المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إغاثة الحيران من وساوس الشيطان



خالد الورشفاني
05-20-2005, 07:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:

فإن مما يميز أهل العلم والإنصاف أنهم يكتبون مالهم وما عليهم، عمدتهم في ذلك الإخلاص في طلب الحق ونصرة العدل، أما أهل الضلال والجور فإن من منهجم أنهم لا يكتبون إلا ما يعتقدونه مساندا لباطلهم، وداعما لضلالهم، وقد ادعى خصومنا فيما ادعوه أنهم ينتقدون الديانات السماوية - كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا - ، وهذا لو سلمنا بصحته مع أنه من المحال عقلا، فإن منهج النقد العلمي القويم يقتضي ممن ادعاه أن يلتزم به وأن يبدي من محاسن خصومه ما يستلزمه مقام النقد وأمانة العلم.

إلا أنا حين ننظر فيما سوده الخصوم من الصفحات، لا نرى سوى حملةٍ مسعورةٍ قد بدت البغضاء من أفواه أصحابها وأقلامهم وما تخفي صدورهم أكبر، حملة تتقزم فيها كل دعاوى العلمية والمنهجية والعقلانية، وههنا جملة قضايا ألخصها فيما يلي:

1- إن القدح في فروع الشريعة بهدف نقدها مسلك غير سوي، ولا علمية فيه، فإن الأصل في النقد العلمي أن يكون منصباً على الأسس التي بنيت عليها الفروع، ومن المقرر عقلا أن صحة الأصل يستلزم بالضرورة صحة الفرع الذي بني عليه.

ومعنى ذلك أن الكلام في دين الله تعالى فرع عن الكلام في الأصول التي بني عليها هذا الدين، كالرسالة والوحدانية والنبوة، فإذا ثبتت صحة هذه المقدمات سلمنا حينئذ بما نتج عنها وتفرع منها، وإذا بطلت هذه المقدمات بطل ما بني عليها.

أما ما جرى عليه الخصوم من الخوض في الفروع والجزئيات قبل الحكم على أصولها وكلياتها، فأراه منهجا متهالكاً لا يدل على نظر صحيحٍ، لأجل ذلك وصف من سلك هذا المسلك بالسفاهة في قوله تعالى" سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"، ولأجله أيضا رد القرآن على الكثير من الشبهات التي أثارها المغرضون لئلا ينجر المسلمون إلى معركة لا طائل من ورائها.

أما ماكان من مناظرتنا للخصوم في بعض الدعاوى التي أوردوها على بعض الفروع والتي بينا من خلالها خطأ الخصوم في تصورها وفهمها، فنحن إنما فعلنا ذلك من باب مجاراتهم وكشف عوار شبهاتهم، وإلا فإن الكلام في الأصول هو الأليق؛ لأنه كلام محدود، والأولى بطالب الحق – أو الناقد – أن ينظر في الأصول التي اتفقت عليها أمة الإسلام وأن يتكلم فيها إن كان عنده ما يقول، أما الفروع فسيظل المتحيرون يتكلمون فيها حتى يأتيهم اليقين، ولك بعد هذا عزيزي القارئ أن تحكم على الخصوم هل هم أصحاب عقل وبصيرة وطلابُ يقين أم لا؟.

وتنبيه أحببت ألا يفوت القراء الكرام، وهو أن كل من أراد الخوض في نقد الأصول لزمه أمران اثنان:
الأول: أن يثبت أن المسألة التي يتكلم فيها مما يمكن أن يوصف بأنه أصل، وذلك لأن الأمة اتفقت على مجموعة من القضايا الكلية وعدتها أصولاً: كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله؛ حيث إن الخروج عليها يعد خروجاً من الدين، وبهذا الاعتبار كانت أصولاً، وحق لنا أن نصف خصومنا الخارجين على هذه الأصول بأنهم كفار لانماري في ذلك و لانداري، وفي الوقت نفسه فإن علماءنا رحمهم الله تعالى تنازعوا في بعض المسائل، هل هي من الاصول أم لا؟ كترك الصلاة مثلاً وغيرها من المسائل، فمن دلت الأدلة عنده على أنها شبيهة بالأصول ألحقها بها، ومن رأى بها شبهاً بالفروع قال بفرعيتها، والذي يبدو لي أن التنازع في كونها أصولا أم لا يخرجها عن مسمى الأصول، والحاصل أننا أردنا التنبيه على هذا حتى لا تتحول الفروع إلى أصول أو العكس.

والثاني: أن يقيم لنا الدليل على بطلان هذا الأصل مستنداً إلى ذات المنهج الذي دل على أنه أصل معتبر عند من يخالفه، وحينئذ لا يكفي إدعاء أن أصلاً ما مخالف لمقتضى العقول، حتى يقيم عليه الحجة بمقتضى نظر الخصم، وأرجو أن تكون العبارة واضحة غير مشكلة.

2- حين نتكلم عن النقد العلمي لأي مسألة من المسائل فلا مناص من بيان المنهجية التي سيعتمدها الناقد في بحثه الحثيث نحو الوصول إلى نتيجة كلية تفيد تناقض أدلة الخصوم أو تعارضها دون أن يكون هناك وجه- عقلي أو شرعي- ممكن للجمع بينها ، ولابد كذلك من بيانٍ واف لسبب اختيار تلك المنهجية، لأننا نحاكم الناقد من خلال منهجيته التي من المفترض أن يسير عليها حتى نستطيع أن نحكم إما له أو عليه،خاصة حين يطلب منا خصومنا أن نتخلى عن عقيدة نعتقد أنها أسمى عقيدة وأصحها، ونعتقد كذلك أنها لا تتعارض مع العقول الصحيحة الصريحة في شئ من الأشياء، ويطلب منا خصومنا مقابل ذلك أيضاً أن نتبع زبالات أفكارهم وتخيلات عقولهم واضطرابات نفوسهم التي لا تستقر على فكر ولا ترتاح لأمر، فكلما أثبتت عقولهم لهم شيئاً، رأيتهم يناقضونه في الصفحة ذاتها أو المقال ذاته بناء على نتاج عقولهم كذلك دون خجل أو وجل.

فعلى سبيل المثال نرى الخصوم يتذبذبون في دعاواهم ويناقضون أنفسهم حين يختارون من أحداث التاريخ ما يوافق أهواءهم، ثم بعد ذلك يردونها إذا صدرت من خصومهم، وقد بينا شيئاً من ذلك فيما كتبنا، وحينئذ لا يمكن أن توصف منهجيتهم – إن كان لديهم منهجية أصلا- بالعلمية أو الواقعية التي يعرفها كل تلميذ درس في مدارسنا الابتدائية فضلا عمن يريد أن ينتقد الأديان السماوية.

أما قولهم إنهم يتحاكمون إلى العقل فهذه عبارة مجملة تحتاج إلى تفصيل، ومن أيسر ما يرد على ذلك سؤال يقول: إذا اختلف عقلي وعقلك في مسألة ما، فعقل من سيكون الفيصل بيننا؟ فإن قال الخصوم: عقل زيد هو الفيصل، قلنا ولم لا يكون عقل عمرو؟ فإن وافقونا قلبنا الصورة وأعدنا عليهم السؤال ذاته، ولن يكون في إمكانهم أن يجيبوا إجابة مقنعة لعقولهم هم، فكيف يجعل الخصوم تقرير الحق والباطل إلى ميزان جائر غير دقيق.

وأمر آخر وهو أن العقول تختلف اختلافاً كثيرا فيما بينها لأسباب كثيرة أيضاً: فالهوى من أكبر دعاة الخلاف بين العقول، وكذلك ضعف الإدراك وقوته من عقل لآخر، وثقافة المخالف التي شكلت عقله وفكره، والعقل مسبوق بالعدم وسيصير إلى العدم فهو لا يفكر إلا محكوماً بهذه الحدود الضيقة.

حينئذ يتقرر عند العاقل أن العقل وحده لا يمكن أن يكون على صواب مطلقاً ولا على خطأ مطلقاً، والمعضلة التي يواجهها الخصم هي: من يبين لهم خطأ العقل من صوابه إذا استغنوا عن الوحي الإلهي المعصوم؟

3- لابد حين المحاجة من تصور المسألة التي يراد نقدها تصوراً صحيحاً، وربطها بجميع جزئياتها التي تتصل بها من قريب أو بعيد، وهذا معناه ضرورةً الإلمام بالدين وفقهه فقها يمكن صاحبه من فهم المسألة التي يتكلم فيها، أو على أقل تقدير الإلمام بها إلماماً يتفق مع شرع الله تعالى وقواعد الدين العامة،وقد شهد خصومنا على أنفسهم بأنهم لم يدرسوا الإسلام حق الدراسة، وأنهم إنما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، وكفى بهذا الاعتراف شهادة على أنفسهم بالجهل في دين الله تعالى، وحينئذ يقال للخصوم – هذا إذا أحسنا الظن بهم- ، إن هذا التعارض أو التناقض الذي زعمتموه بعد اعترافكم بالجهل بدين الله تعالى راجع إلى جملة أمور منها:

أ‌- ضعف عقولكم في تصور المسائل التي تخاصمون فيها وتجادلون وتعتقدون تناقضها أو عدم موافقتها للعقل، وقد قررنا آنفاً أن العقل المجرد لا يمكن الاعتماد عليه مطلقاً في رد ما يتوهم فيه التناقض، لأن الحجج العقلية الصرفة غير معصومة عن الخطأ، وكثيراً ما أوقعت أصحابها في ضلال الشك وانتهت بهم إلى الحيرة، فمنهم من زاده ذلك ضلالاً وحيرة، ومنهم - وهم المنصفون من العقلاء- من اعترف بقصور عقله، ولنا شواهد كثيرة على هذا من تراثنا الإسلامي ممن انتهت إليهم الرياسة في العلوم العقلية والشرعية.

ومن الأدلة التي ترجح هذا المعنى وتقرره أن خصومنا أخطأوا في تصورهم مرات عديدة بسبب ضعف عقولهم، وأنا أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر أنهم تصوروا خطأ وجهلاً أن القرآن يطلق حكمين يناقض أحدهما الآخر، فقالوا إن القرآن قرر أن اليهود هم شعب الرب المختار، وكذلك جعل القرآن الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس،فقالوا: هذان حكمان يناقض أحدهما الآخر ويبطله، وهذا أخي القاري المتابع لهذه المساجلات بيننا وبين خصومنا من الأدلة البينة على ما يعانيه الخصوم من جهل مميت بدين الله تعالى ، وليس هذا محل إقامة الحجة عليهم، إلا أني أرجو أن يذكر القارئ هذه المسألة إلى أن نأتي عليها من أصلها فنبينها بإذن الله تعالى.

ومن الأدلة الأخرى التي تدل على ضعف عقول الخصوم في الإدراك والتصور أنهم صوروا لنا الصراع بين المسلمين أصحاب الأرض في فلسطين واليهود الغاصبين، صوروه صراعاً بين طائفتين متكافئتين يدعي كلٌ منهما ما ليس له بحق، ولست أدري هل خصومنا جادون في ذلك أم مازحون؟

أما تصوير المسألة من الناحية الواقعية، فأقرب شئ لذلك أن يقال: إن مثل المسلمين في فلسطين ومثل اليهود الغاصبين كمثل عائلة شريفة تنتسب إلى أحسن أمم الأرض سكنت بيتاً، فدخلت عليها عائلة أخرى من أخبث أمم الأرض مشهورة بين الناس بظلمها ومكرها وحقدها، وهي أكثر أموالاً و نفيرا من الأسرة الأولى، إلا أن الأولى رغم ضعفها وتآمر العالم كله عليها،لم تألُ جهداً في الدفاع عن بيتها فقدمت لأجل ذلك الغالي والرخيص ولا تزال تقدم، وحين طال على الناس الأمد التبس على بعضهم الأمر وظنوا أن العائلة الغاصبة هي صاحبة البيت!.

ب‌- ومما يؤدي إلى التعارض في الظاهر أن يتصور الخصوم المسألة صحيحة كما هي لكن يلجأ الخصم بدافع من هواه إلى تصوير المسألة للناس تصويراً يظهر فيه تناقض دين الله تعالى، وغرضه من ذلك التلبيس على أصحاب الحق، أو أن الخصم يحمل فكرة يؤمن بصوابها إلا أنه لا يملك من الأدلة ما يؤيد بها دعوته.

وهنا لابد من التوكيد على أن طالب الحق لابد له من أمارات وقرائن تبين حاله وهل هو طالب حق أم لا، وأنا في غنى عن أن أذكر للقاري من الأمارات والقرائن ما يبين أن خصومنا إنما يطلبون التشويش على الخلق، والتنفير من دين الله تعالى، وهيهات!

4- لنفرض جدلاً أن بعض الناس اقتنع بدعاوى الخصوم فما هو البديل الذي يعتقد خصومنا أنه أولى بالاتباع؟ وإن كان ديناً فأي دين هو؟فخصومنا إلى الآن لم يقدموا لنا شيئاً يمكننا أن نصفه بالبديل الصحيح لمن يتخلى عن الإسلام والعياذ بالله، وهذا على أي حال من مقتضيات المنهج العلمي العقلاني الذي يعبده الخصوم.

5- النقد العلمي معناه بيان الصالح في دين ما من عدمه، و لاأرى هذا منهجاً معتمداً عند الخصوم، فعلم من ذلك أن قصد الخصوم ليس مجرد النقد، وإنما التشكيك والتضليل.

وقبل أن أختم مسجالتي هذه أرغب في أن أرسل رسالة لأولئك الكتاب الذين ادعوا أن أحداً من الخلق لم يرد على دعاوى الخصوم، وطلبوا منا أن نحسن الظن بهم، دون أن يكلفوا أنفسهم إقامة الدليل على دعواهم، فهل أجرى أولئك الكتاب دراسة ميدانية خلصوا من خلالها إلى هذه النتيجة أم أنه مجرد التجني وعدم الإنصاف؟ وعلى أي حال فإن الكم الهائل الذي استقبلته من القراء الكرام الذين يثنون على سلسلة المقالات هذه يكفي في إبطال هذه الدعوى، وكم كنت أتمنى ألا يكون الصراع داخل البيت الذي يضم العائلة الواحدة التي اتفقت في الكثير واختلفت في القليل، وأن نركز جهودنا ونوحدها لدحض محاولات التشويه والتضليل التي تأتي من خصومنا في ولاية كالفورنيا الأمريكية.

كما أني أريد أن اشير إلى أنني هنا في هذا المقام لا أدافع عن فكر جماعة التبليغ أو حزب التحرير، إنما أدافع عن الإسلام العظيم الذي آمنت به ورضيته لي دينا، فأرجو أن يفهم أولئك الكتاب ذلك ويكفوا عن هجومهم الذي لم أجد له مبررا واضحا، وإن كانوا يريدون التجديد فأنصحهم بأن يؤهلوا أنفسهم حتى يكونوا من أهل التجديد وأصحابه، وليس التجديد بتنميق العبارات أو تمطيط الجمل وتعذيب اللغة العربية وقتلها، فمن ادعى أن هذا هو التجديد فقد أبعد النجعة، وتحجر عليه ما اتسع على غيره.


وإلى لقاء قريب أستودع الله تعالى دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم.
والسلام على من اتبع الهدى

خالد على الورشفاني

مشرف 2
05-20-2005, 09:09 PM
أهلاً ومرحبًا بالأخ الكريم والأستاذ خالد الورشفاني،

ونتطلع إلى المزيد من مشاركاتكم القيمة.

