المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الولاء والبراء بين المنقول والموجود



islam
04-27-2005, 05:23 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الولاء والبراء يبن المنقول والموجود
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فهذه كلمات اهديها الى كل مسلم يبحث على الحق وارجو ان يستطيل هذه الموضوع محب وهى نظرة في سورة كريمة وهي سورة الممتحنةلقد تأملت في هذه السورة العظيمة فوجدت فيها من المعاني والمنهج والأسلوب ما يلبي حاجة كل مسلم اليوم لتحرير هذا الأصل الإيماني العظيم فعزمت متوكلاً على الله على محاولة تدبر واستقراء مفردات هذه الآية لمحاولة استنباط معالم ومفردات منظومة الولاء والبراء فيها لا سيما وأنها من القرآن المدني الذي اعتنى بالتطبيقات العملية للمبادئ القرآنية المكية، ولعمر الحق إن من أصعب ما واجهته في هذه الرحلة القصيرة الانتقال من آية إلى أخرى إذ أن كل آية من هذه السورة تأخذ لب قارئها ناهيك عن متدبرها فتأسره أسراً لا يكاد يجد منه فكاكاً؛ ابتداءً بذلك النداء الإيماني ومروراً بقصص أبي الأنبياء عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ثم وقوفاً مع معالم الإعجاز التربوي والمنهجي في تقرير أحرج وأخطر مسائل المعاملات الاجتماعية والدولية ثم إعادة الهيكلة وبناء المجتمع الإسلامي بأسلوب فريد لم يشهد التاريخ الإنساني مثيلاً له، هذا كله مع خلود وصلاحية هذا المنهج لكل مسلم في كل مكان وفي كل زمان بحيث لو أتيت تطبق حيثيات هذه السورة اليوم لما ترددت في تنـزيلها كما هي بكل حرفياتها وبكل جزئياتها على واقعنا لتعالج سقيمه وتشفي غليله ولما قصرت السورة في تحقيق الغاية المنشودة من تنزيلها ذاك. وفي الاصطلاح يمكننا أن نعرف الولاء والبراء بأنه: أعمال وأقوال بالقلب واللسان والجوارح تدور حول محبة الله ورسوله والمؤمنين وتوليهم ونصرتهم مع مفارقة الكفار وحزبهم في كل ذلك ،
وهي سورة مدنية واسم السورة الممتحنة والمشهور في هذه التسمية فتح الحاء وقولٌ آخر بكسرها، فعلى فتح الحاء هي صفةٌ للمرأة التي نزلت السورة بسببها – كما سنبين لاحقاً – وعلى كسر الحاء تكون التسمية صفة للسورة نفسها أي بمعنى المختبِرة كما ذكر الإمام القرطبي رحمه الله وهذا كما قيل لسورة براءة (الفاضحة)، ولقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني أن المعتمد هو الأول أي بفتح الحاء. وهذه السورة المدنية شأنها شأن السور المدنية الأخرى تعنى بتنظيم المجتمع والدولة المسلمة من خلال إرساء نظم وقواعد تسيير الدولة وتحديد علاقات ووظائف الأفراد فيها، وسن القوانين المدنية والحربية والاجتماعية والدولية وغيرها من ضروب المعاملات ، والحقيقة إن المتدبر في معاني هذه السورة يجدها تتناول مجموعة من المسائل الخطيرة المتعلقة بأمن الدولة الإسلامية على الصعيدين الخارجي والداخلي؛ أما الصعيد الداخلي فمن خلال تمحيص صفات المؤمنين وتحرير بنود بيعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم من جهة، ومن خلال تحديد العلاقة مع الأفراد غير المسلمين وحدود المعاملة معهم وضوابطها من جهة أخرى، وأما الصعيد الخارجي فمن خلال تحديد أُطر التعامل مع الغير خارج الدولة الإسلامية وسن القوانين الحافظة لأسرار الدولة وأمنها بحيث تحقق التوازن المنشود بين التواصل مع الغير والأخذ بأسباب سلامة الأمة،
1- وكان سبب نزول هذه السورة العظيمة إن قريشاً نقضت عهد النبي صلى الله عليه وسلم بمظاهرتها على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وقد بيَّت النبي صلى الله عليه وسلم المسير لفتح مكة وعمى على ذلك وتستر عليه، وفي الصحيح أن علياً رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوا منها، قال: فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا لها أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب. فقلنا : لتُخرجِنّ الكتاب أو لنلقيَنّ الثياب. قال : فأخرجته من عقاصها.فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس بمكة من المشركين يُخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يا حاطب، ما هذا؟" قال : يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأً ملصقاً في قريش، يقول : كنت حليفاً ولم أكن من نفسها، وكان معك من المهاجرين من لهم بها قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يداً يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أما إنه قد صدقكم" فقال عمر :" يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق" فقال:" إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدراً قال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم" فأنزل الله السورة :" يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق " إلى قوله " فقد ضل سواء السبيل" ، وهذا الحديث والآية من أعظم الأصول المقررة لعقيدة الولاء والبراء. وسبب نزول الاية الثامنة وهي قوله تعالى:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" ، فلقد أورد الإمام البخاري في صحيحه حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : أتتني أمي راغبةً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم أصِلها؟ قال : نعم" قال ابن عيينة [ وهو شيخ شيخ البخاري في سند هذا الحديث] فأنزل الله تعالى فيها:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" ، قلت: وهذا التصريح بسببية النزول غير مرفوع ولا موقوف، ولكن يشهد لصحته أن أسماء رضي الله عنها ذكرت هذه القصة في فترة العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش – وهذا معنى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الحديث – كما جاء صريحاً في رواية مسلم قالت:" قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:"يا رسول الله قدمت علي أمي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال نعم صلي أمك" ، فهذه الرواية وإن لم تذكر سببية هذه القصة في نزول الآية إلا أنها صريحة في ذكر زمان القصة وهو الزمان الذي تعلقت به الأحداث والمناسبات التي نزلت السورة بسببها، كما تفيد هذه الرواية في التصريح بكون أم أسماء مشركة، والحقيقة إن الإمام القرطبي قد ذكر في تفسيره هذا الخبر جازماً عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر الصديق طلق امرأته قُتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطاً وأشياء فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى:" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين" ، فالراجح والله أعلم أن هذا سبب نزول صحيح،ومن خصائص هذه السورة ابتداء السورة وانتهاؤها بنفس الموضوع : ألا وهو النهي عن موالاة الكفار مع التهييج على ذلك بشتى أنواع المؤثرات النفسية والدينية وايضا تناول السورة لبعض معاقد الولاء الأخرى ودحضها وبيان تهافتها وعدم لياقتها بانتماء المؤمن إليها سواء أكانت صلة رحم أو جاه قوم أو مصلحة مال.
