المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جمع القرآن الكريـم حفظـًا وكتابـةً.



الأشعث
05-24-2010, 01:44 PM
مختصر رسالة: جمع القرآن الكريـم حفظـًا وكتابـةً.
مؤلف الرسالة: أ. د. علي بن سليمان العبيـد.
والرسالة موجودة على الشبكة لمن أراد، وقد نويت - بإذن الله - اختصارها لنقلها وتعميم الفائدة.

الأشعث
05-24-2010, 01:46 PM
المبحـث الأول: معنـى جمع القرآن الكريـم .
المطلب الأول: معنى الجمع في اللغة.

الجَمْع: مصدر الفعل "جَمَع"، يقال: جمع الشيء يجمعه جمعا، وقال الجوهري: (أجمعتُ الشيءَ: جعلته جميعا، والمجموع: الذي جُمِعَ من هاهنا وهاهنا وإن لم يجعل كالشيء الواحد)، واشتقاق كلمة "جَمَع" تدل على الجمع والاجتماع والتأليف، وضم المتفرق فجمع الشيء استقصاؤه والإحاطة به.


المطلب الثاني: معنى جمع القرآن في الاصطلاح.


جمع القرآن الكريم يطلق في علوم القرآن على معنيين:
الأول: حفظـه في الصدور عن ظهر قلب.
قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) (القيامة: 17) أي: جمعه في صدرك، وإثبات قراءته في لسانك.
وصح عن عبد الله بن عمـرو رضي الله عنه أنـه قــال: جمعـتُ القرآن فقرأته كلَّه في ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليـه وسلـم: إني أخشى أن يطول عليك الزمـان، وأن تملَّ، فاقرأه فـي شهـر، فقلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي قال: فاقـرأه في عشرة، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي، قال: فاقـرأه في سبع، قلت: دعني أستمتع من قوتي وشبابي فأبى.

الثانـي: كتابته.
ويدل له ما ورد في الحديث الذي أخرجه البخاري في قصة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومما ورد فيه قول عمر بن الخطاب لأبي بكر - رضي الله عنهما: (وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن)، وقول أبي بكر الصديق لزيد بن ثابت - رضي الله عنهما: (فتتبع القرآن فاجمعه)، وقول زيد بن ثابت رضي الله عنه (فتتبعت القرآن أجمعه من العسف واللخاف وصدور الرجال).

وفي تسمية القرآن بمقتضى المعنيين يقول الدكتـور محمد دراز في كتابه "النبأ العظيم": (روعي في تسميتـه قرآنًا كونـه متلـوًّا بالألسن، كما روعي في تسميته كتابًا كونه مدونًا بالأقلام، فكلتا التسميتين من تسمية الشيء بالمعنى الواقع عليه.
وفي تسميته بهذين الاسمين إشارة إلى أن من حقه العناية بحفظه في موضعين لا في موضع واحد، أعني أنه يجب حفظه في الصدور والسطور جميعا... فلا ثقة لنا بحفظ حافظ حتى يوافق الرسـم المجمع عليه من الأصحاب، المنقول إلينا جيلا بعـد جيـل، على هيئته التي وضع عليها أول مرة، ولا ثقة لنا بكتابة كاتب حتى يوافق ما هو عند الحفاظ بالإسناد الصحيح المتواتر)اهـ.

وبتدبر الأمر وتتبع الروايات نجد أن لفظ الجمع حين يطلق في زمن النبي صلى الله عليـه وسلـم يقصد به حفظه عن ظهر قلب وكتابته على الأدوات المتوفرة ذلك الوقت، وحين يطلق في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يقصد به كتابة القرآن الكريم في مصحف واحد مسلسل الآيات مرتب السور، وحين يطلق في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه يقصد به نسخ المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر رضي الله عنه بمصاحف متعددة.

الأشعث
05-26-2010, 02:32 AM
المبحـث الثانـي: حفـظ القـرآن الكريـم
المطلب الأول: حفظ القرآن الكريم في السماء


* أودعه الله كتابا مكنونا وأقسم الله تعالى على هذه الحقيقة بقسم عظيـم فقـال (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الواقعة: 75، 80).

