المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبد الله دراز: بين الفطرة والعقل



هشام بن الزبير
12-09-2010, 05:22 PM
أيها الأحباب الكرام,

استوقفتني الفقرة التالية من كتاب "دستور الأخلاق في القرآن" فأحببت أن أشرككم فيها للتأمل والمذاكرة:

قال الشيخ العلامة محمد عبد الله دراز رحمه الله وهو يناقش تصور كانط للإلزام الأخلاقي:

عندما أسال نفسي، وقد استسلمت لأنواري الفطرية قبل أن أخوض عملًا ما ,لكي أعرف

واجبي، في موقف يتسم بالوضوح نسبيًّا, فإن إشارة ضميري لن يكون لها في نظري قيمة القاعدة الأخلاقية إلا إذا اعتقدت

أنها تعبر عن الحقيقة الأخلاقية في ذاتها، لا عن حقيقة نسبية بالنظر إلى مشاعري. وكل جهودي في التأمل تهدف إلى

مطالعة هذه الحقيقة التي أعتقد أنها مطبوعة في أعماقي، وفي جوهر كل كائن عاقل.

فإذا ما قيل لنا: إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال

الذي خص به العقل.

ماذا تعني في الواقع هذه القولة: "العقل يمنح نفسه قانونه"؟ هل يبدع العقل القانون؟ أم أنه يتلقاه معدًّا، على أنه جزء من

كيانه؛ كيما يفرضه على الإرادة؟

ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه سوف يصبح السيد المطلق، فيبقي عليه أو يبطله، تبعًا لمشيئته، فإذا لم يستطع

ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه، كفكرة فطرية, لا يمكن الفكاك منها.

وحينئذ يكون معنى أن يستنصح المرء عقله: أنه يقرأ في كتاب فطرته النقية، والإنسانية بصفة نوعية -ما سبق أن فطرها

الله عليه.

وبعبارة أخرى:

عندما يرجع أشد الناس إلحادًا إلى سلطة العقل فإنه لا يفعل في الواقع سوى الإنصات إلى ذلكم الصوت

الإلهي، الذي يتكلم في داخل كل منا، دون أن يذكر اسمه، وهو ينطق به صراحة عندما يتحدث إلى المؤمن.

ولكن، إذا كان النوران: الفطري والموحى -ينبثقان من مصدر واحد فحسب، فيجب أن نخرج أخيرًا بأن الله سبحانه هو

الذي يرشدنا دائمًا إلى واجبنا، ما ظهر منه وما بطن.

أرحب بتعليقاتكم ومشاركاتكم.

هشام بن الزبير

خالد المرسي
12-09-2010, 05:45 PM
جزاك الله خيرا

حسن المرسى
12-10-2010, 12:59 AM
هل يمكن إعادة صياغة الفقرة هكذا ..؟؟
الأحكام الأخلاقية التى تتضمن الإستحسان والأستقباح الصادرة عن العقل ثابتة وموحدة
لا تختلف بين البشر على مدار الدهور وإختلاف المجتمعات ..
وهذا يدل على أنها ليست نتيجة جهد شخصى أو إكتساب بيئى وإنما هى نتيجة لغرس إلهى فى أعماق فطرة الإنسان
وتستمد أحكام العقل قيمتها الأخلاقية من كونها غرس حكيم خبير فى الإنسان..

هذا طبعا للعقل الذى لم ينتكس ..والفطرة التى لم تنطمس
والله أعلم

هشام بن الزبير
12-10-2010, 03:48 PM
جزاك الله خيرا


وجــزاك الله خيــــرا أخي الكــــريم.

هشام بن الزبير
12-10-2010, 04:08 PM
هل يمكن إعادة صياغة الفقرة هكذا ..؟؟
الأحكام الأخلاقية التى تتضمن الإستحسان والأستقباح الصادرة عن العقل ثابتة وموحدة
لا تختلف بين البشر على مدار الدهور وإختلاف المجتمعات ..
وهذا يدل على أنها ليست نتيجة جهد شخصى أو إكتساب بيئى وإنما هى نتيجة لغرس إلهى فى أعماق فطرة الإنسان
وتستمد أحكام العقل قيمتها الأخلاقية من كونها غرس حكيم خبير فى الإنسان..