هنا مقال لكم، منقول:
الحرب الخفية (http://70.84.212.52/vb/showthread.php?t=1486&highlight=%C7%E1%CE%DD%ED%C9)

خالد الورشفاني
05-21-2005, 05:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:
فالحمد لله على توفيقه وإنعامه، ونسأله تعالى المزيد من بره وإكرامه، فهو صاحب الفضل أولا وآخراً، له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، الحمد لله الذي وفقنا في المقال السابق إلى بيان بعض المعالم الرئيسية التي تعد قاسما مشتركاً لأهل التشكيك والضلال، وهي منهجية قديمة قدم الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، إلا أنه يميزها أمران أساسيان اعتبرهما مقدمة ضرورية ينبغي أن نستصحبها فيما سيأتي من ردودٍ بإذن الله تعالى:

الأول: أن كثيراً من أهل التشكيك ليسوا طلاب حق،وإنما هم معاندون للحق كارهون له، قد غلبهم الهوى واستحوذ عليهم الباطل حتى استبد بهم وبعقولهم، فشبهاتهم كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، مستكبرين عن قبول الحق حتى صاروا كمن يقف فوق جبل عال يرون الناس صغاراً، ويراهم الناس صغاراً، فكيف لمن كان كذلك أن يغير رأيه أو يبدل هواه؟

الثاني: حالة الجهل المركب التي يعيشها أكثر أولئك المتعالمين الطاعنين في دين الله تعالى، والجاهل جهلاً مركباً: هو الجاهل المتعالم الذي لا يدري أنه جاهل، وقد صدق - والله - القائل:

وإن عناءً أن تفهم جاهلاً فيحسب جهلاً أنه منك أفهم
وكذلك القائل:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسادهم فوق القبور قبور

وأحسب أني قد أقمت الأدلة – بتوفيق الله تعالى وحده- على صحة هذين الدعويين فيما سبق.

أما في هذه المساجلة بإذن الله تعالى، فسأتعرض إلى شبهة قديمة أكل عليها الدهر وشرب، يلوكها أعداء هذا الدين في أفواههم من قديم الزمان، ويحسبون أنهم قد اكتشفوا أمراً عظيماً، وجاؤا بما لم يقدر عليه سفهاؤهم الأولون، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين وعلميين وأكثر أدباً مع ثوابت الأمة وعقيدتها ورسولها وكتاب ربها، فإننا يمكن أن نصوغ تلك الشبهة في صورة السؤال التالي:

كيف يسوغ لرجل في عمر النبي – صلى الله عليه وسلم – أن ينكح امراة في عمر عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها؟ وما هي المبررات العقلية أو المصلحية أو الشرعية لمثل هذا النكاح؟
وللرد على هذه الشبهة أقول وبالله تعالى وحده التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل:

1- من يطالع كتب السيرة التي بين أيدينا اليوم يدرك أن غير النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عائشة رضي الله تعالى عنها بقصد خِطبتها، فقد ذكرها المطعمُ بنُ عدي حين أراد أن يخطبها لابنه الزبير وهي بنتُ سبع سنين رضي الله تعالى عنها، لكن أبابكر رضي الله تعالى عنه سكت ولم يجبه إلى ما أراد، مما يدل على أن هذا الأمر لم يكن شيئاً مستبشعا عند القوم، ولو افترضنا جدلا أن الزبير بن المطعم قد نكح عائشة رضي الله تعالى عنها، لما وجدنا في دنيانا اليوم من يتحدث عن أمر كهذا - مضى عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام- لا من قريب ولا من بعيد، والحاصل أن ما كان من شأن المطعم بن عدي يشير إلى أن العرف السائد وقتذاك أن المرأة – وإن كانت صغيرة في سنها – ما دامت مطيقة للزواج من الناحية البدنية وقادرة عليه فلا حرج في ذلك و لا تتثريب على من فعله، وقد أجمعت كتب السيرة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبنِ بالسيدة عائشة رضي الله تعالى عنها إلا بعد بلوغها مبلغ النساء- يعني أنها بلغت المحيض - فما المانع من مثل هذا النكاح والعرف يقبله والشرع لا يرده؟
2- لابد من الاعتراف بأن النساء يختلفن في نمو أجسادهن فبعض النساء تراها ضعيفة البنية كبيرة السن، وبعضهن يكن صغيرات السن لكنهن عظيمات البنية والبدن، ومما هو معروف عن عائشة رضي الله تعالى عنها في كتب السيرة أنها شبت شباباً حسناً ، وهو أمر مشاهد معروف عند الناس اليوم وفي كل المجتمعات لا ينكره إلا مكابر، حيث يمن الله تعالى على بعض النساء بأن ينمو جسمها نموا يفوق أترابها، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الطقس السائد في شبه جزيرة العرب، حيث الحرارةُ الشديدةُ واعتدال النهار إذا ما قورنت الجزيرة بغيرها من بقاع الدنيا، وكذلك طبيعة الأطعمة التي كانوا يتناولونها فقد كان عامته من التمر والألبان واللحوم ومشتقاتها وكذا الشعير ومشتقاته، ولم تتدخل يد الإنسان بعد في إنتاج مثل هذه الأغذية، فلا مواد كيميائية ولا تعديل للجينات وراثياً،وما إلى ذلك.
ومما ينبغي الاعتبار به أيضاً أساليبُ الحياة التي كانت سائدة في ذلك الوقت،حيث تكلف المرأة من شؤون البيت الشئ الكثير، كجلب الماء على الناضح وغيرها من الأعمال التي تعتمد اعتماداً جوهرياً على قوة البدن وصحته، وأجسامنا لها القدرة على التكيف مع ظروف البيئة المعيشة كما هو معلوم من كلام الأطباء، كل ذلك مما يجب أخذه بعين الاعتبار ونحن نتحدث عن أمر كهذا.
3- لابد من الإشارة إلى أنه قد كان للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين أعداء كثر، وأنه صلى الله عليه وسلم ما تزوج عائشة رضي الله تعالى عنها إلا في المدينة، وقد كانت تحته أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم في شوال سنة عشر من البعثة النبوية، وقد هاجرت أم سودة رضي الله عنها مع زوجها قبل ذلك إلى الحبشة فراراً بدينها ولها خمسة أولاد، فخشي عليها النبي صلى الله عليه وسلم من قومها فأراد مواساتها فتزوجها عليه الصلاة والسلام.
والمقصود أيها الإخوة أنه لو كان زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله تعالى عنها مما يعاب به، لما سكت على ذلك صغيرٌ ولا كبيرٌ من أعدائه صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن المنافقين و العرب وغيرهم في ذلك الوقت كانوا يترقبون مجرد هفوة أو سقطة من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره من كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى يجعلوا منها مطعنا في دين الله تعالى،وبالرغم من ذلك ما سمعنا ولا نقل في شئ من كتب السيرة أو السنة أو في شئ من أشعار العرب ( وهو ديوانهم) أن أحداً من الكفار، طعن على النبي صلى الله عليه وسلم في نكاحه لعائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.

بل حتى اليهود الذين جرت سنتهم بالتشكيك والتقول على الأنبياء والرسل ونسبتهم إلى الكبائر والمعاصي - وهم الذين لم يفوتوا فرصة للتشويش والتهويش إلا اغتنموها- حتى اليهود لم يقع منهم شئ من ذلك فيما يتعلق بنكاح النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها، ولا حفظ لنا كتابُ ربنا سبحانه وتعالى شيئا من ذلك، ونحن نعلم موقف اليهود من قضية تحويل القبلة مثلاً، حيث جعلوا منها أمراً عظيماً منكراً، وكذلك سؤالهم النبي عن بعض الأمور التي اعتقدوا أنهم سيفحمونه بها: كالروح وخبر ذي القرنين وما كان من شأن الخضر عليه السلام، و سؤاله أن ينزل الله تعالى عليه كتابا من السماء وغير ذلك مما اشتهروا به من التعنت والتكذيب، كل ذلك مما سجله الله تعالى عليهم في القرآن والسنة الصحيحة.
4- قد جاء في الأحاديث الصحيحة أن جبريل عليه السلام نزل بصورة عائشة رضي الله تعالى عنها،وهذا من المسوغات الشرعية لنكاحه صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها، وأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها زوجه في الدنيا والآخرة، وهذا يدل على أن الله تعالى اختارها لنبينا صلى الله عليه وسلم لتكون زوجة له في الدنيا والآخرة، فإذا استصحبنا هذا الفهم أمكننا أن نجيب بكل سهولة عن سؤال شغل بال بعض المتحيرين، وهو: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم واثقاً من براءة عائشة أم لا حين رميت بما رميت به- في حادثة الإفك- وهي منه براء رضي الله عنها؟
ولاأظن الإجابة تخفى على اللبيب الفطن بعد هذا الذي قررناه، فكيف تكون عائشة رضي الله عنها زوج النبي في الدنيا والآخرة، ومن أهل الجنة وينزل جبريل عليه السلام بصورتها تكرمة لها ورفعاً لشأنها، ثم يشك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في براءتها، سبحانك هذا بهتان عظيم!
أما كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصرج ببراءتها فذلك مرده – في ظني والله أعلم- إلى أن النبي أراد أن تنزل براءتها من السماء، فقد عُرفَ عنهُ صلى الله عليه وسلم شدةُ محبته لها، وأنه كان ينزل عند رغبتها في كثير من الأمور المباحة، وهي ابنة صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه صاحب الأيادي البيضاء على الدعوة وأهلها الذي أحبه رسولنا صلى الله عليه وسلم حبا عظيماً، ثم هي بعد ذلك أم المؤمنين التي نزل جبريل عليه السلام بصورتها من السماء وأخبر الرسولَ صلى الله عليه وسلم أنها زوجه في الدنيا والآخرة، فلو افترضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قرر براءتها بنفسه، فإنه حينئذ سيطعن بعض الطاعنين في ذلك، ولربما اتخذوا مما ذكرته تكأة في عدم قبول تبرئة النبي لها رضي الله عنها.
لأجل ذلك صبر الرسول عليه الصلاة والسلام كل تلك المدة حتى نزلت براءتها من عند الحكيم الخبير، وفائدة ذلك قطع الطريق على كل متكلم في حقها أو حق إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأبد، وقد أجمع المسلمون بعد ذلك على أن من طعن في عرضها رضي الله تعالى عنها فقد ارتد على عقبيه وصار من الكافرين.
5- لو كان رسولنا صلى الله عليه وسلم – وحاشاه- صاحب نزوة عابرة أو طالبا للذة فانية، لما أعجزه أن ينكح في كل يوم بكراً من الأبكار، خاصة وأنه رئيس الدولة في ذلك الوقت والرجل الأول فيها وكل أحد يسعى لخطبة وده ورضاه، ومن المعلوم لكل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتزوج بكرا غيرها رضي الله عنها، ومثل هذه التهمة لو كانت تستند إلى شئ من الحق ما خفي ذلك على أحد، كذلك فإن الغالب على من كان كذلك ألا يستبقي المرأة التي تزوجها لأجل إرضاء شهوته وإطفاء لذته إلا نزراً يسيراً يتمكن فيه من ذلك، أما الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد أحبها حباً عظيماً وكان دائم الثناء عليها رضي الله تعالى عنها، مع أنها لم تنجب له شيئاً من الولد رضي الله تعالى عنها وأرضاها، بل لو فعل ذلك ما لامه أحد صلى الله عليه وسلم.
6- وأمر آخر ينبغي الإشارة إليه، وهو أن زواج عائشة رضي الله عنها من النبي صلى الله عليه وسلم معناه أنها صارت السيدة الأولى في المجتمع آنذاك، بل صارت رضي الله تعالى عنها أماً للمؤمنين، وأي منزلة بعد هذه المنزلة؟ وأي فضيلة بعد هذه الفضيلة؟ وهذه من خصائص زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نص قرآن ربنا على ذلك، ولو أننا كنا كبعض الذين يبالغون في تقديس العقل المجرد لقلنا: ماذا سيكسب النبي صلى الله عليه وسلم من الناحية العملية المادية مقابل ذلك؟ فإن الزواج من امرأة أخرى بالنسبة لمن هو في مقام رسولنا صلى الله عليه وسلم وفي تلك المرحلة بالذات – ألا وهي مرحلة تأسيس الدولة- قد يكون سببا في زيادة أعبائه ومسؤولياته عليه الصـلاة والسـلام، إلا أن المتأمل المنصف يدرك أن المصـالح ( وسيأتي بيان بعضها) المترتبة على مثل هذا الزواج تفوق كثيراً ما قد يتوهمه العقل القاصر من مفاسد، بل ليس هناك وجه للمقارنة والموازنة مطلقاً.
7- كذلك لو لم يكن مثل هذا النكاح أمراً سائغاً، ومما ترضاه النفوس السوية، لتحرج النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كما تحرج من نكاح زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها بعد فراقها زيداً رضي الله تعالى عنه، حيث كان نكاح والد المتبنى لزوجة متبناه بعد طلاقها منه من الأمور المستعظمة المستبشعة عند العرب، فتحرج الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمره الله تعالى بذلك خشية كلام الناس، وهو معنى قوله تعالى:" وتخفي في نفسك ما الله مبديه".

ومعلوم من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه كان يمتنع من إتيان بعض الأمور المباحة التي لم يتعارفها العرب خشية أن يضخمها أعداء الدين ويشوشوا بها على المسلمين، فقد منع عمرَ رضي الله تعالى عنه من قتل بعض المنافقين حين طعنوا في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال لعمر حين هم بقتل بعضهم: لا تفعل يا عمر لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وكذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم الكعبة ويبنيها على أساس إبراهيم عليه السلام، فما منعه من ذلك إلا أن قريشاً كانوا حديثي عهد بشرك وربما فت ذلك في عضدهم وحسبوا أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يقيمون لبيت الله وزناً، فامتنع النبي صلى الله عليه عن ذلك كما ثبت عنه في حديثه لعائشة رضي الله عنها حيث قال:" يا عائش، لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على أساس إبراهيم عليه السلام".

وهذه مسألة في فقه دين الله تعالى عظيمة دل عليها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل أصحابه رضي الله عليهم من بعده، وهي ما يعرف عند علمائنا رحمهم الله تعالى بسد الذرائع واعتبار مآلات الأفعال، كما في قوله تعالى:" ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم"، فإذا كان سب الآلهة التي تعبد من دون الله مباحاً بل واجباً، فإنه يمنع إذا ترتب عليه سب الله رب العالمين سبحانه وتعالى، وهكذا كل فعل كان في أصله مباحا أو مستحباً بل وواجباً، إذا ترتبت عليه مفسدة مظنونة أو متيقنة فإنه يمنع، لأن درء المفسدة في نظر الشارع أولى من جلب المصلحة.

