المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الكوميديا الإلحادية



الصفحات : [1] 2

هشام بن الزبير
03-12-2011, 11:41 AM
اطلعت هنا هذا الصباح على موضوع كتبه ملحد, انطوى على التهكم والسخرية.. فذكرني بهذا النمط من الكتابة الذي يستهوي ملاحدة الإنترنت.. فبدأت هذا الموضوع.. فشكرا للملحد الذي ذكرني بقيمة الأدب الساخر.. وهذه "الكوميديا الإلحادية" رسالة يفهمها المعني بها, ولن تضر من لم يكن من أهلها...


أبو الإلحاد الرقمي في أزمة :o:


جلس أبو الإلحاد الرقمي القرفصاء يلملم أفكاره ويراكم أوزاره.. لم يفتح عليه اليوم بشيء.. يا له من يوم عقيم من أيام "الإلحاد الإلكتروني" وياله من نهار مظلم من أيام "التنوير اللاديني" ترى لم غاب عنه اليوم شيطانه؟ ربما لأنه مال شيئا قليلا عن جادة الإلحاد.. تصور.. لقد خطر بباله لوهلة أن الإسلام قد يكون حقا دين الحق! كيف يحدث مثل هذا لمثله؟ إنه يتصفح أمهات كتب الملة الإسلامية كالغواص البصير, يتصيد العثرات, ويقتنص الهفوات, ويفرح بالتصحيف, ولا يبالي بتصحيح ولا تضعيف, يرى الجمال فيتوهم قبحه, ويرى الدليل كالشمس فيحسبه شبهة, يفعل ذلك كله ثم لا يشك في دينه طرفة عين..

تذكر نفسه يوما وهو في رحلة في بطون الكتب لاقتناص الشبهات المُردية, قلب مئات الصحائف دون طائل, لقد فضح النصارى الملاحدة.. لم يتركوا لنا شيئا يصلح شبهة إلا استخلصوه.. فماذا نصنع الآن؟ فجأة وجد شيئا جديدا لم يسبق إليه.. جحظت عيناه وتسمرت على الشبهة الموعودة.. شبهة بكر.. يا ليتهم ابتكروا نظاما لتسجيل براءات "الشبهات"... بدأ يدون الحديث "الغريب".. ابتسم في شماتة وهو يحدث نفسه: "كيف يصدق المسلمون مثل هذا الكلام": [لا تسافر امرأة فوق ثلاث ليال إلا مع بــغــل]!!! بدأ يفرع وجوه بيان الشبهة.. "كيف يكون هذا كلام نبي: المرأة تسافر على بــغــل, فكيف تسافر مع بــغــل!!!.. بدأ بحثا "جوجليا" سريعا عن معاني حروف الجر: كتب: "هل تأتي "مع" بمعنى "على"؟ لم يأت بحثه بشيء فزاد سروره.. بدأ يدبح مقالته بكلام الأخفش والفراء.. حين فرك وجهه أحس بنتوء دقيق على أرنبة أنفه.. حاول النظر إليه كهيئة الأحول فرأى سوادا.. قام إلى المرآة فشرع يحك البثرة السوداء حتى تفتتت.. ثم عاد ليتم مقالته.. لما نظر إلى شاشة حاسوبه لم ير "بغلا" وإنما رأى "بعلا" ترى أين ذهبت النقطة؟ نظر مرة أخرى إلى موضع البثرة من أنفه.. ففهم أن نقطة "البغل" زالت من على أنفه..:): وأن ليس في المكان بغل إلا هو.. لم يدر أيضحك أم يبكي.. رأى شبهته تتلاشى أمام عينيه كالسراب.. تتبع آثارها بفأرة الحاسوب ليلقيها في مثواها الأخير في "سلة المهملات"..

حتى في ذلك اليوم المخزي, لم يشك في إلحاده.. فما الذي دهاه اليوم؟ آه لقد تذكر.. إنه جاره سليمان.. إنه جاره منذ عشر سنين, يحييه.. يتبسم في وجهه.. يتفقده إن غاب.. يهنئه كل عيد.. يرسل إليه بين الحين والآخر بعض السمك والمحار.. سليمان بحار.. تصور.. إنه لم يعبس في وجهه يوما.. ولم يسمع منه كلمة عتاب.. ولم ينظر إليه يوما نظرة شزراء.. أيعقل أن يكون بهذه الأخلاق, ثم لا يكون لدينه دخل في ذلك؟ فرك أبو الإلحاد جبينه.. وشرد للحظات.. فعاوده السؤال: "ماذا لو كان هؤلاء على الحق؟" انتفض في مكانه مرتعبا.. صفع وجهه مرات لعله يعود لرشده.. بعثر أوراقه.. أقعى وهو يضع كفه تحت ذقنه.. فجأة تبسم.. :): نعم الأمر واضح.. كيف شك في إلحاده لأمر كهذا؟ كل ما هنالك أن سليمان إنسان يتصرف بمقتضى آليات التطور التي قرأ عنها في منتديات "الجرب والجذام".. سليمان خلايا ذكية تجمعت عبر بلايين السنين واجتازت أهوال العصور الجليدية.. واصطفت بمحض الصدفة لتشكل كائنا متطورا يحييه ويبتسم في وجهه.. تخيل إنسان "البلتادون" وهو يجري في الأدغال مبتسما.. وأي شيء في الابتسامة.. التطور يفسر كل شيء.. لا بد أن أجداد سليمان اكتشفوا أن البسمة تضاعف من فرص النجاة في معركة البقاء.. لابد أنهم شهدوا انقراض بعض القبائل العابسة.. لابد أنهم جلسوا في الكهوف يتمرنون على هذه الحركة الغريبة, التي لا يكاد يجد لها تفسيرا ماديا إلا بعد مشقة وعنت وتكلف.. تخيل "لوسي" وهي تستقي الماء لتغسل أول مولود لها يولد من غير ذيل.. لا بد أنها استغربت من هذا الجنين المشوه.. وحُق لها.. فإن التطور بقي سرا دفينا حتى أفشاه الإمام الأكبر أبو الطفرات شارل دارون.. يالهم من مكابرين هؤلاء المسلمون.. حتى متى تظل الغشاوة على أعينهم.. ألم يروا "آردي" كيف أحاط الشعر الناعم وجهها الأسمر.. لعلها "أفروديت" زمانها.. ألم يكفهم جمال عينيها وهي تكتسي شيئا فشيئا ببريق عيون البشر؟ ماذا يريدون منا؟ أيريدون أن نحيي لهم إنسان "أسترالوبيثيكس" حتى يصدقوا العلم؟ طيب لينتظروا قليلا.. ليروا نهاية الوهم بأعينهم.. كريك فينتر سيبهر العالم بابتكار أول "كائن حي مصنع".. بعدما "صنع أول خلية صناعية"..

بدأ أبو الإلحاد يغوص في تأملاته المادية حتى كاد يفقد صلته بالواقع.. ففك إقعائه ثم انبطح على بطنه.. أحس بنفسه ملتصقا بالأرض حتى كاد وجهه يتهشم.. أحس بالغثيان.. أحس كأن انفجارا عظيما يحصل في رأسه.. اهتزت أفكاره.. اضطربت نفسه.. جلس يرتل ترانيم إلحادية "مهدئة" : "يا أيتها الصدفة العمياء.. لك ندين وبك نستعين.. يامن لا نعرف لك مكانا فنأتيك, ولا نعرف لك وجها فنقصده.. أزيلي عنا الغم وأفيضي علينا العلم.." ردد الكلمات التي وجدها في توقيع أحد صناديد منتديات "الجرب والجذام" على أمل أن يشعر بشيء من السكينة.. تصور "نيتشه" وهو يعزف مقطوعة شيطانية على "الأوتار الفائقة" فتتموج أشكال مرعبة تكاد تتخطى "حاجز بلانك" حينها انفصل أبو الإلحاد الرقمي عن عالمنا تماما واستحال كالهباء المبثوث يسبح في "العوالم المتوازية"...

بديع الزمان
03-12-2011, 03:52 PM
جمال

Maro
03-12-2011, 09:10 PM
جازاك الله يا أخ هشام !
والله أنى ضحكت حتى دمعت عيناى
ماضحكت هكذا منذ زمن

هشام بن الزبير
03-12-2011, 09:24 PM
بارك الله فيك أخي بديع الزمان.
أخي مارو, الحمد لله أني وفقت لإدخال السرور على قلب رجل مسلم..
جزاك الله خيرا.

التواضع سيصون العالم
03-12-2011, 09:26 PM
محاولة أدبية جديدة أخ هشام
مجهود رائع
أبا شريحة,أبا الإلحاد الرقمي .....في الحقيقة لديك براعة في اختيار الاسماء

طالب العفو
03-13-2011, 02:51 AM
ابتسامة من القلب

niels bohr
03-13-2011, 08:23 AM
النقد الساخر وحتى اللاذع له أصول وآداب, إن شذ عنهما الكاتب أصبح سفالة وإسفاف.
فشتان الفارق بين أديب بريطاني ساخر مثل جورج برنارد شو أو مصري مثل أحمد رجب, وبين إفرازات الملحدين على الانترنت.

بوركت أناملك أخي هشام ابن الزبير على نقدك المتحضر.:emrose:

هشام بن الزبير
03-14-2011, 09:42 PM
وفيك بارك الله أخي الكريم.

هشام بن الزبير
03-14-2011, 11:37 PM
أبو الإلحاد ورحلة البحث عن "معرف"

أبحر أبو الإلحاد على أمواج الشبكة العنكبوتية ليمارس نشاطه "التنويري" فتح ملفا يختزن فيه كل شبهة يظفر بها يرى فيها قدحا في الإسلام.. سمى هذا الملف "تناقضات الإسلام" بدأ يقلب عينيه بين العناوين المثيرة.. لكن سرعان ما شعر بالملل.. شعر أن كل شيء صار بلا طعم.. تذكر الأيام الخالية حيث كان شابا مفعما بالحماس.. يومها كان يشعر بأنه فيلسوف زمانه.. وأن شيخ الأزهر نفسه لا يقوى على مناظرته لسعة اطلاعه وقوة حجته.. أما اليوم فإنه أصبح يضرب ألف حساب قبل ولوج منتدى إسلامي.. فإن ينس فلن ينسى هروبه المخزي آخر مرة.. دخل ذلك المنتدى وهو ينادي: "أنا مسلم سابق.. أنا من طلبة الأزهر.. درست الفقه على المذاهب الأربعة.. أبصرت النور أخيرا.. وخلعت الخوف.. وتخلصت من الوهم.. أنا تحررت فألحدت.. فهل من مناظر؟" يا ليته لم يتسرع في التحدي, يا ليته تجنب لفظ المناظرة, وما له والمناظرة؟.. إنه لا يذكر متى قرأ كتابا كاملا في حياته.. كل ما يحسنه قراءة نتف هنا وهناك, في الجرائد والمجلات, والقفز الافتراضي من موقع إلى موقع ومن صفحة إلى صفحة.. أما المطالعة فإنه لا يملك الأناة التي تتطلبها.. طلب المناظرة ففضحه "عبد الهادي" بسؤال واحد.. قال له: "ما دمت كما تصف نفسك فأنت أعلم مني بالفقه.. فاسمح لي بسؤال قبل أن نبدأ المناظرة: [هل يجوز العقد على الجلاّلة المطلقة طلاقا بائنا, أم لا بد من تمام العدة؟] طبعا لم يتسرع في الجواب.. فلا بد للملحد أن يأخذ حِذره في كل حواراته.. فكيف إذا كان في منتدى وهابي؟.. فتح أبو الإلحاد صفحة جديدة.. وسأل إمام الشبكة العنكبوتية وبحر العوالم الإلكترونية وحجة العلوم الإنترنيتية "جوجل" : "هل يجوز نكاح المطلقة طلاقا بائنا قبل تمام العدة؟" ولم يخب ظنه.. فقد جاء الجواب بإجماع الصحائف الإلكترونية المتخصصة في الفتوى.. "لابد من تمام العدة".. حين أرسل جوابه مذيلا بالأدلة النقلية التي تؤيد دعواه الإلمام بالفقه المقارن.. حينها فات الأوان.. لقد بلع أبو الإلحاد الطعم.. وتقاطرت عليه الضحكات والتعليقات الساخرة من كل صوب.. "يا فقيه الزمان.. هل تكفي عدة "الجلاّلة" أم لا بد أن تحبس؟".. و "هل يصح العقد بدون ولي؟" و"هل الحكم خاص بجلالة البقر, أم يعم الإبل كذلك؟".. حين استعان بالبحث الإلكتروني هذه المرة ليفهم سر تندر القوم عليه.. كاد يصعق لهول ما قرأ: "الجلالة : الدابة التي تتبع النجاسات وتأكل الجلة , وهي البعرة والعذرة.." لم يستطع إتمام القراءة.. دارت به الأرض.. لم ير فرصة للتملص واختلاق الأعذار.. فانسحب في صمت.. وهاهو الآن يبحث عن معرف جديد.. هذه أول خطوة من خطوات "النضال الإلحادي الإلكتروني" بل هي أهمها على الإطلاق.. المعرف هو جواز سفرك إلى منتديات المتدينين.. يجب أن يكون "المعرف" ناطقا بالإلحاد.. لكنهم لا يقبلون الأسماء المستفزة.. هناك علاقة بين معرفات الملاحدة وبين البهارات.. فلكليهما نكهة خاصة.. لكن لا بد من القصد, فلو أسرفت فيهما صار الطعم غير مستساغ.. إذن فليجرب: "ملحد ولا فخر".. معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم... "فارس التطور" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم... "مجرد صدفة" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم... "لاديني ملتزم" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم..."قبطان تائه" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم... "أبو طفرة" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم. تبا.. هل هناك معرف لم يحجزه الزملاء؟ طيب.. لأجرب شيئا غريبا: "تراكتور" .. ضغط الزر فأتم التسجيل: "مرحبا بك "تراكتور" سيتم تفعيل اشتراكك قريبا.. ابتسم.. بدأ يهيئ السيناريو المناسب لهذا المنتدى.. ترى هل يضع اسطوانة: "مسلم سابق" أم يعدل عنها إلى نشيد: "سئمت الإلحاد"؟ لا هذا ولا ذاك.. "تراكتور" يوحي بالقوة والثقة.. فليدخل بشعار: "حتى متى تصدقون الخرافات؟" لكنه تردد.. فقد علمته التجارب أن هذه الافتتاحية تنطوي على مجازفة كبيرة.. ماذا عساه يفعل إذن؟ آه.. هذه فكرة جيدة.. بدأ يكتب موضوعه.. بدأ بالعنوان: "أوشك أن أسلم.. لولا حديث "صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عنَزة" وكتبها بسكون النون.. وسأل: "أليست الصلاة إلى الحيوان ذريعة إلى الشرك.. وبدأ يتحدث عن التوحيد والرواسب الوثنية.. وعن الحج والحجر الأسود.. إلى أن أرشده أول مجيب إلى الفرق بين العنَزة والعنْزة فانسل هاربا كعادته.. وكانت هذه نهاية معرف آخر لم يعمر إلا يوما.. وبقي الموضوع اليتيم شاهدا على أزمة أبي الإلحاد الرقمي أو "تراكتور"...

ابن الأشّوَل
03-14-2011, 11:53 PM
أضحك الله سنك يا أخي
لم لا تفتح الإدارة منتدىً فرعياً لك مع الإخوة (http://www.eltwhed.com/vb/forumdisplay.php?f=33)

طالب العفو
03-15-2011, 01:08 AM
كان والدي يصر علي سؤالي عن التجربة الادبية للكاتب كلما طلبت منه ان يختبر حفظي لاحد النصوص الادبية
واخي هشام بن الزبير غاص في تجربته مع الملاحدة
وعاشها
ثم صاغها فيما تعجز عنه انامل الكثيرين

سدد الله سهمك يابن الزبير

التواضع سيصون العالم
03-15-2011, 11:28 AM
"أبو طفرة" معذرة, يوجد مشترك بهذا الإسم. تبا.
:thumbup:
متابع....

هشام بن الزبير
03-17-2011, 12:20 AM
أبو الإلحاد في زمن الصحوة.

خرج أبو الإلحاد من بيته في ذلك المساء متعطرا في كامل زينته.. سار إلى بيت صديقه وهو يمني نفسه بليلة بألوان الطيف.. يا له من عفريت صاحبه شفيق.. إنه يعرفه منذ أيام الثانوية.. إنه عملة نادرة في هذا الزمان.. إنه آخر الصعاليك.. لا يتهيب من شيء.. ولا ينكص أمام نزوة.. ولا يضع لرغائبه حدودا ولا فواصل.. إنه يأتيه منذ سنوات آخر الأسبوع لينعم بساعات ينضبط فيها المزاج.. طرق الباب وهو يتوقع أقذع الشتائم.. فإن قاموس التحية الذي تعارف عليه الرجلان من الصنف الذي ينبه عليه في وسائل الإعلام بأنه لا يصلح للأطفال.. فتح شفيق الباب.. وكان وجهه غريبا.. كان غريبا جدا.. كان على وجهه معنى لم يره من قبل.. أو لنقل لقد غاب عنه شيء طالما لازمه.. لم تتح له المفاجأة أن يتعرف أي شيء هو بالضبط.. لكنه اختار أن يتجاهل الأمر.. فبادر صاحبه على عادته.. "ماذا جرى لك يا ثور؟ كأنك ما قمت بعد من النوم.." فأجابه: "لا أبدا.. كنت أصلي.." ففغر أبو الإلحاد فاه.. وألجمته الصدمة برهة.. ثم راجعه في ذهول: "كنت تعمل إيش؟" فأعاد عليه كلامه: "كنت أصلي العشاء".. فانفجر ضاحكا: "نعم نعم.. كيف انطلى علي مكرك.. أنت تمزح.. يا شيطان.. أفزعتني.." قاطعه شفيق قائلا: "أنا لا أمزح, لقد تبت إلى الله." مضت لحظات في صمت استعاد فيها أبو الإلحاد شريط ذكرياته في هذا البيت.. تذكر المجون والفجور.. كان دوما يتوقع من شفيق كل شيء.. يتوقع منه كل سوء.. فهو متقلب المزاج.. وتمر به ساعات يكون فيها أشرس من ذئب.. لكنه لم يتوقع شيئا كهذا الذي يحصل الآن أبدا.. تأمل مرة أخرى في وجه صديقه.. فوجد هدوءا لم يره عليه من قبل.. فقال له مداعبا يريد الخوض فيما جاء من أجله.. ويتمنى أن ينتهي هذا الموضوع الغريب الذي يوشك أن يقلب لون ليلته من الأحمر إلى الرمادي فالأسود.. قال له: "حسنا مادمت قد فرغت من الصلاة.. فدعنا ندخل.. الليلة لنا ونحن لها.." فنظر إليه شفيق في سكينة وقال: "انتهت تلك الليالي إلى غير رجعة.." فسأله أبو الإلحاد: "ماذا تعنى؟" فرد عليه: "أعني أني اليوم إنسان جديد" أمسك بكتفه وهو يقول: "نعم.. لكنك لن تصبح متزمتا.. تعال.. هذا مستحيل.. ليس أنت.." فقاطعه قائلا: "لا تخف لا أنوي أن أصير متزمتا لكني مسلم, هذا كل شيء.." فحاول أبو الإلحاد إلى آخر رمق أن ينقذ ليلته فقال وهو يتكلف الضحك: " حسنا يا شيخ.. صليت العشاء.. فافعل ما تشاء.. شوية لربه وشوية لعبده" وحاول الدخول فحال شفيق بينه وبين الباب.. حينها أحس أبو الإلحاد بشيء غريب.. أحس لأول مرة بتفاهة إلحاده.. إنه يقف أمام رجل يعرفه دهرا ولا يستطيع أن يمنعه من أن يشق طريقه بعيدا عنه.. بدا له شفيق كأنه سفينة تبحر من مرسى وهو يقف عاجزا ينظر إليها.. ولا يملك أن يوقفها ولا أن يصعد إليها.. أحس برغبة في الصياح أو البكاء أو الفرار.. لكن نفسه كانت في غاية الضعف.. نظر إلى صديقه وسأله: "وماذا عن صداقتنا؟" فأجابه: "تستطيع أن تزورني متى شئت.. لكن انس ما كنا نجتمع عليه.." حينها استدار أبو الإلحاد ومضى يجر رجليه.. وهو لا يكاد يصدق ما جرى..

أحس بريح تعصف في رأسه.. إنه زمان صعب يا ابا الإلحاد.. إن التزمت يزحف من كل حدب وصوب.. أينما ولى رأى أصحاب اللحى.. وسمع الأذان وتلاوة القرآن.. حتى التلفزيون لم يعد آمنا.. بالأمس كان يقلب القنوات وهو يحمل بيسراه سيجارة.. فجأة بدا شيخ وقور ينظر إلى عينيه مباشرة ويقول له معاتبا: "ليش تدخن يا ابني, حرام عليك!.." قفز في موضعه.. وأطفأ الجهاز.. ثم هاهو الساعة يمضي أمام المسجد.. يجب أن يسرع.. هذا أوان انصراف الناس من صلاة العشاء.. فجأة وجد نفسه في بحر بشري.. مر به شاب في العشرين.. فأهداه ظرفا مغلقا.. أخذه منه وانصرف مسرعا.. وقبل أن يدخل حارته مر برجل عجوز نزل من سيارة أجرة.. وهو يحمل حقيبة كبيرة.. لم يشعر بنفسه إلا وهو يساعد العجوز في حمل متاعه.. وضعه أمام باب بيته وهم بالانصراف.. فالتفت إليه الشيخ فدعا له: "الله يرزقك شربة من حوض النبي يا ابني.." ارتبك ولم يدر بأي شيء يجيب.. خرجت من أحشائه كلمة طرقت أذنيه وهو لا يكاد يصدق ما قال.. لقد قال أبو الإلحاد: "آمين".. لو نطق هذه الكلمة في مجلسه مع زملائه.. إذن لظنوه جن..

ندم أشد الندم أنه ساعد الشيخ.. بل ندم على خروجه من بيته هاته الليلة العجيبة.. لا بد أن الصدفة تعبث بليلته وتحيك له مؤامرة تكاد تذهب بصفاء إلحاده.. نعم كل ما جرى له صدفة.. مروره أمام المسجد صدفة لا شك في ذلك.. دعاء الشيخ أمر يحصل مع أمثاله من الأميين كل يوم.. يدعون ويتمتمون بأشياء لا معنى لها طيلة نهارهم وليلهم.. وما له ولهم؟.. كل ذلك حصل اتفاقا.. لكن أن يصلي شفيق ليلة الأحد.. وأن يصمد أمام إغراء السمر ورنين الكؤوس ودخان الشيشة كأنه راهب في كنيسة.. هذا قطعا مما يأبى عقلي أن يصدقه بسهولة.. فكيف يكون صدفة.. لا بد لي من تفسير لهذا الانقلاب المفاجئ.. ولا بد من عمل شيء أمام هذا الطوفان المتشدد.. لا بد من تكثيف جهود دعاة التنوير.. لا بد لهم من الوقوف في وجه زحف القنوات الدينية.. استرسل في أفكاره حتى وصل بيته.. وحين استلقى على فراشه.. وأحس بشيء من الهدوء يعود إلى أفكاره.. تذكر الظرف.. فتحه في شرود.. فوجد فيه سواكا وقطعة مسك.. شعر بالاشمئزاز.. ثم أخذ منه قرصا إلكترونيا كتب على غلافه بخط كوفي عريض: "لماذا لا تصلي؟" ألقى به بعيدا كأنه جمرة ملتهبة.. وتسارع تنفسه.. وأحس بضيق في صدره.. أشعل سيجارة.. وقال يحدث نفسه: "لن ينفعني في اجتياز هذه الليلة المشئومة إلا النوم.. فلأنم كي ينتهي هذا الكابوس.. خلع حذائه وأطفأ السراج.. وتمنى لو كان يؤمن بإله فيدعوه بشيء واحد لا ثاني له: "أن يلقي عليه طوفانا من النوم" لكن الإلحاد يضرب جذوره في أعماق نفسه.. فأي إله يدعو؟.. أغمض عينيه فظهر له وجه شفيق الجديد مستنيرا.. وهو يقول له: "لقد كنت ميتا فولدت من جديد.." اجتهد في دفع هذا الخاطر.. فظهر له الشيخ وهو يمسك يده ويقول: "الله يرزقك شربة من حوض النبي يا ابني.." تخيل الصراط وخطاطيفه.. تخيل نفسه يتحدر في جهنم.. فتح عينيه.. تصبب عرقا.. تخيل أن صديقه شفيق جاءه وهو يليبس قميصا أبيض وقال له: "ليش ما تصلي؟" عندها قام أبو الإلحاد وأحضر كوب ماء وأخرج من جيبه علبة.. أخذ منها حبتين.. بلعهما ثم أتبعهما ماء.. وما هي إلى دقائق حتى سمع له غطيط..

هشام بن الزبير
03-17-2011, 12:33 AM
إخواني:
أبا الأشول..
طالب العفو..
التواضع سيصون العالم..
بارك الله فيكم وأهديكم مغامرة أبي الإلحاد أعلاه ومعاناته زمن الصحوة :):

التواضع سيصون العالم
03-17-2011, 12:49 AM
يا رب اهدي أبا الإلحاد حتى يفيق من الغفلة
أخي هشام بارك الله فيك,أنت ديستويفسكي منتدى التوحيد,هذا لقبك من اليوم فصاعدا,نعم ديستويفسكي التوحيد
ما رأيك بهذا اللقب؟

هشام بن الزبير
03-17-2011, 02:09 AM
أخي الكريم, رزقني الله وإياك التواضع.. هذه الخربشات لها هدف معين.. أريد أن أنقل الكلام مع الملاحدة من دائرة الجد إلى دائرة الهزل.. فأكثرهم ليس إلا آلة صماء لبث الشبهات.. فلمثل هؤلاء نصبت يوميات أبي الإلحاد الرقمي :): ليروا فيها وجوههم وفكرهم وتخبطهم.
لا يهم كيف تسميني, المهم أن تصل كلماتي وأن تبلغ وجهتها.. وإن كنت أطمع أن أبلغ يوما مراتب فحول أهل الأدب من المسلمين.

ابوالوليد
03-17-2011, 10:43 PM
بارك الله فيك

حقيقة حري بكل مسلم تسخير وتوظيف كل ما لديه من طاقات ومواهب في الدفاع عن الدين وفي خدمة الاسلام و المسلمين , ولا شك ان سلاح الكلمة الراقية تحدث من التأثير ما لا يمكن تصوره, فقد تغني احدى هذه المقالات الادبية عن عشرات المناظرات والأخذ والرد ولنا مثال بذلك الصحابي الجليل حسان بن ثابت وكيف استطاع النبي عليه الصلاة والسلام توظيف هذه الموهبة حتى قال عليه الصلاة والسلام "اهجهم وروح القدس معك"

تحياتي لك.:41:

هشام بن الزبير
03-18-2011, 10:36 PM
وفيك بارك الله أبا الوليد..
ولك أهدي المقالة التالية.. وأتمنى أن تروقك..
إنها جواب سؤال خطر يوما ببالي وهو: أيها الملحد: هل شعرت يوما أنك سلفي؟

هشام بن الزبير
03-18-2011, 11:06 PM
السلفية الإلحادية

عاد أبو الإلحاد من عمله وهو يفكر في مقالة جديدة يدبجها, ثم يضعها لبنة في بناء "التنوير" الذي لا يفهم معناه خفافيش الظلام.. تفكر في تراجع القيم الإنسانية البحتة لحساب القيم البالية الموروثة.. تفكر في عودة "الميتافيزيقا" إلى عالم يحلم رواده باستيطان المريخ.. عجبا لهؤلاء المتعلقين بالأوهام.. كيف يصدقون المحال.. كيف يسلمون عقولهم للخرافة.. تصور "الميتافيزيقا" امرأة ذميمة تركب حصانا بلا سرج تغير على الأميين وأنصاف المتعلمين لتسلبهم "الفكر الحر" و"النقد العلمي".. توقف عند هذه النقطة قليلا وتساءل: هل صحيح أن خصوم "التنوير" وحدهم يصدرون عن فكر موورث؟ هل غيرهم بريء من التقليد؟ "المتنورون" يدعون التحرر والاستقلال الفكري.. فهل تصمد هذه الدعوى أمام النقد؟.. وهل تسلم من الاعتراضات نفسها التي يرمون بها خصومهم؟ أحس بأن تفكيره يقوده في وجهة طالما هرب منها.. دعته غريزة حب البقاء "الداروينية" إلى توخي الحذر.. خشي على إلحاده أن يتدنس بشوائب "الهرطقة الدينية".. أحس باقترابه من مأزق.. هم بالنكوص.. لكنه تذكر تشدقه الممجوج بالحرية الفكرية والموضوعية والنقد الذاتي فأصر على أن يمضي خلف تأملاته إلى آخر الطريق.. ومهما كلفه الأمر.

حينها شغل حاسوبه وفتح صفحة جديدة.. بدأ يكتب مقالته: " إسهاما في جهود "التنوير" التي يقودها جنود مجاهيل في العالم الافتراضي.. وإتماما لسلسلة مقالاتي السابقة الموسومة ب"نقد الفكر الديني من منظور لاديني" أعرض اليوم لأكبر شعار يحمله رواد "التزمت الديني المعاصر" ألا وهو "السلفية" إنه شعار يصيبني بالسعار.. إنه سيف قدّ من كلمات.. فماذا يقصد بهذا الشعار أصحابه؟ وسترون أني لن أحيد عن المنهج العلمي في هذا البحث, وأني سأتحرى الموضوعية إلى أبعد حد حتى أصل إلى رؤية واضحة للمسألة المطروحة.

إن الفكر الديني يتهم بأنه يحتكر الحقيقة.. ولست أدري من استعمل هذا التعبير "السوقي" أول مرة.. لعله بقال أو خضار.. وإلا كيف نفسر أن يتهم أحد باحتكار الحقيقة.. وهل الحقيقة سلعة في دكان..طبعا يقصدون أن المتدينين يعتقدون أن ما معهم هو الحق.. ولكن هل يوجد صاحب فكرة يحسب نفسه على باطل؟ في رأيي المتواضع –أنا أبو الإلحاد- يجب أن نراجع هذه التهمة التي أراها منافية لأصول المنهج العلمي.. فلنحتكم جميعا في نقاشنا للمتدينين إلى الموضوعية العلمية.. وإلى الحجج.. أما الحقيقة فكل يدعي بها وصلا.. وإلا ففيم الخلاف أصلا؟ إذن الفكر الديني يدعي معرفة الحق.. فيخالفه الفكر اللاديني فينسب ما معه إلى الحق.. لكن ليس هذا موضوعنا.. إنما أردت أن أضع مصطلح "السلفية" على طاولة البحث.. أو على مشرحة "الأفكار الميتة". حسنا.. ماذا لدينا؟ سين و لام و فاء.. المعاجم تقول "سلف" أي "تقدم".. والسلف أي المتقدمون.. أصحاب الفكر الديني إذن يدعون أنهم أتباع لسلف ما.. إنهم لا يمتلكون فكرا خاصا بهم أصلا.. فكيف يجدون لقولهم صدى في زمان ما بعد الحداثة وفي عصر التكنولوجيا؟ لماذا تنتشر "سلفيتهم" في مجتمعاتنا المتمدنة انتشار النار في الهشيم؟ توقف عن الكتابة وتمعن فيما كتبه للتو: "سلفيتهم" وهل لغيرهم "سلفية"؟ أخذته قشعريرة.. هم بإلقاء الموضوع في سلة المهملات.. لكنه أصر على الإنسياق وراء حبل أفكاره.. فاستأنف الكتابة: "ماذا لو وضعنا فكرنا "اللاديني" "الإلحادي" بدوره على المشرحة؟ دعونا نعامل أنفسنا بما نعامل به الخصم.. فصاحب الحق لا يخشى شيئا.. والمنهج العلمي لا يحابي أحدا.. إذن نحن نرمي "المتدينين" باجترار فكر قديم بال.. فدعونا نتأمل فكرنا "التقدمي المتحرر".. دعونا ننفذ إلى جذوره.. حتى يتبين لنا بالبرهان الساطع أن "سلفية" القوم بدعة في ميزان العلم, وأننا أهل الحداثة والإبداع والإبتكار.