هذا طبعا للعقل الذى لم ينتكس ..والفطرة التى لم تنطمس
والله أعلم


أخي الكريم حسن,
جزاك الله خيرا على حسن تعليقك,

لقد لامست في كلامك جوهر المسألة, لذا فأنا أنقل بعض الفوائد من كتاب الشيخ, زيادة في الإيضاح, ورغبة في المذاكرة, واستحثاثا لأقلام الإخوان.
وقد قمت بصياغة أفكار الشيخ مصدرة بأسئلة تمييزا للب المسألة:

ما هو الدليل على أن ملكة الأخلاق قد غرست في الفطرة الإنسانية؟

القرآن يقرر أن الله ألهم النفس الإحساس بالخير وبالشر: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}1. وزود الإنسان ببصيرة أخلاقية: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}. وهداه طريقي الفضيلة والرذيلة: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، حقًّا {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}. ولكن الإنسان قادر على أن يحكم أهواءه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}.

ما دور العقل في العمل الأخلاقي؟

النفس ألهمت التمييز الأخلاقي بين الخير والشر والعقل يأمر وينهى وفق ذلك الميزان الفطري الدقيق. قال تعالى: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}.

هل من دليل ملموس على تمييزنا الدقيق للخير والشر؟

إحساسنا بالندم يؤكد هذا الازدواج بين الفطرة والعقل، فإذا قصرنا في واجب أخلاقي نحسّ أننا قد هبطنا إلى مستوى غير لائق بكرامتنا, وهذا اعتراف أننا مخلوقات نبيلة زلت, ولسنا مخلوقات منحطة لا تكترث لشيء. إذن هذا الشعور بكرامتنا الأصلية يدل على تجذر الملكة الأخلاقية في أعماقنا.

ما الدليل من القرآن على كرامتنا الأصلية وما موقفه منها؟

القرآن يوقظ هذا الإحساس بالكرامة الأصلية: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}, {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} عموما يبدو لنا أن القرآن لا ينظر إلى الطبيعة الإنسانية على أنها شريرة في أصلها، ولا على أنها فاسدة فسادًا عضالًا، بل بالعكس: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ولن ينحط إلا من ترك الإيمان والعمل الصالح: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، ولن يهلك إلا الذين: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.

هل نملك حقا الاختيار مادام هذا الحس الأخلاقي موجودا سلفا؟

طبعا, فالأمر, أمر اختيار حر دنيوي، وهو يرجع إلى استخدامنا الحسن أو السيئ لملكاتنا العليا، وهي ملكات ترفع تزكيتها النفسَ، كما يدسيها ويطمسها إهمالها.
ما دام الأمر على هذه الصورة, فهل يستقل العقل بمعرفة الخير والشر وتمييز الواجبات الأخلاقية دون وحي؟

ألا يمكن أن نكل مهمة التشريع إلى العقل؟

هذا مبحث خاض فيه أهل الكلام, تحت عنوان التحسين والتقبيح العقليين. ولنضرب مثالا مما يتحير العقل إزاءه:ألا وهو العبادات.
فهل للعقل سبيل إلى معرفتها بيقين؟ كلا بل إنه لا يخرج عن حاتين:
إما أن يبقى متحيرا مترددا لا يقطع بشيء,
وإما أن يهيم في الافتراضات والأوهام والتخيلات.

وماذا عن الفطرة ألا تكفي كمعيار لتقييم الأعمال تقييما أخلاقيا؟

نور الفطرة قد يغلفه الهوى وتفسده العادة, فلا بد له إذن من توجيه, فماعدا بعض الواجبات الأساسية المجمع عليها بين الأسوياء, فإن اليقين الأخلاقي سيتلاشى تدريجيا أمام الشكوك والأوهام.