ومما تجدر الإشارة إليه أن مثل هذا الأمر – نكاح المتبنى لزوجة متبناه بعد أن يطلقها – يمكن أن يقال عنه إنه قد مر بشئ من التدرج، خلافاً لمن يعتقد غير هذا، ذلك أن هذه القضية لها مقدمة ضرورية مبنية عليها، وهي قضية التبني التي جعلها العرب أساساً لأعرافٍ كثيرة بنيت عليها، كثبوت نسب المتبني إلى المتبنى وعدم حل نكاح زوجته بعد فراقها ، وغير ذلك من الأعراف التي كانت سائدة عند العرب، فبدأ الحق سبحانه وتعالى بإبطال هذا العادة الموروثة القبيحة،وأوجب أن يُدعى أولئك المتبنون إلى آبائهم الحقيقيين، فهو من أبسط (حقوق الإنسان) التي تجب لهم، فإن لم يُعرف أباؤهم فهم إخوان لنا في دين الله تعالى لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ذلك أن من أعظم الكذب والزور والبهتان أن تنسب شخصاً ما إلى نسبك وهو من ذلك النسب براء، وهوأصل عظيم كذلك من أصول الدين جاء به كتاب ربنا وسنة نبينا، وشرع ديننا الحنيف له من الشرائع ما يحفظ هذا الأصل العظيم وهو حفظ الأنساب ورعايتها، بل جعله علماء الملة من الضروريات الخمس التي يجب حفظها والتي إذا لم توجد لا يمكن للحياة أن تسير على سنن صحيح،وهو ما يعرف بضرورة حفظ النسل، ولذلك منعت الشريعة المطهرةالزنا،وكل سبيل يؤدي إليه من قريب أو بعيد، كالاختلاط بين الجنسين دون رقيب أو حسيب، وكرهت التبتل وحرمت الخصاء، وحثت على الزواج وطلب العفة، وبينت عظم خطر اللواط وأنه كان سببا في هلاك بعض الناس من قبل، وقص علينا كتاب ربنا من أخبارهم ما فيه العبرة والموعظة لكل من اعتبر.
والمقصود أن الله تعالى بين أن زيداً ليس ابن محمد صلى الله عليه وسلم كما هو واقع الحال، وبعد ذلك كان لابد من تقرير أنه إذا لم يكن ولده فلا حرج على رجل ليس أباً له أن ينكح زوجته، لأن مثل هذا لا يساوي نكاح الأب زوجة ابنه الذي من صلبه، و لا يترتب عليه اختلاط للأنساب ولا إشعال لنار العداوة والبغضاء في النفوس بين الآباء والأبناء، وقد اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة لأن البيان بالفعل يكون أحيانا أبلغ من البيان بالقول، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بعادة متأصلة في نفوسهم راسخة فيها رسوخ الجبال الرواسي، وهكذا كان.
8- من المسوغات المصلحية أو (الحكم) التي تبدو لكل منصف في زواج النبي من عائشة رضي الله تعالى حفظُ سنة النبي وهديه ودله وتعامله مع زوجاته في بيته، وكانت عائشة رضي الله تعالى أريبة عاقلة على قدر لا يدانى من الفهم والذكاء، وكانت كثيرة السؤال للرسول صلى الله عليه وسلم، تنتقي من الكلام أطيبه، وتعرف متى تسأل وكيف تسأل.

وقد كان لأمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن" فضل عظيم في تبليغ الدين ونشر السنة بين نساء المسلمين، فقد كان بعض النساء يخجلن من أن يسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمورهن، فيجدن عند أزواجه ما يشفي عليلهن، لأنهن على صلة دائمة به، يتعلمن منه الأحكام، وينقلن عنه ما لا يتاح لغيرهن نقله، وقد اشتهرت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها بعلمها الغزير، وحرصها على فهم الأحكام.

فعن ابن أبي مليكة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كانت لا تسمع شيئاً لا تعرفه إلا راجعت فيه حتى تعرفه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حوسب عذب، قالت السيدة عائشة (مستفهمة مستعلمة لا مشككة متعالمة): فقلت أوليس يقول تعالى:" فسوف يحاسب حساباً يسيراً" قالت: فقال: إنما ذلك العرض ولكن من نوقش الحساب يهلك" .

والذين يشتغلون بالفقه واستنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية يعلمون ما لعائشة رضي الله تعالى عنها من فضل في حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومما ساعدها على ذلك أنها لم تنجب للنبي صلى الله عليه وسلم أولاداً ، وكان ذلك أدعى لاهتمامها وعدم انشغالها، وحفظت لنا الكثير من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكونها تزوجت في سن صغيرة كذلك مما أهلها لضبط ما حفظته عن النبي صلى الله عليه وسلم. وبالجملة فإن الأحاديث التي روتها لنا عائشة رضي الله تعالى عنها بلغت ألفين ومائتين وعشرة، قال الناظم:

سبعٌ من الصحب فوق الألف قد نقلوا من الحديث عن المختار خير مُضرْ
أبوهريرة، سعد، جابر، أنسٌ صديقةٌ، وابن عباس، كذا ابن عمر

وبالإضافة إلى ذلك فقد كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها من المكثرين من الفتوى، وكيف لا تكون كذلك وهي التي تربت في بيت معلم البشر و خير الخلق صلى الله عليه وسلم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:" والذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مائة ونيف وثلاثون نَفْسَاً، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر. "
وكانت أكثر الأحاديث التي روتها الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها فيما يبدو لي – والله أعلم- تتعلق بالمحاور التالية:
1- فقه الأسرة وآداب المعاشرة الزوجية: حيث روت لنا رضي الله تعالى عنها أحاديث كثيرة بينت فيها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل إذا كان في بيته مع أهله، وهو مما يخفى على كل الناس حتى أصحابه رضي الله تعالى عنهم، كما حفظت لنا أدب النبي صلى الله عليه وسلم في إتيانه لأهله، وكيف يكون الأمر إذا كانت المرأة حائضاً، وكم كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل، وكيف كان ينام وماذا كان يقول من أذكار ودعوات طيباتٍ عند نومه، وكيف كان يفعل إذا وقع منها ما قد يثير غضب النبي صلى الله عليه وسلم، أو ماذا كان يقول هو صلى الله عليه وسلم حين كانت تغضب هي، وقد حفظت لنا كذلك هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وصيام النهار، ومتى يجب الغسل على الزوجين ومتى لا يجب عليها، كما أنها حفظت لنا قصة تمريض النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه التي توفي فيه عليه الصلاة والسلام، وغير ذلك كثير مما يعرفه كل مهتم بتراث الإسلام العظيم.
2- استدراكات على بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها بما حفظته من أحاديث الرسول، وبما كانت تحرص عليه من التلقي والتعلم، تستدرك على بعض الصحابة إذا وقع منهم ما يوجب ذلك، وهذا من الأمانة في أداء العلم، وكي لا يتهجم كل أحد على التكلم في مثل هذا الأمر دون روية وتثبت، لأن نسبة شئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم معناه إثبات أمر أو نهي في دين الله تعالى، ومما استدركته عائشة على بعض الصحابة ما رواه الترمذي رحمه الله في سننه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :الميت يعذب ببكاء أهله عليه! فقالت عائشة: يرحمه الله، لم يكذب ولكنه وهم، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل مات يهوديا إن الميت ليعذب وإن أهله ليبكون عليه.
9- مما ينبغي ذكره والتنويه به في هذا المقام أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من أوفى الناس صلى الله عليه وسلم، بل هو أوفى الناس بأبي هو وأمي ونفسي، وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلم ما لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه من أياد بيضاء على الدعوة وأهلها، فقد بذل الصديق كل ما يملك في سبيل عقيدته التي آمن بها، وكان ذلك علامة على صدقه وإيمانه بها، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم من باب رد الجميل أن يكافأ الصديق رضي الله تعالى عنه بأن يجعل من ابنته السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها أماً للمؤمنين وهو – والله- لفضل ما بعده فضل، وشرف ما بعده شرف، و جائز أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفكر في هذا الأمر حين نزل عليه جبريل عليه السلام بصورتها فكان ذلك بمثابة إقراره على المضي قدماً في نكاحه للصديقة بنت الصديق رضي الله عنها، وقد تتوعت أوجه هذا الوفاء وتعددت، على النحو التالي:
 أن الله تعالى ذكره في القرآن بقوله:" ثاني اثنين إذ هما في الغار".
 أنه تعالى ذكره كذلك بقوله :" وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى".
 قيل إنه هو المقصود بقوله تعالى:" وصدق به" في قوله تعالى:" والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون".
 أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم الثناء عليه، وشهد له بأنه من أهل الجنة.
 أن لنبي صلى الله عليه وسلم اختاره ليكون رفيقه في الهجرة إلى المدينة.
 أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلفه على المسلمين في الصلاة، في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم.
 أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمة لها ولأبيها.

ولو رحنا نعدد أوجه هذا الوفاء لرأينا من ذلك ما لاينقضي منه العجب، إلا أن المقصود من ذلك بيان وجه الحكمة في نكاح النبي صلى الله عليه وسلم للصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنها، وإلى لقاء آخر بإذن الله تعالى مع الرد على شبهة من تلك الشبهات التي لن تنتهي حتى ينتهي الصراع بين الحق والباطل.

وختاماً أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
خالد على الورشفاني

خالد الورشفاني
05-21-2005, 05:52 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فلله الحمد والمنة، وله الفضل والشكر في الأولى والآخرة، فهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم،أمر عباده بالقراءة وامتن عليهم بالبيان، وقرن شهادته بشهادة أولي العلم، ورفع مكانتهم في الدنيا و الآخرة.

ما نزال أيها الإخوة الأحبة في سياق الردود على الشبهات التي أثارها بعض المتحيرين، والتي سبق أن بينا أنها لن تنتهي إلا بانتهاء الصراع بين الحق والباطل، وقبل أن نصل ما سبق من الردود بما سيأتي أود أن أقف بعض الوقفات المتعلقة بأمر هذه الشبهات، والتي رأيت أنه من الواجب علينا بيانها والإفصاح عنها، فهأنتم ترون أيها الإخوة القراء أن أصحاب هذه الشبهات والدعاوى لم يقروا بما أدلينا به من الحجج ولم يذعنوا لمنطق الحق الساطع والدليل القاطع، إلا أن عزاءنا أننا نكتب هذه الردود كي يعلم القراء الفضلاء أنا أصحاب حق وهدى، وأن الحق أبلج والباطل لجلج، وأنت أيها القارئ حكم بيننا وبينهم فانظر بنفسك أي الفريقين خير جواباً وأبين حجة وأهدى سبيلاً.

والحق أنني حين تتبعت الشبهات التي أثارها بعض السفهاء من اليهود المغضوب عليهم والمشركين في كتاب الله تعالى، تبين لي ما يلي:

1. أنه في كثير من المناسبات تولى الحق سبحانه وتعالى بنفسه الرد على تلك الشبهات، وذلك في ظني راجع لجملة أمور منها أن وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الرئيسية التي لأجلها أرسلوا وعليها قامت السماوات والأرض هي دعوة الناس إلى دين الله ، لا الرد على الشبهات وإنفاق العمر في دحضها، فالعمر قصير والواجبات كثيرة، و هناك من الناس من أصحاب القلوب الصافية التي لم تكدرها الشبهات ولم تظلمها الشهوات خلق كثير ينبغي دعوتهم وبيان الحق لهم حتى يدخلوا إلى ساحات دين الله المباركة حيث الهدى والحق والنور.

2. أن صناعة الشبهات من أيسر الصناعات وأرخصها،وقد برع فيها منذ قديم الزمان أحفادُ القردة والخنازير قتلة الأنبياء والصالحين، المحرفون الكلم عن مواضعه والناسون حظاً مما ذكروا به، فكل من رد الحق وبطره يمكنه أن يختلق في دقيقة واحدة أو دقيقتين حمل بعير من الشبهات، أما الرد عليها فإنه يحتاج إلى شرح وتفصيل وإقامة للدليل والجمع والتأويل وذاك جهد قد يصرف في غير محله، خاصة مع جهل الخصوم بموارد الأدلة ومطالع الأهلة، فهم يخلطون بين الغث والسمين، تغريهم الأخبار الكاذبة وتعجبهم الحوادث الموضوعة، وتراهم لا يفرقون بين الصحيح الثابت والضعيف الهالك، هذا مع عدم تأهلهم لفهم لغة العرب وقلة إنصافهم وشدة إعجابهم بأنفسهم،بل قد وقفت بنفسي على ضعف عقولهم وسذاجتها، وسترى بإذن الله تعالى في هذا المقال الدليل على ذلك.
ومع اعترافي بأن الرد على دعاوى الخصوم هو واجب من الواجبات وقربة من القربات إلا أن الواجبات إذا تزاحمت قدم منها الأهم فالأهم، ولدينا من الواجبات ما يغنينا عن إضاعة الأوقات في مثل هذه المهاترات، وقد تبين لي من خلال ما قرأت من دعاوى الخصوم أنهم ليسوا طلاب حق، وإنما هم طلاب دعاية رخيصة وأغراض خسيسة، ومن كان كذلك فلا يُطمع في معافاته إلا أن يشاء الله تعالى والله على كل شئ قدير.

والمقصود أيها الإخوة أنه لا يمكننا أن نستنفر جميع جهود الباحثين وطاقات طلاب العلم الشرعي الميامين من أجل غاية واحدة فحسب، وننشغل بها عن غيرها من الواجبات التي تسبقها في المرتبة.

3. وسؤال آخر ينبغي طرحه: وهو أننا نود أن يحدد لنا خصومنا عدد الشبهات التي يلتمسون منا أن نرد عليها حتى يقتنعوا بما عندنا من الحق، فهل الشبهات التي حيرتكم خمسون أو ستون أو سبعون أو ألف أو ألفان ؟ ذلك أن الناظر المتأمل لحال الخصوم لا يجد كثير عناء في معرفة أنهم يتكلفون الشبهة تلو الشبهة في كل مقال يكتب، فيظل الخصوم يدورون حول أنفسهم في ظلمة تلك الشبهات كلما نجوا من واحدة أحاطت بهم الأخرى، كالدابة تدور حول الرحى، ولا أظنهم سيخرجون من هذه الدائرة إلا إن يشاء ربي شيئاً، فحبذا لو بين لنا خصومنا عدد تلك الشبهات حتى ننظر في أمرنا ونعرف هل ما تبقى من أعمارنا يمكن إنفاقه في الرد على تلك الشبهات أم لا!

4. أن السبيل الصحيح لمناقشة أصحاب هذه الشبهات لا يكون بمجرد الرد عليها، وإنما ينبغي مع ذلك أن نحرر محل النزاع بيننا وبينهم، ذلك أن المشكلة الأساسية بيننا وبينهم لا تكمن في نكاح النبي صلى الله عليه لعائشة أو في غيرها من الشبهات التي تثار هنا وهناك، وإنما المعضلة مع هؤلاء أنهم رافضون لأصل الدين، ولذلك سألنا مثير هذه الشبهات سؤالاً عن دينه وعقيدته لا لأنا نريد التهجم على دينه، ولكنا نريد من ذلك أن نقف على حقيقة اعتقاده، وهل هو يهودي أو نصراني أو ملحد شيوعي أو غير ذلك كي نبدأ معه البداية الصحيحة،لكنا إلى هذه الساعة لم نظفر بالجواب الكافي، وإذا يكون من العبث حينئذ أن نناقش الخصوم في مثل هذه الدعاوى أو الشبهات لأن ذلك لن ينفعهم كثيراً، وفي نظري أن النقاش ينبغي أن يكون منصباً على الإيمان بالله تعالى وإقامة الأدلة على ذلك، لأن الخصم في ظني لا يعتقد بوجود الله تعالى أصلاً، ذلك أننا - نحن المسلمين- مؤمنون بكتاب ربنا ، شاهدون على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك فنحن نسلم بكل مافيه بل بكل حرف فيه ونؤمن بكل ما ثبت عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أما خصومنا فإنه لن ينفعهم ردنا على ما يثيرونه من الشبهات لأننا نحتاج أن نناقشهم في مقدمات أخرى كالإيمان بالله تعالى وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك نريد أن نعرف حقيقة معتقدهم حتى يمكننا أن نحرر محل النزاع بيننا وبينهم.

5. من الكفار صنف لا يسلم لك بشئ مهما أقمت الدليل عليه، وهم الذين أُمرنا أن نقول لهم:" قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولاأنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين" (سورة الكافرون). وهذا المنطق لا يعني الهروب من إقامة الدليل على تهافت دعاوى الخصوم وشبهاتهم، لكنه منطق المسلم المؤمن الذي يعلم أن وظيفته في هذه الأرض هي إقامة شرع الله تعالى وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وتحريرهم من عبادة العباد إلى عباد رب العباد، ومن جور الأديان إلى سماحة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.

