المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسمي حليم.. حليم حيران



هشام بن الزبير
02-17-2011, 07:14 PM
هذه يوميات حليم حيران, أهديها لحائك عياض: http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=27946
فحليم يُجري القلم على بياض كراسه, كما يدير الحائك بكرة خيوطه, وكلاهما حائك, ولعلهما يلتقيان يوما في منتصف الطريق أو آخره, ولست أدري ماذا أسمي خربشاتي هذه, فلتكن كلمات مرتجلة أخطها حسب ما تجود به القريحة, وما يعتمل في النفس, من قبض وبسط, ومن فرح وترح, فالمرء إذا استأنس بإخوانه واستشعر أنه في بيته, انبسط في كتابته كما ينبسط أحدنا مع خلانه في كلامه :):
وعلى عادة السينمائيين أقول: إن كل تشابه بين الشخصيات والأماكن التي سترد تباعا مجرد توافق غير مقصود, فوجب التنبيه :o:



حليم حيران بين الكابوس والكراس

امتدت إليه يد, أحس بها على قفاه, زالت العصابة السوداء, فجأة أبصر العالم من جديد, سمع صرير الباب, وقبل أن يتبين المكان من حوله طرق أذنيه صوت هادئ هامس:
"حدثنا عنك..حدثنا عن كل شيء..وليس يخفى علينا شيء...وأنت شيء..بل لا شيء..ما اسمك؟"
"حليم, يدعوني أصحابي حليمو.."
قاطعني في هدوء نبرته المريب: "هل تحسب نفسك في مقهى؟ اسمك الكامل؟"
"حليم حيران"
"سنك؟"
"خمس وعشرون"
"اسم التنظيم؟"
"أي تنظيم؟ أنا طالب.."
أشار إلي بكفه في برود أن أكف عن الكلام وقال: "انظر حولك"
نظرت فإذا حجرة ضيقة كالقبو مظلمة, لا نوافذ, لا أثاث, لا فراش, كل ماهنالك كرسيان وهذه الأسئلة التي تنهال علي.. "هل فهمت الأمر؟ هذا الذي تراه هو كل عالمك, فإن تكلمت رجعت إلى الحياة, فأنت لا شيء ونحن كل شيء"...

تحدرت قطرة عرق من جبيني ولمحتها كيف تسيل على أنفي لتقع على الأرض, تخيلت نفسي بركة من ماء يبلعها التراب حتى أنجو من هذا المكان الكريه, وأسلم من هاته السهام الثاقبة التي يصوبها نحوي هذا الغريب من عينيه ومن فيه..
"طيب, سأتكلم, سأقول كل شيء تريده..."

عاود السؤال: "اسم التنظيم؟" دارت بي الأرض وتمنيت لو أني جالست أي جماعة أو حزب ولو للحظة... كم هو مخطئ من يظن أن السلامة في ترك السياسة, هائنذا أعجز أمام سؤال واحد, ألم يكن التحزب لشيء ما أنفع لي؟ أوليس في الغرب أحزاب للحمير وللقطط والكلاب؟ ماذا لو كنت عضوا في أحدها؟ ربما ينجيني أن أجيب الآن: "أنا عضو مؤسس في رابطة الدفاع عن حقوق الكلاب الضالة" أو "أنا من أنصار البيئة, جناح الطواحين الهوائية" ياليتني كنت عضوا في أي تنظيم مهما كان! يا إلهي ماذا أقول؟ يا إلهي أغثني...

انتفضت مرتعبا, وتشرب الفراش عرقا, فتحت عيني: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور" جلست وأنا أفرك النوم عن عيني وألهث كأني نجوت للتو من أسد ضار..."الحمد لله". أسبغت الوضوء وصليت ركعتين أدعو ربي وأدافع الكابوس الشيطاني عن قلبي...دنا الفجر فخرجت إلى المسجد, مشيت وأنا أتوجس خيفة من كل حركة ويكاد قلبي يطير لصوت أي سيارة... افتتح الإمام الصلاة وقرأ بسورتين من قصار المفصل, يا له من نقّار! تمنيت لو صليت الكسوف خلف قارئ متقن يختم بنا البقرة, لأستأنس بكلام ربي, سبحان الله, بضع آيات في لحظات, أهذا قرآن الفجر؟ جلست أسبح وقلبي يهيم في أودية الأفكار حتى ربت أحدهم على كتفي: "معذرة, سنغلق المسجد يا بني"..."نعم نعم..." خرجت أجر قدمي وقد قررت في نفسي أمرا: "سأكتب, سأكتب كل شيء, إن بداخلي عالما يمور كالبحر الهادر, لا يجد له أنفا يتنفس منه, فلأكتب إذن قبل أن أجن..".

دخلت الغرفة, أعددت فنجان قهوة وأفطرت على تمر ثم أخذت كراسا وقلما...أحسست برعشة تنتابني..سألت نفسي: "ولمن تكتب؟" فأجبت: "للمستقبل... للذين يحملهم الزمان في رحمه...فلأكتب وحسب..."
فتحت الكراس وشرعت أنظر في البياض أمامي, فإذا به يستحيل داكنا حتى ارتسمت فيه صورة غرفة "التحقيق" في برودها الرهيب وظلمتها القاسية, وارتجّت فجأة بذلك السؤال المخيف: "حدثنا عنك, أخبرنا بكل شيء..."

جرى القلم على الصحيفة ليبدأ رحلة استخراج العالم الكامن الذي انثنت عليه نفسي:
" اسمي حليم, حليم حيران, لو جئتني في الحارة فاسأل عن حليمو, حليمو فرد واحد, أما حليم حيران فلست أدري حاله, أفرد أم اثنان أم ألف أم ألفان؟ قد يكون حليم حيران جيلا كاملا أو جيلين, لو كنت أدري ما كنت بهذه الحيرة, ولما كنت كما تراني الساعة, ولست أدري أيضا من حليم ولا من حيران, هل حيران أبو حليم أم حليم أبو حيران, أنا أدعوه الوالد, ولم يتح لنا صخب الحياة أن نتأمل شجرة النسب, أنا حيران فعلا, لعله هو الحليم إذن...كيف جئت ههنا وكيف أصبحت يا حليم؟

بدأ القلم يشق أرض البياض كالمحراث ويخلف طريقا متعرجا متلفعا بالسواد, يامداد أستأمنك على بنات فكري, ويا بياض أستودعك خبيئة نفسي فاحفظها جيدا...تخيلت نفسي بئرا عميقة, أغمضت عيني وانزلقت ومعي القلم لأصل إلى قرار, لأرى الطفل الذي كنتُه. رأيت أمي, ورأيتني ورأيت بئرا.. هذه الفتاة اليفعة الصبور...إنها أمي, هل شعرتهم؟ تغير العالم و"تعولمت" الأمم, وانقلبت الموازين, وغدا السواد بياضا والصحاري رياضا وجن العقلاء وتأمر المجانين, لكن أمي هي أمي, أرى بئرا, فقد كان للناس آبار صغيرة في بيوتهم يستقون منها الماء, لماذا ترتسم هذه الصورة في مخيلتي وتتدثر بالحزن؟ هل من صلة بين البئر والحزن؟ لماذا تستثير البئر دموعي؟ هل كان يعقوب عليه السلام يتصور حبيب قلبه ملقى في بئر فيبكي؟

أرى طفلا في خفة الطير, يركض ويلهو, ويمرح ويعدو, ينتبه لكل ذرة تتحرك في العالم الصغير من حوله, يحفظ أماكن الأشياء وألوانها وروائحها, ينتبه لمن يلقاهم فردا فردا, يميز نبرات أصواتهم, طرائق مشيهم, تقاسيم وجوههم, ألوان جلودهم, لقد كانت عيناه تسجل كل شيء, وعقله الصغير يدون كل شيء, فهل كان هذا ما يسأل عنه "المحقق" الهادئ في الكابوس الخانق؟ لست أدري, فلأكتب إذن حتى إذا اقتادوني يوما "وراء الشمس" وسألوني "عن كل شيء" أخبرتهم أن كل شيء في هذا الكراس...اسمي حليم حيران...حتى اذا فرغوا عند آخر صفحة صاروا حقا يعلمون عني كل شيء...

زينب من المغرب
02-17-2011, 07:45 PM
إن كل تشابه بين الشخصيات والأماكن التي سترد تباعا مجرد توافق غير مقصود, فوجب التنبيه :o:


جملة مهمة يندم من يغفل عنها.
بارك الله فيك.
متابعة.

