المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة كشف الشخصيات (13) : داروين



حازم
05-20-2005, 11:23 AM
بقلم : سليمان الخراشى


داروين ومذهب التطور

( 1 )

من هو داروين ؟

هو « تشارلس داروين ». بريطاني. عاش ما بين عام (1808 و1882م) بدأ دراسة الطب ثم لم يكمل مسيرته. وانتقل إلى دراسة اللاهوت. وكان شغفه بالرحلات العلمية الاستكشافية وراء البحار. وتعلق بالبحث في عالم الأحياء. ودون ملاحظاته التي توصل إليها طوال ربع قرن من البحث. وتجلت له فكرة تطور الأحياء بعضها من بعض من ظاهرة التشابه في التكوين الجسمي بينها، ومن بعض ظواهر أخرى .

وكتب في ذلك كتابه المشهور « أصل الأنواع »، وقدمه إلى إحدى الجمعيات العلمية، وصدرت الطبعة الأولى منه في 14/11 سنة (1859م) وأحدث هذا الكتاب ضجة كبرى في الغرب، لاشتماله على أفكار جديدة تخالف المعتقدات السائدة .

ثم كتب كتابًا آخر سماه « أصل الإنسان » ونشره سنة (1874م). وقد خصص هذا الكتاب لموضوع التطور الإنساني .

( 2 )

خلاصة فكرة التطور الداروينية :

1 – تقوم فكرة التطور الداروينية على أن الكائنات الحية تسير في تطورها مرتقية من أدنى الأحياء إلى الأعلى فالأعلى، وأن الإنسان قد كان قمة تطورها .

2 – وبقاء بعض الأنواع وانقراض بعضها يرجع إلى ظاهرة الصراع من أجل البقاء، فالبقاء يكون للنوع المكافح الأفضل. وأما النوع الخامل الذي لا يكافح من أجل البقاء فإنه يضمر، ثم يضمحل، ثم ينقرض .

3 – والعضو الذي يهمل إذا لا تبقى له وظيفة عمل في النوع الواحد، يضمر شيئًا فشيئًا، حتى يضمحل، ولا يبقى منه إلا أثر يدل عليه، وقد لا يبقى له أي أثر .

كانت هذه هي الداروينية في عالم الأحياء، ثم عممت حتى شملت الوجود المادي كله، من الغاز السديمي الأول حتى المجرات فالكواكب، فالمواد الصالحة لظهور الحياة فالنبات، فالحيوان، وأمسى التطور مذهبًا .

وقد أجرى الداروينيون تنقيحات وتعديلات في آراء داروين من بعده، وحشدوا لفكرة التطور الطبيعي في الأحياء أسانيد ترجع كلها إلى ثلاثة عناصر :

1 – وجود التشابه في البناء الجسمي لدى الكائنات الحية .

2 – تأخر ظهور بعض الأنواع عن بعض .

3 – وجود زوائد في بعض الأحياء ليس لها وظيفة حاليًا، فوجودها ينبئ عن أنها كانت في أزمان غابرة ذات وظيفة، فلما أهملت ضمرت، وما بقي منها دالّ عليها، كالزائدة الدودية في أمعاء الإنسان .

( 3 )

الترويج للداروينية ومذهب التطور :

ورأى الملاحدة وأصحاب الفكر المادي في آراء «داروين » أساسًا يمكن أن يدعم مذهبهم، فاتخذوها أساسًا، وأخذوا يروجون لها في ميادين العلم، ويعتبرونها «نظرية » مع أنها لا ترقي في سلم البحث العلمي عن كونها « فرضية » .

وبعد أن أطلقوا عليها زورًا وتزييفًا عنوان « نظرية » أضافوا إليها فكرة جديدة، وهي أن نظرية التطور قادرة على تفسير نشأة الخلق، ونشأة الحياة، من مادة الكون الأولى التي هي سديم غازي، أي سحابة غازية مؤلفة من أدنى الغازات تركيبًا، وأن هذا التطور قد كان تطورًا ذاتيًا، وليس ذا حاجة إلى تدخل خالق ذي قدرة وعلم وحكمة، فالتطور بطبيعته الذاتية قد أجرى هذه التغييرات العظمية التي نشاهدها في الكون وفي أنفسنا .

