عمـاد البيــه
12-28-2010, 01:05 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , اللهم صلى على محمد و آله و أصحابه و تابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة"
رواه البخاري
عن ابن عباس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له"
رواه أحمد و مسلم و أبو داود و النسائي.
عن أبي سعيد الخدري:
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"
رواه البخاري.
عن أنس بن مالك:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
رواه أحمد و البخاري و مالك.
عن أبي سعيد الخدري:
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره".
رواه أحمد و البخاري.
عن أبي قتادة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره"
رواه مسلم و أبو داود و مالك و الترمذي و صححه
الأحاديث المتقدمة تبين أن الرؤيا الصالحة هى مما بقى من النبوة في هذه الأمة و هى من المبشرات لمن يراها.
و لما كانت الرؤيا الصالحة بهذه الصفة و لما كان هناك أكثر من نوع من الرؤى يختلط في كثير من الأحيان بعضها على الناس فكانت الحاجة لتناول موضوع الرؤيا بشئ من التفصيل
و نرجوا من الله أن يهدينا للحق و يوفقنا في إدراكه و في إيصاله.
هناك ثلاثة مباحث في شأن الرؤيا:
المبحث الأول: ما هي الرؤيا الصالحة التي هي من المبشرات ؟
المبحث الثاني: الرؤيا الصادقة التي فيها مكروه يتحقق هل هي من الله أم من الشيطان؟
المبحث الثالث: تعبير الرؤيا
المبحث الأول: ما هي الرؤيا الصالحة التي هي من المبشرات ؟
ما هي الرؤيا الصالحة ؟ كيف نحكم على رؤيا أنها صالحة و أنها جزء من النبوة كما ورد في الحديث؟
هل هي الرؤيا الصادقة التي تتحقق, أم هي الرؤيا التي فيها ما يسر المرء , أم هي أى رؤيا يراها المؤمن؟
إن الروايات و الألفاظ التي جاءت في الرؤيا كثيرة فتارة "الصالحة" و أخرى "الحسنة" و أخرى أكثر تقييدا "الحسنة من الرجل الصالح" و أخرى أكثر تعميما "رؤيا المؤمن" و أخرى أكثر تعميما "رؤيا المسلم".
و لذا كان هناك بعض الخلاف فى تحديد معناها
قال أبو الوليد سليمان بن خلف في شرح حديث "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة":
قوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الحسنة يحتمل - والله أعلم - أن يريد به الصادقة ويحتمل أن يريد به المبشرة.
(المنتقى شرح موطأ مالك - كتاب: الجامع - باب: ما جاء في الرؤيا)
كما قال ابن حجر:
قوله ( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح )
هذا يقيد ما أطلق في غير هذه الرواية كقوله " رؤيا المؤمن جزء " ولم يقيدها بكونها حسنة ولا بأن رائيها صالح ووقع في حديث أبي سعيد " الرؤيا الصالحة " وهو تفسير المراد بالحسنة هنا. إنتهى كلامه
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: رؤيا الصالحين)
و يظهر أن الصحيح هو أن الرؤيا الصالحة المقصودة هي المبشرة و لسيت هي الرؤيا الصادقة التي تتحقق بخير أو شر و ذلك لعدة أسباب:
أولا: وصفها في الحديث بأنها من المبشرات يستلزم أنها تبشر بخير و على ذلك فقول كثير من أهل التعبير أنها قد تحمل إما بشارة أو إنذار فيه نظر إذ أن الإنذار عكس البشرى و على ذلك لا يجب القول بأن الرؤيا الصالحة التي وصفها الحديث بأنها من المبشرات (المنبئات بالخير) بأنها تشمل أيضا عكس المبشرات وهي المنبئات بالشر.
و قيل: أن المنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة لأن من أنذر بما سيقع له ولو كان لا يسره أحسن حالا ممن هجم عليه ذلك فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه فيكون ذلك تخفيفا عنه ورفقا به.
قلت: و لكن مثل ذلك لا يسمى بشرى.