هشام بن الزبير
02-17-2011, 08:02 PM
وفيك بارك الله,
أنا أسعد بتعليقات أدباء المنتدى الكرام, خصوصا ما دام الموضوع غضا طريا قابلا للتعديل أو الحذف :):

إلى حب الله
02-17-2011, 10:45 PM
" أرى طفلا في خفة الطير, يركض ويلهو, ويمرح ويعدو, ينتبه لكل ذرة تتحرك في العالم الصغير من حوله, يحفظ أماكن الأشياء وألوانها وروائحها, ينتبه لمن يلقاهم فردا فردا, يميز نبرات أصواتهم, طرائق مشيهم, تقاسيم وجوههم, ألوان جلودهم, لقد كانت عيناه تسجل كل شيء, وعقله الصغير يدون كل شيء " ..
أرى أن بدايات الأشخاص المُميزين فكريا ًحتى قبل دينيا ً: قد تكون واحدة .. أو حتى تتشابه إلى حدٍ بعيد :ANSmile:
والفرق بين ما قلته أخي عن طفولتك : مقارنة ًبما صرت أنا عليه الآن :
أني بـِتُ (ومن كثرة المشاهدات والملاحظات لما حولي) :
لا أهتم بحفظ الأسماء والأماكن و و و و و و ......!!
فالكمّ الذي بات يُخرجه لي كل ذلك من أفكار : صار يكفيني ..

أتمنى أن يكتب الله تعالى لموضوعك هذا : النفع بما ستخـُطه يدك ..
فسهولة العبارة : تساعد كثيرا ًعلى المتابعة الجيدة من جمهور ٍعريض .. فلا تحرمنا من الخير ..

هشام بن الزبير
02-17-2011, 10:55 PM
والفرق بين ما قلته أخي عن طفولتك : مقارنة ًبما صرت أنا عليه الآن
يبدو أنني سأجعل التنبيه أسفله بالخط العريض ملونا بالأحمر في المشاركة القادمة :)):

وعلى عادة السينمائيين أقول: إن كل تشابه بين الشخصيات والأماكن التي سترد تباعا مجرد توافق غير مقصود, فوجب التنبيه :o:


أتمنى أن يكتب الله تعالى لموضوعك هذا : النفع بما ستخـُطه يدك ..
فسهولة العبارة : تساعد كثيرا ًعلى المتابعة الجيدة من جمهور ٍعريض .. فلا تحرمنا من الخير ..
آمين, وأعدك أن أوافيكم عن أخبار حيران أولا بأول إن شاء الله, وأسعدني مرورك وتعليقك.

أمَة الرحمن
02-17-2011, 11:00 PM
ياه! سبحان من ميّزك بأسلوب أدبي غاية في الجمال.

في انتظار المزيد بشوق. =)

هشام بن الزبير
02-17-2011, 11:16 PM
أختي أمة الله, حفظك الله وسدد قلمك, إن شاء الله تسمعين من خبر حليم ما يسرك ويثلج صدرك.

عياض
02-19-2011, 03:02 AM
هذه ليست منافسة صينية ...هذه مؤامرة...هذا أمر دبر بليل ....و دلائل المؤامرة واضحة...أدباء المنتدى....الجمهور العريض...غير ممكن ان تكون هذه خطوة فردية...لا بد ان هناك تنظيما سريا في المنتدى مسير من أطراف خارجية....ما اسم التنظيم .؟؟؟ و من يرأسه ؟؟؟ :):

هشام بن الزبير
02-19-2011, 09:35 AM
هذه ليست منافسة صينية ...هذه مؤامرة...هذا أمر دبر بليل ....و دلائل المؤامرة واضحة...أدباء المنتدى....الجمهور العريض...غير ممكن ان تكون هذه خطوة فردية...لا بد ان هناك تنظيما سريا في المنتدى مسير من أطراف خارجية....ما اسم التنظيم .؟؟؟ و من يرأسه ؟؟؟ :):
الصينية الوحيدة التي أعرفها, صينية ملتهبة, تتوهج توهج الشمس, إذا نظرت إليها سحرك بريق صفحة وجهها الناصع, إنها صينية الشاي المنعنع التي تتلألأ أمام عيني, فهل لك في كأس تزيل عنك وساوس المؤامرة؟ :)):
http://www.adpic.de/data/picture/detail/Marokkanischer_Tee_98379.jpg

هشام بن الزبير
02-19-2011, 12:01 PM
2- البياض والسواد بين الحمر الأهلية والوحشية

قلب حليم صفحة جديدة في كراسه, يرقب بياضها ويستحث قلمه ليكدر صفوها, فأحجم القلم واستعصت عليه الكلمات, كأنه يتهيب من تسويد هذا البياض.. طالما قيل له: "فعلتها مرة أخرى, لطخت ثيابك, انظر إلى هذه البقع السوداء!" لماذا نعرف البياض وننكر السواد؟ بم أدركنا أن النور خير من الظلمة؟ أليست الظلمة وسيلتنا لمعرفة النور؟ فبها سطع وتميز... تمثلت له الكتابة رحلة قنص يركب فيها الكاتب صهوة فكره على أرض بكر بيضاء يمتشق قلمه, يقتنص الفكرة لا يدري كيف هجمت عليه, ولا يدري أقتنصها أم اقتنصته, يرمق خيط المداد الذي يغشى سواد ليله نهار الصحائف البيضاء شيئا فشيئا, كأنه قيد رفيع يلتف حول سوانح أفكاره وشوارد خواطره ليرصها في نسق واحد...

تذكر درس التاريخ عن الإنسان القديم الذي روض الوحوش وحشرها في حظائر, فشق وحدة صف الحيوان إلى الأبد, فأصبح منه الأليف والمتوحش.. هكذا قال معلم التاريخ في المدرسة..تساءل حينها: "لماذا لم يروض الانسان الحمار الوحشي؟ فهو رشيق وأنيق وسريع؟" ما أبهى منظره وما أحسن السواد يتخلل بياضه, كأنه ليل يصارع النهار ويدافعه, كلما انفجر خيط من نور بادره جند الظلام ليوقف زحفه, فمهما تأملت إهابه فلن تمله...
تخيل الحمر الوحشية ترافق المجتمع البشري عبر تاريخ كفاحه جنبا إلى جنب, يا ترى هل كانت تسلم من تهمة البلادة التي التصقت بالحمر الأهلية؟ ربما شفع لها منظرها البهي, فالبشر خلافا للحمير يعشقون المظاهر البراقة, فكم من وضيع رفعته البذلة وربطة العنق ولا شيء غيرهما. ربما كان للحمر الوحشية شأن آخر, لكن لأمر ما لم يجد أجدادنا الأُول حيلة لإقناعها بخلع لقب "الوحشية" وتقلد وسام "الأهلية", ربما لأنها تميل للتقليد, لِم لا؟ لعلها حمر محافظة تخاف من التغيير, وتتوجس خيفة من كل جديد, ربما أبصرت مآل بني عمومتها من حمر الحقول والبيادر, فقاومت الترويض والتأليف الآدمي بكل ما أوتيت من قوة وحافر...ماذا لو كان أفلح الأقدمون في ضم الحمار البري المزركش إلى جامعة الحيوانات الأليفة؟ ماذا لو كانوا فعلوا؟ إذن لكان للتاريخ وجه آخر...ربما ألهمت أجيال الدواب المخططة الفنانين والأدباء, ربما تغنى بسحر عيونها المغنون والشعراء...

لكن ما المانع من أن يستدرك الأحفاد على الأجداد؟ ما المانع أن يقفو الأبناء خطوات الآباء؟ وكما يقول المغاربة: "حرفة (أ)بوك لا يغلبوك" أوليست الدعوة إلى احترام حقوق الأقليات الحيوانية وحمايتها من الانقراض من علامات التمدن الغربي؟ يبدو أن أمهات حقوق الحمار الأهلي لا تزال مكفولة, تحفظها شرائع الرفق والانسانية, وتتصدى للذوذ عنها جماعات المجتمع المدني, وتحرص عليها كما تحرص على المكتسبات الديمقراطية الجليلة...لماذا لا يسعى حماة حقوق الأجناس الحيوانية ورعاة الحريات البهيمية لتأليف فلول قطعان الحمر البرية لحفظها من مصير الديناصورات البائدة؟ حقا, إننا لن نستطيع أن نلوم الإنسان البدائي, فهو على بداوته وبساطة تقنيته, صنع ما عجزنا عنه في عصر الذرة, لقد روض لنا الخيل والبغال والحمير والجمال... يالها من انجازات تشعرنا بالفخر! هؤلاء آبائي فجئني بمثلهم...حين أتأمل خلق الجمال العجيب, أكاد أتصور مبلغ الجهد الذي استغرقه إنسان الكهوف في ترويض هذه الشياطين الراغية...إذن يا جمعيات الرفق بالحيوان, ارفقوا بمن في البراري, أدركوا القطعان المخططة, إنكم لو أفلحتم في ترويض هذه المراكب البديعة فسأستغني عن سيارتي لأظفر بخدمات مركوب إفريقي عريق, صديق للبيئة مقتصد للطاقة... لا أحسب أن المال ينقص الإنسان الأبيض, فإني أرى أحلام النزول على المريخ واستيطان القمر تراوده, فيا ليته اقتطع فتاتا من كنوزه القارونية ليحيي تكنولوجيا آبائه الأولين, الذين قهروا الطبيعة وروضوها ومهدوها لنا, وحتى ذلك الحين فإن دروس التاريخ في المدرسة الابتدائية ستبقى عصية على فهمي, ويظل سر استعصاء تأليف تلك الدواب الحسناء على عفاريت بني آدم منذ القدم, لغزا محيرا لا أكاد أحير له جوابا.

