المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل في التكفير



أبو مهند النجدي
06-19-2005, 02:02 AM
عبد العزيز محمد آل عبد اللطيف
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام
على خاتم النبيين والمرسلين ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
من المعلوم أن مسألة التكفير من المسائل الكبار ، والقضايا الخطيرة ، وقد
خاض فيها الكثير من بين غالٍ وجاف .. وهدى الله تعالى أهل السنة لما اختلفوا فيه
من الحق بإذنه ، فقرروا هذه المسألة بعلم وعدل ، وتوسطوا بين أهل الغلو
والإرجاء . وسأعرض في الصفحات التالية طرفاً من مباحث هذا الموضوع على
النحو الآتي :
1- أهمية هذه المسألة وخطورتها :
نبّه علماؤنا إلى خطورة هذه المسألة وعظم شأنها ، وما يترتب عليها من نتائج
وتبعات سواء في الدنيا أو الآخرة ، وإليك جملة من كلامهم في ذلك :
قال ابن تيمية - رحمه الله - : » اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق « هي من
مسائل » الأسماء والأحكام « التي يتعلق بها الوعد والوعيد في الدار الآخرة ،
وتتعلق بها الموالاة والمعاداة والقتل والعصمة وغير ذلك في الدار الدنيا ، فإن الله
سبحانه أوجب الجنة للمؤمنين ، وحرم الجنة على الكافرين ، وهذا من الأحكام الكلية
في كل وقت ومكان « [1] .
وقال ابن الوزير : ( وكم بين إخراج عوام فرق الإسلام أجمعين ، وجماهير
العلماء المنتسبين إلى الإسلام من الملة الإسلامية ، وتكثير العدد بهم ، وبين إدخالهم
في الإسلام ونصرته بهم وتكثير أهـله ، وتقوية أمره ، فلا يحل الجهد في التفرق
بتكلف التكفير لهم بالأدلة المعارضة بما هو أقوى منها أو مثلها مما يجمع الكلمة ،
ويقوي الإسلام ، ويحقن الدماء ، ويسكن الدهماء حتى يتضح كفر المبتدع اتضاح
الحق الصادق ، وتجتمع عليه الكلمة ) [2] .
إلى أن قال : ( وقد عوقبت الخوارج أشد العقوبة ، وذمت أقبح الذم على
تكفيرهم لعصاة المسلمين مع تعظيمهم في ذلك لمعاصي الله ، وتعظيمهم لله تعالى
بتكفير عاصيه ، فلا يأمن المكفّر أن يقع في مثل ذنبهم ، وهذا خطر في الدين جليل ، فينبغي شدة الاحتراز فيه من كل حليم نبيل ) [3] .
وقال الشوكاني : » اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين
الإسلام ، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا
ببرهان أوضح من شمس النهار ، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من
طريق جماعة من الصحابة -رضي الله عنهم- ، أن من قال لأخيه يا كافر فقد باء
بها أحدهما .. « [4] .
وعندما يقرر هؤلاء الأعلام وغيرهم خطورة هذه المسألة ، فلا يعني تمييعها
وإغلاق باب الردة بالحكم بإيمان من ظهر كفره بالدليل والبرهان ، فهذا لا يقل
انحرافاً وخطراً عن تكفير مسلم وإخراجه من الملة ، ولذا قال الشيخ عبد الله بن
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله :
( وبالجملة فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم
وبرهان من الله ، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله ، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله من أعظم أمور الدين « وقد استزل
الشيطان أكثر الناس في هذه المسألة ، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت
نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره ، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم
الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم ..) [5]
- 2 -
يتعين التنبيه على أن الحديث عن موضوع الكفر أو التكفير لا ينفك عن فهم
مقابله وهو الإيمان ، ولذا فإن الانحراف في تعريف الإيمان ، يورث انحرافاً في
تعريف الكفر ، وقد أشار الشيخ العلامة عبد الليف بن عبد الرحمن بن حسن بن
محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله إلى قاعدة في ذلك فقال : » اعلم أن من تصوّر
حقيقة أي شيء على ما هو عليه في الخارج ، وعرَف ماهيته بأوصافها الخاصة ،
عرف ضرورة ما يناقضه ويضاده ، وإنما يقع الخفاء بلبس إحدى الحقيقتين ، أو
بجهل كلا الماهيتين ، ومع انتفاء ذلك وحصول التصور التام لهما ، لا يخفى ولا
يلتبس أحدهما بالآخر ، وكم هلك بسبب قصور العلم ، وعدم معرفة الحدود والحقائق
من أمة ، وكم وقع بذلك من غلط وريب وغمة « [6] .
ومثال ذلك أن المرجئة لما أخطئوا وانحرفوا في فهم الإيمان ، فحصروه في
مجرد التصديق ، وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان ، أورثهم ذلك انحرافاً في فهم
الكفر ، حيث حصروه في دائرة التكذيب فقط ، وانكروا كفر العناد والاستكبار ،
وكفر الإعراض ونحوهما من أنواع الكفر الأكبر [7] .
