المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثقافتنا إلى أين؟!



جـواد
02-09-2009, 03:54 PM
الشيخ مراد القدسي

دين الإسلام دين سماوي عالمي، جاء إلى الناس جميعاً، فهو لا يختص بأمة دون أمة، ولا بزمان دون زمان قال تعالى: ((وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ))، وقال عز من قائل: (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ))، وقال – صلى الله عليه وسلم -: (... وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة ) رواه البخاري.

والإسلام بعالميته يتضمن ثقافة تلبي حاجات الإنسان، وتقدر ما فطر عليه فلا تحرفه عنه، وتلبي غرائزه وطموحاته في نطاق المباح بحيث لا يطغى على حقوق الآخرين، وبحيث لا يتجاوز الحدود، كما أن تلك الثقافة احترمت عقله ورعته حق الرعاية حتى صار ناضجاً سوياً، وأمر المسلم - الذي تعرف على هذه الثقافة - أن يستزيد منها لينمو عقله، وليصبح عضواً فاعلاً في المجتمع، وحتى تكون مقياساً ومعياراً يقيس بها كل فكرة، وكل فكر وافد، فما قبلته قبله، وما ردته رده.

وإننا نتساءل في خضم تداعيات صنعاء عاصمة للثقافة العربية بسؤال المشفق الذي يرجو الخير لأمته:

ثقافتنا إلى أين؟ هل تسير في طريقها أم توقفت، أم تراجعت، أم تخطو في طريق معوج؟

وعندما أتساءل عن ثقافتنا لا أسأل أناساً في غير هذا البلد، ولا أسأل إلا المسلمين الذين انتسبوا لهذه الثقافة، واعتزوا بها.

ودعني أخي القارئ أجول بك قليلاً لنصل إلى جواب على السؤال، ثم أترك لك المجال لتتفق أو تختلف معي في إطار شريعتنا، ولنصحح ما نحن فيه.



مفهوم الثقافة:

تأتي الثقافة في لغة العرب: بمعنى الحزن، يقال: ثقف الرجل إذا حزن، وتأتي بمعنى سرعة الفهم، وتأتي بمعنى التهذيب، وتقويم المعوج، يقال ثقفت الشيء: أقمت المعوج منه، وهذه المعاني كلها تدل على معاني جميلة ينبغي أن تتوفر في الثقافة من سرعة الفهم، وحدة الذكاء، وتصحيح الإعوجاج، وتقويم المسيرة.

وأقوال المفكرين والمثقفين لم تخرج عن هذه المعاني فقال أحدهم: الثقافة: هي جماع السمات الروحية، والمادية، والفكرية، والوجدانية التي تميز مجتمعاً بعينه، وقيل هي: المعرفة التي تؤخذ عن طريق الأخبار، والتلقي، والاستنباط، وقيل هي: مجموعة الصفات الخلقية، والقيم الوجدانية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته.

ويُخلص من تلك التعاريف: أن الثقافة معارف وعلوم تتلقى، وأن الإنسان يكون جاهلاً في وقت ما ثم يتعرف عليها فيصبح مثقفاً، وأنها جزء من كيان الإنسان لأنه يتلقاها منذ نشأته الأولى، فإن لم يتلق الثقافة الصحيحة تلقى غيرها وضدها ولا بد، كما أن الثقافة الصحيحة والسليمة هي ما كانت شاملة للقيم والأخلاق، وسمو الروح والوجدان، ونضوج الفكر، وحسن التأمل والتفكر، وأنها وسيلة فاعلة لتميز المجتمعات، وتكسبها عدم التبعية لغيرها، وأن المجتمع الذي يترك ثقافته سيصبح تابعاً لثقافة الغير ولا بد.

وهناك مقياس ومعيار فريد مستمد من شريعتنا يميز به بين الثقافة المحمودة (المفروضة) وبين الثقافة المذمومة (المرفوضة):

فضوابط الثقافة المحمودة:

هي المنضبطة بهدى الوحي ابتداءً وانطلاقاً، ونهاية وغاية، لا تحيد عنه في مسيرتها وفي تقريرها.

