والرؤى الأنطلوجية (رؤى الوجود) فلا نجد لديهم إلا رؤى مكررة.

* أستاذ الطيب ذكرت إيمانويل كانط، دعني أقف معك عند هذا الفيلسوف، أليست الرؤية النقدية التي جاء بها في كتابه "نقد العقل الخالص" كانت دعامة للفكر المعادي للدين؟.

- ما ذكرته صحيح، ففلسفة كانط سيتم توظيفها بشكل كبير في الفلسفة الإلحادية الناقدة للاعتقاد الديني لاحقا. ويقوم هذا على كتابه الذي تفضلت بذكره "نقد العقل الخالص"، حيث نجد نقدا لقدرات العقل؛ فإذا كان ديكارت قد انطلق من جبر فييت viete فانتهى إلى التوسيع من حقل اشتغال العقل، فإن كانط سينطلق من نموذج علمي آخر هو فيزياء نيوتن الحذرة من الميتافيزيقا فخلص إلى الحد من مجال العقل، وتعيين الحقل الذي بإمكانه أن يشتغل فيه ويثمر نتائج صائبة تنأى عن النقائض الجدالية.

ولذا فبينما يؤشر العقل عند ديكارت على لحظة انطلاق وتوسع، فإنه عند كانط يؤشر على لحظة انكماش وتراجع. حيث سيميز كانط بين الظاهرة (الفينومين) والشيء في ذاته (النومين)، منتهيا إلى أن العقل البشري محصور في قدرته المعرفية على عالم الظاهر، ولا يمكن أن يبحث في مجال الشيء في ذاته (الميتافيزيقا).

هذه الفكرة ستستثمرها لاحقا الفلسفات الناقدة للدين، حيث سترتكز على كانط، وتوظفه على نحو مغاير لمقصوده هو نفسه؛ إذ يجب ألا ننسى أن كانط في القسم الخاص من كتابه "نقد العقل الخالص" والذي عنونه بـ"الجدل المتعالي (الترنسندنتالي)" نجده يقف متسائلا عن سبب نزوع العقل البشري إلى تجاوز عالم الحس والتجربة، مذكرا بأفلاطون الذي وقف كثيرا عند نزوع العقل إلى التدين والتفكير فيما وراء العالم الحسي.

فكانط في هذا الفصل يعترف بأن هذه المجاوزة ذات حافز طبيعي يوجد داخل كينونة العقل، وليست مجرد افتعال أو سلوك من الترف الذهني، كما أنه إذا كان كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" يرى أن العقل البشري عاجز عن إنتاج حقيقة فيما وراء عالم الحس، منتهيا إلى الاستحالة العقلية لتأسيس معرفي للميتافيزيقا، فإنه سيعود في كتابه "نقد العقل العملي" إلى تأسيس الدين والميتافيزيقا على أساس أخلاقي لا أساس استدلالي معرفي.

لكن رغم ذلك فإن الفكر الناقد للدين سيستثمر نصف كانط، غافلا عن فلسفته في نسقيتها وشموليتها، أي غافلا عن النصف الآخر من فلسفته.


لماذا تدين الإنسان؟

* أستاذ الطيب، من بين هذه الفلسفات المعادية للدين، والتي استثمرت كانط فلسفة أوجست كونت، كيف تقيم هذا التحول نحو الوضعية في الفكر الفلسفي الغربي؟ وما هي حقيقة رؤية كونت للمسألة الدينية؟.