* وقال (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ )(عبس: 13، 16). فهو في اللوح المحفوظ، مصون مستور عن الأعين، لا يطلع عليه إلاّ الملائكة المقربون، ولا يمسه في السماء إلاّ الملائكة الأطهار، ولا يصل إليه شيطان، ولا يُنال منـه، فالشياطين لا تمس هذا الكتاب، وليس لها سبيل إليه، وإنما تحف به الملائكة المقربون.

* ويؤكد الله تعالى وصفـه بكونه مكنونا بوصفه بكونـه محفوظا في قولـه تعالى {بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} (البروج: 21، 22).


المطلب الثاني: حفظ القرآن الكريم في طريقه إلى الأرض

* حفظ الله عز وجل القرآن الكريم وهو في طريقه إلى الأرض فجاء به روح مطهر، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيـل، ولا وصول لها إليـه، قال تعـالى { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } (الشعراء: 210، 211)، وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.

* وحَفِظَه من الشياطين التي كانت تسترق السمع طلبا لخبر السماء، فحفِظه بالحرس الأقوياء من الملائكة، وبالكواكب التي تحرق وتمنع من أراد استراق السمع، قـال تعالـى { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } (الجن: 8- 10) وقـال عـز وجـل (وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (الصافات: 7- 10)


المطلب الثالث: حفظ القرآن الكريم على الأرض


....

الأشعث
05-31-2010, 02:05 AM
المطلب الثالث: حفظ القرآن الكريم على الأرض.
لقد حفظ الله عز وجل القرآن الكريم على الأرض بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي استقبله فأحسن الاستقبال، وحفظه أتم حفظ، وقام به خير قيام، وبلغه أحسن تبليغ والشواهد على ذلك كثيرة منها:



1-

* قوله تعالى {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 - 19).

* أخرج البخاري عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ }قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل عليه بالوحي، وكـان مما يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، وكان يُعْرفُ منه فأنزل الله الآية التي في { لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ }، قال: علينا أن نجْمعَهُ في صدرك وقرآنـه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ}، فـإذا أنزلنـاه فاستمـع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينـا أن نبينه بلسانك، قال: فكـان إذا أتاه جبريل أَطْرَقَ، فإذا ذهب قَرَأَهُ كما وعده الله".

إذن تدل هـذه الآيات على تكفـل الله المطلـق لهذا القـرآن: وحيا، وحفظـا، وجمعا، وبيانا، وأن على الرسول صلى الله عليه وسلم التلقي والاتباع ثم البلاغ، فكان كلما نزلت عليه آية أو آيـات جمعها الله له في صدره، فوعاها قلبه، واشتغل بها لسانه لنفسه وللمسلمين.



2-

* قوله تعالى {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} (الأعلى: 6).

فتكفل الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم برفع مشقة استظهار القرآن وحفظ قلبه له فلا ينسى ما يقرئه ربه.



3-

حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حفظ القرآن الكريم ومدارسته في كل أوقاته، فكـان يحيي الليـل بتلاوة آيات القـرآن في الصـلاة عبـادةً، وتلاوةً، وتدبرا لمعانيه، حتى تفطرت قدماه الشريفتان من كثرة القيام امتثالا لأمر الله تعالى القائل {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} (المزمل:1 - 4).



4-

مدارسة جبريل عليه السلام القرآن للرسول صلى الله عليه وسلم حتى يزداد ثبات قلب النبي صلى الله عليه وسلم به، وليطمئن جبريل عليه السلام أكثر على ما بلغه به.

* أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: { كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان؛ لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يَعْرِضُ عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، فإذا لقيه جبريلُ كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة }.