وهي المحققة للمصالح المعتبرة شرعاً وعقلاً، فالشرع الصحيح والعقل الصريح يتفقان على مطلبين: رعاية المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها؛ بحسب ما يوافق الشرع، ولا يضر بالفرد والمجتمع.

وهي المؤدية للرقى الحضاري، والسمو الأخلاقي، وإبراز ما أودعه الله في هذا الكون من الأسرار والحكم، مع تعبيد الناس لخالقهم، وتقوية إيمانهم به.

فمن خلال هذا المعيار نستطيع ضبط ما يؤخذ من ثقافات وما يترك منها، وفي ظل زحمة الثقافات وما يقال من حوار الثقافات يصبح المرء حيراناً لا يهتدي إلى خير، ولا يعرف كيف السبيل إلى الأخذ بالثقافة الحقة وترك ما سواها، ولأني ناصح للقارئ الكريم أدعوه إلى تدبر أمرين:

الأول: الطريقة الشرعية في دراسة الثقافة الإسلامية، وتكمن في الآتي:

- أن يتصف الدارس بالثبات على الحق، والقوة فيه، وأن يتشبع من تلك الثقافة حتى يصمد أمام الثقافات الأخرى، فلا تضره ولا تخدعه.

- أن يدرس تلك الثقافة بعمق وفهم، ورسوخ وإيمان، مع تحويل كل ذلك إلى واقع عملي في حياة الأمة اليوم.

- وينبغي أن يتوفر في من أراد دراسة الثقافة الإسلامية أن يكون عنصراً، منتجاً، وفاعلاً، وطاقة خيرة في إصلاح نفسه ومن ثم إصلاح مجتمعه وأمته بعد ذلك، وبدون هذه الأسس سيبقى الكثير منا في حال تخبط وتيه أعظم من تيه قوم موسى - عليه السلام -.

والثاني: خصائص الثقافة الإسلامية:

عند النظر إلى خصائص الثقافة الإسلامية سنعرف جوانب تميزها، ولماذا ينبغي أن نأخذ بها ونترك ما سواها ولا نلتفت إليه:

1- ثقافة ربانية: أي مصدرها الوحي ( الكتاب والسنة )، أو ما لا يخالفه ولا يُنهى عنه وداخل في دائرة المباحات، قال تعالى: ((اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت علكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً))، فمن تمام النعمة أن تكون الثقافة من الله - سبحانه وتعالى - وهو الأعلم بما يصلح عباده، ويقوم سيرهم، وبهذه الخصيصة تبعد الثقافة عن الضلال والانحراف، وتجعل الالتزام بها نابعاً من داخل النفس، وموافقا للفطرة، وترقى بالفرد والمجتمع إلى الرقي المطلوب، والنهضة الحضارية.

2- ثقافة إنسانية (عالمية): وبهذا لا تفرق بين إنسان وآخر من غير موجب، فهي تلبي كل متطلبات الإنسان واحتياجاته قال تعالى: ((ولقد كرمنا بني آدم.. ))، وقال تعالى: ((وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ))، فالمسلم سيجد ما يقربه إلى ربه، والكافر سيجد ما يقوده إلى طريق الهداية ومعرفة الحق إذا التزما بها.

3- ثقافة شاملة ومتوازنة: فإننا نرى في ثقافات اليوم إخلالاً عجيباً، اهتمام بجانب الجسد والرغبات، وترك الجوانب الروحية، أو العكس تماماً، ولا تجد ثقافة إلا وفيها إخلال في جانب مما يحتاجه الإنسان، والثقافة الإسلامية تشمل كل جوانب حياة الإنسان، متزنة في عرضها، لا ترجح جانباً وتهمل جانباً آخر في حياته، فعندما أحب أبو الدرداء العبادة، وانقطع لها، وصام النهار، وقام الليل، وأهمل زوجه حتى تبذلت ولم تعرف زينة، سئلت عن ذلك فقالت: إن أبا الدرداء لا رغبة له في النساء، عندها يقول له سلمان - وقد أدرك هذا التوازن -: "إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك – ضيفك - عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه"، فيسأل الرسول عن ذلك فيقول: (صدق سلمان).

