المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : احتجاج د.القرضاوي بالقدر في إباحة قطع و زرع الأعضاء الآدمية خاطئ



د.أبو بكر خليل
07-19-2005, 02:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده،و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده،سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا ،و على آله وصحبه و سلم. و أشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له ، رب العالمين ، وأن محمدا رسول الله و خاتم الأنبياء و المرسلين. أما بعد
أحببت أن أبدأ مشاركتي في "منتدى التوحيد"بموضوع أو قضية معاصرة تتعلق بمسائل هذا المنتدى،ألا و هي اعتساف الاحتجاج بالقدر في إباحة بعض أفعال العباد ،ذلك الاحتجاج الذي تعلل به البعض قديما في إباحة أفعال محرمة شرعا،و ما كنا نظن أن يأتيه أ حد الآن ليسند دعواه ،ومن ذلك ما قاله الدكتور القرضاوي في إباحته "نقل و زرع الأعضاء،بطريق مايسمى بالتبرع"،حيث قال في حوار أجراه برنامج " المنتدى " بتلفاز أبو ظبي - ونشرته (مجلة منار الإسلام) عدد محرم 1419هـ / مايو 1998م، ص 44 – 47-تحت عنوان:
"فتاوى الشيخ يوسف القرضاوي حول نقل وزراعة الأعضاء البشرية"

(سـؤال : كيف نجمع بين الأصل الشرعي القائل بحرمة جسد المسلم حياً وميتاً ، وأنه لا يملك حق التصرف في جسده ، وأن الجسد ملك لله ، وبين الفتوى التي تُجيز نقل الأعضاء ؟
- من فضل الله تبارك تعالى أن منَّ علينا بدين عظيم وشريعة رحبة تتسع لكل زمان ومكان وهذه الشريعة بمقاصدها ومبادئها وأحكامها فيها الحل لكل مشكلة من صيدلية الإسلام ، وهذا الدين شرعه خالق الإنسان والكون وهو أعلم بما يصلحه ويفسده (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، ومن فضائل هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم أنها لم تنص على الأشياء بنصوص تفصيلية إنما جاءت بنصوص كلية وقواعد عامة والنصوص الكلية تتسع لأكثر من فهم وأكثر من تفسير والشريعة قد راعت الظروف الطارئة والضرورات العارضة للإنسان وقدرت له قدرها.
ولقد قرر علماء الشريعة أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال ، من أجل هذا لم تضق الشريعة بأي حادثة من الحوادث في أي بلد دخلت فيه لأن الشريعة خصبة ولذلك نحن في عصرنا هذا نرحب بكل ما يجيء به العصر ، ولقد اجتمع الفقهاء والأطباء وهذا من فضل الله علينا وعرض الأطباء مثل هذه المسائل والأمور وتمت المناقشة وقرر الفقهاء ،ومن هذه الأشياء موضوع زراعة الأعضاء وما يتعلق بذلك ، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم التداوي وقد قال حينما سأله الأعراب قال : " تداووا عباد الله فإن الله الذي أنزل الداء أنزل معه الدواء " وقال " ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء فعلمه من علمه وجهله من جهله " وقال " لكل داء دواء فإذا أصيب الدواء الداء برئ بإذن الله " وسألوا فقالوا يا رسول الله " أرأيت أدوية نتداوى بها وتقاة نتقيها ورقى تسترقي بها ، هل ترد من قدر الله شيئاً ؟ " فقال هي من قدر الله " وهذا جواب نبوي في غاية الحكمة والروعة ، إن كثيراً من الناس يظنون أن المسببات من قدر الله والأسباب ليست من قدر الله فالله سبحانه هو الذي قدر السبب وقدر المسبب ، شرع لك أن تدفع الأسباب ببعضها البعض فادفع قدر الداء بالدواء وادفع قدر الجوع بقدر الغذاء وادفع قدر العطش بقدر الري بالماء ، لذلك قرر العلماء أنه لا مانع من زراعة الأعضاء ويحدث ذلك عن طريق أمرين أن يتبرع الحي أو يوصي بالتبرع إذا أصيب في حادث .......) انتهى الاقتباس.
*********************