لا شك أن مجتمعاتنا المدنية المعاصرة شامة في جبين الزمان.. إنها مجتمعات تنزهت عن كل الأديان.. وتنكرت للإيمان بالغيب وآمنت بما في الجيب.. لكن دعونا نقلب صحائف التاريخ لنفتش عن جذور مذهبنا.. هل هو وليد اليوم أم أن له أصلا وسلفا؟ هل كان ثمة من يخالف سلف هؤلاء "المتدينين" في الزمن الغابر ويرد عليهم؟ أم أن العصور القديمة كانت أرضا خصبة لأديانهم لا ينازعهم فيها أحد؟ لا شك أن الفلاسفة عاشوا جنبا إلى جنب مع قساوسة الأديان ورهبانه.. لقد كانوا حقا فرسان "التنوير" ربما كان أولئك "سلفنا الصالحين".. فأعظم بهم وأكرم بتراثهم.. سقراط.. أفلاطون.. أرسطو.. كانوا فلاسفة أنوار غير متدينين.. لكن مهلا.. إنهم لم يكونوا ملحدين أيضا.. لا يصح لنا أن ننسب مذهبنا "الإلحادي الراديكالي" إلى هؤلاء.. هذا تدليس.. فنحن برآء من تهمة "السلفية" نحن "متنورون أقحاح" إذن..

يبدو الأمر كذلك لولا أن الفلاسفة انبروا للرد على طائفة أخرى ينبغي أن نلقي على فكرها نظرة عابرة.. فكلنا نعلم أن السوسفطائين كانوا متحررين من كل حقيقة.. لقد كانوا لا يرون لشيء حقيقة البتة.. لقد كانوا يرون السواد بياضا والبياض سوادا.. والحق باطلا والباطل حقا.. لقد تركوا لك فرد أن يرى حقيقته.. فلا حقيقة على الحقيقة.. لقد كانوا رواد النسبية.. نسبية الحقيقة ونسبية المعرفة.. هل يعقل أن يكون هؤلاء "سلفنا"؟ قوم ينكرون بداهات العقول؟ إن كثيرا من الفلاسفة يرون الإيمان بعلة أولى لهذا الكون من العلوم الضرورية التي يُشك في عقل من يقدح فيها.. أما رواد المذهب السوفسطائي فإنهم لم يعترفوا قط بشيء اسمه "علم ضروري" فلا ضرورة في العلم ولا العلم ضرورة.. إنهم حقا عظماء.. إنهم فرسان شجعان حطموا كل الثوابت وجعلوا معرفة الحق أمرا موكولا لكل إنسان.. فما رآه فهو الحق.. وليس له أن ينكر على غيره أبدا.. هكذا تقوم المجتمعات المنطلقة المتحررة.. تصبح بحرا تعوم فيه ملايين الجزر البشرية بآرائها المتناقضة وأخلاقها المتضاربة.. ألا يحق لنا أن نفخر بسلفنا الأولين؟ يا لها من نتيجة غير متوقعة.. إن المتدينين كانوا يدلسون علينا باحتكار "السلفية" فإن السلفية كما بينا بالبرهان القاطع أمر مشترك بين أهل كل ملة ومذهب.. إننا لم نخترع إلحادنا اختراعا.. بل إن له جذورا في الفلسفات والوثنيات القديمة.. بل إن كتب المتدينين حوت طرفا من تاريخ "سلفنا".. كيفلا فكتبهم "المقدسة" ليست إلا نصوصا موروثة تشهد لمراحل تاريخية منقرضة.. إننا إذ نطالع أخبار إبليس ومناظراته "العقلانية" ونتأمل "أقيسته المنطقية".. وحين نتدبر ردود قوم نوح وعاد وفرعون على أنبيائهم, نكاد نلمس إرهاصات نشأة مذهبنا الذي نعتز به اليوم.. بل إننا حين ننظر في سير أبي جهل وأبي لهب نكاد نجزم أن هؤلاء العظماء قد مهدوا لنا طريق الكفر والإلحاد.. وأمدونا بإرث "تنويري" عظيم لا نزال نستقي منه في نقدنا للأديان.. هؤلاء آبائي فجيئوني بمثلهم أيها المتزمتون.

وختاما ألخص فكرة هذا البحث قائلا: إن "السلفية" فكرة إنسانية لا يصح أن نتركها للمتزمتين يشنعون بها علينا ويرموننا بالابتداع.. فكما أن لهم دينهم فإن لنا لادينيتنا.. وكما أن لهم سلفيتهم فإن لنا سلفيتنا.. وشتان بين "دين" و"لادين" وشتان بين "سلفية" و"سلفية".. وما أبعد البون بين "سلفية النور" و"سلفية الظلام" وشتان بين "سلفية الإيمان " وبين "سلفية الإلحاد ".. أعلم أنكم أيها الزملاء قد تختلفون معي.. لكني نقضت للتو إحدى أكبر وأعتى آليات الفكر الديني المعاصر.. وسلبت "المتزمتين أمضى سلاح يشهرونه في وجوهنا.. ختم بهاته الكلمات مقاله.. نظر إليه في زهو.. أعاد قراءته مرة أخيرة ثم كتب العنوان: "نظرات في سلفية الإلحاد" ثم ضغط على الزر فأرسله إلى أكبر منتديات "الجرب والجذام".. ذهب ليحضر فنجان قهوة و لفافة دخان.. تفقد موضوعه فلم يجده.. عبثا حاول أن يفهم الذي جرى.. بعد دقائق استلم رسالة خاصة من المشرف.. فتحها فإذا فيها: "عزيزي أبا الإلحاد.. لقد تم توقيف اشتراكك.. لمزيد من التوضيح يرجى مراسلة المشرف العام.."...

هشام بن الزبير
03-21-2011, 12:50 AM
نحو تنوير النحو
فرغ أبو الإلحاد من مقاله الأسبوعي.. رفع فيه مذهبه وخفض مخالفه.. وذكر امتعاضه المتفاقم من تعاظم أمواج الفكر الجامد.. وحذر من الأخطار المحدقة بالمجتمع المدني.. وبين أنها بدأت تنحت في صبر حروف اليقين الديني في بيئة نشأت على الشك المنهجي.. وأنها بدأت تصبغ حياة الناس بصبغة البداوة وبألوان ما قبل الحداثة الباهتة.. تنهد حسرة على تغير الأحوال.. وتعجب من انقلاب الموازين.. نشر مقاله في مدونته الكالحة فما لبث أن جاءه تعليق.. اعتدل في جلسته فرحا يترقب وبدأ يقرأ: عزيزي أبا الإلحاد.. بغض النظر عن مضمون أفكارك إلا أنني بصفتي أستاذا للعربية أخبرك أن قراءة مقالتك اصابتني بالصداع النصفي.. إن كلماتك تئن تحت ركام من اللحن والركاكة.. (...) خذها مني نصيحة مشفق: لا تنشر بعد شيئا قبل أن المراجعة اللغوية الدقيقة. تحياتي.. (فارس الضاد). شعر بالحنق لأن التعليق لم يلق بالا لا إلى تحليله العميق للتحولات التي تكاد تعصف بمكتسبات الحداثة, ولا إلى رؤاه التقدمية الثاقبة التي تعيد الأمل إلى النخبة المتنورة.. قال كأنه يحدث نفسه: "لا بد أن هذا المعلق المغرور منهم.. لا أكاد أشك في ذلك.. فليمت هو ونحوه غيظا.. لا يلتفتون إلا إلى القشور.. متى يدركون حقائق الأشياء؟" جلس يفكر في علاقة اللغة العربية بتنامي الفكر الديني.. فعنت له فكرة سرعان ما استهوته واستحوذت على فكره.. لم لا يكون هذا موضوع مقالته التالية: "نحو تنوير النحو"؟ غضب لتذكر التعليق الوقح وتسارعت أنفاسه وغاظه تقريعه على خطئه المتكرر في كتابة الهمزة.. فوق السطر أو فوق الألف أو فوق الياء.. فلتكن فوق السقف فما الذي يتغير؟ يا لهم من متنطعين.. فتح مذكرته ليدون أولى أفكاره.. لتكون لبنات لمقالته القادمة.

كتب رؤوس أقلام: "الإلحاد منهج حياة.. اللغة رداء الفكر.. علوم العربية نشأت تحت قهر الفكر الديني.. لا بد من مراجعة الإرث اللغوي في ضوء مذهب التنوير.. النحو يرزح تحت ركام القرون المتطاولة.. النحو وُضع لتكريس هيمنة الخطاب الديني المنغلق.. تأمل جملته هاته فانتبه لهذه العبارة الغريبة: "النحو وُضع.." حك جبهته بقلمه وفغر فاه متفكرا.. من وضعه؟.. لماذا نقبل مثل هذا الاسلوب الغامض؟.. لماذا ننساق وراء هذا التلبيس؟.. ومن أدرانا أن أحدهم وضعه؟ كل ما هنالك أنه هنا كالسيف مصلتا في وجه التحرر والانعتاق الفكري.. تأمل تدفق أفكاره وابتسم فبدت أسنان علاها القلح.. "وجدتها.. وجدتها.." لقد عثر لتوه على قلب مقالته الوليدة.. وشرع يبحث عن الشرايين والأوردة ليضخ إليه بنات أفكاره المتنورة.. بدأ يتتبع خيوط فكرته لينسج منها هيكلا لمقالته.. النحو الذي يشنع به عليه مخالفوه مرة تلو أخرى ليس منزها عن النقد.. وكيف يكون كذلك؟ إذا كان لا يتورع عن الطعن في القرآن.. فكيف يقبل بالنحو دون نقده وتمحيصه ؟.. استغرب أنه لم ير الأمر على هذا النحو من قبل.. كان يكتب ويجتهد أن يوافق ما قيل له إنه يوافق النحو.. وكان يضحي من أجل ذلك بكثير من العبارات المتألقة التي يشك في صحتها.. لا شك أن كثيرا من أفكاره التنويرية العبقرية قد ضاع بسبب الحرص الزائد على اتباع هذا النحو العتيق.. ثم هاهي ذي تأملاته تفضي به إلى هذا الكشف العلمي الفريد.. هاهو يخرج مناقيشه ليستل هذا الأسلوب اللغوي المتدنس بأوحال الميتافيزيقا.. "المبني للمجهول" انظر كيف يسمونه.. إنهم لا يريدون لنا أن نقبل بالجهالة والجهل فحسب.. بل يريدوننا أن نبني عليه.. كم يستخفنا هؤلاء.. لكن لن نقبل بتدليسهم بعد اليوم.. لا بد من تطبيق الإلحاد على العلوم.. فلأبدأ بالعربية.. وليكن النحو بداية رحلة الألف فن.. قد أموت قبل أن أفلح في تحرير العربية من شوائب الميتافيزيقا ومن رواسب الخرافة.. لكن حسبي أن أكون شمعة تضيء لتنير للزملاء المتنورين الطريق.. سأنتهي حتما سمادا يغذو الأرض فتنبت حشائش تأكلها البغال والحمير.. أو أصير وقودا يدير عجلة الإقتصاد المادي في مجتمع متنور.. لكني سأخفف من وطأة الجهل والتزمت بفتوحاتي العلمية.. فإن مذهب الظلام لن يدوم طويلا.. أنا أوقن يقينا ماديا أن التنوير سينتصر في النهاية..

لكن كيف أستطيع أن أزيح "المبني للمجهول" عن ساحة النحو ريثما أزحزح النحو برمته عن عرشه؟.. بحث قليلا فوجد أن أهل العربية يدعونه أيضا: "ما لم يسم فاعله" فتريث قليلا.. وقارن الاسمين.. ثم حرك رأسه في استغراب وهو يقول: "لا ينقضي عجبي من تدليس القوم: مبني للمجهول أو ما لم يسم فاعله.. هذا تدليس بين.. إنه استدلال بموطن النزاع.. النزاع ليس على جهالة الفاعل.. بل على وجوده من عدمه.. فلا فرق إذن بين قولهم عن الفاعل أنه مجهول, وقولهم إنه لم يسم..".. ثم إنه دسوا تدليسهم في التعريف عينه.. "لم يُسم" كم يغيظه هذا التعبير.. حاول أن يبني جسرا يجمع بين شتات أفكاره فتأمل في أصل مقالة الإلحاد التي يعتز بها ويكررها في نفسه كلما تسربت إليه وساوس الإيمان وكلما قذفته الشبكة الإلكترونية بشبهات الإسلام.. حينها يكرر ما غدا مثل الشهادتين في ملته: "لا إله والكون مادة.. والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم." نظر إلى معاني التنوير في الأصل الأعظم لملته.. فلم يبصر إلا ظلاما دامسا..لا بد أنه مرهق بسبب الجهد الذي بذله.. تفكر في أنه إنما ينكر الخالق لأنه لم يره قط.. وينكر الخلق لأنه لم يشهده.. فخطر له أن هذا سر ابتداع المتدينين لصيغة "المبني للمجهول" إنهم أسسوا لفكرهم الديني من داخل النحو.. اعترف في نفسه بعبقرية النحاة من هذا الوجه.. تملكه الإعجاب بروحه العلمية وبإقراره بمكر الخصم وفضله.. حاول أن يطبق مبادئ ما تحصل له حتى الساعة من ثمرات مشروعه في تنقية النحو من شوائبه الدينية.. فكتب: "لو تركنا هذا الأسلوب الظلامي يعيث الفساد داخل اللغة, فإننا سنرتد مؤمنين يوما ما.. كيف؟ إليكم الجواب..

تنشأ في بيئة التقليد على المعتقد الموروث.. فتتوهم معانقة الحقيقة وامتلاك اليقين.. ثم تهب عليك نسائم التنوير فترتاب وتشك.. ثم تنسلخ من الإيمان شيئا فشيئا حتى تبلغ مبلغي من الإلحاد وتجرب تجربتي فيه فتحس بمعنى الحرية من كل دين وخلق.. فتقول: أنا لم أر لا الخلق ولا الخالق, إذن النتيجة المنطقية التي يمليها عليك التنوير المادي الذي يكفر بكل ما غاب عن الحس: "لا خلق ولا خالق" ومن جادلك فقل له هات برهانا علميا واحدا على دعواك.. حينها تكون قد قطعت أشواطا من رحلة التنوير تكل عنها أبصار المتدينين.. وتكون قد ذقت مذاق الإلحاد الذي لا يدركه الوصف.. إنما يعرفه من ذاقه.. ومن ذاق عرف.. لكن انتبه.. إذا كنت ممن يصدقون بن آجروم وبن مالك وأضرابهما.. فإنك توشك أن ترتد على عقبيك.. خصوصا إذا بلغت إلى باب [باب المفعول الذي لم يسم فاعله: وهو الاسم المرفوع الذي لم يُذكر معه فاعله، فاِن كان الفعل ماضيا ضُمَّ أوله وكُسر ما قبل آخره، واِن كان مضارعا ضُمَّ أوله وفُتِحَ ما قبل آخره.] قرأ هذه الفقرة من الآجرومية ثم تساءل: كيف ندع أمثال هؤلاء يستخفوننا بالنحو على هذا النحو؟ انظر كيف يقول: يُذكر.. ضُمَّ.. فُتح.. لو غفلت عن الخطر الذي أتخوفه عليك فإنك ستقول يوما ما في لحظة ضعف: لحظة بدء الحياة في هذا الكون مجهولة والذي جرى في الأزل كله مجهول.. إذن تطبيقا لمبادئ النحو قد نقول تجوزا: "ابتدئ الكون.. أو أنشئ الكون.. أو خُلق الكون" طبعا سيستعمل الملحد المتنور ذلك كله من باب المجاز.. استطرد في أفكاره: "المجاز يصلح ليكون حلقة أخرى من سلسلة تنوير النحو" انتهى الاستطراد.. ثم يرتفع الملحد على هذا النحو درجة درجة ليبلغ سقف الوهم الذي نصبه له النحاة في مكر.. فيقول: "حسنا: خُلق الكون. هذا مبني للمجهول ولم يسم فاعله.. إذن أنا أقر من ناحية لغوية نحوية بحتة بالجهل بالخالق, كما أقر -دائما من داخل النحو- بوجوده.. فلا يبقى بعد إلا أن يتعرض من مر بهذه المراحل أو بعضها إلى هزة عاطفية كأن يموت له قريب, أو يجتاز محنة نفسية فتغلبه رواسب التدين الموروث فينتكس مرة أخرى إلى التفكير الجدي في ارتداء ثياب الإيمان.. وهكذا تكتمل خيوط الفخ المحكم الذي نصبه النحاة لمن لم يؤت فهما ثاقبا كفهمي.. ولم يعرف مثل معرفتي.. فتتحقق على أيدي أولئك الخصوم الأفذاذ نهاية جهود التنوير..

ستسألونني حتما: وكيف نخرج من هذا الإشكال؟ فأقول -أنا أبو الإلحاد-: لا يجبرنا شيء أن نؤمن بالمحال ولا أن نتعلق بالأوهام.. لذا أقترح من يوم المتنورين هذا, أن نعدل عن هذا الأسلوب المحفوف بالأخطار "الميتافيزيقية" والمتلبس بالعقائد الغيبية إلى أسلوب متحرر من ذلك كله.. فنسمي ما لم نشهد له فاعلا: "المنفعل" فنستعمل مثلا: بدل "بُني": "انبنى" وبدل "فُعل": "انفعل" وبدل "ضُمّ": "انضمَّ" وهكذا.. فلا نقول: "ضُرب زيد" بل نقول: "انضرب زيد" ولا نقول: "قيست المسافة.." بل: "انقاست.." ولا نقول: "طُرح في سلة المهملات" بل نقول: "انطرح فيها" وهكذا دواليك حتى نؤسس لصيغة "المنفعل" التي ستزيح البساط من تحت أقدام النحاة ومبنيهم للمجهول. ولو أخذنا مثالا من درس التاريخ, فلا ينبغي أبدا أن نقول "بنيت صخور (ستون هنج) في إنجلترا." بل نقول إنها: "انبنت." ولو شنع علينا متدين واعترض باستحالة هذا المعنى, فنجيبه بإمكانية تضافر عوامل مادية طبيعية متعددة عبر بلايين السنين ونؤيد نظرياتنا المتعددة حول الموضوع بحساب احتمالات الصدفة الدقيقة حيث الأرقام الفلكية التي لا تفصل أصفارها عن يمين وشمال إلا فاصلة.. نعم إنها مقادير أخف من هباء وأوهى من هواء, لكن الإيمان بها يجعل الإيمان بالغيب بلا فائدة.. لا تهم الوسائل.. المهم هو نسف العقائد الغيبية التي استوطنت بنيان النحو العربي.. حينها دخلت أم الإلحاد الغرفة وسألت بعلها: "عزيزي لحّود.. أريد أن أكتب رسالة تهنئة لحليمة بمناسبة نجاح ابنها.. فماذا يقال في هذا المناسبة؟" أغلق مذكرته ونظر إليها وهم بالجواب.. ثم تريث لحظة وقال: "ينقال: ألف ألف مبروك." نظرت إليه في استغراب ثم انصرفت دون أن تنطق بكلمة...

عياض
03-21-2011, 02:22 AM
نعم ديستويفسكي التوحيد
و الله قليله عليه ..:): قلم استاذنا هشام يقارب قلم دوستويفسكي في البعد عن التكلف و مجاراة نمط النفس في السرد و العين الفاحصة الملاحظة ...و يتفوق عليه في يقين العلم و التدليل على الحل و الاثبات بعد النفي دون الافصاح عنه....و اؤيد مطالب المتظاهرين بافراد جناح للأستاذ في قسم المقالات لهذه المقالات القوية و التي يعز وجودها على الشبكة بهذه الجودة في السبك و حسن اصابة الفكرة للمفصل...الشعب يريد ....:):

حرام عليك يا ابني...ليش تدخن
هذا لا بد انه الشيخ محمد حسين يعقوب حفظه الله فهذا اسلوبه و كم مرة وقعت لي معه هذه الصدف :):

هشام بن الزبير
03-23-2011, 08:47 PM
و الله قليله عليه ..:): قلم استاذنا هشام يقارب قلم دوستويفسكي في البعد عن التكلف و مجاراة نمط النفس في السرد و العين الفاحصة الملاحظة ...و يتفوق عليه في يقين العلم و التدليل على الحل و الاثبات بعد النفي دون الافصاح عنه....و اؤيد مطالب المتظاهرين بافراد جناح للأستاذ في قسم المقالات لهذه المقالات القوية و التي يعز وجودها على الشبكة بهذه الجودة في السبك و حسن اصابة الفكرة للمفصل...الشعب يريد ....:):
حياك الله أستاذي عياض قارئا لهذه الصفحات المشاكسة.. دوستويفسكي :confused: أغرب شيء في هذا التشبيه أني لم أقرأ حرفا واحد لهذا الدب الروسي الحكيم.. أعتز بتشجيعكم وأصر على الحفاظ على هذا الركن المتاح حاليا فهو يفي بالغرض :):

أخي عياض: ما الصلة بين الإلحاد و الإقتراض؟
هذا هو "مفصل" اليومية التالية من يوميات أبي الإلحاد.. وقد استوت وفاحت رائحتها.. ولم يبق إلا أن تأخذ مكانها بين سابقاتها..
فمرحبا بك وبكل الأحباب.. وحبذا لو شرفنا أحد أقران بطلنا بالمشاركة في إثراء الموضوع ...

هشام بن الزبير
03-23-2011, 10:19 PM
تطهير العلم من الإيمان

دخل أبو الإلحاد إلى مدونة أبي سليمان يتصفح آخر مقالاته.. لكن شيئا ما أسفل الصفحة استوقفه.. نظر إلى التوقيع مليا فأعياه فهم معناه.. "من افترض اقترض..." تأمل الكلمات ونقط الحذف.. تملكه الفضول.. هل هي مجرد زخرفة لفظية تتراقص فيها الحروف المتشابهة؟.. لا أظن فالكاتب من عتاة الموحدين لا ريب.. لكنه نبيه لبيب.. أخفى وجهه بين كفيه وردد الكلمات مرارا "من افترض اقترض..." كأنه يستجدي تفسيرا ما.. أي تفسير.. إنه ملحد لكنه محب للعلم واسع الفضول.. لذا يتسلل بين الفينة والأخرى إلى هذا المكان ليقتنص بعض الفوائد التي قلما يجد لها نظيرا في منتديات "الجرب والجذام".. طالما تنبه بفضل مقالات أبي سليمان إلى إشكالات عميقة تستحث فكره ونظره.. وإن كانت تكاد تعصف بملته الإلحادية.. لذا كان يذهب بها لحسن حظه –فيما يحسب- إلى زملائه فيطرحها عليهم متندرا.. يقول: "انظروا بم يرمينا الظلاميون!".. فينهال عليه سيل من الشتائم المقذعة تعلوه ردود كأنها زبد نتن كريه الريح.. فكان يلتقط تلك الردود المتناثرة فوق ركام الكلام البذيء يتبلغ بها ليخفف حدة الإشكالات في عقله وليرمم شيئا من بنيان دينه الخرب.. فيقنع بذلك مستبشرا مسرورا ويؤجل محو تلك الشبهات من رأسه إلى حين.. كان يصبر على الهزيمة على مضض.. ويمني نفسه بيوم تعلو فيه راية الفكر المادي فوق الصوامع والمعابد.. إنه يحيا على أمل ذلك اليوم الذي تسقط فيه حجج الموحدين جملة.. يوم يأتيهم العلم بجواب كل سؤال يشهرونه اليوم في وجه حزب التنوير.. ضبط نفسه مرة أخرى متلبسا بعين ما يرمي به خصومه.. أليس تعليقه لأمله على الغد المجهول إيمانا بالغيب؟.. يذكر أنه قضى ليلة يفكر في حل هذا الإشكال الخطير.. فخرج بمصطلح ضمنه عصارة جوابه عنه: "الغيب العلمي" يومها سطر رؤوس أقلام يراها فرقانا بين "الغيب الديني الأسطوري" و"الغيب العلمي التكنلوجي" وكان مما استشهد به على اصطلاحه الوليد أن "الغيب العلمي" يحمل في طياته إرهاصات الكشف عن عوالم فضائية تعج بمجتمعات ذكية من الكائنات المتطورة.. ولا يستبعد أن تكون لتلك المخلوقات الخضراء ملكات خارقة قياسا إلى عالمنا.. لكن هذا لا يقارن أبدا بما يقرره "الغيب الديني" من وجود مخلوقات ملائكية نورانية لا تأكل ولا تشرب .. فشتان بين سكان المريخ وسكان السماء.. فأولئك عالم بدأ العلم يقفو آثاره ويكشف أستاره.. وهؤلاء وهم سيعجل العلم اندثاره.. والمريخ كوكب مادي أحمر قان.. والسماء تعبير ديني أسطوري.. وشتان بين غيب وغيب.. وإنما هو اشتراك لفظي بحت.. فالقدر المشترك هو كلمة "غيب" والفارق تلخصه الهوة السحيقة التي تفصل "العلم" عن "الدين".. تأمل كلمة "المخلوقات الخضراء" تساءل: من أين عرف أنها خضراء؟ حك خيشومه بظفر خنصره متفكرا.. لم يجد جوابا.. لكنه رجح أن للون تفسيرا ما في نظرية "الغيب العلمي".. فجأة قفزت صورة إلى مخيلته: صورة مخلوق غريب قصير عظيم الرأس أصلع له جسم بين الإنسان والصرصار.. يكاد ينوء بحمل تلك الرأس الضخمة.. وله عينان كأنهما مصابيح نوع نفيس من السيارات الرياضية الإيطالية.. نعم إنه أخضر اللون كأنه أحد أنواع الطحالب اليابانية التي تنتهي رحلتها على أطباق بيضاء في عناق أخير مع جاراتها من فواكه البحر ملفوفة بالأرز الأبيض.. "سوشي".. آه الآن تذكر من أين تسلل اللون الأخضر اليانع إلى تصوره للكائنات الفضائية التي اتخذها مثالا حيا لنظريته عن "الغيب العلمي" أم أنه "الخيال العلمي"؟ لا يهم.. فليركز على مشكلته الراهنة الآن.. لقد تذكر الآن منشأ الخضرة.. لقد استورد الصورة برمتها من سلسلة رسوم متحركة يابانية.. تذكر ذلك كله وهو يحملق في التوقيع المحير: "من افترض اقترض..."

هم بتجاهل الأمر حين حدثته نفسه: "لا بد أنك توشك أن تحرم نفسك فائدة.. اسأل فلن تخسر شيئا.. ثم إنها فرصة لتكتب تعليقا لاذعا حول هذا التوقيع الغريب دون أن تنجر إلى النقاشات الجوهرية التي يحفل بها المقال نفسه.."
لم يتمالك نفسه فبدأ بالكتابة: "عزيزي أبا سليمان, كيف يكون توقيع أستاذ مثقف مثلك بهذه السطحية؟.. لم أكن أحسب أنك مغرم بالسجع؟ أبو الإلحاد :): ". لما عاد في المساء وجد الجواب التالي: "عزيزي أبا الإلحاد.. شكرا على زيارتك.. وعلى اهتمامك بتوقيعي: "من افترض اقترض..." إنه يتضمن إشكالا هادما للإلحاد بل للفكر المادي عامة.. فالفكر البشري لا تقوم له قائمة إلا إذا انبنى على افتراضات ومسلمات غير قابلة للبرهنة.. إنها أشبه بالحبل السري الذي نمده بين جهلنا وبين ما نسعى لمعرفته.. إنها أفكار نؤمن بها ولن نستطيع أبدا أن نخضعها للتجربة.. هل انتبهت يا عزيزي: "نؤمن بها"؟ فمن افترض من الملاحدة فقد اقترض.. أي أنه اقترض من قاموس أهل الإيمان.. إذن العلم يحتاج إلى إيمان والفكر يحتاج إلى إيمان والأغرب من هذا كله أن الإلحاد نفسه يحتاج إلى الإيمان أي أنه يحتاج إلى نقيضه.. فهل يعني هذا أن الإلحاد مجرد رد فعل سلبي على فعل إيجابي محرك ومؤثر يدعى الإيمان؟.. فالمفترض إذن مقترض والمقترض مفتقر إلى من يقترض منه.. الاقتراض استعارة والمستعير لا يملك العارية.. بل لصاحبها أن يستردها متى شاء.. فتوقيعي يقول لبني الإلحاد.. ردوا ما استعرتم.. انقضوا ما بنيتم.. فبنيانكم مغشوش وليس خالصا.. أزيحوا عنه أساسه الغيبي حتى تبنوا بنيانا ماديا صرفا.. لا بد أن هذا كله يلزمكم فمن اقترض من أحد أصبح عليه عالة.. مثلا يفترض الملحد أن الكون لم يزل ههنا وأن لا خالق له.. فهذا الفرض إيمان ما عليه من برهان.. فضلا عن أنه قرض من معسكر الإيمان.. فيبدأ بنائه الإلحادي بهذه اللبنة المستعارة.. فهو كمن يبني في الهواء.. جرب أن تضع زملائك الأعزاء أمام هذا اللغز.. صدقني لن يحيروا جوابا.. أنْبَهُهُم سيقول: أنتم تؤمنون بالخرافات ابتداء.. أما نحن فنتسلق في درجات العلم درجة درجة.. والرد عليه ميسور: يا عزيزي ما شأنك بنا؟ هذا ديننا.. الإشكال يتوجه إليك أنت يا من تنكر الإيمان ولا تؤمن إلا بالمادة المحسوسة.. فأين المادة في افتراضات لا برهان عليها.. أرأيت إن كانت خاطئة؟ علمك إذن كله خاطئ تبعا لها.. أما نحن فإيماننا ليس افتراضا.. إذ أنا لم نقترضه من أحد.. بل إن دليله وحي ثبت بالبرهان القاطع أنه كلام خالق البشر لهداية البشر.. إذن بنياننا متين وأساسه أمتن.. بنيان ديننا نقل معصوم صحيح شهد له عقل صريح مفهوم.. فلا افتراض فيه ولا اقتراض.. ولا شك فيه ولا اعتراض.. ولا افتقار إلا لمن شهدت له الأفلاك والأملاك بالذل والافتقار.. وبينانكم خواء وأساسه هواء.. هل فهمت الآن يا عزيزي معنى قولي: من افترض اقترض ومن اقترض افتقر ؟ وختاما أضرب لك مثالا من هذه المحاورة اللطيفة بيننا التي سعدت بها كثيرا: أنت قرأت التوقيع فلبثت متحيرا تتساءل: أي توقيع هذا؟ ثم اجتهدت أن تخرج من شرنقة الجهل بهذه الجزئية التافهة.. فلم تجد لذلك سبيلا.. فكنت بين أمرين: إما أن تبقى على جهلك وإما أن تسأل؟ فلم تقنع بأن تسأل بل أبيت إلا أن تتهكم.. فوقعت في عين ما يرمز إليه التوقيع: لقد افترضت فاقترضت فافتقرت فنسفت حظيرة الإلحاد بافتراضك الخاطئ.. فوقع طوبها وطينها وروثها على أم رأسك.. لقد افترضت أن التوقيع توقيع حروف لا معنى لها وتشقيق كلمات لا حقيقة ورائها. ثم نثرت على ذلك "بهار" الأدب الإلحادي فقلت "يا عزيزي" و"بهار" التهكم برميك لي بالسطحية وتكلف السجع ثم ختمت بنيانك الافتراضي ببسمة إلكترونية صفراء.. أما وقد جاءك الخبر اليقين عاليا.. فقد رأيت بأم عينك أن بنيانك سراب سرعان ما تلاشى من ذهنك.. وأن الافتراض سم قاتل يسري في أحشاء فكرك المادي ويوشك أن يذهب بريحه.. فأنصحك أن تدرك نفسك وأن تتوب مما تدنست به.. فأدرك بنيان إلحادك فخلخله ثم فككه وفتته وخلصه مما علق به من شوائب ليست منه.. ثم غربله واحفظه في مكان لا تصل إليه أيادي الأطفال حتى تصبح ذات يوم خريف عاصف, فاقصد به مكانا خاليا فاجعله في مهب الريح لترى كم هو متين دينك وفكرك.. حتى إذا لم تبق منه الريح العاتية باقية فاعلم أنها ريح شرقية مباركة تدمر كل فكرة واهية..(...) أحس أبو الإلحاد بمهانته ولم يقو على إتمام القراءة.. فأغلق الصفحة ورأسه تكاد تغلي وعيناه تؤلمانه كأن كلمات هذا الهجّاء الماكر إبر تساقطت عليه كالنبال.. أحس بوخزها في كل مكان من نفسه.. أجهش بالبكاء.. فقد صار منبوذا لا منتدى له في الشبكة يؤويه وقد قلاه زملاؤه المتنورون.. فماذا بقي له ؟ ضاق عليه العالم الإلكتروني بما رحب, وأحس ألا ملجأ له إلا العالم الأرضي وعالمه الداخلي.. لكنه فضل الانطواء على نفسه.. إذ ليس من معارفه من يستطيع أن ينقذه من ورطته وأن يرقع ثوب إلحاده الذي غدا بعد هذه المعركة الكلامية التي سعى إليها بظلفه كالخيش العتيق..

