عيد الخطيب
10-20-2009, 11:05 PM
المفهوم الحقيقي للعبادة
أعلنت إحدى القنوات الفضائية عن ندوة سيحاضر فيها أحد الدعاة المشهورين على مستوى العالم الإسلامي ، وكان عنوان المحاضرة المعلن عنها " الإسلام والأزمة الاقتصادية ، الأسباب والعلاج " .
فقررت أن أسمع المحاضرة وكان لدى قناعة تامة أن هذا الداعية المعروف لن يغيب عنه أبدا أن يرجع إلى الخبراء والمتخصصين في الاقتصاد ، وأن يحاول أن يوصل لجمهور عريض من الناس أسباب الأزمة والسبيل للخروج منها أو الحد من هذه الأزمة التي يعانى منها المجتمع .
وقلت في نفسى إن هذا الداعية المعروف بثقافته وعقلانيته على عكس الكثير من الدعاة ، سينقل وجهة نظر الخبراء بأمانة من خلال أسلوبه السلس العذب في إطار وعظي جميل ، لتستغل البرامج الدينية التي لها جمهور عريض في توعية الناس بالمشاكل التي من حولهم .
وللأسف عندما سمعت المحاضرة صدمت صدمة شديدة للغاية ، وقلت في نفسى إذا كان هذا خطاب داعية مثقف معروف بعقلانيته ، فما هو الحال إذا تحدث من هو دونه ؟ وهذا ملخص ما قاله وما دارت حوله المحاضرة .
"..... فسبب هذه الأزمة أن المسلمين قصروا في العبادة ، فالصحابة كانوا يقومون طوال الليل لا ينامون إلا القليل ، وكانوا يصومون أغلب أيامهم ، ويقضون أوقاتهم في مجالس الذكر والعبادة ، لذلك كانت البركات تتنزل عليهم من السماء ، فعلى المجتمع المسلم أن يفهم ويعي تماما أنه إذا أراد أن يخرج من أزمته هذه فليعد المسلمون إلى قيام الليل الذي أضاعوه أمام الفضائيات ، ويعودوا إلى تلاوة القرآن الكريم التي لا يعرفونها إلا في رمضان ، وأن يكثروا من صلاة التطوع ومجالس الذكر والعبادة ، وبذا يتحقق قوله تعالى كما جاء في سورة الأعراف :
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "
فكلام الله هنا واضح وصريح ، من أراد أن تفتح له أبواب الرزق فعليه بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن .
ولقد جاء رجل إلى الإمام الحسن البصري ، قال له : يا إمام إني أشكو قلة المطر. فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه آخر يشكوه قلة المال ، فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه ثالث فقال : يا إمام إني أشكو قلة الولد ، فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه رابع فشكاه قلة الرزق وسوء المعيشة ، فقال له الحسن البصري: استغفر الله .
فتعجب الجالسون وقالوا : يا إمام أجبت على الجميع بإجابة واحدة وهى " استغفر الله " كيف ذلك ، وما السر في الاستغفار.
فقال الحسن البصري : لم آت بذلك من عندي، ألم تسمعوا قول ربكم في سورة نوح :
"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ".
ولم يخرج كلام الرجل طول المحاضرة التي استمرت ما يقرب من ساعة ونصف عن هذه المعاني .
والكلام الذي طرحه هذا الداعية يدل على فهم قاصر، ساذج ، جاهل ، ظالم لآيات الله جل وعلا، فهو إجرام يرتكب باسم الدين وهو أخطر عند الله من الإجرام الذي يعرفه الناس .