- 3 -
يجب أن يُعلم أن الكفر حكم شرعي ، وأن الكافر هو من كفّره الله تعالى
ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ، فليس الكفر حقاً لأحد من الناس بل هو حق الله
تعالى . يقول ابن تيمية : » فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم ، وإن
كان ذلك المخالف يكفرهم ؛ لأن الكفر حكم شرعي ، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله ، كمن كذب عليك ، وزنى بأهلك ، ليس لك أن تكذب عليه ، ولا تزني بأهله ؛ لأن
الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى ، وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر إلا من كفره الله
ورسوله « [8] .
ويقول القرافي : » كون أمر ما كفراً ، أي أمر كان ، ليس من الأمور العقلية
بل هو من الأمور الشرعية ، فإذا قال الشارع في أمر ما هو كفر فهو كذلك ، سواءً
كان ذلك القول إنشاء أم إخباراً « [9] .
4- تعريف الكفر لغة واصطلاحاً :
الكفر لغة : التغطية ، قال تعالى : ] كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكُفَّارَ نَبَاتُهُ [ فسمي
الفلاح كافراً لتغطيته الحب ، وسمي الليل كافراً لتغطيته كل شيء [10] .
وأما معناه اصطلاحاً ، فنورد جملة من كلام أهل العلم في ذلك . يقول ابن
تيمية : » إنما الكفر يكون بتكذيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أخبر به ،
أو الامتناع عن متابعته مع العلم بصدقه ، مثل كفر فرعون واليهود
ونحوهم « [11] .
ويقول ابن حزم في تعريف الكفر : » وهو في الدين : صفة من جحد شيئاً
مما افترض الله تعالى الإيمان : بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون
لسانه ، أو بلسانه دون قلبه ، أو بهما معاً ، أو عمل عملاً جاء النص بأنه مخرج
بذلك عن اسم الإيمان « [12] .
ويقول ابن القيم في بيان معنى الكفر : » الكفر جحد [13] ما علم أن الرسول
جاء به ، سواءً كان من المسائل التي تسمونها علمية أو عملية ، فمن جحد ما جاء
به الرسول -صلى الله عليه وسلم- بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين
وصلبه « [14] .
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي : » وحد الكفر الجامع لجميع أجناسه ،
وأنواعه ، وأفراده هو جحد ما جاء به الرسول ، أو جحد بعضه ، كما أن الإيمان
اعتقاده ما جاء به الرسول والتزامه جملة وتفصيلاً ، فالإيمان والكفر ضدان متى
ثبت أحدهما ثبوتاً كاملاً انتفى الآخر « [15] .
من خلال النصوص السابقة نوجز معنى الكفر - الذي لا يجامع الإيمان -
بأنه اعتقادات ، وأقوال ، وأفعال سماها الشارع كفراً منافياً للإيمان بالكلية- فإذا كان
الإيمان قولاً وعملاً ، فكذا الكفر يكون قولاً وعملاً ، فقد يكون الكفر قولاً قلبياً
كالتكذيب ، وقد يكون عملاً قلبياً كالبغض لما جاء به الرسول ، وربما كان الكفر
قولاً باللسان كالاستهزاء بالله تعالى وآياته أو رسوله .. وتارة يكون عملاً بالجوارح
كالسجود لصنم ونحوه ..
- 4 -
وإذا كان الإيمان ليس شعبة واحدة فحسب بل هو بضع وسبعون شعبة كما
أخبر الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم- -في حديث شعب الإيمان- ، فكذا
مقابله الكفر . يقول ابن القيم مقرراً ذلك : » الكفر ذو أصل وشعب ، فكما أن شعب
الإيمان إيمان ، فشعب الكفر كفر ، والحياء شعبة من الإيمان ، وقلة الحياء شعبة من
شعب الكفر ، والصدق شعبة من شعب الإيمان ، والكذب شعبة من شعب الكفر ،
والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان ، وتركها من شعب الكفر ،
والحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان ، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر ،
والمعاصي كلها من شعب الكفر ، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان « [16] .
وإذا ثبت أن الكفر شعب متعددة ، وأن له مراتب ، فمنه ما يخرج من الملة ،
ومنه ما لا يخرج من الملة ، فإنه يمكن أن يجتمع في الرجل كفر- غير ناقل من
الملة - وإيمان ، وهذا أصل عظيم عند أهل السنة ، قد دلّ عليه الكتاب والسنة
والإجماع ، ولقد أخطأ المبتدعة - عموماً - في دعواهم أن الكفر خصلة واحدة ،
بناء على ظنهم الفاسد أن الإيمان شيء واحد يزول كله بزوال بعضه ، فلم يقولوا
بذهاب بعضه ، وبقاء بعضه ، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : » يخرج
من النار من كان في قلبه مثقال حبة من الإيمان « [17] .