ثانيا: قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي في صحيح مسلم و مسند أحمد و سنن أبي داود و النسائي "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له"
فعبارة "تُرَى له" دليل على أن المقصود بها الرؤيا المبشرة بالخير إذ لو كان المقصود بها الرؤيا التي تقع أو تتحقق أيا كانت فإن فضلها في هذه الحالة سيعود دائما على من رآها فقط.
وعلى سبيل المثال لو أن أحدا رأى في المنام أن أخا له سيرزق بمولود فتحققت و رزق أخاه بمولود فلمن إذن ينسب فضل هذه الرؤيا؟ لو كان المقصود بها صدقها ففضلها إذن يرجع لمن رآها , كذلك لو رأى أن أخاه قد أصابه مكروه و وقع هذا المكروه فإنها أيضا سيرجع صدقها لمن رآها , إذن في كلتا الحالتين عاد صدقها على الرائي. فإذن كيف يمكن أن يعود فضلها إلى من شوهد في الرؤيا و ليس بالضرورة على من شاهد الرؤيا إلا أن يكون معناها "الرؤيا المبشرة بالخير" فهذه هي التي يمكن أن يراها المسلم أو ""تُرَى له" كما جاء في الحديث.
ثالثا: أن صدق الرؤيا يقع للكافر أيضا كما يقع للمسلم و قد وردت أمثلة من القرآن و الأحاديث على هذا أشهرها:
- ما جاء في سورة يوسف في رؤيا ملك مصر و كان كافرا
"وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ" - يوسف: ٤٣
و فسرها نبي الله يوسف عليه السلام:
"قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" - يوسف: ٤٧- ٤٩
قال القرطبي:
هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي صِحَّة رُؤْيَا الْكَافِر , وَأَنَّهَا تَخْرُج عَلَى حَسَب مَا رَأَى.
(تفسير القرآن العظيم للقرطبي - سورة: يوسف آية: ٤٨)
و بالتالي فلا يقال أن المبشرات قد تأتي للكافر فالمبشرات من الفضل الذى لا يكون إلا للصالح أو المسلم.
قال تعالى "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" - يونس: ٦٢-٦٤
قال الحافظ بن كثير في قوله " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال
" "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له
و قد ذكر بن كثير في ذلك عدد من الروايات.
قيل أيضا أن الرؤى تكثر في الصالحين و تقل في غيرهم
تعقيب:
و لكن لم يثبت هذا عن كثير من الصالحين من الصحابة و غيرهم بل من الأنبياء أيضا
فنبي الله يوسف عليه السلام لم يرى في حياته إلا رؤيا واحدة
و لو كانت كثرة الرؤى دليلا على كثرة الصلاح لكان نبي الله يوسف عليه السلام أولى بها
كذلك كثير من الصحابة لم يثبت أنهم رأوا رؤى و بعضهم رأى رؤيا واحدة أو إثنتين في حياته.
قد يسأل سائل: ألم تأتي أحاديث تبين فضل الرؤيا الصادقة لذات صدقها بغض النظر عن كونها تحمل أمرا سارا.
- فقد روى البخاري و مسلم في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح".
- كذلك ما رواه البخاري عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب"
- كذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة"
فيقال هذه الأحاديث تبين أن صدق الرؤيا في ذاته فضل لصاحبها و لذلك وصفت بأنها من النبوة لأنها تنبئ بشئ من الغيب و هي مما حظى به الأنبياء.
و الجواب:
لا خلاف أن الرؤيا الصالحة المبشرة بالخير من الله هي صادقة الخلاف أنه ليس كل رؤيا صادقة تكون مبشرة و بالتالى ليس كل رؤيا تتحقق يقال أنها رؤيا صالحة و أنها من النبوة.