والتنبيه على اهتمام السورة بالتوجيه إلى الأسوة الحسنة في المجال التطبيقي لعقيدة الولاء والبراء كما هو واضح في موقف إبراهيم عليه السلام من قومه
لقد استفتحت هذه السورة بتقرير مسألة أساسية هي تمايز الناس إلى فريقين ؛ فريق مؤمن بالله تعالى وآخر كافر بالله سبحانه وتعالى، حيث قال الله تعالى :" يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يُخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تُسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل" ، يقول ابن كثير رحمه الله :" يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عدواتهم ومصارمتهم ونهى أن يُتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء" ، فهذه الآية نهي صريح عن اتخاذ الكفار أولياء، ومن المهم ألا يتوهم المتدبر لهذه الآية أن في قوله تعالى " عدوي وعدوكم" وقوله تعالى " تلقون إليهم بالمودة " تقييداً للنهي بهذه الأحوال، وبيان ذلك أن العداوة المذكورة لا تقتصر على الحرب العسكرية بل تشير إلى مطلق العداوة الدينية والدليل من القرآن قوله تعالى :" فقلنا يا آدم إن هذا عدوٌ لك ولزوجك" يعني إبليس ومعلوم أنه لم تكن حرب عسكرية بينهما، وقال تعالى:" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً" ، فالشاهد أن لفظ العداوة في القرآن أعم من المجابهة العسكرية وبالتالي لا يقتصر على الكفار الحربيين، وكذلك الحال في وصف الإلقاء بالمودة فهو ليس قيداً للنهي وإنما حكاية لغالب الحال هدفه الإمعان في الإنكار على من تولى الكفار من المسلمين، وكأن معنى الآية : كيف تتخذون هؤلاء الأعداء أولياء ثم كيف تتوددون إليهم ؟ والله تعالى أعلم، ثم تأمل كيف عاودت الآية الإنكار والتشنيع على فعل المودة هذا بكل أشكاله، والمودة في اللغة المحبة ، والمحبة كما لا يخفى أصلها في القلب ولعل هذا سر قوله تعالى:" تُسرون إليهم بالمودة " مع أن سبب نزول الآية كان عملاً ظاهراً كما تقدم معنا في قصة حاطب حيث كتب إلى قريش يحذرهم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا العمل من أعمال الجوارح الظاهرة بل إن حاطباً قد أشهد الله على أن قلبه سليم لله ورسوله وصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال:" :" أما إنه قد صدقكم"، قلت: لعل السر في ذلك أن أعمال الجوارح التي تنم عن مودة ظاهرة للكفار لا يمكن أن تصدر إلا عن قلبٍ لهم فيه نكتةٌ ولصاحبه إليهم نوع مودةٍ باطنة، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن :" يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، ولهذا أنت تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صدق سريرة حاطب – بتصديق الوحي – ولكنه لم يجعل ذلك عذراً في عدم إيقاع حد الردة عليه، وإنما جعل عذره أمراً خاصاً لا يتكرر لأحد من المسلمين من بعد ألا وهو سابقته في الإسلام بشهود بدر، ولما كان هذا العذر لا يتحقق لأحد بعد البدريين عاد الحكم إلى عمومه أعني الحكم الذي صرح به عمر بن الخطاب وأقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم إقراراً سكوتياً بيِّناً، وعليه فإن تذييل الآية بقوله تعالى :" ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل" يمثل حكماً على اعتبار الشرع لدلالة الظاهر على الباطن، كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:" ومن هنا جعلت الأعمال الظاهرة في الشرع دليلاً على ما في الباطن، فإن كان الظاهر منخرماً حُكم على الباطن بذلك أو مستقيماً حُكم على الباطن بذلك أيضاً، وهو أصلٌ عام في الفقه وسائر الأحكام العاديات والتجريبيات ، بل الالتفات إليها من هذا الوجه نافع في جملة الشريعة جداً، والأدلة على صحته كثيرة جداً وكفى في ذلك عمدةً أنه الحاكم بإيمان المؤمن وكفر الكافر وطاعة المطيع وعصيان العاصي وعدالة العدل وجرحة المجرح"
فالحكم المستخلص من هذه الآية هو تحريم إسرار المودة القلبية والجهر بالمودة الظاهرة للكفار مطلقاً، وأن مجرد كفرهم مقتضٍ للعداوة كما في المواضع التالية من السورة، وإن من مظاهر الجهر بالمودة للكفار إعانتهم على المسلمين برأي أو مشورة أو توجيه مهما ادعى فاعل ذلك سلامة القلب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وهذا حكم جليٌ واضح في الآية، يوضحه سياق الواقعة التي تنزلت بسببها الآية كما تقدم في قصة حاطب، ولا يخفى أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حين كاتب الكفار بالخبر كان يعلم من نفسه سلامة قلبه لدين الله ويعلم من الوحي المنزل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرٌ في تلك المعركة حيث بشره الله تعالى بالفتح مرجعَه من الحديبية وبالتالي فهو على يقينٍ أو ظنٍ غالب بأن مكاتبته للكفار لن تؤثر شيئاً في سير المعركة ومع ذلك كله لم تشفع هذه المحترزات لفداحة هذه الخيانة، ولا أظن أحداً ممن يتلبس بأمثال هذه الخيانة له من السابقة في الإسلام ما لحاطب رضي الله عنه ولا عنده من ضمانات عدم تضرر المسلمين بمظاهرته ومودته للكفار ما كان عند حاطب رضي الله عنه، فأين يذهب هؤلاء من وصم الضلالة في قوله تعالى:" ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل".
ولما كان النهي عن مودة الكفار أقرب إلى منهج التخلية والتصفية لم تقف السورة عند حدود تمييز الكفار عن المسلمين والتنبيه على مواطن الخطر فيهم حيث قال تعالى:" إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداءً ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون" ، بل أمعنت السورة في اجتثاث كل الأوهام المتعلقة بمعاقد الولاء والبراء المتنوعة والتي عادة ما تدور حول جلب المصالح ودرء المفاسد، فقال الله تعالى:"لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير" ، قال الإمام القرطبي رحمه الله :" لما اعتذر حاطب بأن له أولاداً وأرحاماً فيما بينهم بيَّن الرب عز وجل أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئاً يوم القيامة إن عُصي من أجل ذلك" ، قلت: بل ثبت أن هذه القرابات التي يُعصى الله لأجلها تعود بالخسران والوبال على العاصي فكيف يصح في العقل أن يتولى ويحب المرء ما من شأنه أن يجلب له الضرر، فتمحض من ذلك أن المودة لا يمكن أن تنصرف إلا لما يعود بالخير والمصلحة على الإنسان أما ما عدا ذلك فهذيان وتيه وضلال نسأل الله العافية.