وإني أتساءل هل وصل الأمر بهذا الداعية إلى هذا الحد الذي يجعله ظالما لدينه ومجتمعه ؟
أيتجاهل الأسباب المنطقية من فشل إداري ، وفساد ذمم ، وإهمال من قبل المسئولين عن مجالات مثل التعليم ، والبحث العلمي ، وعدم إنشاء المشروعات الصغيرة ، وعدم إنشاء المصانع ، و إنفاق الأموال الطائلة على أمور تافهة ، فضلا عن سرقة المليارات من الأموال والفرار بها للخارج ، وغير ذلك من أسباب أدت إلى الأزمة الاقتصادية التي يعانى منها المجتمع ؟ أيتجاهل كل هذه الأسباب ، ويعول هذه الأزمة بأكملها على التقصير في الصلاة والصيام والذكر، وغير ذلك من طقوس العبادة ؟
إنه هو وأمثاله الذين يتحدثون بهذا المنطق وهم كثرة لمن أهم الأسباب التي أدت بالمجتمع إلى هذا التخلف الذي عليه .
إن هذا الخطاب يؤدى إلى كوارث أخطر بكثير من كوارث الزلازل والبراكين ، إن الزلازل والبراكين كوارث ولكن يمكن للأمم والشعوب أن تعوض ما خسرته من جرائها إذا كانت هناك عقول تفكر وتخطط .
أما الكوارث التي يتسبب فيها هذا الخطاب فلا يمكن أن نمحو آثارها ولا يمكن أن نبنى أو نقيم من ورائها مجتمعا ، لأنه خطاب هدام يؤدى إلى تخلف الشعوب وهذا هو حال الواقع الذي نحياه .
من الذي علَّم هؤلاء الدعاة أن الله سبحانه وتعالى قد اختصر العبادة في صلاة وصوم وذكر ودعاء ، وأن العبادة التي من أجلها خلق الله الجن والإنس هي فقط هذه الطقوس .
إن الآثار التي ترتب عليها هذا الخطاب آثار هدامة ، إننا نرى نتيجة هذا الخطاب أنَّ طلابا جامعيين يريدون أن يتركوا دراستهم في كلياتهم ويتفرغون لدراسة العلم الشرعي ، وموظفين يقضون أوقات العمل في قراءة القرآن ، وإقامة حلقات فيما بينهم ؛ لمناقشة أمور الدين بكل سذاجة ، وفى المصالح الحكومية نري الموظفين يستعدون لصلاة الظهر قبل الوقت بساعة ويعودون من المصلى بعد الوقت بساعة ، والمواطن المغلوب على أمره الذي قطع المسافات ليقضى مصلحته ينتظر بالساعات والأيام ، وأحيانا بالأسابيع والشهور، ونرى أغنياء يؤدون فريضة الحج مرات عديدة ، ويذهبون لأداء العمرة عشرات المرات، وينفقون أموالا طائلة على هذه الرحلات أو ينفقون أموالهم على موائد الرحمن ؛ فالمهم عندهم أنهم يربطون إنفاق المال بطقوس العبادة ، وكأن المسلم لا ينال رضا ربه عندما ينفق المال على إنشاء المشروعات وبناء المصانع والمستشفيات وتشغيل الشباب أو الإنفاق على البحث العلمي الذي يخدم المجتمع ويرقى به .... وكل هذه جرائم ترتكب باسم الدين والمحافظة على العبادة ، وهذه جرائم أخطر عند الله من جرائم السرقة ، والرشوة ، لاسيما وأنها ترتكب باسم الدين .
إن الذي يظن أن العبادة والتقوى هي بذل وقت كبير في القراءات الدينية ، وقضاء الوقت في الأذكار، وترك شئون الدنيا ، وإعمار الأرض وإصلاح الأوطان ، لهو إنسان جاهل بكل المقاييس .
هل يعقل أن يتفرغ المسلمون للتمتمة والدروشة ، أو الاعتكاف على دراسة الفرق بين الماء الطهور والماء الطاهر ، وغيرهم يصنع الطائرات والمدافع ، ويقوم بإعداد البرامج النووية ، ويتقدم في مجال المواصلات والاتصالات والتقنيات الحديثة .
إن الإيمان والتقوى والعبادة ليست في كثرة الصلاة ولا الصيام ولا بعدد مرات الحج أو العمرة .