أخرج مذكرته.. طالع لائحة الفروق بين "الغيب العلمي" و"الغيب الديني" كتب في هامشها: "الافتراض اقتراض والاقتراض افتقار.." حاول أن يطبق نظريته لحل هذا الإشكال القاتل.. عبثا حاول.. إنها محنة عويصة.. إذ لا يتعلق الأمر بتطبيقات على جزئيات المسائل.. بل بدعامة الدعامات وأصل الأصول.. هل يعني اقتراض افتراضات إيمانية ومسلمات تسليمية أن الإلحاد ملة وعقيدة؟.. دين وإيمان؟.. حرك رأسه مستنكرا.. ورفع كفه كمن يدافع شيئا.. ثم انتفض كالفرخ المبتل.. هم بالدخول على رفقاء الجرب.. ثم نكص حين تذكر أنه مطرود.. لا بد أن يزيل هذه الشبهة التي بدأت تفعل فعل السم في عقله.. لا بد أن يبدأ مشروعا جديدا.. يبدو أنه مشروع عمره.. مشروع "تطهير العلم من الإيمان" حمل قلمه ساعة وهو يحدق في الصفحة الخالية.. فلم يسعفه فكره بكلمة منقذة.. يبدو أن شيطانه قد هجره كما هجره صناديد ملاحدة الشبكة.. تمتم :"من افترض اقترض.. ومن اقترض افتقر.." ثم مزق أوراقه في غضب وخرج من بيته مسرعا لعل هواء المساء يخفف عنه بعضا مما أصابه...

هشام بن الزبير
03-26-2011, 10:49 PM
بين الإلحاد الافتراضي والأرضي

قرأ أبو الإلحاد الإعلان بإمعان.. كادت عيناه تقفزان من محجريهما.. انفرجت أساريره فرحا.. كاد يطير لهذه البشرى طربا .. سال لعابه للثمرات التنويرية اليانعة التي بدأت تشرق في مخيلته المهترئة.. "إلحاد "كونغرس".. معا يدا واحدة ضد الأديان." دعوة إلى المؤتمر السنوي الأول لملاحدة الشبكة العرب.. وتُظلل الشعار صورة لقبضة حديدية تكسر جدارا عليه رموز دينية.. وفي الخلفية أشباح بشر وحيوانات.. بدأ يحدث نفسه: " قد فعلها الزملاء.. العفاريت فعلوها.. إنهم على وشك نقل معركة التنوير من العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي.." تأمل الإعلان فلم ير ألوانا خلا الأبيض والأسود.. تساءل: "عجبا.. لماذا لم يفطنوا إلى قيمة البعد الجمالي؟ هل فاتهم أن الخصوم يدعوننا بخفافيش الظلام؟.. هل نسوا أنهم يعيّروننا بالنازية والفاشية؟ لو كان لي من الأمر شيء لجعلت الإعلان روضة زاهية تتراقص فيها ألوان الطيف.. لا أفهم لماذا جعلوه بألوان إخواننا من عبدة الشيطان؟" أتمنى ألا يكون المؤتمر تحت إشرافهم.. فأنا لا أطيق رموزهم الغريبة وطقوسهم المريبة.. أذكر آخر مرة لقيت فيها أحدهم في القطار في إحدى بلدان الشمال المتنور.. كان منظره أشبه بليل الشتاء الأوربي المظلم.. كان ثوبه كجلد حمار وحشي.. وكان جلده مزركشا كالهر البري.. وَشَم كل بقعة فيه إلا لسانه.. ولعل ذلك أعياه فجعل فيه حلقة كالخلخال لو جعلت في قدم فتاة لناءت به.. كان منظره كريها مخيفا.. ويا ليته صمت.. بل كانت شهوته للكلام أكبر من شهوتي للقفز من النافذة كيلا أرى طلعته الذميمة.. نظر إلي وقال بلغته: "آراب.. آراب؟" فأومأت له أن نعم.. فعاد يسأل: "مسلم.. مسلم؟" فحركت رأسي أن لا.. عندها قهقه بصوت عال فاهتزت الحلقات حول عينيه وفي أنفه وأذنيه.. المجنون لم يصدقني: "أوف كورس يو آر" ارتعبت لمنظره الخبيث حتى كدت أصدق خرافات الجن والشياطين.. ثم بدأ يتكلم ساعة عن العرب والأجانب والموسيقى والتسامح.. كانت حصة تعذيب صينية تقرع فيها كلماته أذني, ممزوجة بقرع الحلقة في لسانه لحافات أضراسه وأسنانه.. لو كان هذا المؤتمر تحت مظلة الزملاء الشياطين فوا حسرة على مستقبل التنوير.." تأمل الشعار مرة أخيرة ثم أرسل رسالة إلكترونية يطلب إلقاء كلمة أمام المؤتمرين وقع في نفسه أن يسميها: "من الإلحاد الافتراضي إلى الأرضي".. وسرعان ما جاءه الرد بالإيجاب.. بدأ يكتب كلمته.. ثم ارتأى أن يرتجلها في حينها حسبما يراه موافقا للحال.. بقي أسبوع ليهيئ أفكاره..

ثم جاء اليوم الموعود.. استيقظ أبو الإلحاد من نوم متقطع راودته فيه الأحلام و الأماني بقضاء يوم مشهود يلتقي فيه برفاق "الجرب والجذام" ليخطوا معا خطوة جبارة إلى الأمام.. لن يدعوهم أحد بعد اليوم بمجاهيل الشبكة.. إنهم سيأتون ورؤوسهم مرفوعة في عناد وعقولهم مفعمة بيقين الإلحاد.. قطع طريقه وهو يتمرن على كلمته.. يقدم ويؤخر.. ويحلل ويفكر.. يتخير الكلمات والنبرات والحركات المناسبة.. حتى وقف بباب فندق "المريخ جاردن سيتي".. تفكر في اسم المكان: "اختيار موفق يحمل رسالة عميقة.. يبدو أن الزملاء درسوا أمر هذا اللقاء التاريخي من كل الوجوه.. المريخ.. ولِم لا؟ فلو ضيق علينا المتدينون الخناق أكثر قليلا.. فلربما حجزنا مع الزملاء تذكرة ذهاب بلا إياب إلى الكوكب الأحمر حتى نستريح من خرافاتهم.." وجد بعض الزملاء في الإستقبال.. سأله أحدهم عن بطاقة تعريفه.. فلما رأى اسمه قال: "هل معك دعوة؟" قال: "دعوة؟ لا أنا أبو الإلحاد.. سألقي كلمة.." رد عليه قائلا: "ليس عندنا أحد بهذا الاسم على لائحة المحاضرين".. ظن أبو الإلحاد أن في الأمر خطأ فبادر بالسؤال: "كيف؟ لقد تم قبول مشاركتي.. حصلت على رسالة إلكترونية.." أجابه الشاب: "نعم نعم.. لكن تم إخطارنا ببعض التحفظات على سيرتكم الذاتية.. لذا تم شطبكم من لائحة المحاضرين.. قل لي أما زلت ملحدا؟؟" أجابه ممتعضا: "طبعا.. طبعا.. هل هذا سؤال؟ إنني.." قاطعني في هدوء: "معذرة لكنا اطلعنا على بعض مقالاتك المنشورة أيها الزميل.. فوجدنا أنها تنم عن انتكاسة فكرية خطيرة.. طيب قد نسمح لك بالدخول.. بشرط أن تثبت لنا أنك ملحد" كاد شعر رأسه يقف من هذا التحقيق الذي لم يعهد له مثيلا إلا في منتديات المتدينين فقال مستنكرا: "أثبت ماذا؟ وكيف؟.. أنا أقول وأقر وأشهد أني ملحد.. "لا إله والكون مادة والمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" هل تريدني أن أستظهر لك كتاب أصل الأنواع حتى تصدقني؟" قال الشاب وهو يحرك رأسه: "أنا آسف لكن هذا لا يكفي.. هذا كلام في الهواء أيها الزميل: " البينة على من ادعى" هات بينة.. أو ارجع من حيث أتيت.." لم يصدق أذنيه.." "إنه يحمل على كاهله عشرين سنة من النضال التنويري الإلحادي.. منها عشرة كاملة قضاها وهو متعلق كالذباب بخيوط الشبكة العنكبوتية.. لقد بدأ تعب السنين يدب إلى مفاصل عظامه.. بل إنه أصبح يقضي بعض الوقت أمام المرآة لنتف البياض المتسلل إلى رأسه.. ثم يأتي هذا الصبي المغرور ليشكك في صفاء إلحاده.. قال بنبرة الواثق متحديا: "أيها الزميل.. ابتعد من طريقي.. فلا بد أن أدخل" فحال الرجل بينه وبين باب القاعة وقال في حزم:" لا تتعب نفسك.. عندي أوامر صارمة" حينها تملكه اليأس وتذكر طبقة المنبوذين الهنود.. وتساءل هل يتجه الملحد العربي إلى نفس مصيرهم.. أطرق كأنه يبصر حضيض مهانته.. ثم سمع صوتا معروفا يناديه: "لحود.. أنت هنا يا عزيزي؟ .. ياه مضى زمان طويل" إنه الأستاذ عرقوب مدير تحرير مجلة "زهر العلقم" أخذ بيده فدخلا إلى قاعة المؤتمر كأن شيئا لم يكن..

رأى ثمة منظرا عجيبا غريبا.. رأى بضع عشرات من الشباب والكهول يجلسون متفرقين هنا وهناك تلفهم سحابة داكنة من الدخان.. ورأى الصفوف الأمامية خاوية.. ورأى المنصة وقد سلطت عليها الأضواء الكاشفة.. ثم رأى بشرا ونسانيس وكلابا وقططا.. بل رأى جحشا أبيض وبغلا أحمر.. كان الجميع يلبسون الثياب.. حتى الدواب!.. حك عينيه وظن أنه أخطأ العنوان.. هل هذا مؤتمر نضال وتنوير أم سوق للبغال والحمير.. رفع بصره فقرأ لافتة المؤتمر كما رآها في الإعلان أول مرة.. جلس وحيدا.. إذ انشغل عنه عرقوب باتصال هاتفي دام حوالي الساعة.. بعدها التفت إليه مستفسرا عن كل ما أشكل عليه من هذه الغرائب.. فأجابه عرقوب متبسما: "عزيزي هذا مؤتمر تأسيسي.. يجمع كل أطياف المشهد الإلحادي.. لا بد أن نقبل بعضنا بعضا مهما اختلفنا.. الصفوف الأمامية محجوزة لبعض الزوار المهمين.. أما ذوات الأربع فإنها في رفقة زملائنا في جمعية: "من أجل ديمقراطية كونية" وهم يدعون إلى تقريب الهوة بين الكائنات المتقاربة جينيا.. فالفوارق بيننا وبين هؤلاء "الزملاء المتخلفين داروينيا" ضيئلة نسبيا.. فبيننا وبين "الشيمانزي مثلا كروموزومان فقط.. تصور.. ربما يتشاور الزملاء حول أوجه الترجيح بين نظريتين تقودهما مدرستان رائدتان اليوم.. إحداهما تهيئ مناهج "تطويرية تأطيرية" للنسانيس لتحفيز قابليتها التطورية.. والأخرى تركز على إرسال رسائل مشفرة لطلب المشورة من الكائنات الفضائية.. نعم لو استطعنا أن نضيف للفئران ستة كروموزومات فحسب, فربما ضممناها إلينا في المؤتمر التالي.. زملاؤنا الديمقراطيون الكونيون أو "الديموكونيون" -كما يحبون أن نسميهم- لهم رسالة واضحة: "إننا مدعوون جميعا لتسريع وتيرة البحث العلمي حتى ندفع عجلة التطور قدما.." في آخر مقال لها نشر على صفحات مجلتي الغراء تذكر الدكتورة أحلام الشحرور إحصائية حديثة تقول: "لو استطعنا تطوير عشرين بالمائة فقط من شعب "الشيمبانزي" الذي يعيش في الشتات حاليا فإنهم سيكونون دعما كبيرا للحركة التنويرية الكونية.. حيث سندخلهم دورات تعليمية مكثفة يتولى تأطيرها كبار المختصين في بيداغوجيا الإلحاد.. رسالتنا باختصار هي إذابة الفوارق الوهمية التي اختلقتها القوى الرجعية بيننا وبين إخواننا في سلسلة التطور الذين نشترك معهم في سلف مشترك.." التفت الأستاذ عرقوب إلى الصف الحيواني وقال: "انظر إلى سيد "أوران غوتان" صاحب ربطة العنق البرتقالية.. أليس وسيما؟.. لكن انظر إلى الحزن يملأ عينيه.. لا أشك في أن الأمل يحدوه في نجاح هذه الجهود التطويرية النبيلة.. أما عن الثياب, فإن الزملاء يرون أن كسوة "زملاء التطور" خطوة في الطريق الصحيح.. حيث أعطت بعد عام نتائج مهمة.. منها أن شعر "الكلاب التي لبست الثياب" بدأ يتساقط.. يا له من تطور ملحوظ!.." حين بلغ هذا الموضع من كلامه بدأت أشغال المؤتمر بإنشاد مقطوعة غنائية ما أن بدأت حتى انخرطت الكلاب في عواء.. إنه يعرف هذه الكلمات.. نعم إنها فصول من: "هكذا تكلم زرادشت" نظمها شاعر الإلحاد المبدع "أبو المجامر".. استمع إلى الترانيم يرافقها النهيق والمواء والعواء.. فكاد أن يغلبه البكاء -من فرط التأثر- لولا أنه تجلد..

انتهت الافتتاحية الفنية ثم دخل الضيوف المميزون.. يتقدمهم عميد ملاحدة الشبكة بلحمه وشحمه الزميل شقيق بن آوى.. لقد افتتح وحده مائة صفحة "فيسبوك" وعشرين قناة "يوتيوب" وخمس منتديات.. الزميل يحتفظ في جعبته بمئات المعرفات.. يكتب المقال.. ثم يعلق عليه.. ويمدح نفسه.. ثم يعود بمعرف آخر فيشتمها.. وهكذا دواليك.. إن الزميل يتحرك في الفضاء الإلكتروني وحيدا كالفارس المغوار.. فيحسبه الخصوم جيشا عرمرما.. أخذ الجميع مقاعدهم.. للأسف لم يتمكن أكبر المدعوين من الحضور.. إنه إمام الإلحاد العالمي البروفيسور الذي لم يستطع حفظ اسمه قط.. كل ما يعرفه أنه يسكن جزيرة نائية يلفها الضباب.. إنه ملحد متمرس إذا سئل عن الدين صار كالذئب الشرس.. ما أحوج الزملاء إلى التتلمذ عليه.. بعضهم يدعوه بالقسيس لسعة إلحاده.. لكم كان يود أن يلقاه هنا ليسأله عن تفاصيل نظريته عن الأصول الفضائية للحضارة الإنسانية وأوجه الجمع بينها وبين النظرية النسناسية لسلفه دارون.. هذا إشكال آخر يصيبه بالصداع ولم يجد له بعد جوابا شافيا على الشبكة.. حسنا سيؤجل النظر في هذه المعضلة ريثما يتشرف بلقاء ملحد موسوعي من طينة "دونكي" أظنه اسمه هكذا.. لكن أليس هذا اسم حمار في لغة تلك الجزيرة؟ لا يهم إنه مجرد اشتراك لفظي آخر.. ثم ما المانع من أن يستعير ملحد الأسماء الحيوانية وأن يتقلد الأوسمة البهيمية؟ لا مانع أبدا بل إن نظرة إلى أعضاء المؤتمر يلمس التمازج الأخوي الدارويني بين أبناء "الخلية الواحدة" التي نشأت يوما ما صدفة –كما هي نظرية الإلحاد- ثم ألقت الملخوقات الفضائية عليها برنامجا ذكيا أسماه العلماء بعد اكتشافه "دي إن إيه".. فلماذا لا يدعى البروفيسور "دونكي" أو البروفيسور "حمار" لا أظنه يمانع أبدا.. لكن ربما يمانع الحمار.. لا إشكال أيضا.. حين يتطور ويستطيع الاعتراض نسمع رأيه.. لا بد أن نتحلى بالتسامح في هذه الظروف العصيبة ريثما تتحقق الديمقراطية الكونية التي تنصهر فيها الجراثيم والحشرات والبشر والحيات في بوتقة واحدة فتزول عن الإنسان نظرة الإستعلاء ويخلع عنه أوهام الكرامة والتفرد التي هي آخر الرواسب الدينية..

بدأ الزميل من حركة "الديمقراطية الكونية" كلمته.. وأرادها أن تبدأ بشيء طريف يلطف الجو المفعم برائحة الدخان وروث الدواب.. فوضع طائر ببغاء على الطاولة أمامه وأشار إليه بإشارة يعرفها فانطلق الببغاء صارخا: "النجدة ملحد.. ملحد.. النجدة النجدة.. لص لص.." فأشار إليه يسكته فلم يسكت فانفجرت القاعة بالضحك فقال معتذرا: "إنما لقنته أن يقول: "أنا ملحد" فإذا بالأمر يختلط عليه فلفق كلمات أخرى تعلمها" كان يتكلم والببغاء لا يكف عن الصراخ.. فلم يستطع أن يتم كلمته.. فانصرف إلى مكانه في الصف الأول معتذرا.. جاء بعده ممثل "النهضة العلمية اللاأدرية" فلما أخذ مكانه صرخ به الببغاء مرة أخرى: "ملحد ملحد النجدة.." فقام المنظمون باصطحاب الضيف المزعج خارج القاعة.. حين بدأ الزميل في إلقاء كلمته: طرح عشرين سؤالا.. ثم قال: من قال "لا أدري" فقد برئ وأنصف.. وأنا لا أدري شيئا فأترك الأسئلة مفتوحة للتصويت العام ثم نزل من المنصة.. شعر أبو الإلحاد بضآلة الزملاء وتساءل أين تلك العروض العلمية الدقيقة وتلك الخطب الإنترنيتية الرنانة؟.. حينها تمنى لو أنه يعرف عنوان العلامة الحبر "جوجل" ليدعوه إلى مثل هذا المؤتمر.. فإن الجعجعة اللفظية التي يهتز بها العالم الإلكتروني للملاحدة ليست إلا قبسا من علومه.. إنهم ملاحدة "القص واللصق".. زال عنه حزنه لمنعه من إلقاء كلمته.. لأنه لو تكلم لقال: "أرى أن الإلحاد الافتراضي حلم جميل يوشك أن يتحول إلى كابوس فظيع حين يغادر به أصحابه أسوار العالم الرقمي.." التفت إلى الأستاذ عرقوب فوجده يغط في نوم عميق.. استسلم هو الآخر لإغفاءة لم ينبهه منها إلا نهيق مفاجئ.. فتح عينيه فإذا به يبصر الحمار يتقدم جحافل التنوير وهي تغادر القاعة في موكب مهيب...

هشام بن الزبير
03-30-2011, 11:02 PM
صراع الأجيال: نسخة إلحادية


أطفأ أبو الإلحاد حاسوبه بعد جولة أخرى من تجواله على أمواج الشبكة العنكبوتية, لقد ساءه ما صار يلقاه في منتديات "الجرب والجذام" من زملائه من شبيبة الإلحاد, إنه ملحد مخضرم عاش في الزمن قبل الرقمي وشم رائحة الأوراق وقلب بأنامله الصحائف, إنه ليس من هؤلاء المغرورين من حدثاء الأسنان الذين يملئون الآن نفسه غيظا, إنهم ملاحدة لا جدال في ذلك, لكنهم ملاحدة بأسنان الحليب, ولعلهم إنما ألحدوا بسبب جهود أمثاله من جنود "التنوير" المجهولين, لعلهم كانوا يبقون على تدينهم الموروث لو لم يعاصروا ثورة المعلومات, إنهم ملاحدة الصور والأرقام, لا ملاحدة الحروف والأفكار, إنهم ملاحدة الفيسبوك والتويتر, إنهم ملاحدة الجيل الثالث من الهواتف الذكية, لذا فهم موهوبون في أساليب التدليس التقني وفنون التضليل الإلكتروني, إنهم يجيدون "المونتاج" وإن كانوا مفلسين عند الاحتجاج, تجد أحدهم يبتكر فيديو في خمس دقائق يلخص فيه "مغالطات" المسلمين, لكنه يضمنه فقرات من نشيد الإنشاد أو سفر التكوين! إنهم أهل حماسة لا كياسة, إنهم أهل طيش ونزق, إنهم أهل تنطع وعجلة, لكن حسبنا أنهم يديرون العجلة, عجلة "التنوير الإلكتروني". إنه مستعد للتغاضي عن كل هفواتهم لو سلم هو نفسه منهم, لكن سهامهم أصبحت تناله, وألسنتهم صارت تنهشه.

ما أشد وقاحتهم ونكرانهم للجميل! لقد أسمعوه اليوم أقذع الشتائم, توقف عن التفكير قليلا وتساءل: "بأي قانون مادي يكون الشتم مذموما من وجهة نظر إلحادية بحتة؟" حدق في الجدار أمامه طويلا وهو يتأمل هذا المعنى الغريب الذي خطر في باله, هل يعقل أن يكون مخطئا في انفعاله؟ ربما كان هؤلاء العفاريت حقا أعمق منه إلحادا على حداثة أسنانهم, الشتم شيء لا وجود له في العالم المادي, هل يمكن أن يكون استنكاره لتلك العبارات القاسية وتلك الكلمات الجارحة مجرد أثر لرواسب مجتمع ما قبل "التنوير"؟ ربما كان الأمر كذلك, وهب أن الشتم مذموم لسبب ما, كأن يكون محظورا بسبب التوافق الاجتماعي على ذلك, فلنتصور أن في "العقد الاجتماعي المادي": بندا يقول: "لا تشتم متنورا بما ليس فيه", ثم خطر له أنه غضب لأنهم شتموه ببعض ما هو فيه, فاستطرد في خواطره: "إذن فليكن البند هكذا: "لا تشتم متنورا أبدا"", ما هذا الهراء؟ كيف نفرض على الإنسان المادي قيدا مثل هذا؟ يجب أن نمحو من قاموس المجتمع المتنور هذه القيود الرجعية التي تكبل حريته بسلسلة طويلة من "افعل ولا تفعل", و هب أن شيئا مثل هذا يوجد بالفعل, ماذا لو رفض أحدهم أن يوقع مثل هذا العقد فضلا عن أن يمتثل له؟ ماذا لو احتفظ لنفسه بحقها في الغضب, وفي ترجمة هذا الغضب في صورة شتائم تنفس الحرارة التي يثيرها ارتفاع نسبة الأدرنالين في جسمه, فهل نلومه على هذه السلسلة من التفاعلات المادية؟ أبدا, هل نلوم الماء لأنه يغلي فوق النار؟ هل نلوم الحجر الساقط من الجبل؟ أبدا لا عتب على المادة ولا ملام, ولا استدراك على سلوكها الحتمي ولا كلام, كل ماهنالك أنها تفعل ما تأمرها القوانين المادية بفعله, و الانسان مادة, والمادة تخضع لتفاعلات لا تملك حيالها شيئا, فالغضب انعكاس لإفراز الأدرينالين, مما يؤدي إلى سلسلة معقدة من التفاعلات تفضي إلى رد فعل يسمى شتما وسبابا وتقريعا ولعنا, هذا كل شيء, لكن المادة تخضع لحتمية قاهرة, فهل يقال مثل ذلك عنه وهو الإنسان الحر؟ لكن هل هو حر فعلا؟

أحس بالتعب والصداع, وغضب من نفسه وعجب منها كيف تقوده في متاهات سوداء لا يكاد يبصر منها مخرجا, غضب من طوفان الأسئلة التي تنقض عليه من كل حدب وصوب, ولا يكاد يحير لها جوابا, غضب لأنهم شتموه, ثم غضب حين اكتشف أنه لا يستطيع القطع بأن الشتم أمر يستحق أن يغضب لأجله, بل إن تفكيره بلغ به زاوية موصدة لا يكاد يتبين من خلالها إن كان يملك شيئا من أمره, إنه لا يعلم إن كان حرا يملك الاختيار, أم أنه كتلة مادية تزحف على سطح الأرض تحكمها تفاعلات مادية حتمية؟ كل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا, لكنه ما يزال غاضبا, لكنه الآن غاضب على نفسه, يجادلها ويلومها ويسألها: "فيم الغضب؟ " ثم إنه من المشين أن يلوم أحدا على شيء هو فيه, فهو مثلهم شتام سليط اللسان, لكن مهلا, أليس هو نفسه وأقرانه من ربى هؤلاء الصبية وصنعوهم على أعينهم وسقوهم بلبانهم؟ أليس هو من شحذ ألسنتهم وأظفارهم حتى صارت كالأسنة والحراب؟ نعم إنه يقر بذلك, ولكن استعمال ذلك كله يفترض أن يقتصر على إدارة حرب "التنوير" مع المتدينين, ها هو ذا يضبط نفسه مرة أخرى متلبسا باستعمال كلمة ملوثة ميتافيزيقيا: "يفترض" وما للملحد والافتراض؟ الملحد جسم مادي كما أن الزنك والقصدير والفحم أجسام مادية, هل تملك هذه كلها أن تفترض؟ كلا, فلم يفترض إذن وهو ملحد؟ لِم يندم؟ لم يغضب؟ لم يفرح؟ لم يضحك؟ لم يبكي؟ لم يبسم؟ إنه بكل أمانة لا يدري, لكنه يحذر كل الحذر أن يقر مثل هذا الإقرار بين الزملاء وفي منتديات الخصوم, تساءل منكسرا: "متى يصفو لي الإلحاد؟ ومتى أخلصه من كل هذه الشوائب المتراكمة؟"

إن الزملاء مراتب ثلاث تنصهر كلها في بوتقة الإلحاد دون أن تمتزج تماما, أعلاها وأجدرها بتقديره واحترامه العميقين "طبقة الملاحدة" إنهم علية القوم وزبدة "التنوير" إنهم ملأ المجتمع المادي. إنك تجد أحدهم في منتداه يصرخ فخورا متحديا: "إلي أيها المتدينون, هلموا إلي: "أنا ملحد" إنك مهما قلبت عينيك في هذه الشرذمة القليلة من رواد "الإلحاد الإلكتروني" فلن تجد شيئا اسمه الحياء, لقد تحرروا منه تماما. ودونهم في الرتبة زملاء ألحدوا على استحياء فزعموا أنهم يؤمنون بخالق لا يعرفون له اسما ولا صفة, وهم إنما يريدون هذا الوجود المادي برمته, إنهم يحيدون عن الإقرار بألوهية الخالق فيسقطون في تأليه المخلوقات, فالكون في عرفهم يستحق كل تبجيل وتعظيم, إنهم ضعفاء الإلحاد, يمسكون عصا "التنوير" من الوسط فيتسمون "لا دينيين" إنهم لم يبلغوا بعد أن يقولوا كلمتهم صريحة فيلتحقوا بالكوكبة التي تقود قاطرة "الإلحاد" لكنهم يبقون زملاء جديرين بكل دعم. وفي أدنى مراتب "الإلحاد الافتراضي" زملاء مذبذبون يميلون مع كل هبة ريح, ليس لآرائهم ثبات ولا لإلحادهم أساس إنهم لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون إنهم رواد اللاأدرية. حينها بدأ أبو الإلحاد يتصور مسائل الخلاف بينه وبين هذه الطبقة, ثم استعرض كل الأسئلة العالقة في ذهنه والتي لو أجاب عنها بإنصاف لقال: "لا أدري", فلو سئل: "ما دليل إلحادك؟" أو "كيف أنكرت خالقك؟" أو "كيف تجزم أن لا حياة إلا هذه الحياة؟" أو "كيف جزمت بأن الإنسان جسد بلا روح؟" لما كان له جواب مقنع سوى أن يقول: "لا أدري" أمر غريب إن الهرم الإلحادي يوشك أن ينقلب رأسا على عقب في رأسه, هل يعقل أنه كان طيلة الوقت يراه مقلوبا؟ لقد كان يرى قمته سفحا, وسفحه قمة, إن أدعياء الإلحاد الخالص في أسفل السلم الإلحادي في واقع الأمر, إنهم في سفح الهرم, إنهم يدعون أمرا لا حقيقة له ولا برهان عليه, إنهم مجرد جعجعة لفظية فارغة, لهذا السبب يكثرون السباب, لهذا السبب يكثرون الضجيج. أحس أنه يوشك أن يحل لغزا طالما حيره, لماذا لا يجيب الملاحدة عن أكبر سؤال للمتدينين: "أعطونا دليلا واحدا على إنكار الخالق." السبب هو أنهم "لا يدرون ولا يعلمون ولا يوقنون." إذن الزملاء في الفرع "اللاأدري" من "حزب التنوير" أقوم سبيلا, إنهم أتوا الأمر من بابه, يقولون "لا ندري" ومن قال: "لا أدري" فقد أنصف ومن كان لا يدري ثم يكابر فلن يأتي بشيء سوى السفسطة والبقبقة اللفظية. أما زملاؤنا "اللادينيون" فهؤلاء يصدق عليهم لقب "منافقي الإلحاد" إنهم متلونون, إنك تعجب من سرعة تقلبهم وتناقضهم, إنهم كائنات حربائية تلبس لكل حالة لبوسها, هؤلاء أولى بأحقر المراتب. تنهد أبو الإلحاد لما بذله من جهد تنويري مضن, وشعر بشيء من الإرتياح, وقال يحدث نفسه: "يجب أن أغير معلومات الديانة في سيرتي الذاتية, فأنا من اليوم "لا أدري" ولست "ملحدا" بالمعنى الذي كنت أعتز به." خف غضبه قليلا ورضي من أسئلته المتكاثرة أن يؤجل النظر فيها كما يملي عليه منهجه الجديد الذي يرفع الشعار الرنان: "لا أدري"...

طارق منينة
03-30-2011, 11:33 PM
توقف عن التفكير قليلا وتساءل: "بأي قانون مادي يكون الشتم مذموما من وجهة نظر إلحادية بحتة؟" حدق في الجدار أمامه طويلا وهو يتأمل هذا المعنى الغريب الذي خطر في باله, هل يعقل أن يكون مخطئا في انفعاله؟ ربما كان هؤلاء العفاريت حقا أعمق منه إلحادا على حداثة أسنانهم, الشتم شيء لا وجود له في العالم المادي, هل يمكن أن يكون استنكاره لتلك العبارات القاسية وتلك الكلمات الجارحة مجرد أثر لرواسب مجتمع ما قبل "التنوير"؟ ربما كان الأمر كذلك, وهب أن الشتم مذموم لسبب ما, كأن يكون محظورا بسبب التوافق الاجتماعي على ذلك, فلنتصور أن في "العقد الاجتماعي المادي": بندا يقول: "لا تشتم متنورا بما ليس فيه", ثم خطر له أنه غضب لأنهم شتموه ببعض ما هو فيه, فاستطرد في خواطره: "إذن فليكن البند هكذا: "لا تشتم متنورا أبدا"", ما هذا الهراء؟ كيف نفرض على الإنسان المادي قيدا مثل هذا؟ يجب أن نمحو من قاموس المجتمع المتنور هذه القيود الرجعية التي تكبل حريته بسلسلة طويلة من "افعل ولا تفعل",

يبدو ان هشام ابن الزبير يحاجج الجماهير الغربية التي تعيش هذه الحالة المادية بل اللاادرية
ولااظن ان كثير مما يعيشون في الشرق ويعلمون شيئا عن هذه الحالة اللاادرية-المادية التي لها شبه في عالمنا يمكنهم صنع نص واضح مركز بهذه الصورة
حتى مخيال اللاادري لو تمعن في عملية تفكير لاادريته لعلم انها تجري في منطقة مادية بشيء عاقل غير مادي
فأدري ولا أدري عملية عقلية خاصة بالروح العاقل المتلبس بالجسد او قل باللفظ القديم بالجثمان البشري
ان هشام ابن الزبير يفتحني بهذا النص على كتاب دراسات في النفس الانسانية للاستاذ محمد قطب فهو كتاب يكشف للاادري هذا عن خطوط غير منظورة داخل كيانه الانساني اختلط بها-او فيها- المادي بالروحي فظن المادي انه جسم رطب تجري فيه الدماء الحارة ونسي ماعبر عنه نص هشام ابن الزبير مما اقتطفت منه المقطع المصنوع من خبرة من داخل الغرب على اغلب الظن!
بارك الله فيك

هشام بن الزبير
03-31-2011, 12:10 AM
أخي طارق..
ظنك في محله..
ولم أضع قط في اعتباري ما يعيشه الغربيون في مجتمعاتهم, إنما تصورت ما يتخبط فيه الملحد العربي الإنترنيتي على ضوء ما نراه في المنتدى..
سررت بتعليقك أخي الحبيب.