ولنشرع الآن – بحول الله تعالى وتيسيره- في الرد على بعض تلك الدعاوى من الخصوم منها مثلاً :

- قال خصومنا: لعل امتناع الكفار والمنافقين من لمز النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بنكاحه الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين كان سببه الخوفَ من السيف والقتل، وسودوا بذلك الصفحات كالتلميذ البليد الذي يعلمه استاذه بعض المقدمات فيظن أنه صار أهلا لأن يستدرك على أستاذه. وانظروا بالله عليكم إلى هذا الجهل المبين، وضعف الإدراك الواضح، والدليل الكافي على أن الخصوم ليسوا إلا شرذمة من المتعالمين، لا حظ لهم لا في نظر صريح ولا دليل صحيح، مثلهم كمثل ذبابة الصيف التي تكثر من الطنين حولك وأنت نائم، فهي تزعجك وقد تثير حنقك لكنها لا تؤذيك، والجواب عن ذلك بفضل الله وحده وتيسيره ومنه وكرمه أن يقال:

1- أيهما أعظم أيها المتعالم في نظرك: الطعنُ في عرض الطاهرة المطهرة عائشة وهي زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وحبيبته أم الطعن في أمر نكاحه منها وهي بنت سبع سنين؟ ولا أظنني في حاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال، وحينئذٍ فقولُ الجهال إن الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إنما روعهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف فمنعهم من مجرد التفكير في التقول والكذب عليه وغمزه ولمزه قولٌ متهافت لا يشك عاقل في بطلانه،كيف وقد طعنوا في عرض زوجه وحبيبته رضي الله تعالى عنها وأرضاها وطعنهم هذا منقولٌ في كتاب ربنا وسنةِ نبينا صلى الله عليه وسلم؟ بل قد فعل بعضهم أشد من ذلك وأدهى: كذبوه وتمالؤا عليه وحاصروه في الشِّعب وحاولوا قتله وحاربوه وقاتلوه وأخرجوه من البلاد التي كانت أحب أرض الله تعالى إليه واجتمعت عليه قبائل العرب وناصرهم أحفاد القردة والخنازير بعد أن أعطوا المواثيق والعهود على ألا يفعلوا ذلك، فكيف كان عقاب؟

والحاصل أيها الإخوة القراء الكرام أن من طعن في عرض الطاهرة المطهرة رضي الله تعالى عنها لا يتورع قيد أنملة في الطعن في نكاحها من النبي صلى الله عليه وسلم وهي بنت تسع سنين، فلما لم ينقل لنا شي من ذلك علمنا أن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة وهي بنت تسع سنين أمرٌ قد أجمع على قبوله جميع الأحياء في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ممن سمع خبر نكاحه لعائشة وهم يومئذ ليسوا قليلين،فكف أيها المتعالم عن هذيانك وتأمل هذا إن كنت منصفاً وأقر به.

2-وههنا مسألة أخرى أيها الإخوة تدل على سقوط هذا الدعوى وتهافتها، وتفيدك زيادة يقين بضعف عقول خصومنا وقلة بضاعتهم في الفهم والإدراك وشدة تحيرهم وارتباكهم فَهُم في ريبهم يترددون، وهي أننا قد علمنا يقيناً من دين الله تعالى أن حد من قذف (أي: الاتهام بالزنا) محصناً أو محصنةً عفيفا أو عفيفةً ثم لم يأت بأربعة شهداء، فإن حده ليس القتلَ بالسيف وإنما ثمانون جلدة كما قال تعالى:"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة" (النور)، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أصحاب الإفك ثمانين ثمانين ، أمَّا أن يقتل القاذف أو الطاعن في العرض فهو شئ ما قال به أحد من عقلاء المسلمين بعد!

3-ومن طريف ما يوهن دعوى القتل والتهديد بالسيف هذه، ويؤكد على أن خصومنا أصحاب جهل وهوى وأغراض دنيئة مبطلة، أن رجلا كان يسمى مِسْطَحاً – وكان ممن حُدَّ في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها- خاض في عرض عائشة رضي الله تعالى عنها مع الخائضين، وكان سيدنا أبوبكر ينفق عليه لقرابته ومسكنته، فلما جاء أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف سيدنا أبوبكر رضي الله تعالى عنه ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبداً فنزل قوله تعالى:" و لا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، وليعفوا وليصحفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" (النور: 22) ، فقال سيدنا أبوبكر رضي الله تعالى عنه: والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبداً ، فأين هذا الإنصاف وأين هذه الرحمة وأين هذه الأخلاق من دعوى القتل والتصفية الجسدية والإرهاب الفكري؟ وتأمل أخي القارئ كيف يعتقد خصومنا أنهم يجيدون الاصطياد في الماء العكر، إلا أنهم لا يحسنون حتى سوق الشبهة وتزيينها، فمتى يرعوي خصومنا ويعترفون بجهلهم ويكفون عن الطنين؟

4-وهناك مسألة أخرى نبه عليها كتاب ربنا سبحانه وتعالى في قوله:" لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا" (النور)، ففي هذه الآية عتاب من الله تعالى لمن ظن ذلك من المؤمنين الذين قالوا ما قالوه عن عائشة الطاهرة المطهرة، ومعنى ذلك:" أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد "، وقد رأينا الكثير من الأسر الغربية النصرانية وغيرها من الأسر التي لم تتأثر بالمادية الجارفة أو الإباحية الطاغية، تتورع نساؤها عن مثل هذا الفعل المشين فكيف بزوج خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، وهنا أوجه سؤالاً لصاحب الشبهة مفاده: لو كانت زوجتك مكان السيدة الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله تعالى عنها، فماذا كنت ستفعل؟ ولو طعن أحد الناس في عرضك وعرض زوجك دون أن يقيم الأدلة على ذلك فما أنت فاعل؟ أرجو أن أرى إجابة ترضي فضولي في مقالك القادم.

5-وحديث الإفك شاهد عدل على ما قررناه سابقاً – في المقال الثاني من هذه السلسلة - من أن الكفار والمنافقين لو قدر أنهم تكلموا في نكاح النبي عائشة رضي الله تعالى عنها لما خفي ذلك على أحد ولنقل إلينا كما نقلت غيرها من الأخبار المشابهة لقصة الإفك، فما الذي جعل المحدثين وأصحاب السير والإخباريين ينقلون لنا صورة صادقة لحادثة وقعت في ذلك الزمن (حادثة الإفك) ثم يمتنعون عن نقل حادثة أخرى - يفترض جدلاً وقوعها- هي أقل شأنا منها؟

والقصد أنه لم ينقل لنا لا في خبر صحيح ولا سقيم ولا موضوع، ولا في شعر ولا رجز ولا في بيت أو شطر بيت أنهم فعلوا ذلك، فدل هذا على أن نكاح النبي صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها كان أمراً غير منكر في أذواق الناس وعاداتها وأعرافها وأخلاقها، وأجمع الناس مؤمنهم وكافرهم ومنافقهم ويهوديهم ونصرانيهم ومشركهم ومجوسيهم وصابئهم في ذلك الوقت على صحته وسلامته من الشبهات والظنون، وحينئذ فلا حاجة لأن يزهد النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا النكاح بدعوى دفع المفسدة المترتبة على نكاحه كالتقول عليه مثلاً، وهذه المفسدة غير معتبرة في نظر الشارع، وهي مفسدةٌ قامت في عقل الخصم لأنه يرى المحاسن مساوئ، كما قال الحكيم:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساوئ

ومما تجدر الإشارة إليه أن الكفار الذين عاشوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حاولوا أن يكونوا أكثر واقعية في تهجمهم على الدين وأهله، فقد علموا علم اليقين أن مثل هذه الدعاوى لا تقوم على ساقين ولا يمكن أن يقبلها المنصفون بحال، ولذلك ركزوا هجومهم على قضايا أعمق وأدق من هذه القضايا، كقضية البعث بعد الموت، وكون النبي صلى الله عليه وسلم بشرا رسولاً، وقضية الوحدانية، وما إلى ذلك من القضايا التي أثاروها في حينها والتي تتعلق تعلقاً مباشراً بمضمون الرسالة التي جاء نبينا صلى الله عليه وسلم بها.

أما طلبهم منا أن نقيم الأدلة على أن مثل هذا النكاح كان أمراً شائعاً بين العرب، فما قلنا نحن بمثل هذا ولا ادعيناه وإنما قلنا إن أعراف العرب لم تكن تنكره، خاصة مع وجود المرأة التي تطيق النكاح وتستمتع به كما يستمتع به الرجل، وما قال أحد – فيما أعلم- أنه أمر شائع، و يكفينا أننا أقمنا الأدلة على أنه ليس بمنكر و لا مستغرب عند الناس كافة، وههنا مسألة أخرى وهي : أن إقامة الأدلة على شيوع مثل هذا النكاح سبيلها التتبع والاستقراء لأحوال العرب وغيرهم من أمم الأرض في ذلك الوقت، وهذا كما هو معلوم يحتاج إلى تثبت وتمهل، ويستغرق جهداً ووقتاً، ومن يدري ربما كان مثل هذا النكاح شائعاً حقاً في ذلك الوقت!

6-في قصة الإفك هذه فوائد وعبرٌ عَبَّرَ عنها القرآن بقوله" لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم" من أهمها: أن الله تعالى رفع شأن عائشة رضي الله تعالى عنها وبرأ ساحتها وبان فضلها ومزيتها رضي الله تعالى عنها وأرضاها وأنا شاهد بذلك مقر به، فإن من المحن والابتلاءات ما يزيد الإنسان أجراً ورفعة ومنزلة عند الله تعالى وفي قلوب الخلق، ويبلغ العبد منزلة كتبها الله تعالى له لم يكن ليبلغها بعمله المجرد، فاقتضت حكمته سبحانه وتعالى ذلك، ومن الحكم كذلك ألا يسارع الإنسان بالولوغ في سوء الظن فإن الظن أكذب الحديث، خاصة حين يتعلق الأمر بأعراض الناس وشرفهم، ومن الحكم المستفادة من حادثة الإفك كذلك معرفة المؤمن الذي سلم وأذعن لأمر الله تعالى وصدق وآمن، من المنافق الكافر الذي عاند واستكبر وكذب.

7- أما قول الخصوم لماذا لم ينزل جبريل عليه السلام بصورة امرأة غيرها؟ فالجواب أن هذا فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وهذا تماماً كسؤال السائل: لماذا كان (ألبرت أنشتاين) صاحب نظرية النسبية؟ أو لماذا كان (إسحاق نيوتن) مكتشف ظاهرة الجاذبية الأرضية؟ أو لماذا كان (ابن خلدون) مؤسس علم الاجتماع؟ وهذا السؤال أيها القارئ دليل آخر على ما قدمته من ضعف مدارك الخصوم وقلة فهمهم.

والجواب عن ذلك بتيسير الله تعالى أن هذا أمر يحكمه الله تعالى ويصرفه كيف يشاء، لأنه من مقتضى ربوبيته للخلق وألوهيته على جميع خلقه. أفلا ترى أنك قد تشتري مثلا من الملابس أو الهدايا لبعض أولادك ما لا تشتريه للآخرين لأنك تعلم أن هذا الولد المعين يستحق أن يعطى مثل هذا العطاء إما لذكائه أو لطاعته لك أو لأمر تعلم يقيناً أنه يفوق فيه بقية إخوانه، وفي الغالب لا يعترض معترض من إخوانه على ذلك لأنك صاحب السلطة المطلقة في بيتك، بل لو قدر أن أحد إخوانه اعترض عليك في تصرفك هذا لربما نكلت به وزجرته على جرأته في رد حكمك ودفع قرارك، أليس الله تعالى أولى بذلك منك ومني؟ فهو خالق الخلق لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، له الفضل والمنة حين ينعم، وله العزة والكبرياء والحكمة حين يمنع عطاياه سبحانه.

وفي ظني أن منح الله تعالى تكون لبعض الخلق بسبب ما ركب الله تعالى فيهم من الاستعداد الفطري والنفسي و الجسدي لتلك المنح والعطايا – والله أعلم-، وأيضاً فليس نكاح النبي لزوجة من زوجاته صلى الله عليه وسلم موقوفا على نزول جبريل عليه السلام بصورتها من السماء، فما قال هذا أحد من أهل العلم ولا أشار إليه واحد منهم، فرسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق علماً وعقلاً وحالاً وخَلْقَا وخُلُقا بأبي هو وأمي ونفسي، وقد حمله الله تعالى أمانة هي أعظم من أمر نكاح النساء بكثير، أمانة ناءت الجبال بثقلها وهي أمانة إبلاغ دين الله تعالى إلى العالمين، وإنما الحكمة في نزول جبريل عليه السلام بصور عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها فيما يبدو لي – والله أعلم- أن الله تعالى أرادها أن تكون زوجة لنبيه صلى الله عليه وسلم للمصالح العظيمة المترتبة على نكاحها والتي أشرنا إلى شئ منها في المقال السابق، و لا حاجة بي إلى تكراره هنا ،فراجعه لزاما.

7- من المعلوم أن الإنسان في حال الغضب قد يتكلم بما يظنه يحرج من أغضبه، كما يقع من عامة النساء حين يخاصمن أزواجهن، وكما يقع من عامة الأزواج حين يخاصموا زوجاتهن، ولو كان زواج السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها صغيرة من موارد الحرج للنبي صلى الله عليه وسلم، لربما خطر في بال السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وهي المرأة العاقلة الذكية الأريبة أن تذكره للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء حادثة الإفك- ولو على سبيل التنبيه-، ولقالت حينئذٍ: ألم تنحكني صغيرة لا حول لي ولا قوة وأجبرني المجتمع كله على هذا النكاح ومع ذلك سكتت ولم أعترض وكنت لك نعم الزوجة ، أفيكون جزائي حين اتُهِمْتُ بهذه التهمة (حادثة الإفك) أن تسكت عني ولا تقرر براءتي؟ لكن شيئاً من هذا لم يكن فأنصفونا أيها الغرماء!

8- وتأمل أخي القارئ هذا الإسفاف والسفه والسقوط : أن يدعي مدع أن التاريخ يكتبه الغالبون – وهي كلمة حق أريد بها باطل- ثم يناقض عبارته وينسف حجته! فلو افترضنا جدلاً أن علماء المسلمين لم يدونوا من التاريخ إلا ما يعجبهم ويوافق أهواءهم ، فكيف يستقيم لبعض الطاعنين أن يستدل من أحداث التاريخ الإسلامي – المزور في نظره- على أن بعض المعارضين كانوا يخشون على أرواحهم فجبنوا عن الطعن في دين الله تعالى، فلم يتجاسروا على التكلم في قضية نكاح النبي الطاهرة المطهرة عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها؟

وهذا عجب من العجب: أن يستدل مستدل ببعض أحداث التاريخ كي يؤيد فكرته وينصر عقيدته، أما حين نستدل نحن ببعضها ونقيم الدليل على نقض دعواه يحتج علينا بأن التاريخ يكتب بأيدي الغالبين، فكيف يستقيم هذا وهل هذا إلا التناقض الصريح؟ وكنت أتمنى أن يخاصمنا من يكون كفؤاً لنا من أصحاب العقول الراجحة، فإن خصماً عاقلاً خير من صديق أحمق، والحق أن الإنسان لا يتشرف بالردود على مثل هذه الدعاوى التي تضيع الوقت و تذهب بركته، إلا أنه قدرنا أن نضع حداً لذبابة الصيف هذه، كي تكف عن طنينها وإزعاجها.

وحينئذ يقال لصاحب هذه الدعوى: إما أن تقبل التاريخ جملة أو تنبذه جملة وكلا طرفي الأمور سقيم وذميم، أو تنصفنا فتبين لنا منهجك في قبول الأخبار التاريخية والتعرف على صحيحها من سقيمها، وأتمنى أن أظفر بجواب عن هذا السؤال دون تهرب أو مراوغة، جوابا يكون واضحاً وضوح الشمس في رابعة النهار.