* وعندما دنا أجل النبي صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين فقد ورد في صحيح البخاري: قال مسروق عن عائشة رضي الله عنها، عن فاطمة عليها السلام: {أسَرّ إليَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن جبريل يعارضُني بالقرآن كلَّ سنة، وأنَّه عارضني العام مرتين، ولا أُراهُ إلاّ حضر أجلي}.



5-

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بنفسه:

* فقد باشر النبي صلى الله عليه وسلم تعليم المسلمين القرآن بنفسه، وأمره الله عز وجل بأن يقرأه على الناس على مكث، أي: تؤدَة وتمهل، كي يحفظوا لفظه ويفقهوا معناه. كما قـال تعالـى {وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}(الإسراء: 106).

* وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "والله لقد أَخذتُ من في رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة".

* وأخرج عنه أنه قال: { كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنْزِلتْ عليه والمرسلات، وإنا لنتلقَّاها من فِيه}.

* وأخرج الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا القرآن، فإذا مَرّ بسجود القرآن سجد وسجدنا معه }.

* وأخرج مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا التشهد كما يُعَلِّمنا السورة من القـرآن } وفي رواية ابن رُمْح { كما يُعَلِّمنا القرآن }.

* وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنا الاستخارة في الأمور كما يُعَلِّمُنا السورة من القرآن }.

* وأخـرج الطبري عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا: أنهم يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم فكانوا إذا تعلّموا عشر آيات لم يُخلِّفوها حتى يعلموا بما فيها من العمل، فتعلّمنا القرآن والعمل جميعا".

وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا عجز أحدهم عن تفريغ وقت لتحصيل القرآن الكريم مباشرة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أناب عنه من يحصل عنه.

* أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوبُ النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلتُ جئتهُ بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعلَ مثل ذلك.


وكان من نتيجة ذلك أن كثر الحفاظ في عهد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعرضون على النبي صلى الله عليه وسلم القـرآن ويقرؤونه عليه:

* عن ابن مسعـود رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ عليّ، قلتُ: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال: فإني أحب أن اسمعه من غيري، فقـرأت عليه سورة النساء حتى بلغـت {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } (النساء: 41) قال: أمسك، فإذا عيناه تذرفان.


وكان مسجده صلى الله عليه وسلم عامرا بتلاوة القرآن يضج بأصوات الحفاظ فأمرهم رسول الله عليه وسلم أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا.

وكان كل حافظ للقرآن ينشر ما حفظه، ويعلمه للأولاد والصبيان والذين لم يشهدوا نزول الوحي، بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع كل مهاجر جديد إلى أحد الحفاظ ليعلمه حفظ القرآن الكريم، فشاع حفظه بين الرجال والنساء، حتى إن المرأة المسلمة كانت ترضى سورة من القرآن أو أكثر مهـرا لها.

* ومما ورد في ذلك ما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد قال: { أتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ فقالت: إنها قد وهبت نفسها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لـي في النساء من حاجة، فقال رجل: زوجنيهـا، قال: أعطها ثوبا، قال لا أجد، قال: أعطها ولو خاتما من حديـد، فاعتلَّ له، فقال: ما معك من القرآن؟ قال: كذا وكذا، قال فقد زوجتكها بما معك من القرآن.

وخير دليل على كثرة الحفاظ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قتل منهم في بئر معونة المعروفة بـ "سرية القراء" سبعون رجلا، كما قتل منهم يوم اليمامة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعون قارئا.

* وذكر أبو عبيد في كتابه "القراءات" عددا كبيرا من القراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر كثيرا من المهاجرين، وكثيرا من الأنصار، وبعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.


ولعل من أبرز دواعي حفظه - غير تكفل الله عز وجل بحفظه - ما يلي:


1-

مجيء القرآن الكريم معجزا متميزا في نظمه، فريدا في أسلوبه، لا يطاوله كلام البلغاء، ولا تدنو منه فصاحة الفصحاء، وكان الصحابة ينتظرونه بشغف ويتمنون أن يتلقوه فور نزوله، كما كان أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم يحرصون على سماعه، إما للبحث عـن نقط ضعف فيه تعينهم على مغالبته أو مهاجمتـه، وإما لإشباع حاجتهم الملحة في التذوق الأدبـي، ويمكننا أن نتصور إذن مدى الاهتمام الذي كان يثيره القرآن في نفوس المؤمنين والكافرين على السواء.