طفق حليم يتخيل الحمر الوحشية وهي تركض أبا عن جد في البرية, وتختار جوار الأسود والضباع على الدنو من مجتمع ذلك الشيطان المنتصب الذي يلبس الثياب. ولبث يتفكر, لماذا نكتب؟ لماذا نسود صحائف الحياة؟ لماذا نسلبها الطهر والنقاء الأصيل؟ لماذا لا نملك ألا نكتب؟ فلا بد لنا أن نكتب, حتى لو انحزنا إلى ركن قصي من هذا العالم, حتى لو انزوينا في زاوية منه, وحملنا مسبحة ندفع بها عن نفوسنا أمانة القول والفعل والكتابة, فإننا لا نبرح نكتب ونحكي ونقص, لا مناص لنا من ذلك...وكما يقف الكاتب أمام قرطاسه يحدق فيه يستجدي الكلمات حرفا حرفا, ويقلبها على صفحة قلبه عساه يلفق منها مركبا يبحر على متنها, ويستدعي صورا ينصبها شراعا تنفخ فيه رياح أفكاره وخطراته, على نحو من ذلك يقف أحدنا في مفترق دروب الحياة ليسأل نفسه: "وماذا بعد؟" ما أصعب الاختيار! الكاتب لا يكاد يغنم صفحات قلائل حتى يفني شجيرة كاملة تنتهي كومة منبوذة في القمامة, لكن الكاتب على صحائف الحياة لا يملك هذا الترف, ليس في مجتمعات الناس مكان لتمزيق أوراق إخفاقاتهم, وللتخلص من ثمرات حماقاتهم, كل ما يملكونه أن يركنوا إلى المكابرة أوالندم. نظر إلى البياض كأنه بحر متلاطم, ونظر إلى أفكاره فألفاها لا تستحق أن تقيد, وبدأت عيناه تتعبان من النور الذي يشع من المصباح في سقف الغرفة, ومن البياض على الصفحة الخالية, فاشتاق إلى الظلام, فأغمض الجفون, وتمدد على فراشه ليستسلم للنوم...

أبو المظفر السناري
02-19-2011, 12:08 PM
بارك الله فيك يا شيخ هشام.
كتاباتك بأسلوب أهل الأدب جيدة لا بأس بها. وإن كنتُ أحبذ لك مزيدَ المطالعة في كتب الأولين من المتأدِّبين؛ والتكثُّر من العناية بما دبّجتْه يراع أهل الأدب من أكابر الغابرين، ريثما تنصع جزالة لغة القوم على قلمك، وتنماع فخامة طريقتهم ما بين لسانك وضرْسِك.

هشام بن الزبير
02-19-2011, 12:12 PM
بارك الله فيك وفي تلعيقك الكريم,
إنما هي خواطر أخطها لإخواني, ولو أشرت علي بشيء أقرأه وقد فاتني, فأعدك أني سأرجع إليه ثم أعود إليكم بما هو أجمل وأجزل إن شاء الله.

زينب من المغرب
02-20-2011, 12:04 AM
هذه ليست منافسة صينية ...هذه مؤامرة...هذا أمر دبر بليل ....و دلائل المؤامرة واضحة...أدباء المنتدى....الجمهور العريض...غير ممكن ان تكون هذه خطوة فردية...لا بد ان هناك تنظيما سريا في المنتدى مسير من أطراف خارجية....ما اسم التنظيم .؟؟؟ و من يرأسه ؟؟؟ :):

مؤامرات وحركات وحروب.......هل توسع دائرة الخصوم لتبدو كالفارس المغوار وسط الجيش العرمرم

هل من متطوع يضربك على رأسك لتستفيق من هذا الوهم ( رد طبعة: Made in chine ) :):

عياض
02-20-2011, 02:57 AM
طبعا و من يشهد للعروس الا خالتها...انتما معا من بدأتم هذا المشروع المنافس...وأي ضربة هذه؟؟ و الأحلى ان العنوان على شكل أفلام هوليوود...جيمس ...جيمس بوند...
لكن اعترف ان خطر الأستاذ هشام أخطر..فامتلاكه لأزمة البيان يسهل الفكرة و لا ادل انه اجتذب احد المهتمين بالبيان الشيخ ابا المظفر..و الحقيقة اني بعد شرب الشاي الذي لا أستطيع مقاومته..بدأت ألحظ انه يلامس اسئلة وجودية بأسلوب متفوق..يموت فيه الكاتب اكثر مما اموت في كتاباتي..الداروينية و مسألة الاختيار سيدي هشام هذا هو الذي تلامسه في مقالتك الأخيرة؟؟ لربما يجدر بي ان أنتظر بقية المقالات#...حتى أقول: فهمتكم

هشام بن الزبير
02-20-2011, 11:41 AM
بارك الله فيك أختي زينب.
أستاذي عياض, ما دام الشاي يروق لك فهاك خربشة أخرى تعبق بريح الشاي :):

مستفيد..
02-20-2011, 12:12 PM
يعني الواحد لما يشوف هالمستوى الأدبي الرائع يستحي أن يكتب حرفين على بعض :):

هشام بن الزبير
02-20-2011, 12:14 PM
3- شاي وضحك وبكاء

حملت قلمي وأغمضت عيوني, وغصت في خواطري, وتدليت متفكرا في أعماق نفسي, كالنازل في بئر يلتمس ضالته, وإنما أفتقدني وأنشد نفسي, لا بد أن أكون هناك, فلعلي لو وجدتني أجد كل شيء, وقد قيل لقوم راموا العلا: فارقوا نفوسكم وائتونا.. لكن أنى لمن أنكر نفسه أن يفارقها؟ وما يدريه بعد أن جد وحاول أنه أفلح؟ لعله إنما انماع فيها وذاب, وذهل عن قلبه وغاب..

نظرت حوالي فأبصرتني طفلا يحيا نفَسا بنَفس, ولحظة بلحظة, فما بال الكبار يموتون كمدا على أيام لم تولد, ويبتنون الصروح الفارهة بلبِن لمّا يضرب؟ تأملت في قوامه النحيف وإهابه الغض, ثم تفرست في صفحة وجهه, أتطفل على إرث القافة, هل ترى يومك في أمسك؟ هل ترى أصيلك في صبحك؟ هل تراك في صباك؟ كيف أكون ذلك الطفل ثم أكون هذا الكهل؟ أيعقل مثل هذا؟ وكيف يجتمع لي أن أنظر إلى نفسي وأن أنتزع منها سائلا يهمس في وجهي: "من أنا؟"...

انتصب رجال من الأذكياء لأمثال هذا السؤال, وقطعوا أعمارهم متحيرين, يستدرجهم السؤال إثر السؤال, وكلما كلت عقولهم قالوا: جواب هذا سؤال غيره: فلنسل..., فسل.., سل...,فلس.. سفه, سؤال يفضي إلى سؤال, هذا سفه, يموت السائل ويبقى ألف سؤال فأين الحكمة؟ قالوا: "تلك عين الحكمة" وحتى ينحتوا لها من مسائلها اسما دعوها "فلسفة"... كأني بها صنعة لا تسوى فلسا..ما لي ولهذا؟ إنما أبغي أمرا سواه, أطلب الطفل الذي كنته, هاهو ذا يستيقظ من نومه, يفتح عينيه, يرتسم الفرح على وجنتيه, يعدو إلى أمه, يتطلع إلى أبيه, يلاعب إخوته, يشاكس الصغار, يحاذر نقمة الكبار, يفضي بسره إلى سره, يتراقص بين لغات ثلاث, كلما أدرك نهاية إحداهن, ورأى أنها لا تفي بالغرض, تشبث بالتي تليها, وإن أعياه الأمر اقتبس من جميعها نتفا ليلفق منها عبارة تفصح عما يكنه, حينها تراه ينطق ويضحك ويبكي في آن, كما ترى مطرا ورعدا وبرقا في يوم مشمس!

ما أعجب ابن آدم, وما أرحب العالم الذي انطوت عليه نفسه, إنه يغمض عينيه ثم يصارع بحرا من المعاني يضيق عنها لسانه, وتكلّ لغته, ما أقل غناء المنطوق والمكتوب, وما أبلغ الضحك والبكاء, وما أضيق الفجوة بينهما, وكم من ضحك كالبكاء, ورب بسمة أحيت نسمة, ورب عَبرة أعيت نبرة. فلو قيل لك بأي كلمة نطقت أول مرة, فتذكر أنك وردت الدنيا باكيا, فتلقاك أهلها ضاحكين, وتذكر أنهم طاروا فرحا أول ما تبسمت...
وإن قيل لك: "من أنت؟" فقل أنا الضاحك الباكي, فيا ليت شعري لأ شيء ضحكت وما الذي أبكاك؟

أمضي حافيا على أرض الطفولة, وتمضي الأيام بين ضحك وبكاء, وأتساءل: "لماذا لا يبكي الكبار؟" لماذا يكثرون علي في البكاء: "لا تبك, انظر إليك, قد صرت رجلا" لماذا لا يكاد يقول أحد: "لا تضحك"؟ ما الذي ينقمون من البكاء؟ تسللت إلى غرفة الضيفان, واسترقت السمع, تناهت إلي ضحكات يلفها صخب وهرج, ما أعجب الكبار حين يجتمعون, لا أدري مم يضحكون, ولست أدري لماذا لا يجتمعون للبكاء؟ هذا سؤال آخر لا جواب لهم عليه إلا قولهم: "ستعلم لما تكبر".