فأما الحديث الأول فليس فيه أن من رؤى النبي الصادقة ما كان غير سار
و أما الحديثان الآخران و غيرهم بنفس المعنى فإنه يلزمنا الجمع بين "لم تكد تكذب" و بين "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا" إذ أن الأولى في ظاهرها تشير لعدم إحتمال وقوع الكذب أو وقوعه على الندرة و الثانية إلى وقوع الكذب ولكن بدرجات متفاوتة حسب صدق الرائي
- قال الحافظ بن حجر
لم تكد إلخ فيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا وإن أمكن أن شيئا منها لا يصدق , والراجح أن المراد نفي الكذب عنها أصلا لأن حرف النفي الداخل على " كاد " ينفي قرب حصوله والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه ذكره الطيبي. (فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: القيد في المنام).
- كذا قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:
لم تكد
أي لم يقرب.
(تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي - كتاب: الرؤيا عن رسول الله - باب: أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة).
- كذا قال القرطبي في تفسير قوله تعالى "إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا"
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
أي من شدة الظلمات . قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى لم يرها ولم يكد ; وهو معنى قول الحسن . ومعنى " لم يكد " لم يطمع أن يراها. وقال الفراء : كاد صلة , أي لم يرها ; كما تقول : ما كدت أعرفه . وقال المبرد : يعني لم يرها إلا من بعد الجهد ; كما تقول : ما كدت أراك من الظلمة , وقد رآه بعد يأس وشدة.
(تفسير القرآن العظيم للقرطبي - سورة: النور آية: ٤٠).
فالظاهر من الحديث أنه في الزمان المشار إليه فإن أي رؤيا يراها المسلم هي صادقة و من جهة أخرى يبين أن مدى صدقها يعتمد على صدق الرائي فييفهم من ذلك أن الخلل و الكذب قد يدخل على رؤيا المسلم الذي لا يتصف بالصدق في حديثه , و للجمع بين القولين:
ينبغي أن يقال الرؤيا التي لا تكذب هي تمميزا لها عن أضغاث الأحلام و هذا مقيد بأنها تأتي بأمر حسن و أن ظاهرها ليس فيه ما يكره الرائي أو يقلقه لأنها لو كانت فيها مثل هذا كانت حلم من الشيطان و ليست رؤيا و الدليل على هذا الحديث الصحيح
"إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان"
و هذا يرجح تفسير " إذا اقترب الزمان" بأنه زمن المهدي أو زمن نزول عيسى عليه السلام , أورد ذلك بن حجر في شرح الحديث فقال:
"وقيل إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق"
وقال القرطبي في " المفهم " : والمراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث زمان الطائفة الباقية مع عيسى بن مريم بعد قتله الدجال , فقد ذكر مسلم في حديث عبد الله بن عمر ما نصه " فيبعث الله عيسى بن مريم فيمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة , ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضه " الحديث . إنتهى كلامه
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: القيد في المنام)
و أما معناها فقد يكون على حقيقتها كما جاءت في المنام و قد تصح بتأويل و درجة تأويلها تختلف حسب وضوحها فيكون هذا هو المراد بأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا فيكون الصدق هنا عائد على وضوح الرؤيا للتعبير.
قد يعقب السائل: هذا معناه أنه لم يكن في رؤيا الأنبياء الصادقة مايزعج أو ينذر بمكروه فكيف ذلك و خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام رأى أنه يذبح ولده إسماعيل فهذا بالطبع شئ لا يحب أحد أن يفعله لإبنه , و كذلك رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم في نحر البقر فأول البقر على من قُتِلَ من الصحابة يوم أحد. أيضا جاء في الحديث الصحيح - مدرجا من كلام بن سيرين أو أبي هريرة - "وكان يعجبهم القيد ويقال القيد ثبات في الدين" و القيد شئ يكرهه في الغالب الشخص في يقظته فهذا معناه أن الرؤيا و إن كان ظاهرها شئ لا يستحسنه الرائي إلا أنها قد تكون رؤيا صالحة منبأة بخير.
