المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : (جعل فتنة الناس كعذاب الله)



ماكـولا
01-12-2010, 05:47 PM
يقول الله "ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين" العنكبوت (10)

قال السعدي " يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم، فهي سنته الجارية، التي لا تتغير ولا تتبدل، أن من قام بدينه وشرعه، لا بد أن يبتليه، فإن صبر على أمر الله، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها، ومن السيادة آلتها ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله، بأن صدته المكاره عما هو بصدده، وثنته المحن عن مقصده، فهو الكاذب في دعوى الإيمان، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني، ومجرد الدعاوى، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه."


قال الطبري "يقول تعالى ذكره: ومن الناس من يقول: أقررنا بالله فوحدناه، فإذا آذاه المشركون في إقراره بالله، جعل فتنة الناس إياه في الدنيا، كعذاب الله في الآخرة، فارتد عن إيمانه بالله، راجعا على الكفر به( ولئن جاء نصر من ربك ) يا محمد أهل الإيمان به(ليقولن) هؤلاء المرتدون عن إيمانهم، الجاعلون فتنة الناس كعذاب الله(إنا كنا) أيها المؤمنون(معكم) ننصركم على أعدائكم، كذبا وإفكا، يقول الله:( أوليس الله بأعلم ) أيها القوم من كل أحد( بما في صدور العالمين ) جميع خلقه، القائلين آمنا بالله وغيرهم، فإذا أوذي في الله ارتد عن دين الله فكيف يخادع من كان لا يخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سرا ولا علانية.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.


ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) قال: فتنته أن يرتد عن دين الله إذا أوذي في الله.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ...) إلى قوله:( وليعلمن المنافقين ) قال: أناس يؤمنون بألسنتهم، فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.

حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: قوله:( ومن الناس من يقول آمنا بالله ...) الآية، نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين، رجعوا إلى الكفر مخافة من يؤذيهم، وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قول الله:( فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) قال: هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين وكفر، وجعل فتنة الناس كعذاب الله."


قال القرطبي " وقيل: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله ولا يصبر غلى الاذية في الله"

قال الشوكاني " { ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذي في الله } أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان ، وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به { جعل فتنة الناس } التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى { كعذاب الله } أي جزع من أذاهم . فلم يصبر عليه ، وجعله في الشدة والعظم كعذاب الله ، فأطاع الناس كما يطيع الله . وقيل : هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر . قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله "


قال ابن القيم " فليتأمل العبد سياق هذه الآيات وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنا وإما ألا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال : آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة : الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل : آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه
( وكيف يفرالمرء عنه بذنبه ... إذا كان تطوى في يديه المراحل )

فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه وكان هذا المؤلم له أعظم ألما وأدوم من ألم أتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم
وسئل الشافعي رحمه الله أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى ؟ فقال : لا يمكن حتى يبتلى والله تعالى ابتلى أولي العزم من الرسل فلما صبروا مكنهم فلا يظن أحد أنه يخلص من الألم البتة وإنما يتفاوت أهل الالآم في العقول فأعقلهم من باع ألما مستمرا عظيما بألم منقطع يسير وأشقاهم من باع الألم المنقطع اليسير بالألم العظيم المستمر
فإن قيل : كيف يختار العاقل هذا ؟ قيل : الحامل له على هذا النقد والنسيئة

والنفس موكلة بحب العاجل
{ كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة } ( القيامة : 20 ) { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا } ( الدهر : 27 ) وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له أن يعيش مع الناس والناس لهم إرادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها فإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم فالحزم كل الحزم في الأخذ بما قالت عائشة أم المؤمنين لمعاوية : من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا

ومن تأمل أحوال العالم رأى هذا كثيرا فيمن يعين الرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هربا من عقوبتهم فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عدوانهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار ومن ابتلي من العلماء والعباد وصالحي الولاة والتجار وغيرهم


ولما كان الألم لا محيص منه البتة عزى الله - سبحانه - من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله : { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم } ( العنكبوت : 5 ) فضرب لمدة هذا الألم أجلا لا بد أن يأتي وهو يوم لقائه فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمل من الألم في الله ولله وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبد اشتياقه إلى لقاء ربه ووليه على تحمل مشقة الألم العاجل بل ربما غيبه الشوق إلى لقائه عن شهود الألم والإحساس به ولهذا سأل النبي صلى الله عليه و سلم ربه الشوق إلى لقائه فقال في الدعاء الذي رواه أحمد وابن حبان : اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى وأسألك القصد في الفقر والغنى وأسألك نعيما لا ينفد وأسألك قرة عين لا تنقطع وأسألك الرضى بعد القضاء وأسألك برد العيش بعد الموت وأسألك لذة النظر إلى وجهك وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين "

فالشوق يحمل المشتاق على الجد في السير إلى محبوبه ويقرب عليه الطريق ويطوي له البعيد ويهون عليه الآلام و المشاق وهو من أعظم نعمة أنعم الله بها على عبده ولكن لهذه النعمة أقوال وأعمال هما السبب الذي تنال به والله سبحانه سميع لتلك الأقوال عليم بتلك الأفعال وهو عليم بمن يصلح لهذه النعمة ويشكرها ويعرف قدرها ويحب المنعم عليه فتصلح عنده هذه النعمة ويصلح بها كما قال تعالى : { وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين } ( الأنعام : 53 ) فإذا فاتت العبد نعمة من نعم ربه فليقرأ على نفسه : { أليس الله بأعلم بالشاكرين }
ثم عزاهم تعالى بعزاء آخر وهو أن جهادهم فيه إنما هو لأنفسهم وثمرته عائدة عليهم وأنه غني عن العالمين ومصلحة هذا الجهاد ترجع إليهم لا إليه سبحانه ثم أخبر أنه يدخلهم بجهادهم وإيمانهم في زمرة الصالحين

ثم أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له كعذاب الله وهي أذاهم له ونيلهم إياه بالمكروه والألم الذي لا بد أن يناله الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منهم وتركه السبب الذي ناله كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم عذاب أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال : إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق

والمقصود : أن الله سبحانه اقتضت حكمته أنه لا بد أن يمتحن النفوس ويبتليها فيظهر بالامتحان طيبها من خبيثها ومن يصلح لموالاته وكراماته ومن لا يصلح وليمحص النفوس التي تصلح له ويخلصها بكير الامتحان كالذهب الذي لا يخلص ولا يصفو من غشه إلا بالامتحان إذ النفس فى الأصل جاهلة ظالمة وقد حصل لها بالجهل والظلم من الخبث ما يحتاج خروجه إلى السبك والتصفية فإن خرج في هذه الدار وإلا ففي كير جهنم فإذا هذب العبد ونقي أذن له في دخول الجنة

ATmaCA
01-13-2010, 02:46 AM
بارك الله فيك .

عبد الغفور
01-13-2010, 11:00 AM
جزاك الله خيراً.