أراني في البادية, في بيت جدي, وبيته "قصر" من طين, في كل ركن منه ذكرى, يومها خرج الكبار كلهم, وخلفونا مع جدي, أتانا بعد المغرب قائلا: "تعالوا يا أولاد لتشربوا الشاي" أتيت "سقيفة" الضيفان مع إخوتي وبني عمومتي, وجلسنا نتأمل الشيخ الوقور, في ضوء الشمع الباهت, ونعجب لعمامته البيضاء, ونتساءل: "لماذا هجر الكبار العمائم؟", جلسنا نتهامس وننظر إليه مقبلا على صينية الشاي, يرص كؤوسها كما يرص القائد جنده, وينصب "البراد" في قلبها كأنه حامل اللواء, ويعد الشاي في حركات حكيمة متأنية, كمن لم يعرف في دهره العجلة, وكلما تطلعنا إلى الكؤوس نمني النفس بالمشروب اللذيذ, أعاده إلى "البراد" مرة أخرى, ولما فرغ ونال كل واحد كأسه, لمحنا ظله على الجدار, وقد ارتسم خيال عمامته ويده تحمل الكأس, وفي إجماع صامت, بدأنا نحكي حركاته الهادئة حاملين كاساتنا كأننا فرقة عسكرية, فإذا وضع الكأس وضعناها, وإذا رفعها رفعناها, وإن ارتشف منها الشاي ارتشفنا منها, وأصدرنا بشفاهنا صوتا يملأ سكون المكان, ثم تضاحكنا حذرين, لكن يبدو أن الشيخ الودود كان في شغل عنا. والجد باد على سحنته, والهيبة تملأ تجاعيده. ومهما اجتهدت وتماديت في الخيال, فإني لن أتصور جدي قط باكيا, ولن أتذكره ما حييت إلا وقورا متبسما.

مضت السنون وخبرت الحياة وما أزال حائرا مترددا بين لغة الحروف ولغة الضحك والبكاء.. وذات يوم كئيب عاد والدي إلى البيت منكسرا, نظرت إليه فإذا هو يبكي, حينها علمت أني كبرت, وأن الأوان قد حان لأعي جواب السؤال, وأن الكبار يبكون, لكنهم يستخفون, يومها مات الشيخ الوقور المعمم, فانحلت عمامة أخرى وبقيت في خلف من الحاسرين....

هشام بن الزبير
02-20-2011, 12:25 PM
أخي كاكتوس نفع الله بك,
لما أرى أهل السنة في منتدياتهم, وأرى علمهم وأدبهم وتواضعهم, ثم أرى فيم يختصم غيرهم, أوقن أن غد الإسلام قد انبلج أو كاد, أخي كاكتوس, لولا أنتم ما كتبت حرفا واحدا, فشكر الله لكم جميعا ونفعني بدعائكم:):

هشام بن الزبير
02-24-2011, 08:45 PM
4- عصا وحلوى يدا بيد

قفل حيران إلى بيته ماشيا, مر على فتيان يلعبون الكرة, تفرس في حالهم فكاد أن يرى فيهم نفسه, تأمل في ملامح لهوهم فإذا بها تمتزج بملامحه, صاروا في عينه حليم حيران نفسه, لم تعد لا ألوانهم ولا ثيابهم تميزهم, نظر إليهم اليوم يتقاذفون الكرة وتخيلهم غدا تتقاذفهم الحيرة, تذكر مثل هذا الملعب وتذكر يوما من فتوته وهو يلاعب أقرانه وسط الطريق.. تذكر الشيخ الوقور ذا اللحية والعمامة البيضاوين..تذكر هذا الجار الغريب الذي ما تزال صورته ترافقه.. تذكر تميزه عن الناس كأنه من زمان آخر..تذكره كيف يمر عليهم في وقاره يتوكأ على عصاه.. ها هوذا يكاد يتبينه.. يتوقف رافعا عصاه.. ويقول بلسان فصيح: "اذهبوا فأنتم لا يرجى نفعكم ولا يخشى بأسكم!".. ها هو ذا يمضي لتتلاشى كلماته في صخب الفتية.. لم يسمعوا مثل عربيته إلا عند المدرس في الفصل أو في المسلسلات "الدينية".. لقد ترعرعوا في زمان أوهمهم أهله أن هذا اللسان لا يقوم إلا لتدبيج المراثي والإخبار عن الماضي.. لقد نَشؤوا والعربية تئن بين أضراس الممثلين في ليالي رمضان التلفزيونية.. وغدا سماع جرْسها مدعاة للتندر واستعمالها مبعثا للسخرية.. تذكر صديقا احتفظ من تلك المسلسلات الماكرة بصورة وكلمة تنطق بهذا كله: ممثل يؤدي دور أحد المشركين يقضم دجاجة ويقول في عُنْجُهِيَّة: "يا ويح مكة!". لقد نحتوا في عقل جيل حليم حيران صورة بئيسة لأعظم لسان نطق به انسان.

"اذهبوا, فأنتم لا يُرجى نفعكم ولا يخشى بأسكم!", هذا معنى طالما سمعه جيل حليم من جيل حيران: "سيروا, انْتوما ما فيكم فايْدة!" قالها الآباء وقالها المعلمون وقالها الشيخ الوقور بلسان فصيح, لكن كلمته تحمل معنى زائدا, فالفائدة التي أجمع الكبار أنها لا ترجى من أولئك الصغار, وصرخوا بها في وجوههم في إجمال, منفية عل لسان الشيخ سلبا وإيجابا, فمن كان في مثل حال أولئك الفتية اللاهين لا يسر صديقا ولا ينكأ عدوا, لا يجلب نفعا ولا يدفع ضرا. لعل الشيخ الوقور كان ينظر إلى ما سيفضي إليه حال هؤلاء الذين فتح أسلافهم الدنيا في مثل سنهم, ويتحسر على الهزائم المقبلة التي تطل برؤوسها من خلف سنين اللهو والبَطالة. مضى الشيخ وانقضت أيامه, وقطع جيل حيران صفحة الزمن ليحيا حياة من لا يرتجى منه نفع ولا يخشى منه بأس.

هبت ريح باردة من قبل البحر, فتحسس أنامله فإذا هي كقطع الثلج, شرع يفرك يديه وينفخ فيهما.. أحس ببعض الدفء, نظر إلى يديه المبسوطتين كالكتاب المفتوح, قلبهما ظهرا لبطن, تمعن فيهما فتبدت حروف وخطوط, ترى بأي لغة كتبت؟ أكثر الناس يقرؤون تقاسيم الوجوه ويغفلون بلاغة الأيدي, الأيدي لا تكذب.. الوجوه قد تتخفى خلف الأقنعة وتتدثر بمشاعر مصطنعة.. ترى الوجه تغشاه ابتسامة مشرقة, ثم تلح عليه متفرسا فتقرأ ظل الحزن في تلافيفه متسترا, لكن الأيدي لا تملك أن تستر من حقيقتها شيئا ولا تحظى بوشاح البسمة. ألا ترى كثيرا من النسوان يدلسن على الرجال بالوجوه المصبوغة والتجاعيد المموهة ثم لا تلبث أن تفضحهن تضاريس أيديهن الصامتة الناطقة دونما لسان؟

دخل بيته وهو يسبح في هذه الخواطر واستلقى على سريره, أغمض عينيه ليستريح, فأبصر صورة من الزمن الخالي..أبصر سبورة سوداء وكهلا في سترة بيضاء يحمل مسطرة حديدية وهو يصرخ في وجه الصبي المرتعب إزاءه: "مد يديك" ثم يبدأ العد: "واحد, اثنان, ثلاثة..." وتتوالى الأعداد الفردية والزوجية لتختلط صرخات الألم بصوت ارتطام العصا بالأكف الغضة الملتهبة.. رأى نفسه مع الصبية مجتمعين في فناء المدرسة يتضرعون إلى الله كل صباح أن يقيهم شر المعلم وأن يحرمهم من طلعته المخيفة.. وكم تفننوا في ابتكار الدعوات المهلكة.. فما أرحم ربنا إذ لو أجاب يوما دعاءهم, لكان المعلم المسكين حُمّ وشُجّ وجُنّ وناله كل مكروه يخطر في بال حي ثم مات! ما أقسى يد ذلك المعلم, وما أشدها على تلك الأيادي الصغيرة في أيام الشتاء الباردة. تذكر كيف كانوا ينتظرون خروج زملائهم من الفصل ليسألوهم قبيل دخولهم إليه: "واش كاينة العصا اليوم؟"
كان حليم يستبشر خيرا بسماع أصوات الضيوف في البيت, فإن أيادي الضيوف تحمل شيئا لم تحمله يد المعلم قط, تحمل الحلوى, فما أعجب أيادي الكبار كيف تمتد لتزرع الألم كما تمتد لتمنح اللذة..قطع عليه صوت أمه حبل أفكاره: "حليم, حليم.. انزل .. هيا سنتغذى"...