- وهذا قول في الشرع عظيم ،إذ مقتضاه و مؤداه إلغاء كل أو جل أحكام الشرع بدعوى القدر ،على ما سنبينه فيما يلي بخصوص قضية قطع و زرع الأعضاء الآدمية :

الاحتجاج بالقدر في إباحة أفعال العباد مردود؛ لأنه يهدم الشريعة من أصلها :
-------------------------------------------------------
احتجوا بالقدر في إباحة الإذن في اقتطاع أعضاء الجسد والتبرع بها ، وقال بعضهم :" إن كثيراً من الناس يظنون أن المسببات من قدر الله والأسباب ليست من قدر الله : فالله سبحانه هو الذي قدر السبب وقدر المسبب – شرع لك أن تدفع الأسباب بعضها ببعض فادفع الداء بالدواء وادفع قدر الجوع بقدر الغذاء وادفع قدر العطش بقدر الري بالماء ، لذلك قرر العلماء انه لا مانع من زراعة الأعضاء ".انتهى
------------------------------
وبداية لا يظهر لنا علي وجه جلي أهذا التعليل – الوارد في آخر الكلام المتقدم – منقول عن أقوال غيره من العلماء أم هو القائل به ؟
وتثنية فذلك الاحتجاج بالقدر-("القدر عبارة عن سابق علم الله،وهو لا راد لأمره"،أشار إلى ذلك الإمام القرطبي -انظر :فتح الباري 10/214،ط دار الريان للتراث بالقاهرة ،1987م،و قال ابن حجر :"وحرف النزاع بين المعتزلة و أهل السنة أن الإرادة عند أهل السنة تابعة للعلم و عندهم تابعة للأمر.انظر :الفتح 13/458)- في إباحة ذلك الفعل، أي اقتطاع أعضاء الجسد والتبرع بها، يحتمل احتمالات عدة بحسب الاعتقاد ، وبحسب حال الفعل ، وهي :
الاحتمال الأول: الاعتقاد بأن القدر يشتمل علي الخير والشر، وأن ذلك الفعل من أفعال الخير : فيكون ذلك الاحتجاج لا معنى له ؛ لأن الفعل معلوم حكمه ، فكأنهم احتجوا بالقدر في إباحة فعل مباح !
الاحتمال الثاني: الاعتقاد بان القدر يشتمل علي الخير والشر ، وأن ذلك الفعل من أفعال الشر : ويكون الاحتجاج بالقدر من قبيل رفع الإثم ودفع المؤاخذة ؛ بزعم مرتكبيه أنهم معذورون فيه ؛ لأنهم محبرون عليه بحكم المشيئة والقدر السابق . وذلك زعم باطل كما قال الله تعالى حكاية عن كفار قريش :" سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا أباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن إن أنتم إلا تخرصون".( الأنعام:148)
قال القرطبي : أخبر الله عز وجل بالغيب عما سيقولون ؛ وظنوا أن هذا متمسك لهم لما لزمتهم الحجة وتيقنوا باطل ما كان عليه. والمعنى : لو شاء الله لأرسل إلي آبائنا رسولاً فنهاهم عن الشرك وعن تحريم ما أحل فينتهوا فاتبعناهم علي ذلك فرد الله عليهم ذلك فقال :" هل عندكم من علم فتخرجوه لنا " أي أعندكم دليل علي أن هذا كذا " إن تتبعون إلا الظن " في هذا القول . "و إن انتم إلا تخرصون" لتوهموا ضعفتكم إن لكم حجة.( الجامع لأحكام القرآن ،ص2564،ط.دار الشعب بالقاهرة)
ثم رد الله عليهم بقوله :" قل فالله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين"( الأنعام:149) . قال القرطبي : قوله تعالى:" فلله الحجة البالغة ". أي التي تقطع عذر المحجوج، وتزيل الشك عن من نظر فيها . فحجته البالغة علي هذا تبين أنه الواحد، وإرساله الرسل والأنبياء ؛ فبين التوحيد بالنظر في المخلوقات ، وأيد الرسل بالمعجزات ، ولزم أمره كل مكلف. فأما علمه وإرادته وكلامه فغيب لا يطلع عليه العبد، إلا من ارتضى من رسول . ويكفي في التكليف أن يكون العبد بحيث لو أراد أن يفعل ما أمر به لأمكنه . وقد لبست المعتزلة بقوله " لو شاء الله ما أشركنا" فقالوا: قد ذم الله هؤلاء الذين جعلوا شركه عن مشئيته. وتعلقهم بذلك باطل ؛ لان الله تعالى إنما ذمهم علي ترك اجتهادهم في طلب الحق وإنما قالوا ذلك علي جهة الهزء واللعب. نظيره "وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم "( الزخرف:20). أهـ(تفسير القرطبي،ص 2565 ). قال الإمام ابن حجر : وأما قوله في الأنعام :"سيقول الذين أشركوا لو شاء اله ما أشركنا ولا أباؤنا" الآية فقد تمسك بها المعتزلة-( المعتزلة طائفة خالفت مذهب أهل السنة و الجماعة و أنكروا خلق الله تعالى أفعال العباد،و زعموا أن الله خالق الأعيان،وليس خالقا للأعمال بزعم تنزيه الله تعالى عن خلق أعمال الشر ،وهذا غير صحيح ،و إنما خلقها للاختبار)-
وقالوا إن فيها ردا علي أهل السنة ، والجواب أن أهل السنة تمسكوا بأصل قامت عليه البراهين وهو أن الله خالق كل مخلوق ويستحيل أن يخلق المخلوق شيئا، والإرادة شرط في الخلق ويستحيل ثبوت المشروط دون شرطه ، فلما عاند المشركون المعقول وكذبوا المنقول الذي جاءتهم به الرسل وألزموا الحجة بذلك تمسكوا بالمشيئة والقدر السابق ، وهي حجة مردودة لان القدر لا تبطل به الشريعة وجريان الأحكام علي العباد بأكسابهم(فتح الباري 13/457 ) .
والجبرية هم القائلون بما في الاحتمال الثاني ، وزعموا أن الإنسان مسير لا مخير في أفعاله، وأنه مجبر علي فعلها بدعوى القدر السابق وذلك إفك كبير وبهتان عظيم، وعليه يكون التكليف باطلاً وتنهدم الشريعة من الأصل .