و الجواب:
- أما رؤيا إبراهيم عليه السلام فكانت رؤيا أمر و ليست رؤيا إخبار و هذا معروف عند أهل العلم فرؤيا الأمر هي من التشريع يأتي فيها أمر من الله تعالى و لذلك كان جواب ولده إسماعيل عليه السلام "قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" (سورة: الصافات آية:١٠٢) و هذا لا يكون إلا للأنبياء و الرسل فهذا النوع من الرؤيا و هذا الجزء من أجزاء النبوة قد ذهب بوفاة خاتم الأنبياء و المرسلين. و أما الجزء الباقي في هذه الأمة فهو رؤيا الإخبار و البشارة و هذا يدل على مبدأ هام أيضا لا يعلم فيه خلافا بين أهل العلم و هو أنه:
لا يجوز أخذ تشريع من الرؤيا حتى و لو كانت صادقة.
و سيأتي تفصيل أكثر لهذا في الجزء الثالث من هذا البحث و هو تعبير الرؤيا.
- و أما رؤيا النبي فهذا نص الحديث عند البخاري:
عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
"رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرٌ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ"
و عند أحمد:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
"رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْتُ بَقَرًا مُنَحَّرَةً فَأَوَّلْتُ أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةُ وَأَنَّ الْبَقَرَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ قَالَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ"
واضح من متون الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم وجد في هذه الرؤيا خيرا يسره و الدليل قوله بعد ذكر البقر "وَاللَّهِ خَيْرٌ" , و جاء في رواية في مسند أحمد عن بن عباس "وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ" و في رواية بن إسحاق "وَإِنِّي رَأَيْت وَاَللَّه خَيْرًا , رَأَيْت بَقَرًا" و أما الرواية التي جاء فيها "تَأَوَّلْت الْبَقَرَ الَّتِي رَأَيْت بَقْرًا يَكُون فِينَا" فهذه رواية مرسلة فلم تأتي هذه الزيادة "بَقْرًا يَكُون فِينَا" في الروايات الصحيحة.
- و أما بخصوص الرؤى التي تأويلها عكس ظاهرها كالقيد يفسر بالثبات في الدين و كما يقال الضحك يفسر بالحزن و البكاء بالفرحة و ما شابه ذلك فإننا إذا فرضنا أن شخصا لا يعلم أن تأويل البكاء هو الفرحة - هذا على افتراض أن تأويلها كذلك - و رأى في المنام أنه يبكي فلما استيقظ كره ذلك فعمل بما جاء في الحديث الصحيح "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد" فاستعاذ من شرها ولم يذكرها ظنا منه أنها من الشيطان و حتى لما يتحقق تأويلها و يرزق بفرحة في حياته فلن يعلم إذن أن هذه الفرحة هي تأويل رؤياه , إذن رؤياه هذه لم يكن لها معنى و بالتالي هل يجوز القول أن شخصا يرزق برؤيا صادقة ثم تنسب إلي الشيطان ثم عندما تتحقق لا يدرك ذلك؟ لا يبدوا هذا جائزا أن يقال , إذن الذي يجب أن يقال هو:
أن الرؤى التي تأول بضدها لا تأتي إلا لمن يعلم تأويلها.
و إلا فإنها تأتي بصورة أخرى يعلم منها الرائي جملة على الأقل إن كانت سارة أو مكروهة , فالثبات في الدين مثلا ليس بالضرورة أن يأتي في صورة قيد إن كان الرائي لا يدري أن القيد ثبات في الدين بل يراه شيئا مكروها لكنه يمكن أن يأتى في صور أخرى كثيرة و هكذا بالنسبة لكل رؤيا تؤل بنقيضها , و الله تعالى أعلم.
الحمد لله رب العالمين , اللهم صلى على محمد و آله و أصحابه و تابعيه بإحسان إلى يوم الدين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا وما المبشرات قال الرؤيا الصالحة"
رواه البخاري
عن ابن عباس:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له"
رواه أحمد و مسلم و أبو داود و النسائي.
عن أبي سعيد الخدري:
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"
رواه البخاري.
عن أنس بن مالك:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
رواه أحمد و البخاري و مالك.
عن أبي سعيد الخدري:
أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره".
رواه أحمد و البخاري.