9- قال الخصوم وفرحوا بقولهم هذا وكرروه في غير ما مناسبة وآن أوان تهافت شبهتهم وسقوطها بإذن الله تعالى: روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه بسنده إلى حماد بن سلمة أنه قال: أخبرنا أنس بن مالك أن رجلاً كان يتهم بأم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:" اذهب فاضرب عنقه" فأتاه على فإذا هو في رَكِيٍّ (بئر) يتبرد فيها، فقال له علي: اخرج، فناوله يده فأخرجه، فإذا هو مجبوب ليس له ذكر، فكف عنه عليٌّ رضي الله عنه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لمجبوب، ماله ذكر.
وفي لفظ آخر عند ابن أبي خيثمة وابن السكن وغيرهما أن علياً وجده في نخلة يجمع تمرا وهو ملفوف بخرقة فلما رأى السيف ارتعد وسقطت الخرقة فإذا هو مجبوب لا ذكر له.

قال الخصوم: فلم لم يتحقق النبي صلى الله عليه وسلم من براءته، ولم يطلب أربعة شهود كما يأمر القرآن، ولم يعط الرجل فرصة للدفاع عن النفس ....... وفرحوا بذلك فرحاً عظيماً، وحسبوا أنهم وقعوا على ما لم يقع عليه سفهاؤهم الأقدمون، وقبل أن أجيب دعني أيها القارئ الكريم أوكد على بعض الأمور التي سبق بيانها:
-هذا الحديث أورده الإمام مسلم في باب براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الريبة، ومسلم رحمه الله تعالى أتى بالحديث الوارد في قصة الإفك كاملةً غير منقوصةٍ قبل هذا الحديث ثم أعقبه بحديث علي رضي الله تعالى عنه ، وهذا من محاسن التأليف والتدوين عنده رحمه الله تعالى أنه يأتي بالأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد محاولا استيعابها ما أمكن، فيبدأ بالأحاديث التي تناولت أمرا ما (حادثة الإفك) ثم يتبعها بالأحاديث التي تمس موضوع الباب أو لها تعلق به، ولذلك فقد اعترف العلماء له بالفضل في هذا فقال بعضهم:

تخاصم قوم في البخاري ومسلم لدي وقالوا أي ذين تقدم؟
فقلت لقد فاق البخاري صحة كما فاق في حسن الصناعة مسلم

فإذا تقرر ذلك فاعلم أن مراد مسلم من سوق حديث الإفك ثم إردافه بهذا الحديث ما يلي:
أ‌- تقرير براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم وعرضه، وهو أمر قد علم حكمه من دين الله تعالى بالضرورة، فلا ينكره إلا كافر أو منافق.
ب‌- التوكيد على معنى أن بعض سفهاء الكفار والمنافقين لن يزالوا يطعنون في عرض النبي حتى قيام الساعة، وأن الأمر لن ينتهي بمجرد تبرئة عائشة رضي الله تعالى عنها، لأن تشابه قلوب الكفار والمنافقين يورد الشبهات ذاتها على أصحاب تلك القلوب التعيسة المريضة ،وقد نص القرآن على ذلك في قوله تعالى"وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية. كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون" (البقرة: 118).
ت‌- أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يثبت للناس أن مارية رضي الله تعالى بريئة مما اتهمت به، وكذلك الرجل الذي اتهم بهذه التهمة.
أما تأويل هذا الحديث فإن من قصر باعه عن إدراك دقائق الشريعة و الاطلاع على كمالاتها وتضمنها لغاية مصالح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، لاشك سيقصر به عقله عن فهم مراد الله ورسوله فإن هذا العلم نور، ونور الله لا يعطاه العاصي أبدا - فضلا عن الكافر المحارب لله ولرسوله- بسبب ظلمة قلبه ونكوصه على عقبيه، قال تعالى:" ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها. أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الفاسقون"، وأنا أخي القارئ أجيب لأجلك لا لأجل الخصوم، فهم والله أقل في نفسي من أن يدركوا ما سأقوله.

هذا الحديث مندرجٌ في باب السياسة الشرعية أو الحكم بالفراسة، بمعنى " أن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات، ولا يقف مع ظواهر البينات والأحوال، حتى إنه ربما يتهدد أحد المدعيين، إذا ظهر أنه مبطل، وربما سأله عن أشياء تدله على بيان الحال ".

ولأجل تيسير الفهم أضرب مثالا لذلك: تأمل قول نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام في قصة المرأتين اللتين اختصمتا في الولد وادعت كل واحدة أنه لها، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، ثم ذهبتا إلى سليمان عليه السلام ، فقال سليمان عليه السلام:" ائتوني بالسكين أشقه بينكما" ، فسمحت الكبرى بشقه بالسكين، وقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به للصغرى.

والمقصود أن نبي الله سليمان عليه السلام لم يكن ليشق الطفل بينهما، إنما فعل ذلك من أجل أن يتبين له من القرائن ما يدله على صاحب الحق، وحين سمحت به الكبرى كان ذلك قرينة واضحة على أنها ليست أمه، بل الصغرى هي أمه، لأن الحامل للصغرى على الامتناع من الدعوى، ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله تعالى في قلب الأم، فاتضحت وقويت هذه القرينة، حتى قدمها على إقرارها، فإنه حكم به لها مع قولها " هو ابنها" وحكم سليمان عليه السلام هو الحق الذي لا شك فيه.

وقد استفاد علماؤنا من هذا الحديث فائدة عظيمة فقالوا: هذا الحديث يدل على التوسعة للحاكم في أن يقول للشئ الذي لا يفعله أفعل كذا، ليستبين به الحق .

فإذا علم ذلك أيها الإخوة فإننا نرجع إلى الحديث الذي أوقع خصومنا في حيص بيص، وفرحوا به لأنهم لم يفهموه حق فهمه، ولم يؤلوه حق تأويله وأنى لهم ذلك وهم المتشككون المتحيرون، وكيف يعطيهم الله تعالى ذلك الفضل وهم الذين أظلمت قلوبهم بشبهات الشك وظلمات الحيرة؟

نقول وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل: حين قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي " اذهب فاضرب عنقه" ، لم يكن قصده من ذلك ظاهر العبارة،بل هو بمنزلة قول سليمان عليه السلام عن الطفل للمرأتين:"ائتوني بالسكين أشقه بينكما"، ذلك أن الله تعالى قد قرر براءة حرم النبي صلى الله عليه وسلم من كل سوء، وأجمع على ذلك المسلمون في كل عصر وحين، ولذلك أورد مسلم رحمه الله تعالى حديث الإفك قبل هذا الحديث لتقرير ذلك، فإذا كانت مارية رضي الله تعالى عنها وأرضاها بريئة من هذه التهمة، فأمر منطقي أن يكون من اتهمت به برئ منها كذلك، ومرة ثانية لو برأ النبي صلى الله عليه وسلم مارية بنفسه لما رضي بذلك من في قلوبهم مرض، ولقالوا إنما ستر سريته وحمى عرضه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت للناس براءة سريته وبراءة الرجل الذي اتهمت به رضي الله عنها وأرضاها، فأرسل عليا رضي الله تعالى عنه كي يضرب عنق المتهم ( وقلنا إن العبارة لا يقصد بها ظاهرها)، فوجده عليٌّ في البئر يغتسل عريانا، فأخرجه من البئر، فإذا الرجل مجبوب (لا ذكر له)، ويبدو أن عليا رضي الله تعالى انتبه إلى المراد من إرسال النبي صلى الله عليه وسلم له، إذ لو كان المقصود قتله على حال لما تأخر علي رضي الله تعالى عن ذلك، ففهم علي رضي الله تعالى عنه المسألة حق فهمها وهو العاقل الفهيم، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم عدم قتله له، ورد الله المنافقين بغيظهم لم ينالوا شيئا وكفى الله المؤمنين القتال.

وهذا الحديث فيه جملة فوائد أيها الإخوة:
- إثبات نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه خير من حكم على وجه هذه الأرض بأبي هو وأمي ونفسي.
- التأكيد على براءة حرمه صلى الله عليه وسلم من كل ريبة.
- جواز استعمال القاضي أو الحاكم للعبارة مع عدم إرادة ظاهرها لاستخراج الحق وإبطال الباطل.
- صحة الحكم بالأمارت وشواهد الأحوال.
- فضيلة علي رضي الله تعالى عنه وكمال عقله وفقهه .

أيها الإخوة الفضلاء: هذا فصل من فصول المساجلة بيننا وبين خصومنا قد انتهى كما رأيتم، و حين يكرمني الحق سبحانه وتعالى بالرد على مثل هذه الترهات الساقطة سقوط الخصم في ظلمات الحيرة ومتاهات الضلال أزداد يقينا إلى يقيني بأن الله حق، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الله يبعث من في القبور، وأن النصر والغلبة والتمكين ستكون بإذن الله تعالى لعباده الصالحين.

وختاماً أستودع الله تعالى دينكم وأمانتكم وخوايتم أعمالك، و أرجو ألا تنسونا من دعوة صالحة بظهر الغيب، ولله الفضل والمنه وله الحمد في الأولى والآخرة،ولا أنسى أن اشكر الإخوة الذين أثنوا على ماقدمته من جهد متواضع في سبيل الذب عن عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم،كالأخ الفاضل سالم بن عمار الذي أبلى هو الآخر بلاء حسنا، فالله تعالى يجزيه عظيم الجزاء هو وأخوانه من الكتاب الذين رضوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

خالد الورشفاني

خالد الورشفاني
05-21-2005, 05:55 AM
الحرية الحمراء

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فيعتقد كثير من الناس أن العالم لم يتنفس عبير الحرية، ولم يستنشق هواءها العليل إلا بعد أن استطاعت النخبة المثقفة في الغرب أن تطيح باستبداد الكنيسة وسلطانها الكهونتي إلى الأبد، ولذلك تجد طائفة من المثقفين ممن تلقى تعليمه في بلاد الغرب يؤرخون للاحتفال بميلاد الحرية يوم ولدت العلمانية في العالم الغربي، ولعمري إن هذا لخطأ في العلم وكذب على التاريخ، وإنها والله فرية ما فيها مرية.
ولكي تكتمل الصورة ويمكننا أن ننظر إلى الأمور بوضوح أكثر، فلابد لنا من الاتفاق على مفهوم الحرية،إذ الحكم على الشئ فرع عن تصوره كما يقول المناطقة، فما هي الحرية ابتداء؟
قال بعضهم: الحرية أن تفعل ما تشاء وتعتقد ما تريد. فقيل له: لكن لو فعل كل إنسان ما يريد فقد ينتهك حرية الآخرين، فلابد من حدود تنتهي عندها حريتك، فالحرية المطلقة سيترتب عليها المفسدة المطلقة.
قال آخر: هو يقصد أن يقول إن الحرية معناها التخلص من سلطان كل أحد وأن ترخي العِنان لشهوات نفسك، فتتزوج من ذكر مثلك، وتقتني من الكلاب ما شئت، و تلبس ما يروق لك، وأن تتمكن الأنثى من أن تكبر ثدييها مثلا، أو أن تصغر أنفها، كي تكون أكثر جاذبية وتكون محط أنظار الذئاب البشرية في كل مكان دخلت إليه، بل لكل واحد الحق في أن يغير شكله بحسب ما يروق له، فإذا اكتشف أحد الذكور مثلا أنه ليس بذكر، بل هو أنثى يحمل مشاعر أنثى ويميل إلى الجنس الآخر، فليس هناك مانع من أن نلبي له طلبه، وأن نعمل له عملية جراحية نغير فيها شخصيته بما يناسب اكتشافه الخطير - المهم أن يكون لديه الكثير من المال - و لابأس بأن يفكر المرء كما يحلو له، وأن يعبر عن أفكاره بأي شكل يخطر بباله، حتى لو أراد الخروج عاريا إلى الشارع أمام الناس فليست هناك مشكلة، المهم ألا يؤذي أحداً!
فقيل له: لكن الدول العلمانية الغربية التي تتخذها مثالا يحتذى، لها أنظمة صارمة وقوانين – صنعها البشر- دقيقة بحيث لا يمكن لأحد أن يتخلص من سلطان الدولة فيها، فبالجملة لا يمكنك أن تفعل كل ما تريد فعله، فمثلا لو أردت أن تتزوج أكثر من امرأة بصورة رسمية، فقوانين الدولة العلمانية لا تبيح لك ذلك، أما إذا أردت أن تتخذ ألف عشيقة فهذا حق شخصي متروك لتقديرك ولا يحق لأحد أن يتدخل فيه ولو كان رئيس الدولة، ثم إن هذا النوع من الحرية هو في حقيقته عبادة للشهوات، واستئسار لوساوس النفس وخطراتها، وانغماس في بحر الظلمات، وانتهاك لفطرة الله التي فطر الناس عليها، ثم خبرني بالله عليك ، أي فرق بين الإنسان والتيس إذا كان هذا معنى الحرية عندك؟فــأين الحـــرية إذا؟
والحاصل أننا إذا أردنا أن نُعَرِّفَ الحريةَ بشكل نتفق عليه، فلابد من أن نحدد المرجعية التي نحتكم إليها، كيلا يكون نقاشنا بيزنطياً كما يقال، فهل المرجعية التي نحتكم إليها العقل المحض؟ أم الدين المحض؟ أم هي مزيج منهما؟ أم هي قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية؟ أم هي الموسوعة البريطانية؟ أم هي شئ آخر مختلف تماما فليس الدين ولا العقل ولا قاموس أكسفورد ولا الموسوعة البريطانية مما يحتكم إليه في هذا المقام؟
أما إذا أردت رأيي، وأنا حر في إبداء رأيي، فإنني أرى أنه لا يمكن أن يتناقض حكم الشريعة الغراء المطهرة مع حكم العقل السديد الذي لم يتلوث بقاذورات الثقافات الوافدة، وآثار البيئات المنحرفة، وقديما ذكر العلماء المسلمون أنه لا يمكن أن تتعارض حقيقة علمية قطعية، مع نص قطعي الدلالة في كتاب الله أو سنة رسوله، ولذلك ألف العلامة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مؤلفا سماه" درء تعارض النقل والعقل"، وبين فيه ما أشرت إليه آنفاً.
والحرية التي جاء ذكرها في كتاب الله تعالى، وأيدها العقل السوي: هي التحرر من سلطان كل ذي سلطان سوى الله تعالى. أن تحرر عقلك من عبودية غير الله، وأن تحرر روحك من أن تستأسر للعببيد الذين لا يتميزون عنك بشئ، وأن تربأ بجسدك من أن يكون خادما لغير من خلقه، ثم بعد ذلك يجب على عقلك أن يسلم نفسه لضابط الشرع،وبذلك تحافظ على الفطرة الأصيلة فيك، وتحميها من التشوهات الطارئة، والنزوات العابرة، فالله الذي خلقك هو الأولى بأن يشرع لك لأنه يعلم ما يصلحك وما يفسدك، فلا يعقل أن يخلق الخالق سبحانه عباده ثم يتركهم يشرعون لأنفسهم، إن هذا قدح في ربوبيته سبحانه وتجرؤ على ألوهيته في الأرض والسماء، أما أحكام البشر المستمدة من غير شريعة الله تعالى، فإنها قد تضرك أكثر مما تنفعك، " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " (الملك) بلى والله.
هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها،والمقصود بالفطرة الخلقة الأولى التي خلق الله العباد عليها، فلو تصورت أن رجلا يعيش في جزيرة نائية، لم يسمع بأحد ولم يسمع به أحد، عاش طول عمره في تلك الجزيرة البعيدة النائية، فكيف تتوقع أن تراه في هيئته ولباسه، وعلى أي أساس سيفكر، إلى غير ذلك من الأسئلة التي ستثور في ذهنك حين تراه.
أما أنا فأتصور أن أراه ساترا لعورته، فالحا لأرضه، مهتما بشؤون نفسه، غير مفكر في الاعتداء على أحد، ينظر في هذا الكون يفكر ويتأمل، يحاول أن يتعرف إلى سر وجوده في هذه الحياة، من خلقه؟ ومن أوجده؟ وما هي مهمته في هذا الكون؟ يسعى جاهدا للإجابة عن أسئلة تمثل العقدة الكبرى في حياته.
وقد استطاع بدوي ما قرأ و لا كتب يوما أن يفهم هذه الفلسفة العميقة في دين الله، فلسفة الغاية من الخلق، فقال كلمته المشهورة التي لا يحفظها كثير من المعجبين بالنظام العلماني الغربي، وهأنا ذا أقرع بها أسماعهم، قال: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
يالها من كلمة فريدة رائعة روعة الدين الذي أنجب ذلك البدوي العارف، الذي لم يدرس في الجامعات الغربية، ولم يتكلم اللغة الإنجليزية، ولم يدرس النظرية الرأسمالية ولا الشيوعية.