لقد عرف سلمان التوازن من خلال سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به الوحي فعند ذلك صدق فيما قال، وقال تعالى: ((وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا))، وقال تعالى: ((رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.. ))، لا مانع من التجارة ولكن في توازن بحيث لا تترك طاعة ربك ومولاك، ولا تلته عنها.

4- ثقافة متكاملة ومتناسقة: فهي تروى الغليل، وتشفي العليل، فلا تختلف في أحكامها بل يشهد بعضها لبعض، ويشبه بعضها بعضاً فلا ترى خلطاً في المفاهيم، ولا حرفاً للأخلاق، ولا سوءاً في التصرف، ولا تيه ولا ضلال ولا انحراف، فقد وصف الله كتابه وهو مصدر الثقافة الأعظم فقال عنه: "الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"، أحكامه وتفصيله من لدن حكيم خبير، وقال سبحانه: ((أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)).

5- ثقافة إيجابية: فهي تعطي وتقدم الخدمات للآخرين، فأوروبا ما خرجت من عصور الظلام إلا بفعل ما قدم لها المسلمون من حضارة وازدهار، ولم تكن من قبل شيئاً مذكوراً، وهي ثقافة بناءه تدعو إلى التفكير العميق، والتأمل والتدبر، وتشجيع العلم والاستزادة منه، وهي تدعو الإنسان إلى الشعور والتحمل لما يجب عليه من المسؤوليات، وليعرف دوره في الحياة، وأنه ليس سبهللاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.

6- ثقافة ذات قيم ومثل سامية: تدعوا إلى العفاف والطهارة، وسمو الروح وصلاح الأخلاق، وأن ينطلق الإنسان من المثل والقيم التي أرستها الشريعة في نفسه، فترفض المصالح الفردية والفوائد المادية على حساب المجتمع، كما أنها لا تقبل ولا تقر بطغيان الجماعة على مصالح الأفراد، فلا تلقي بالاً لميزان المادة الذي طرأ على حال الأمم اليوم.

وإذا رجعنا إلى الواقع قليلاً لنتعرف على واقع الثقافة اليوم نجدها ضياعاً للثقافة تحت مسمى الثقافة، أو مسخاً لها، وقد شاهدنا مما جرى في الأشهر القليلة الماضية من فعاليات صنعاء عاصمة الثقافة العربية فرأينا عجباً:

فإن الثقافة التي تفرض علينا ثقافة شرذمة منخلسة من الأمة وقيمها، بالرغم أن القطاعات العريضة لا ترضى بذلك ولا تقر به، كما أن الأوراق تخلط، فيدخل في الثقافة ما ليس منها بل مما يناقضها أو يهدمها، وثقافتنا بريئة منه، فالغناء والسفور، وسوء الأخلاق؛ يقدم للناس على أنه من الثقافة!!

بل هي تفرض التبعية لغيرنا، والتنازل عن مبادئنا وديننا، فتسمح لأعداء ديننا في عرض ما لديهم من فساد وانحلال، وتقدمه للمجتمع على أنه من ثقافتنا، فتمسخ هويتنا، وتسقطها في الهاوية.

نخشى أن ثقافة صنعاء في هذا العام يراد منها أن تقر المنكر ولا تأمر بالمعروف، بل وتمجد الاستبداد، وتثني عليه، وتبرمج له الفتاوى حتى يمر ويمرر ولا تصحح وضعاً مزرياً، ولا تغير واقعاً متردياً، فإلى الله المشتكى!!

وأصل بك إلى مسك الختام، بعد أن وضعت أمامك الحقيقة كما هي، والواقع كما هو حتى تكون لنا وقفة جادة في تغيير ما نرى من تردي في الأخلاق، وانحراف في الثقافة، وغرس مكان ذلك ثقافة سوية يرضاها ربنا منا ويحبها