إن المسلم إذا اكتفى بتأدية فرائض ربه الخمس التي لا تتجاوز في اليوم والليلة نصف ساعة ، واكتفى بصيام شهر رمضان ، وحج بيت الله مرة واحدة في عمره إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، ثم أدى ما عليه من زكاة وصدقة ، وهذه تكليفات بسيطة لا تأخذ من المسلم وقتا كبيرا ، لو التزم بهذه التكليفات البسيطة ، ثم انطلق بعدها في هذه الدنيا بقلب طاهر نقي ممتلئ بالإيمان ، وبعقل ذكي مدرك لمعنى الحياة التي وهبها الله له ، وأخذ يستخدم عقله لخدمة الكون من حوله فيزرع أو يصنع ، أو يكتشف ، أو يعلم ، أو يتعلم ، أو يجتهد في أى مجال من المجالات التي يرى فيها نفسه فإن هذا الإنسان لهو المؤمن الحق.
أما الشخص الذي ينقطع للعبادة أو حتى يكثر منها على حساب التزامات وواجبات أخرى مكلف بها ، فهذا الشخص لهو إلى العصيان أقرب بكثير جدا منه إلى الطاعة .
فعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم ، أن هناك شخصا منقطعا للعبادة في المسجد ، سأل أصحابه من ينفق عليه ؟ فقالوا : أخوه ، فقال النبي : هذا أفضل من ذاك أى أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الأخ الذي ينفق على أخيه المنقطع للعبادة والطاعة ، بل إنه أنكر على ذلك الرجل انقطاعه للعبادة وتركه لشئون الدنيا .
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد اخشوشنت يده من كثرة العمل ، قال : هذه يد يحبها الله ورسوله .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينادى النبي بصوته العالي ، وهو على دابته ، فقال : " يا محمد أألله أمرك أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل : أألله أمرك أن نصلى في اليوم والليلة خمسة أوقات ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل يا محمد : أألله أمرك أن ندفع من أموالنا زكاة للفقراء ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل: يا محمد أألله أمرك أن نصوم شهر رمضان في كل عام ؟ فقال النبي: اللهم نعم ، فقال الرجل: يا محمد أألله أمرك أن نحج إلى بيت الله الحرام إن استطعنا إلى ذلك سبيلا ؟ فقال النبي: اللهم نعم ، فقال الرجل : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص وانصرف الرجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق وفى رواية أفلح إن صدق " ، فهذا الأعرابي أقسم أمام النبي أنه لن يفعل من هذه العبادات التكليفية أكثر من الفرائض المعروفة والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك .
وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة : " ما سبقكم أبوبكر بكثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكن سبقكم بشيء وقر في صدره " .
فصدق الإيمان وقوته ليس مرتبطا بكثرة العبادات التكليفية من صلاة وصيام وغير ذلك .
إن الذي يسهر طوال الليل يحرص على عمله ، إذا كان طالبا يذاكر ، أو طبيبا يجرى جراحة ، أو ضابطا أو جنديا في خدمته الليلية أو فلاحا يروى حقله أو إعلاميا يجرى وراء الأحداث ... أو ما إلى ذلك ، كل هؤلاء ليسوا أقل عند الله من رجل قام من فراشه في جوف الليل فتوضأ ليقف بين يدي الله يصلى ويتضرع إليه .
إن إخلاص كل شخص في عمله الدنيوي وتفوقه وإبداعه فيه ، لهو عند الله العبادة الحقيقية ، بشرط عدم التقصير في تأدية الفرائض اليسيرة التي كلف الله بها عباده .
بهذا الفهم الصحيح لمعنى العبادة الحقيقي ، ترقى الأمم والشعوب و يتحقق الإيمان والتقوى وتكون العبادة المرجوة لله ، وبذا يتحقق قول ربنا:
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ".
فالعمل الدنيوي لا يقل تعلقا بالإيمان والتقوى المذكورين في الآية الكريمة ، عن أداء الفرائض والنوافل وغيرها من طقوس العبادة المعروفة لدى عامة المسلمين .