ولم يدرك كثير من المقدسين للنظام العلماني أن ما حققه من إنجازات في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان وغيرها ، يقر العاقل بها ، ويذعن لها، لم يستطع أولئك أن يفهموا أن كل ما فعله الغرب هو أنه جمع التجارب الإنسانية السابقة- بعد أن خاض حروبا كثيرة و تقاتل أبناؤه قتالا مريرا يشهد له التاريخ - ثم صاغ ذلك الإرث الإنساني بطريقة تناسب واقعه في ظل توفر إرادة شعبية وسياسية تمثل أحلام الشعوب وآمالها، فجاءت العلمانية في الغرب استجابة لنداءات الفطرة المتكررة بوجوب احترام إنسانية الإنسان، كما أنها جاءت ثمرة للخلاف بين النصرانية التي توالت عليها أيدي التحريف فصارت أشبه بالطلاسم والأحاجي، وحرية التفكير التي دعا إليها الإسلام بل أوجبها، آخذين بعين الاعتبار أن النصرانية رسالة مؤقتة تضيق شريعتها عن استيعاب حوادث الزمان والمكان، فليس من الجائز قياسها على دين الله الخالد " الإسلام".

وإذا لم يكن من الإنصاف أن نعد هذه الإنجازات الإنسانية ملكا للغرب وحده، فحينئذ لا يتحتم على الشعوب الإسلامية أن تخوض التجربة الأليمة ذاتها التي مر بها الغرب، كما أنه لا يمكن أن ننسخ التجربة الغربية بكل ما فيها من خير وشر، وحق وباطل، ذلك أن الحكمة ضالة الشعوب المقهورة في عالمنا العربي، و لاأظن أن عالمنا العربي في حاجة إلى مزيد من التجارب والنظريات التي لم تزده إلا تغربا عن ثقافته وطمسا لهويته، فالمطلوب هو أسلمة التجربة الغربية أو تعريبها أو لعله مزيج بين الإثنين، في ظل المرجعية العليا للمجتمع المسلم.

ومن هذا المنبر أوجه نداء عاجلا لأولئك الذين أخطأوا في فهم مبدأ الحرية، فاعتقدوا أنهم مخولون للحديث عن كل شئ في شريعة الله تعالى، وأن من حقهم أن يلوكوا ثوابت الأمة بأفواههم، وأن يتكلموا في غير ما يعلمون، وأن يفتوا في غير ما يعرفون، فلعمري لقد ارتقوا مرتقى صعبا، وفتحوا على أنفسهم بابا من الشر بجهلهم، فمتى يرعوي أولئك الأقزام عن الهمز واللمز، ومتى يدركون أنهم متغربون عن أمتنا وأنهم قد انسلخوا من كل قيم الإسلام و مبادئه، ومتى يعلمون أنه لا مكان لهم بيننا.
فمن هم أولئك المتغربون؟ وفي أي مجتمع عاشوا؟ وفي أي جامعة تخرجوا؟ وأي لغة تكلموا؟ وأي ثقافة تشربوا؟ وأي لباس لبسوا؟ ومن الذي يقف خلف تلك الترهات التي يتشدقون بها ليل نهار؟ ومن هو المستفيد من كل ذلك؟
"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ".

خالد على الورشفاني
Wershffani@jhotmail.com

خالد الورشفاني
05-21-2005, 05:57 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
حوارٌ هاديءٌ حولَ السيادةِ بين العقلِ والشرعِ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحابته ومن والاه وبعد: فلقد قرأت ما كتبه الأستاذ صلاح الشريف فيما يتعلق بموضوع السيادة بين العقل والشرع، وكم كنت أتمنى أن يكفيني أحد الأخوة الفضلاء عناء التعليق على ما كتبه الأستاذ صلاح الشريف، لا لشيء إلا لأنني مشغول بالكتابة في بعض الموضوعات التي تتطلب مني التزاماً كاملاً، مما يعني بالضرورة عدمَ وجودِ الوقت الكافي للخوضِ في موضوعات أخرى طارئةٍ كالموضوع الذي بين أيدينا الآن، ولأني أعتقد أنَّ هناك كثيرين ممن يختلفون معه في بعض الأفكار التي طرحها من خلال مقاله (السيادة بين العقل والشرع)، إلا أنني وبعد إعمالٍ للفكرِ رأيت أن أكتب شيئاً في الرد على الأستاذ صلاح الشريف، راجيا من المولى تعالى أن يوفقني للصواب، وإني أبرأ من حولي وقوتي إلى حول الله تعالى وقوته، وأسأله تعالى أن يفتح على عقلي وسمعي وبصري فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
وقبلَ أنْ أبدأ هذا التعليقَ الذي أحاولُ أن يكون موجزاً ومختصراً ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، أود أن أبين أنَّ الهدف الأول والأخير من وراء هذا التحاور هو بيانُ وجه الحق – حسبما أعتقده وأدين الله تعالى به- في كثير من النقاط والمحاور التي وردت في كلامِ الأستاذِ صلاحِ الشريفِ، ويعلم اللهُ تعالى ما كتبت هذا الذي كتبته لأدخل معركة كلامية أو جدلية مع الأستاذ صلاح أو مع غيره، فهذا ليس من طبعي ولا أرغب فيه، إلا أني كما أسلفت أحببت أن أبين وجهة نظري فيما طرحه الأستاذ صلاح الشريف، فكما كان له الحقُ في أن يبديَ وجهةَ نظره في هذا الموضوعِ الخطيرِ، فأعتقدُ أنهُ من بابِ الإنصافِ والعدلِ أن يكون لكل واحدٍ منا الحقُّ في أن يعترض على بعض ما ورد في كلامه وأن يبديَ وجهةَ نظره دون تعرضٍ لشخص الأستاذ صلاح الشريف، فإن العاقل إنما يوجه النقد إلى الأفكار لا إلى الأشخاص، وهذا مما تقتضيه طبيعة المنهج العلمي الإسلامي في البحث والمناظرة، وهوكذلك مؤشر على التأثر الإيجابي بمباديء الحرية والتعددية الفكرية والثقافية واحترام الرأي المخالف وغيرها من المباديء التي صارت كالمسلمات اليوم في المجتمعات الغربية، والتي أعتبرها نتاج الفكر الإنساني وليست ملكاً للغرب وحدهم، والتي ينادي بها الأستاذ صلاح كما يبدو من مقاله المذكور.
وإنني إذ أحاول التعبيرعن وجهة نظري في هذا الموضوع، أود أن استميح القاريء عذرا في استخدام بعض المصطلحات العلمية التي تقتضيها طبيعة الرد على ما ذكره الأستاذ صلاح الشريف في مقاله، وأتمنى أن لا يتحول هذا البحث إلى كلام علمي أكاديمي قد يصعب على غير المتخصصين فهمه واستيعابه على الوجه الأمثل؛ فإن لكل فنٍ مصطلحاتِه التي يختص بها وتميزه عن غيره من الفنون.

وينبغي أن أعترف أن الأستاذ صلاح الشريف أورد العديد من القضايا وأثار الكثير من الأفكار في مقاله، وليس من السهل أن أتناول كل قضية طرحها، لضيق المقام عن ذلك، ولأن بعضها يحتاج إلى كتابة مستقلة ، إلا أنني حاولت جاهداً أن ألخص أهم المحاور الرئيسية التي وردتْ في كلامِ الأستاذِ صلاحِ الشريفِ على النحو التالي:
1- مفهوم الحاكمية.
2- مفهوم سيادة الشرع.
3- المعتزلة والثناء عليهم حيث خاطبهم الأستاذ صلاح الشريف (بالمعتزلة المحترمين)، واعتبرهم دعاة التحرير والتنوير، وأنهم يمثلون الفكر الإسلامي الصحيح.
4- العلمانية ذات أصل إسلامي.

فأقول وبالله تعالى وحده التوفيق:
1- الحاكميةُ:
الحاكمية من المصطلحاتِ التي عُرفت واشتهرت في القرن العشرين كغيرها من المصطلحات الأخرى كمصطلح الشمولية والجاهلية وما إلى ذلك، بسبب طبيعة المرحلة التي كانت تعيشها الأمة المسلمة، حيث ظهرت هذه المصطلحات للتعبير عن قضايا كلية في دين الله تعالى غابت معرفتها على كثير من المسلمين، وانطمست معانيها في أذهانهم، وكان لغياب فقه هذه المعاني التي حملتها تلك المصطلحات السببُ الأكبر في تراجع أداء الأمة المسلمة وتأخرها عن الركب، فقام كبار المصلحين يذوذون عن حياض هذه الأمة بما استطاعوا، ولأجل توصيل بعض المعاني التجديدية للأمة المسلمة، استعمل المفكرون والمصلحون أوعيةً حملت تلك المعاني، واصطلحوا على هذه التسميات، والقاعدة عند أهل العلم: أنه لا مشاحة في الاصطلاح إذا لم يخالف الشرع، فإذا خالف الشرع وجب تحوير ذلك الاصطلاح بما يوافق شرع الله وأمره.
و قد ذكر الأستاذ الدكتور المفكر المصري محمد عمارة في بعض كتاباته أن أول من عُرف باستخدام مصطلح الحاكمية الأستاذ أبو الأعلى المودودي رحمه الله تعالى بسبب الظروف السياسية التي كان يعيشها المسلمون في الهند آنذاك، ثم استعمل الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى هذا المصطلح بعد أن طوره وأعطاه بعداً تربوياً وعقدياً كما هو واضح في كتابات الأستاذ الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى ورضي عنه.
والمقصود بهذا المصطلح: أن الحكم في شؤون الدنيا والدين لا يكون إلا لله رب العالمين، وبعبارة أخرى يعني هذا الاصطلاح: أن المرجعية العليا في المجتمع المسلم لا تكون إلا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى ذلك تحريمَ إصدارِ القوانين التي لا تخالف قواعد الشريعة أو نصوصها كما صرح بذلك كثير من أعلام هذه الأمة وعلمائها ومنهم في العصر الحديث الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله تعالى وغيرُهُ من أهل العلم الراسخين فيه، وكيف يُمْنَعُ إصدارُ القوانين التي لا تخالف شرع الله تعالى وأهل الأصول قد اعتمدوا على مصادر لاستنباط الأحكام كالعرف والمصلحة وسد الذريعة والاستصحاب والاستحسان وهذه كلها مباحث أصولية للعقل فيها مدخل كبير؟
وأستسمح القاريءَ الكريمَ ثانيةً في الاستدلالِ لما ذكرته عن الحاكميةِ بحسب ما تقتضيه قواعدُ علم أصول الفقه الإسلامي الذي دونه عالم من كبار علماء أهل السنة ، وهو الإمام الشافعي رضي الله عنه ، وهذا العلم يُعد مظهراً من مظاهر رقي العقل المسلم، والذي يمثل أرقى منهجية عرفها التاريخ البشري في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية، والذي قال عنه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى:"وأشرف العلوم ما ازدوج فيه الرأي والشرع، وعلم أصول الفقه من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد" ، ومن الأدلة على تقرير أصل الحاكمية بالمعنى الذي أشرت إليه:

أولاً: قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام حين دخل معه السجن فتيان وسألاه عن رؤى رأوها:" إنِ الحكم إلا لله، أمر ألاتعبدوا إلا إياه، ذلك الدينُ القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"(يوسف: 40).
ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه قد اجتمع فيها نفي (إن) واستثناء (إلا)، والنفي والاستثناء إذا اجتمعا أفاد ذلك التخصيصَ والقصرَ كما في قول القائل: ما شوقي إلا شاعر ، فمعناه تخصيص شوقي بالشعر وقصره عليه، وهو أمر معلوم من كلام البلاغيين بطريق التتبع والاستقراء لكلام العرب الذين نزل القرآن الكريم بلغتهم، ومعنى الآية الكريمة على ذلك: أن أمر الحكم هذا حق خالص لله تعالى لا ينازعه فيه أحد، ويسمى هذا النوع من أنواع القصر: قصر صفة على موصوف، أي: قصر صفة الحكم على الله تعالى، وكذلك جاءت لفظة (الحكم) معرفة بالألف واللام للدلالة على العموم، لأن من قواعد اللغة العربية أن المفرد المحلى بالألف واللام مفيد للعموم، فيكون معنى الآية حينئذ بحسب مقتضى العقل أن جميع الأحكام هي حقٌّ خالص لله تعالى وحده لا يشاركه فيه أحد، وهذا مقتضى النظر الصحيح كذلك؛ فإن من كان خالقاً وجب أن يكون له حريةُ التصرف فيمن خلقهم بالأمر والنهي وغير ذلك، والعقل السوي يفهم هذه البديهية ويسلم لها.