عن أبي قتادة قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الرؤيا من الله والحلم من الشيطان فإذا حلم أحدكم حلما يكرهه فلينفث عن يساره ثلاثا وليتعوذ بالله من شرها فإنها لن تضره"
رواه مسلم و أبو داود و مالك و الترمذي و صححه
الأحاديث المتقدمة تبين أن الرؤيا الصالحة هى مما بقى من النبوة في هذه الأمة و هى من المبشرات لمن يراها.
و لما كانت الرؤيا الصالحة بهذه الصفة و لما كان هناك أكثر من نوع من الرؤى يختلط في كثير من الأحيان بعضها على الناس فكانت الحاجة لتناول موضوع الرؤيا بشئ من التفصيل
و نرجوا من الله أن يهدينا للحق و يوفقنا في إدراكه و في إيصاله.
هناك ثلاثة مباحث في شأن الرؤيا:
المبحث الأول: ما هي الرؤيا الصالحة التي هي من المبشرات ؟
المبحث الثاني: الرؤيا الصادقة التي فيها مكروه يتحقق هل هي من الله أم من الشيطان؟
المبحث الثالث: تعبير الرؤيا
المبحث الأول: ما هي الرؤيا الصالحة التي هي من المبشرات ؟
ما هي الرؤيا الصالحة ؟ كيف نحكم على رؤيا أنها صالحة و أنها جزء من النبوة كما ورد في الحديث؟
هل هي الرؤيا الصادقة التي تتحقق, أم هي الرؤيا التي فيها ما يسر المرء , أم هي أى رؤيا يراها المؤمن؟
إن الروايات و الألفاظ التي جاءت في الرؤيا كثيرة فتارة "الصالحة" و أخرى "الحسنة" و أخرى أكثر تقييدا "الحسنة من الرجل الصالح" و أخرى أكثر تعميما "رؤيا المؤمن" و أخرى أكثر تعميما "رؤيا المسلم".
و لذا كان هناك بعض الخلاف فى تحديد معناها
قال أبو الوليد سليمان بن خلف في شرح حديث "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة":
قوله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الحسنة يحتمل - والله أعلم - أن يريد به الصادقة ويحتمل أن يريد به المبشرة.
(المنتقى شرح موطأ مالك - كتاب: الجامع - باب: ما جاء في الرؤيا)
كما قال ابن حجر:
قوله ( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح )
هذا يقيد ما أطلق في غير هذه الرواية كقوله " رؤيا المؤمن جزء " ولم يقيدها بكونها حسنة ولا بأن رائيها صالح ووقع في حديث أبي سعيد " الرؤيا الصالحة " وهو تفسير المراد بالحسنة هنا. إنتهى كلامه
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: رؤيا الصالحين)
و يظهر أن الصحيح هو أن الرؤيا الصالحة المقصودة هي المبشرة و لسيت هي الرؤيا الصادقة التي تتحقق بخير أو شر و ذلك لعدة أسباب:
أولا: وصفها في الحديث بأنها من المبشرات يستلزم أنها تبشر بخير و على ذلك فقول كثير من أهل التعبير أنها قد تحمل إما بشارة أو إنذار فيه نظر إذ أن الإنذار عكس البشرى و على ذلك لا يجب القول بأن الرؤيا الصالحة التي وصفها الحديث بأنها من المبشرات (المنبئات بالخير) بأنها تشمل أيضا عكس المبشرات وهي المنبئات بالشر.
و قيل: أن المنذورة قد ترجع إلى معنى المبشرة لأن من أنذر بما سيقع له ولو كان لا يسره أحسن حالا ممن هجم عليه ذلك فإنه ينزعج ما لا ينزعج من كان يعلم بوقوعه فيكون ذلك تخفيفا عنه ورفقا به.
قلت: و لكن مثل ذلك لا يسمى بشرى.
ثانيا: قوله صلى الله عليه و سلم في الحديث الذي في صحيح مسلم و مسند أحمد و سنن أبي داود و النسائي "إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له"
فعبارة "تُرَى له" دليل على أن المقصود بها الرؤيا المبشرة بالخير إذ لو كان المقصود بها الرؤيا التي تقع أو تتحقق أيا كانت فإن فضلها في هذه الحالة سيعود دائما على من رآها فقط.