أعلنت إحدى القنوات الفضائية عن ندوة سيحاضر فيها أحد الدعاة المشهورين على مستوى العالم الإسلامي ، وكان عنوان المحاضرة المعلن عنها " الإسلام والأزمة الاقتصادية ، الأسباب والعلاج " .
فقررت أن أسمع المحاضرة وكان لدى قناعة تامة أن هذا الداعية المعروف لن يغيب عنه أبدا أن يرجع إلى الخبراء والمتخصصين في الاقتصاد ، وأن يحاول أن يوصل لجمهور عريض من الناس أسباب الأزمة والسبيل للخروج منها أو الحد من هذه الأزمة التي يعانى منها المجتمع .
وقلت في نفسى إن هذا الداعية المعروف بثقافته وعقلانيته على عكس الكثير من الدعاة ، سينقل وجهة نظر الخبراء بأمانة من خلال أسلوبه السلس العذب في إطار وعظي جميل ، لتستغل البرامج الدينية التي لها جمهور عريض في توعية الناس بالمشاكل التي من حولهم .
وللأسف عندما سمعت المحاضرة صدمت صدمة شديدة للغاية ، وقلت في نفسى إذا كان هذا خطاب داعية مثقف معروف بعقلانيته ، فما هو الحال إذا تحدث من هو دونه ؟ وهذا ملخص ما قاله وما دارت حوله المحاضرة .
"..... فسبب هذه الأزمة أن المسلمين قصروا في العبادة ، فالصحابة كانوا يقومون طوال الليل لا ينامون إلا القليل ، وكانوا يصومون أغلب أيامهم ، ويقضون أوقاتهم في مجالس الذكر والعبادة ، لذلك كانت البركات تتنزل عليهم من السماء ، فعلى المجتمع المسلم أن يفهم ويعي تماما أنه إذا أراد أن يخرج من أزمته هذه فليعد المسلمون إلى قيام الليل الذي أضاعوه أمام الفضائيات ، ويعودوا إلى تلاوة القرآن الكريم التي لا يعرفونها إلا في رمضان ، وأن يكثروا من صلاة التطوع ومجالس الذكر والعبادة ، وبذا يتحقق قوله تعالى كما جاء في سورة الأعراف :
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ "
فكلام الله هنا واضح وصريح ، من أراد أن تفتح له أبواب الرزق فعليه بالصلاة والذكر وتلاوة القرآن .
ولقد جاء رجل إلى الإمام الحسن البصري ، قال له : يا إمام إني أشكو قلة المطر. فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه آخر يشكوه قلة المال ، فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه ثالث فقال : يا إمام إني أشكو قلة الولد ، فقال له الحسن البصري : استغفر الله ، ثم دخل عليه رابع فشكاه قلة الرزق وسوء المعيشة ، فقال له الحسن البصري: استغفر الله .
فتعجب الجالسون وقالوا : يا إمام أجبت على الجميع بإجابة واحدة وهى " استغفر الله " كيف ذلك ، وما السر في الاستغفار.
فقال الحسن البصري : لم آت بذلك من عندي، ألم تسمعوا قول ربكم في سورة نوح :
"فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ".
ولم يخرج كلام الرجل طول المحاضرة التي استمرت ما يقرب من ساعة ونصف عن هذه المعاني .
والكلام الذي طرحه هذا الداعية يدل على فهم قاصر، ساذج ، جاهل ، ظالم لآيات الله جل وعلا، فهو إجرام يرتكب باسم الدين وهو أخطر عند الله من الإجرام الذي يعرفه الناس .