ثانياً: قوله تعالى" وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " (الأحزاب: 36)، ووجه العموم في هذه الآية مستفاد مما جرى عليه أسلوبُ القرآنِ الكريم في كون النكرة التي ترد في سياق النفي أو الشرط تعم، فَعَمَّ في الآية الأولى كل من ينتسب إلى الإيمان (مؤمن ومؤمنة) دون التعرض لتخصيص ذلك بوقت دون وقت أو مكان دون آخر، ثم عم كل أمرٍ قضى به الله تعالى أو رسوله (أمرا)،دون أن يخص ذلك كذلك بزمان دون زمان، أو بمكان دون مكان، فدل على نفي الاختيار ووجوب الانقياد لحكم الله و رسوله من قبل عامة المكلفين وهم المؤمنون، في عامة ما حكم الله به أو رسوله صلى الله عليه وسلم، في كل وقت وحين وعلى أي أرض فإنما الأرض لله تعالى.
ثم اسأل العقل السوي: أيُّ الأمرين أولى به وأجدى: أن يقبل بحكم من خلقه وسواه وعدله خيرٌ، أم أن يتقحم لجج المجهول ترفعه موجة وتخفضه أخرى ثم هو لا يدري أينجو بعد ذلك أم ينتكس في حمأة الهوى؟
بل كيف يمكن للعقل السوي أن يتصور خالقاً عظيماً متصفاً بصفات الجلال والكمال(خلافاً للمعتزلة) يخلق الإنسان بعقل مثل هذا العقل، ثم يتركه وشأنه ليقرر ما يحلو له، فما دل عليه عقله فهو الصواب وما لا فلا، وهذا العقل ليس عقلا واحداً بل هي ملايين العقول، وكلها تختلف في التجربة والنشأة والمعرفة، فما يقود إليه عقلي سيكون حتماً مخالفاً لما سيؤدي إليه عقلك، وما سيؤدي إليه عقل ثالث مخالف للعقل الرابع وهكذا تكون النتيجة فوضى مطبقة بجميع صورها وأشكالها؛ لأجل ذلك كانت الحاجة إلى الشرع الإلهي " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "(الملك:14)، والعقل مسبوق بعدم وسيصير إلى العدم فهو لا يمكنه إلا أن يفكر في إطار هذين العدمين، ولابد من الاعتراف بأن العقل مهما علا وارتقى فهو محدود القدرات، وتجربة الإنسان خير شاهد على ذلك، وعلى ذلك فلا يمكن للمحدود المنتهي أن يحكم بأحكام صحيحة بصورة مطلقة، نعم قد يصيب الحق في شيء من القضايا، ولكن من يضمن لنا إصابته للصواب دائما وعدم جنوحه إلى الضلال، لأجل ذلك لزم أن يهتدي العقل بهدى الوحي كي يتفاعل معه ويصل إلى النتيجة الصحيحة، بل حتى حين يفعل ذلك لا يمكن للعقل أن يجزم بصواب ما تمخض عن ذلك التفاعل دائماً وأبداً، لأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجر ".
فإذا تقرر ذلك فلا غرابة حينئذٍ أن يتحدث الفقهاء والمفكرون الإسلاميون عن مبدأ الحاكمية بعد أنْ كاد يمحى من ذاكرة الأمة المسلمة، وقد أدرك الحكام المستبدون خطورة هذا الأمر، فطفقوا يلاحقون الدعاة والمجددين، لمنع تصدير هذه الأفكار التحررية التنويرية التي تحرر العقل من سطوة البشر، فمنهم من دفع روحه وقضى نحبه ثمناً لهذه العقيدة كسيد قطب رحمه الله تعالى، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، ولولا خشية الإطالة لسقت العشرات من نصوص الكتاب والسنة على تقرير هذا الأصل والتوكيد عليه، مما يدل على أنه أصل أصيل وركن ركين في ديننا، ولذلك فالتهوين من شأنه خلاف الأصل المتبع والطريقة المعتبرة، وهل المعضلة بيننا وبين حكام اليوم إلا أنهم لا يقرون مبدأ الحاكمية على النحو الذي ذكرته؟

2- مفهوم سيادة الشرع:
وبناء على اعتبار هذا الأصل نقرر مبدأ السيادة، فإذا سلمنا أن الحاكمية حق لله تعالى وحده نتج عن ذلك أن السيادة لله تعالى ولشرعه، ولذلك فإن موقف المسلم من شرع الله تعالى "هو موقف الإذعان والتسليم لكل ما جاء فيه، مما يتعلق بالعقائد أو العبادات أو بالأخلاق أو بالمعاملات، فالقرآن الكريم لم يفرق بينها، فكلها تتضمن كلمات الله الهادية إلى أقوم سبيل، الداعية إلى كل هدى" ، ولذلك فلا مجال للانتقائية في الإذعان لأمر الله، فلا يحسن أن نستدل بكلام الله تعالى في بيان قيمة العقل والتذكير بها والتوكيد عليها، ثم نتنكب السبيل حين نتحدث عن قضية السيادة أو الحاكمية فالقرآن وحدة واحدة، وكل لا يتجزأ ولذلك نعى الله تعالى على اليهود هذا التبدل والتحول والتلون والانتقائية في المواقف والتعامل مع وحي الله تعالى فقال :" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض"(البقرة: 85)، وقال تعالى في ذم هذا السلوك :" ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، ثم يتولى فريق منهم بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين، وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين، أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل أولئك هم الظالمون، إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفآئزون، وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن، قل لا تقسموا، طاعة معروفة، إن الله خبير بما تعملون، قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين" (النور:47- 54)، ومن الأدلة على سيادة الشريعة وأنها ينبغي أن تكون دائماً على الرأس والعين قوله تعالى:" يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ". قال ابن القيم رحمه الله تعالى:"فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببا لحبوط أعمالهم، فكيف بتقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟! أليس هذا أولى أن يكون محبطاً لأعمالهم "إهـ. نسأل الله تعالى العافية لنا ولإخواننا وللمسلمين أجمعين.

3- المعتزلة والثناء عليهم حيث خاطبهم الأستاذ صلاح الشريف (بالمعتزلة المحترمين)، واعتبرهم دعاة التحرير والتنوير، وأنهم يمثلون الفكر الإسلامي الصحيح.
نشأت فرقة المعتزلة في بداية القرن الثاني الهجري مع نشأة علم الكلام، وبسبب اتساع رقعة الدولة الإسلامية آنذاك دخلت في الإسلام أممٌ حملت ثراتها المثقل بركام التصورات القديمة والأفكار والمعتقدات، بل ومناهج النظر والاستدلال والبحث، فأدت كل تلك العوامل إلى ظهور ما يسمى بعلم الكلام الذي عرفه ابن خلدون بأنه: الحِجَاجُ عن العقائد بالأدلة العقلية، "وطريقة علم الكلام هذه مبناها على استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، والتنقير والسؤال، وتوجيه إشكال ثم اشتغالٌ بحله" ، ومن أصول المعتزلة وعقائدهم:
1- القول بالمنزلة بين المنزلتين: فمرتكب الكبيرة الذي مات ولم يتب مخلد في النار، وليس مؤمناً ولا كافراً!
2- القول بأن العبد يخلق أفعال نفسه بقدرة أودعها الله فيه!
3- القول بما يسمى عندهم بالتوحيد (وحق له أن يسمى التعطيل) ولهذا نفوا الصفات القائمة بذات الله تعالى حتى لا يشبه المخلوقين!
4- قولهم بأن العقل يحكم بحسن الأشياء وقبحها!
5- القول بخلق القرآن وعدم رؤية الله تعالى في الآخرة!

• أنموذج من تقرير المعتزلة لقضايا الاعتقاد وأنه مخالف كل المخالفة لطريقة القرآن في عرض العقائد:
وباختصار شديد قامت طريقة المعتزلة في البحث والنظر في تقرير قضايا الاعتقاد على طريقة مخالفةٍ للمنهج القرآني في عرض العقيدة، مما أدى بهم إلى نتائج يستقبحها العقل السوي الذي يبالغون في تقديسه ويجعلونه حاكما على نصوص الشريعة المطهرة، فإذا أرادوا أن يثبتوا وجود الله مثلا قالوا:
أول الأدلة: دليل الحدوث، وملخصه: أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء، وهذه الأجزاء يمكن قسمتها إلى أجزاء.. وهكذا، ولكن هذا التقسيم لا يستمر إلى ما لا نهاية، بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لايتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر تتعرض لحالات مختلفة كالحركة والسكون.......وهذه الأحوال حادثة، وهي حادثة لأنها متغيرة، ما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض، والأعراض حادثة، فالجواهر إذن حادثة، والأجسام حادثة، والعالم حادث، ومن ثم فلابد له من محدث وهو الله سبحانه وتعالى.إهـ ، فانظر يرحمك الله هل مثل هذا التقعر والتكلف مرادٌ لله أو لرسوله صلى الله عليه وسلم؟
أما كتاب الله تعالى فقد انتهج منهجاً خاصا في تقرير عقيدة التوحيد، فاتجه إلى الفطرة الإنسانية يخاطبها خطاباً سهلا لا تقعر فيه ولا تمحل، فتجد القرآن مثلا: يلفت الأنظار إلى الآيات المبثوتة في الكون والنفس :" أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت" (الغاشية)، ويحمل الإنسان على التفكر في خلق نفسه :"خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين"(النحل:4)، ويشعر الإنسان بصعفه وقلة حيلته :" ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له"(الحج:73)، ويعرض لصفات الحق سبحانه فيوضحها بأسهل طريق :" قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد"(الإخلاص)، وبهذا الأسلوب البين الذي لا عوج فيه ولا أمتا قرر القرآن عقيدة التوحيد، فجاء المعتزلة فعكروا صفوها بعقولهم الفاسدة.
• طعن المعتزلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين عدلهم الله ورسوله:
"ولاعتمادهم على العقل المحض،طعن كبراؤهم في أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنعوا عليهم ورموهم بالكذب، فقد زعم واصل بن عطاء أن إحدى الطائفتين يوم الجمل فاسقة، إما طائفة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر والحسن والحسين وأبي أيوب الأنصاري وإما طائفة عائشة والزبير، وردوا شهادة هؤلاء الصحابة فقالوا: لا تقبل شهادتهم. "، والعجيب أن العقل الذي يقدسه المعتزلة ويعتمدون عليه في إصدار أحكامهم ، عقل مغرم بمعارضة النصوص الصريحة الصحيحة، فقد قال الله تعالى في تعديل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه"، ومعلوم أن المحل القابل للصفة لا يخلو إما من الصفة أومن ضدها، فإذا ثبت لهم العدل بنص القرآن انتفى عنهم ضده وهو الفسق، غير أن عقول المعتزلة الذكية لا يمكنها أن تستوعب ذلك.
• رد المعتزلة للكثير من العقائد الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أن العقيدة يجب أن تثبت بدليل قطعي:
لم يفرق المعتزلة بين ما هو صحيح من الأحاديث وما ليس بصحيح، فردوا خبر الصادق المصدوق الله صلى الله عليه وسلم كعذاب القبر والإيمان بالحوض والصراط والميزان والشفاعة وغيرها كرؤية الله تعالى في الآخرة، كما ردوا الكثير من الأحكام الشرعية بدعوى مناقضتها للعقل، أو تعارضها مع الكتاب، أو تعارضها مع أحاديث أخرى بزعمهم، وقد نقل كثيرٌ من أهل العلم الثقات وقائع لا تحصى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متفقة كلها على العمل بخبر الواحد ووجوب الأخذ به.
• بيان أنَّ الاعتزالَ مذهبٌ سياسي وكيف أنَّ المعتزلة قد عرفوا بالاستبداد والبطش والتنكيل والتسلط على الأمة وحملها على خلاف ما تعتقد وترضى:
قد حفظ لنا تاريخُ الأمة فظائعَ ارتكبها المعتزلةُ المحترمون الداعون إلى تقديس العقل وتحريره،حين استقلوا بحكم الدولة الإسلامية في زمن الخلافة العباسية، وقد علا أمرهم واستفحل فكرهم في زمن المأمون الذي اعتقد عقيدتهم وحمل الناس عليها كما سيأتي، ومن أعظم تلك الفظائع ما عرف في التاريخ الإسلامي بفتنة خلق القرآن، " ولقي العلماء والمحدثون صنوف الإرهاق طول هذه المدة- خمس عشرة سنة- فمنهم من أجاب خوفاً من السيف، ومنهم من أجاب مرغماً من غير أن يعقل المعنى، ومنهم من تورع عن الخوض فيما لم يخض فيه السلف، ومنهم من أبى أن يجيب وصرح بأن القرآن غير مخلوق ، وصبروا على ما نالهم من العذاب والموت في سبيل ذلك " ، قال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى :" وفي سنة 218هـ امتحن المأمون العلماء بخلق القرآن، وكتب في ذلك إلى نائبه ببغداد – إذ كان هو في الرقة- وبالغ في ذلك وقام في هذه البدعة خيرَ قيامِ معتقدٍ بها، فأجاب أكثر العلماء على سبيل الإكراه، وتوقفت طائفة، ثم أجابوا وناظروا، فلم يلتفت إلى قولهم، وعظمت المصيبة، وهدد على ذلك بالقتل" ، قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله :" بل قد حبس وعذب وقتل في هذه المحنة خلائق لا يحصون كثرة، كما يراه القاريء المتتبع لتلك الحقبة من التاريخ، وصارت هذه المحنة هي الشغل الشاغل للدولة والناس خاصتهم وعامتهم" .
يقول الجاحظ أحد رؤوسهم مبرراً استخدام العنف مع المخالفين في الرأي، ومدافعاً عن كيدهم:" نحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأستار..." .
والسؤال الذي يفرض نفسه علينا هو: لو افترضنا أن المعتزلة المتنورين المحترمين استلموا زمام الأمور في بلد من البلاد، فما عسى يكون مصير الفقهاء المخالفين لهم (سنة وشيعة) ؟ ثم ماذا سيكون مصير من يحكمونهم؟ وأخيراً ما مصير من يعارضهم في فهمهم لكثير من أحكام الدين وشرائعه ؟ ومما يلفت النظر ذلك التشابه العجيب بين حكام اليوم المتسلطين على الأمة اليوم والمعتزلة، فحكام اليوم ينكرون حاكمية الله تعالى ويؤلون النصوص التي لا تقبل التأويل معتمدين على عقولهم السخيفة التي تلوثت بقاذورات الأفكار وزبالات النظريات، ويحملون الناس على عقائدهم الثورية الفاسدة، وينكرون سيادة الشريعة، فما أشبه اليوم بالبارحة ، وحقا إن التاريخ ليعيد نفسه!
بقي أن أبين للقاريء أن علماء أهل السنة وعلى رأسهم الأمام العلم أحمد بن حنبل رضي الله عنه هم من تصدوا لهذه الفتنة وقمعوها، ونجى الله تعالى الأمة على أيديهم، وانتصرت السنة وانقمعت البدعة والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وكما تقول القاعدة : البقاء دائما للأصلح.
• إقصاء الشريعة عن الحياة وعدم التحاكم إلى شرع الله تعالى من لوازم منهج علم الكلام الذي يقدسه المعتزلة:
إختزل كثيرٌ من المتكلمةِ عقيدة التوحيد التي نادى بها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في موضوع واحد، وهو توحيد الربوبية، ومعناه أن للكون خالقاً واحداً رازقاً، مع أن هذا القدر من التوحيد لم يكن في الأغلب محل نزاع بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وأقوامهم، وإنما النزاع كان من جهة عدم عبادة الناس لهذا الخالق الرازق المحي المميت، وعدم طاعته وحده، ولذلك كانت هي دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى:" قال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره"(الأعراف:65)، وقال أيضاً:" ذلكم الله ربكم ما لكم من إله غيره"(الأعراف:65)، ولأن موضوع علم الكلام إنما هو البحث في ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، بحسب الإسلوب اليوناني الفلسفي الذي أشرنا إليه من قبل، حرص أرباب هذا العلم على إثبات تسمية علم الكلام من جهة، ولظنهم أن توحيد الربوبية هو المطلوب الأول للرسل وقد أخطأوا في ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :" وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقرون التوحيد في كتب الكلام والنظر، غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا هو معنى قولنا: لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع" ، وهذا الفهم المعوج أدى فيما بعد إلى ذبول مفهوم الطاعة والاتباع، حتى اقتصر الأمر على مجرد أداء الشعائر، فلما أتى دور إقصاء الشريعة عن الحياة الإسلامية، والتحاكم إلى غير شرع الله تعالى هان الخطب على بعض الناس الذين تأثروا بذلك، وكان الأمر سهلاً على بعض من يدعون العلم بأن يغضوا الطرف عن ذلك الأمر الجلل، إذ أن توحيد الربوبية – في نظرهم- قائم في نفس الحاكم والمحكوم، وفي تصوري أن هذا كان من أكبر النتائج الوخيمة لهذا الفكر المعتزلي.