ثم انتقلت السورة بعدما عالجت الموقف الخطير الذي تلبس به حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إلى حسم مادته، وهذا في غاية الحكمة والحسن، لأن معالجة ظاهر الأمور دون اجتثاث جذورها لا يغني شيئاً في معالجة أساس الداء وأصل البلاء، ولئن كان لحاطبٍ رضي الله عنه مزية شهادة الوحي على صفاء قلبه من مناط الكفر وسابقة بدر في مغفرة زلته فإن هذا لا يتأتى لأحد بعده لا سيما وأن السورة قد بددت أوهام عذره الذي اعتذر به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل إن اعتذاره رضي الله عنه أكبر دليل على أن إعانة الكفار أمارة كفرٍ وردة مترسخة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمل معي قوله رضي الله عنه :"ولم أفعله ارتداداً عن ديني ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام" ، والشاهد أن السورة بعد نزول آياتها الأولى لمناسبة الموقف فإن ما تلا من آياتها قد نزل لحسم مادة الزيغ والزلل وتقرير مبدأ الولاء المطلق لله تعالى والبراء المطلق من كل ما سواه، ولئن افتقر تقرير هذا الأصل لموقف يتنزل عليه أو مناسبة يتحدث عنها وقت النزول فإن السورة قد طرحت هذا الأصل في سياقٍ عمليٍ تطبيقيٍ بديع من خلال موقف أبي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه مع قومه، فلنتدبر:
قال تعالى :" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوةُ والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم والآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:" لما نهى الله عز وجل عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وأن من سيرته التبرؤ من الكفار؛ أي فاقتدوا به وأْتمُّوا إلا في استغفاره لأبيه" ، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله :"أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه" ، قلت: وهذه القصة التي أمرنا الله تعالى بالاقتداء بنبيه وأتباعه المؤمنين فيها يجب تدبرها جيداً لعزة معانيها وحسن تقريرها، لقد تقدم معنا في قصة حاطب أن مناط الإنكار والتشنيع كان على سلوكه الظاهر الذي اعتبر مظنة ميل القلب ومحبته للكفار ، ولما قررت السورة تحريم ذلك كان مناسباً أن تقابلَ منع إظهار المودة للكفار الملازم عادةً لمودتهم في الباطن بمطالبة المؤمنين بإظهار نقيضه من التبرؤ منهم والإعلان ببغضهم تعبيراً عما يجب أن يستقر في الباطن من ذلك، وهذه المقابلة في غاية الحسن لأن القلب إما أن يكون مشغولاً بحب الله أو حب عدوه، فإذا كان الأول فقد وُجد الدافع على الإعلان بذلك باللسان والجوارح، وإذا كان الدافع موجوداً والمانع مفقوداً امتنع ألا تظهر مظاهر حب الله القولية والفعلية، كما أن العكس صحيح فإن الإعلان بمظاهر المودة القولية والفعلية للكفار من غير إكراه معتَبَر لا معنى له سوى ضعف الدافع القلبي المتولد عن حب الله أو وجود المانع من إعلان ذلك الحب، وكلا الأمرين لعمر الحق داء خطير فإن عدم تمكن محبة الله في القلب لا يكون إلا وفي القلب شاغل عن الله وهي المحبة الشركية كما أن توهم مانع يقوى على حبس محبة الله في القلب وعدم الإعلان بها نقص في تحقق موجبات حب الله في قلب العبد، أما من اطمأن قلبه بحب الله فلا يمكن ألا يباشر إلى إعلان مظاهر هذا الحب بالقول والعمل كما فعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وهذا نظير امتناع الحكم للمرء بالإسلام مع امتناعه عن قول لا إله إلا الله فإن من وقر الإيمان في قلبه وفقد المانع عن إدلائة بالشهادة على ذلك يمتنع عليه ألا يعلن بتلك الشهادة ويمتنع الحكم له بالإسلام بدون تلك الشهادة القولية، تأمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:" والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عملٍ ظاهر" ، ثم قال ناقلاً عن أبي ثور في رده على المرجئة:" اعلم يرحمنا الله وإياك أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، وذلك أنه ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: أشهد أن الله عز وجل واحد وأن ما جاءت به الرسل حق وأقر بجميع الشرائع، ثم قال: ما عقد قلبي على شيء من هذا ولا أصدق به" أنه ليس بمسلم ، ولو قال : المسيح هو الله وجحد أمر الإسلام ثم قال :" لم يعقد قلبي على شيء من ذلك " أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن، فلما لم يكن بالإقرار إذ لم يكن معه التصديق مؤمناً ، ولا بالتصديق إذا لم يكن معه الإقرار مؤمناً، حتى يكون مصدقاً بقلبه مقراً بلسانه.." قلت: أي مع العمل بالجوارح أيضاً، والشاهد هنا امتناع انعقاد الإيمان ولوزامه – كالمحبة والولاء القلبيين – في القلب مع عدم ظهور ذلك في قول اللسان وعمل الجوارح بحسبه، ولهذا كان التوجية القرآني للتأسي بقول إبراهيم عليه السلام وأتباعه المؤمنين لقومهم:" إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم"، قال ابن كثير :" أي كفرنا بدينكم وطريقتكم" ، وهذا الإعلان الظاهر كله بقول اللسان كما لا يخفى.
إن كلمة التوحيد التي ميزت الناس إلى فريقين مؤمن وكافر مناطُ ابتلاء وتمحيص واستدراج وتغرير؛ فأما الابتلاء والتمحيص فللمؤمنين يستخرج الله تعالى عبودية هذا الفريق بتخليص توحيدهم وتجريده عن كل حظوظ النفس وعلائق الدنيا فيتميز من أسلم لغاية الدنيا ممن أسلم لحب الله وحده، وأما الاستدراج والتغرير فللكفار يمكِّنهم الله تعالى تارة من إلحاق بعض الأذى بعباده المسلمين ليغري بهم ويوهمهم أنهم على شيء فتزيد أثقالهم من الآثام التي يعذبون بها في الآخرة جزاء إعراضهم عن هدى الله تعالى وأوامر رسله في الدنيا، ولا شك أن إغراء الكفار بالمسلمين يزداد كلما أعلن المسلمون بمكنون قلوبهم من التوحيد والحب لله تعالى، فكان من المناسب بعد أن وجهت الآية الكريمة إلى حسن الاقتداء بإبراهيم عليه السلام في الإعلان القولي والعملي بالتبرؤ من الكفار وإبداء بغضهم أن توجه المسلمين إلى العدة اللازمة لمواجهة الأذى المترتب على هذا الإعلان، وهذا غاية الحسن في الترتيب فقال الله تعالى:"ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم" ، فهذه مقومات الصبر وهذه عدة المواجهة، قال الإمام القرطبي رحمه الله :" (ربنا عليك توكلنا) هذا من دعاء إبراهيم عليه السلام وأصحابه، وقيل : علم المؤمنين أن يقولوا هذا، أي تبرءوا من الكفار وتوكلوا على الله وقولوا: (وعليك توكلنا ) أي اعتمدنا (وإليك أنبنا) أي رجعنا (وإليك المصير) لك الرجوع في الآخرة، (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ) أي لا تُظهر عدونا علينا فيظنوا أنهم على حق فيفتنوا بذلك، وقيل: لا تسلطهم علينا فيفتنونا ويعذبونا، (واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم)" ، قلت: لقد جمعت هذه الآيات من روائع الخضوع والعبودية لله عز وجل ما يحتاج إلى إفراده بالتصنيف ولكن أعرج على بعض الأمور فيما يلي :