- معالجة المسألة الدينية في فكر كونت تقتضي الابتداء أولا برؤيته إلى العلم ودلالته، إذ إن معالجة إشكالية الدين ترتكز عنده على رؤيته لطبيعة المنهج والفكر العلميين. ومفهوم العلم عند أوجست كونت يندرج ضمن تصور معرفي عام، يتمثل في قراءته لمجمل التطور الفكري البشري، حيث يحتل العلم عنده موقع التتويج في السياق العام لهذا التطور، ويتحدد باعتباره مؤشرا على نضج البشرية، واكتمال نموها العقلي، وذلك بفعل تطورها وانتقالها من المرحلة اللاهوتية، حيث كان التفكير يفسر ظواهر الطبيعة بعوامل ما ورائية مفارقة للمعطى الطبيعي، إلى المرحلة الميتافيزيقية، حيث صار التفكير في لحظة مراهقته يفسر ظواهر الطبيعة تفسيرا ماهويا فلسفيا، حيث يدرس العلاقات السببية الرابطة بين الظواهر دراسة علمية، تخلص به إلى بناء قوانين منسوجة في لغة علمية.

فالسؤال الذي يسود اللحظة الوضعية حسب كونت هو سؤال الكيف، لا سؤال "لماذا". وهنا لا بد من التذكير أن الوعي الأوربي في لحظة أوجست كونت (القرن التاسع عشر) كان محكوما بهاجس تجاوز نمطي الفكر الديني والفلسفي على حد سواء، وذلك لإحلال النموذج العلمي التجريبي، وجعله مهيمنا على جميع حقول المعرفة.

ولم يتحقق حلم أوجست كونت لأن موقفه يناقض حقيقة الكائن الإنساني وفطرته الدينية. فمن الملاحظات التي استوقفت علماء الأنثربولوجيا وكذا دارسي تاريخ الأديان هي أن الاعتقاد الديني أمر لصيق بالكائن الإنساني. وهذا ما تجسده المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور.. ومدن بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد".

* فأمام استقراء واقع الحضارات وأنساقها الثقافية لوحظ هذا الحضور الدائم للتدين بطقسه ومفاهيمه، الأمر الذي دفع البعض إلى التساؤل: لماذا تدين الإنسان؟ ما سبب هذا التلازم بين وجود الإنسان والتدين؟.

- لذا أقول إن تعليل ظاهرة الاعتقاد الديني عند كونت تعليل أراه قاصرا، لأنه جعل -في بعض كتاباته- وجود هذا الاعتقاد مشروطا بمرحلة، بينما هو مسألة محورية في التفكير والوجدان الإنساني.

فالكائن البشري كائن متسائل، يستفهم عن سبب وجوده وكينونته وسبب وجود هذا الكون من حوله. وهو استفهام فطري نجده لصيقا بالإنسان كيفما كان مستواه المعرفي.

فأسئلة أصل الوجود الكبرى مثلما يطرحها الفيلسوف يطرحها الطفل الصغير أيضا، الأمر الذي يؤكد أنها لصيقة بالطبيعة الإنسانية ولا يمكن تخطيها وتجاوزها.

إنها ليست لحظات تطور للوعي البشري بل هي أبعاد ثاوية في الوعي الإنساني ومحددة لطبيعته. فالنزوع الديني ليس ناتجا عن نقص في فهم الكون حتى يتم تخطيه بتحصيل الفهم العلمي الوضعي، بل إن السؤال الديني هو أكبر وأوسع وأعمق من أن يجاب من قبل الحقل المعرفي العلمي.


السؤال الديني عميق

ما تقصد بقولك: إن السؤال الديني أعمق من أن يجاب عليه من طرف العلم؟.

- السؤال الديني من الناحية الأبستمولوجية لا يمكن نفيه من مدخل المعالجة العلمية التجريبية، لأن سؤال العلم هو سؤال كيفي جزئي، بينما السؤال الديني هو سؤال تعليلي غائي كلي.. فالعلم يكشف لنا عن انتظام العالم وتعالقات ظواهره، وأسبابها، لكنه بتحديده لأسباب الظواهر الكونية ليس بإمكانه أن ينفي وجود مسبب لهذه الأسباب. والمزلق الكبير الذي وقع فيه أوجست كونت يتمثل في اعتقاده أن تفسير ظواهر الكون يلغي طلب تعليل الكون ذاته.