• أنموذج لجرأة المعتزلة على رد النصوص يبين مدى فساد عقولهم:
نقل الأستاذ صلاح الشريف عن بعض علماء المعتزلة وهو ضرار بن عمرو ما نصه:" إذا اجتمع رجلان يصلحان للإمامة، أحدهما قرشي والآخر نبطي، يولى النبطي. لماذا ياضرار؟ قال فكره وعقله النير:لأنه إن أحدث (يعني خالف) أي النبطي، ثم أرادوا خلعه، لم تكن له عشيرة تمنع من ذلك، وكان ذلك آمن من سفك الدماء ، وانتشار الأمة واختلاف الكلمة. وياله من رائع".إهـ.
لكن يقال لضرار بن عمرو: يا أستاذ ضرار بن عمرو، يا صاحبَ الفكر السياسي الراقي يا أيها النابغة الرائع: إنَّ القرشي إذا تولى الخلافة كانت له قبيلةٌ تمنعهُ من الناس، وحينئذٍ لم يفكر أحدٌ - مجرد التفكير- في أن ينازعه السلطة، فنسد باب الشر والفتنة عن الأمة بفعلنا هذا، ولذلك يكون مقتضى العقل السوي الموافق للنقل الصحيح أن يُولى القرشي صاحب المنعة والعصبية، أما إذا وليتَ يا أستاذُ ضرارَ بن عمروٍ النبطيَّ الذي ليست له قبيلة تحميه، فإن كل أحد سيفكر في منازعته السلطة منذ أول يوم يعتلي العرش وحتى قبل أن يُحْدِثَ، باعتبار أنَّ الرجل (مقطوعٌ من شجرة)، وليس له من يحمي ظهره ، ولذلك سيفضي هذا حتماً إلى الفتنة وقطع رقاب المسلمين من حيث أردت يا أستاذ ضرار إخمادها بعقلك المبدع وأفكارك الرائعة النيرة.

5- العلمانيةُ ذاتُ أصلٍ إسلامي:
ليسمح لي الأستاذ صلاح الشريف بأن أعلق على هذه الفكرة التي أوردها في مقاله المذكور، وهي في واقع الأمر تحمل مبدأين متناقضين لا يمكن أن يجتمعا حتى يلج الجمل في سم الخياط، وأنا شخصياً أعتقد أنها زلة قلم من الأستاذ صلاح الشريف، ولم يكن يعني ما يقول.
فالمبدأ الأول هو مبدأ العلـمانية، وهو مبدأ غربي يعني وفقاً لما يقوله قاموس (العالم الجديد) لوبستر، شرحا لمادةSecularism ما يلي:
1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك على الخصوص نظام من المباديء والتطبيقات، يرفض أي شكل من أشكال الإيمان والعبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشؤون الكنسية، لا دخل لها في شؤون الدولة، وخاصة التربية العامة.
ويقول معجم أوكسفورد شرحا للكلمة نفسهاSecularism:
1- دنيوي، أو مادي، ليس دينيا ولا روحياً، مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول: إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساساً للأخلاق والتربية.

وبناء على ما سبق من التعريفات التي تبين حقيقة هذا الاصطلاح عند الغربيين الذين أنجبت معاناتهم مع الكنيسة واستبداد الملوك هذا المصطلح، يتضح لنا أنه لا يمكن أن تكون العلمانية بمعنى فصل الدين عن الحياة معنى مراداً في نصوص الشرع، ولا يمكن أن يكون دين الله تعالى يدعو إلى التحلل من كل شكل من أشكال الإيمان والعبادة.
وكذلك فإنه من الضروري أن أبين أن الوحي المعصوم بشقيه : القرآن الكريم والسنة المطهرة ، قد أنزل العقل منزلة لا تعدلها منزلة، إلا أن النصوص الشرعية لم تجعل العقل حاكماً على النص، بل جعلت العقل يتفاعل مع النص في إطار ضوابط منهجية استنباط الأحكام المسماة بأصول الفقه، ثم يكون ناتج هذا التفاعل الخلاق بين العقل والوحي حكما شرعياً.
وبتعبير آخر فالعقل بالنسبة للتصور الإسلامي على مقتضى مذهب أهل السنة إنما هو كالآلة التي تستعمل في استنباط الأحكام واستخراجها من مظانها وهي النصوص، ثم حين يتم استخراج الحكم عن طريق تفاعل الوحي المعصوم مع العقل الصحيح يكون دورُ العقل حينئذٍ التسليمَ للشرع، أما أن يكون العقل هو الحاكم المطلق على نصوص الشريعة، فهذا له مستلزمات كثيرة قد تفضي بالمرء إلى الكفر الصراح والعياذ بالله، ولا أظن أن الأستاذ صلاح يقول بها!

أخيراً أقول "إن البحوث التي برز فيها المعتزلة، وصالوا وجالوا، ليست هي التي صنعت الحضارة الإسلامية، وأنشأت العلم التجريبي الإسلامي، فقد كانت بحوثهم (ميتافيزيقية) وأكثرها حول ذات الله تعالى وصفاته، وأمور الغيب والأخرة، وتأويل ما ورد فيها من نصوص وفق عقولهم، وإخضاعها لمبادئهم، ومثل هذه البحوث لا يقوم عليها علم طبيعي، ولا يستبحر بها عمران، وخير منها الإيمان الفطري، والتسليم السلفي، ثم المشي في مناكب الأرض والابتغاء من فضل الله "، ثم "إن أهل السنة لم يستخدموا السيف و لا السوط ضد المعتزلة، ولم يعاملوهم بنفس الأسلوب، كل ما في الأمر أن سيف المعتزلة قد أغمد، وسوطهم قد اختفى، وخلا الميدان للحوار، والجدال الهاديء، فكان منطق أهل السنة أقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً، وأقرب إلى عقول الأمة وقلوبها، لأنه يستمد مفاهيمه من داخل الإسلام لا من خارجه، ويعتمد على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما عمدة الملة، وأساس الدين، ومن اعتصم بهما فقد هدي إلى صراط مستقيم" .
أخيراً أرجو من الأستاذ صلاح الشريف أن يتقبل مني هذا النقد الذي حاولت أن أكون فيه موضوعياً ما أمكن، خاصة وأن الأستاذ صلاح الشريف -كما يبدو من كتاباته- من دعاة احترام الفكر وتحرير العقل ومن الذين يحرصون على التعددية الفكرية والسياسية، فلا أقل من أن يعتبر نقدي هذا نوعاً من التعدد في المواقف والأفكار، والمفكر أو الكاتب يدعو الناس بفعله قبل دعوتهم بقوله ، وهذا من أهم الأسباب التي شجعتني على كتابة هذا النقد كذلك.
وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم: خالد على الورشفاني
باحث في الدراسات الإسلامية
wershffani@hotmail.com

خالد الورشفاني
05-21-2005, 05:58 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحابته ومن والاه، وبعد:

فعلى الرغم من مرور القرون الطويلة (أكثر من ألف وأربعمائة سنة) على معانقة الأرض لوحي الله تعالى الخالد، لا يزال كتاب الله شاهداً على الأمم بصدق رسالة سيد ولد بني آدم عليه الصلاة والسلام، ولا يزال الإسلام أكبر الديانات الموجودة على وجه الأرض على الإطلاق، بل إن الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالإسلام يحصد في كل يوم أنصاراً من الشرق والغرب،مع أن المسلمين اليوم من أضعف أمم الأرض وهذا عجب من العجب، ذلك أن الذي يُحَكِّمُ عقلَه دون اعتبار لأي أمر آخر سيخلص في آخر المطاف إلى أن سُنَّةَ الحياةِ جرت بأن المغلوب تابع للغالب معجب به، وأن المنطق المادي البحت يوجب أن يعتنقَ الضعيفُ المقهورُ دينَ القويِّ القاهرِ، إلا أن الأمر لا يسير على وفق ما تحكم به العقول المجردة حين نتكلم عن هذا الدين العظيم.

ومن اللافت للنظر حقاً أن الإسلام صار يستهوي كثيراً من أصحاب الفكر والنظر في المجتمعات الغربية، وجلهم من الطبقة المثقفة المتعلمة التي نشأت في مجتمعات تعبد المادة وتقدس العقل، ولا ترى لأحد على أحد فضلا إلا بمقدار ما أوتي من هذين الأصلين عندهم، وقد شهدت بنفسي إسلام كثير من الغربيين من المهندسين والأطباء وطلاب الدراسات العليا هنا في بريطانيا وغيرهم من أصحاب الثقافة الراقية، والذين لا يمكن لأحد أن يشكك في قدرتهم على البحث والنظر والتمييز بين الغث والسمين، إلا أن القوم كانوا أكثر إنصافاً من كثير من المتغربين.

وقد جمعني قبل عدة أيام مجلس مع شاب إنجليزي لم يجاوز الخامسة والعشرين، نشأ في أسرة مسيحية تعتز بديانتها، وتستعلي على كل غريب وافد، قد ملك عليه الإسلام عقله وقلبه وكيانه، وكان يحدثني عن تجربته التي انتهت به إلى اعتناق هذا الدين وعيناه مغرورقتان بالدموع، وبريق الإيمان يسطع من جبينه، وهو يرتدي العمامة والقميص (وهي التي يسميها الناس اليوم الجلابية)، حيث قرأ هذا الشاب (وسمى نفسه مصعبا) ربما أكثر من أي مسلم منا عن الإسلام، ولاشك أنه قد قرأ كثيرا من الشبهات التي جادت بها زبالات المشككين ، فكان كلما قرأ شيئاً عن الإسلام صاح به عقله وناداه فؤاده : هل من مزيد؟

وانتهى به الأمربعد طول تدبر ونظر وتأمل إلى الصدع بكلمة الحق وشهادة التوحيد، معلناً بذلك البراءة من الشرك وأهله، وانتهى ذلك الصراع المرير في نفسه إلى انتصار الفطرة على صيحات التشويش والتشكيك، وإنها لشجاعة ما بعدها شجاعة أن يترك شابٌ في عمر أخينا مصعب - صاحب الحسب والجاه والمال والجمال- حياة الصخب واللذة و الهوى، ويقبل على الله تعالى نادماً على ما ضيعه من عمر مضى في غير طاعة أو معروف.

وقد حدثني بعض الإخوة المهتمين بشأن الدعوة أن عدد الداخلين إلى دين الله تعالى في دول الغرب قد حقق أرقاماً أقلقت صناع القرار في بعض الدول العريقة في علمانيتها، ومما تجدر الإشارةُ إليه أنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عكف كثير من الغربيين وغيرهم – بدافع الفضول – على القراءة والبحث عن دين الله الخالد من أجل الوصول إلى تصور صحيح عن هذا الدين العظيم، وكلمة حق لابد أن أصدع بها: أن كثيراً ممن قرأ عن الإسلام ولم يعتنقه – من المنصفين - صار يحترم هذا الدين أيما احترام، بل بعضهم بدأ يصحح كثيراً من الأغاليط والأباطيل التي تنشر هنا وهناك بسبب وبغير سبب عن هذا الدين الخالد، فقلت في نفسي: سبحان الله العزيم، رُبَّ ضارة نافعة!

إن من أسلم من إخواننا في هذه الديار، إنما وفقهم الله تعالى لذلك لأنهم قدموا على الله تعالى بروحٍ متجردة من كل شي إلا من طلب الحقيقة ومعرفة الصواب، أسوتهم في ذلك سيدنا سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، أما من جاء محملاً بالشبهات ومعبأ بالشهوات، فأنى له أن يسمع أو يعقل أو يفهم؟

والسؤال الذي يلح في طلب الجواب: لماذا يستهوي الإسلامُ الغربيين وهم الذين تربوا في أجواء المادية الطاغية وترعرعوا في ظلال العقلانية المتطرفة، وشربوا من معين المسيحية المحرفة المشوشة حتى الثمالة؟

دخلت امرأة إنجليزية ذات يوم على أحد المراكز الإسلامية في بريطانيا تطالب بلقاء المسؤول عن ذلك المركز، وعندما سئلت عن سبب ذلك أجابت: جئت إلى هنا وأنا أكاد أنفجر من الألم والحسرة والغيظ؛ إذ كيف يقصر المسلمون في دعوتنا ودعوة أمي – التي ماتت على غير الإسلام – كل هذه السنين؟ بل كيف يعطي المسلمون أنفسهم الحق في أن يكتموا عنا دين الله الذي أراده وارتضاه للناس كافة؟ ثم انفجرت باكية !

فما كان من الأخ إلا أن هدأ من روعها، وأوضح لها أن المسلمين في الغرب يقومون بكل ما يستطيعونه من أجل إيصال صوت الحق إلى الناس، وأن الإسلام ليس حكراً لا على العرب ولا غيرهم.

إن على المسلمين في الغرب أن يعيدوا ترتيب أولوياتهم، وينبغي على كل المراكز الإسلامية والمؤسسات والجمعيات الخيرية أن تدعم الأنشطة الدعوية التي تبشر بالإسلام العظيم، الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم خالياً من كل كدرٍ نقياً من كل شائبة صافياً من كل تعكير، وإنه لا مناص من البدء في حوار مفتوح بين الدعاة وغيرهم من المسلمين من أصحاب التوجهات العلمانية أو الليبرالية كي يفهم أولئك أن الإسلام لا يعادي حرية التفكير، وأن القوم لو حكموا عقولهم لعلموا علم اليقين أن الغلبة ستكون لدين الله تعالى وشواهد ذلك كثيرة جداً.

بل إنني أدعو إلى حوار بين المسلمين وغيرهم من الساسة وصناع القرار في هذه الدول، من أجل أن يتعرفوا على الإسلام عن قرب، ولكي يزيلوا من أذهانهم تلك الصورة البئيسة التي رسمها ولا يزال يرسمها الإعلام الغربي (الذي يفترض أنه يتحرى الدقة والموضوعية والمهنية) عن دين الله تعالى، ذلك الإعلام الذي ضل طريقه وصار في كثير من المناسبات أداة لصنع الشعوب وتوجيهها، وقد حدثني بعض الإخوة المشتغلين بالدعوة أنه التقى وفداً من القساوسة الذين يفترض أنهم أكثر الناس معرفة بالإسلام، فسألهم على سبيل الاستئناس ورفع الكلفة: هل تعلمون لماذا يستقبل المسلمون الكعبة في صلاتهم؟ فرفع كبيرهم أصبعه متهيئاً للجواب، فلما أذن له قال: لأن محمداً مدفون فيها!

إننا نرحب بالحوار المثمر في ظل الاحترام لمشاعرنا وثوابتنا، فنحن أمة عريقة عراقة الزمان نفسه، قديمة قدم التاريخ، و نحن أحرص الناس على الحوار، فإن مبدأ التحاور حول القضايا المختلفة، ووجهات النظر المستجِدة، ليس أمراً جديداً على المسلمين، فقد حفظ لنا كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وآثار صحابة رسولنا رضي الله عنهم أجمعين ، وسيرة كبرائنا وعلمائنا، حفظ لنا من ذلك ما نفاخر به شعوب الأرض جميعاً، وما يجعلنا – نحن المسلمين- نقف في مصاف الأمم التي ساهمت في تعميق هذا المبدأ، والدعوة إليه والحرص عليه.

وحسبك بأمام علم كالشافعي رضي الله تعالى عنه الذي كان يقول: ما ناظرت أحدا إلا رجوت الله أن يظهر الحق على لسانه. وكان يحترم آراء المخالفين له احتراما شديدا حتى اشتهر عنه قوله: قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب.

هذا أيها الناس غيض من فيض وقليل من كثير، وهو قطرة من بحر عميق واسع ملئ بالدرر والصدف، فمن أراد درره فليحسن الغوص إلى الأعماق، وليسأل الواحد الرزاق، فما رد يوما من سأله، ولا خيب من أمله، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، عطاؤه لا ينفد، وفضله في كل وقت يتجدد، يُعْصَى فيغفر، ويطاع فيشكر، القلوب له مفضية، والسر عنده علانية، رب رحمن رحيم واسع الفضل والكرم جميل حليم، فبادر بالتوبة إليه، والثم الأعتاب بين يديه، فالمصير حتما إليه، وإنا لله وإنا صائرون إليه.

أخوكم: خالد على الورشفاني
Wershffani@hotmail.com