وانطلقت الأجهزة اليهودية العالمية ضمن خطط مرسومة، تروج لهذه النظرية المدعاة، في أسواق العلم، وفي ميادين الثقافة، وفي أجهزة الإعلام المختلفة، وتمجد بها وبواضعها داروين، وترفعه إلى درجة غير عادية .

( 4 )

هل قدم داروين آراءه مقترنة بإنكار الخالق ؟

الناظر في كتاب « أصل الأنواع » لداروين، لا يلاحظ فيه أن هذا الرجل قد أنكر فيه وجود الرب الخالق جل وعلا .

إنه لم يقرر فيه فكرة التطور الذاتي، ولا التولد الذاتي، بل فيه ما يشعر بأنه فكرة التطور التي يقول بها، إنما هي من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة .

فهل كان ذلك خطة مداهنة ومصانعة للمؤمنين بالله، حتى لا يثوروا عليه، ويرفضوا آراءه جملة وتفصيلاً، أو كان من المؤمنين بالله إيمانًا نصرانيًا، لاسيما وهو خريج دراسات لاهوتية، إلا أن الملاحدة واليهود قد استغلوا مذهب التطور لتأييد المادية وإنكار وجود الخالق، من وجهة نظرهم .

ونقلاً عن « إسماعيل مظهر » أورد المقتطفات التالية من كتابه « أصل الأنواع ».

1 – جاء في آخر الفصل الخامس منه قوله :

« فإذا اعتقد معتقد بأن أنواع جنس الخيل قد خلقت مستقلة منذ البدء، لما تيسر له أن يثبت اعتقاده إلا بالقول بأن هذه الأنواع قد خلق كل منها وفيه نزعة إلى التغاير، سواء أكان بتأثير الإيلاف أو بتأثير الطبيعة الخالصة ... » .

ثم دفع مزاعم بعض المنكرين لإمكان تطور الأحياء، وعقب عليه بقوله :

« فهم يشوهون صبغة الله وخلقه ».

2 – وجاء في الفصل الخامس عشر منه قوله :

« هنالك مؤلفون من ذوي الشهرة وبعد الصيت مقتنعون بالرأي القائل بأن الأنواع قد خلقت مستقلة. أما عقيلتي فأكثر التئامًا مع المضي فيما نعرف من القوانين والسنن التي بثها الخالق في المادة ... » .

3 – وجاء في آخر كتابه المذكور قوله :

« إني أرى فيما يظهر لي أن الأحياء التي عاشت على هذه الأرض، جميعها من صورة واحدة أولية، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة، وعلى أن أساس هذه النتيجة المشابهة، فالتسليم بها وعدمه غير جوهريين » .

لكن يوسف كرم ([1]) ذكر أن داروين كان مؤمنًا بالله ثم تطور شيئًا فشيئًا حتى أعلن أسفه لاستعماله لفظ الخلق مجاراة للرأي العام، وصرح بأن الحياة لغز من الألغاز، وذكر أنه وصل إلى مذهبه (لا أدري) فهو لا يقول بالعناية الإلهية ولا يقول بالمصادفة، وأن الكلمة الأخيرة عنده هي « أن المسألة خارجة عن نطاق العقل، ولكن بوسع الإنسان أن يؤدي واجبه ».

الرأي العلمي الأخير في مذهب التطور :

يرى جمهور أهل البحث العلمي المعاصرين، والمشتغلين بعلم الأحياء، أن ما يسمى بنظرية التطور لا يرقى إلى مستوى « النظرية ». بل هو لدى التحقيق لا يزال في مستوى «الفرضية ».

وذلك لأنه لم يوجد حتى اليوم أي دليل واقعي مشاهد ولو معمليًا يرجح صحة الفرضية، ولو بمثال واحد من الأمثلة التي يصح الاعتماد عليها، كأساسٍ للتطور المقرر في النظرية المدعاة أو المتخيلة .