في حين أن تفسير الكون بالكشف عن العلاقات الناظمة بين ظواهره يزيد من معقولية الإجابة الدينية، ويفضح زيف الإجابة الإلحادية.

ثم إن هذا الفارق الجوهري في طبيعة السؤال الذي يشتغل به العلم، أي سؤال الكيف يفضح كل مسلك لإلغاء الدين والاكتفاء بالإجابة العلمية، لأن الإجابة العلمية لا تسد حاجة الفهم الأنطلوجي، أي الحاجة إلى فهم لم وجد الوجود ابتداء؛ بل إن منتهى ما تصل إليه الإجابة العلمية هو سد الحاجة إلى فهم كيفية تعالق مكونات الوجود وانتظامها، لا تعليل سبب وجود هذه المكونات ابتداء. ومن ثم فالقول بالاكتفاء بالإجابة العلمية واستبعاد الدين هو مسلك مغرض يزيف حقيقة السؤال الديني.



قانون المراحل الثلاث

* لنعد إلى قانون المراحل الثلاث عند أوجست كونت (أن البشرية تنتقل من المرحلة الدينية إلى الفلسفية ثم إلى العلمية) ما هي النتيجة التي ينتهي إليها فيما يتعلق بالدين؟.

- دعني أؤكد أولا أن قانون المراحل الثلاث يكذبه واقع الاستقراء التاريخي، فالبشرية لم تنتقل من المرحلة الدينية إلى الفلسفية ثم العلمية، فحتى لو استحضرنا التاريخ الأوربي، الذي اعتمده كونت دليلا على نظريته، فسنلاحظ أن المرحلة الفلسفية/ الميتافيزيقية (مع اليونان) جاءت بعدها ألف سنة من القرون الوسطى كانت دينية! فكيف إذن يصح أن نقول بوجود انتقال المرحلي داخل تاريخ الإنسانية وفق ثلاثية كونت؟.

ثم إن المرحلة الوضعية بنهجها العلمي التي يزعم كونت أنها جاءت لاحقة لكل ما سبق هي أيضا مشكوك فيها. فالتفكير بمدلوله العلمي لم يولد مع ميلاد المنهج التجريبي في القرن السابع عشر ولا ولد مع ميلاد المنهج الرياضي من قبل، بل ثمة دراسات معاصرة على قدر كبير من الوجاهة الأبستمولوجية تؤكد أن قواعد التفكير العلمي موجودة حتى عند الإنسان البدائي، إذ لم يكن يفتقر إلى القدرة على التفكير العلمي ولا الاشتغال بمنهجيته، بقدر ما كان يفتقر إلى التراكم المعرفي. وهذا واضح في أعمال موسكوفيسي وخاصة في تحليله الرائع لتقنية إشعال النار عند الإنسان البدائي. الأمر الذي يؤكد أن التفكير العلمي والديني والفلسفي ليس أنماط تفكير مشدودة إلى صيرورة لحظات تطورية كل لاحق منها يلغي سابقه، بل الأمر أعمق من هذه الرؤية السطحية التي بلورها أوجست كونت.

إضافة إلى ما سبق إن التاريخ في سياق تطوره، لم يؤكد نبوءة أوجست كونت فالمرحلة الوضعية التي أعلن عن ميلادها واكتمال نموها بتأسيسه للسوسيولوجيا في القرن الـ 19 لم تستطع إنهاء الاحتياج إلى الاعتقاد الديني.

بل ما يؤكد استمرارية وضرورة الدين للكائن الإنساني أن أوجست كونت نفسه سيضطر في نهاية حياته إلى أن يبحث للمرحلة الوضعية عن ديانة، ورغم كونه صاغ ديانة وضعية سماها "ديانة الإنسانية"، فإن اصطلاحه عليها بلفظ الدين ومفاهيمه يؤكد قوة التجربة الدينية واستمراريتها. وتلك إحدى مفارقات كل فلسفة إلحادية تتنطع إلى إلغاء الدين من حياة الإنسان. وهنا يصح أن نكرر مقولة موريس بلوندل: "ليس هناك ملحدون بمعنى الكلمة"، ونرى بناء عليها أن عودة كونت في آخر تطوره الفكري إلى البحث عن ديانة تليق بالمرحلة العلمية الوضعية دليل على كون الدين حاجة ملازمة لكينونة الإنسان وليست لحظة في صيرورة تطوره التاريخي محكومة بمنطق التجاوز.