2-

تشريع قراءة القرآن الكريم في الصلاة فرضا كانت أم نفلا، سرا أم جهـرا، مما جعلهم يحرصون على حفظ القرآن الكريم لأداء هذه العبادة.

* أخرج مسلم في صحيحه عن حذيفة صلى الله عليه وسلم قال: { صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركـع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمـران فقرأها يقـرأ متـرسلا، إذا مَرَّ بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مَرّ بسؤال سأل، وإذا مـر بتعوذ تعوذ، ثم ركع... }.


3-

ارتباط القرآن الكريم بالتشريعات، فإن كثيرا من آياته تحوي أحكاما في العبادات: كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأحكاما في المعاملات كالبيع والشراء والدَّين، وأحكاما في سائر أمور الحياة، فلا بد أن يستظهروه ليعملوا بمقتضاه.


4-

الترغيب في قراءة القرآن الكريم وحفظه وتعلمه وتعليمه، وقد ورد ذلك في القرآن نفسه، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أكثـر من أن تحصى ومن ذلك:

* قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر: 29-30)

* وقوله صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق، له أجران}.

* وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه}.

* وقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشدُّ تَفَصِّيا من الإبل في عقلها }.


5-

سهولة حفظ القرآن الكريم وتيسيره، فكان من رحمة الله على خلقه أن يسر لهم حفظ القرآن الكريم، ليجعل من ذلك سببا مانعا من ضياع شيء منه، فكما قال عز وجل {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} (سورة القمر: 17، 22، 32، 40).

الأشعث
06-08-2010, 04:04 AM
المبحـث الثالـث: كتابة القرآن الكريم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

لم يكتف النبـي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن الكريـم، وإقرائه لأصحابه، وحثهـم على تعلمه وتعليمه، بل جمع إلى ذلك الأمر بكتابته وتقييده في السطور، فكان كلما نزل عليه نجم دعا الكتاب فأملاه عليهـم فيكتبونه، وبذلك كان القرآن مكتوبًا كله بأمره في عهده صلى الله عليه وسلم.



المطلب الأول: الأدلة على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم

لقد وردت أدلة كثيرة تدل على كتابة القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم:

* إطلاق لفظ الكتـاب على القـرآن الكريم، ومن ذلك قوله تعالى {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2.).

* أن الكتابة من الصفات الثابتة للقرآن الكريم حيث قال  {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً * فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}(البينة الآيتان 2 ، 3).

* ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يُسَافر بالقرآن إلى أرض العدو}.

* وفي لفظ لمسلم أن رسول الله صلى الله عيه وسلـم قال {لا تسافروا بالقرآن، فإني لا آمنُ أن يناله العدو}

* وما أخرجه مالك والدرامي وأبو عبيد في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم {أن لا يَمسَّ القرآنَ إلاّ طاهر}.

* أخـرج مسلم عن أبي سعيد الخدري صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلـم قـال {لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه} فهذا الحديث يدل على نهي النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة كتابة شيء غير القرآن، وأن القرآن كان مأذونا لهم في كتابته، نهي النبي لكتابة الحديث النبوي كان هذا في أول الأمر خشية أن يلتبس القـرآن بالسنة ، أو لأجل أن يخص القرآن بالعناية .

* أخـرج البخاري عن البراء بن عازب صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما نزلت {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:95)، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها .... الحديث.

* أخرج ابن أبي داود أن زيد بن ثابت قال {كنت جار رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا نزل الوحي أرسل إليَّ فكتبت الوحي}.

* وأخرج البخاري وغيره أن أبا بكر قال لزيد بن ثابت رضي الله عنهما: "كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

* الحديث الذي أخرجـه الإمام أحمد والترمذي وأبو داود والحاكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان رضـي الله عنهم قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان، ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول: "ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا. وينـزل عليـه الآية فيقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وينزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا}.