يقول « سير آرثر كيث » في مقال له جاء في كتاب « العلم أسراره وخفاياه » بعنوان: [داروين و « أصل الأنواع » ].

« ويقرر بعض النقاد الحديثين للانتخاب الطبيعي، بأنه لا حول له ولا قوة في إحداث صور جديدة من النبات أو الحيوان ».

وذكر عن بعض النقاد أن كيفية حدوث التطور، أو آلية التطور الموصوفة في كتابه «أصل الأنواع » لداروين، قد تكون كلها خاطئة .

ثم قال: « وإذا كان حقيقة كذلك، فقد يصبح « أصل الأنواع » غير متمش مع الزمن إطلاقًا ».

لكن « سير آرثر كيث » من الذين يستمسكون بمذهب النشوء والارتقاء، وهو مذهب التطور الذاتي، على الرغم من أنه غير ثابت علميًا، وعلى الرغم من أنه لا سبيل إلى إثباته بالبرهان. وذلك لأنه لا خيار له إذا لم يأخذ بمذهب التطور الذاتي، إلا أن يؤمن بالحق الرباني الخاص المباشر، وهو غير مستعد لهذا الإيمان، بعد أن اتخذ لنفسه الإلحاد مذهبًا وعقيدة، لذلك فهو يقول في مكان آخر :

« إن نظرية النشوء والارتقاء غير ثابتة علميًا، ولا سبيل إلى إثباتها بالبرهان، ونحن لا نؤمن بها إلا أن الخيار الوحيد بعد ذلك هو الإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا لا يمكن حتى التفكير فيه » ([2]) .

( 6 )

موضوعات مذهب التطور وموقف المفكر الإسلامي منها :

يتناول مذهب التطور ثلاثة موضوعات :

الموضوع الأول : تطور المادة غير الحية من السديم الغازي، حتى تكونت النجوم والكواكب .

الموضوع الثاني : كيف دبت الحياة في المادة ؟ أو كيف تطورت المادة حتى كانت فيها كائنات ذوات حياة ؟

الموضوع الثالث : كيف وجدت أنواع الأحياء؟، أو كيف تطور بعضها من بعض في سلسلة مرتقية صاعدة، حتى بلغت قمة التطور عند الإنسان .

الشرح :

1 – أما الموضوع الأول، وهو فكرة تطور المادة غير الحية من السديم الغازي، حتى تكونت النجوم والكواكب .

وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع فيتلخص بما يلي :

أولاً : إن كان التطور المدعى مقرونًا باعتقاد أن هذا التطور معتمد على خطة رسمها الخالق عز وجل، فهو سنة من سننه، ويتم الأمر بخلقه، فأمر ادعائه سهل، ولا ينبني عليه مناقضة لقضية من قضايا الدين الحق .

والمنهج السليم يحتم علينا أن نترك هذه القضية للبحث العلمي، إذ ليس لدينا في المفاهيم الإسلامية ما يتعارض معها، بل قد نجد ما يلتقي معها نوع لقاء، مثل كون السماء في أول أمرها دخانًا، ومثل كون عرش الرحمن أول الأمر على الماء، ومثل تكامل عملية خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهي أيام لا ندري مقاديرها، فهي على كل حال ست أحقاب زمنية .

على أن الموضوع لا يعدو من وجهة نظر العلم الصحيح أن يكون افتراضًا نظريًا فكريًا، قد تدل عليه بعض الأمارات التي تسمح بالتخمين، ولا تسمح بوضع نظرية جازمة.

ثانيًا : وإن كان التطور المدعى مرادًا منه التطور الذاتي، أي الذي لا يخضع لخطة خالق عليم حكيم قادر، فهو أمر مرفوض حتمًا، علميًا، ودينيًا، وفلسفيًا .

وذلك لأنه لا يسمح التطور الذاتي، لو أمكن أن يوجد، بإحداث هذه المتقنات العجيبة المترابطة في الكون كله، وليس أمام مدعي التطور الذاتي إلا ادعاء أن هذا الإتقان قد تم على سبيل المصادفة .