لقد نظر كونت إلى فلسفته الوضعية بوصفها "دينا جديدا" حتى إنه كتب في رسالته إلى دو تولوز "إنني مقتنع أنه قبل حلول عام 1860 سأعظ في كنيسة نوتردام مقدما الوضعية بوصفها وحدها فقط الديانة الحقيقية والكاملة".


الإلحاد محل شكوك

* هل كان كونت ملحدا؟.

- في الحقيقة إن نصوص أوجست كونت تحمل عبارات ومواقف شديدة الاختلاف في الموقف من الدين. ورغم الكلام الشائع عن كونت وإلحاده، فهو لم يكن يرتاح لهذا النعت، بل نجده في إحدى رسائله لجون ستيوارت مل يقول بكل وضوح إنه يرفض أن يسمى ملحدا.

بل كان يعتقد أن الحاجة إلى الدين حاجة أساسية في الكائن الإنساني، فالنزوع نحو التقديس والتعبد هو، باعتراف كونت، أمر يشكل جزءا من طبيعة الإنسان لا بد من إشباعه. وفي كتابه "نسق السياسة الوضعية" يؤكد كونت أن مصير الإنسان هو أن يصبح أكثر تدينا، بل نجده يصف هذا بكونه "القانون الوحيد" لصيرورة التاريخ.. ولهذا سنلاحظ أنه في بعض نصوصه يفرق بين اللاهوت والدين، حيث يعلن رفضه للاهوت، لكنه لا يرفض الدين. كما أنه في حديثه عن الإسلام نجده يسطر عبارات إعجاب صريحة.

وعموما يمكن اعتبار الفلسفة الوضعية لكونت تجسيدا لمأزق كل فلسفة علموية تريد تجاوز الدين. والدليل على ذلك أن مؤسس الفلسفة الوضعية سيعود في السنوات الأخيرة من حياته بنظرية ديانة الإنسانية، بل هو نفسه سيأخذ في التبشير بالفلسفة الوضعية بوصفها دينا، لا مجرد موقف فلسفي. فقد كان ينظر إلى مشروعه الفكري بوصفه ثورة دينية كبرى تستبدل باريس بروما، أي تنقل مركز الدين من الكاثوليكية في روما إلى الوضعية وديانة الإنسانية في باريس.

وهذا في نظري كاف للدلالة على هذه الفلسفة العلموية المغرقة في التلبس بالدين، وهي التي يزعم أتباعها أنها جاءت قاطعة معه ومتجاوزة لمفاهيمه!.


العقل يخدم الغريزة

* أستاذ الطيب، بالنسبة للفكر الفلسفي المعاصر، ما هو الموقف السائد فيما يخص الدين؟ وما هي النماذج الفلسفية المعبرة عن طبيعة الفلسفة المعاصرة؟.

- للحديث عن النماذج المعبرة عن الفكر الفلسفي المعاصر لا بد أن نستحضر اسم نيتشه لأن من داخل عباءته خرجت مختلف التلوينات الفلسفية المعاصرة بدءا بالهيدجرية وانتهاء ببنيوية فوكو وتفكيكية دريدا.