* أخرج الطبراني عن زيد بن ثابت أنه قال: {كنت أكتب الوحي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملي عليَّ، فإذا فرغت، قال: اقرأه! فأقرأه، فإن كان فيه سقط أقامه}.


المطلب الثاني: كُتَّاب الوحـي:


كان للنبي صلى الله عليه وسلم كُتَّاب يكتبون له ما ينزل عليه من آي الذكر الحكيم وسوره، وما يحتاجه من مكاتبات في شؤون الرسالة والدعوة وحوائج الناس واختلفت المصادر في تعدادهم وذِكْرهم، حتى أوصلها بعضهم إلى أربعة وأربعين كاتبا – كما في كتاب المصباح المضي في كتّاب النبي الأمي - ولعل السبب في ذلك هو جمعهم بين من كتب التنزيل وغيره وبين من كتب في شؤون الرسالة والدعوة ونحوها دون التنزيل، أو بين من كتب التنزيل بصفة رسمية وبين من كتبه لنفسه.


والذي اشتهـر بكتابة التنزيل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كتاب وهم:
* عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة، حيث لم يكن بها أحد يعرف الكتابة سوى نفرٍ قليل. وقد اتخذه النبي صلى الله عليه وسلم كاتبًا للتنزيل في أول الأمر، ثم أزله الشيطان وأغواه فارتد عن الإسلام، ولما كان يوم فتح مكة أسلم وحسن إسلامه وعاد لكتابة التنزيل توفي سنة 36هـ.

* عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي، ثالث الخلفاء الراشدين، وممن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم التنزيل وغيره، يقول الذهبي: "هو أفضـل من قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم". وقد شاء الله عز وجل أن يستقر المصحف على هيئته الخالدة على يده رضي الله عنه، توفي سنة 35هـ.

* علي بن أبـي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، رابع الخلفاء الراشدين، وممن كتب للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر التنزيل، كما كتب له كثيرا من العهود وعقود الصلح، توفي رضي الله عنه سنة 40هـ.
* أبي بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي، أول من كتب للنبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، كما كان يكتب ما يأمره به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتب والرسائل وهو سيد القراء توفي سنة 30هـ.

* زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي، كان أكثر الكتاب ملازمة للكتابة حيث لا عمل له غير ذلك، ولكثرة تعاطيه ذلك خصه البخاري في صحيحه بتسميته "كاتب النبي صلى الله عليه وسلم" توفي سنة 45هـ.

* معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي، طلب أبوه من النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة أن يجعله كاتبا بين يديه، فكان بعد ذلك ملازمًا للكتابة بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم في التنزيل وغيره، توفي سنة 60هـ.

هؤلاء ستة كُتَّاب للتنزيل كتبوه بصفة رسمية بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا يضعون ما يكتبون في حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا أن الوحي لم يكتبه غيرهم، فقد كتبه غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بكر وعمر وابن مسعود وغيرهم، ولكن هذه الكتابة كانت لأنفسهم دون تكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وممن كتب في شؤون الرسالة والدعوة وحوائج الناس:
1) أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
2) عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3) حنظلة بن الربيع رضي الله عنه وغلب عليه اسم "الكاتب".
4) الزبير بن العوام رضي الله عنه.
5) خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنه.
6) ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه.
7) المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
8) معاذ بن جبل رضي الله عنه.
9) وغيرهم.