وقد أثبت الباحثون الرياضيون وغيرهم أن مثل هذا الإتقان الكوني العجيب من المستحيل أن يكون بالمصادفة، وأقوالهم في هذا كثيرة .

فالمصادفة في أحداث التطور الكوني المدعى مرفوضة علميًا ورياضيًا وواقعيًا، مهما تهرب الماديون من مضايق البراهين العقلية والعلمية، لافتراضات الأزمات السحيقة التي يمكن أن تسمح بمصادفة تصنع متقنًا ما .

يقول « جون أدولف بوهلر » ([3]) :

« عندما يطبق الإنسان قوانين المصادفة لمعرفة مدى احتمال حدوث ظاهرة من الظواهر الطبيعية، مثل تكوين جزيءٍ واحد من جزئيات البروتين من العناصر التي تدخل في تركيبه، فإننا نجد أن عمر الأرض كلها لا يكفي لحدوث هذه الظاهرة ».

2 – وأما الموضوع الثاني، وهو كيف دبت الحياة في المادة، أو كيف تطورت المادة حتى ظهرت فيها كائنات حياة ؟

وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع، فيتخلص بما يلي :

إن النصوص الدينية تكشف لنا أن الحياة سر من أسرار الخالق، ونفخة ربانية روحية في المادة .

فالحياة ليست نتاج المادة، بل المادة وعاءٌ لها .

لقد خلق الله جسم آدم من الطين، ولما سواه نفخ فيه من روحيه، فصار إنسانًا حيًا، بعد أن كان مادة ميتة .

وبعد أن يعلق الجنين في رحم أمه، يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقه مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح .

وعندئذ تدب فيه الحياة الإنسانية .

وحين أراد الله أن يخرق سنته في خلق عيسى عليه السلام من أم بدون لقاح أب، أرسل إلى أمه مريم الملك، فتمثل له بشرًا سويًا، قالت: إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيًا، قال: إنما أول رسول ربك لأهب لك غلامًا زكيًا .

وتم تكوين الغلام في بطنها بنفخة كان بها إنسانًا .

قال الله تعالى في سورة (التحريم: 66) :

+ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ".

وحين أعطى الله عيسى عليه السلام معجزة إحياء ما يصنع من الطين على هيئة الطير جعل في نفخته فيها سر الحياة .

مزاعم الماديين :

ويزعم أصحاب الفكر المادي أن الحياة من ظواهر التطور في المادة، فالحياة وما يتبعها من صفات الإحساس والإدراك والفكر والعواطف والانفعالات كلها من ثمرات تطور المادة، وصـفات من صفات المادة، متى تركبت بشكل معقد كالشكل الذي ظهرت به الأحياء.

ولا يقدم الماديون لإثبات هذا الادعاء أي دليل عقلي أو علمي، لأنهم لا يملكون شيئًا من ذلك، ولم يستطيعوا بعد كل الجهود التي بذلوها أن يقدموا أي دليل علمي. وما قدموه مجرد تكهن تخيلي، ورغبات يريدون أن يكون الواقع على وفقها، ولكن الحق والواقع لا تصنعه رغبات الناس وأهواؤهم .

كشف الزيف :

هذا الادعاء الذي ادعاه الماديون مرفوض علميًا، من قبل علماء الأحياء أنفسهم .

وذلك لأن القرار الذي انتهى إليه علماء الأحياء بعد تجارب كثيرة ومتنوعة، يجزم بأن المادة الميتة لا يمكن أن تتحول ذاتيًا إلى مادة حية، وأن الحي لابد أن يتولد عن حي أو يشتق من حي .

ولم يستطع العلماء الماديون المتفرغون باهتمام شديد في الشرق والغرب لتخليق أدنى خلية حية وأقلها تركيبًا وتعقيدًا، أن يتوصلوا إلى تخليق مثل هذه الخلية من المادة، دون أن يأتي التخليق من حياة سابقة لها .

فالقرار العلمي الواقعي الأخير: إن الحياة لا تتولد إلا من حياة .

كما كان قد قرر ذلك من قبل، العلماء المؤمنون بالخلق الرباني من علماء الأحياء، مثــل: « أغاسـيز ». وأخيرًا العالم الفرنسي الشهير « باستور » ([4]) مكتشف جراثيم الأمراض.