-وقد اتفقت جمهرة المبيحين علي حرمة ذلك الفعل والتصرف في الجسد، إلا انهم أباحوه بدعاوى أخرى غير القدر ؛ وعلي هذا فليسوا من الجبرية .
الاحتمال الثالث : الاعتقاد بان القدر يشتمل علي الخير والشر ، ويكون ذلك الفعل غير معلوم الحكم من حيث الحل والحرمة : فلا يكون لهم في ذلك الاحتجاج حجة ؛ لان القدر إذا اشتمل علي الحالين - أي الخير والشر – فإن الفعل يحتمل أحد الاحتمالين : الحل أو الحرمة
الاحتمال الرابع : وهو الاحتمال المتبقي بعد انتفاء الاحتمالات الثلاثة السابقة ، ويكون فيه الاعتقاد بأن القدر يشتمل علي الخير فقط ، ويكون الفعل غير معلوم الحكم: وحينئذ فقط يصح الاحتجاج به في الإباحة ، وذلك من جهة المنطق ؛ لان الفعل المقدور مقصور علي حال واحد، هو الخير والمباح ، ولكن ذلك غير صحيح من جهة الشرع ؛ لقوله صلي الله عليه وسلم – حينما سأله جبريل عليه السلام:" ما الإيمان؟ "- فعد أمورا منها : " وتؤمن بالقدر كله " رواه مسلم ، وفي رواية " وتؤمن بالقدر خير وشره " ، وفي أخري" وحلوه ومره من الله ".(الفتح1/145 ) .
قال ابن حجر: وهكذا الحكمة في إعادة لفظ و" تؤمن " عند ذكر القدر كأنها إشارة إلي ما يقع فيه من الاختلاف ، فحصل الاهتمام بشأنه بإعادة " تؤمن"، ثم قرره بالإبدال بقوله "وخيره وشره وحلوه ومره" ثم زاده تأكيدا في الرواية الأخيرة "من الله" … والمراد أن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها ، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد، فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته ، هذا هو المعلوم من الدين بالبراهين القطعية ، وعليه كان السلف من الصحابة وخيار التابعين ، إلي أن حدثت بدعة القدر في أواخر زمن الصحابة .
وقد حكى المصنفون في المقالات عن طوائف من القدرية إنكار كون البارئ عالما بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم ، وإنما يعلمها بعد كونها . قال القرطبي وغيره: قد انقرض هذا المذهب، ولا نعرف أحداً ينسب إليه من المتأخرين . قال : والقدرية اليوم مطبقون علي أن الله عالم بأفعال العبـاد قبل وقوعها ، وإنما خالفوا السلف في زعمهم بأن أفعال العباد مقدورة لهم وواقعة منهم علي جهة الاستقلال ، وهو مع كونه مذهبا باطلاً أخف من المذهب الأول وأما المتأخرون منهم فأنكروا تعلق الإرادة بأفعال العباد فرارا من تعلق القديم بالمحدث ، وهم مخصومون بما قال الشافعي : إن سلم القدري العلم خصم يعني يقال له : أيجوز أن يقع في الوجود خلاف ما تضمنه العلم ؟ فان منع وافق قول أهل السنة ، وإن أجاز لزمه نسبة الجهل، تعالى الله عن ذلك(الفتح 1/145 ) . أهـ .
وإذا كان كثير من الناس يظنون أن الأسباب ليست من قدر الله ، كما ادعى القائل، فكذلك هو قد ظن أن غير المباح من الأسباب والأفعال ليست من قدر الله ، وأن المباح وحده من قدر الله ، وقال :" لذلك قرر العلماء أنه لا مانع من زراعة الأعضاء، ومعناه أن ما يسمى بزراعة الأعضاء مباحة بدعوى القدر ،وإليه الإشارة بقوله " لذلك" أي للأسباب التي هي من قدر الله وهذا صحيح في ذاته ، ولكن لا يترتب علي القدر إباحة ما ، والقول بذلك يقصر القدر على المباح من الأفعال . وقوله المتقدم مقتضاه نفى الشر وغير المباح من الأفعال عن القدر، وأن الله مريد وخالق الخير والمباح فقط ، بمعنى نفي خلق الله تعالي أفعال العباد كلها من خير وشر .