عائدة إلى الله
03-31-2011, 09:05 AM
أسلوب رائع افتقدناه في كتابنا منذ زمن ...
أعتقد أنك مشروع كاتب ناجح

بوركت

حسن المرسى
03-31-2011, 05:49 PM
أستحى أن أكتب سطراً فى مقالتك أخى هشام .. حتى لا أقطع حبل أفكارك ..
لكن .... هذا بالضبط ما نفتقده هنا .. بارك الله فيك

هشام بن الزبير
04-02-2011, 08:27 PM
أستحى أن أكتب سطراً فى مقالتك أخى هشام .. حتى لا أقطع حبل أفكارك ..
لكن .... هذا بالضبط ما نفتقده هنا .. بارك الله فيك
أخي الكريم حسن,
دعني أبوح لك بسر.. إني حين أقرأ ما تكتب أنت وأخي طالب العفو أغبطكما على نبرة في كتابتكما, أظنها من أسلوب الأطباء.. إني أكاد أستطيع أن أخمن أن هذه كتابة أحدكما.. لهذا فأنا أتلصص قليلا على ما يخطه الإخوة الأحباب هنا.. فالمنتدى مثل الروضة الندية حفلت بالأزهار والثمار..
وما دمت قد حللت ضيفا على يوميات صاحبنا المبتلى بلوثة الإلحاد هداه الله, فأهديك يوميته التالية التي يعرض فيها للسؤال الناسف للإلحاد: -لماذا نخاف من الموت؟ وقد أسميتها: موت الإلحاد.

هشام بن الزبير
04-02-2011, 08:28 PM
موت الإلحاد

أوى أبو إلحاد إلى فراشه, وحاول أن يغمض عينيه فلم يقدر, لم يطاوعه النوم فتناوم, لكن النوم هجره, حاول أن يتسلى بعد الضباع لعله يمل فينام, حاول أن يصعد بخياله في سلم التطور, تخيل ذوات الخلية الواحدة كيف استطاعت بفضل الجهد التعاوني أن تلتحق بأخواتها فتكون أولى الكائنات الحية, تخيل بعض الزواحف العمياء تتجه لتغطس في المحيط, تخيل كيف نبتت لها خياشيم وزعانف, لكنه فشل في تخيل الحلقات المفقودة, بدأت الأفكار تنهال عليه, اجتهد أن يسترخي دون جدوى, كلما سكن ذهنه وأوشك أن يصير صفحة بيضاء, تسللت إليه هواجس سوداء, إنه يخاف من الوحدة, يخاف من السكون, يخاف من الصمت, الصمت يفتح باب التفكر, والتفكر يستدعي آلاف الخواطر والصور , تهجم عليه كالجيش العرمرم, إذا صدها من الميمنة هجمت عليه من الميسرة, تطرق باب عقله, تغمره ببحر من الأسئلة.

بدأ يتساءل عن الحياة وعن الموت, لقد وطئت قدماه اليوم أبغض البقاع إلى قلبه, لقد قضى ساعة في المقبرة كأنها سنة, غطى وجهه بالوسادة كأنه يهرب مما علق بذهنه, وتقلب كأنه ينفض عن عقله هذه الوساوس الخانقة, أحس بغبار المقابر يملأ أنفه, بدأ هذا الحوار الداخلي يدور بداخله: "كيف أتخلص من هذه الهواجس؟ مالي والتفكر في الموت ولم أبلغ الأربعين بعد؟ سأعود للعناية بنفسي, سأترك التدخين, سأنظم الشرب, فلأقتصر على كأس أو كأسين في الأسبوع, مات مروان, لقد كان وسيما ممتلئا شبابا؟ سقط فجأة كجذع من خشب أثناء المباراة, توقف قلب مروان قلب هجوم الفريق, مات في الوقت الإضافي, مات وهو يركض في حالة شرود, قال الأطباء: أزمة قلبية, سحقا لهم لماذا لم يكتشفوا ذلك قبل موته؟ قطعة لحم في حجم التفاحة تقذف بك بعيدا إلى العالم الآخر, أعني عالم الموت والفناء, وأي شيء الموت؟ لا شيء, الموت عدم, لكن مهلا لماذا قد أخاف من شيء لا وجود له؟ كيف أخاف من لا شيء؟ تنهد كأنه يدفع من صدره هذا الانقباض الذي يجثم عليه, ثم تساءل: ما زلت أخاف من هذا الشيء الغامض البغيض منذ عقلت, إنهم يقولون إن الموت أخو النوم, لكني أحب النوم فلماذا أكره الموت؟ إذا كنت مجرد مادة صماء, فلماذا أخاف من الموت؟ ربما هي الغريزة الحيوانية الداروينية؟ انظر إلى حيوانات الأدغال, إنك تكاد تقرأ معاني الرعب على وجه الحمار الوحشي المبرقش وهو يعدو بأقصى سرعة لينجو بجلده ولحمه وعظمه وبياضه وسواده من السبع الضاري الذي يلاحقه, إنه يكاد يشعر بأنفاسه الملتهبة تلفح قفاه, أليس هذا خوفا من الموت؟ بلى ولكن ما هذا الخوف أقصد, هذا خوف طبيعي له سبب وجيه, لكن الحمار الأنيق في بذلته المخططة, مثل نجوم السبعينات, لا يخاف حين يكون في سربه في لحظات الأمن والسكينة, ينعم برفقة الأتان وبرؤية الجيل الصاعد من الجحوش ,يقضم العشب الأخضر ويكرع من ماء النهر, هل نتصور حمارا ممددا فوق حشائش السافانا الإفريقية تتصارعه هذه الأفكار الوجودية التي تعصف في رأسي الليلة؟ هل سمعتم بحمار يعاني من الأرق ويدمن المهدئات؟ أنا لا أقصد الخوف الدارويني الذي يصرخ في داخل كل حيوان: "أريد أن أبقى, أريد أن أعيش", إنما أعني هذا الخوف الذي يتملكني الآن, إنه شيء مختلف, إنه شيء غريب, فأنا لا أرى له من سبب, ترى هل يمكن تفسير هذا الخوف "الفلسفي" من الموت بالرجوع إلى مبادئ نظرية التطور؟ لا أدري, لكن التطور يعني الانتقال من طور أدنى إلى طور أعلى وأفضل, وأي فضل في إحساس بالخوف يشل تفكيرك وينغص عيشك؟ أنا كائن مادي قلبا وقالبا, أيقنت أن الروح خرافة, الوعي تفاعلات كيميائية, تفاعلات معقدة لكنها تبقى مجرد تفاعلات, هل يخاف البحر حين تلقي فيه حجرا؟ إنه لا يهتم ولا يتقي, بل ينتظر في هدوء حتى يلامس الحجر صفحته فترتسم عليه أمواج دائرية رقيقة كأنه يبتسم, إنه تعبير البحر عن عدم اكتراثه, هل يترقب البحر سقوط الحجر؟ هل يخاف؟ إنه لا يبالي ولا يأبه بشيء, إنها عظمة المادة, وأنا مادة, ففيم الجزع إذن؟ أمر محير, انظر إلى التلفاز تطفئه وتشغله بزر واحد, الإنسان آلة داروينية متطورة, لماذا لا نعتبر موته مثل إطفاء أي آلة أخرى نعرفها؟ تضغط الزر قليلا فينتهي كل شيء؟ لكن الأمر ليس بهذه البساطة أبدا, حتى من يقف والسكين بيده ليحز شرايينه, أو يحمل كأس السم ليحتسيه, أو يقف على حافة هاوية ليتردى منها, حتى هذا الإنسان المقبل على الإنتحار يشعر أن الأمر لا يشبه أبدا إطفاء جهاز أو تعطيل آلة, لكن لماذا؟.. هل المادة تجزع؟ هل المادة تخاف؟ هل المادة تتردد في فعل ما ينبغي لها فعله؟ أبدا فالمادة في غاية الحزم والمثابرة والبرود, تحية تقدير وإكبار للمادة, المادة لا تعرف لا العواطف ولا الكلام الشاعري الرقيق, فمن أين جاءنا هذا الخوف القاتل؟

سأعتني بنفسي, لكن ذلك لم ينفع مروان, لقد مات في الثلاثين, إذا كانت الرياضة لم تنفعه فهل تنفعني؟ أنا لا أريد أن أموت, على الأقل أريد أن أعيش كما يعيش الناس سبعين, ثمانين, تسعين, أو مائة سنة, ولم لا؟ تبا, حتى ألف لا تشبع نهمي للحياة! لماذا يسكنني هذا الإحساس برغبتي في البقاء؟ هل هذا هو منشأ فكرة الخلود التي يدندن حولها أهل الأديان؟ أمر مثير للاهتمام أن يكون لهذه الفكرة الدينية مكان في تفكيري وأنا ملحد عريق في الإلحاد, إني أتمنى الخلود وإن كنت لا أفصح عن هذه المُنية, لكنها هنا في أعماق نفسي, إنها في قعر سحيق, لكنها تصرخ بي: "لا تكابر, أنت لن تشبع أبدا من الحياة" واأسفاه, إني أؤمن وأقطع وأجزم بأني لا بد أن أذوق كأس المنية, لماذا أعجز عن تقبل الأمر بكل هدوء كما يفترض بالمادة أن تفعل ما ينبغي لها فعله؟ عجبا, شيء ما داخلي لا يقنع بمطلب دون الخلود, ياه, لو كان ذلك ممكنا؟ إنها فكرة عريقة في القدم, لقد حنط المصريون فراعنتهم, ماتوا ولم يمت أملهم في حياة أخرى, مساكين, كانوا يؤمنون بحياة أخرى, فماذا كان من أمرهم؟ الحياة الأخرى الوحيدة التي نالوها هي حياة خلف الزجاج البارد في متاحف لندن وباريس, لكن الزملاء الملاحدة أنفسهم بدأوا يتساقطون كالذباب ضحايا لهذا النهم الأسطوري للخلود, إن بعضهم دفع كل ما يملك ليدفع التكاليف الباهضة لحجز تذكرة العودة إلى الحياة, النيتروجين هو الكلمة السحرية التي تعزف سيمفونية "أحلام الخلود" في آذان الزملاء المتنورين, كما كان التحنيط البدائي يعزفها في أذن توت عنخ آمون ورمسيس الثاني.

تخيل أبو الإلحاد نفسه مغمورا بالنيتروجين السائل, ينتظر الجيل الموعود الذي سيفك اللغز المحير لغز الحياة, لغز الموت, لغز الوجود, ليحقق حلمه المنشود, فيهبه تذكرة إياب إلى الحياة التي سيغادرها مكرها, أحس برائحة النيتروجين التي لم يشمها من قبل, لكنه تخيل أنها رائحة باردة, تخيل نفسه ملقى في تابوت زجاجي كأنه ثور أرجنتيني مجمد, وهل يعقل أن يعود بعدها إلى الحياة, إلا كما يتصور أن قطع الديك الرومي في ثلاجته ستتجمع ليصيح من جديد, يا له من حلم جميل, لكنه حلم بعيد المنال, فهو لا يملك الملايين لسد نفقات التحنيط عالي التقنية, ما أشد جشع زملائنا في العالم الجديد, عالم الأفلام والأحلام, يبيعون وعدا معلقا قد تخلفه القرون, ثم يقبضون ثمن الخدمة الموعودة نقدا, هلا أخروا السداد إلى وقت الوفاء؟ هلا اقتدوا في بيعهم للخلود بخصومنا المتدينين؟ إنهم لم يجعلوا العودة للحياة حكرا على الأغنياء دون الفقراء, ولا على البيض دون السود, لقد جعلوا الباب مفتوحا يلجه كل أحد, كل ما هنالك أنهم جعلوا الإنسان يقرر بنفسه كيف تكون جولته الثانية من رحلة الحياة, كأنهم قالوا: "بيتك هناك, فاجعله نعيما أو جحيما" يجب أن أقر لهم رغم اختلافي معهم, أنهم أكثر إنصافا من هؤلاء التجار مصاصي الدماء, إنهم أحفاد شايلوك, إنهم سماسرة يتجرون في الخلود ليراكموا الكنوز, أما أهل الأديان فإنهم ربطوا فكرة الخلود بأمر يستطيعه كل أحد, وليس بكم الأصفار عن شمال الحسابات البنكية, شعر بالفزع مما دار في ذهنه, لقد تزحزح إلحاده, وكاد يركن إلى الإيمان, انفجر ضاحكا, وهو يقول: "لقد فضح الموت الإلحاد" عدنا من حيث بدأنا, اتفق المؤمن والملحد على أن الحياة سر دفين, علق كلاهما الكشف عنه على المستقبل, لا إشكال أن يؤمن المتدين بالبعث والنشور وبالجنة والنار, لكن العجب كل العجب أن يسترزق الملحد المتنور من نفس ما ينكره على خصومه نهار مساء, إن الملاحدة أصبحوا يؤمنون بالبعث, لقد صاروا يبيعون الوهم, إن الملاحدة لم يعودوا ملاحدة, إن الإلحاد صار ملة ودينا وإيمانا, إن الإلحاد أثبت أن الإنسان كائن متدين, لقد أحسنت باعتناق المذهب اللاأدري, فهذا الإلحاد الملفق لا يكتفي بالسطو على شذرات من التراث الديني, بل يستثمرها للسمسرة في بورصته "الشايلوكية". لقد اكتملت أركان الملة "التنويرية" ولم يبق إلا تأسيس كنيسة إلحادية تقدم فيها القرابين والنذور للقسيس "دونكي" بالوسائل التقنية المتطورة.

شعر أبو الإلحاد بالإحباط, إنه لا يملك ثمن النيتروجين, ولا يملك أن يقتلع من نفسه فكرة الخلود, ولا يملك أن ينام, كل ما بقي له أن يغوص في أحلام اليقظة, تخيل نفسه من خلف ستار القرون وقد استنقذه أبناء المستقبل من مسبح النيتروجين, فتح عينيه فنظر إلى كائنات خضراء تلبس ثيابا بيضاء وتضع الكمامات, وبدل أن يتساءل هل صارت الأرض مستعمرة في قبضة شعب المريخ, تساءل: "كيف له أن يعرف أنه هو الشخص نفسه الذي كانه قبل أن يغطسوه في المحلول النفيس؟ كيف علم الجسد المحنط أنه جسد أبو الإلحاد؟ إنه الآن ممدد في قاعة معقمة في ضيافة المخلوقات التي ينسب لها البروفيسور "دونكي" برمجة حمضنا النووي, فكيف يكون الشخص نفسه الذي كان يوما ما في غرفة حقيرة, ممددا على سرير خشبي متهالك, تتصارعه الهواجس ويكده الأرق؟ ما هو هذا الشيء الذي يدعوه "أنا"؟ هل هو هذه البلايين من الخلايا المتجمعة؟ وكيف عرفت الخلايا أنها تكون كيانا متجانسا حتى تدعو نفسها فجأة "أنا" بدل أن تقول "نحن"؟ من هو هذا "الأنا" الذي يسافر عبر الزمان والمكان ولا يلتبس بغيره أبدا؟ ماهو مفتاح هويتك يا أبا الإلحاد؟ هل يمكن أن نفترض على سبيل التنزل أن هذا "الأنا المجهول" يبقى في صورة ما, وفي بعد آخر لا نعلمه بوسائلنا الفيزيائية والتقنية المحدودة؟ وإذا كان هذا "الأنا" الذي أعنيه حين أقول "أنا" هو منبع هذا الطوفان من الأسئلة التي تكاد تهشم رأسي, فلم لا يظهر حتى أراه وألمسه وأطمئن عليه؟ من "أنا" يا "أنا"؟ هل يعقل أن يكون هذا "الأنا" يسكن بعدا آخر من أبعاد المادة لا نعلمها بعد؟ ربما تعرف المخلوقات الخضراء عنوان هذا "الأنا" وموطنه, فتستقدمه يوما ما لتعيده مرة أخرى في أجساد المحظوظين الذين يحظون بحمام بارد طويل الأمد في حاويات النيتروجين؟ من يدري ربما كان الزملاء الشقر على حق؟ فقد علمني الإلحاد ألا أستهين بأي احتمال مهما دق ورق حتى أشبه المحال." وعلى إيقاع هذا الأمل الضئيل الذي تناهى في دقته حتى كأنه هباء, شعر أبو الإلحاد ببصيص من السكون, فأغمض الجفون, وبدأ النوم يغزو رأسه شيئا فشيئا...

هشام بن الزبير
04-05-2011, 12:19 AM
يبدو أن يوميات أبي الإلحاد بدأت تتفاعل في أوساط القوم, فإن أحدهم نقلها إلى أكبر منتديات "الجرب والجذام" لكن و يا للأسف إن زملاء صاحب اليوميات ليسوا في مثل سعة صدره.. فإنهم تدخلوا إداريا لمنع زميلهم من حقه في التعبير وإبداء الرأي وعلقوا على الموضوع بالتالي:
تم الإغلاق تمهيدا للحذف

منقول دون ذكر المصدر

الإغراق
سأعتبر هذا تشجيعا بكل المقاييس للاستمرار في فسح المجال لأبي الإلحاد الرقمي ليطلعنا على خبايا نفسه المظلمة واليومية التالية ستكون بعنوان: تأملات داروينية :): .

هشام بن الزبير
04-05-2011, 08:50 PM
تأملات داروينية

عاد أبو الإلحاد من السوق يتصبب عرقا, دخل بيته وهو يحمل الفقة, اشترى بيضا وباذنجانا وسمكا, و أعد لنفسه فنجان شاي, ثم جلس ينتظر عودة أم الإلحاد لعلها تهيئ له طبقا شهيا من الباذنجان المحشو بالسردين المفروم. إنه طبقه المفضل. لقد وجد هذه الوصفة يوما في قسم الإستراحة في أحد منتديات "الجرب والجذام". ومنذ ذلك اليوم وهو يكاد يشعر برائحة الخنوزة تهجم على أنفه كلما دخل على زملائه الافتراضيين, ربما تنبعث تلك الروائح من بين ركام الشتائم والكلام البذيء, وربما تفوح من الوصفات الغريبة في قسم الإستراحة, فهو رغم إلحاده العميق لا يستسيغ كل ما يروج في المطبخ الإلحادي, كل ما في الأمر أن هذه الوصفة الفريدة وافقت هواه. جلس يتخيل مقادير الزيت والثوم والليمون والبهارات اللازمة لطبقه المنشود, وتساءل كم من الوقت يلزم الصدفة الخلاقة لتهبه طبقه الشهي الذي تنجزه زوجه في أقل من ساعة؟ لا بد أن الصدفة تحتاج زمانا مديدا لهذه الغاية كما هي عادتها, حاول أن يحسب احتمال تكون مثل هذا الطبق اللذيذ بمحض الصدفة, يبدو أنه احتمال ضئيل جدا, لكن الطبيعة تعمل بصبر وأناة, من حسن حظه أنه لا يعتمد على الصدفة في مثل هذه الأمور المصيرية, فإن مصارينه لن تحتمل طويلا. بدأ يحتسي الشاي و يتأمل محتويات قفته, تفكر في غلاء الأسعار وفي ندرة الخضار, سمع أن ارتفاع سعر البنزين هو السبب في ذلك, تخيل كيف سيتحول هو نفسه إلى بنزين بعد ملايين السنين, تساءل هل سينتهي يوما ما محترقا في محرك جرار يحرث الأرض أو في خزان صحن طائر يجوب الفضاء, لكنهم سيستعملون طاقة أخرى على الأرجح, لا يهم, فالمادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم, لكنه لو لم يأكل شيئا فإنه يوشك أن يغمى عليه من الجوع, نظر إلى سمكة سردين بجلدها الفضي البراق, نظر إلى عينيها الجميلتين فوجدهما جاحظتين كأنهما تنظران إلى شيء ما, تخيلها كيف كانت تسبح في رشاقة بالغة في أعماق المحيط حين اكتشفت فجأة أنها وقعت في الفخ , وأن الشبكة أطبقت عليها من كل جانب, خاطبها قائلا: "للأسف فإنك خسرت معركة البقاء, إن أسلافك لم يفهموا آليات الانتخاب الطبيعي كما ينبغي, لقد جازفوا بالبقاء في المحيط, ربما ظنوا أن المستقبل مظلم على ظهر اليابسة, ماذا لو كانوا بادروا باستكشاف البر؟ من يدري لو كانوا فعلوا فربما كنت الآن مكاني تلبسين الثياب الأنيقة وتنعمين بالشاي الأخضر الصيني, ولكنت تنظرين إلي في القفة وتعجبين من زعانفي المدببة ورائحتي الغريبة", تخيل نفسه مقليا أو مشويا, يا له من مصير مؤلم, لكن لحسن حظه أنه ارتقى في سلم التطور درجات كافية جنبته هذا العذاب المؤلم, لكن أهل الإسلام يتوعدونه بنفس المصير لأنه كفر بدينهم و اعتنق "ديانة" التطور, تفكر: "إنهم يسمون كل شيء دينا, فليكن كذلك, فماذا ينقمون على التطور؟ لو لم يكن فيه علي من فضل إلا أني لست سمكة سردين فما أعظمه من دين." تمنى لو أنه لقي داروين ليشكره شخصيا على كشفه لأسرار التطور المذهلة.

قرر أن يسلق بعض البيض ريثما تعود أم الإلحاد, وضع البيض على النار وهو يتساءل: "ما الذي سبق البيضة أم الدجاجة؟ و ما الذي سبق الآح أم الماح؟ لو كانت الطبيعة تسير وفق تسلسل المعجم لكان الآح أسبق, لكن بحث التطور لم يصل بعد إلى هذه التفاصيل الدقيقة, لكن كيف استطاعت الطبيعة أن تعمل في هذا المجال الضيق؟ شيء عجيب, جلد وعظم, ريش ولحم, جناحان ومنقار, لا بد أن هذا كله استغرق وقتا طويلا, الطبيعة مدهشة, الطبيعة خلاقة, تصنع هذا كله بشيء لا أستطيع أن أصنع منه إلا شيئين لا ثالث لهما بيضا مسلوقا أو مقليا." تخيل أسلافه الأوائل وتساءل: "ما الذي تطور أولا الطعام أم الأسنان؟ اللعاب أم اللسان؟ البلعوم أم المريء؟ المعدة أم الأمعاء؟ ياه, إن الأمر محير فعلا" تصور إنسانا تنبت له أسنان قبل أن تكون له معدة, فماذا يصنع؟ أمر عجيب: "هل يسقط الطعام الممضوغ في البطن لا يمسكه شيء؟ لا بد أن الطبيعة تداركت الأمر بطريقة ما؟ لكن كيف عرفت الطبيعة أننا نحتاج إلى الإحساس بالجوع ثم علمت أن مجاوزة الحد في الأكل مضر في معركة البقاء فوهبتنا الإحساس بالشبع؟ لا بد أن بعض القبائل النهمة انقرضت بسبب التخمة لوجود هذه الثغرة في بنيان التطور, فبادرت الطبيعة بابتكار هذا البرنامج الوقائي الكيميائي الدقيق الذي يضبط الجوع والشبع, لكني الآن أتضور من الجوع." شرع يقشر البيض واقفا ويلتهمه في لمح البصر, لكنه ما يزال جائعا, أخذ رغيف خبز وشرع يقضمه في شره, ثم أخذ قنينة عسل, فشرع يضع منه على الرغيف ويأكل, كان لفرط جوعه لا يجيد المضغ, كان يزدرد الخبز ازدرادا ويسرطه سرطا, وكان صوت أضراسه وبلعه للطعام يقطع سكون البيت, إلى أن حل ضيف غريب, سمع طنينا عند أذنه, إنها نحلة, شعر بالرعب, إنه يخاف من النحل, صار يركض في المطبخ, لكن النحلة تلاحقه, يبدو أنها عازمة على استخلاص بقايا العسل العالق في شواربه, نظر إليها وهي تطير إليه, رفع كلتي يديه يصدها, لكن فات الأوان لقد أحس باللسعة المؤلمة على أنفه, إن حقنة الطبيب ألطف من هذه الوخزة السامة, ما له وللعسل؟ يا ليته صبر قليلا, نظر إلى أنفه وقد تضاعف حجمه, ثم نظر إلى النحلة وهي تجود بنفسها وقال متسائلا: "ماذا استفدت الآن, ها أنت تموتين, عجبا لماذا لم تطوري سلاحا لا يودي بحياتك, يا لها من حماقة, وخزة فيها هلاكك" ثم خيل إليه أنه سمع صوتا يقول له: "بل أنت ما قيمة حياتك؟ أما أنا فحياتي كفاح, وكدحي شفاء, ووخزي سلاح, وأنت فلأي شيء تحيا ولأي شيء تموت يا بن الأربعين؟" حينها أيقن أبو الإلحاد أنه صار يهذي من الجوع, ثم سمع صوتا مألوفا يقول: "عزيزي لحود ماذا جرى لأنفك, ياه كل هذا أنف؟" فأجابها: "أبدا لا شيء, لكني جائع, اشتريت سردينا.." فقاطعته قائلة: "ألم نتفق أنني لا أدخل المطبخ أيام العطل؟ ضعه في الثلاجة إلى الغد." عندها خرج أبو إلحاد يركض كالمجنون ليشتري شيئا يأكله...

هشام بن الزبير
04-07-2011, 12:11 AM
الآلهة الإلحادية


تصفح أبو الإلحاد منتدى إسلاميا ذات ليلة, فشده مقال يدعي صاحبه أن الإلحاد دين وإيمان. تبسم وهو ينظر إلى المغالطات تسري في أوصال المقالة, لكنه استمر في القراءة فاستوقفته الخاتمة التالية: "وخلاصة القول أن الملحد صاحب عقيدة شاء أم أبى, فهو يدين بدين, ويعبد إلها بل آلهة, بل إنه يسبحها ويمجدها سرا وجهرا, والطريف أن الملحد يغضب إن أهين معتقده الذي ينكر وجوده, ويستميت في الدفاع عنه, كما يستميت المؤمن الذي ينتسب لدين من الأديان." توقف صاحبنا عن القراءة, وتذكر الشكوك التي ظلت تساوره منذ طرده من منتديات "الجرب والجذام", وتذكر خشيته من انزلاقه من إلحاد عقلاني متنور إلى إلحاد عاطفي متحجر, تذكر اقتباسه اللاشعوري لكثير من مقولات المتدينين, تذكر تدليسه باختراع مصطلحات من قبيل "الغيب العلمي" و"الصدفة العلمية", وأقر في قرارة نفسه أن هذه السقطات توشك أن تنسف بنيان إلحاده نسفا. لكن الذي قرأه في هذه المقالة الجريئة نكأ جراحه القديمة فأزمع في نفسه أمرا. قرر أن يدخل هذه الشبهة الخطيرة إلى "المشرحة" ليكشف عما في أحشائها من التلفيق والتدليس. لا بد أن ينظر في هذه الدعوى العريضة التي يتبجح بها عليه الخصوم, ويفكك أجزائها ويكشف عن مغالطاتها واحدة واحدة حتى يستريح عقله ويخلص له إلحاده ويصفو له كفره.

بدأ يرتب أفكاره: "يدعي الزميل المؤمن أننا مثله أهل اعتقاد وإيمان, ودليله أننا نفتقر للدليل على ما ندين به من الإلحاد, فلننظر فيما يرد به حزب "التنوير" على هذه الفرية العظيمة" تفكر طويلا, وقلب وجوه الرأي, واستعرض أهم معلوماته الإلحادية, فلم يجد شيئا ذا بال, لم يجد دليلا علميا دامغا يدحض هذه الشبهة, كل ما في الأمر أن الزملاء يهربون من هذه الورطة بقولهم: "إن الإلحاد نفي محض, فلا يحتاج لدليل." أو يقولون: "إنما يسأل المثبت عن دليل إثباته, فكيف يسأل النافي؟" ومن الطريف أنهم يستشهدون لإلحادهم من قاموس الخصم فيقولون: "البينة على من ادعى" وكأن نفيهم ليس دعوى! وربما أضافوا -إمعانا في الهرب- : "الإلحاد يا عزيزي هو غياب الإيمان, وغياب الدليل هو دليل الغياب, وما يقال بغير دليل, ينقض بغير دليل." تأمل في كل هذه الأقاويل وحك جبهته متسائلا: "لكن أين الدليل؟" وخطر في باله أن افتقار أصل المذهب الإلحادي إلى دليل مادي دامغ يجعله بالفعل "معتقدا" بكل المقاييس, وألح عليه السؤال: "كيف يستمر الزملاء في تفريع المسائل وتشقيق الأقوال إذا كان أساس المذهب هشا بهذا القدر؟" "هل يعقل أن مذهب "التنوير" لا يقوم إلى على عمود واحد هو "الإنكار" و"النفي" و"السلب"؟ "أليس في الإلحاد "إثبات" أو "إيجاب"؟ يا للورطة, فالزملاء لا يستطيعون حتى أن ينفوا وجود وحش لوخ نيس أو الييتي, لأن العلم لا يعترف إلا بالدليل ولا يقيم وزنا للدعاوى المجردة. إذن فلا يزال ثمة احتمال لوجود هذه المخلوقات في مكان ما, بل إن البروفيسور "دونكي" الذي يطلق عليه الخصوم "قسيس الإلحاد" يعتقد وجود كائنات فضائية, وهو على سعة علمه لا يملك شبهة دليل على ذلك, لكنه من أشرس المنكرين لوجود الخالق, فهل خرج من الكون واستقصى أرجائه وتفقد زواياه النائية وأركانه, وتجول في كل العوالم الظاهرة والكامنة حتى يجزم بأمر كهذا؟ ماذا لو كان البروفيسور المشهور مخطئا؟ يسوءني أن أقر أن كل الأدلة تشير إلى أن مذهب الزملاء يعتبر بسبب هذه الثغرة العظيمة دينا يشمل جملة من التصورات والمعتقدات التي تسد النقص الحاصل في فهمهم لهذا الكون الفسيح وأسراره الغامضة. فما دام الإلحاد لا يقدم الدليل على نفيه للخالق فإن هذا -بكل أسف- إيمان غيبي مجرد عن الدليل. لكن الخصم العنيد لا يقف عند هذا الحد الذي يؤسفني أن أقر له به, بل يرمينا بعبادة آلهة, إنه اتهام مضحك, هذا مما يغني إيراده عن رده.

دار هذا بخلده, وهم بإطفاء حاسوبه, لولا أنه تذكر أنه قرأ يوما مقالا عن علاقة الإلحاد بعبادة الشيطان, لم يعبأ به يومها كثيرا. قام ببحث سريع على الشبكة فوجد موضوع "كنيسة الشيطان" قرأ عن أنطون ليفي مؤسس هذه الكنيسة, وقرأ عن إنجيله الأسود وطقوسه الخبيثة, كم يبغض هؤلاء الشيطانيين, لكنه حين قرأ أن هذا المعتوه زميل ملحد شعر بالصدمة, لقد وجد ملحدا مشهورا يعبد إلها و أي إله؟ إنه يعبد رمز الشر والرذيلة والفساد في العالم, إنه قطعا لا يؤمن بوجوده, لكن إقراره على نفسه أنه يعبد الشيطان بذيله وقرونه وصمة عار في جبين أهل "التنوير". لكن هذا ليس كل شيء, فهناك زميل آخر متنور يدعى بوبي هندرسن أضاف إلها آخر إلى قائمة الآلهة الإلحادية, إنه "وحش السباجيتي الطائر" لم يصدق عينيه حين قرأ عن ذلك أول مرة, ظنها مزحة إيطالية, لكن الزميل جاد لا يمزح, لقد ألف إنجيلا يتضمن وصايا إلهه "المعجون" ويا ليت الأمر اقتصر على الزميل الذي ورطنا في هذا المأزق القاتل, فإن البروفيسور "دونكي" نفسه يستشهد في حماس بالإله الإلحادي الكرتوني "وحش السباجيتي الطائر". على الأقل هذا ما اطلعت عليه في كتابه "وهم الإله". ولا أدري كيف خفي عليه أن من يستشهد بإله يسبح في الصلصة الحمراء ويغمس في الماء المغلي أعظم وهما ممن يؤمن بإله يخلع عليه صفات قد يقبلها العقل. إن المطبخ الإلحادي يمور بالوصفات الغريبة, ويفوح بروائح الخنوزة التي تزكم الأنوف, لكن أن ينزلق الزملاء إلى عبادة المعجنات فهذه فضيحة مدوية, تذكر أنه قرأ يوما في منتديات المتدينين أن عرب الجاهلية كانوا يصنعون أصنامهم مما يتيسر لهم, وربما صنعوها من تمر, فكان أحدهم يعبد إلهه اللذيذ ما دام شبعان فإذا جاع شرع يقضمه في خشوع أهل الجوع حتى يصير معبوده في بطنه, وحتى يفنى المعبود في العابد, وحتى تتحقق وحدة الوجود, فيصير الرب عبدا والعبد ربا, ما أتفه هذه العقول, أإله مأكول؟ أإله يتنقل بين المطبخ والكنيف؟ يجب أن أقر أن إلها يتأرجح الناس بين نفيه وإثباته, ولا يقدر العقل أن يحيل وجوده, خير من إله مأكول مطعوم مهضوم.