ومع ذلك فقد ظل الماديون يرغبون في اعتقاد أن الحياة ظهرت نتيجة تطور المادة تطورًا ذاتيًا، واعتبروا ذلك اعتقادًا فلسفيًا، لأنه لا بدليل بعد رفض هذا الاحتمال إلا بالإيمان بالخلق الخاص المباشر، وهذا أمر يرفضونه، لأنهم لا يريدون الإيمان بخالق غيبي لا يشاهدونه. هكذا اعتباطًا من غير ذلك، على الرغم من أنهم يؤمنون بغيبيات كثيرة يستنتجونها استنتاجًا نظريًا فلسفيًا، دون أن يكون لها شواهد من الواقع المشاهد .

وحين يؤمنون بغيبيات عن حواسهم وأجهزتهم تثبتها لهم استنتاجاتهم النظرية، كصفات الذرة وخصائصها، نجدهم ينكرون على أصحاب الاستنتاجات الفكرية النظرية العقلية، ما توصلهم إليه استنتاجاتهم المتعلقة بغيبيات دينية، حول الخالق عز وجل وصفاته العظيمة .

هذا منهم تناقض مع أنفسهم، يؤمنون بسلامة الاستنتاج العقلي حينًا، ويجحدونه وينكرون على من يستند إليه حينًا آخر .

والمتتبعون للماديين في مجالات العلوم، وفي مجالات الحياة المختلفة، يلاحظون أن الماديين لا ينفكون عن الاعتماد على الاستنتاجات الذهنية العقلية، بل يسرفون أحيانًا إسرافًا شديدًا في الاعتماد عليها، كالاستنتاجات السياسية التي تمس أشخاصهم ومبادئهم ومذاهبهم ومنظماتهم الحزبية والإدارية .

مقولة من العلماء الطبيعيين حول النشوء الذاتي :

جاء في كتاب « التطور عملياته ونتائجه » ([5]) ما يلي :

« لم تعد نظرية النشوء الذاتي تحظى باحترام البيولوجيين، بعد عمل « ريـــدي » ([6]) و« سبالنزاني ».

ولكن اكتشاف البكتيريا غير ذلك، فهذه كائنات حية أبسط مما كان يتصور فيما مضى، والبكتيريا موجودة في كل مكان، وكان من الصعب جدًا أن لا توجد في أي وسط مناسب لنموها. وقد كان احتمال حدوثها ذاتيًا داخل أي وسط عضوي فكرة كثير من المعضدين المناصرين. (أي: لفكرة النشوء الذاتي) .

ولكن تجارب « باستور » المشهورة قد نقضت ذلك تمامًا، فقد حفظ حساء مغليًا في إناء مقفل لا يدخل فيه الهواء إلا من خلال أنبوبة شعرية ملتوية، لتكون بمثابة مصيدة للجزيئات الصلبة، وبذلك كان الحساء معرضًا للتأكسد لوصول الهواء إليه، ولكن لم تظهر فيه بكتيريا (لأنها علقت في الأنبوبة ولم تصل إليه، فكانت بمثابة مصفاة لها) .

ولهذا كان من الواضح أن الهواء الحامل للبكتيريا هو الذي يصيب الحساء المعرض، وأن البكتيريا نفسها قد نشأت فقط من البكتيريا التي سبق وجودها. وقد كانت هذه هي الضربة القاضية على فكرة النشوء الذاتي للكائنات المعقدة .. ».

مقولة مادي مكابر :

وفي مقال بعنوان « أصل الحياة » لجورج والد، وهو مقال جاء في كتاب «العلم أسراره وخفاياه » نجد أن هذا المختص في علم الأحياء قد ظل من الذين يعتقدون فكرة التولد الذاتي للحياة من المادة غير الحية اعتقادًا فلسفيًا، رغم اعترافه بأن تجارب «باستور » عندما أتمها تقوضت أركان عقيدة التولد الذاتي .

