المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الصلاة و العلم



الأسمر
07-30-2005, 12:18 AM
يقول الأديب ((مختار عبد القادر الفيل )) الطالب بكلية الآداب :

(( .. إني أؤمن بالله إيماناً قوياً , و أؤدي فرائض الإسلام , و لكني أوجه السؤال إليكم لرغبتي في المزيد من المعرفة عن أمور إسلامنا و أسأل : ما هي فائدة الصلاة و الدعاء إلى الله , و إنني لأعلم أن الصلاة رياضة و ثقافة و صلة وثيقة بالله , و علاقة وثيقة لتقوية العطف بين الناس و بث روح التعاون بينهم لاجتماعهم في بيت الله . و لكن كيف نفهم الدعاء إلى الله طلباً لشيء من الأشياء ؟ فإن هذا الطلب إما أن يكون مطابقاً لإرادة الله الثابتة فلا فائدة فيه , و إما أن يكون مخالفاً للإرادة الإلهية فلا فائدة فيه كذلك , و لا يفعل سبحانه و تعالى غير العدل , فليس ثمة ما يدعو إلى مطالبته لأننا في هذه الحالة كمن ينزله منزلة الحاكم الذي يقضي بقضاء , ثم يعدل عنه بعد التزلف و الاستعطاف ... و أرجو أن أقرأ رد سيادتكم لأعلم قبل كل شيء هل يحرم علينا الدين أن نبحث في هذه الأمور ؟ ))

الأسمر
07-30-2005, 12:20 AM
و أقول للطالب أنه أحسن فهم الصلاة كما أحسن و صفها حين قال أنها رياضة وصلة وثيقة بالله , و إن الأمر الذي أشكل عليه في فهم صلوات الدعاء قد أشكل على كثيرين , و ورد عليهم الإشكال فيه على صور كثيرة بين جميع المتدينين في العصر الحديث من المسلمين و غير المسلمين .. فحسب فريق منهم أن القول بجدوى الصلاة يناقض القول بالسنن الإلهية و القوانين الطبيعية التي أودعها الله طبائع الأشياء و بنى عليها نظام الكون كله و حسب فريق منهم – كما قال الطالب الأديب – أن تنزيه الإله سبحانه و تعالى عن تبديل كلماته و تعديل قضائه يوجب على الإنسان أن يتورع عن الطلب الذي يسأله فيه العدول عن قضاء قضاه .



و من كبار علماء الطبيعة الغربيين أناس تصدوا للرد على هذا الاعتراض و أجابوا عن أسئلته جواباً يوافق إيمانهم بالله و إيمانهم بالعلوم الطبيعية على السواء . وقد فرغ أحدهم لهذا البحث - و هو الطبيب الجراح الكبير الكسيس كاريل Carrel - فكتب في رسالة خاصة أجمل فيها صفوة تجاربه العلمية و جعلها جواباً على قول فريديريك نيتشه ((إنه لشيء مخجل أن يبتهل الإنسان بالصلاة )) ..



فكان من مقرراته في هذه الرسالة أن نفع الصلاة قد ثبت له – علمياً – كما تثبت التجارب الطبيعية , و أنه لا فرق في هذا بين صلاة الإنسان لنفسه أو صلاته لغيره ما دام صادق النية صادق الطلب في لحالتين . و أحد هؤلاء العلماء الكبار – اوليفر لودج – و هو من أشهر علماء الرياضة و الطبيعة يرد على القائلين بمخالفة الصلاة لسنن الكونية فيقول :

((إنهم يتوهمون ذلك لأنهم يحكمون على الصلاة حكمهم على ظاهرة طبيعية خارجة من حدود الكون . و لكنها في الواقع ظاهرة كونية يحسب حسابها في أعمال الكون كما يحسب حسابها في سائر الحوادث التي تقع في حياتنا بغير صلاة .. و إذا كانت الصلاة تربية نفسية فلماذا يحسب المعترضون أن هذه التربية ليست سبباً لتحقيق بعض الحوادث كما تسببها كل تربية يتم بها استعداد الإنسان لغاية من الغايات ؟ )) .



و الواقع التاريخي عن الصلاة – بمعنى الدعاء إلى الله – أنها ظاهرة روحية تعرف بالديانات العليا , و لا تعرف بالديانات البدائية على هذا المعنى .