وما أمثلة ذلك؟

منها المسائل التالية:
كيف يتصرف المظلوم؟ هل يقتص، أم يعفو، أم له الخيار؟
وهل ينبغي أن نساعد الفقراء والمساكين ليستعفوا، أم الأولى أن نتركهم ليتدبروا أمورهم بأنفسهم؟
فلو بدأنا طرح الأسئلة حول العبادات والمعاملات والجنايات فستتشعب الآراء، وسوف ترد العقول على العقول، والنفوس على النفوس والأهواء على الأهواء.
فلماذا أضحي برأيي من أجل رأيك؟

من أين نستمد النور الهادي للنفس الإنسانية المتحيرة؟

من أين نلتمسه إن لم نلتمسه من عند خالق النفس تبارك وتقدس: فقال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
فبدل التصور التجريدي الذي اقترحه كانط وأسماه العقل المحض نلجأ إلى الحي القيوم العليم الحكيم.

بعبارة أخرى: الشرع الإلهي هو الذي يكمل الشرع الأخلاقي الفطري.

ففي القرآن يسير السمع والعقل جنبا لجنب: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}. ففي قلب المؤمن نوران, وليس للملحد سوى نور واحد.

فهل نقول بوجود مصدرين للإلزام الأخلاقي؟

كلا بل هما طبقتان لمصدر واحد, أقربهما للناس أقلهما نقاء. فيشترط أولا أن يعترف ضميرنا بنور الفطرة, والعقل يأمرنا باتباع نور الوحي.

والله أعلم.

حسن المرسى
12-11-2010, 04:58 PM
السلام عليكم ورحمة الله
أخى الكريم هشام ..
تلفت الى معنى كبير فى النقولات التى نقلتها أنت هنا ...
وهى أنها نقض فى الصميم لنظريات التحليل النفسى الموجودة..
فبعد مطالعة سريعة لمذهب فرويد وجدته يقسم الشخصية الانسانية لثلاثة اقسام

الهو .. وهى فى إدعائه الجزء الحيوانى الشهوانى الغرائزى المتجرد من أى أخلاق أو مثل فى الإنسان ..
وهو اللاشعور والذى يمثل الفطرة فى رأيه أو الأصل فى الإنسان ..
والأنا الأعلى .. ويمثل الجانب الأخلاقى فى الإنسان لكن فى رأيه هو أن هذا الجانب غير فطرى وإنما ناتج من قيود المجتمع وقوانين التعامل وضوابط الحياة المكتسبة ..
والأنا .. وهو المرحلة الوسطى التى يصل اليها الانسان بين الهو والانا الاعلى
وأظن أن كلام الشيخ هو نقد لهذه النظرة وإثبات أن الفطرة والاصل فى الانسان هو الخير
وربما لو دققنا فى الامر بصورة شرعية سنجد أ، الانسان تكتنفه نوازع الخير والشر .. تبعا لطبيعته البشرية ..المتكونة من الطين والروح التى شرفه الله بها
والله أعلم

هشام بن الزبير
12-11-2010, 08:38 PM
السلام عليكم ورحمة الله
أخى الكريم هشام ..
تلفت الى معنى كبير فى النقولات التى نقلتها أنت هنا ...
وهى أنها نقض فى الصميم لنظريات التحليل النفسى الموجودة..
فبعد مطالعة سريعة لمذهب فرويد وجدته يقسم الشخصية الانسانية لثلاثة اقسام

الهو .. وهى فى إدعائه الجزء الحيوانى الشهوانى الغرائزى المتجرد من أى أخلاق أو مثل فى الإنسان ..
وهو اللاشعور والذى يمثل الفطرة فى رأيه أو الأصل فى الإنسان ..
والأنا الأعلى .. ويمثل الجانب الأخلاقى فى الإنسان لكن فى رأيه هو أن هذا الجانب غير فطرى وإنما ناتج من قيود المجتمع وقوانين التعامل وضوابط الحياة المكتسبة ..
والأنا .. وهو المرحلة الوسطى التى يصل اليها الانسان بين الهو والانا الاعلى
وأظن أن كلام الشيخ هو نقد لهذه النظرة وإثبات أن الفطرة والاصل فى الانسان هو الخير
وربما لو دققنا فى الامر بصورة شرعية سنجد أ، الانسان تكتنفه نوازع الخير والشر .. تبعا لطبيعته البشرية ..المتكونة من الطين والروح التى شرفه الله بها
والله أعلم