1- عدة التوكل: وهذا في غاية المناسبة لسياق الحال، إذ لما تبرأ المؤمنون من الكفار لاجتماع دواعي العداوة من جهة ولانتفاء دواعي الموالاة من جهة أخرى حيث إن الكفار لا يملكون للمؤمنين ضراً ولا نفعاً تصرفه أو تجلبه موالاتهم كان من المناسب أن يتبرأ المؤمنون من حولهم وقوتهم إلى الله عز وجل لأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فلما تبرءوا من الكفار ثم تبرءوا من حول أنفسهم لم يبق إلا جناب الله تعالى يلوذون به، فاجتمعت البراءة المحمودة من المخلوقين مع التولي المحمود للخالق فكان ذلك أقوى معتمد وأحرى مستند للمؤمنين، فتأمل هذا فإنه في غاية الحسن.
2- عبادة الإنابة والرجوع: والإنابة عبودية يتعبد الله تعالى بها في الدنيا في حين أن الرجوع هو نفس المآل إلى الله تعالى في الآخرة، فقوله تعالى :" وإليك أنبنا وإليك المصير" هو غاية اليقين من هذه الثلة المؤمنة بقوله تعالى:"لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير" فلما تيقن هؤلاء أن المصير والرجوع إلى الله تعالى في المآل حيث لا ينفع مال ولا بنون، انقطعوا عن هذه العلائق الدنيوية ولم يلتفتوا إليها وعادوا إلى ربهم خاضعين متذللين يلوذون بجنابه العظيم ويرجون عنده أسباب العزة والتمكين، فالمخلوق عندهم وجوده وعدمه سواء، كما قال ابن كثير رحمه الله في هذه الآية:" أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك ، (وإليك المصير) أي المعاد في الدار الآخرة" .
عدة الدعاء : إن التزود بهذه العبادة زاد رئيسي لمن أراد أن يمضي في هذا الطريق، طريق التبرؤ من الكفر وأهله مهما كان وعيدهم ومهما كان تهديدهم، ولما كان المؤمن يعلم ضعف نفسه ويخشى على جوهرة التوحيد في قلبه أن تخدشها العوادي فإنه لن يجد لنفسه بداً من الدعاء إلى الله عز وجل ليصرف عنه هذا السوء، وتأمل الأدب الجم في صيغة الدعاء التي سنها لنا إبراهيم عليه السلام ورضيها الله تعالى لنا أسوة وقدوة :" ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم" ، حيث اشتمل الدعاء على الإقرار بربوبية الله عز وجل وبافتقارهم إليه سبحانه في غفران ذنوبهم ثم لما عرضوا مسألتهم لم يتطاولوا على جناب الله عز وجل فيقولوا : اللهم لا تمتحنا ولا تمحصنا ولا تختبرنا ، لم يقولوا ذلك لأن ذلك ليس إليهم بل إلى الله وحده هو أعلم وأحكم بما فيه صلاح نفوس عباده، ولكنهم عرضوا مسألتهم عرض المشفق على نفسه المنطرح على عتبة سيده ومولاه يخافون أن يصل بهم الامتحان والتمحيص إلى ما لا يطيقون معه ثباتاً على الحق، فهم يخافون من أن تزل قدمهم بعد ثبوتها ولا يعنيهم بعد ذلك أن تفنى وتضمحل أجسادهم في سبيل الله عز وجل،
4-مناسبة أسماء الله تعالى الواردة للموقف: وهذه أيضاً مناسبة بديعة إذ لما كان موقف الفتنة الذي يُخشى معه ظهور الكفار على المسلمين موقفاً قد يُستشعر فيه نوع مهانة وانكسار ناسب أن يدعو الله تعالى باسمه "العزيز" ،قال ابن كثير في قوله تعالى:" إنك أنت العزيز" أي : الذي لا يُضام من لاذ بجنابك، "الحكيم" في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك.اهـ. ،
تحرير القصد والغاية من عبادة الولاء والبراء:

بعد أن وضعت السورة أنموذجاً يحتذى في سلوك إبراهيم عليه السلام مع قومه وحررت موضع التأسي من ذلك جاءت الآية بعد لتؤكد على موضع التأسي وهو التبرؤ من الكفار وإبداء العداوة والبغض الدينيين لهم من جهة، ولترتقي بالمسلمين إلى أسمى المقاصد المرجوة من وراء هذا الاقتداء والتأسي، فقال تعالى :" لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد" ، قال ابن كثير رحمه الله :" وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم لأن هذه الأسوة المثبتة ههنا هي الأولى بعينها" ، قلت: لعل التركيز في الآية الأولى كان على تحرير موضع التأسي في حين جاءت الآية الثانية للتأكيد على ضرورة هذه التأسي فجاءت لام التوكيد مع (قد) مبالغةً في التوكيد في هذا الآية، ثم انتقلت مباشرة إلى بيان القصد من هذا التأسي وهذا إشارة إلى أن موضوع الأمر بالتأسي ليس للتخيير بل هو طريق لازم لمن أراد أن يلاقي الله تعالى في الآخرة على حالة يصلح فيها معاده، ثم نبهت الآية على أنه ليس وراء ذلك إلا الخسران المبين كما هو واضح من لهجة التهديد في قوله تعالى:"ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد"، فالتولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموماً، ويحتمل أيضاً تولي الكفار وموالاتهم ، والمناسبة بين سياق الآية واسم الله تعالى الغني الحميد جلية لمن تدبر؛ فإن الأمر بتولي المؤمنين لله والتبرؤ من الكفار ليس لافتقار الله تعالى إلى خلقه تقدست ذاتُه العلية عن ذلك، فإن الله هو الغني بذاته لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة الطائعين، وهو سبحانه الحميد بذاته الموصوف بالجميل الاختياري غير مفتقر لما سواه جل في علاه. والحقيقة إن لهجة التهديد واضحة في هذه الآية كما هي واضحة في القرآن كله لمن أعرض عن أمر الله بعد أن جاءه ولمن أعرض عن هدى الله بعد أن أرشده الله تعالى إليه، فلا نجاة للعبد ولا فلاح في معاده إلا بتولي الله عز وجل وحزبه من المؤمنين وبالتبرؤ من أعدائه سبحانه وتعالى وقطع كل صلة معهم مهما أغرت المصالح الدنيوية بإبقاء هذه الصلات أو تمكينها.
ضوابط التعامل مع الكفار:

لقد كان جيل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جيلاً فريداً يسمع ليطيع، ويؤمَر لينقاد، ويُزجَر لينتهي، وما كانوا ليترددوا في إعمال معاني آيات التنزيل وتطبيقها أوسع ما يكون الإعمال وأحسن ما يكون التطبيق، ولقد تقدم معنا في سبب نزول هذه الآية قصة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما مع أمها حيث قدمت عليها في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر الصديق قرطاً وأشياء فكرهت أسماء رضي الله عنها أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له ، وهذا لعمر الحق غاية التحري والانقياد لأمر الله تعالى في قطيعة الشرك والكفر وأهله مهما كانت الصلات والعلائق، وهكذا نزل قوله تعالى :" لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون" ، وتمثل هاتان الآيتان منهجاً عملياً شرعياً للتعامل مع الكفار لا بد من الوقوف على معالمه وتحرير ضوابطه، وفيما يلي بيان ذلك :

أولاً: معاملة الكفار المسالمين:
تقدم معنا في أسباب النزول كيف كان مجيء قتيلة (أم أسماء ) وهي مشركة إلى ابنتها أسماء رضي الله عنها وكيف أنها كانت متوددة لها بالهدية ونحوها، وكيف أن أسماء رضي الله عنها استفتت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية التعامل معها بما يشعر أن الصحابة رضوان الله عليهم قد فهموا من الأمر بالتبرؤ من الكفار مطلق القطيعة، فنزلت الآية لتحرر المسألة تحريراً دقيقاً، فجعلت للكفار المسالمين صفات تفسح للمسلمين مجالاً محدداً للتعامل معهم في شئون الحياة اليومية، وواضح أن هدف هذا التعامل هو عرض الإسلام على هذه الفئة التي يرجى هدايتها لما لم تناجز المسلمين الحرب – مع ملاحظة استقرار العداو الدينية في نفس الأمر لمجرد الكفر – وحددت الآية صفة هذه المسالمة في ودعِ الكفار قتال المسلمين وودع إخراجهم من ديارهم وتشريدهم منها، فهؤلاء رخص الله تعالى في التعامل معهم استثناءً من الأصل، وذكر ابن كثير أن المقصود بهؤلاء النساء والضعفة ، في حين ذكر الإمام القرطبي أن هذه رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ، ورجح الإمام القرطبي رحمه الله تعالى أن هذه الآية محكمة خلافاً لمن ادعى النسخ بآية السيف، وهو قول قوي وأكثر المفسرين عليه كما نقله رحمه الله تعالى، ولقد انتصر لهذا القول الشيخ محمد عطية سالم في تتمة أضواء البيان ، والحقيقة إن دعوى النسخ ضعيفة لا سيما وأن الآية لا تعارض بينها وبين غيرها مما ادعي النسخ به، ذلك أن واقع الحال شاهد على وجود هذه الفئة ، وإن أصول الشريعة دالة على وجوب المعاملة بالقسط والعدل ، فمن بقي على عداوته الدينية ولم يتجاوز بها إلى حد مناجزة المسلمين بالسيف كان له حظه من البغض القلبي والعداوة الدينية دون اعتداء عليه بالسيف، فالبغض القلبي لهؤلاء انتصار لحق الله تعالى وكف اليد والسيف عنهم معاملة بالمثل لما كفوا عنا، وهذا غاية الإنصاف، بقيت مسألة خطرت لي في هذا الأمر وهي أن أصول الشريعة دالة على التبرؤ والقطيعة بيننا وبين الكفار وأن ما استثناه الشرع يجب الاقتصار فيه على ما ورد وعدم الاسترسال فيه، ومن يتأمل قصة أسماء رضي الله عنها مع أمها – وهي سبب نزول الآية على ما ترجح – قد يحسن به أن يقصر هذا الاستثناء على أقرباء المسلم من الكفار، وإن نصوص الشرع تقوي هذا المسلك منها الحديث المتقدم مع أسماء رضي الله عنها، ومنها قوله تعالى :"وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً" فهذه الآية في الأبوين، وتأمل كيف ترجم الإمام البخاري رحمه الله تعالى لحديث أسماء المتقدم مع أمها بترجمة : "باب صلة الوالد المشرك" وهذا في غاية التحري والفقه منه رحمه الله تعالى حيث اقتصر على الوارد في الاستثناء من الأصل في التعامل مع الكفار وهو القطيعة والبراءة، والسر في هذا الاستثناء واضح في رجاء إسلام قرابات المسلم حين يُظهر لهم جانب اللين والموادعة تأليفاً لقلوبهم لا سيما وأن في الجبلة والطبع من الدوافع ما هو كفيل بتحري وطلب هدايتهم، وعليه فالذي يبدو والله تعالى أعلم أن الورع قد يكون في الاقتصار في هذه الرخصة على قرابات المسلم – لا سيما الوالدين - سداً لذريعة الاسترسال مع الكفار ووقوفاً مع ما ورد به النص وإعمالاً لباقي النصوص والأصول، والله تعالى أعلم.