6- تكفير المطلق وتكفير المعين :
يفرِّق أهل السنة بين تكفير المطلق وتكفير المعيّن ، ففي الأول يطلق القول
بتكفير صاحبه - الذي تلبس بالكفر - فيقال : من قال كذا ، أو فعل كذا ، فهو كافر ، ولكن الشخص المعيّن الذي قاله أو فعله لا يحكم بكفره بإطلاق ، بل لا بد من
اجتماع الشروط وانتفاء الموانع ، فعندئذ تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها .
يقول ابن تيمية : » وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط ،
حتى تقام عليه الحجة ، وتبين له المحجة ، ومن ثبت إسلامه بيقين ، لم يزل ذلك
عنه بالشك ، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة [18] .
ويقول أيضاً : » إن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين ، وإن
تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعيّن ، إلا إذا وجدت الشروط ، وانتفت الموانع ،
يعين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر
من تكلم بهذا الكلام بعينه [19] .
ويسوق ابن تيمية بعضاً من الأعذار الواردة على المعين فيقول : » الأقوال
التي يكفر قائلها ، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق ، وقد
تكون عنده ، ولم تثبت عنده ، أو لم يتمكن من فهمها ، وقد يكون قد عرضت له
شبهات يعذره الله بها ، فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ ؛ فإن
الله يغفر له خطأه كائناً ما كان ، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية ، هذا
الذي عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وجماهير أئمة الإسلام « [20] .
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب : » ومسألة تكفير المعيّن مسألة معروفة
إذا قال قولاً يكون القول به كفراً ، فيقال : من قال بهذا القول فهو كافر ، لكن
الشخص المعيّن إذا قال ذلك لا يحكم بكفره ، حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر
تاركها « [21] .
وإذا ظهر لنا الفرق بين التكفير المطلق ، وتكفير المعيّن ، فسندرك خطأ
فريقين من الناس ، فهناك فريق قد غلا وتجاوز فادعى تكفير المعيّن بإطلاق ، دون
الالتفات إلى مدى توافر الشروط وانتفاء الموانع عن ذلك المعيّن ، وفي المقابل نرى
فريقاً من الناس قد امتنع عن تكفير المعين بإطلاق ، وأوصد باب الارتداد .
7- قيام الحجة :
من بَلَغه هذا الدين فقد قامت عليه الحجة ، وحكم الوعيد على الكفر لا يثبت
في حق المعيّن حتى تقوم عليه حجة الله تعالى التي بعث بها رسله ، قال تعالى :
] لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ [ ، وقال سبحانه : ] ومَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [ .
وأما شرط قيام الحجة على المكلفين : » فالحجة على العباد إنما تقوم بشيئين :
بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله ، والقدرة على العمل به ، فأما العاجز عن العلم
كالمجنون ، أو العاجز عن العمل ، فلا أمر عليه ولا نهي .. « [22] .
ومما يجدر ذكره أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمان والأماكن
والأشخاص ، كما قال ابن القيم : » إن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة
والأمكنة والأشخاص ، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان ، وفي بقعة وناحية دون أخرى ، كما أنها تقوم على شخص دون آخر ، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون ، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ، ولم يحضر ترجمان يترجم له « [23] .
هذا ما تيسر عرضه لهذه المسألة ، راجياً من الله تعالى حسن البيان ، وسلامة
القصد ، وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلم .
________________________
(1) الفتاوى 12/ 468 .
(2) إيثار الحق على الخلق ص 455 .
(3) المصدر السابق ص 447 .
(4) السيل الجرار 4 /578 .
(5) الدرر السنية 8/217 .
(6) منهاج التأسيس ص 12 .
(7) انظر تفصيل ذلك : الفتاوى لابن تيمية ، ومفتاح دار السعادة لابن القيم 1 /94 .
(8) الرد على البكري ص 257 .
(9) تهذيب الفروق 4/158-159 .
(10) انظر لسان العرب 5/144 - 145 مادة كفر .
(11) الدرء 1/242 .
(12) الإحكام 1/45 .
(13) يطلق بعض السلف الصالح معنى الجحود ويراد به التكذيب المنافي للتصديق ، كما يراد به الامتناع والرد والإباء ، فليس الجحود محصوراً في تكذيب كما ظن المرجئة ، انظر بيان ذلك في الفتاوى لابن تيمية 20/98 ، منهاج السنة النبوية 5/130 ، والصارم المسلول ص 521-522 .
(14) مختصر الصواعق المرسلة 2/ 421 .
(15) الإرشاد إلى معرفة الأحكام ص 203 .
(16) كتاب الصلاة ص 53 .
(17) انظر تفصيل هذه المسألة في الفتاوى لابن تيمية 7/510-223 .
(18) الفتاوى 12/ 466 (الكيلانية) .
(19) المصدر السابق 12/487 -488 .
(20) الفتاوى 23/346 ، 348-349 ، والرد على البكري ص 259 .
(21) الدرر السنية 8/244 .
(22) الفتاوى لابن تيمية 20/59 .
(23) طريق الهجرتين ص 414 .