ومقتضى احتجاجهم بالقدر فيما زعموه من إباحة يخالف مذهب أهل السنة والجماعة من حيث لا يشعرون ، وقد روي رافع بن خديج أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول :" يكون في أمتي قوم يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى ". قال فقلت : جعلت فداك يا رسول الله ! كيف ذاك ؟ قال "يقرون ببعض ويكفرون ببعض". قال قلت: جعلت فداك يا رسول الله! وكيف يقولون؟ قال"يجعلون إبليس عدلاً لله في خلقه وقوته ورزقه ويقولون الخير من الله والشر لإبليس". قال:فيكفرون بالله ثم يقرءون علي ذلك كتاب الله ، فيكفرون بالقرآن بعد الإيمان والمعرفة ؟ قال " فما تلقى أمتي منهم من العداوة والبغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة " الحديث ( تفسير القرطبي،ص 2577و 2578) .
وقد وقع ما اخبر عنه صلي الله عليه وسلم وظهرت طائفة أنكرت خلق الله تعالى أفعال العباد ومشيئته لها ، بزعم تنزيه الله تعالى عن خلق الشر وهي ما عرفت باسم المعتزلة ، ورد عليهم أهل السنة بان الله تعالى خلق إبليس وهو الشر كله ، وقال تعالى:"قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق" فاثبت أنه خلق الشر(الفتح13/539 ) .
قال ابن حجر : وقد اتفق أهل السنة علي أنه لا يقع إلا ما يريده الله تعالى ، وأنه مريد لجميع الكائنات – يعني الأفعال – وإن لم يكن آمرابها( الفتح 13/459) قال ابن عيينة : بين الله الخلق من الأمر بقوله تعالى :" ألا له الخلق والأمر "(13/537 ) فجعل الله الأمر غير الخلق
وقال الكرماني – في قوله تعالى :" إنا كل شئ خلقناه بقدر" التقدير خلقنا كل شئ بقدر فيستفاد أن يكون الله خالق كل شئ كما صرح في الآية الأخرى( 13/538) وقال البيهقي في "كتاب الاعتقاد": قال الله تعالى " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ " فدخل فيه الأعيان والأفعال من الخير والشر( 13/538) ، وما خلق الله ذلك وقدره إلا اختبارا لعباده بالحلال والحرام كما قال تعالى :" ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون(الأنبياء:35 ) ، أي تختبركم بالشدة والرخاء والحلال والحرام ، فتنظر كيف شكركم وصبركم ". والينا ترجعون " أي للجزاء بالأعمال؛ قاله القرطبي( ص4327) .
وما نظن أن المحتج بالأسباب المقدرة - في إباحته قطع وزرع الأعضاء -قد قصد أياً من تلك الاحتمالات السابق ذكرها المخالفة لمذهب أهل السنة ، وإنما دفعه التماس إلا باحة لذلك الفعل بأي سبيل إلي الاحتجاج بما احتج به ، وإنما رأينا انه قد ذهب مذهب القائلين بما في ذلك الاحتمال الأخير ، لأنه لا معنى لاحتجاجه إن لم يكن القدر في اعتقاده مقصورا علي الخير والمباح من الأفعال ، ولا حجة في احتجاجه إن كان اعتقاده في اقدر بالخير والشر
وما كنا نود الخوض في الكلام في القدر ؛ للأثر الوارد فيه :" بحر عميق فلا تلجوه " ، ومهما خاض فيه الخائضون فلن يظفروا منه بشيء، وقد غرق فيه من غرق ، وقل من خاض فيه فنحا وسلم ، ولكن احتجاجهم به دفعنا إلي دفع الالتباس بين الإرادة والقدر وبين الأمر والإباحة. قال تعالى:"وما تشاءون إلا أن يشاء الله "( الإنسان:30)، وقال:" ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها"، وقال " إن تكفروا فان الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر ".