وعلى سبيل المثال لو أن أحدا رأى في المنام أن أخا له سيرزق بمولود فتحققت و رزق أخاه بمولود فلمن إذن ينسب فضل هذه الرؤيا؟ لو كان المقصود بها صدقها ففضلها إذن يرجع لمن رآها , كذلك لو رأى أن أخاه قد أصابه مكروه و وقع هذا المكروه فإنها أيضا سيرجع صدقها لمن رآها , إذن في كلتا الحالتين عاد صدقها على الرائي. فإذن كيف يمكن أن يعود فضلها إلى من شوهد في الرؤيا و ليس بالضرورة على من شاهد الرؤيا إلا أن يكون معناها "الرؤيا المبشرة بالخير" فهذه هي التي يمكن أن يراها المسلم أو ""تُرَى له" كما جاء في الحديث.
ثالثا: أن صدق الرؤيا يقع للكافر أيضا كما يقع للمسلم و قد وردت أمثلة من القرآن و الأحاديث على هذا أشهرها:
- ما جاء في سورة يوسف في رؤيا ملك مصر و كان كافرا
"وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ" - يوسف: ٤٣
و فسرها نبي الله يوسف عليه السلام:
"قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ" - يوسف: ٤٧- ٤٩
قال القرطبي:
هَذِهِ الْآيَة أَصْل فِي صِحَّة رُؤْيَا الْكَافِر , وَأَنَّهَا تَخْرُج عَلَى حَسَب مَا رَأَى.
(تفسير القرآن العظيم للقرطبي - سورة: يوسف آية: ٤٨)
و بالتالي فلا يقال أن المبشرات قد تأتي للكافر فالمبشرات من الفضل الذى لا يكون إلا للصالح أو المسلم.
قال تعالى "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" - يونس: ٦٢-٦٤
قال الحافظ بن كثير في قوله " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال
" "الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له
و قد ذكر بن كثير في ذلك عدد من الروايات.
قيل أيضا أن الرؤى تكثر في الصالحين و تقل في غيرهم
تعقيب:
و لكن لم يثبت هذا عن كثير من الصالحين من الصحابة و غيرهم بل من الأنبياء أيضا
فنبي الله يوسف عليه السلام لم يرى في حياته إلا رؤيا واحدة
و لو كانت كثرة الرؤى دليلا على كثرة الصلاح لكان نبي الله يوسف عليه السلام أولى بها
كذلك كثير من الصحابة لم يثبت أنهم رأوا رؤى و بعضهم رأى رؤيا واحدة أو إثنتين في حياته.
قد يسأل سائل: ألم تأتي أحاديث تبين فضل الرؤيا الصادقة لذات صدقها بغض النظر عن كونها تحمل أمرا سارا.
- فقد روى البخاري و مسلم في صحيحهما عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح".
- كذلك ما رواه البخاري عن محمد بن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وما كان من النبوة فإنه لا يكذب"
- كذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ورؤيا المسلم جزء من خمس وأربعين جزءا من النبوة"
فيقال هذه الأحاديث تبين أن صدق الرؤيا في ذاته فضل لصاحبها و لذلك وصفت بأنها من النبوة لأنها تنبئ بشئ من الغيب و هي مما حظى به الأنبياء.
و الجواب:
لا خلاف أن الرؤيا الصالحة المبشرة بالخير من الله هي صادقة الخلاف أنه ليس كل رؤيا صادقة تكون مبشرة و بالتالى ليس كل رؤيا تتحقق يقال أنها رؤيا صالحة و أنها من النبوة.