وإني أتساءل هل وصل الأمر بهذا الداعية إلى هذا الحد الذي يجعله ظالما لدينه ومجتمعه ؟
أيتجاهل الأسباب المنطقية من فشل إداري ، وفساد ذمم ، وإهمال من قبل المسئولين عن مجالات مثل التعليم ، والبحث العلمي ، وعدم إنشاء المشروعات الصغيرة ، وعدم إنشاء المصانع ، و إنفاق الأموال الطائلة على أمور تافهة ، فضلا عن سرقة المليارات من الأموال والفرار بها للخارج ، وغير ذلك من أسباب أدت إلى الأزمة الاقتصادية التي يعانى منها المجتمع ؟ أيتجاهل كل هذه الأسباب ، ويعول هذه الأزمة بأكملها على التقصير في الصلاة والصيام والذكر، وغير ذلك من طقوس العبادة ؟
إنه هو وأمثاله الذين يتحدثون بهذا المنطق وهم كثرة لمن أهم الأسباب التي أدت بالمجتمع إلى هذا التخلف الذي عليه .
إن هذا الخطاب يؤدى إلى كوارث أخطر بكثير من كوارث الزلازل والبراكين ، إن الزلازل والبراكين كوارث ولكن يمكن للأمم والشعوب أن تعوض ما خسرته من جرائها إذا كانت هناك عقول تفكر وتخطط .
أما الكوارث التي يتسبب فيها هذا الخطاب فلا يمكن أن نمحو آثارها ولا يمكن أن نبنى أو نقيم من ورائها مجتمعا ، لأنه خطاب هدام يؤدى إلى تخلف الشعوب وهذا هو حال الواقع الذي نحياه .
من الذي علَّم هؤلاء الدعاة أن الله سبحانه وتعالى قد اختصر العبادة في صلاة وصوم وذكر ودعاء ، وأن العبادة التي من أجلها خلق الله الجن والإنس هي فقط هذه الطقوس .
إن الآثار التي ترتب عليها هذا الخطاب آثار هدامة ، إننا نرى نتيجة هذا الخطاب أنَّ طلابا جامعيين يريدون أن يتركوا دراستهم في كلياتهم ويتفرغون لدراسة العلم الشرعي ، وموظفين يقضون أوقات العمل في قراءة القرآن ، وإقامة حلقات فيما بينهم ؛ لمناقشة أمور الدين بكل سذاجة ، وفى المصالح الحكومية نري الموظفين يستعدون لصلاة الظهر قبل الوقت بساعة ويعودون من المصلى بعد الوقت بساعة ، والمواطن المغلوب على أمره الذي قطع المسافات ليقضى مصلحته ينتظر بالساعات والأيام ، وأحيانا بالأسابيع والشهور، ونرى أغنياء يؤدون فريضة الحج مرات عديدة ، ويذهبون لأداء العمرة عشرات المرات، وينفقون أموالا طائلة على هذه الرحلات أو ينفقون أموالهم على موائد الرحمن ؛ فالمهم عندهم أنهم يربطون إنفاق المال بطقوس العبادة ، وكأن المسلم لا ينال رضا ربه عندما ينفق المال على إنشاء المشروعات وبناء المصانع والمستشفيات وتشغيل الشباب أو الإنفاق على البحث العلمي الذي يخدم المجتمع ويرقى به .... وكل هذه جرائم ترتكب باسم الدين والمحافظة على العبادة ، وهذه جرائم أخطر عند الله من جرائم السرقة ، والرشوة ، لاسيما وأنها ترتكب باسم الدين .
إن الذي يظن أن العبادة والتقوى هي بذل وقت كبير في القراءات الدينية ، وقضاء الوقت في الأذكار، وترك شئون الدنيا ، وإعمار الأرض وإصلاح الأوطان ، لهو إنسان جاهل بكل المقاييس .
هل يعقل أن يتفرغ المسلمون للتمتمة والدروشة ، أو الاعتكاف على دراسة الفرق بين الماء الطهور والماء الطاهر ، وغيرهم يصنع الطائرات والمدافع ، ويقوم بإعداد البرامج النووية ، ويتقدم في مجال المواصلات والاتصالات والتقنيات الحديثة .
إن الإيمان والتقوى والعبادة ليست في كثرة الصلاة ولا الصيام ولا بعدد مرات الحج أو العمرة .