فهي نتيجة لترقي الإنسان في فهم وحدة الكون ووحدة القوة الإلهية التي تقوم بتدبيره , و لهذا تعرف في أديان الموحدين و المتحضرين , و لم تكن معروفة على هذا النحو بين الهمج الأولين الذين يعددون الأرباب , و يوزعونها بين عناصر الطبيعة في الأرض و السماء , و يطلبون من كل منها ما يقدر عليه و لا يقدر علي غيره , و يجعلون صلاتهم من قبيل المساومة على تبادل المنفعة لاعتقادهم أن أربابهم تحتاج إلى دعواتهم و قرابينهم كما يحتاجون هم إلى نعمها و عطاياها . و قد بقيت من هذا الأسلوب في الصلاة بقية مشهودة بين الجهلاء الذين يساومون الأولياء على الشموع و الذبائح إذا استجابوا لما يدعونهم إليه من إغاثة الملهوف , ورد المفقود , و تحقيق الغرض المأمول و لو لم يكن من الأغراض التي تحسن بالأولياء .



فالصلاة في الأديان العليا علامة من علامات التقدم الإنساني في فهم حقائق الكون و فهم الصفات الإلهية , و لا قوام لدين من الأديان بغير الإيمان بالصلاة على معنى الطلب و الدعاء , مع الإيمان برياضتها الروحية و صلتها الوثيقة التي تربط عالم الشهادة بعالم الغيب , و تجعل وجود الإله حقيقة أعلى من حقيقة النواميس أو حقيقة الحوادث الكونية التي تهم الإنسان في مطالب معيشته , كما تهمه في مطالب ضميره .



فلا الدين و لا العلم يقضيان على الإنسان أن ينكر حقيقة النواميس الطبيعية , و لكن وجود الإله قائم في ضمائرنا على إيماننا بأن النواميس الطبيعية وحدها لا تغني الإنسان عن الاتصال بخالقها , لن وجود النواميس لا يلغي عمل الإله , و لا يعني أن الاتصال به و الانقطاع عنه سواء . و الذين يفهمون أن نواميس الطبيعة واقع مفروغ منه يخالفون العلم و الفلسفة و ليس قصاراهم أنهم ينكرون الإرادة الإلهية من ورائها .



فمن المقررات العلمية المشهودة التي اشتهرت حديثاً باسم نظرية هيزنبرج ((Heisenberg)) أن العلم لا يستطيع أن يعرف مقدماً كيف يتصرف كهرب واحد من كهارب الأجسام المادية , و أن الذي نعرفه من ذلك إنما هو حكم الجملة يستحيل تطبيقه على الأجزاء المتفرقة , و من المشاهد التي يقربون بها هذا الرأي تقدير شركات التأمين لحوادث السيارات في البلد الواحد و السنة الواحدة , فإنهم يحسبون الحساب لإصابة عشرين سيارة من كل ألف سيارة – مثلاً – فيصدق هذا التقرير و تنتظم عليه موارد الشركة و مصاريفها , و لكن أخبر الخبراء في الشركة لو سئِل أن يدل على هذه السيارات العشرين أو بعضها لما استطاع .



و العلماء الذين يعتقدون أن النواميس الكونية مسألة قديمة حصلت و فرغ الأمر منها يتمثلون الكون كأنه مكنة صنعت و أرسلت في طريقها و انقطعت عوامل التكوين فيها , و لكن هذا الاعتقاد ضرب من التصور لا يولفقه عليه كثير من العلماء و المفكرين , و من هؤلاء المفكرين من يقول – كما قال بيرس Pierce - إن المصادفات قد تكون اليوم قوانين في دور التكوين و ليس شذوذاً عن قوانين مبرمة منذ الأزل , و إن القوانين قد تكون مصادفات تكررت على وتيرة واحدة و لكنها لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط الأسباب بالمسببات ..



و مذهب بيرس هذا مطابق لقول الحكيم الإسلامي أبي حامد الغزالي , و مطابق للإجماع الذي انعقدت عليه ىراء المحدثين , فإنهم يقولون إن التجارب العلمية إنما هي تجارب وصفية تسجل الواقع كما يتكرر أمام المجربين , و لكنها ليست بالتفسيرات التي تعلل الأسباب بعلة محققة غير علة التكرار و الاستمرار .