فأما الحديث الأول فليس فيه أن من رؤى النبي الصادقة ما كان غير سار
و أما الحديثان الآخران و غيرهم بنفس المعنى فإنه يلزمنا الجمع بين "لم تكد تكذب" و بين "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا" إذ أن الأولى في ظاهرها تشير لعدم إحتمال وقوع الكذب أو وقوعه على الندرة و الثانية إلى وقوع الكذب ولكن بدرجات متفاوتة حسب صدق الرائي
- قال الحافظ بن حجر
لم تكد إلخ فيه إشارة إلى غلبة الصدق على الرؤيا وإن أمكن أن شيئا منها لا يصدق , والراجح أن المراد نفي الكذب عنها أصلا لأن حرف النفي الداخل على " كاد " ينفي قرب حصوله والنافي لقرب حصول الشيء أدل على نفيه نفسه ذكره الطيبي. (فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: القيد في المنام).
- كذا قال المباركفوري في تحفة الأحوذي:
لم تكد
أي لم يقرب.
(تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي - كتاب: الرؤيا عن رسول الله - باب: أن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة).
- كذا قال القرطبي في تفسير قوله تعالى "إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا"
لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا.
أي من شدة الظلمات . قال الزجاج وأبو عبيدة : المعنى لم يرها ولم يكد ; وهو معنى قول الحسن . ومعنى " لم يكد " لم يطمع أن يراها. وقال الفراء : كاد صلة , أي لم يرها ; كما تقول : ما كدت أعرفه . وقال المبرد : يعني لم يرها إلا من بعد الجهد ; كما تقول : ما كدت أراك من الظلمة , وقد رآه بعد يأس وشدة.
(تفسير القرآن العظيم للقرطبي - سورة: النور آية: ٤٠).
فالظاهر من الحديث أنه في الزمان المشار إليه فإن أي رؤيا يراها المسلم هي صادقة و من جهة أخرى يبين أن مدى صدقها يعتمد على صدق الرائي فييفهم من ذلك أن الخلل و الكذب قد يدخل على رؤيا المسلم الذي لا يتصف بالصدق في حديثه , و للجمع بين القولين:
ينبغي أن يقال الرؤيا التي لا تكذب هي تمميزا لها عن أضغاث الأحلام و هذا مقيد بأنها تأتي بأمر حسن و أن ظاهرها ليس فيه ما يكره الرائي أو يقلقه لأنها لو كانت فيها مثل هذا كانت حلم من الشيطان و ليست رؤيا و الدليل على هذا الحديث الصحيح
"إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله فليحمد الله عليها وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان"
و هذا يرجح تفسير " إذا اقترب الزمان" بأنه زمن المهدي أو زمن نزول عيسى عليه السلام , أورد ذلك بن حجر في شرح الحديث فقال:
"وقيل إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق"
وقال القرطبي في " المفهم " : والمراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث زمان الطائفة الباقية مع عيسى بن مريم بعد قتله الدجال , فقد ذكر مسلم في حديث عبد الله بن عمر ما نصه " فيبعث الله عيسى بن مريم فيمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة , ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضه " الحديث . إنتهى كلامه
(فتح الباري بشرح صحيح البخاري - كتاب: التعبير - باب: القيد في المنام)
و أما معناها فقد يكون على حقيقتها كما جاءت في المنام و قد تصح بتأويل و درجة تأويلها تختلف حسب وضوحها فيكون هذا هو المراد بأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا فيكون الصدق هنا عائد على وضوح الرؤيا للتعبير.
قد يعقب السائل: هذا معناه أنه لم يكن في رؤيا الأنبياء الصادقة مايزعج أو ينذر بمكروه فكيف ذلك و خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام رأى أنه يذبح ولده إسماعيل فهذا بالطبع شئ لا يحب أحد أن يفعله لإبنه , و كذلك رؤيا النبي صلى الله عليه و سلم في نحر البقر فأول البقر على من قُتِلَ من الصحابة يوم أحد. أيضا جاء في الحديث الصحيح - مدرجا من كلام بن سيرين أو أبي هريرة - "وكان يعجبهم القيد ويقال القيد ثبات في الدين" و القيد شئ يكرهه في الغالب الشخص في يقظته فهذا معناه أن الرؤيا و إن كان ظاهرها شئ لا يستحسنه الرائي إلا أنها قد تكون رؤيا صالحة منبأة بخير.