هشام بن الزبير
03-02-2011, 11:23 PM
5- رجال وصراصير

عاد حليم مساء حيران منهك القوى.. تفكر فيما مر به في يومه: لغط وخوف.. وكر وفر... طلاب وشُرط... كتب وهراوات...دماء وصرخات... أيعقل أن ذلك المكان المخيف يصلح بعد اليوم لتحصيل العلم؟ وكيف يجتمع العلم والخوف والفكر والقهر تحت سقف واحد؟ كيف يؤوي مكان واحد أصحاب الصحائف والأقلام وأصحاب العصي والقيود؟ وبأي تأويل يصح الجمع بين التأديب والترهيب, وبين التهذيب والتعذيب؟

لماذا يريدون له أن يخاف, ولماذا يخاف؟ وصل إلى باب العمارة, فرأى رجلا غريبا, فسرت قشعريرة في جسده وأحس بنبض قلبه يتسارع.. تذكر حكايات رجال ونساء انشقت الأرض فابتلعتهم...دافع هواجسه.. فلعله رجل ينتظر صديقا فحسب..استمر في طريقه ودخل غرفته. لماذا نخاف؟ ومم نخاف؟ تذكر أمه وهي تقول له "حليم لا تنم قبل أن تغسل يديك وتنظف فمك, هل تريد أن يأتيك الصرصار وأنت نائم؟" تذكر نفسه وهو طفل, يتخيل الصرصار ناصبا قرنيه, وهو يزحف على وجهه ليستخلص آثار الطعام من بين شفتيه... يالها من صورة مقززة... لكن الصرصار يبدو مخلوقا وديعا أمام أصحاب الهراوات الغليظة, إن الخوف من الصرصار لا يجعله مخلوقا شريرا أبدا.. قد يجده بعض الناس كريه المنظر.. لكنه لا يحمل لنا بغضا... إنما نحس بالنفرة منه حين تتقاطع سبلنا.. فهو قطعا لا يقصد التطفل علينا.. كل ما هنالك أنه يعيش قريبا منا.. فأنا لم أسمع قط عن صراصير تجتاح مجتمعات الناس لتروعهم ولتهشم عظامهم, كما يصنع أصحاب الهراوات, يأتون تحت جنح الليل, ويأتون قبيل الفجر, ويأتون والشمس في كبد السماء, يأتون رجالا وركبانا... تذكر كيف كان الكبار يخوفونه بالغول..

يبدو أن الكبار يعشقون التخويف, ثم صاروا يقولون: "غادي نجيب لك البوليسي" ربما لأنهم أدركوا أن التخويف بالصراصير والغيلان بدأ يفقد تأثيره, فلا بد إذن من رفع نبرة التخويف, فالصرصار صغير حقير, تغمض عينيك وتدهسه فينتهي أمره ويزول خوفك, والغول يختفي من الوجود إذا أضأت نور المصباح, لكن "البوليسي" كائن من لحم ودم وخشب, مخلوق ضار ضارب, وبعكس الصراصير والغيلان, فيبدو أن الإجماع منعقد على الخوف منه, وأنت تعلم أن الجميع يريدك أن تخاف من "البوليس". عجبا إنا لا نناديها شرطة بل "بوليسا" إنها لم تتخلص أبدا من اسمها الذي يدل على معدنها. جاءت مع الإفرنج, ولم تفلح في التنصل من اسمها الأعجمي, ففي بلد حليم حيران تنادي العامة القوم "بوليسا" ولا تطاوعهم ألسنتهم على تسميتها شرطة أو رجال أمن.. ما أعجب هذا الاسم.. أعياه أن يربط بين المعركة التي خاضها "البوليس" اليوم في أرجاء الكلية ومدرجاتها وبين "الأمن" ربما كانت لفظة "الأمن" في اصطلاحهم من أسماء الإضداد.. كما تسمي العرب اللديغ سليما.. لكن القواميس لا تشهد لهذا المعنى أبدا فالخوف والأمن نقيضان, ينفي أحدهما الآخر, وكلما أطل أحدهما برأسه انتفى الآخر في لمح البصر, فأي أمن قام هؤلاء لحفظه؟ لا بد أن في الأمر خصوصا, فالهراوات تشهد بتخصيص عموم ما تدل عليه لفظة الأمن..استلقى على سريره وحدق في السقف فرأى سوادا يخترق بياضه..إنه صرصار يعدو في خفة, هم بالقيام للتخلص من الزائر المتطفل... لكنه سرعان ما راجع نفسه... دعه يمضي.. فلتعش أيها الصرصار في أمان.. فالمكان يسعنا نحن الاثنين.. ولتهنأ بمجتمع الصراصير حيث للجميع أرجل ستة وقرنان فأنتم من دوننا سواسية, فلو أبصرتنا أيها الصرصار لوجدتنا أولي أيد وأرجل وسمع وأبصار, لكن أيادي بعضنا طالت وطغت, فإذا رأيت أصحاب الأيادي الطويلة, فانج بجلدك أيها الصرصار فإنهم أصحاب الهراوات الغليظة...

عياض
03-04-2011, 04:09 AM
يبدو انك وضعت لي شيئا في الشاي...فقد بدأت أجد رغبة في انتظار المزيد من حال هذا الحليم الحيران ...و اتساءل متى سنقضي حلمه ليفضي بمكنونات الحيرة في نفسه ؟؟...و الأسلوب ايضا جميل يقترب من الأسلوب السردي و الوصفي للمقامات دون ان يتقيد بقيودها في السجع و الوزن..يبدو ان دراستك للأدب سيدي هشام جنوبية...فهم الذين لم و لا ربما لن يتحرروا قط من سيطرة الحريري على مخيلتهم...

طارق منينة
03-04-2011, 09:23 AM
لااقول هذا الفارابي في المدينة الفاضلة ولاابن المقفع في كليلة ودمنة ولكنه مستوى رائع ويبدو انه فيه التزام وانضباط مع مرونة وانسياح على غير عادة الفلاسفة اياهم في تصور عوالم وقدح خيالات
اتمنى من ادارة المنتدى ان تهتم بطباعة كتب كُتبت هنا وتوضع تحت اسم منتدى التوحيد-مع اسم دار النشر وتحت اسم طبعا مؤلفها
هذا الموضوع سلس ممتع مع لغة رائقة ومعاني جوهرية عن الانسان والنفس
بارك الله في القلم الزبيري ونفع الله باخونا هشام

هشام بن الزبير
03-04-2011, 10:27 AM
أخي عياض..
أخي طارق..
تلذذا بالشاي المنعنع وانتظرا المزيد..
http://www.adpic.de/data/picture/detail/Marokkanischer_Tee_98379.jpg

حسن المرسى
03-04-2011, 10:34 AM
وحبذا أن تصب لى كوباً فأنا ضيف على مائدتك أيضاً ..

هشام بن الزبير
03-04-2011, 04:46 PM
وحبذا أن تصب لى كوباً فأنا ضيف على مائدتك أيضاً ..

على الرحب والسعة..
لكن اسمح لي أن أعطيك كأسا مختلفة..
فيبدو أن أخي عياض من الصنف الذي يتلذذ بكل رشفة..:):
http://www.stufftotweet.com/tweetthis/wp-content/plugins/wp-o-matic/cache/db468_180px-Moroccan-Mint-Tea.jpg

هشام بن الزبير
03-04-2011, 11:50 PM
6- حافلة الأدب الإنساني

جاءت المركبة يسبقها هديرها.. ثم توقفت برهة.. نزل أناس وصعد آخرون.. ترى من سمى هذا الشيء حافلة؟ وما الذي دار بخلده حينها؟ ربما كان قريب عهد ببادية, فتخيلها ناقة تنوء بضرعها.. هل كان يخطر ببال عربي من الزمن الأول أن يسمى مثل هذا المركب الحديدي حافلة؟ إنه ليس من جنس النوق ولا الشياه, ثم إنه لا يدرّ لبنا, فبأي شيء حفل؟ ربما كان خزان الوقود أول ما لمحه المعرِّب من المركبة الأوربية, فتخيلها ناقة عظيمة حفل ضرعها المعدني بالبنزين العربي. قد يكون أبصرها فوجدها حفلت بالركاب, فاشتق لها من ذلك اسما.