و من الأمثلة القديمة التي تضرب لتقريب هذا الرأي أن الديكة تصيح قبل طلوع الشم أبداً و ليست هي علة طلوعها , و أن جرس القطار يدق قبل وصوله و ليس هو سبب الوصول , و أن ضوء القذيفة يرى عند انفجارها قبل سماع صوتها و لا علاقة بين سبب الرؤية وسبب السماع . و أياً كان الرأي في السببية عن علماء العصر الحديث فالقول الفصل الذي لا شكّ فيها أن قوانين الطبيعة لم تحصر جميع عواملها , و أن الحصر الذي وصلنا إليه قد يعين على تقدير الحوادث المترتبة عليها بالإجمال , و لا يعتمد عليه في تقدير حادثة واحدة بغير الظن و التقريب .



فإذا نظرنا إلى التقدير العلمي فالباب مفتوح في الكون للعوامل التي لا تحصرها ضوابط القوانين و النواميس . و إذا نظرنا إلى التقدير الديني فالله تعالى فعّال لما يريد و الخلق ((عملية مستمرة)) و ليس بالعملية الآلية التي فرغت منها العناية الإلهية , و تركتها هملاً بغير تبديل . و سنة الله لا تبديل لها حقاً و لكننا لا نعلم من سنة الله إلا ما نهتدي إليه بعقولنا و هداية الله . و قد تكون سنة الله في نصيب الإنسان موقوفة على تربية نفسية تحققها الصلاة , و قد تكون هذه التربية النفسية سبباًَ مشروطاً للسنة الإلهية لا يجوز للمؤمن تعطيله , أو لا يجوز له أن يدعي القضاء فيه باسم الإله .



و الطالب الأديب يرى للمسألة وجهين لا ثالث لهما من وجوه البحث في فائدة الصلاة . فإما أن يكون الطلب موافقاً للإرادة الإلهية فهو محقق بغير طلب , و إما أن يكون مخالفاً للإرادة الإلهية فلا معنى لطلبه , لأن الله يتنزه عن تغيير إرادته كما يغير الحاكم قضاءه بالملق و الاستعطاف .



و لكن مسألة الصلاة لا تنحصر في وجه من هذين الوجهين , لأننا يجب أن نذكر – أولاً و آخراً – أن إرادة الله متمثلة في طبيعة الإنسان و أن من طبيعة الإنسان أن تطلب الغوث عند الحاجة إليه , و أن طلبه من غير الله عبث مع الإيمان بوجود الإله القادر على كل شيء , فإذا اندفعت طبيعة الإنسان إلى طلب الغوث من الله فمن أين له إذا قمع من هذه الطبيعة أنه لا يخالف إرادة الله و من أين له الاستجابة و هي كل ما يرجى من الدعاء ؟ من أين له أن الدعاء نفسه ليس هو سبيل الاتصال بالله من جانب الإنسان , لأنه في ذاته عمل من أعمال النفس التي تدل على سجية من سجاياه و إن لم يكن لها جواب .



و نعود إلى رأي الرياضي الكبير اوليفر لودج لأن الرياضيين من أقدر الناس على فرض الفروض التي تحل المجهولات , فتقول : لماذا نحسب الصلاة خارقة للنواميس الكونية و هي ظاهرة كونية كسائر الظواهر التي تحدث كل يوم في هذا الكون ؟



و ليكن الطالب الأديب على يقين أن سؤاله عن نفع الصلاة لا يمتنع في الدين الإسلامي بل يجب عليه وجوب التفكير ووجوب سؤال أهل الذكر , و كلاهما فريضة من فرائض الإسلام , و لكن لمسألة الصلاة – كما قلنا – وجهاً آخر لا ضير من السؤال عنه إذا كان السؤال عنه هو جوابه المريح : ألا يجوز للإنسان أن يكشف عن ذات نفسه أمام الله إلا أن يعلق هذه المكاشفة مقدماً بالجواب ؟

الأستاذ عباس محمود العقاد
كتاب ما يقال عن الإسلام
ص 219-224