تصور الزملاء "المتنورين" وقد قدموا من أرجاء العالم لأداء طقوس "العبادة السباجيتية" ولأمر ما تخيلهم قد تجمعوا في سهول جنوب إيطاليا في يوم مشمس, ووقفوا جميعا في صعيد واحد, وجاء القسيس الأكبر "دونكي" بلحمه وعظمه وشحمه في حلة مهيبة, كالتي يلبسها الطباخون, ويضع على رأسه تلك القبعة العظيمة التي تزيده بهاء, وهو يقول: "أعزائي الزملاء الأجلاء.. يا أهل الأنوار.. يا من تخطيتم الأسوار.. يا أذكياء العالم.. يا زبدة الأرض.. لقد تجمعنا هنا اليوم لنجدد الولاء والطاعة لإلهنا العظيم.. ولنسبح بحمده على إنعامه العميم.. فنضعه في القدر على نار هادئة حتى يستوي في جماله وجلاله.. وحتى ننعم بطيب ريحه ومطعمه.. فلتبارككم "السباجيتي" ولتحمكم "الطماطم" أيها العابدون الأكَلة.. ثم تخيله يقرأ وصفة طبخ إلهه مطرقا ويترنم في خشوع: "إلهنا "وحش السباجيتي الطائر".. جئناك كما أمرتنا فنورنا كما وعدتنا.. وصنعناك كما علمتنا.. فاملأ بطوننا كما عودتنا.. طن من خالص المعجنات.. وطن من الطماطم غير المهجنات.. وأكياس من العطور والبهارات.. لننعم بعطاياك الباهرات.. إلهنا "وحش السباجيتي الطائر" ائذن لنا أن نغمسك في المياة المقدسة.. وأن نرفعك فوق النار المتوهجة.. لتطهرنا من أدران البشرية وتخلع علينا من هبات "السباجيتية".. إلهنا لنشكرنك "بصلصة ناسوتية بنكهة سوفسطائية ولنرشن قدرك العلية ببهارات داروينية.." شعر أبو الإلحاد بالجوع يعتصر أحشائه, وتمنى لو حضر مثل هذا القداس الإلحادي مرة في حياته, تخيل "دونكي" يخلط مقادير إلهه فوق نار هادئة, في سكينة ووقار, ثم يستمر في تلاوة الأوراد الإلحادية ويرتل فقرات من كتابه "وهم الإله" حتى استوى أمامه "إله الوهم" حينها دعا بالأطباق فطار إليه الملاحدة من كل حدب وصوب, فهم إلى معبودهم بالأشواق, فما هي لحظات و دقائق, حتى مزقت السكاكين والأضراس أوصال الإله المطبوخ وتلاشت ألياف المعبود الممضوغ, حين خرست الألسنة وأعملت فيه الأسنان كأنها أسنة, وفني العباد في معبودهم, واستيقنوا وحدة وجودهم, واختلطت المقادير العلية في بطون الرعية, وذابت المعجنات السامية في الأفواه الحامية, وسالت الآلهة "السباجيتية" في الأمعاء الإلحادية, فلا تسل عن الدموع الساخنة التي سالت من حر البهارات الهندية, ولا تسل عن المنامات الشيطانية التي أعقبت التخمة السلطانية, ولا تسل عن القيء والقلس, ولا تسل عن الجشاء والفساء. تذكر أبو الإلحاد ذلك كله واستغرب من سعة الخيال الإلحادي, وخجل من زملائه الذين يوشكون أن يعبدوا "البصل" و"الباذنجان", بعدما عبدوا "الطماطم" و"العجين", توقف عن التفكير قليلا ثم قال يحدث نفسه: "أظنهم بالفعل يعبدون كل شيء, إنهم يعظمون المادة, ويقولون إن الكون أزلي, إنهم يعبدون كل شيء بالفعل. لقد أحسنت بتخفيف حدة إلحادي واعتناق اللاأدرية." أحس بالجوع حتى تخيل أن رائحة صلصة "وحش السباجيتي" بدأت تنفذ إلى أنفه. فرفع صوته يسأل زوجته: "عزيزتي, هل العشاء جاهز؟" فأجابته: "نعم يا لحود, تعال قد أعددت طبق سباجيتي على الطريقة الإيطالية التقليدية" قام إليها مسرعا وهو يقول في نفسه: "سأطير إليك يا طبق السباجيتي الطائر."...

ماجد
04-07-2011, 10:11 PM
أقترح علي الأخوة القائمين بمجلة منتدي التوحيد أن يفسحوا لك عمود دائم فيها,,
وأتمني أن أري في الأسواق قريبا كتب لك وليس في الألحاد واللادينيه فقط بل والعلمانية وغيرها أيضا..
فأسلوبك أخي هشام متميز حقا
جزاك الله خيرا
تقبل هذه:emrose:

هشام بن الزبير
04-08-2011, 12:11 AM
جزاك الله خيرا أخي ماجد على كلامك الطيب..
أهديك يومية أخرى لصاحبنا المبتلى بلوثة الإلحاد. أسميتها:
فصل لتعليم الإلحاد

هشام بن الزبير
04-08-2011, 12:13 AM
فصل لتعليم الإلحاد

أحس أبو الإلحاد بالحنق الشديد على زملائه إذ هجروه وتركوه في العراء الإلكتروني عرضة لشبهات المسلمين, مضوا وخلفوه في الفضاء الرقمي المكشوف بلا سلاح, حرموه صحبتهم فخبا دخان الإلحاد من عقله رويدا رويدا, إنه وحيد شريد يخشي على نفسه الفتنة, استلقى على فراشه, شعر بضيق في صدره, حدق في السقف طويلا, أغلق عينيه لينام فأبت جفونه أن تنطبق, يبدو أن أرقه أصبح مزمنا, وأنه طور مناعة ضد الحبوب المهدئة.

أطفأ السراج وشرد بعيدا, بدا كأنه يسترد شريط أيامه, أحس أنه عاد طفلا, تذكر الصبا وعاودته ذكريات أيام المدرسة, غاص في ذلك الزمان البعيد, حاول أن يستعيد ذكرياته في ضوء إلحاده, تذكر المقاعد الخشبية, والسبورات السوداء, وسترات المدرسين البيضاء, تذكر آثار الحبر الأزرق على أنامله وتذكر أقلام الرصاص, أحس برائحة تلك السنوات الهنيئة, رائحة الطباشير, تذكر الفصول المتعاقبة والمواد المختلفة.

تذكر مادة الجغرافيا حتى خيل إليه أنه يسبح في أنهار الصين ويتسلق جبال الهيملايا ويتجول في غابات الأمازون, تصور أنه ينظر إلى قطعان الغنم في الأرجنتين ويتسلى بمشاهدة أسراب البطريق في القطب الشمالي, تخيل ذلك كله وتمنى لو يعود كما كان بريئا سعيدا, يركض في دروب الحياة بعقل طفل ويقفز في خفة كنغر أسترالي. تنهد كأنه يتحسر على صفاء تلك الأيام الخالية وتساءل: "أين يقع إلحاده من هذا كله؟" ماذا لو قيل له: "صف لنا الموقع الجغرافي لإلحادك يا أبا الإلحاد؟" فتح عينيه وهمهم: "لا بد أن هذا المذهب العقلاني المتنور يقع في واد سحيق بين المجازفة والتهور, أو في أخدود غائر بين الشكوك والظنون, وربما أفضى بمنتحله -إن أخفق في بلوغ بر الأمان- إلى ما يشبه ما ظنه القدماء حافة العالم. إن الإلحاد جزيرة جرداء تسبح فوق مستنقع من الظنون والهواجس والشكوك, إنها مكان فظيع يحده اليأس شمالا والقنوط جنوبا والحيرة شرقا والاضطراب غربا, لاشك عندي في دقة هذه الإحداثيات, فزعماء الإلحاد وقسسه يحطون رحالهم إما في مستشفيات المجانين أو يركبون مراكب اليأس فيقضون منتحرين, لكنهم في كل الأحوال لا يبرحون الجزيرة الملعونة." تذكر كيف كتب إسماعيل أدهم : "لماذا أنا ملحد؟" نشر إعلانه الجريء يتبجح "بيقينه الإلحادي", ويفاخر بطمأنينة نفسه وسكينتها, وينادي: "إني وجدت السعادة الروحية التي يدعيها المؤمنون لأنفسهم, إنها هنا, في مذهب الإلحاد." امتعض أبو الإلحاد من هذا النفاق البين: "ياله من مخاتل كذاب, فلم انتحر إذن؟" إنه يعلم هذا كله الآن ويخشى أن يبوح بشيء منه لأحد, إنه يصارح نفسه لأنه يفكر بعقل طفل, إنها لحظات صفاء نادرة يستسرل فيها أبو الإلحاد مع شكوكه, ويكاد يصرخ بما لا يكاد يهمس به عادة, إنه يدفع إلى ذلك دفعا, فقد هجره الأقران, وقلاه الخلان, ونبذوه كالحذاء البالي, وأوصدوا في وجهه أبواب منتديات "الجرب والجذام", فماذا يصنع إن لم يطلق لافكاره العنان؟ هل يريدونه أن يجن أم يتوقعون أن ينتحر؟ يجب أن يجتاز هذه المحنة بسلام, إنه يحب الحياة, فكيف ينتحر؟ إن الحرب الأهلية تكاد تندلع في رأسه من فرط الحيرة والاضطراب, ويكاد يحس بالأعاصير الإستوائية المدمرة تعصف بين مخه مخيخه. يجب عليه أن يجد لنفسه حلا. لقد أصبح بالفعل على حافة الإفلاس الفكري, ودخل فيما يشبه الركود الكبير, هل هو مقبل على الجنون؟ غطى وجهه بالوسادة كأنه يهرب من هذا الهاجس المرعب, إن زلزالا عنيفا بدأ يهز أرجاء نفسه بقوة لا يكفي لقياسها سلم ريشتر. استمسك بسريره واجتهد أن يحافظ على البقية الباقية من يقينه الإلحادي وأفكاره التنويرية.

تذكر مادة التاريخ, تذكر الحضارات البائدة, والممالك العظيمة, والمدن العامرة, تذكر الإنسان القديم, إنسان الكهوف الذي روض الوحوش, وتساءل: "لماذا لم يخل زمان من دين؟ ولماذا لم تخل مدينة من معبد؟ لماذا لا ينفك مجتمع بشري عن إيمان؟ من أين جاءت كل هذه الأديان؟ أحس بجحافل جيش الشك تزحف على رأسه؟ وأحس بهواجس الظنون تراود عقله, وخشي إن استسلم أن تستولي دولة الإيمان على زمام نفسه, فتقلب في فراشه يدافع شكوكه, ويتخيل فصولا أخرى لعلها تزكي كفره وترسخ إلحاده.

تذكر مادة الأحياء وندم أنه لم يدرس التطور في صباه, فهو على كثرة ما سمع وقرأ عن التطور, ما يزال يشعر أنه لغز كبير محير؟ تخيل زملائه في صورة فايروسات إلكترونية متطورة تحمل الأفكار الإلحادية وتترقب الفرصة المواتية لإخراجها من حيز القوة إلى حيز الفعل, ومن العالم الافتراضي إلى العالم الأرضي, تذكر كيف يتسترون في مكر بإلحادهم ولا يبوحون به إلا في منتديات "الجرب والجذام" التي ينزلقون إليها ليلا كالجرذان, تصور "منتدى المجذومين العرب" مزرعة حيوانات مثل مزرعة جورج أورويل, تقودها الخنازير والكلاب, وهذا ليس قدحا في الكلاب والخنازير أبدا, إذ لا يفصل هذه الخنانيص الذكية وتلك الجراء الوفية, عن الزملاء الذين يرتدون الثياب, إلا بضعة كروموزومات وبضع درجات في سلم التطور. لقد نسفت الداروينية أوهام الكرامة البشرية الأصيلة ووضعت حدا لاستعلاء فرد واحد من الأسرة الحيوانية على أقرانه, "ما دام الجميع يرجع إلى سلف مشترك, ففيم الفخر بالأحساب والتعالي بالأنساب؟" تصور كثيرا من الملاحدة الافتراضيين يتلونون تلون الحرباء وينقنقون نقيق الضفادع ويبثون أفكارهم التنورية في مكر ودهاء ولا يكاد يسمع لهم إلا فحيح, تخيل شعر القرود يتساقط وظهورها تستقيم وذيولها تندثر شيئا فشيئا لتلتحق بركب الإنسانية, تخيل الزرافة تمد رقبتها في طموح, فهي لا تقنع بالثمار الدانية, بل تشرئب إلى العلياء حتى صار عنقها بهذا الطول العجيب. يحيا التطور.

تخيل مدرس الكيمياء في سترته البيضاء يقول: "يستخرج "زيت التنوير" من مسام المجتمعات الخرافية, ومن خلايا الثقافات الرجعية, ويستخلص بوسائل علمية دقيقة وبآليات منهجية حديثة من مستنقع الشك ومن حمأة الحيرة, ويحمى عليه في أتون التحرر ويرش بمحلول الإنفتاح ويحفظ في جو العقلانية حتى يتخمر ويصير كالقار الخالص, حينها يسقى به المتنورون شربة هنيئة لا يظمؤون بعدها إلى الإيمان أبدا.

تذكر فصل العربية, وتذكر المعلقات والمقامات, وتذكر الشواهد القرآنية, امتعض من المدرس الذي كان يرى أن الإسلام مبتدأ وخبر, وأنه فاعل مرفوع لا حد لرفعته وعلامة رفعه ضمه لأجناس أهل الأرض تحت رايته, فلا يختص به جنس دون آخر, ولا أرض دون أخرى, استغرب من اجتياح هذا الدين للشمال المتنور, عجبا كيف يكون منهج من "الماضي" فاعلا في "المضارع", بل كيف يريد أصحابه أن يملكوا "المستقبل" وكيف لم يزالوا يخاطبوننا بصيغة "الأمر", لا شك أن هذا الإسلام دين "الجمع", يصر أن يجمع كل شيء تحت ظله: ""المفرد و"الجمع", "الضمير الظاهر" و"المقدر", إن الإسلام يتصور أن يجتاح أعاصير عصور ما بعد الحداثة, وعواصفها الهوجاء التي تسلط عليه بسلام, لكن هيهات, نحن في زمان ما بعد الحداثة. إن هؤلاء القوم لا يرون حقائق دينهم إلا مصدرة "بحروف التحقيق", ولا يراها هو إلا في جوار "حروف الشك والمقاربة". إنه يحب السلام والتسامح و الإسلام أقام بنيانه على "الفتح".

لكن أين موقع الإلحاد من العربية؟ لا شك أنه ما زال "مجرورا" منذ وجد, يعيش في "الضمير المستتر", كأنه "فعل مبني للمجهول", وأحسن أحواله أن يكون "مفعولا به". وربما أتاح له الزمان فلتات فيتسلم منصب "نائب الفاعل" على حين غرة من "الفاعل" الحقيقي. الإلحاد لا يحيا –للأسف- إلا مصدرا "بحروف النفي", إذا كان الإلحاد استفهاما, فإنه استفهام استنكاري لا ريب في ذلك, إنه فكر لا يرجى له مستقبل إلا في أحضان "لعل" و"عسى", الإلحاد "جملة اعتراضية" و"خبر محذوف". يبدو أن هذا المذهب المنبوذ قد ابتلي بكل "حروف العلة". الإلحاد في ديار الإسلام كلمة لا محل لها من الإعراب. الإلحاد دين "المفرد والمثنى", تنتحله شرذمة منبوذة, تضاف إليها كل الأوصاف الدنيئة والأفعال الناقصة. لهذا كله يسعى كثير من الزملاء إلى كسر كبرياء هذه اللغة المؤمنة بتوجيه سهام النقد اللاذع إليها, إن حزب التنوير يفضل اللغات الأجنبية و اللهجات العامية على العربية, فلا عجب أن راجت عند بعضهم موضة تعلم الأمازيغية, لكنه سمع من مصادر موثوقة أنه لا ينصح أبدا بالجهر بالأفكار الإلحادية في بيئة أمازيغية أصيلة, فإن هذا الشعب ما زال شديد التأثر بالموروث الديني, وربما تنقلت إليه جينات "بن آجروم" عبر القرون. تخيل أبو الإلحاد ذلك كله وتساءل في قرارة نفسه: "هل سيأتي يوم ينعم فيه الإلحاد العربي بالازدهار في أحضان لغات لا تعامله بمنطق الفتح والكسر والضم والجر؟" حينها بدأ يحس بالنوم يسري في أوصاله وسرعان ما شرع في الشخير...

هشام بن الزبير
04-09-2011, 10:45 PM
من سيربح الغليون؟


لقي أبو الإلحاد أثناء سفره شابا متوقد الذكاء من عفاريت الشبيبة الإلحادية, إنه أحد الذين نغصوا عليه إقامته في العالم الإلكتروني, مع فارق ظاهر, فأولئك مجرد معرفات رقمية تسبح في عوالم افتراضية, لكنه يرى أمامه الآن مليحيدا حقيقيا غض الإهاب, من لحم ودم, فتملكه الفضول للتعرف على الزميل الصغير. وجده في القطار منكبا على حاسوبه الصغير, كانت أصابعه النحيفة تنقر الأزرار كأنها طير يلتقط الحب في خفة, أمهله حتى فرغ ثم استدرجه في الحديث في مكر بالغ, وحين أفضى إليه أخيرا بحقيقة معتقده داعبه قائلا: "مرحبا بك على الجزيرة المتنورة أيها الزميل" نظر إليه الشاب في استغراب فبادر أبو الإلحاد إلى انتهاز الفرصة الثمينة, وبدأ يستفسر رفيق سفره عن خبايا تصميم البرامج الإلكترونية, فهو وإن كان قد تدرب على بعض برامج التصميم فإنه لم يفلح قط في ردم الهوة السحيقة بين معلوماته النظرية وبين تطبيقاتها العملية.

خطر له شيء قد ينهي أيامه العجاف كملحد منبوذ, لقد قرر أن يطور مهاراته التقنية حتى يثبت لزملائه أنه رقم صعب في معادلة التنوير الافتراضي. بدأ حلم وردي يداعب خياله السوداوي, راودته فكرة تصميم برنامج يكون مفتاحا لعودته إلى عالم المنتديات اللادينية, يجب أن يكون برنامجه قنبلة بكل المقاييس تفتح له الطريق من جديد إلى منتديات "الجرب والجذام", إنه يريد شيئا مبتكرا فريدا, فماذا يكون ياترى؟ هل يصمم شجرة التطور بتقنية ثلاثية الأبعاد بحيث كلما نقر على فرع منها خرجت منه الحيوانات المتفرعة التي تطورت منه؟ كأن ينقر فتخرج الديناصورات تتبعها التماسيح ثم تتلوها القوارض والقرود. ربما استعان بالمؤثرات الصوتية التي اقتبسها من سلسلة "مغامرات السحلية والسعدان" التي يدمن مشاهدتها ولا يمل منها أبدا. إنه يعدها من روائع الفن الكرتوني العالمي.

لعل موضوع التطور أصبح يثير الملل, فليصمم برنامجا تثقيفيا حول منجزات أباطرة الإلحاد من لينين إلى بول بوت, تخيل بول بوت بملامحه الصفراء القاسية يعتلي جبلا من الجماجم البشرية, فتخلى عن هذه الفكرة, إنهم يعيروننا بأمثال هذا الزميل المتهور, لقد بالغ في سعيه لتسريع وتيرة التطور, هذا كل ما في الأمر, لقد أتعبه الانتظار ملايين السنين, فقرر اختصار المدة بوسائله الخاصة, لو نظرنا إلى القضية بتجرد علمي بعيد عن الرومانسية, لوجدنا أنه قام بتقديم بعض المساعدة لأمنا الطبيعة, فأخذ على عاتقه القيام بعملية تجميلية لوجه المجتمع بإزالة بعض العناصر الدنيا ليفسح المجال بعدها للانتخاب الطبيعي ليواصل عمله. إن الخصوم يبالغون في التشنيع علينا بإرث الزميل المتحمس, فهلا نظروا إلى مقاصده النبيلة, عجبا إنهم صدعوا رؤوسنا بكلامهم عن النيات والمقاصد, فليتأملوا برهة في مقاصد الزميل الكامبودجي. لكن المتغيرات الكونية لا تسمح الآن بتبجيل هذا الرفيق المناضل, فلنصبر ريثما تهدأ النفوس.

استرسل في تأملاته ثم نظر إلى الشاب فوجده غائصا في لعبة إلكترونية, فانفرجت أساريره وفغر فاه كمن عثر فجأة على شيء يفتقده, فربت على كتفه سائلا: "هل لديك خبرة في تصميم الألعاب" فأجابه دون أن يلتفت إليه:" طبعا ومن تظن صمم هذه اللعبة التي تراها؟ انظر إنها لعبة "بيغ بانغ سوبر دي لوكس تاور" لقد صممت عمارة من مائة طابق, في كل طابق مائة شقة, في كل شقة عشر غرف, في كل غرفة عشر أرائك, فضلا عن المطابخ والحمامات والمسابح, طبعا لك أن تتخيل كم تفننت في تصميم الأثاث الإيطالي الفاخر, كل ما يخطر على بالك موجود في عمارة "سوبر دي لوكس تاور", لو قدر لعمارتي أن ترى النور لخطفت الأضواء من برج العرب, ومن أبراج كوالا لومبور, لكني صممتها لغرض آخر, انظر هذا الزر الأحمر, تأمل الحروف اللاتينية "بانغ" أشار إليه ثم ضغط عليه ضغطة سريعة فسمع دوي انفجار, ثم قال: "هل رأيت كيف تستحيل "سوبر دي لوكس تاور" سديما كونيا متناثرا؟ انظر بنفسك." حدق أبو الإلحاد فإذا سحابة سوداء داكنة تملأ الشاشة, وتلاشت المكونات الإلكترونية للبنيان الافتراضي الباهر كأنها بهارات هندية ضلت طريقها بين أسنان مطحنة كهربائية صينية, "بهذه الضغطة تكون اللعبة قد بدأت, ويبدأ العداد الإلكتروني يحصي عليك المدة, عندها عليك أن تبدأ بضغط الزر الأخضر باستمرار, انظر إليه وإلى حروفه الجميلة: "بيغ", لقد صممت اللعبة حسب آخر داراسات نظرية "البيغ بانغ" وجعلت فرص الفوز متقاربة مع أدق الحسابات الفيزيائية لنشأة الكون, يعني, فوزك في هذه اللعبة أشبه بالمعجزة, ويعادل احتمال تكون جزيء بروتين بمحض الصدفة, لكن اللعبة لها هدف تربوي إلحادي, فمهما ضعف الاحتمال, فإنه حقيقة لا يتطرق إليها الشك والاحتمال." نظر إليه أبو الإلحاد بإعجاب وسأله: "لكن كيف تستمتع بلعبة لا يرجى فيها فوز؟" فأجابه الشاب في ثقة: "الفوز يحتاج إلى صبر ومثابرة أيها الزميل, ثم إنني حصلت على نتائج مشجعة وإن كانت نادرة, فقد ضغطت مرة "بانغ" فاندثر كل شيء, ثم عدت فضغطت "بيغ" صحيح إن العمارة لم تعد كما كانت, لكن المرحاض الفاخر كان هناك بكامل تفاصيله شامخا فوق كومة الغبار المتناثر كأنه يقول: "هائنذا أيها الزملاء!", هل تعي المغزى أيها الزميل, انفجار يعيد الحياة إلى مرحاض حديث بكامل أجهزته, حتى المرآة كانت هناك بدون خدش, طبعا أنابيب المجاري كانت تسيل, لكن ألا ترى معي إلى قيمة هذا النجاح الجزئي؟

نظر إليه أبو الإلحاد وتخيل أنه ينظر إلى نفسه قبل عشرين سنة, نظر إلى بريق عينيه وإلى حرارة الحماسة تسري في كلامه, فسأله: "عندي فكرة لعبة إلكترونية تضاهي لعبتك, لكني أحتاج لبعض التوجيه..." قاطعه الشاب: "هات فكرتك" فانطلق أبو الإلحاد كأنه يقرأ من كتاب: "إنها لعبة تجمع بين المحتوى التنويري وبين البعد الترفيهي, أريد أن أدخل البهجة إلى قلوب الزملاء في هذه الظروف العصيبة, وفي هذه المجتمعات الرجعية, حيث يتغلغل الإيمان, إنها لعبة من طراز: "من سيربح المليون" سأسميها "من سيربح الغليون" وتكون الجائزة الكبرى غليونا من عاج الماموت الأوكراني النادر المطعم بالذهب الأحمر, هذا لو قامت إحدى الشركات الإلحادية العظمى باحتضان المشروع, أريد أن تكون الأسئلة جولة لطيفة في أنحاء الفكر الإلحادي المتنور, يلعبها الصغير والكبير والمثقف والعامي والرجل والمرأة, لعبة تنير ظلمة البيوت الإلحادية, وتصلح لقضاء ليالي الشتاء الباردة, وتكون بديلا لبرامج القنوات الدينية, لعبة تحفز المجتمع المتنور على تنمية الثقافة العامة الإلحادية." قال له الشاب: "هذا من أهون الأشياء, لكن كيف تتصور الأسئلة؟" اعتدل أبو الإلحاد في مقعده, ومد بصره خارج النافذة كأنه يستلهم الأفكار من منظر أشجار الأكالبتوس الممتدة على طول الطريق, ثم أغمض عينيه وقال:


أيها الزملاء مرحبا بكم جميعا مع اللعبة الإلحادية الأولى: "من سيربح الغليون" أمامكم أحد عشر سؤالا, ولديكم ثلاث وسائل مساعدة: 1. تجاهل السؤال 2. القص واللصق 3. الاتصال بجوجل

السؤال الأول: واحدة من أكثر الأشجار انتشارا في أستراليا:
1.كلى البسوس, 2. أكالبتوس, 3. آكلة التيوس, 4. شجرة التطور.
السؤال الثاني: ما هي كنية الزميل الراحل جوزيف ستالين؟
1. أبو مطرقة, 2. أبو منجل, 3. أبو شنب, 4. أبو الهول.
السؤال الثالث: ما هو معرف مؤسس أكبر صفحة إلحادية على الفيس بوك؟
1.أبو حنتمة الملوخي, 2. التنين القطبي 3. العلامة اللاأدري 4. كلكامش الحكيم.
السؤال الرابع: الطبيعة أم الملاحدة فمن أبوهم؟
1. الصدفة 2. الطاقة 3. مجهول لا يعرف 3. لا أبا لهم فالطبيعة تلقح نفسها.
السؤال الخامس: ما اسم الحلقة المفقودة بين الشمبانزي والإنسان؟
1. سمك السلمون 2. ذبابة الليمون 3. البوكيمون 4. أبو قشة السعدان.
السؤال السادس: ما هو الشيء الذي لا يقدر عليه الإله الإلحادي وحش السباجيتي الطائر؟
1. أن يطير فوق بلاد السوشي 2. أن ينقلب إلى طبق محشي 3. أن يتصرف بشكل وحشي 4. أن يدنو من ديك حبشي.
السؤال السابع: ما هي هواية البروفيسور ريشارد "دونكي" المفضلة؟
1. مطالعة روايات هاري بوتر 2. التواصل مع الكائنات الفضائية 3. جمع الحلقات المفقودة 4. رتق الثقوب السوداء.
السؤال الثامن: فيم كان يفكر زميل "دونكي" صانع الساعات الأعمى طوال تلك السنين؟
1. متى سينتهي ليذهب إلى بيته؟ 2. كيف سيواجه المنافسة الصينية؟ 3. كم ستكلف الحملة الإشهارية؟ 4. أين سيقضي عطلته السنوية؟
السؤال التاسع: كم قردا نحتاج لكتابة "أصل الأنواع" في عشرين سنة؟
1. تريليون قردا 2. بليون قردا 3. مليون قردا 4. نحتاج قردا واحدا متطورا.
السؤال العاشر: ما هي أهم الحفريات التي تنقض نظرية التصميم الذكي؟
1. مشط آردي 2. خلخال لوسي 3. شظايا الانفجار الكمبري 4. حذاء إنسان بلتداون.

عندها فتح عينيه, فلم يجد أمامه أحدا, لقد جمع الزميل أغراضه واختفى, شعر أبو الإلحاد بضيق في صدره, لقد كان يهم أن يسأل زميله عن سؤال الغليون, أراد أن يسمع رأي غيره, فلا بد لسؤال كهذا أن يكون مدروسا بعناية, لكن الزميل رحل دون أن ينبس بكلمة, ربما اضطر لذلك حتى ينزل في المحطة التالية, وربما كان إلحاد أبو الإلحاد نسخة أثرية لا مكان لها في عالم الملاحدة الناشئين من الجيل الثالث أصحاب الهواتف الذكية, عندها وصل إلى مقصده فنزل من القطار يجر أذيال الخيبة...

هشام بن الزبير
04-11-2011, 11:37 PM
14
مأساة الأبوة الإلحادية

جلس أبو الإلحاد إلى مائدة العشاء, حمل الشوكة بيده الشمال وأحس بشعور غريب, فأن تكون ملحدا ثم تلتهم "السباجيتي" بالصلصة الحمراء أمر يثير إشكالات ميتافيزيقية عميقة. لا شك أن هندوسيا مخلصا سيفضل الموت جوعا على أن يشهر سكينا وشوكة في وجه بقرة مقدسة, لكنه ملحد, فليأكل إلهه إذن. لقد سئم السكون الذي يملأ البيت, تمنى الذرية, كان قبل سنوات يكبت عواطفه الأبوية ريثما تستقر أحواله, كان الأمر ترتيبا مقصودا للأولويات, أما الآن فالأمر مختلف, إنه يرى أن الطبيعة قد خذلته ولم تسعفه بعد بالولد, لكنه يستغرب من عجلته, وكيف عساه يجيب عن أسئلة طفل؟ إن رأسه تكاد تنفجر تحت ركام من الأسئلة المعلقة, لكن هذا الصمت الخانق بيئة خصبة للتفكر, والتفكر يسبب له الصداع والاكتئاب, ما الحل إذن؟

فجأة نادى بأعلى صوته:" نوال, نوال, يا سعد أيامي, يا أميرة التنوير, ما رأيك أن نتخذ حيوانا أليفا يملأ علينا البيت؟" فأجابته أم الإلحاد بسرعة: "لحود, عليك أن تختار بيني وبين الكلب, هل نسيت اتفاقنا؟" فأجابها: "أبدا, من ذكر الكلب؟ أي شيء إلا الكلب, قطة, سلحفاة, تمساح حتى.." قاطعته في حدة: "لا أريد مخلوقا بشعا يمشي في الشقة على أربع, هل فهمت؟" فقال لها: "وماذا لو ظفرنا بمخلوق ظريف يمشي على رجلين؟" تجاهلت كلامه فجلس يفكر في الأمر, امتعض من العنصرية التي يعامل بها الإنسان أشقائه المتخلفين داروينيا, فأنت تجد الكلاب محرومة من ولوج المطاعم والمتاجر والإدارات, لا لشيء إلا لأنها تعثرت قليلا في مسيرة التطور, يا له من مغرور هذا الإنسان! ماذا لو تداركت الكلاب النقص وتسلقت درجات سلم التطور طفرة واحدة, فصارت أرقى منه؟ حينها ستذيقه من ذات الكأس التي تتجرعها الآن. يجب عليه أن يغير نظرته إلى بقية الفصائل الحية بكل أصنافها, فإن البشر والحيوانات يشكلون في النهاية أسرة واحدة, لقد كشف العلامة أبو الطفرات مجدد علوم الأحياء عن شجرة نسبها وعن سلفها المشترك. لكن التغيير لن يحصل بالكلام المعسول, لا بد من أفعال تتبع الأقوال, فماذا عساه يفعل حتى يستأصل من نفسه هذه الرواسب الرجعية التي تفصله عن العجماوات؟ تخيل كيف يضع الناس الطيور في أقفاص, وكيف يستعبدون الحمير في البيادر, وكيف يستخدمون الكلاب في الحراسة والصيد, تتجرع الحيوانات كل ذلك الذل لقاء حفنات من الطعام الرديء وجرعات من الماء الملوث, ثم يتكلم البشر في مجتمعاتهم عن حقوق العمال وعن النقابات وعن الحريات وعن المساواة, يا له من منافق هذا الحيوان المنتصب على قدمين, هل سيتمادى في عنهجيته حتى تتحقق الثورة الحيوانية التي تنبأ بها جورج أورويل؟ هل سينتظر حتى يصرخ به الزملاء: "الدواب والهوام تريد تغيير النظام"؟ لكن أبا الإلحاد سيبدأ رحلة الألف ميل بنفسه, وسيشرع في إذابة الجليد بين المجتمع البشري والمجتمع الحيواني بطريقة مبتكرة, سيحيا في رفقة حيوان يعترف له بحيوانيته كاملة, سيأتي بحيوان يحيا بجنبه على قدم المساواة, يطعمه مما يطعم, ويكسوه مما يلبس, ويعلمه مما يعلم, المشكلة الوحيدة أن أم الإلحاد لا تريد كلابا ولا قططا ولا فئرانا, فماذا يفعل؟ إنها لا تريد ذوات الأربع, فماذا يصنع؟ عندها أشرقت أمام عينيه صورة جعلته يلبس ثيابه بسرعة وهو يقول: "نوال, سأعود بعد قليل, نصف ساعة على الأكثر." نظرت إليه مندهشة وقالت: سأخرج بعد قليل, هل تحتاج شيئا من السوق؟" توقف برهة وقال: "لعب أطفال" ثم ركض خارجا...