إذ يعد نيتشه من أشهر الرموز الفلسفية التي اهتمت بنقد فلسفة الحداثة مثلما اهتمت بنقد المفاهيم الدينية وما يرتبط بها من أنساق القيم. كما كان الإسهام الفلسفي لنيتشه نقدا للعقلانية، حيث يرى أن العقل ما هو إلا غريزة يجب أن تنحصر وظيفتها في حفظ البقاء أو حفظ الحياة. ففي كتابه "العلم المرح" يقول بأن الانحراف الذي حصل في الثقافة الإنسانية راجع إلى تبديل وظيفة العقل هذه، وذلك عندما تم تحميله مسؤولية إنتاج الحقيقة ووضع المعايير الأخلاقية، الأمر الذي جعله متعارضا مع الغريزة والهوى. فتم احتقار الأبعاد الغريزية واستهجانها مع أنها هي المكون المركزي في الذات والحياة الإنسانية!.

وبذلك ينتهي نيتشه إلى المناداة بتحويل العقل من وظيفته المعرفية والقيمية إلى مجرد خادم للغريزة. فبدل أن يؤسس العقل للمعايير القيمية والأخلاقية يجب أن يقتصر على الحفاظ على الحياة وخدمة الغريزة ودفقها الحيوي. بل إن هذا القلب الوظيفي لمهمة العقل تتجاوز ما سبق إلى انتزاع وظيفة التفكير منه وإرجاعها إلى الجسد!.

* فيصبح الجسد بأكمله جهازا للتفكير؟.

- أجل فبالنسبة لنيتشه لا تأتينا الأفكار ولا تنبثق فينا عندما نريد نحن، بل تأتي عندما تريد هي ذلك، بمعنى ليس الـ"أنا" هو الذي يفكر، بل ثمة لاوعي كامن هو الذي يفرز الفكر. وهكذا يتم مع النيتشيوية قلب كامل للكوجيتو الديكارتي الذي تم فيه إعلاء الوعي أو الأنا أفكر، فبدل جعله مصدر الفكر يصبح عند نيتشه مجرد كينونة هامشية زائفة.

ويرى نيتشه أن الوعي والفكر نتاج الجسم، أي نتاج العضوية البيولوجية، فالإنسان يفكر على نحو دائم بكيانه البيولوجي دون أن ينتبه هو إلى ذلك. ومن ثم فقد أخطأت الفلسفة العقلانية عندما أرجعت وظيفة التفكير إلى العقل، لأن التفكير آلية غريزية تنبع من كياننا الجسمي كله، ولكن عندما زُيفت حقيقته وأصبح الوعي هو مصدر الفكر، وتم تقعيد نظم التفكير بقواعد منطقية تم تحريف وظيفة العقل فأصبح مضادا للحاجة الحيوية الغريزية.

وأرى خلف تلك المقاربات الفلسفية التي قدمها نيتشه، والتي سيفصح عنها بفجاجة مستقبحة الفيلسوف الفرنسي جورج باطاي، وغيرها من المقاربات المرتكزة على الرؤية الداروينية الحريصة على اختزال الكائن الإنساني إلى عضوية بيولوجية فقط واستدخاله في العالم الحيواني -أرى خلف كل هذا سببا ثقافيا يرجع إلى إفلاس التجربة الدينية الغربية؛ كما أرى في نزوعات الفلسفة المعاصرة نحو اللاعقلانية إفلاسا للوعي الأوربي ودليل عجز عن تعويض الفراغ الاعتقادي الذي خلفه نقد الدين وتدنيس المقدس في الثقافة الأوربية.

عمر الأنصاري
11-23-2008, 03:20 PM
جزاك الله خيرا أستاذي الفاضل فخر الدين
الدكتور طيب بوعزة له مقالات نفيسة وكلامه يدل على أنه متمكن من هذا الميدان
استمتعت بقراءة الموضوع
يا ليت أحدا يعرفه يُخبره بهذا المنتدى فسيكون مكسبا لنا ولباقي الأعضاء

فخر الدين المناظر
11-23-2008, 11:20 PM
صدقتَ أيها الكريم.

وكم أتمنى أن يكون هناك مؤتمر سنوي في البلاد يلتقي فيه المفكرون المسلمون يتدارسون فيه بعض القضايا ويوطدون الصلة مع بعضهم البعض..