ثانياً: معاملة الكفار المقاتلين:
وهذا هو الصنف الثاني من الكفار الذين لا تجوز موالاتهم بحال من الأحوال، ولقد تقدم هذا النهي في السورة آنفاً ولكن هذه الآية جاءت بالتأكيد من جهة وببيان معالم هذه العداوة والحرب من جهة أخرى، أما معالم هذه العداوة فتتمثل في ثلاثة أمور هي:
1- مناجزة المسلمين القتال : وهو مستفاد من قوله تعالى :" الذين قاتلوكم في الدين" ، قال الإمام القرطبي : "أي جاهدوكم على الدين " ، وهذا القيد – أعني قوله تعالى (في الدين) – قد خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، بمعنى أن أي قتال من الكفار للمسلمين يعتبر قتالاً يحرم معه تولي الكفار.
2- إخراج المسلمين من ديارهم: وهو مستفاد من قوله تعالى:"وأخرجوكم من دياركم " ، ويدخل في هذا الوصف عتاة مكة من المشركين ابتداءً ثم أي جماعة من الكفار أَخرجوا وطَردوا المسلمين من ديارهم وشردوهم منها تبعاً، ولعل النكتة في هذا أن إخراج المسلمين من ديارهم ذريعة لعلو كلمة الباطل في تلك الديار وتسلط الكافرين عليها، وهذا مخالف لمقصود الشرع من إعلاء كلمة الله تعالى في الأرض.
3- المظاهرة على إخراج المسلمين من ديارهم: وهذا مستفاد من قوله تعالى :"وظاهروا على إخراجكم" ، قال الإمام القرطبي :"أي عاونوا على إخراجكم" ، قلت: وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، لأنه إذا امتنع تولي الكفار لمجرد مساعدتهم غيرهم على طرد المسلمين من ديارهم فمن باب أولى تحريم توليهم إذا ساعدوا على قتل المسلمين أو انتهاك أعراضهم، لأن حرمة الدماء والأعراض أكبر من حرمة الأراضي والديار والأموال، فتأمل هذا فإن كثيراً مما نعيشه اليوم من عدوان على الإسلام والمسلمين يندرج تحت هذا الوصف ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فإذا تبينت معالم الكفار المناجزين المسلمين بالحرب على النحو السابق كان من الظلم الشديد أن يتولى المسلم الكافر المتلبس بهذه الجرائم، (وأي ظلم بعد موالاة الفرد لأعداء أمته وأعداء الله ورسوله) ، وليكن نصب عيني المسلم أن لفظ الظلم في القرآن متفاوت المعنى وأن من ضمن هذه المعاني الكفر وهذا محتمل على أقل تقدير في مقامنا هذا، فليتنبه. والحقيقة إن أحكم وسيلة لضبط مسائل هذه السورة هي العودة إلى تلاوتها بتدبرٍ وإمعان ويقينٍ واستسلام لأمر الله تعالى ، نستحضر سياقها وملابساتها ونتعوذ بالله من الشيطان ثم ننكب على آياتها وتوجيهاتها سائلين أنفسنا : أين نحن من هذه الآية، وأين نحن من هذا الأمر والنهي، وأين نحن من هذين الفريقين، وإلى أي الفسطاطين ننتمي ؛ إلى حزب الله وأوليائه المنصورين أم أعداء الله وحَربه المغضوبين...
ختاماً أسأل الله تعالى أن أكون قد وفقت فيما قدمت وأُشهد الله تعالى أن ما كان فيه من حق وخير فهو من الله تعالى وبفضله وحده سبحانه، وما كان خلاف ذلك من زلة أو خطأ فمني ومن الشيطان، واللهُ ورسولُه منه بريء وأنا منه متبرئ وعنه راجع وعليه نادم، وما هو إلا جُهد المُقِل واجتهاد غير معصوم عن الزلل ولكنها رحمة الله التي نرجو ونسير في ظلها محاولين الانقياد لأمر الله تعالى بتدبر كتابه وفهم معانيه ولكن أين الهمم والأعمال من الأماني والآمال، أسأل الله العظيم أن يغفر لنا زلاتنا وأن يصلح أقوالنا ويتقبل أعمالنا إنه خير مأمول وأكرم مسؤول وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ابو مارية القرشي
04-27-2005, 05:39 PM
لقد تأملت في هذه السورة العظيمة فوجدت فيها من المعاني والمنهج والأسلوب ما يلبي حاجة كل مسلم اليوم .

صدقت و الله



فالشاهد أن لفظ العداوة في القرآن أعم من المجابهة العسكرية وبالتالي لا يقتصر على الكفار الحربيين، .

أحسنت..احسنت



في قصة حاطب حيث كتب إلى قريش يحذرهم مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا العمل من أعمال الجوارح الظاهرة بل إن حاطباً قد أشهد الله على أن قلبه سليم لله ورسوله وصدَّقه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقال:" :" أما إنه قد صدقكم"، قلت: لعل السر في ذلك أن أعمال الجوارح التي تنم عن مودة ظاهرة للكفار لا يمكن أن تصدر إلا عن قلبٍ لهم فيه نكتةٌ ولصاحبه إليهم نوع مودةٍ باطنة، .