أخي الكريم حسن,

صدقت في قولك, إن الشيخ قد نقض التصور الغربي للأخلاق وللسلوك الإنساني عموما.

فرويد حاول تطبيق الفكر المادي على السلوك الإنساني وصبغ ما يصطلح عليه اليوم بعلم النفس, بصبغة الإلحاد.

وقد كنت سمعت الشيخ محمد إسماعيل المقدم يقول, أهل هذا العلم لم يفلحوا في تعريف موضوع علمهم. وقد صدق

فبم يجيبون يا ترى إن سئلوا عن النفس؟ لهذا السبب أصبحوا الآن يستعملون مصطلح السلوك الإنساني.

لنعد إلى مذاكرتنا:

أصل المعضلة التي تواجه العقل الملحد عند النظر إلى موضوع الأخلاق لا تحله نظرية فرويد ولا غيرها من

النظريات المادية. ولنضرب على ذلك مثالا:

تصور أن إنسانا كذب على رئيسه حتى يتخلف عن العمل في يوم حار. ينجح في مسعاه دون مشاكل.

إلى هنا كل شيءعلى ما يرام من الناحية المادية. لو وصفنا الواقع لما حصل أي تضارب مادي.

فالرئيس يظن أن الموظف مريض, والموظف الصحيح يتسمتع بوقته.

لكن هناك أمرا غريبا يحصل: فهذا الإنسان في بيته يشعر بالندم, ويغضب من نفسه

ويحس أنه فعل أمرا مستهجنا قبيحا, يخاف أن يطلع عليه الناس.

السؤال الذي لا يستطيع الفكر المادي أن يجيب عليه دون أن يتناقض هو:

من أين جاء هذا الحكم بقبح وشناعة الكذب؟ بل لماذا قد يحتاج الإنسان أصلا إلى إصدار مثل هذا الحكم؟

لو كان الإنسان يبتكر مبادئه الأخلاقية كما يزعم الماديون, فهذا المثال ينقض ذلك, كيف؟

الرجل كذب لنيل لذة عاجلة, وأفلح في سعيه, ولم يفطن له أحد, لكن شيئا ما بداخله يؤنبه؟ فما هو يا ترى؟

سيجيب أكثرنا: الضمير. فنعود فنسأل؟

من أين علم الضمير بالحكم الذي أصدره؟

نحن نقول من الفطرة. فبم يجيب الملحد يا ترى؟

الشيخ دراز قال كلاما نفيسا معناه أن الضمير إنما يمتح من بئر "القيمة" وأنا أقول من مخزون الفطرة.


والله أعلم.

هشام بن الزبير
12-15-2010, 08:47 PM
إخواني الكرام,

حين نتأمل في كلام الشيخ دراز حول المسألة الأخلاقية في علاقتها مع الفطرة والعقل, يستوقفنا أمر مهم ومثير للتأمل وهو الذي ما زلت أدندن حوله في المشاركات السابقة, أعني أن العقل وإن كان هو الذي يأمر الإنسان وينهاه, لكنه يبقى مفتقرا إلى مقياس يستند إليه في إصدار أحكامه.

ولنضرب لذلك مثالا, تصور إنسانا يمشي في الشارع, فيرى أمامه شخصا تسقط منه محفظة نقوده دون أن يشعر, لنتصور أن الإنسان الذي يشهد هذا ملحد فقير.
لقد علم في هذه اللحظة من طريق الحس أن الرجل أمامه فقد محفظته وفيها ماله وأوراقه دون أن يشعر, بل يستمر في المشي.