المطلب الثالـث: الأدوات التي كتب عليها الوحـي:


* الرِّقاع: وهي جمع رقعة، وهي القطعة من الجلد وقد تكون من غيره كالقماش أو الورق، وهو غالب ما كتب عليه الوحي، قال زيد بن ثابت: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع"
* الأكتاف: وهي جمع كتف، وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان، قال زيد بن ثابت بعد أن أُمِر بجمع القرآن: "فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال".
* العُسُب: وهو جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض.
* اللِّخاف: وهو جمع لَخْفَة، وهي صفائح الحجارة، قال زيد بن ثابت: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف.
* الأقتاب: وهو جمع قتب، وهو قطع الخشب التي توضع على ظهر البعير ليركب عليه الإنسان، قال زيد بن ثابت في رواية ابن أبي داود: "فجمعت القرآن أجمعه من الأكتاف والأقتاب والعسب وصدور الرجال".
* ومما كانوا يكتبون فيه: الصحف والألواح والكرانيف – وهي أصول الكرب التي تبقي في جذع النخلة - وغيرها.


المطلـب الرابـع: الصفة التي كتب عليها القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

بعد أن بينَّا أن القرآن الكريم كتب في عهـد النبي صلى الله عليـه وسلم، يمكننا أن نقـرر بأن القرآن الكريم لم يستظهر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل دُوِّن كاملا وهذا التدوين اتصف بصفات أبرزها:

* أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاّ والقرآن الكريم كله كان مكتوبا، كتبه كُتَّاب خاصون بهذه المهمة، وبتوجيهات منه صلى الله عليه وسلم لهم.

* أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن الكريم كان عامّا، ولم يكن بجمعه في صحف؛ ولهذا لم يكن مجموعا في مكان ومصحف واحد، قال زيد بن ثابت: "قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء".

* أن كتابة القرآن الكريم تمت على أدوات متنوعة وغير متجانسة مما جعله غير مرتب ومحصور بين دفتين.

* أنه لم يكن مرتب السور، لأنه كتب أولا بأول على حسب نزوله، وترتيب القرآن الكريم ليس على حسب النزول بالإجماع، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلاّ بعد أن علَّم الصحابة بترتيب القرآن الكريم سورا وآيات، حتى صاروا يقرؤون القرآن الكريم كاملا مرتبا على نحو ما أمر به صلى الله عليه وسلم بتعليم من جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم في كل عرضة يعرض فيها القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم.


المطلـب الخامـس: السبب في عدم جمع القرآن الكريم في مصحف واحد في عهده صلى الله عليه وسلم

لم يجمع القرآن الكريم في عهده صلى الله عليه وسلم على هيئة مصحف لأسباب منها:

* ما كان يترقبه النبي صلى الله عليه وسلم من تتابع نزول الوحي حيث كانت تنزل بعض آيات سورة من السور، وتنقطع بنزول آيات سورة أخرى - قبل تلك السورة أو بعدها - ثم يستأنف الوحي آيات السورة الأولى.. وهكذا حتى كمل التنزيل، ولاشك والحالـة هذه استحالة جمع القرآن الكريم مباشرة عند نزوله في مصحف واحد، إذ يلزم ذلك تغييرا مستمرا في الأدوات التي كتب عليها، يقول الزركشي: "وإنما لم يكتب في عهـد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف، لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله عليه وسلم".

* أن ترتيب آيـات القرآن الكريم وسوره لم يكن على حسب النزول، بل على حسب ما هو في اللوح المحفوظ الذي بُلِّغه النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل عليه السلام، فلو كتب القرآن مرتبًا حسب نزوله لخالف ترتيبه فـي اللوح المحفوظ، ولوقع اضطراب في كثير من آياته وتداخلت آيات سورة بآيات أخرى بما يتنافى وإعجازه.

* أن المدة بين آخر ما نزل من القرآن الكريم وبين وفاته صلى الله عليه وسلم قصيرة جدا، وهي غير كافية لجمع القرآن بين دفتي مصحف واحد.

* أنه لم يوجـد من دواعي الجمع في مصحف واحد مثل ما وجد في عهد أبي بكر الصديق صلى الله عليه وسلم فقد كان المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بخير وأمن، والقراء كثيرون، والفتنة مأمونة، وفوق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، خلاف ما حصل في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه من مقتل الحفاظ حتى خاف على ضياع القرآن الكريم.