حين عاد كان يحمل قريدا في عمر الزهور في يد, وبعض المقتنيات في اليد الأخرى, وضعه فوق الأريكة في رفق شديد, لقد نام في الطريق, تأمله طويلا في حنان, ثم أخرج من كيسه حليب أطفال ورضاعة واتجه إلى المطبخ, عاد يحمل أول وجبة للوافد الجديد, ثم أخذ بقية محتويات الكيس إلى الحمام, عاد وشرع ينظر إلى الصغير الوديع, كان يرقد في سلام, خاطبه في سره قائلا: "فلتهنأ بالنوم الآن, فأمامك عمر طويل وأعمال جليلة." حينها تقلب القريد وفتح عينيه, والتقت عيناهما, كان الصغير يحملق في صاحبه في فضول, وكان صاحبنا يكاد يغوص في تينك العينين العسليتين اللتين لم ير لجمالهما وصفائهما مثيلا عند بني جنسه, نظر إلى الأهداب الفاتنة التي تغار من طولها الحسناء, أخذه إلى الحمام, فغسله بصابون معطر, وجففه ثم مشط فروه فصار كأبهى ما أنت راء من الصبيان, حقا إن القرود زينة الحياة الإلحادية, أخذ ثيابا اشتراها للقريد فألسبه إياها, ثم نظر إليه, وقال: "هائتنذا يا قريدي العزيز تخطو أولى خطواتك في مسيرة التطور, خطوة صغيرة لك يا صغيري, خطوة جبارة للجنس القردي المظلوم" وقف يتخير الأسماء, وتساءل: "هل أسميك "دونكي" باسم قدوتي قسيس الإلحاد, أم أسميك"تروتسكي" لعلك تقتبس منه حسه الثوري, أم أسميك "دارون" تيمنا بقابليتك للتطور السريع؟ نعم, هذه فكرة جيدة, لكنك صغير جدا, فليكن اسمك منذ اليوم "دُرَيوين" هكذا, التصغير أحسن وأجمل, حمله بين يديه ورسم قبلة على جبينه وهو يقول "مرحبا بك في بيتك الجديد, عزيزي "دُريوين", عندها أحس بزغب على شفتيه, أزاله بكفه, وهو يقول: "أمر جميل لقد بدأ هذا الشعر الكثيف يتساقط منذ الآن, سرعان ما سيظهر جلدك الجميل يا ذا العينين العسليتين." ثم حمله إلى غرفة الجلوس.

رأى دمعا يترقرق في عيني دُرَيوِين, وسمع له بكاء فعلم أن به الجوع, فحرك الرضاعة وسكب على كفه قطرة يتحقق من حرارتها, ثم أخذ مكانه على الأريكة واحتضن القريد وشرع يرضعه في حنان أبوي دارويني منقطع النظير, نظر إلى الشفاه الجميلة تمتص الحليب في نهم, شعر بالسعادة تغمره, وأحس بنفسه يغوص في بحر من الأحلام, رأى نفسه يأخذ القريد إلى مصلحة تسجيل المواليد لإتمام إجراءات التبني, لم يكن الأمر سهلا, لكن ما فاز إلا الجسور, إنه محظوظ لأن حزب التنوير نجح في اكتساح الانتخابات البلدية, أما الخصوم فإنه يحرمون التبني جملة, خرج يحمل الوثيقة التاريخية: "شهادة تبني مختلط رقم 1: الفصيلة: القرديات, السن: ستة أشهر, لون الفرو: أسمر فاتح, لون العينين: عسليتان, الاسم: دُرَيوين, الأب المتبني: أبو الإلحاد, الأم: توفيت في انهيار أرضي. السبب: الاحتباس الحراري, الموطن الأصلي: جزيرة بورنيو. آخر عنوان: دار أيتام رياض السعدان.

تخيل صاحبنا المتنور كيف انحنى شهرا كاملا أمام عاصفة التهكم والتندر الهوجاء التي أعقبت خطوته التقدمية, لكنه كان مستعدا بما يكفي, من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل, كانوا يتهكمون ويتغامزون, وهو لا يزيد على أن يقول: "انتظروا قليلا, فالضحك جولات, لنر لم تكون الجولة الحاسمة." لقد قلب الأمر من كل وجوهه, الداروينية نظرية علمية شامخة يتطاول عليها الجهلة, وهو يدرك السبب تمام الإدراك, إنها لم تبرح عالم البحوث الأكاديمية ولم تغادر مجال التنظيرات المجردة, وهو يريد أن ينزل بالفكرة إلى الميدان, ميدان التطبيق العملي الواقعي.

لقد رأى في التلفار قردا يعزف الكمان, وآخر يلبس سترة بيضاء ويحمل سماعة, خمن أنه طبيب أو ممرض على أقل تقدير, ورأى برنامجا قديما عن أول قرد يغزو الفضاء, بل إنه رأى شريطا سينمائيا عن كوكب كامل يديره القرود, تذكر أن كل شيء كان يمشي على ما يرام لولا تطفل بعض السياح من بني جنسه, فها قد ثبت عنده بالدليل المادي أن للقرود سابقة فضل في كل ميدان, فمنهم المغمور والمشهور, والوسيم والذميم, والأكاديمي والفنان, إنهم مثلنا تماما.
ومن آخر ما زكى إيمانه بفكرته التقدمية القضية التي رفعها بعض أنصار الحيوان في النمسا للاعتراف بالزميل الشيمبانزي ماتياس بان كإنسان, للأسف لم يكن القضاء في مستوى المسئولية التاريخية, لكن أبا الإلحاد أهل لها وأحق بها.

تخيل كيف يلاعب وليده, و كيف نظر إليه يحبو ثم يخطو خطواته الأولى, ثم قضى معه الساعات الطوال يدربه على النطق, وبعد مجهود خارق ومثابرة حثيثة سمع منه الكلمة السحرية, لقد قال له القريد: "بابا" دمعت عيناه وتراقص قلبه في صدره, ثم أدخله الحضانة, فكان يلعب مع صبيان المتنورين, فهم أكثر تسامحا من غيرهم, صار دُريوين يدهش الجميع بقوته ورشاقته, لقد تطور بشكل عجيب, لم يبق فيه من شيء يذكر بأصله إلا ذيله, ولما كبر صار يقرأ عليه فصولا من "أصل الأنواع" حتى يزيل عنه العقد النفسية, ويقرأ عليه "صانع الساعات الأعمى" حتى ينمي خياله ويمحو من عقله شيئا اسمه المستحيل. وحين كبر ألحقه بإحدى مدارس البعثة الفرنسية, ثم حصل على منحة من الجامعة الأمريكية. تخيل أبو الإلحاد كيف صار ابنه الموهوب بطلا أولمبيا في القفز الطولي والعلوي, كما أنه أحرز بطولة العالم للشطرنج ثلاث مرات متتالية, لكن المفخرة العظمى هي حصوله على جائزة نوفل لأحسن ابتكار علمي, لقد حقق ذلك كله قبل سن الثلاثين. ثم جاء سن الزواج, تخيل أبو الإلحاد كيف يخطب دُريوين بنت الدكتور أبو قشة الملقب بداروين الثاني, مؤلف كتاب "كشف الأسرار ونسف الأسوار" الذي يشرح فيه نظرية التطور بالتفصيل الممل, حينها تكاد رواسب الرجعية تجهض حلم الدكتور الشاب الطموح, لكن الزواج يتم بعد أخذ ورد, ومد وجزر وأمور يطول شرحها, وقبيل اليوم المشهود يقرر أبو الإلحاد أن يرافق ابنه لقضاء إجازة الصيف على جزيرة جالاباجوس, وهناك يسبح دُرَيوين ذات يوم, ثم يهيج البحر فجأة ويختفي عن الأنظار, فيهب أبوه لينقذه, و يغوص تحت الماء يبحث عنه, لكن رائحة الماء غريبة, لا بد أن لذلك علاقة بالتطور خصوصا أنه على جزيرة التطور, ثم إن الماء دافئ بشكل مريب كأنه يسبح في فنجان شاي, حينها عاد أبو الإلحاد إلى رشده, وأفاق من أحلامه, و نظر إلى ثيابه مبللة, فالتفت إلى صغيره قائلا: "فعلتها يا عفريت!" وحمله قاصدا الحمام , وفي هذه اللحظة فتحت أم الإلحاد الباب, فحملقت في وجهه فاغرة فاها كأنها رأت مخلوقا فضائيا, وحاولت أن تقول شيئا, لكنها لم تزد على غمغمة غير مفهومة وهي تشير إلى القريد كأنها تقول: "أي شيء هذا؟" فأجابها: "عزيزتي أمهليني لأشرح لك كل شيء, هذا قرة العين, هذا رأسمال المستقبل, مستقبلنا ومستقبل الإنسانية, هذا "دُرَيوين" أليس ظريفا؟" قال هذه الكلمات ودنا منها ليريها الصغير لعل قلبها يحنو عليه, فنكصت وهي تصرخ وتقول: "أبعد عني هذا المسخ" فأجابها: "أعذرك عزيزتي, الأمر يحتاج إلى بعض الوقت, ستتطور مشاعرك بقدر تطور "دُرَيوين" صرخت في وجهه: "إن لم تخرج هذا الوحش من بيتي فإني سأخرج ولن تراني بعدها أبدا" نظر أبو الإلحاد إلى زوجه ثم نظر إلى ابنه, ومكث لحظات يقلب نظره بينهما وقلبه يتفطر كمدا, يا له من خيار صعب, وحين رأى زوجته تتجه صوب الباب, قال : "عزيزتي, حسنا, أمهليني دقائق" جمع أغراض الصغير في كيس ونظر إليه نظرة أخيرة كهيئة المودع, وشعر بأنه يوشك أن يستيقظ من حلم جميل, ثم حمله وخرج وهو يكاد يجهش بالبكاء...

momo82
04-12-2011, 09:53 PM
سلمت يديك .....ضحكت كثيرا ....... سبحان الله تعالى وتنزه عما يشركون

راجي رحمة الله
04-13-2011, 06:41 AM
لا أملك إلا أن أقول جزاك الله خيرا

هشام بن الزبير
04-15-2011, 09:25 PM
أخي مومو وأخي راجي رحمة الله, بارك الله فيكما.
وأهديكما يومية جديدة من يوميات أبي الإلحاد عنوانها:

الإلحاد وإيقاف الزمن

هشام بن الزبير
04-15-2011, 09:26 PM
الإلحاد وإيقاف الزمن

عاد أبو الإلحاد مساء وصدره يكاد ينفجر من الغم, شرب حبوبا مهدئة واستلقى في فراشه كأنه جذع أجوف, نظر إلى السقف فخيل إليه أنه يكاد يسقط عليه, وأحس بسيل من الهواجس يهجم عليه, فقام إلى الحمام وشرع يمسح وجهه بالماء لعله يطفئ الحرارة التي تنبعث من رأسه, نظر إلى وجهه في المرآة يتأمل تعاسته ويتملى في ذمامته, خيل إليه أنه قبطان تائه كسرت العواصف العاتية دفة مركبه, فغدا ذرة تتقاذفها أمواج المحيط, نظر إلى وجهه طويلا كأنه يتساءل: "من هذا المخلوق الغريب؟" نظر إلى عينيه فبدا كأنهما تنظران إلى داخله, وقد أحاطت بهما دوائر دقيقة بدأت تشق طريقها على تضاريس وجهه الكالح, يبدو أن الطبيعة ستحيل هذا الإهاب السهل المنبسط صحراء جرداء تشقها الأخاديد والوديان, تأمل التجاعيد على جبينه فخمن أنها خطوط لغة لم يتعلم قراءة حروفها بعد, إنها لغة الزمن, إنه اللغز الأكبر, إنه هناك في مكان ما, يستخف بغرورك, تنهد بعمق وهم أن يستدير حين رأى شيئا يشرق في سواد حاجبه الأيسر, اقترب حتى كاد أنفه يلامس المرآة, فتكدرت صفحتها ببخار نفسه, ثم رآها هناك وحيدة فريدة تنطق دونما لسان, إنها شعرة بيضاء متمردة تتوسط حاجبه في تحد, قطب جبينه في قلق واستغراب, وقال يحدث نفسه: "لقد ابيض مني آخر ما يبيض من بني البشر! هل بلغت الثمانين حتى يبيض حاجباي؟ لا بد أني أسرفت في التفكير وبالغت في إرخاء العنان للهموم والأحزان, يجب أن أجد حلا عاجلا لهذه الورطة." بدأ يتتبع الشعرة المرعبة ليلتقطها بإبهامه وسبابته, وكلما ظن أنه أمسك بها انسلت من بين أظفاره كأنها تشعر بما يراد بها, خيل إليه أنها تضحك منه, لكن الداروينية علمته ألا يستسلم بسهولة, ظلت عيناه متسمرتين على صورته الكئيبة وسحنته الكالحة, ولمح قطرة عرق تنزلق من جبينه, ثم ظفر بالشعرة أخيرا فجبذها جبذة ظن أن عينه ستنخلع لها, أحس بألم شديد سرعان ما نسيه حين رأى الشعرة المتطفلة بين أنامله. إنها رسول الزمن إليه, إنه عدوه اللدود, إنه يهزأ من إلحاده, إنه خصم عنيد لا يبعأ بسفسطته ولا يلقي بالا إلى جداله, إنه عدو رهيب صامت, يدفعه دفعا إلى حافة العالم, يدفعه إلى عدو آخر أشد منه وأنكى, يدفعه إلى الموت, إنه الزمن فهل يستطيع أحد إيقافه؟ أحس أبو الإلحاد بحقارته, لقد كان في العشرين حين انسلخ من الدين, كان يصرخ في المنتديات: "إلي أيها المتدينون, أنا أبو الإلحاد, أنا قاهر الخرافة, أتحدى كبيركم وأفحم عالمكم" كان طبلا كبيرا فارغا, وكان لفظا فضفاضا بلا معنى, وهاهو يشارف الأربعين وكل ما يعلمه أنه لا يعلم شيئا, وهاهو الزمن "المعلم الأكبر" يلقنه أقسى درس في حياته, وينذره بدنو انقضاء أيامه, إن الشعرة البيضاء سفيره الوقور, لقد استوعب أبو الإلحاد الدرس جيدا, لكنه يرفض أن يستسلم بسهولة لهذا الخصم الخفي. وأي شيء يكون الزمن؟ أهو شيء له حقيقة أم أنه وهم كبير؟ كيف له أن يفسر الزمن وهو لا يؤمن بشيء خلا المادة؟ لكن الزمن خصم لا يسعه إنكاره, إنه ينحت في عقله وفي كل بقعة من جسمه معاني الفناء, لكنه لا يكاد يجد الكلمات المناسبة لوصفه. إنه ظاهر إلى درجة الخفاء.

عاد أبو الإلحاد إلى فراشه وقد استولت عليه الهموم وصار يتنهد وينفث أنفاسا حارة كأنه محموم. ومن مكان ما من أعماق نفسه المتحيرة نبت سؤال جعله يجلس على حافة سريره متفكرا متأملا. تساءل: "هل من سبيل إلى إيقاف الزمن؟ لا بد أن هذا هو مفتاح اللغز" وصار هذا الخاطر يكبر في نفسه شيئا فشيئا وقال كأنه يخاطب نفسه: "شيء ينقص منك في كل لحظة, ويفنيك في كل نفس, وينقلك مرحلة مرحلة, حتى يفضي بك إلى آخر الرحلة, إنك تركبه, وهو يمضي يشق طريقه, وأنت تقاومه بلا جدوى, إنه أشبه شيء بقطار يقطع الأرض من أدناها إلى اقصاها, ويحمل الناس من بلد إلى بلد ومن سهل إلى جبل, وليس بينهم وبين التخلص من هذا التنقل الدائم إلا النزول من هذا المركب السيار, لذا تراهم يسارعون بالهبوط كلما وصل إلى محطة, يحاذرون أن توصد دونهم الأبواب فتبدأ قافلة الحديد تقطع الأرض من جديد. نعم إن الزمن مركب لا نعلم له لونا ولا طعما ولا رائحة, ولا نعلم له شكلا ولا صورة, لكنه مركب لا شك. فكل ما ينبغي لمحب البقاء وعاشق الحياة فعله أن يفارق متن هذا المركب الذي يفضي بك آخر الرحلة إلى الموت." توقف صاحبنا قليلا, وهو يقلب أفكاره ويشعر أنه أمسك بالخيط السحري الذي تقف الحياة الأبدية على جانبه الآخر وهمهم: "ترى هل عرض فلاسفة التنوير لمثل هذه المسألة العميقة؟ لا بد أنهم فعلوا, فهذا أمر بديهي, إذا لم تستطع إيقاف الزمن فلا اقل من أن تفارقه, لكن كيف؟" أخفى وجهه بين كفيه وخطر له أن مفارقة الزمن تعني الموت, فاكفهر وجهه, وأحس أنه يدور في حلقة مفرغة, وأنه ذرة حقيرة بين فكي رحى تطحنه, يديرها الزمن, ويخرج منها ميتا, لكن كيف له أن يخرج من هذه الرحى القاتلة قبل فوات الأوان؟ إنه يؤمن بالعلم ولا شيء غير العلم, لقد قطع العلم بالجنس البشري أشواطا هائلة, فهل يعجز عن إتمام فتوحاته بالانتصار الحاسم على هذه الدوامة التي تمحق الحياة محقا وتنتزع الناس من نعيم الحياة انتزاعا؟ كلا, إننا في عصر الذرة وغزو الفضاء, في عصر الاستنساخ والخلايا الجذعية, إننا في عصر التكنولوجيا, ولا بد أن يكون هناك حل لهذه المعضلة العويصة, إذا كانت الملخوقات أحادية الخلية قد تطورت عبر الزمن في صبر ومثابرة حتى وهبتنا هذه الأنواع المذهلة وهذه الكائنات المدهشة التي تملأ الكوكب الأزرق, أفنعجز نحن عن حل لغز الزمن؟ تخيل أبو الإلحاد أن العلم سيكتشف يوما ما حقيقة بعد الزمن, فلا بد أن هذا الزمن يوجد بصورة ما في عالمنا, لا بد أنه يحيط بنا كما تحيط الشرنقة بالفراشة, وأول خطوة لنهزمه أن نكشف عن موطنه فنراه ونلمسه, يجب أن نضع أيدينا على جدار الزمن الذي يحيط بالجنس البشري, فإذا فعلنا فحينذاك يمكن أن نصنع آلة الزمن.

وعلى وقع هذه الأفكار الفلسفية المضنية بدأ النوم يدب في أوصال صاحبنا فاستسلم لنوم عميق سرعان ما حمله إلى مملكة الأحلام. رأى أبو الإلحاد نفسه وقد ركب الآلة العجيبة, وأحاطت به قوقعة زجاجية فبدا كأنه من الصدفيات, ورأى أمامه لوحة إلكترونية عليها أرقام كثيرة, لكن الذي استوقفه هو "لوحة التاريخ", وأمامها "زر التثبيت", خمن أن هذا هو أهم شيء في الآلة السحرية, يجب أن يختار تاريخا معينا ليحيا فيه, فإذا قام بتثبيته انتقل إلى الفترة المبرمجة, فيستقر فيها ويتوقف الزمن. هذه فرصته ليتغلب على الخصم العنيد, هذه فرصته ليقهر الزمن, هذه فرصته ليخدع الموت, شرع يحدث نفسه: "هيا يا أبا الإلحاد لا مجال للتردد, فأنت لا تدري ما الذي يعرض لك, ربما تتعطل الآلة, وربما يكون بالخارج طابور طويل مثل طابور المواصلات العامة, فلا بد لي أن أحسم أمر وأن أسرع" وبالفعل خيل له أنه يسمع جلبة وقرعا على باب الآلة, وأن أحدهم يقول له متوعدا: "بقيت لك دقيقة واحدة إما أن ترحل أو ننزلك بالقوة." عندها تذكر أبو الإلحاد أنه كان سعيدا في طفولته, أو هكذا خيل إليه, فاختار يوما من أيام إحدى سنوات الثمانينات, شرع يعد بأصابعه ليتأكد كم كان سنه حينها, لكنه سمع القرع مرة أخرى, حينها أحس بالارتباك الشديد, فشرع ينقر الأزرار, فنقر يوم الاربعاء الثامن من سنة 1982 ونظر إلى زر إضافي رسمت عليه الساعات والدقائق, وقد كتب بجنبه بالخط العريض (اختياري), لكنه لم ينتبه فنقر الأزرار فارتسمت أمام التاريخ الذي اختاره الساعة الثامنة والنصف صباحا. ثم سمع النقر وخيل إليه أن أحدهم يسعى لفتح باب المركبة فضغط "زر السفر عبر الزمن" فلم يشعر بنفسه إلا وهو صبي جائع في العاشرة يلج باب المدرسة وهو يلهث, والخوف ينهش فؤاده, فقد تأخر عن الموعد مرة أخرى, ولم يتح له حتى أن يتناول كوبا من الشاي وقطعة من الخبز, لقد تأخر نصف ساعة كاملة, زملاؤه الآن في الفصل, إنه يجري ويتصبب عرقا, ويتمنى أن يكون الناظر المرعب قد نام هو الآخر هذا الصباح, ولم تكد هذه المنية تداعب خياله الصغير حتى أحس بصفعة مدوية على خده, وشعر كأن نارا قد أضرمت على جلده, ثم أمسك الناظر بأذنه يجره ويقول: "أيها البليد تأخرت مرة أخرى, متى تتعلم احترام مواعيد المدرسة؟" وقبل أن ينبس ببنت شفة, رأى نفسه مرة أخرى بباب المدرسة يلهث ويأمل أن يمر دون أن يشعر به أحد, ثم جاءت الصفعة, وأحس بيد قوية تجذب أذنه, ثم سمع الكلمات ذاتها, فعلم أبو الإلحاد أنه صار سجين لحظة من الزمن الغابر, بعدما كان سجين زمن رحب يولد في كل لحظة, فكان كلما وصل إلى باب المدرسة يكاد يمد وجهه يترقب الصفعة و يمد أذنه لعل ذلك يكون أخف لألمه, وما زالت اللحظة القاسية تتكرر حتى صار يتمنى الموت كي ينجو من هذا الفخ القاتل, والمصيبة أنه لم يستطع أن يقول شيئا, لم يستطع أن يقول للناظر: "سيدي الناظر, لقد مضى عليك دهر وأنت تصفعني, فتوقف" لم يقدر على شيء من ذلك لأن آلة الزمن ألقته في حفرة زمنية اسمها الدقيقة الثلاثون بعد الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم البعيد, أراد الطفل الذي كانه أبو الإلحاد أن يفعل شيئا فلم يستطع, فإن آلة الزمن لا تهبك إلى تذكرة ذهاب واحدة بلا إياب, تقلب أبو الإلحاد في فراشه وهو يتأوه, ولم يزل يتقلب والناظر يصفعه في حلمه, حتى سقط من فراشه على وجهه وحين استيقظ فرح فرحا شديدا, لقد سره أنه خرج من تلك الدقيقة الرهيبة, وأنه عاد إلى ضيافة الزمن الواسع الذي كان يسعى جهده أن يفر من قبضته, لكنه الآن تمنى لو يلقى هذا الزمن الرحيم ليشكره على إبداعه وتنوع ألوانه وأشكاله, لكنه ما زال لا يعرف له أرضا ولا عنوانا, لكن لأمر ما أحس بوجهه يؤلمه, فقام إلى الحمام, فشرع يغسل وجهه بالماء البارد, ثم نظر إلى خده الأيمن فوجده محمرا, فلم يدر هل أصابه ذلك عند ارتطامه بالأرض, أم أن ذلك الناظر الغليظ كان يصفعه بالفعل طوال ليلته؟...

هشام بن الزبير
04-23-2011, 01:39 AM
16 ملحدستان

مشى أبو الإلحاد على الأرض الحمراء المغبرة بحذر, كان يخطو ويتساءل: "ألا يفترض انعدام الجاذبية في هذا المكان النائي؟" ومع هذا الخاطر بدأ يثب على تلك الهيئة المضحكة التي رآها يوما في التلفاز, إنها مشية رواد الفضاء, كان يحمل في يده راية يريد أن يغرزها على تل بدا مدببا كأنه قبعة صينية ضخمة, لم يتمعن في الراية جيدا, لكنه لم ير لها مثيلا من قبل, كانت سوداء تتوسطها صورة جعلته يشعر بالجوع, كان كل شيء مختلفا وكان كل شيء جميلا, لكن صوتا مألوفا بدأ يطرق سمعه, هل هي المخلوقات الفضائية؟ إنهم موجودون إذن, لقد صدق البروفيسور "دونكي", لكنه سرعان ما تبين كلمات عربية, "عجبا, أيعقل أن ساكنة الكوكب الأحمر تتكلم العربية؟" هل هاجرت إحدى القبائل القحطانية بسرعة الضوء لتستوطن الكوكب الجميل؟" وعلى وقع هذا التمازج بين الحقيقة والخيال استيقظ أبو الإلحاد على صوت انتشله من حلمه الأحمر, إنه صوت الأذان يخترق سكون الليل من مآذن المساجد, تقلب في فراشه وغطى رأسه كيلا يسمعه, تسللت إلى أذنيه هذه الكلمات: "الصلاة خير من النوم", لكنه لا يصدق أن شيئا في العالم يعدل دفء لحافه الساعة, عجب لمن يقومون الآن ليخرجوا سراعا يلفهم الظلام ليلبوا هذا النداء المبكر, أحس بالحنق إذ حيل بينه وبين إتمام مغامرته الخيالية على كوكب المريخ, أنى له أن يعرف الآن إن كان صحراء جرداء, أم مركز حضارة فضائية مزدهرة؟ عاد السكون أخيرا ليخيم على الحي لكن يبدو أن النوم ولى إلى غير رجعة, فجلس صاحبنا في فراشه متضجرا. إنها ضريبة المتنورين ما أقاموا بين أظهر المتدينين. لا حل لأضرابه من ملاحدة العرب إلا الهجرة إلى بلاد تدين بالإلحاد الخالص الذي لا تشوبه شائبة دين أو ملة, استعرض بسرعة عددا من دول العالم المتحضر لعله يجد بينها حامية حمى المذهب الإلحادي وحاملة لواء التنوير فلم يجد. يا لها من خسارة فادحة للجنس البشري. منذ سقطت راية المطرقة والمنجل المغموسة بالدماء والناس لا ينعمون إلا بدول هجينة أقصى ما تستطيعه أن ترفع شعار المدنية دون أن تتبرأ من الأفكار الدينية جملة. لكنه سئم من أنصاف الحلول, إنه يحلم بمدينة الإلحاد الفاضلة, إنه يتطلع إلى جنة الإلحاد, إنه يحلم بفردوسه المنشود. رفع بصره ونظر بعيدا كأنه يستحث أفكاره ويستحضر شيطانه, ثم شرد في خواطره وتخيل المدينة التي سيحكمها الزملاء الملاحدة يوما ما. فهل ستكون على بقعة من أرض الشمال البارد, أم أنها ستكون في مكان ما في العالم الجديد؟ بعد طول تفكر رجح أنها ستكون جزيرة ليتحقق لها أكبر قدر من الأمن. جزيرة معتدلة المناخ طيبة الهواء واسعة الأرجاء يفسح فيها المجال لجميع الكائنات لتتطور على قدم المساواة, إنها مدينة تعتنق الإلحاد و تدين بالداروينية ولا ترضى دونها بدين أي دين, لكنه لم يستبعد أن تحتضن الزملاء من عبدة الشيطان بين مواطنيها فإنهم لا يؤمنون لا بشيطان ولا بعبادة, كل ما هنالك أنهم ابتدعوا لهم رمزا يترجم رغبتهم في الحياة ويعكس سخريتهم من أهل الملل. تساءل: "وماذا عن عباد البقر؟ لا ضير من ضمهم أيضا, فمعتقدهم يدفع نحو إذابة الفوارق المصطنعة بين القرود المتطورة وبين بقية الكائنات الداروينية. أقر في صمت أن عبادة ذوات ذوات الضروع الحافلة والأظلاف الجميلة والقرون الملساء والأسنان المجترة لا يناقض الإلحاد في شيء. لكن الذين لن يكون لهم موطئ قدم في مدينة المستقبل أبدا هم أولئك المؤمنون الذين يزعمون أن للكون إلها حقيقيا خلقه وصوره وقدره, يدبر أمره ويقوم على جميع أمره. أولئك الذين يقومون للصلاة في مثل هذه الساعة."

بدأ حلم مدينته الفاضلة يداعب مخيلته: "إنها ستكون منارة للتنوير وقاطرة للتحرير, إنها مدينة تقوم على الإلحاد في كل شأنها. فعمارتها تتبع أخر صيحة في عالم الهندسة العبثية المشاكسة, شوارع تنتهي بمتاهات متشعبة, وسلالم حلزونية تفضي إلى جدران مغلقة, ونوافذ على الأرض وأبواب على السقف, طبعا سيكون الطابع العبثي فقط في قشرتها السطحية, أما الأساسات والقواعد فإنه ستوضع بالطريقة التقليدية ريثما تتطور الهندسة الإلحادية."

أغمض عينيه حتى خيل إليه أنه دخل المدينة وسار في طرقها ودخل مبانيها ورأى أهلها, فارتسمت في ذهنه صور هذه بعض ملامحها: "سيرفرف علم "ملحدستان" في كل مكان منها, إنه علم أسود تتوسطه صورة الإله الإلحادي الكاريكاتيري "وحش السباجيتي الطائر" لقد تذكر الآن أنه رأى هذه الراية في حلمه المريخي. إنه يتوسط العلم الأسود وتقطر منه قطرات من الصلصة الحمراء, ترمز إلى معاناة أهل الملة الإلحادية عبر الدهور. عند مدخل المدينة تستقبلك لوحة كبيرة كتب عليها بعدد من لغات العالم: "ارفع رأسك أيها الزميل, فأنت في ملحدستان المدينة الفاضلة." وأمامها تمثال برونزي لمخلوق خرافي له جسم تنين ذي رؤوس ثلاث, وحين تقترب منه تبدو لك الملامح القاسية لكل من الزملاء: لينين وستالين وبول بوت, فهؤلاء وإن فشلوا في إقامة ملحدستان الفاضلة بأنفسهم, فإنهم قد مهدوا لها بجهودهم الجبارة وحاولوا تشييدها على الجماجم والأشلاء. وليس يضيرهم في شيء أن جهودهم لم تكلل بالنجاح, فإن فشل التطبيق لا يعني أبدا فشل التنظير كما هو معلوم من مذهب الإلحاد بالضرورة.

وإن قدر لك أن تهبط في المطار فستجد فيه مدرجا غريبا إهليجي الشكل, فلا تستغرب فإنه مخصص لهبوط الصحون الفضائية, وبجانبه قاعة مجهزة بكل ما يلزم لاستقبال الضيوف الخضر سكان المريخ, ففيها حمامات بخارية, وقاعات تدليك, وخبراء نفسيون وأطباء. باختصار إنها شامة في جبين وزارة السياحة في ملحدستان ومفخرة من مفاخر كرم الضيافة الإلحادية. وترسيخا للعلاقات الكونية ستقوم وكالة ملحدستان لغزو الفضاء بالتواصل الدؤوب مع الحضارات التي تستوطن المجرات المجاورة, وستركز على كوكب المريخ, لأن الوصول إليه هدف استراتيجي للزملاء. وربما سمي المدرج باسم القسيس "دونكي" صاحب نظرية الأصول الفضائية لهندسة المورثات البشرية.

المدينة الفاضلة لن يحكمها الفلاسفة كما توهم أفلاطون وإن كانت ستنتهج الديمقراطية نظاما لصهر خلافات الزملاء في بوتقة واحدة. ولست أستبعد أن تفضي تجربتها السياسية إلى إفراز فريقين عظيمين يمسكان بخيوط لعبة السياسة الإلحادية: اليمين الليبرالي الدوغمائي المحافظ, واليسار السوفسطائي البراغماتي المتفتح. ومن أهم المهمات التي ستسند إلى النخبة السياسية في مدينة المستقبل صياغة الميثاق الإلحادي الذي هو دستور ملحدستان.