صعد حليم ولم يجد له مقعدا, فوقف خلف السائق مقبلا على الناس, استغرب السكون والصمت الذي خيم على المكان, ما الذي دهى الناس؟ لقد كانوا إلى عهد قريب يتجاذبون الكلام كلما سنحت فرصة, يكفي أن تتقاطع طرقهم حتى يتعارفوا, وتلقى أحدهم في سوق أو في طريق, فلا تفارقه حتى تحسب أنه صديق حميم, توشك أن تفضي له بكل شيء, فأي شيء أصاب الناس؟ وما سر هذا الوجوم؟ وأي شيء اقتلع البسمة من وجوههم؟

نظر إلى الركاب الجلوس قِبله, فلاحظ أنهم أخذوا مجالسهم حسب تدرج أسنانهم, رأى فتيان المدارس يتضاحكون, وخلفهم كهول بدأت السنون تنحت آثارها في صبر على جباههم, وفي آخر الحافلة شيخ ابيضت حواجبه.. تأمل هذه اللوحة البليغة في شرود.. كأنه ينظر لتوه إلى لمحة موجزة من تاريخ إنسان يتحول أمام ناظريه من طور إلى طور.. تساءل: هل يشعر بعض هؤلاء المبحرين على أمواج الحياة بمراكب الأمل, بما يعتمل في صدور بعضهم الآخر؟ هل يتفكرون في أنهم رسائل حية لبعضهم بعضا؟ هل يرى أحدهم نفسه في الآخر؟

استرق البصر إلى هذه الموجة البشرية المتدرجة ليقرأ على وجوه أصحابها شيئا مما تشف عنه دواخلهم, قلّب الطرف بين الشباب والكهول والشيب, فوجد فتوة في طيش, واستواء في حذر, وترقبا في عجز.. تخيل الفتيان يتأرجحون بين الصبا والشباب فرحين ينعمون "الآن" ولا يكترثون "لغد" وتصور الكهول متفكرين متشبثين بآمال "السين" و"سوف" والشيوخ ينظرون إليهم ولسان حالهم "لو" و"ليت".. ما أعجب أمر هذه الحافلة.. يبدو أن من خلع عليها هذا الاسم كان حكيما, فهاهي ذي على صغرها قد حفلت بهذا كله, وإن كانت مجرد مركب من حديد وزجاج.. تخيل أن هذه الحافلة "آلة زمن" تريه مآل ركابها, تصورها عالما يختصر قصة الإنسان.. تصورها فصلا فريدا من فصول الأدب الإنساني الواقعي, فصل واحد لكنه يغني عما سواه, فإذا قرأته بتدبر ورويّة فهمت القصة بأكملها..

إن كل إنسان منا يكتب بأعماله وأقواله فصولا من أدب الجنس الإنساني, هذه الكتابة هي الحياة, والحياة هي الكتابة.. فالإنسان لم يزل يكتب منذ وجد, يكتب بلغات شتى وبأساليب مختلفة, لكن كتاباته كلها تندرج على اختلافها وتنوعها تحت أدب الرحلة, رحلة الحياة, رحلة الكَبد, رحلة الأمل والألم, حقا إن هذا العالم الحديدي السائر يحكي قصة الإنسان.. هذا المخلوق العجيب الذي ينتقل من طور إلى طور, ويقطع المراحل على أرض تمور وإن حسبها هامدة, ومتى كان شيء ما هامدا؟ كل ما يراه حوله في حركة دائبة لا تفتر.. يا ترى إلى أين تسير كل هذه السيارات؟ ولم تسير؟ لماذا لا يتوقف كل شيء بدل أن يسير؟ يبدو أن الجميع في رحلة دؤوب, كما أن الحافلة وركابها والأرض التي تقطعها تسير, كل أولئك يمضون إلى مكان ما أو يُمضى بهم..لكن أين من جاوزوا الهرم؟ لا بد أنهم استنفذوا أيامهم في الحافلة, فغادروها كارهين, ترى هل فارقتهم الآمال حين ترجلوا من الباب؟ أم أن بسمات الطفولة وسكرات الفتوة وهموم الكهولة ظلت ترواودهم إلى آخر الطريق؟ عندها بلغ حليم المنزل فغادر الحافلة, توقف قليلا.. نظر إليها تمضي حتى اختفت, ثم سار ليكمل الرحلة...

زينب من المغرب
03-06-2011, 08:00 PM
وددت لو أنها كانت مؤامرة فعلا لأكون ضمن هذا النسيج الجميل من الخواطر اليومية التي لا يعبأ غالبيتنا بترجمتها إلى كلمة فتفكر فاقتراح فحلول فعمل.
لولا أن المسابقات التي يجوز فيها الإستعانة بصديق تشعرني بالملل.
بارك الله فيك

هشام بن الزبير
03-06-2011, 10:58 PM
وفيك بارك الله,
لم تحصلي بعد على كأس شاي..
يبدو أنه قد آن للكؤوس المتفرقة أن تجتمع على سطح صينية واحدة, لحظة..
http://img.over-blog.com/500x333/3/69/64/04/mai2010/50834_237022042_the_marocain_H140125_L.jpg
هكذا ينال كل ضيف على هذه الصفحة كأسا من معشوق المغاربة, الشاي المنعنع :):

أمَة الرحمن
03-06-2011, 11:00 PM
كل مرة أجزم أن هذا الفصل - بلا شك - أجمل من سابقه، فيأتي الفصل التالي و يبهرني بجماله!

متابعة بكل شوق.

هشام بن الزبير
03-07-2011, 09:31 PM
7- الحركة النسوية أو قلب الحارة

عاد حليم صيفا إلى بلدته.. بدا كأن الأرض تطوى من تحته..تسارع نبضه وازداد شوقه..أحس بالطفل داخله يلح عليه أن أسرع.. شعر به ينتفض ليطل برأسه من خلف جدار السنين.. دنت الذكريات البعيدة ولاحت أمام عينيه.. كان كمن يبحر في نفسه.. ويغوص في بحر سيرته..وفجأة طفت على صفحة نفسه صورة الأيام الهنيئة..وارتسمت أمامه بأشكالها وألوانها وروائحها.. لقد أشرف على منزله الأول.. وانحدرت السيارة إلى الحارة التي تعرفه كل زاوية منها. وتكاد قطع الحصى المتناثرة على جنباتها تحييه باسمه: "حليم.. حليم.. أحقا هذا أنت؟" تأمل البيوت وقد اصطفت كما تركها آخر مرة.. لماذا يبدو كل شيء باهتا؟ هل شاخت الحارة أم أن بصره فقد شيئا من حدته؟

رفع رأسه في حذر.. فتلك الشرفات أشبه شيء بأبراج المراقبة.. لو كانت "لالّة" مولودة خلف تلك الشقوق, فعليه أن ينتبه لحركاته وسكناته, فإن كل شيء فيها يهرم إلا بصرها.. إنها كاميرا بشرية لا يكاد يفوتها شيء من نبض الحارة.. كأني بها تلتقط أدنى أنفاس المكان من طلوع الشمس إلى غروبها.. إن أحدث الكاميرات لا تزيد على حفظ صورة ميكانيكية رتيبة.. وهي قد تتأثر بالريح أو المطر أو شعاع الشمس.. أما هذه العجوز فأمرها مختلف.. إنها هناك.. تنظر وتسجل وتحلل وتقارن وترتب كل شيء ولا تكاد تنسى شيئا.. تذكر كيف كانت تطرد الصبية في أوقات الظهيرة وتقطع عليهم متعة لعب الكرة.. وكيف كانت تشتكيهم إلى آبائهم واحدا واحدا.. أما بنات لالّة مينة فقد تركن مواقعهن منذ زمن.. ربما كن الساعة يرقبن الرائحين والغادين من شرفات بيوت أزواجهن..كانت الأبواب موصدة.. تذكر زمانا مضى.. تذكر كيف كانت الحارة تغدو -في مثل هاته الساعة أوائل النهار- كالبيت الكبير.. ويصير وسطها كالبهو الواسع.

كانت الأبواب تفتح بعد أن يمضي الرجال إلى أعمالهم والصبيان إلى مدارسهم.. فتبدأ يوميات نساء الحارة.. تذكر كيف تنشط الحركة النسوية قرابة الضحى.. يتم الإعداد للصبيحة بكنس العتبات.. ثم تبدأ وقفة العمل بتبادل البروتكول الرسمي: تحية.. شكاوى.. مشاورات الشئون الداخلية.. ثم يختم اللقاء بجدولة مشروع الغداء.. وبخلاف اللقاءات الرسمية الرتيبة.. فإن هذه المداولات الناعمة تكتنفها روح مرحة وتتخللها التعليقات اللطيفة.. بل إنها لسلاستها لا تحتاج إلى من يسيرها أو يوزع مهامها.. هاهي "لالة" زينة تتخلص في خفة من موضوع الأولاد لتمهد للمرحلة الختامية من الوقفة الصباحية: "واختي واحد الغدا ما عرفتوش آش غادي يكون اليوم!" فتجيبها المراكشية: "فكرتيني.. خصني نشري شي حامض باش نطيب شي سردين.." فتقاطعها جارتها: "دابا نجيب لك واحد جوج حامضات.." وهكذا تُرسم الخطوط العريضة للسياسة التموينية للحارة في وقت مبكر كل يوم في معزل عن أعين الرجال.. حينها تأخذ الموائد صورتها البهية شيئا فشيئا لتستعد لاستقبال الأفواه الجائعة.. ورب خبز اجتمع فيه دقيق البيت بخميرة الجيران وملحهم.. ورب ضيف فجأ أهل بيت لا قِرى عندهم, ثم لم يمس إلا ريّان شبعان مكرّما, فإن لنساء الحارة خطط طوارئ, وبدائل مبتكرة لا يكاد الرجال يهتدون إليها سبيلا.. فالرجل مهما اجتهد في ملء القفة, فإنها نادرا ما تفي بالحاجات التي تتكاثر كل يوم.. الرجل يأتي بقفة واحدة للبيت الصغير... ونساء الحارة يرتبن أمر القفة الكبيرة.. قفة البيت الكبير.. بيت الحارة..