إن المسلم إذا اكتفى بتأدية فرائض ربه الخمس التي لا تتجاوز في اليوم والليلة نصف ساعة ، واكتفى بصيام شهر رمضان ، وحج بيت الله مرة واحدة في عمره إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، ثم أدى ما عليه من زكاة وصدقة ، وهذه تكليفات بسيطة لا تأخذ من المسلم وقتا كبيرا ، لو التزم بهذه التكليفات البسيطة ، ثم انطلق بعدها في هذه الدنيا بقلب طاهر نقي ممتلئ بالإيمان ، وبعقل ذكي مدرك لمعنى الحياة التي وهبها الله له ، وأخذ يستخدم عقله لخدمة الكون من حوله فيزرع أو يصنع ، أو يكتشف ، أو يعلم ، أو يتعلم ، أو يجتهد في أى مجال من المجالات التي يرى فيها نفسه فإن هذا الإنسان لهو المؤمن الحق.
أما الشخص الذي ينقطع للعبادة أو حتى يكثر منها على حساب التزامات وواجبات أخرى مكلف بها ، فهذا الشخص لهو إلى العصيان أقرب بكثير جدا منه إلى الطاعة .
فعندما علم النبي صلى الله عليه وسلم ، أن هناك شخصا منقطعا للعبادة في المسجد ، سأل أصحابه من ينفق عليه ؟ فقالوا : أخوه ، فقال النبي : هذا أفضل من ذاك أى أن الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الأخ الذي ينفق على أخيه المنقطع للعبادة والطاعة ، بل إنه أنكر على ذلك الرجل انقطاعه للعبادة وتركه لشئون الدنيا .
ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قد اخشوشنت يده من كثرة العمل ، قال : هذه يد يحبها الله ورسوله .
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ ينادى النبي بصوته العالي ، وهو على دابته ، فقال : " يا محمد أألله أمرك أن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل : أألله أمرك أن نصلى في اليوم والليلة خمسة أوقات ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل يا محمد : أألله أمرك أن ندفع من أموالنا زكاة للفقراء ؟ فقال النبي : اللهم نعم ، فقال الرجل: يا محمد أألله أمرك أن نصوم شهر رمضان في كل عام ؟ فقال النبي: اللهم نعم ، فقال الرجل: يا محمد أألله أمرك أن نحج إلى بيت الله الحرام إن استطعنا إلى ذلك سبيلا ؟ فقال النبي: اللهم نعم ، فقال الرجل : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص وانصرف الرجل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أفلح إن صدق وفى رواية أفلح إن صدق " ، فهذا الأعرابي أقسم أمام النبي أنه لن يفعل من هذه العبادات التكليفية أكثر من الفرائض المعروفة والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه ذلك .
وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة : " ما سبقكم أبوبكر بكثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكن سبقكم بشيء وقر في صدره " .
فصدق الإيمان وقوته ليس مرتبطا بكثرة العبادات التكليفية من صلاة وصيام وغير ذلك .
إن الذي يسهر طوال الليل يحرص على عمله ، إذا كان طالبا يذاكر ، أو طبيبا يجرى جراحة ، أو ضابطا أو جنديا في خدمته الليلية أو فلاحا يروى حقله أو إعلاميا يجرى وراء الأحداث ... أو ما إلى ذلك ، كل هؤلاء ليسوا أقل عند الله من رجل قام من فراشه في جوف الليل فتوضأ ليقف بين يدي الله يصلى ويتضرع إليه .
إن إخلاص كل شخص في عمله الدنيوي وتفوقه وإبداعه فيه ، لهو عند الله العبادة الحقيقية ، بشرط عدم التقصير في تأدية الفرائض اليسيرة التي كلف الله بها عباده .
بهذا الفهم الصحيح لمعنى العبادة الحقيقي ، ترقى الأمم والشعوب و يتحقق الإيمان والتقوى وتكون العبادة المرجوة لله ، وبذا يتحقق قول ربنا:
"وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ".
فالعمل الدنيوي لا يقل تعلقا بالإيمان والتقوى المذكورين في الآية الكريمة ، عن أداء الفرائض والنوافل وغيرها من طقوس العبادة المعروفة لدى عامة المسلمين .