ورغم اعترافه هذا قال ما يلي :

« ونحن ننقل إلى المبتدئين في دراسة علم الأحياء هذه القصة لتمثل انتصار العقل على الاعتقاد، وهي تمثل في الحقيقة عكس ذلك تقريبًا .

فالنظرة المصيبة هي الاعتقاد في التولد الذاتي، والبديل الآخر الوحيد لها هو الاعتقاد الخلق الخارق للطبيعة، الذي يعد حدثًا فريدًا وأساسيًا، ولا يوجد بديل ثالث لهما.

ولهذا السبب فقد اعتبر كثير من المشتغلين بالعلوم منذ قرن مضى عقيدة التولد الذاتي ضرورة فلسفية. وإن من أعراض عجزنًا الفلسفي حاليًا أن هذه الضرورة فقدت تقديرها.

وبرغم أن أحدث المشتغلين بعلم الأحياء قد أثلج صدورهم انهيار عقيدة التولد الذاتي، فإنهم ليسوا على استعداد لتقبل العقيدة البديلة لها، وهي الخلق الخاص، ومن ثم فقد فقدوا جميع الاحتمالات .

وإني لأعتقد أنه ليس ثمة اختيار أمام المشتغل بالعلوم سوى أن يتفهم أصل الحياة عن طريق التولد الذاتي » هـ .

التعليق :

هكذا نلاحظ أن القائلين بالتولد الذاتي قد طرحوا مقتضيات الدلائل العلمية، ولجؤوا إلى الاعتقاد الذي أسموه اعتقادًا فلسفيًا، مع أنه لا سند له من العقل، ولا سند له من العلم، كل ما في الأمر أنهم غير مستعدين للإيمان بالخلق الرباني .

لماذا ؟ . ليس لديهم جواب، إلا أن مذهبهم المادي الإلحادي الذي لا دليل عليه من العقل ولا من العلم يفرض عليهم أن يرفضوا قضية الإيمان بالله، ثم لا بديل بعد ذلك إلا الاعتقاد بالتولد الذاتي، إذْ هو الاحتمال الوحيد بعد رفض الإيمان بالله وخلقه للأشياء .

وهكذا يظهر بشكل مفضوح جدًا تهافت القائلين بنشأة الحياة عن طريق التولد الذاتي، ويظهر تعصبهم الأعمى ضد قضية الإيمان بالله الخالق العليم الحكيم القدير .

3 – وأما الموضوع الثالث، وهو كيف وجدت أنواع الأحياء؟، أو كيف تطور بعضها من بعض في سلسلة مرتقية صاعدة، حتى بلغت قمة التطور عند الإنسان؟ .

وموقف المفكر الإسلامي من هذا الموضوع، فيتلخص بما يلي :

نظرة إلى فكرة تطور أنواع الأحياء :

لقد درس « داروين » ومن جاء بعده من الذين نقحوا آراءه أنواع الأحياء، ما كان منها حيًا وقت الدراسة، وما جمعوه من الحفريات التي قاموا بها، وما شهدوه من دفائن القرون الأولى في الصخور والكهوف، وما جمعوه من مخلفات الأحياء في الرمال، وبقايا السيول القديمة، وما استخرجوه من محفوظات الثلوج المتراكمة من أزمان قديمة، فانتهوا إلى حقائق وصفية بنوا عليها تفسيرات احتمالية تخمينية .

وأهم الحقائق الوصفية التي توصلوا إليها ما يلي :

1 – وجود التشابه في خطة بناء الأجسام، وفي سلوك الكائن الحي .

2 – وجود بعض زوائد في بعض الأجسام، كالزائدة الدودية عند الإنسان، دون أن يكون لها وظيفة في جسم الإنسان حاليًا، كما بدا لهم ([7])، وكاستطالة سلسلة الظهر السفلي عند بعض الناس استطالة تشبه بقايا ذيل تقاصر، فهو كما بدا لهم في طريقة إلى الزوال .

3 – تأخر وجود بعض أنواع الأحياء على سطح الأرض عن بعض .