ومن المؤسسات المؤثرة في ملحدستان المجلس الأعلى لتشريع وتنقيح الأخلاق السنوية, ففي المدينة الفاضلة تتطور الأخلاق باستمرار, ولا تفرض على المتنورين أخلاق بالية وقيم تقليدية بائدة, بل يقوم المجلس بصياغة أخلاق إلحادية توافقية بشكل ديمقراطي. فشعار ملحدستان سيكون: "ارفعوا رؤوسكم يا ملاحدة العالم, فأنتم تصنعون أخلاقكم بأنفسكم." وحين تستقر الخطة السنوية للسلوك المتنور سيبقى المجال رحبا أمام المواطنين للانغماس في حريتهم المقدسة التي طالما قيدتها الأديان المتحجرة والأعراف المنافقة. لن يكون هناك محرمات تذكر في ملحدستان, بل سيكون شعارها: "لا عبرة بقوانين غير مادية" فما دمت لا تسبب لغيرك أذى ماديا فأنت ملحد صالح. فليس في المدينة الفاضلة شيء يجرم السخرية أو الشتم مثلا, إلا إذا رافقه ضرر مادي كالصراخ مثلا, فالشتم الهادئ المتحضر تعبير عن تفاعلات كيميائية وتجليات "أدرينالينية" قاهرة, فكيف يحاسب عليها الإنسان؟ و ستضطلع بتنظيم هذا الصنف من الشتم المؤدب مؤسسات كاملة, لتنفيس كوامن النفوس الغضبية للزملاء المتنورين. مثل أجهزة الصحافة والإعلام بجيمع أصنافها.

وبناء على هذه الأسس المبتكرة فلن يكون في المدينة الإلحادية شيء اسمه قضاء أو محاكم, بل ستسعى السلطات المختصة لتشييد مصحات نفسية وإقامة مختبرات متنقلة لإعادة التوازن للزملاء الذين يؤدي اضطراب تفاعلاتهم الكيميائية إلى سلوكات غير متوقعة. سيتم علاج المنحرفين بالعقاقير الكيميائية بدلا من العقوبات التي اخترعها أصحاب الشرائع الدينية والقوانين الوضعية.

التخطيط السكاني سيتخذ مسارا فريدا ومبتكرا حيث ستبدأ ملحدستان بتشجيع الاستنساخ حتى نخلص الزميلات تدريجيا من أعباء الحمل والولادة. وهذا سيخلص المدينة الفاضلة من معضلة اسمها "المعاقون" فلن يرى أحد النور على الأرض الموعودة إلا إذا كان يلبي الشروط الداروينية ويستجيب للمعايير المتعارف عليها للإنسان الكامل السوي داروينيا. ومن أجل ذلك ستسخر ملحدستان كل طاقاتها العلمية لدفع عجلة التطور الدارويني, فالتطور الذي لم يتوقف قط, يمكن تسريع وتيرته وتكثيف آلياته. ومن أهم المشاريع التي ستخصص لها الميزانيات الضخمة: "مشروع تحفيز الطفرات الجينية", وهو مشروع سيقوم بتحفيز الحمض النووي لأقاربنا الداروينيين بطريقة تكفل لهم حرق المراحل التطورية والقيام بقفزات داروينية صعودا في سلم التطور. وسيحصل الزملاء النوابغ كل سنة على فرصة التباري للحصول على الجائزة العلمية المرموقة "مشط آردي الذهبي". وهي جائزة تقديرية مرموقة يحصل عليها صاحب أفضل بحث علمي حول نظرية التطور, وستعطى الأولوية لمن يعثر على الحلقات المفقودة التي حيرت الزملاء بدءا بالقسيس "دونكي".

ستحتفل المدينة الإلحادية بعيدين عظيمين. أولهما عيد الصدف التراكمية, وهذا العيد لا يحدد له يوم ولا شهر ولا ساعة, بل يتم إجراء اقتراع سنوي ليختار المواطنون يوم الاحتفال به بالصدفة. وثانيهما عيد الانفجار الكبير, وهذا هو يوم الفرحة الإلحادية العظمى, ويوم تخليد معجزة المادة الأبهر, ودليل نبوغها الأظهر, إذ وهبتنا بانفجار عظيم كل ما نراه من نجوم وجبال وبحار وأنهار. وفي كلا العيدين ستعم الفرحة أرجاء ملحدستان السعيدة, وستوقد الألعاب النارية, وسيتبادل الزملاء أحر التهاني والتحيات حسب أرقى أعراف الأخوة الداروينية. ولن يكون في المدينة الإلحادية الفاضلة مكان للحزن خلا يوما واحدا في السنة, يقف فيه الزملاء صغارا وكبارا شيبا وشبابا صفا واحدا, ويغمضون عيونهم دقيقة كاملة صامتين خاشعين, إحياء لذكرى انقراض الديناصورات إثر كارثة طبيعية مدمرة يرجح العلماء منهم أنها نيزكية.

لن يستسلم الزملاء في ملحدستان للحزن أبدا, ولن يركنوا لليأس قط, بل سيعلنون تحدي العدو الأكبر, إنهم سيشنون الحرب على الموت. لن تكون في مدينتهم الفاضلة مقابر البتة, بل ستقيم وزارة "التخطيط للحياة الأبدية" مسابح "نيتروجينية" تكفي المواطنين جميعهم. وستسمى هذه المسابح "قاعات انتظار" ينتظر فيها الزملاء في حاويات النيتروجين اليوم الموعود الذي سيحل فيه العلم لغز الحياة, فيحصلون على حق العودة, بدل دفنهم في التراب وتركهم عرضة للتلف و طعاما للديدان. وفي هذه المؤسسات الإنسانية الرحيمة, ستوضع تسجيلات وصور للمنتظرين, تخفيفا عن ذويهم الذين سيزورونهم باستمرار, خصوصا في عيد الصدفة التراكمية." تخيل أبو الإلحاد ذلك كله, ونظر في مؤهلاته العلمية متساءلا: "ماذا لو أقيمت ملحدستان الفاضلة غدا, فماذا أستطيع أن أقدم للزملاء يا ترى؟ ما هو الميدان الذي أميل إليه وأستطيع أن أبدع فيه؟" تثاءب حتى دمعت عيناه, وقال يحدث نفسه: "كم سيكون جميلا لو عينت سفيرا للمريخ في دولة ملحدستان." داعبت هذه الفكرة الثورية خياله, فابتسم وأغمض عينيه, وأحس بالنوم يسري في عروقه كدبيب النمل, وتمنى أن يستأنف حلمه حيث توقف ساعة ارتفاع الأذان, ولم تمض إلا لحظات حتى شرع في الشخير...

عياض
04-23-2011, 03:01 AM
منك لله على هذا الادمان و لا ادمان المسلسلات...كلما قرأت احداها الا و استغربت لم لا يثبت الموضوع في قسم الأدب على الأقل...

هشام بن الزبير
04-23-2011, 09:35 PM
أيها الحبيب عياض,
إن شاء الله لا خوف عليك من الإدمان حين تستقر أحوال أبي الإلحاد, فإني "وراه وراه", ومن يدري بم يختم له, لكني أخشى على نفسي الإدمان على الغوص في أغوار نفسه المتحيرة. ولست أخفيك أني نادرا ما ابتليت بتصفح منتديات إخوانه أهل "الجرب والجذام" لكن المرات القلائل كانت كافية لتشعرني أن القوم يمثلون نسخا مكررة لصاحب اليوميات. ودعني أبوح إليك بشيء: إن أحد أولئك "المجذومين" يتخذ من آية يمتن بها ربنا على عباده بتسخير الأنعام والدواب لهم, فيسخر قطع الله لسانه وشل أركانه, لكنه سيحظى من أبي الإلحاد بيومية كاملة إن شاء الله. ما أردت قوله أن هذه الفكرة التي بدأت تختمر في رأسي منذ أيام الغرفة الصوتية, سيكون لها بعون الله أثر على القوم. فهل تعلمون أن أحد الملاحدة البالتوكيين الذين دخلوا علينا يوما كان يسمى بالفعل Abu #####
إذن شهية طيبة ومتمنياتي برحلة ممتعة مع الكوميديا الإلحادية لكل القراء, كل بحسب منطلقه وحوافزه.

Maro
04-23-2011, 09:53 PM
أستاذى الحبيب، وكاتبى المفضّل...:rolleyes:
تحيّة طيبة معطرة:emrose:
إسمح لى أن أطمع وأتجرّأ وأطلب منك كتابة شىء مستوحى من هذا الملحد الذى حاول إثبات أن الإنسان كان لايهضم الطعام، ثم تطور إلى كائن يستطيع الهضم:
http://www.eltwhed.com/vb/showpost.php?p=228875&postcount=14
وحبذا أيضاً لو تتناول بأفكارك وأسلوبك الجميل شيئاً عن هذا الموضوع:
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=29715
كنت أنوى أن أكتب عنهما بنفسى، لكن بصراحة أنا أفضل أن أقرأها بأسلوبك أنت

هشام بن الزبير
04-24-2011, 01:33 PM
أبشر أبشر أيها الأخ المحبب مارو, ترقب معي قريبا جدا يومية جديدة من يوميات بطل الكوميديا الإلحادية:
هل الإلحاد عسير الهضم؟ :):
وبعد أن يهضمها أبو الإلحاد على مضض سيتحفنا إن شاء الله برائعته:
الإنجاز في شفاء الملحد من عقدة الإعجاز.

هشام بن الزبير
04-25-2011, 01:26 AM
17 هل الإلحاد عسير الهضم؟

عاد أبو الإلحاد إلى بيته متأخرا ليلة من ليالي الصيف قضاها في رفقة بعض الزملاء في مقهى "صرار الليل", كانت الساعة تشير إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. دخل شقته وهو يغالب النوم والجوع, ولا يدري بأيهما يضحي, فإنه قضى الليلة الفائتة أرقا يتقلب دون أن يكتحل بنوم, وقضى طرفا من هذه الليلة في مكان يغمره الدخان وتملؤه جلبة من لا يكفون عن الثرثرة واحتساء القهوة. وهاهو الآن يشعر بأمارات النوم فيؤثر أن يستلقي في فراشه لعله ينعم بساعات سكينة تحت سلطان الكرى. فليصبر على الجوع فذاك خير له من مدافعة النوم وهو خير غائب ينتظر. أغمض عينيه فسمع شخير زوجه كأنه صوت محرك سيارة عتيقة. عجبا, إنها لم تكن تشخر أبدا قبل ذلك. حمل لحافه وقام إلى غرفة الضيوف واستلقى على الأريكة. ما أن أغمض أجفانه حتى بدأ يسمع عزف مصارينه كأنها أوتار كمان يؤدي سيمفونية حزينة, فيئس من النوم وأزمع أن يضع حدا لتلك القرقرة في بطنه, فقام ودخل المطبخ, ففتح الثلاجة فوجدها مقفرة, ثم جعل يدور في المكان يبحث عن شيء يسد جوعته في لهفة, فلم يجد إلا رغيفا محترقا وقدرا فيها بقية من عدس في إحدى زوايا المطبخ, رفع الغطاء فارتفعت رائحة غريبة إلى خياشيمه, لم يتذكر متى أعدت نوال ذلك الطبق, أقبل يومين أم ثلاثة, لكنه لم يكترث كثيرا, فجوعه الشديد سيجعل من هذه الفضلة الحقيرة وليمة فاخرة. وضع القدر على النار وانتظر قليلا ثم رش عليها بعض البهارات, وأكثر من محبوبه الفلفل الأبيض, ثم شرع يغرف العدس ويقضم الرغيف المحترق ويمضغه بجهد بالغ, أحس معه أن عظام فكه تكاد تنخلع, وشرع يبلع الطعام ولا يكاد يسيغه, ويتبعه ماء حتى أبصر قعر القدر وامتلأت بطنه, فعاد ليستجدي النوم مرة أخرى بعدما أطفأ حرقة الجوع.

وما أن أغمض عينيه حتى أحس أن حربا بيولوجية قد نشبت في بطنه, وأن جيوشا بكامل عددها وعتادها بدأت تصطف في مصارينه مؤذنة بزحف مزلزل, ثم بدأ القصف المكثف, لقد أصبحت بطنه مختبرا كيماويا لإنتاج أنواع متطورة من الغازات. لا بد أنه أخطأ في التهام ذلك الطعام المتغير. استولى عليه ألم فظيع كأنه ابتلع رحى من حجر الصوان, لقد خيل إليه بالفعل أن رحى تدور في أحشائه. قال في نفسه: "لقد أخطأت بتناول الطعام في هذه الساعة, لو أكلت التراب والحصى لكان أيسر للهضم من هذا العدس الذي استحال في أحشائي رصاصا, ثم كيف يأكل العاقل خبزا اسود من طول مقامه في الفرن, لو كنت طعمت فحما لما اختلف الحال." قام أبو الإلحاد متثاقلا, وبدأ يذرع الغرفة جيئة وإيابا, ثم بدأ يقفز لعله يحفز جهازه الهضمي ليكمل المهمة المستحيلة, لكن يبدو أن الخلطة التي أنزلها إلى معدته صارت مثل الإسمنت المسلح, ذهب إلى الحمام وغمر رأسه في الغسالة, واستقاء حتى كادت عيناه تخرجان, لكن الوجبة المتغيرة كانت أثقل من أن تقطع ذلك الطريق الطويل إلى فيه, فانقلب إلى فراشه يتوجع ويتأوه ساعة, ثم استلقى على بطنه فخف ما به شيئا يسيرا. خطر له أن الجهاز الهضمي البشري يحتاج إلى تطوير يكفل له القيام بتصحيح ذاتي لأخطاء التغذية, مثل الحماقة التي ارتكبها لتوه, كأنه لا يميز بين مطعوم ومسموم. ونبت في رأسه هذا السؤال: "لماذا يستطيع الكبد مثلا أن يخلص الجسم من كثير من السموم, ويعجز جهازي الهضمي عن التخلص من شر بعض الخبر المتفحم؟ أليس السبب الوجيه هو تفاوت الكفاءة التطورية للأعضاء البشرية؟ مرة أخرى أحصل على البرهان القاطع أن التطور يفسر كل شيء, حتى هذا المغص الذي يقطع مصاريني الآن, دليل على أن أمامنا أشواطا قادمة من الصعود في سلم التطور".

أغمض عينيه لينغمس أكثر في تأملاته الداروينية العميقة فرأى نفسه يمشي في عالم عجيب, لقد رأى نفسه في مراحل متقدمة من التطور الدارويني للجنس البشري, رأى قبيلة متخلفة داروينيا لم تنبت لها أسنان بعد, فكان أفرادها يحيون على السوائل فقط, خصوصا أن الغدد اللعابية لم تتطور لديهم أيضا, كانت حياتهم قاسية جدا. كانوا يكادون يموتون من الغيظ لأن جيرانهم أصحاب القواطع والأضراس المتطورة يتلذذون من دونهم بأطايب الطعام, ويلتهمون الطيور المشوية والبيض والفواكه الرطبة والجافة, فبدأ أفراد القبيلة يعانون من قرحة المعدة لأنهم كانوا يبلعون بعض قطع اللحم لفرط قرمهم إليه. وكانوا أحيانا يطبخون اللحوم طيلة اليوم حتى تذوب تماما فيحصلون على حساء ساخن بطعم لذيذ, لكنهم كانوا يتطلعون إلى ذلك اليوم العظيم الذي يحظون فيه بقضم قطع الشواء النضيج وأصناف الأسماك الطازجة.

تخيل أبو الإلحاد كيف بدأت هذه القبيلة تعاني من الهزال وسوء التغذية حتى خشي زعيمها عليها الانقراض, وبعد أن أخفقت كل الجهود في استنبات أسنان لأفرادها بطرق الطب التقليدية, بدأ بتشجيع التزواج بين أبناء عشيرته ذوي الابتسامة الباهتة واللثة المتورمة وبين بنات العشيرة المجاورة ذوات الثنايا الناصعة والأنياب الناتئة, لكن محاولاته باءت كلها بالفشل لأن أولئك الرجال الذين نشئوا على الحساء كانوا أضعف جسوما من أولئك النسوة المتنعمات. بل إنهم كانوا يعانون من كثير من العقد النفسية بسبب نقصهم الدارويني الفظيع, عندها أحس أبو الإلحاد بانقباض شديد في عضلات بطنه ففتح عينيه, وفهم أنه نداء الطبيعة يستحثه أن أسرع, فقام مترنحا صوب الكنيف, لكن الطبيعة كانت ككل مرة أسرع منه, مر بكفه يتحسس سراويله, وخف الضغط أخيرا عن بطنه, دخل الحمام وخلع ثيابه وهو يوبخ نفسه: "في المرة القادمة ازدرد محتويات القمامة بالفحم فلا فرق بين ذلك وما فعلت الليلة." استحم بسرعة وهو يتساءل: "لماذا لم يطور أجدادنا معدة تهضم الطعام بفاعلية أكبر؟" إذا كانت الأبقار تهضم العشب والثعابين تهضم الجرذان بدون مشاكل تذكر, فلماذا نحتاج نحن إلى كل تلك الأواني والنيران والبهارات؟" تخيل كم سيقتصد سكان الأرض لو كانت لهم أجهزة هضم متطورة داروينيا.

قرر أن يردم هذه الفجوة العلمية وأن يزيل عنه الأمية بخصوص تطور الجهاز الهضمي البشري ففتح حاسوبه وغاص في أعماق موقع جوجل. أدخل هذه الكلمات في خانة البحث: "تطور الجهاز الهضمي" فلم يظفر بشيء يشفي غليله ويشبع فضوله, فعاد فكتب: "الداروينية و الجهاز الهضمي" فانصب عليه سيل من مواضيع المتدينين يتندرون على الإمام الأكبر أبي الطفرات دارون, كانت مواضيع تنم عن استهتار بالعلم وأئمته: "الأسنان تقول لك أخطأت يا دارون." , "الداروينية هي الزائدة وليست الدودية", "إنها الأنزيمات أيها التطوري". أحس بالاحباط فاندفع إلى مواقع "الجرب والجذام" فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار, لم يجد لدى الزملاء إلا ردودا طويلة لتفنيد مقالات الخصوم, لكنه لم يجد التسلسل العلمي المنشود لتطور الجهاز الهضمي البشري كما كان يرجو, تمنى لو يجد مقالة مقتضبة بعدما يئس أن يقع على بحث علمي يعرض للمسألة بالتفصيل الممل. تساءل: "أيعقل أن تكون في نظرية النظريات الإلحادية هذه الثغرة العظيمة؟ لا بد أنها مؤامرة دنيئة لتشويه الداروينية يقودها أنصار الأديان في العالم." أطفأ الحاسوب وهو يتساءل: "إذا تعذر تطوير الجهاز الهضمي عن طريق تحفيز آليات الداروينية, فما المانع من اللجوء إلى زراعة الأعضاء؟" تذكر أنه قرأ عن الخصائص المميزة لمعدة الضبع, وأنه يأكل الجيف المنتنة ولا يتأذى, بسبب أنزيماته المتطورة. فخطرت له فكرة غريبة جعلته يقهقه كالمجنون في جوف الليل, تساءل: "ماذا لو استطاع الأطباء أن يزرعوا له معدة ضبع؟ إذن لصارت تجربة المغص والإسهال الذي عاناه الليلة أمرا مستحيلا!" اعترف في قرارة نفسه أن أكبر ألغاز الداروينية أن يكون الإنسان الذي يفترض أن يكون على قمة هرم التطور بطيئا ضعيف السمع والبصر إذا قيس إلى غيره من الحيوانات. لكنه استطاع رغم قصوره الجزئي عن بلوغ مبلغ الضباع أن يطور آليات لتدارك بعض النقص في جهازه الهضمي, منها رد الفعل الذي خلصه من ورطته الليلة, فالإسهال وصفة طبيعية سهلة أعادت الأمور في بطنه إلى نصابها.

لكن كيف له أن يتخلص من الشوائب غير العلمية في نظرته للحياة من حوله. إنه يشعر أن إلحاده أعسر هضما من الخبز المتفحم ومن العدس المتعفن. لقد مضت عليه عشرون عاما وهو يغلي في رأسه حتى أنتن, فيا ليت الطبيعة طورت له إسهالا فكريا يضطره إلى إفراغ الشحنة المسمومة لترشح عبر شقوق جمجمته لعله يستريح فيعود كما كان سعيدا متفائلا يضع رأسه على الوسادة فينام كأنه طفل.
عاد إلى المطبخ وأعد لنفسه شاي البردقوش المحلى بالسكر, إنها وصفة أمه السحرية لعلاج انتفاخ البطن, شرع يرتشف من الفنجان فأحس كأنه بدأ يعود طفلا بريئا لم يتدنس قط بشك ولا إلحاد...

هشام بن الزبير
04-28-2011, 12:58 AM
18 الإنجاز في شفاء الملحد من عقدة الإعجاز


تسلل أبو الإلحاد إلى أكبر منتديات "الجرب والجذام" خلسة, يرجو أن يجدد إلحاده وأن يزكي عناده, فقد أصبح مذبذبا يخشى على نفسه الفتنة, لفرط ما أصابه من الزلازل الفكرية والقلاقل النفسية التي صدعت بناء معتقده, وأوهت أركان دينه, فبدا مهلهلا تخترقه الشقوق. إنه يخشى أن يصبح يوما ما من دهره عاريا, ليس له من أسمال الإلحاد ما يستر عورة عقله.

ما فتئ صاحبنا يتعرض -منذ ألغي اشتراكه في جميع منتديات "الجهاد اللاديني الإلكتروني"- لشبهات المتدينين ومغالطات الموحدين. لقد غدا كئيبا تتنازعه هواجس الإيمان, ويتأرجح بين الظن واليقين. دخل على صناديد الدعوة الإلحادية منكس الرأس متخفيا, بعدما كان يدخل عليهم بمعرفه الرنان "أبو إلحاد", جاءهم لعل قبسا من مذهب التنوير يلفح وجهه الحزين فينفض عنه العبوس, ويضفي عليه شيئا من طمأنينة الشك المنهجي وسكينة الخواء الفلسفي. ولكم كانت دهشته عظيمة حين وجد المنتدى العتيد مقفرا ولونه باهتا, ينقنق فيه "الضفدع الأبقع" وحيدا حزينا لا مؤنس لوحدته, لا يحفل أحد بنقنقته التي يرجعها الصدى الإلكتروني لجدران المنتدى الباهتة.

والضفدع الأبقع ليس من البرمائيات كما يوحي بذلك اسمه, بل هو أحد الزملاء الأشاوس, وهذا معرفه, فللملاحدة ولع بالأسماء الطنانة, ويكفيك مطالعة أسماء المشتركين في ذلك المنتدى لتشعر بنفسك قد حللت ضيفا على الخنانيص الثائرة في مرزعة جورج أورويل الشهيرة. فهذا "جلجامش" الحكيم, وذاك "سوبر ملحد" السليط, وذلك "الخفاش البصير" صاحب المواضيع الرومانسية الحالمة. ومنهم أصحاب المعرفات الماسية مثل "صرصور الهصور" صاحب نظرية تطور الأخلاق الإنسانية, ومنهم الزميلة الرقيقة "ذبابة الفاكهة" التي تدحض النظرية القائلة بأن الإلحاد العربي ظاهرة ذكورية, وغيرها من المعرفات التي تنبئك عن روح الكوميديا الإلحادية. ولا يحسبن أحد أن أبا الإلحاد يتجنى على زملائه بعدما هجروه, فتلك بالفعل نماذج من معرفاتهم, ومن ارتاب فدونه الشبكة حتى يزداد معرفة بأحوالهم.

لم يجد لسوء حظه موضوعا جديدا يستحق القراءة. وبدا أن سوق "الزندقة الافتراضية" تعاني من آثار الأزمة العالمية, لكن شريطا في الأرشيف استوقفه بلغت مرات قراءته الآلاف للزميل "المهرطق الأكبر" أو "قبطان المستنقعات" سابقا, عنوانه: "نقض مقالات الإعجاز العلمي". بدأ يتصفح الموضوع فقرأ عن الآيات الكونية في القرآن, فمرت به المصطلحات التالية: السماوات والأرض والنجوم والأفلاك والشمس والقمر والشهب والرجوم والليل والنهار والنور والضياء والظل والحرور والفلك والرياح والماء والنبات والنمل والنحل والعسل والشفاء والبحار والأنهار والبرزخ والبحران والسحاب والودق والولادة والرضاع, تصفح العناوين يقفز من رأس الصفحة إلى ذيلها يبحث عن النقض حتى شعر بالصداع, فلم يجد نقضا للإعجاز, بل عجزا عن النقض, لقد أصابه الموضوع بالإحباط. فبدأت خواطره تدور في رأسه: "إن كتابا ذكر هذا كله قبل ألف عام لكتاب محير بالفعل, وهذا الزميل الذي قضى كل ذلك الزمن في تجميع هذه المواضيع يستحق لقب "أبو مقص" لتفننه في أدبيات القص واللصق, فإني لم أزدد بعد اطلاعي على شذرات من ردوده إلا شكا, يا له من مخاتل يورد الآيات كأنه في سباق, ويستأصلها من السياق, ويبثها لغرض في نفسه تحيط بها علامات التعجب, ثم يبحث في التفسير عن غرائبه, ويغوص في اللسان عن عجائبه, ويتصيد من التاريخ عثراته, ويسكب على الإنصاف العلمي عبراته, ثم لا يأتي بشيء ينقض الإشكال الأعظم من أساسه, إنه لا يجيب الجواب الجامع الفصل المفحم عن السؤال الذي يصرخ في رأسي الساعة: "من أين لقوم بدو في صحراء قاحلة هذه المعارف أصلا؟" يا له من مدلس ماكر, يورد على مقالة الخصم إشكالات لغوية ومنطقية وأنتربولجية وسوسيولوجية وسايكولوجية وجيولوجية وبيولوجية لكنه يحيد عن النظر إلى جوهر المشكلة: "لماذا تحتوي هذه النصوص على مضمون علمي لا صلة له بالواقع التاريخي الذي تنتمي إليه؟ لماذا لم يجب "المهرطق الأكبر" عن هذا السؤال رغم أنه قضى سنوات يدعي فيه نقض فكرة الإعجاز العلمي؟" ما أشبه الزميل ببغل الطاحون, يدور ويدور, وعند تمام كل دورة تتاح له فرصة النظر في عين المسألة مباشرة, لكنه لا يلمسها ولا يناقشها, لأنه لا يتوقف عن الدوران, لقد أصبتني بالدوار أيها الزميل المهذار," بدأ يقلب الصحائف, فازداد تخبطا وتحيرا: "هاهو الزميل الصنديد تتقطع به السبل وتعييه الحيل فيدعي أن تلك المعارف منتحلة من كتب الإغريق. ويستدل لذلك بموسوعة "الويكي". يا له من مصدر علمي عريق كأنه إبريق ملقى على قارعة الطريق, ومن أدراني أنه هو نفسه من ألف مقالات تلك الموسوعة "العلمية" أيضا؟"

قرأ أبو الإلحاد عشرات الصفحات فوجد الكاتب يطير به من الجزيرة العربية إلى اليونان عبر بابل ثم يعرج به على معابد فارس ثم يحط الرحال عند الفراعنة. لكن يبدو أن جميع محتويات المتاحف العالمية من ألواح ونقوش وأوراق بردي لن تفلح في إخفاء عجزه الفاضح عن الإجابة عن لب الإشكال: "عزيزي المشعوذ الأكبر, متى تنوي أن تجيب عن السؤال الذي يقطع دابر النزاع: من أين لكتاب ديني عتيق هذا المضمون العلمي الذي ذهبت كل تلك المذاهب في دحضه وما أراك أفلحت؟ متى تجيب أيها الزميل بما يشفي عقل الملحد الزنديق ويقطع وساوس اللاأدري المتحير ويذهب شكوك اللاديني المضطرب؟ لكم تمنى لو كان يستطيع المشاركة ليطرح عليه السؤال: "كيف السبيل لشفاء الملحد العليل من عقدة إعجاز التنزيل؟"

هاهو "المهرطق الأكبر" يسعى في نقض دعوى الخصوم موافقة كتابهم لأحدث العلوم في وصفه لمراحل تكون الجنين, فهل قال المشعوذ الأكبر إن كلامهم هراء, والعلم منه براء, كلا إن المأفون يقر لهم بمطابقة حقائق علم الأجنة, ثم يستطرد لينسب الفضل في تلك العلوم إلى أبوقراط, ويرمي المسلمين بالاقتباس من متفلسفة الإغريق. يا للفضيحة, إنه يستشهد بأبوقراط الذي يظن أن لحمه وعظمه وجسمه نشأ من تجلط دم الحيض. وأين ذكر التجلط في كلام الخصم؟ إن الذي سيتجلط قريبا هو الدم الذي يفور داخل جمجمتي تحت وطأة غباء هذا المشعبذ المغرور." لقد تأكد أبو الإلحاد مرة أخرى من صدق شعاره الذي اتخذه لنفسه منذ سنوات: "ليس كافيا أن تمتلك إلحادا جيدا، بل المهم أن تستخدمه جيدا." وهذا الزميل جيد الإلحاد متينه, ولو شئت لشبهته بأناكوندا مكتنزة اللحم موفورة الشحم شديدة السم, وإنما شبهته بالأناكوندا لقدرته على الزحف والالتفاف, لكنه للأسف لا يجيد استخدام إلحاده, فهاهو يؤلف موضوعا يصيب من لا يحصون من الزملاء في مقتل. يقرؤون ثم يشكون ثم يتساءلون ثم ينتكسون فيكون وزر ذلك عليه, فيصيب بنيان مذهب التنوير ثلم لا ينجبر, فضلا عن تكثيره لسواد المتدينين وشقه لصفوف الملحدين.

وصل إلى الصفحة الخمسين فلم تكن خيبته بها أقل منها بسابقاتها, هاهو الزميل يتهم الخصوم بلي أعناق النصوص, وهبهم فعلوا فتلك نصوصهم, وياليته اكتفى بذلك فاستوى الفريقان في مقدار اللي ودرجته وموضوعه, لكن العلامة المهرطق تعدى ذلك إلى لي عنق التاريخ والجغرافيا والمنطق واللغة والطب, إن الأبعد لم يترك علما إلا لوى عنقه وهشم عظامه ليستقيم له ما أراده.

افتتح أبو الإلحاد صفحة جديدة في مدونته و طفق يتساءل عن سر استماتة الزملاء في التقليل من شأن الدلالات العلمية لنصوص الخصوم الدينية, فترجح لديه أن ذلك يرجع إلى أمرين. أولهما أنهم يمتعضون أشد الامتعاض من تطفل المتدينين على ميدان هم فرسانه, وعلى مضمار هم حملة أعلامه, إنهم دون سواهم أصحاب العقول الراجحة والفهوم الثاقبة والعلوم الباهرة, فكيف يجرؤ معمم أن يدنو من حمى العلم المادي وهو لم يتحرر بعد من الإيمان الغيبي؟ لا ريب أن هذا هو السبب الأول.

أما الثاني فهو ما يعانيه هو نفسه, إنه الشك الذي يأكل خلايا مخه, ويحفر فيها السؤال المخيف: "ماذا لو كنت مخطئا؟" إنه يتساءل الآن حين تجتمع كل هذه المادة الدينية أمام ناظريه: "ماذا لو كان هذا بالفعل كلام من خلق هذه الأكوان وسير أفلاكها وكور أرضها وشق أنهارها وأجرى بحارها؟" إنه الإشكال الذي تمنى أنه يلقى البروفيسور "دونكي" ليسمع منه شخصيا الجواب الكافي عنه, فلعله يصف له -لتبحره وسعة إلحاده- الدواء الشافي الذي يحل عقدة الإعجاز العلمي عند ملاحدة العرب الإنترنيتيين.

لكنه سيكتفي الآن بوضع رؤوس أقلام بحسب ما تجود به قريحته يلخص فيها رؤيته لحل هذه المعضلة العويصة. كتب صاحبنا ما يلي:
"لا يشك متنور عربي اليوم أن الزملاء يعانون بدرجات متفاوتة من عقدة شديدة يمكن وصفها ب"متلازمة أعراض الإعجاز" اختصارا "معجز". فهم في الجملة يفضلون في جدالهم للمسلمين لزوم الجعجعة الفلسفية والبقبقة الكلامية حيث تكثر فرص الانسحابات التكتيكية تحت غطاء أساليب الاستدلال السوفسطائية الماكرة, لكن الخصوم درجوا في العقود الأخيرة على ذم الكلام وأهله وابتدعوا في دينهم بدعة انتحال نتائج البحوث العلمية بعد إخضاعها لعلمية إعادة تقييم منظمة, بآليات تأويلية تضفي عليها صفة الإعجازية. وحسب تقديري للوضع الراهن, فإن محاولاتنا لثني الموحدين عن هذه المسالك المبتكرة الماكرة, بالتشويه والسخرية قد باءت بفشل ذريع. ويجب أن نقر بأننا نعاني مشكلة بل عقدة حقيقية هي "عقدة الإعجاز العلمي". وسأبدأ في بلورة تصور أولي لسبل التغلب على تغلغل متلازمة "معجز" في الأوساط الإلحادية العربية.