ومن يدري.. لو كان لهؤلاء النسوة من الأمر شيء فلربما تخلصنا من عار القمح المستورد.. فإنهن ورثن شيئا من تكافل الأشعريين.. وحتى بعد انفضاض الجمع إلى المطابخ, فإن التكافل الأشعري لا يتوقف.. فإذا اكتشفت صاحبة الشأن أن القدر المنزلية تحتاج لفص ثوم أو حزمة بقدونس.. فإنها ترسل بريدا سريعا إلى أقرب قريناتها لسد الخلل.. لقد كن خلال تلك المشاورات الصباحية يخططن في لطف وحزم للمهمات التي يعجز عنها أصحاب الحقائب.. وماذا صنع لنا أصحاب الألقاب والأوسمة إلا أن حملونا أوزارا من ديونهم.. أما صواحب "القدور" فكانت قلوبهن تفيض بالحرص على بيت مال الحارة.. فلا ينفقن منه بصلة ولا قطرة زيت إلا وفق ميزان العدل وحسب مقتضيات الأمانة.. وكأني بربات بيوت الحارة في الزمن الخالي عقدن إجماعا سكوتيا على ترك الدَّين وذمه.. لقد كن بالفعل فريقا متكاملا يصح أن نسميه "وزارة الميرة".. لم يكن يهم كم من المال مع إحداهن.. بل لا يهم ألا يكون معهن مال بتاتا.. كل ما يهم أنهن يحملن حبا وعزما.. وما أن ينتصف النهار حتى تنفذ الروائح الزكية من النوافذ ومن شقوق الأبواب مؤذنة بنجاح يوم نسوي آخر.. فإذا وضعت الموائد وأُعملت فيها الأضراس والقواطع.. لم يكد لسان ينبس بكلمة عرفان.. ولم يكد قلب ينطوي على معنى شكر.. ولربما سمعت من خلف بعض أبواب البيوت الصغيرة في بيت الحارة الكبير بعض الأصوات المتأففة: "ومالك على كثرة الملح؟! تقولي طيبتي بالماء د البحر!!" لكن هذا كله لم يفل أبدا عزم صواحب الحارة في الزمن الخالي.. ولست أدري لأي شي غدت الأبواب بعد كر السنين موصدة ليلا ونهارا...

هشام بن الزبير
03-09-2011, 10:44 PM
8- ذكاء التيس وحروف العطف

جلس حليم بين يدي الرجل .. لمحه خلفه وبيده الشفرة.. رآها تلمع على المرآة أمامه.. أشار إليه أن لا داعي لذلك.. إنما يأتيه ليقص شعره لا ليحلق رقبته! وتلك الشعيرات هنا وهناك لا تضره.. ما أعجب أمر الحلاقين.. يأتيهم علية القوم وسوقتهم ليسلموا إليهم الرؤوس ويمكنوهم من الأعناق.. عجبا.. كيف لم يزل الناس في هذا الزمان المتقلب يثقون في من يحمل في يده موسى؟ ثم إن الرجل يكون بين يدي حلاقه كالمكبل في تلك الثياب الغريبة التي تلفّه كالبرنس.. وترى الرجل لا يكاد يدنو منه أهله لهيبته يجلس هنالك على الأريكة مسترخيا والحلاق من خلفه يشحذ الموسى.. ردد حليم في نفسه: "مادمت بين يدي مثل هذا, فإياك أن تغاضبه حتى تخرج من سلطانه." تذكر أيام الصبا.. كم كان يكره أن يصطحبه أبوه عند الحلاق.. كان فظا يدير رأسه الصغيرة بأكف كأنها من خشب.. لم يكن يفرغ من قص شعره حتى يكاد يشعر بالصداع.. لكن الحلاقين لم يعودوا كعهده بهم.. حتى تهمة الثرثرة التي علقت بهم زمانا طويلا تلاشت أو كادت..

تذكر قصة طريفة في كتاب مدرسي عن رجل جلس بين يدي أحدهم ليحلق لحيته.. فلما هم بذلك التفت إلى الحاضرين فسألهم: "من أذكى الحيوانات؟" فوقعوا في وحوش البراري فلم يتركوا عاشبا ولا لاحما إلا ذكروه.. واجتهدوا في سوق الأدلة على ذكائها.. والمفاضلة بينها.. وكلما انحنى الحلاق ليستأصل لحية الرجل من منابتها.. خطر له تعليق على شيء سمعه.. فأقبل على المتناظرين حول مراتب الذكاء الحيواني يخاطبهم... حتى ضاق به الزبون ذرعا فقام مغضبا وهو يقول: "أذكى الحيوانات هو التيس لا شك.. فقد أحسن في الإحتفاظ بلحيته" ثم انصرف! لم يدر حليم هل كان كاتب هذه القصة المدرسية يرمي إلى المعنى العميق الذي يلوح له الآن.. أم أنه ساقها لطرافتها فحسب.. تذكر التيس وهو يتيه بلحيته ولا يستحيي منها.. وأكثر الرجال يستمتعون بعملية سلخ يومية لوجوههم.. بعد أن سلخ الإشهار شعورهم بجمالهم الفطري.. ولا يبرزون للعالم إلا حين يفرغون من اجتثاث آخر أثر للخشونة على وجوههم.. إنه زمن النعومة.. زمن الجلود الدهينة.. التيس احتفظ بلحيته ربما لأنه لم يقتن التلفاز في حظيرته.. في عالم المعز العنز عنز والتيس تيس.. ولو بدا من العنز شيء من الجراءة الزائدة فإن العرب تقول: "استتيست العنز" فجعلوا ذلك مثلا للذليل يتعزز.. لكنهم لم يقولوا قط "استعنز التيس" ربما لأن التيس كما يشهد الكتاب المدرسي أذكى من ذلك..

تذكر حليم كيف كان عالم النسوة في بيت طفولته يتألق في تميزه عن عالم الرجال.. كان لكل منهما مجالسه وأنسه.. كان النهار يشرق بالمجالس الناعمة.. التي كان حليم يستغرب أن الرجال لم يغيبوا عن أحاديثها.. وحين كان يسمع "فلانة طلقها رجلها" كان يحار في تصور الذي جرى.. فكان يتساءل في نفسه: "هل كانت فلانة سجينة عند فلان؟" كانت الشمس لا تغيب حتى تغيب النسوة في بيوتهن ليجتمع الرجال.. فتعلو الأصوات وترتفع القهقهة ويتصاعد الدخان.. كان عالم الرجال متميزا عن عالم النساء وكان يبدو غريبا في عيني الطفل.. لكنه كان يرى بين العالمين تجاذبا لطيفا.. وتكاملا بليغا.. ثم دارت السنون دورتها.. فأريد للتجاذب أن يكون تمازجا.. وللتكامل أن يصبح تماثلا.. لا بد أن نتأمل في ذكاء التيس.. فإنه يكاد يجتاز طوفان العولمة محتفظا بلحيته وبتميزه.. مجالس أوانس النهار كانت تنفض بالليل ليعقبها سمر الرجال.. لقد كان زمان الرجال والنساء والليل والنهار.. كان زمان العطف.. والعطف يقتضي التمايز والمغايرة.. ثم جاء قوم كرهوا هذا العطف بين الزمان وأهله.. فأرادوا رجالا نساء ونهارا ليلا.. ونالوا بعضا مما أرادوا.. لكنهم لم يقنعوا بعد.. فأعقبنا سعيهم مجتمعات استتيست فيها العنز.. وصار مثلها كمثل النهار يقبل, فيأبى الليل أن ينجلي.. بل يريد أن يكون نهارا.. فأوشك النهار أن يصبح ليلا وكاد الليل يمسي نهارا.. وحار الحليم وانقلب كل شيء رأسا على عقب.. لا بد من العطف وحروفه.. رجل وامرأة.. ليل ونهار.. وإلا أتى علينا يوم نغبط فيه التيس..

لا يهم شيء من ذلك كله الآن.. كل ما يهم أن يتجنب حليم أن يستدرجه الحلاق في الحديث.. فليس لديه شيء يقوله.. وهبه كان يشتهي الكلام.. فإن صوت التلفاز يكاد يصم الآذان.. هاهي دعاية مسحوق الغسيل تتكرر للمرة العاشرة.. ترى هل نبدو لهم مدنسين حتى يغسلوا أدمغتنا بكل هذه الدعاية عن البقع السوداء على الثياب البيضاء؟ لا بد أن ثمة سرا لا يفهمه.. كما أنه لا يفهم ما الذي جعل الحلاقين يكتشفون فجأة حكمة الصمت.. لم يعد شيء كما كان.. ربما يكون هذا الشاب قد طوى شهادته الجامعية مع أحلامه المهترئة ليحترف الحلاقة.. ربما يقف الآن في هذا المكان ويتساءل: "ما الذي أصنع ههنا؟ وفيم يفكر هذا المخلوق الغريب الذي ليس منه هنا إلا جسده.." حينها سمع صوتا هادئا يقول: "بالصحة والراحة" وأحس يدا تربت على كتفه...