فمن ظاهرة التشابه، ووجود بعض الزوائد التي ليس لها وظائف حاليًا كما بدا لهم، وتأخر وجود بعض أنواع الأحياء عن بعض وفق حساب أعمار أقدم ما اكتشف من أجسامها المدفونة ومتحجراتها، استنتج « داروين » والذين نقحوا فكرة التطور من بعده استنتاجًا فكريًا، أن الكائنات الحية تطورت تطورًا ذاتيًا تصاعديًا، من أدنى الكائنات الحية حتى الإنسان الذي هو أعلاها كمالاً .

وكانت « الأميبا » هي أدنى الكائنات الحية في التصور، ثم جاء التصحيح إلى «الباكتيريا » التي هي أدنى من الأميبا بعد اكتشافها، ثم جاء التصحيح إلى «الفيروس » الذي هو أدنى من الباكتيريا بعد اكتشافه، فالفيروسات في نظرهم الآن تتوسط الحد الفاصل بين الحي وغير الحي .

كشف الزيف :

لكن هذا الاستنتاج استنتاج احتمالي نظري، وليس أمرًا علميًا مؤيدًا بشواهد من الواقع، إذ لم يلاحظ الباحثون في الطبيعة ولا في المختبرات حالة واحدة من حالات التطور المتخيلة في الاستنتاج، لكن التخيل طرح ذلك على الأحقاب الزمنية الغابرة، وتخلص من المطالبة بالشواهد من الواقع .

على أن التطور لو ثبت علميًا بشواهد من الواقع في الطبيعة، فإنه لا يفيد أن التطور حدث ذاتيًا، بل النظرة الإيمانية القائمة على ملاحظة الحكمة في الخلق تقدم البرهان على أن خطة الخالق قد رتبت عمليات الخلق وفق سنة التطور، كما رتبت عملية خلق الإنسان وفق أطواره حتى يكون نطفة، فجنينًا، فطفلاً، فيافعًا، فبالغًا أشده، فما وراء ذلك من أطوار.

ومن البدهي أن التشابه في الأنواع المختلفة لا يقتضي النسب بينها، ولا يستلزمه عقلاً، فالأمر يتوقف على ثبوت ذلك النسب بشكل واقعي، نعم قد يكون إحدى الأمارات الضعيفة.

وكذلك تأخر ظهور بعض الأنواع الراقية عن أنواع سابقة لها في الوجود، لا يقتضي أن السابق أب أو جد لما ظهر بعده، إذ الاحتمال الأقرب للتصور أن يكون مبدع النوع الأول قد أبدع بعده النوع الأرقى، ثم أبدع بعد ذلك الأرقى فالأرقى، ثم أبدع أخيرًا الإنسان.

وهذا ما نلاحظه في سلسلة المبتكرات والمخترعات الإنسانية، فاللاحق كثيرًا ما يكون وليد فكر المبدع ونتاج عمله، بالاستناد إلى ملاحظته للسابق، وليس ثمرة التطوير للسابق نفسه في واقع العمل، بحذف شيء منه وإضافة شيء إليه، فالعملية تكون عملية فكرية، ويأتي التطبيق الواقعي غالبًا بناءًا جديدًا .

ومهما يكن من أمر فالاحتمالات أمران متكافئان إمكانًا، بشرط ربط كلٍ منهما بأنه مظهر لاختيار مدبر خالق حكيم .

أما التطور الذاتي إلى الأكمل دون تدبير حكيم عليم قدير خالق، فهو أمرٌ مستحيل عقلاً، إذ الناقص لا ينتج الكامل في خطةٍ ثابتة، وهو بمثابة إنتاج العدم للوجود .

وإحالة الأمر على المصادفة إحالة على أمر مستحيل علميًا ورياضيًا في عمليات الخلق الكبرى .

وقد قرر أصحاب فكرة التطور أزمانًا سحيقة لظهور الكائنات الحية المتطورة، ثم لظهور الإنسان الأول، واعتبروا هذه الأزمان كافية نظريًا لحدوث التطور .