هنا يشعر بالتردد, فالعقل يلح عليه أن يخبر صاحب المحفظة بالأمر ونفسه تمنيه بالمال وتزين له الاحتفاظ بالمحفظة, هنا يحتاج لترجيح أحد الأمرين.

الأمر الأول المثير للتأمل هو:
لماذا التردد؟ هو شخص واحد فلماذا يبدو لوهلة كأن ثمت شخصين في جسد واحد؟ كأنهما رجل خيِّر يجادل آخر شريرا. لماذا هذه الازدواجية؟

الأمر الثاني المثير للتأمل هو التالي:
من أين يستقي عقل الملحد الحكم بأن الأمانة واجب أخلاقي؟ هل هناك قانون وضعي ينطبق على هذه الواقعة؟ وهبه موجودا فلا يوجد رقيب ولن يعلم أحد بما جرى, لكن رغم كل شيء العقل لا يزال يلح على هذا الإنسان أن ينبه صاحب المحفظة. لنفترض الآن أنه صبر حتى يبتعد الرجل الآخر ثم استولى على محفظته.

بماذا يشعر؟ لا شك أنه يشعر بالندم ويشعر أنه نزل عن مستوى إنسانيته, على الأقل لن يكون فخورا لو اطلع ابنه مثلا على فعلته, السؤال الذي لا يحير له الماديون جوابا هو: لماذا؟ من منظور مادي, لا يوجد قانون يجرم مافعله هذا الشخص, بل لو أخذنا بالاعتبار كلامهم المتكرر عن الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح, لكانت أنانيته مبررة داخل العالم المادي البحت.

فما سبب تردده ابتداء؟
ومن أين جاء الحكم العقلي على فساد فعله؟
ومن أين جاء ندمه وإحساسه بالهبوط والدناءة؟

العقل كما يقول الشيخ دراز يأمر بشيء موجود أصلا في الإنسان, لأن النفس ألهمت في نشأتها الأولى معرفة الخير والشر, وتمتلك ميزانا دقيقا يستعمله العقل ليزن الأفعال والأقوال الإنسانية من جهة موافقتها أو مخالفتها للمعايير الأخلاقية المتجذرة في النفس.

تصوروا الآن أن هذا الشخص مسلم, فإنه سيدرك بالحس حقيقة ما جرى كما هو الحال مع الملحد تماما, وقد يتساوى معه أيضا في حديث نفسه له بالاستئثار بالمحفظة, وسيأمره عقله بفعل ما تستحسنه الملكة الأخلاقية الفطرية أيضا, إلى هنا لا فرق, الأمر الفارق هو أن عقله سيذكره بحكم اللقطة في السنة, وبوجوب تعريفها, فيخبر صاحب المحفظة, فيزول عنه التردد والوساوس, لماذا؟ لأن نور العقل الذي استند إلى ميزان الفطرة استبان له الحق لورود نور آخر أشد إشراقا وأظهر حجة, ألا وهو نور الوحي.

هكذا يؤيد نور الوحي نور العقل المسترشد بالفطرة ويزكيه وينصره ويتفاعل معه بدرجة كافية لازالة وساوس النفس وخطراتها ولكبح جماح الهوى ولحسم الموقف الذي ينجم عن تعارض نوازع البشرية المتعلقة بالتراب ونوازع الروح المتطلعة إلى رضا رب الأرباب, حينها تسكن النفس وتطمئن ويسلم العقل ويستكين, ويذهب عن الجسم توتره, أليس هذا كله كفيلا بتحقيق السعادة للنفس البشرية المتحيرة؟

فمن فهم هذا علم أن الشريعة الأخلاقية في القرآن والسنة إنما ترد لتهدي الإنسان العاقل المزود ببصيرة أخلاقية أصيلة في نفسه, ولتجنبه دواعي الهوى واتباع الآباء والكبراء بغير علم ولا بصيرة. قال الله تعالى:{ بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره } القيامة:14-15.

والله أعلم.