و الجواب:
- أما رؤيا إبراهيم عليه السلام فكانت رؤيا أمر و ليست رؤيا إخبار و هذا معروف عند أهل العلم فرؤيا الأمر هي من التشريع يأتي فيها أمر من الله تعالى و لذلك كان جواب ولده إسماعيل عليه السلام "قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" (سورة: الصافات آية:١٠٢) و هذا لا يكون إلا للأنبياء و الرسل فهذا النوع من الرؤيا و هذا الجزء من أجزاء النبوة قد ذهب بوفاة خاتم الأنبياء و المرسلين. و أما الجزء الباقي في هذه الأمة فهو رؤيا الإخبار و البشارة و هذا يدل على مبدأ هام أيضا لا يعلم فيه خلافا بين أهل العلم و هو أنه:
لا يجوز أخذ تشريع من الرؤيا حتى و لو كانت صادقة.
و سيأتي تفصيل أكثر لهذا في الجزء الثالث من هذا البحث و هو تعبير الرؤيا.
- و أما رؤيا النبي فهذا نص الحديث عند البخاري:
عَنْ أَبِي مُوسَى أُرَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
"رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرٌ فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ وَرَأَيْتُ فِيهَا بَقَرًا وَاللَّهِ خَيْرٌ فَإِذَا هُمْ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ مِنْ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتَانَا اللَّهُ بِهِ بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ"
و عند أحمد:
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال
"رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ وَرَأَيْتُ بَقَرًا مُنَحَّرَةً فَأَوَّلْتُ أَنَّ الدِّرْعَ الْحَصِينَةَ الْمَدِينَةُ وَأَنَّ الْبَقَرَ هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ قَالَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ"
واضح من متون الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم وجد في هذه الرؤيا خيرا يسره و الدليل قوله بعد ذكر البقر "وَاللَّهِ خَيْرٌ" , و جاء في رواية في مسند أحمد عن بن عباس "وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ فَبَقَرٌ وَاللَّهِ خَيْرٌ" و في رواية بن إسحاق "وَإِنِّي رَأَيْت وَاَللَّه خَيْرًا , رَأَيْت بَقَرًا" و أما الرواية التي جاء فيها "تَأَوَّلْت الْبَقَرَ الَّتِي رَأَيْت بَقْرًا يَكُون فِينَا" فهذه رواية مرسلة فلم تأتي هذه الزيادة "بَقْرًا يَكُون فِينَا" في الروايات الصحيحة.
- و أما بخصوص الرؤى التي تأويلها عكس ظاهرها كالقيد يفسر بالثبات في الدين و كما يقال الضحك يفسر بالحزن و البكاء بالفرحة و ما شابه ذلك فإننا إذا فرضنا أن شخصا لا يعلم أن تأويل البكاء هو الفرحة - هذا على افتراض أن تأويلها كذلك - و رأى في المنام أنه يبكي فلما استيقظ كره ذلك فعمل بما جاء في الحديث الصحيح "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد" فاستعاذ من شرها ولم يذكرها ظنا منه أنها من الشيطان و حتى لما يتحقق تأويلها و يرزق بفرحة في حياته فلن يعلم إذن أن هذه الفرحة هي تأويل رؤياه , إذن رؤياه هذه لم يكن لها معنى و بالتالي هل يجوز القول أن شخصا يرزق برؤيا صادقة ثم تنسب إلي الشيطان ثم عندما تتحقق لا يدرك ذلك؟ لا يبدوا هذا جائزا أن يقال , إذن الذي يجب أن يقال هو:
أن الرؤى التي تأول بضدها لا تأتي إلا لمن يعلم تأويلها.
و إلا فإنها تأتي بصورة أخرى يعلم منها الرائي جملة على الأقل إن كانت سارة أو مكروهة , فالثبات في الدين مثلا ليس بالضرورة أن يأتي في صورة قيد إن كان الرائي لا يدري أن القيد ثبات في الدين بل يراه شيئا مكروها لكنه يمكن أن يأتى في صور أخرى كثيرة و هكذا بالنسبة لكل رؤيا تؤل بنقيضها , و الله تعالى أعلم.