سليلة الغرباء
03-10-2011, 09:08 AM
فعلا ما كتبت ممتاز بتقييم من هم أفضل مني جزاك الله خيرا
يبدو أن حليمك الحيران اسم على مسمى ، هو مسمى تلبسه كل شخصية كما ذكرتَ هو جيل بأكلمه ،وهواجسه هواجس كل نفس ،خصوصا في وقتنا الهارب لمسالك الغوص العميق في البحث عن ما يجيبه عن تساؤلاته، كلما استيقظ من حلم في نومه ، استسلم لحم في يقظته وأبحر في شطآن نفسه لتلتهمه أفكاره وتسلمه لسجلات العمر ......
واصل بارك الله فيك

هشام بن الزبير
03-10-2011, 10:34 PM
أختي الكريمة..
طالما قلت: جيلنا هذا الذي رأى ما رأيناه, لا بد له أن يكتب.. ينبغي لنا أن ننقل شيئا من تجاربنا لمن بعدنا..
وما دمت ضيفا على هذه الصفحات, فهاك أنت أيضا كأسا من الشاي المنعنع :):

http://www.adpic.de/data/picture/detail/Marokkanischer_Tee_98379.jpg

هشام بن الزبير
03-17-2011, 10:41 PM
9-حيران بين طريقين

عاد حليم إلى بيته ماشيا.. لم يلق في طريقه أحدا .. لا إنسانا ولا آلة.. مضى كل إلى شأنه.. وبقي وحيدا يمشي وينظر إلى الأسفلت تحت أقدامه.. مضى متفكرا يقطع سكون الليل.. إنها صورة تملك عليه نفسه في كل مرة.. الطريق.. السير.. الحركة.. إنها تستثير في نفسه كوامن الخطرات.. إلى أين يسير؟ إلى أين يمضي؟ بل إلى أين يسير الناس من حوله وإلام يمضون؟ هل يقوى أحد على العيش بعد أن يستأصل هذا السؤال من قلبه فلا يرواده طرفة عين؟ طفق يمشي وتذكر أنه ما زال يمشي منذ عقل.. يمشي أحيانا ويعثر أحيانا أخرى.. لكنه يقوم فيعاود الكرة فيمشي.. وقبلها كان يحبو.. ومن قبل ذلك كان سجين ظلمات ثلاث.. ثم انعتق منها ليمشي.. هاهو الآن يمشي لكن الأسئلة لم تزل.. فإلى أين مسيره ياترى؟ أين كان قبل أن يكون؟ ولم كان بدل ألا يكون؟ ثم من يكون حقا؟ هل هو هذه الكتلة الملتصقة بالأرض التي تجدّ لتنتقل من موضع لآخر؟ أم أنه هذ الشيء السؤول الذي لم يره قط؟ وأين وجهه.. هل هو هذا الذي يرى انعكاسه على المرآة كل صباح أم أنه لم يحظ برؤية وجهه بعد؟ مشى وهو يتذكر حبه للأسفار.. إن هوس أهل هذا الزمان بالسياحة والأسفار يكتسي برداء الترف والمتعة.. لكنه يحمل في طياته نفس المعاني التي تعتلج في صدره الآن.. إنهم مدفوعون إلى السير.. إنهم يبحثون عن شيء.. إنهم أجسام تستحثها للسير نفوس متحيرة..

كلما مشى أو سارت به مركبة راودته الفكرة ذاتها.. إن هذا السير كناية عن سير آخر.. إنه سر الحياة.. نعم إنها رحلة تستغرق الحياة.. رحلة لا تتوقف وإن توقف السير.. إنها رحلة تخرج من الصبا فتكتشف أنك قطعت منها طرفا قبل أن تعي نفسك.. إنها رحلة تقطعها نائما ويقظان.. ترى بأي شيء تقطع المراحل في هذه الرحلة الإنسانية المستمرة.. ترى من أين نستمد القوة للصبر على هاته الرحلة المتطاولة؟

تذكر شيئا آخر يحمل معاني السير وتحكمه قوانينه الصارمة.. إنها صورة الحشود البشرية المندفعة كالطوفان في شوارع المدن الكبرى في هذا العالم.. إنها أمواج بشرية تتدافع كل يوم في كل اتجاه كأسراب الجراد.. تتقاطع طرقهم.. تتشابه سِيرهم.. تتوارد خواطرهم.. لكنهم لا يتوقفون لحظة.. بل يستمرون في سيرهم الحثيث كأن شيئا ما يستفزهم لذلك.. ما الذي دفع الملايين إلى الذوبان في أتون الحياة الرتيبة القاسية؟ ما الذي أحال مجتمعات الناس متاهات يدورون فيها بلا توقف ويقطعون حياتهم تائهين لا يوقفهم إلا الموت؟ من الذي غرر بهم حتى حسبوا ألا معنى لحياتهم إلا أن يديروا عجلة؟ ما الذي جعلهم ينساقون مع العجلة ولا يتفكرون في القصد؟ تذكر فئران السيرك سجينة في عجلات تديرها بحركة أطرافها كأنها آلة ولا تتوقف حتى يرحمها صاحبها فيخرجها لتلمس الأرض الثابتة من جديد.. لكن يبدو أن مروض الفئران في السيرك الصغير أرحم ممن روضوا بني آدم في هذا السيرك الكبير.. تذكر جدته يوم أن جاءت إلى المدينة الكبيرة أول مرة.. تذكر دهشتها من تلك البحور الآدمية المتلاطمة في الساحات والطرقات.. تذكر كيف قالت: "لم أكن أحسب أبدا أن على الأرض كل هؤلاء البشر!" ابتسم وتخيل ماذا كانت ستقول لو أنها رأت ميترو طوكيو والناس فيه كالذباب.. تساءل: لماذا لا يتوقف هؤلاء يوما ما لينظر بعضهم إلى بعض؟ ما الذي سيخسرونه لو سمحوا لطرقهم أن تتقاطع ولسِيرهم أن تلتقي؟ فليجربوا ألا يكونوا فئرانا ليوم واحد ولتذهب العجلة إلى الجحيم..

تذكر يوما مشمسا في المدينة الكبيرة منتصف النهار وقد بدأ موسم الركض والتدافع.. ولسان حال الجموع الماشية: "نحن مهمون.. أوقاتنا نفيسة." إنها ساعة الغداء.. إنهم يمضون ليأكلوا طعاما رخيصا لا يملكون وقت مضغه مضغا كافيا ثم يعودون ليديروا العجلة.. هاهم أولاء يتراكضون ويتجارون.. فجأة يقطع صوت من عالم آخر صوت جلبتهم وهدير محركات مراكبهم .. صوت ود أصحاب السيرك الكبير لو أخرسوه إلى الأبد: "الله أكبر.. الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. أشهد أن محمدا رسول الله.. حي على الصلاة.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح.. حي على الفلاح.. الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله" لكن عامة تلك الجموع يعلمون أن هذا النداء يتعارض هذه الساعة مع مصالح أصحاب العجلة.. يمضون كالآلات المبرمجة إلا قليلا من الغرباء.. أولئك يلبون النداء.. ما أعظم هذا النداء.. إنه ينتشل الإنسان من الحضيض المهانة لينفض عنه التراب.. ليطهره ويزكيه.. إنه نداء لهؤلاء المساكين أنكم أشرف من أن تكونوا فئرانا.. إنكم خلقتم للفلاح فحي على الفلاح..

مشى متفكرا شاردا.. ولما لاحت له هاته المعاني انتعش قلبه واهتزت روحه.. فقطع بقية طريقه شاكرا ذاكرا.. تفكر في حاله وفي مشيه فانطلق لسانه يقول: "رباه.. مشيت وما مشيت بل أمشيتني, وقد نطقت وما نطقت بل أنت أنطقتني, أبصرت وما بصُرت بشيء بل بصّرتني, سمعت وأنى لي السمع إنما أسمعتني, أمشي ولست أدري كيف أمشي, أبصر ولا أبصر كيف أبصر, وأسمع ولا أعي كيف أسمع, بل أحيا فواعجبا كيف أحيا؟ سبحانك ربي بك سمعي وبصري فلك فوضت أمري.. اللهم تقلني أرضك وتظلني سماؤك وآكل من رزقك فأتم نعمتك علي وارزقني رضوانك ومحبتك." أحس بدمعة ساخنة تتحدر على وجنته إلى أن بلغت شفته.. أحس بدفئها وملوحتها.. جفف وجهه بكمه ومضى في طريقه يمشي وهو ما زال يمشي...