ونختم حديثنا ذلك بقوله تعالى :"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب . ربنا لا تزع قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهاب " (آل عمران:7و8 ) .
ونعود إلي ما استدل به القائل بالإباحة فتقول أنه استدلال في غير محله ؛ لان السائل – في الحديث المحتج به – إنما سال عما توهمه من تعارض بين الأسباب والأقدار، فأخبره النبي صلي الله عليه وسلم بأن الأسباب كلها من قدر من الله ، روي مسلم عن جابر رفعه " لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله تعالى"(انظره في الفتح 10/141 ) . قال ابن حجر: وفيها كلها إثبات الأسباب – يعني الأحاديث – وأن ذلك لا ينافي التوكل علي الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وتقديره ، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله تعالى فيها ، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك ،وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر " بإذن الله"، فمدار ذلك كله علي تقدير الله وإرادته . والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافي دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك(10/142 ) ، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة " عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أرأيت رقي نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله تعالى ". قال ابن حجر : والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب ، وهو ينجع في ذلك في الغالب ، وقد يتخلف لمانع والله اعلم(السابق 10/142 ) .
ولا دلالة من الحديث علي إباحة ما يسمى بزراعة الأعضاء ، بل يدل علي أن الأسباب من قدر الله ، ومعلوم إن القدر يشتمل علي الخير والشر من الأفعال كما تقدم بيانه ، ومعلوم أن الأسباب منها الحلال ومنها الحرام ، وكما يكون دفع الجوع بالأكل الحلال أو الحرام كأكل لحم الخنزير ، ودفع العطش بالشرب الحلال أو الحرام كشرب الخمر ، فكذلك يكون دفع الداء بالدواء الحلال أو الحرام ، وكل ذلك من قدر الله ؛ اختبارا للعباد " ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون ". وقد أمرنا بالحلال ونهينا عن الحرام في كل شأن من شئون الحياة الدنيا ، وعلى هذا يكون الحساب والجزاء في الآخرة .


فالمقدور من الأمور لا يعني المباح ؛ لأن الأمور كلها تجري بقدر الله وعلمه ، ولذا قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه لأبي عبيدة عندما أنكر عليه عدم الدخول علي الطاعون الواقع بالشام :" نعم نفر من قدر الله إلي قدر الله "(الفتح10/189 ) .
وعلي ما سبق فلا حجة لهم فيما احتجوا به ، والاحتجاج بالقدر في إباحة اقتطاع أعضاء الجسد باطل .والمماري عليه الدليل.

*****************************

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا و لاتحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}
صدق الله العظيم.

كتبه
د.أبو بكر عبد الستار خليل