يحتج بهذه القصة الكثير من اهل الاهواء.
وهذا بيانها(من مقالي: الوابل الصيب في نصيحة التحريري الطيب)
قصة حاطب:

لما توجه رسول الله صلى الله عليه و سلم لفتح مكة أرسل حاطب كتابا مع جارية الى قريش يخبرهم الخبر، فنزل الوحي الى رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"يا حاطب ما هذا؟"، قال :لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم في مكة فاحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اتخذ يدا يحمون بها قرابتي و ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله :"انه صدقكم"، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم:"إنه قد شهد بدرا و ما يدريك لعل الله اطلع الى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم"(مختصر من تفسير ابن كثير 4\302).

التعليق على قصة حاطب:

أ-وقع حاطب في عمل كفري وهو موالاة الكافرين و مظاهرتهم على المسلمين وهذه مسئلة ظاهرة معلومة عنده رضي الله عنه لذا بادر وقال:" ما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني و لا رضا بالكفر بعد الإسلام".

ب- قوله صلى الله عليه و سلم:"صدقكم" اي من جهة مطابقة قول حاطب لمعتقده وليس من جهة مطابقته للواقع من ان موالاة الكفار ليست كفرا.

ج-المانع من تكفير حاطب كان التأول الخاطئ في جزء من مسئلة ظاهرة حيث ظن أن ما فعله يدخل في باب التقية الجائزة عند الخوف و ان ذلك لا ضرر فيه علىالمسلمين لان رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤيد من ربه وقد وعده الفتح ، فحاطب رضي الله عنه تأول في جزء من مسئلة ظاهرة كما تأول قدامة ولم ينكر ان الأصل في هذا الفعل الكفر.

ء- التأول كان مانعا من تكفيره ولم يكن مانعا من نعزيره لذا راجع عمر النبي صلى الله عليه و سلم في قتله مرة ثانية ومنع من ذلم شهود حاطب بدرا.

الملخص: قام في حق حاطب مانعان:

الأول : مانع من تكفيره: وهو التأول في جزء من مسئلة ظاهرة

الثاني: مانع من تعزيره: وهو شهوده بدرا

(ملخص بتصرف من الجامع في طلب العلم الشريف-نقد الرسالة الليمانية )

*ولعلك اخي الكريم تقرأ رسالة حاطب و تخبرني هل كانت رسالة ناصح شفيق ام رسالة تهديد ووعيد؟

يقول الشيخ أبو محمد المقدسي فك الله أسره: وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7/521) عن بعض أهل المغازي ، قال : وهو في (تفسير يحيى بن سلام) أن لفظ كتاب حاطب إلى كفار قريش : ( أما بعد ، يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز وعده فانظروا لأنفسكم والسلام ) وكذا حكاه السهيلي .. فهو إنذار كالتهديد وكالدعوة إلى التوبة .. وانظر في هذا والذي قبله وتأمل ثقته بنصر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه من شأنه.( الشهاب الثاقب في الرد على من افترى على الصحابي حاطب).









بقيت مسألة خطرت لي في هذا الأمر وهي أن أصول الشريعة دالة على التبرؤ والقطيعة بيننا وبين الكفار وأن ما استثناه الشرع يجب الاقتصار فيه على ما ورد وعدم الاسترسال فيه، ومن يتأمل قصة أسماء رضي الله عنها مع أمها – وهي سبب نزول الآية على ما ترجح – قد يحسن به أن يقصر هذا الاستثناء على أقرباء المسلم من الكفار، وإن نصوص الشرع تقوي هذا المسلك منها الحديث المتقدم مع أسماء رضي الله عنها، ومنها قوله تعالى :"وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً" فهذه الآية في الأبوين، وتأمل كيف ترجم الإمام البخاري رحمه الله تعالى لحديث أسماء المتقدم مع أمها بترجمة : "باب صلة الوالد المشرك" وهذا في غاية التحري والفقه منه رحمه الله تعالى حيث اقتصر على الوارد في الاستثناء من الأصل في التعامل مع الكفار وهو القطيعة والبراءة، والسر في هذا الاستثناء واضح في رجاء إسلام قرابات المسلم حين يُظهر لهم جانب اللين والموادعة تأليفاً لقلوبهم لا سيما وأن في الجبلة والطبع من الدوافع ما هو كفيل بتحري وطلب هدايتهم، وعليه فالذي يبدو والله تعالى أعلم أن الورع قد يكون في الاقتصار في هذه الرخصة على قرابات المسلم – لا سيما الوالدين - سداً لذريعة الاسترسال مع الكفار ووقوفاً مع ما ورد به النص وإعمالاً لباقي النصوص والأصول، والله تعالى أعلم.

.

أحسنت اخي الكريم
و بداية رائعة في هذا المنتدى الطيب
حياكم الله و بياكم

مسلم
04-27-2005, 09:52 PM
ألأخ المكرم ..إسلام

اختيار موفق للموضوع ولكن لم تذكر اسم الكاتب للموضوع !!

مسلم
04-27-2005, 11:10 PM
في انتظار ردك أخي الكريم إسلام ...

مسلم
05-05-2005, 06:11 PM
وارجو ان يستطيل هذه الموضوع محب .

أخي إسلام كنت أعتقد أنك مجرد ناقل وبما أنك الكاتب كما أخبرتني مشافهة وعلى الماسنجر فليتك توضح لي هذه الجملة من أول سطر في موضوعك .. وجزاك الله خيرا.