إلا أن علماء الفيزياء والجيولوجيا قد أظهروا منذ عام (1950م) وما بعده عدم صحة ما حدده أصحاب مذهب التطور من أزمان سحيقة، فعمر الحياة في الأرض أقصر من تقديرهم بكثير، وعمر الأرض أيضًا أقل مما قدروه بكثير، فما يلزم في رأيهم للتطور الذاتي من زمن غير متوافر في الواقع مطلقًا .

واعترف بذلك القائلون بالتطور أنفسهم، فقد جاء في مقال بعنوان «نظرية التطور منقحة » بقلم « روث مور » بكتاب « العلم أسراره وخفاياه » :

« منذ عام (1950م) والشواهد العلمية تشير بلا مهرب منه إلى حقيقة واحدة، هي أن الإنسان لم يظهر سواء في الوقت أو بالطريقة التي يقول بها «داروين » وعلماء التطور الحديثون، فلقد أظهر علماء الفيزياء والجيولوجيا منذ عام (1950م) بوضوح أن العالم أقدم، وأن الإنسان أصغر سنًا كثيرًا عما اجترأ أي واحدٍ على تقديره من قبل ... » .

ونظيره قول « جون أدولف بوهلر » الذي سبق عرضه في هذا الفصل.

بعد هذا أقول :

إن فكرة التطور لو ثبتت علميًا فإننا لا نجد في الإسلام نصوصًا ترفضها، ما دام الأمر راجعًا إلى حكمة الله الخالق وتقديره، باستثناء خلق الإنسان الذي جاء في القرآن والسنة وصف صريح حول الطريقة التي تم بها خلقه، فهي طريقة ظاهرها ينافي أن يكون الإنسان متطورًا من سلسلة الحيوانات التي يه دونه في الخلق .

لكن يبدو أن من المتعذر أن تثبت فكرة التطور علميًا، فهي ستظل في دائرة الاحتمال الإفتراضي، والله أعلم .

على أن القرآن الكريم قد وجه للسير في الأرض والبحث فيها لمعرفة كيف بدأ الله الخلق، فقال الله عز وجل في سورة (العكنبوت) :

+ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) ".

ولابد أن يكون هذا النظر هاديًا، إلى دلائل الإيمان بالله الخالق، لا إلى عكس قضية الإيمان .

( المرجع : " كواشف زيوف " للأستاذ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني ، ص 317-332) .



--------------------------------------------------------------

([1] ) انظر: كتابه « تاريخ الفلسفة الحديثة » ص354 – 355 .

([2] ) انظر: كتاب « صراع مع الملاحدة » للمؤلف .

([3] ) عن كتاب « الإنسان في الكون » للدكتور : عبدالعليم عبدالرحمن خضر .

([4] ) هو لويس باستور أو (باستير). عاش ما بين (1822- 1895م). كيميائي فرنسي. أدت تجاربه على البكتيريا إلى القضاء على فكرة التولد الذاتي، كما أدت بحوثه في النبيذ والخل والجعة إلى نشوء البسترة، فالمأكولات والمشروبات المبسترة، أي: المحفوظة من تسرب البكتيريا إليها، تسمى مبتسرة نسبة إلى مكتشف الطريقة « باستور ». من أعماله أنه حل مشكلات التحكم في دود الحرير، وكوليرا الدجاج، ونمّى التطبيق الفني لعملية التطعيم ضد مرض الجمرة، وبعد ذلك ضد داء الكلب.

([5] ) تأليف « اداورد . أو . دودسن » ترجمة: « د. أمين رشدي حمدي. ود: رمسيس لطفي ».

([6] ) هو : فرانشيكو ريدي. عالم طبيعي إيطالي، من رجال القرن التاسع عشر الميلادي. ساعد على دحض فكرة التولد الذاتي عن طريق تجارب محكمة، بينت أن كائنات حية معينة – لاسيما يرقات الذباب في اللحم النتن – لا تنشأ إلا عند تكاثر كائنات حية شبيهة بها .

([7] ) أثبت الطب حديثًا أن الزائدة الدودية ذات وظيفة في جسم الإنسان، وهي جهاز لمفاوي مناعي في البطن كغيره من أجهزة المناعة في جسم الإنسان لذلك تدعى باسم « لوزات البطن ».