ورأيي أن نشرع في تبني خطة من شقين لإعادة التوازن إلى الصراع التاريخي الجاري بين مذهب النور ومذهب الظلام. شق دفاعي وآخر هجومي. وهذه أبرز بنودها:
1. تتلخص الخطة الهجومية في التالي: يبدأ الملاحدة بالاتفاق على كتاب إلحادي معجز, فيضعون له نظرية إعجازية إلحادية متكاملة, ويتحدون المتدينين أن يأتوا بمثل ذلك الكتاب, وبهذا نكون قد بدأنا المعركة. ومن الكتب المقترحة: "كتاب أصل الأنواع" لإمام المذهب دارون و "كتاب صانع الساعات الأعمى" للبروفيسور المجدد "دونكي".
2. نقوم بصياغة تصور شامل عن إعجاز الصدفة التراكمية التي لا تنقطع عن الابداع. فبها ولد النظام من رحم "اللانظام" وبها خرجت القوانين من شرنقة الفوضى.
3. نقوم باختيار بقعة تكون مركز الإلحاد العالمي وكعبته ونقترح أنها مركز العالم, وأقترح أن تكون جزر جالاباجوس لقيمتها الروحية البالغة لدى الملاحدة.
4. أما الشق الدفاعي الذي سنسعى من ورائه لدحض دعاوى الإعجاز العلمي التي يلوح بها الخصوم فأيسر السبل المقترحة أن نقوم بنسبة كل معلومة علمية في كتب المتدينين توافق العلم الحديث إلى الكائنات الفضائية التي ألقت في الأرض شيفرتنا الجينية كما هو مشهور في مذهب القسيس "دونكي" في أحد قوليه. فالربط بين معارف أرضية وبين حضارة فضائية تفسير له وجاهته من الناحية العلمية إذا قيس بالتفسيرات الميتافيزيقية الغيبية. ولا يضيرنا أن تكون حقيقة هذا الأمر غائبة عن إدراكنا في الزمن الراهن, لأن الغيب غيبان كما هو مقرر في مذهب الإلحاد, "غيب ميتافيزيقي عتيق" و"غيب علمي مستقبلي". وهنا مربط الفرس الذي سنمتطيه في حملتنا لبيان وسائل شفاء الملحد من عقدة الإعجاز, ويبقى للزملاء أن يعلفوه ويسرجوه ويجلبوا به على حصون العلم ليخلصوها من تطفل المتدينين." ختم أبو الإلحاد تأملاته بهذه الجملة الشاعرية, قرأها مرات فتملكه الإعجاب, وتنهد وهو يحدث نفسه: "لو يعلم الزملاء أي فتى أضاعوا بإلغاء عضويتي في منتدياتهم, سيعرفونني حين يهتز إلحادهم, وفي الضحوة البيضاء يفتقد الليل...

Maro
04-28-2011, 02:59 AM
الله الله يابن الزبير...:thumbup:
أفضل وأروع بكثير مما تخيّلتها !
إستمر يا هشام... وروح القدس معك :)):

هشام بن الزبير
04-30-2011, 08:17 PM
19 أبو الإلحاد في بلاد العجائب

حل الربيع فاكتست الطبيعة أزهى الحلل, أبو الإلحاد ملحد رومانسي يجل الطبيعة أيما إجلال, وهو لا يتحدث عن أخطائها وعيوبها إلا لإفحام المؤمنين, لكنه في قرارة نفسه متيم بها معجب أيما إعجاب. خرج ليقضي يوم عطلته الأسبوعية في إحدى المنتزهات العامة. أخذ صاحبنا مكانه على بساط العشب الأخضر يلتحف السماء ويتملى فيها كأنها البحر الخضم في زرقته وبهائه. وفجأة حطت على أنفه دعسوقة فاكتملت فرحته فهي أحب الحشرات إليه, فاجتهد أن يسكن كيلا تطير, نظر إليها وقال في نفسه: "إني أغبطك أيتها الدعسوقة الحمراء الزاهية, فلو علمت كم أعاني من تطور هذه الخلايا الرمادية في جمجمتي لعلمت أنك أسعد مني وأحسن حالا..."
"آه يا دعسوقتي الحمراء المبرقشة, أنت تطيرين في خفة ورشاقة وأنا أدب على الأرض أنوء بهمي, فيا ليت لي حياتك فإني قد شارفت الجنون." عندها أحس بدغدغة في أنفه, واجتهد أن يتمالك نفسه كيلا يعطس, لكن الأمر كان أكبر منه, ارتج المكان بصوت عطاسه وطارت الدعسوقة واعتدل أبو الإلحاد جالسا ونظر حواليه متفكرا: "ما الذي ينقصني كي أكون سعيدا؟ كل ما حولي ينطق بالجمال, فلم تنخرني التعاسة؟" تساءل في نفسه: "ما سبب سعادة الدعسوقة وهي أدنى مني في سلم التطور؟" طفق يتأمل الناس حتى وقع في نفسه أن سر السعادة يكمن في بناء مجتمع على غرار المجتمع الدعسوقي, فهو مجتمع متفتح كما توحي بذلك ألوانه النضرة, وهو مجتمع لا يعاني من الفكر الخرافي, لأنه لا يعاني الفكر أصلا, إنه مجتمع يستحق الدراسة بحق. إنه يحلم بيوم ينطلق فيه المجتمع البشري نحو السعادة فيرفرف بأجنحة العلم في فضاء التنوير. تأمل الفرق الشاسع بين الخنفساء السوداء البغيضة إلى قلبه وبين الدعسوقة ذات الألوان الزاهية, وتساءل: "لماذا أخفقت الخنافس السوداء في تطوير التفاعلات الكيميائية المناسبة لتلتحق برفيقاتها الحمراء الفاتنة؟ بدأ يقرأ مقالا حول مراحل تطور الحمير, قرأ فيه أن آخر الأبحاث ترجح أن الحمير طورت الحوافر حتى تتغلب على عدو لدود في فترة متأخرة من الزمن الكمبري. يقول البروفيسور هانس إيزل إن نوعا من القنافذ البدائية كان يملأ الموطن الأصلي لأسلاف الحمر الموجودة اليوم, وينغص عيشها, فقد كان يتخفى بين الأعشاب بأشواكه المدببة التي كانت في صلابة الفولاذ, فكانت تخترق قوائم أسلاف الحمر البائدة وتنفد أحيانا إلى مخ سوقها. وبعد معاناة دامت أجيالا متعاقبة منكوبة, يتعرض عدد كبير منها إلى العاهات وبتر الأطراف, اكتشفت بعض الحمير المتفوقة داروينيا آليات الانتخاب الطبيعي, فقامت -بطريقة لا تزال مجهولة لنا- بتيبيس أطراف قوائمها, مما أدى إلى ظهور الحوافر. وقامت بتوريث هذه الأحذية العملية إلى الأجيال اللاحقة. أما الحمير التي لم تستوعب ضرورات المرحلة فإنها انقرضت غير مأسوف عليها بعدما عاشت عرجاء مشوهة.

قرأ كذلك عن سر جلود الحمر الوحشية المخططة. لقد سره كثيرا أن يقرأ أنها كانت تتعرض باستمرار لأشعة الشمس المحرقة, فكانت تلوذ في فترة الظهيرة بظلال الأشجار, فكانت الأجزاء التي تتسلل إليها أشعة الشمس -عبر الأغصان التي قامت الزرافات بتعريتها من أوراقها- تتحول تدريجيا من السمرة إلى السواد, والأخرى المظللة تبيض شيئا فشيئا حتى اكتست الحمر الوحشية بتلك الحلل الزاهية التي نراها اليوم. إن الحمر المخططة تدين بجلودها الجذابة إلى ولع أسلافها بالحفاظ على القيلولة اليومية. أما الحمر الأهلية التي التحقت بالإنسان في الحقول والبيادر, فإنها حافظت على جلودها الأصلية, لأنها حظيت بظروف عازلة للحرارة في الزرائب المسقوفة. صاحب المقال يؤكد أن هذا التطور استغرق ملايين السنين. تفكر أبو الإلحاد في هذه النقطة المحورية, واستغرب من استصغار المتدينين للقدرات الخلاقة التي يتحلى بها الزمن واستخفافهم بآليات الانتخاب الطبيعي والنتائج التراكمية للصدفة العلمية. بالنسبة له فالقضية محسومة لكنها لسوء حظ المتدينين لا تفهم إلا من داخل شرنقة الإلحاد الضيقة. تذكر حين رد على متدين في إحدى مناظراته قائلا: "عزيزي, أنتم تؤمنون بالخلق, وتعتقدون أن الكون وما يعج به من أشكال الحياة خرج للوجود طفرة واحدة, وهذا أمر عجيب, ثم إنكم تنكرون نظرية التطور وهي أرقى ما توصل إليه العقل البشري, إنها تدرس في أرقى جامعات العالم, وأنا أقول لك: أعطني قليلا من الهليوم وشيئا من الهيدروجين و قدرا معقولا من الطاقة وأعطني كثيرا من الوقت لتختمر هذه المكونات المادية في أتون الصدفة التراكمية التي تقوم بعملية انتخاب طبيعي مستمرة, وسترى أن نشأة الكون مسألة مفهومة نسبيا, كل ما هنالك أنها تحتاج لبلايين السنين, لذا يا عزيزي لن يكون هنا أحد حتى يشهد على عبقرية وإعجاز الطبيعة." غاص أبو الإلحاد في تأملاته الداروينية وأغمض عينيه لتنفتح صفحة عالمه الداخلي العجيب.

وصل إلى مرج خصيب تنعكس أشعة الشمس على صفحته اليانعة, فتتلألأ الأزهار الملونة كأنها مصابيح كاشفة, أحس بالتعب, فسار إلى جدول قريب وانتصب على أربع وكرع كالدابة ماء لم يعرف لمذاقه مثيلا, بحث عن ظل فرأى تلا بارزا قرمزي اللون تظلله الأشجار, عجب للونه ثم صعد إليه وجلس يستغرب مما يراه. ندم أنه لم يأخذ معه الكاميرا, إن جزر جالاباجوس تبدو بالقياس إلى هذا المكان كالصحراء القاحلة, نظر حوله فرأى مخلوقات غريبة, رأى حيوانا نصفه دب ونصفه حوت, لا بد أنه الدب اللبيب الذي ذكره أبو الطفرات دارون, ذلك الدب الألمعي الذي فطن للمخزون الاستراتيجي الهائل الذي تتمتع به المحيطات, فقرر القيام بعملية تحول داروينية بطيئة ومعقدة, ترى هل كان يعلم أننا نعيش فوق كوكب أزرق تغمره المياه إلا قليلا, فترجح لديه أن الماء خير من الطين؟ لست أدري لكنه هناك ما أجمله, إن لوحات سالفادور دالي تبدو باهتة تافهة كخربشات الأطفال قياسا إلى هاته التحفة الداروينية اليتيمة.

رأى مخلوقا غريبا يشبه الغزال ويفوقه حجما يعدو بأقصى سرعة ليفر من سبع ضار له رأس أسد وجسم ضبع, فقفز الغزال الضخم ولم ينتبه إلا و عنقه معلق بين أغصان شجرة ملتفة الفروع فظل هكذا متدليا يتأرجح, حتى يئس المطارد من الطريدة, فانسل خائبا حزينا, حينها شرع الحيوان الغريب يتأرجح يمنة ويسرة, وبدأ عنقه يتمدد حتى صار ثلاثة أضعاف حجمه, ثم احتال حتى خلص نفسه. الآن تبين أبو الإلحاد هذا الصنف, إنها زرافة, "لقد أخطأت يا عم دارون, إن عنقها تطور فطال, لكن الأمر بخلاف ما توهمت, يا ليتني حملت معي ما أدون به هذه المعلومات العلمية الباهرة."

بدأ يسير فوق ذلك التل القرمزي ويتأمل محيطه العجيب, فكان يرى كل مرة عجائب تفوق قدرته على التخيل, وبينما هو كذلك شاردا متفكرا إذ أحس بالأرض تهتز تحت أقدامه فجثا على أربع مستمسكا بذلك العشب الذي لم ير للونه مثيلا, ثم شعر أن التل يعدو به في سرعة هائلة, ثم أبصر أمامه رأسا عظيمة تهتز, حينها كاد يغشى عليه, إنه انطلق لتوه في جولة سياحية أسطورية على متن تورياساوروس عملاق, حاول أن ينظر أسفل منه فأصيب بالدوار, خيل إليه أنه يطل من الطابق الثاني من العمارة التي يسكنها, لا مجال لمغادرة هذا المركب الهائج, فليستمسك بأقصى قوته. مضت ساعة والديناصور الضخم يقطع به الأرض, لم يتصور أن دابة بهذا الحجم تقوى على العدو بهذه السرعة, كان يرفع بصره في كل مرة فيرى أغصان الأشجار كأنها رماح مصوبة إلى رأسه, فيخفيه مرة أخرى في وبر المركب القرمزي. وفجأة بدت له جبال شاهقة, تتخللها الشقوق والمغارات, فخطر بباله أنه يوشك أن يصبح وجبة عشاء دسمة دافئة لصغار التورياساوروس, إن الديناصور يعدو بالفعل كأنه سائق أحد مطاعم البيتزا يحاذر أن تبرد بضاعته. شعر بالرعب الشديد, فهو لا يريد مثل هذه الموتة, صحيح أنه فكر مرات كثيرة بالانتحار, لكن تصوره للديناصورات الصغيرة تحيط به وتقضم أطرافه بأسنانها الحادة جعله ينتفض في مكانه جزعا. فهو يريد أن يموت يوم يموت موتة رحيمة.

التفت حوله وجرظ بريقه وودّ لو أنه كان مؤمنا فيستغيث بإله يدعوه ويتضرع إليه لينجيه, لكن الإلحاد حرمه من الإيمان بإله لا يدرك بالحس, لكنه في ورطة, وقد بان ضعفه واشتدت فاقته, إنه لم ير إلها حقيقيا يعتد به الزملاء المتنورون سوى "وحش السباجيتي الطائر" فاستجمع قلبه وأغمض عينيه وانبطح على بطنه ودعا بصوت خافت منكسر: "مولاي وعدتي, عبدك المتنور لم يبق له سواك, سيدي وحش السباجيتي الطائر, انقطعت حيلتي وظهر لك فقري, فأدركني..." حين فتح عينيه لم يصدق أن وحش السباجيتي جاء بالفعل يحلق في هيبة يكاد يسد الأفق بأجنحته البيضاء, إن الزملاء كانوا على حق, اقترب منه حتى كاد يلمسه, وظن أن الفرج قد جاءه, ومد يده ليتعلق بإله الزملاء ليطير به بعيدا عن فكي هذا الوحش الكاسر. لكن الديناصور لم يعبأ به, بل فتح فاه كأنه يتثاءب فخرج منه دخان كثيف كريه الريح, فشرع وحش السباجيتي يذوب كأنه قطعة زبدة فوق المقلاة, وبدأت أطرافه تسقط كأنها قطع من عجين, تذكر أبو الإلحاد آلهة اليونان التي كان يقاتل بعضها بعضا كما تتقاتل الوحوش الكاسرة, وشعر بالصدمة لعجزه وعجز إلهه المعجون, ماذا يفعل الآن هل يدعو الديناصور ويتضرع إليه بعدما قهر إلهه الإلحادي؟ عندها أحس بنفسه كأنه يسبح في بركة من ماء, لقد عرق كأنه ملاكم في الجولة الأخيرة, بعدما قضى زمان حلمه على ظهر ديناصور عداء, لقد عاد أبو الإلحاد من رحلة إلى العصور الغابرة, تجول فيها بين الأشجار الغريبة الباسقة, ورأى الحشرات والطيور والحيوانات قبل أن تتطور, لقد ازداد يقينا بصدق نظرية التطور, وفهم صدق العلماء المتنورين في تأكيدهم أن الإنسان لم يعاصر الديناصورات أبدا, لقد استيقن ذلك, فمن من البشر يطيق جوار تلك الشياطين العملاقة؟ بدأ تنفس صاحبنا ينتظم وبدأت أفكاره تهدأ فاعتدل قائما, نظر حوله في المتنزه فلم ير أحدا, كانت الشمس توشك على المغيب, فمضى إلى بيته يجر أقدامه...

عَرَبِيّة
04-30-2011, 09:15 PM
ماشاء الله تبارك الرحمن ,
أسلوبٌ بديع وحرفٌ منيع ,
ليتك تسعى لنشرها في كل مكان يُعنى بالأدب الهادف الساخر , كموقع الساخر (http://www.alsakher.com/)مثلاً .
بارك الله فيك وزاد كلماتك مدداً ,
مُتابعة ..

هشام بن الزبير
04-30-2011, 09:29 PM
أخي مارو, أحمد الله أن صياغتي لمقولات الزملاء قد راقت لك, وإن كنت كثيرا ما أقلب النظر في بعض الأمور كمن يمشي على حبل ويخشى السقوط. لذا فأنا أرحب بالنقد سلبا وإيجابا, فلا أخفيك أني أكتب بسرعة, ولا يتاح لي الكثير من الوقت للتنقيح.

أختي عربية, شكر الله لك اهتمامك وتقديرك, وأنا أدعو كل من يقدر أن ينقل هذه الباقة من يوميات صاحبنا إلى بقية المنتديات, أما من يفلح في إيصالها إلى منتديات الزملاء بحيث تبقى ولا تحذف, فهذا يستحق بالفعل جائزة. :):

عَرَبِيّة
04-30-2011, 09:37 PM
وأنا أدعو كل من يقدر أن ينقل هذه الباقة من يوميات صاحبنا إلى بقية المنتديات
إذاً هذه إجازة من صاحب الموضوع , ودعني أُنّصب نفسي محامية لأعمالك وأقول هذا وفق الشروط التالية :
- يجوز نقل هذه المقالات بشرط نسبِها إلى صاحبها " أ. هشام بن الزبير " من غيْر تعديل أو إضافة أو قص .
- من الجيد ذكر المصدر وهو " منتدى التوحيد : www.eltwhed.com " إذا كان الموقع ( المنقول إليه ) لا يمنع
وضع روابط خارجية .
وفقكم الله أستاذنا وجزى الله خيراً كل من ينشر هذه الدرر .
التوقيع : م/عَرَبِيّة .

أبو يحيى الموحد
05-20-2011, 11:17 AM
يا اخي والله فنان........ ثق .... ما قرأت شيئا بهذا الاسلوب في حياتي كلها.....جزاك الله خيرا....استحلفك بالله بأن تدعوا لي بالثبات

أبو يحيى الموحد
05-27-2011, 10:28 PM
رفع ................

أبو يحيى الموحد
05-27-2011, 10:57 PM
اخي هشام....لا اعلم ماذا اقول غير جزاك الله الجنة.....
كان يدور في خلدي ان اكتب شيئا عن مشكلة الملحدين مع سجل المتحجرات الذي يفضحهم....لكن قلت اسلوبي لا يرتقي لأكتب شيئا مفحما كوميديا.....فأتمنى ات سنحت لك فرصة ان تنورنا بمقال عن ((عقدة ابو الالحاد مع سجل المتحجرات))

التواضع سيصون العالم
05-28-2011, 04:28 PM
الأخ اهشام له 5 ايام غائب
خير ان شاء الله

ابوالوليد
05-28-2011, 09:11 PM
الأخ اهشام له 5 ايام غائب
خير ان شاء الله
بالفعل افتقدنا الأخ هشام لعله خير .

هشام بن الزبير
05-28-2011, 10:52 PM
إخواني الكرام، أنا على سفر.
أخي سلمة، أبشر بما يسرك إن شاء الله.
ترقب معي: أبو الإلحاد و لغز الأحافير.

أبو يحيى الموحد
06-09-2011, 01:27 PM
اين الاخ هشام حفظه الله

salta101
06-14-2011, 02:57 PM
والله ما اروعك . ولكن يا اخى لى سؤال ؟
هل يجوز السخرية فى المحاورة . وان سؤالت بان لا تسخر ما يكون الرد ؟

هشام بن الزبير
06-14-2011, 07:48 PM
أخي الكريم,
سؤالك وجيه, وهذا أول شيء طرق بالي حين فكرت في البدء في هذا الموضوع الطريف.
لهذا صدرت أول مشاركة فيه: "أبو الإلحاد الرقمي في أزمة" بما يفهم منه أن سخريتي من القوم الملحدين رد بالمثل. مع فارق عظيم, فأنا لم أسخر من خلقتهم وإنما سخرت من خلقهم, ولم أتجاوز ما يصرحون به من الكفر والشقاق والنفاق والتخبط في حمأة الأوهام والخرافات المضحكة.
الأمر الآخر, هو أن هذه المقالات ليست محاورة لأحد, بل هي محاولة للغوص في العالم الغريب الذي يمكن أن نسميه "عالم الزندقة الإلكترونية" فأبو الإلحاد رمز لهولاء الأراذل الذين ملئوا الإنترنت بمدوناتهم ومنتدياتهم الفاجرة.

وقد ذكر العلماء أن الكافر المحارب لا تحرم غيبته وذكره بما فيه.
قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني - حاكياً اعتقاد السلف أهل الحديث - :

واتفقـوا مع ذلك : على القول بقهر أهل البدع ، وإذلالهم ، وإخزائهم ، وإبعادهم ، وإقصائهم ، والتباعد منهم ، ومن مصاحبتهم، ومعاشرتهم ، والتقرب إلى الله عز وجل بمجانبتهم ، ومهاجرتهم .
" عقيدة السلف وأصحاب الحديث " ( ص 123 ) .

ومهما يكن الأمر فإني أحتسب ما أكتبه, وأرجو أن تحز حروفي في قلوب زنادقة الشكبة العرب, وأن يروا أنهم لإلحادهم أحق بالسخرية من أهل الإسلام وأننا أسيادهم. وكيف لا نسخر من قوم سخروا من ديننا واتخذوا آيات ربنا هزوا؟ ألا ولا حرمة لنفوسهم ولا لدماءهم ولا لأعراضهم حتى يتوبوا عما هم فيه. ولو كانت للمسلمين شوكة لما نبس منهم أحد بكلمة, ولكن مثلنا ومثلهم كما قال القائل: خلا لك الجو فبيضي واصفري.

هذا مبلغ علمي وفوق كل ذي علم عليم, وأنا و إن كنت أتحرى ألا أنزلق إلى ما لا يحمد, فإني أدعو منكم من وجد خللا أن يدلني عليه, ولو دلني أحد بعلم على محذور شرعي, فما أهون أن أجعل أبا الإلحاد يصمت إلى الأبد..
وشكر الله لكم جميعا حسن اهتمامكم بحروفي واعتز بكم قراء طيبيبن ناصحين.

طلب العلم هدفي
06-14-2011, 11:19 PM
والله كلام رائع ...... ولسان بارع
ماشاء الله .....................................
كاتب رائع متميز والله لقد فقت بأسلوبك كلام كبار الأدباء
قلمك طائرة تلقي صوارخيها على الملحدين والزنادقة
استمر ياأخي والى الأمام دائما .:hearts:

أبو يحيى الموحد
06-15-2011, 12:08 AM
اخي هشام .......الف مرحبا بعودتك........................
ننتظر بفارغ الصبر الحلقة القادمة

أبو القـاسم
06-15-2011, 12:18 AM
سعدت برؤية اسمك المشرق ..والحمدلله الكريم على عودتك , أخي الحبيب هشام , وقد راسلتك في بريدك من مدة
بخصوص السخرية وسؤال السائل ,يقول الله عز وجل"قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون"حكاية عن نوح عليه السلام
فالسخرية من هؤلاء منهج نبوي سجله القران العظيم

هشام بن الزبير
06-15-2011, 12:48 AM
حياك الله أستاذي الحبيب أبو القاسم.
لم أنتبه للرسالة إلا الساعة فمعذرة. وبارك الله في جميع الإخوة الكرام.
أما الذين يسألون عما جد في عالم صاحب اليوميات, فإن لدي رؤوس أقلام اكتمل بعضها, وسترون قريبا المقالات التالية إن شاء الله, ولا أدري أيها يكتمل أولا:
أبو رقاقة العدمي.
الطفولة الإلحادية.
أبو الإلحاد ولغز الأحافير.
شرنقة الإلحاد.
هلوسات إلحادية.
كازينو الإلحاد.

عَرَبِيّة
06-15-2011, 12:57 AM
عوداً حميداً أخانا الأديب الأريب ,
يسّر الله لك , وننتظر الحلقات على أحر من الجمْر ,
بارك الله فيك .

هشام بن الزبير
06-15-2011, 07:51 PM
اخي هشام....لا اعلم ماذا اقول غير جزاك الله الجنة.....
كان يدور في خلدي ان اكتب شيئا عن مشكلة الملحدين مع سجل المتحجرات الذي يفضحهم....لكن قلت اسلوبي لا يرتقي لأكتب شيئا مفحما كوميديا.....فأتمنى ات سنحت لك فرصة ان تنورنا بمقال عن ((عقدة ابو الالحاد مع سجل المتحجرات))


أخي الكريم سلمة,
أهديك هذه اليومية الجديدة وأتمنى أن تروق لك:
أبو الإلحاد ولغز الأحافير

هشام بن الزبير
06-15-2011, 07:52 PM
20 أبو الإلحاد ولغز الأحافير

مضت على أبي الإلحاد شهور متطاولة يتردد فيها بين البيت والعمل والمقهى حتى أحس بالملل ينهش كيانه, صارت أيامه متشابهة رتيبة ولياليه طويلة كئيبة. فكان يقضي ساعات فراغه في شرود يلفه دخان السجائر وتظلله هموم حياته البائسة. وعند عودته من العمل في ذلك اليوم ماشيا شعر كأنه يغرق في بحر من الإسمنت والزجاج, كان الهواء ملوثا والمنظر كالحا, فوقع في نفسه أن سبب تعاسته هو ضيقه بحياة المدينة ورتابتها. لا شك أن هذا الاكتظاظ الفظيع وهذا الجو الخانق ينغص عليه عيشه, فليهرب إذن من هذا الفخ القاتل ليلوذ بأمه الطبيعة, وينشد شيئا من السكينة في أحضانها الخضراء. قطع طريقه إلى بيته على وقع هذه الخواطر فأحس أن نفحة من الأمل قد هبت عليه فجأة, ثم انتعشت نفسه حين ذكر أن اليومين القادمين يوما عطلة, أسرع في مشيته وهو يتخيل كيف سيقضي يومين كاملين خارج هذه المتاهة الإسمنتية التي يدعونها مدينة.

فتح الباب وهو ينادي زوجه أم الإلحاد: "نوال, نوال, ما رأيك أن نمضي أيام العطلة خارج المدينة؟" التفتت إليه في استغراب وهي تقول: "إن كنت ستحجز لنا غرفة في فندق مريح فلا مانع لدي..." قاطعها قائلا: "إنما أريد أن نتخلص من هذه الجدران الخانقة يوما أو يومين, ننصب لنا خيمة في الغابة أو على الشاطئ." أجابته في حزم: "إذن فلتسمتع بالنوم في العراء وحدك, تصبح على خير" على وقع هذه الكلمات بدأ صاحبنا يتخيل خلوته بنفسه في مكان هادئ لا يصم فيه هدير السيارات الآذان ولا تزكم غازاتها الأنوف, لكن إلى أين يذهب يا ترى؟ ما أن راوده هذا السؤال حتى ارتسمت في ذهنه صورة فاتنة من الزمن البعيد زمن الطفولة الحالمة. سيذهب إلى هناك, سيعود إلى مراتع الطفولة الأولى وسيعانق ذكريات الصبا الجميلة. حينها بدأ أبو الإلحاد يجمع أغراضه, حمل كل ما يحتاجه المرء لقضاء بعض الوقت خارج غابات العمران الإسمنتي الكئيبة, حمل خيمة ولحافا وآلة تصوير ومصباحا يدويا وهيأ زاده ثم استسلم للنوم وهو يمني النفس بنزهة تجم العقل والجسد وتنفض عنه الكلال والملال.

استيقظ في اليوم التالي نشيطا على غير عادته, كاد يقفز طربا حين رأى حقيبته بجانب السرير, أحس بالطفل فيه يستحثه أن أسرع, تخيل مبلغ فرحته كلما اصطحبه أبوه في نزهة أيام الربيع. كانت ذكرى تلك الأيام البعيدة تدغدغ وجدانه وهو يحتسي فنجان القهوة ولم تزل تراوده وهو يستقل الحافلة التي ستحمله إلى هناك, إلى حيث السكينة والهناء.

بدأت المركبة تقطع الطريق الساحلية المتموجة كأنها نهر أسود يجري بمحاذاة اليم الأزرق المهيب, نظر إلى المياه المتلألئة مليا حتى خيل إليه أن الحافلة تمخر عبابها, غاص في شروده ساعة ثم انتفض فجأة حين شعر أنه يكاد يجاوز وجهته, حمل حقيبته وطلب من السائق التوقف.

بدأ يخطو تجاه الجبل موليا الشاطئ دبره, سار كأنه يقفو آثار طفولته, توقف عند شجرة أكاليبتوس باسقة, تذكر كيف كان يتبارى مع أخيه الأصغر في تسلق أغصانها, مشى ساعة حتى بلغ منه الجهد, لكنه وصل إلى بغيته, مرج فسيح تحيط به الجبال من جهات ثلاث, إنه يذكر هذا المكان جيدا, لقد جاء مع والديه وأخيه ههنا عشرات المرات. نصب خيمته الصغيرة ورتب أغراضه وهو يترنم بهذه الكلمات:


هيئ الزاد واقصد الغابة
واعزف على أوتار الربابة
أنشودة بلحن الربيع
بها أحيا الفتى شبابه

يبدو أن الطبيعة تلهمه, فهو لم يسمع هذه الكلمات إلا الساعة حين انطبعت في ذهنه فجأة, من يدري ربما ألف ديوانا كاملا لو أمضى وقتا كافيا في هذا الجو الشاعري الساحر. استلقى برهة على بساط العشب الأخضر يتأمل قبة السماء, فألفاها زرقاء لا تخالطها نقطة من بياض ولا ترى في أرجائها قزعة. هب من مكانه ثم سار شمالا صوب الجبل, كان يمشي في خفة حتى أبصر بغيته, تبدت المغارة في سفح الجبل, كان أبوه يمنعه من الاقتراب من هذا المكان خوفا عليه, لكنه علم من أصدقائه أنها تنتهي في الجهة المقابلة بعين ماء كأنها اللجين الأبيض. أخرج مصباحه ودخل وهو يترنم بكلماته التي أوحى له بها جمال المكان:
هيئ الزاد واقصد الغابة...

ما أن دخل المغارة المنشودة حتى أبصر شيئا غريبا على الأرض, اقترب والمصباح في يده, فرأى جسما صلبا يعلوه التراب, حمله بيده ونفض عنه شيئا من الغبار, فجحظت عيناه, إنها تبدو كأنها متحجرة, هذه رأس طير, هذا منقاره المعقوف, هاته جناحاه, لكن أي شيء هذا, كانت مؤخرة جسمه أشبه بالثعبان, تسارعت دقات قلب صاحبنا, وتساءل في قرارة نفسه: "هل وجد لتوه شكلا وسيطا من أشكال الحياة, هل يمسك بيده دليل التطور الدامغ؟ لكن الأحافير تكون منطبعة على حجارة, ربما تكون هذه المغارة قد حفظت هذا الحيوان العجيب بطريقة أخرى, تخيل أبو الإلحاد الضجة الاعلامية التي سيثيرها اكتشافه الباهر, يا ترى كيف سيسمي العلماء هذا الحيوان الفريد؟ لكن أليس من حقه أن يسميه هو نفسه؟ إنه مكتشفه فليبادر باختيار اسم علمي قبل أن تسلط عليه الأضواء الكاشفة فيسبقه إلى ذلك الشرف غيره, إنه يشبه التنين فليسمه "تنيناريوس". الآن سيتوسل إليه الزملاء أن يعود إلى منتديات "الجرب والجذام", ربما يلتقى البروفيسور "دونكي" شخصيا, ربما ينال حظا من الشهرة, من يدري قد يحصل على جائزة تقديرية على اكتشافه الفريد. ماذا لو ادعى أنه يمارس هواية جمع الأحافير منذ زمن؟ هذا كله لا يهم الآن, يجب أن يؤجل التفكير في تلك التفاصيل ريثما ينتهي من نزهته الممتعة. وضع "التنيناريوس" بحذر في جرابه, ثم واصل طريقه.

مشى بعض ساعة كأنه في دهليز بارد ثم بدا كأنه يضيق عليه شيئا فشيئا, التفت خلفه فلم يعد يرى النور المنبعث من مدخل المغارة, يبدو أنه نفق طويل, أحس بشيء من القلق, لكنه أزمع أن يتم ما شرع فيه, خطا خطوات وهو يصيخ السمع لعله يسمع خرير الماء, لكنه لم يسمع إلا صوت زفيره, وفجأة أطبق عليه ظلام دامس, تبا لقد نفدت البطارية وتعطل مصباحه, كيف لم يفكر في أخذ بطاريات جديدة؟ ماذا يصنع الآن؟ هل يستمر أم يرجع؟ استجمع أبو الإلحاد قوته وعزم أن يحقق حلم طفولته, لن يرجع حتى يسبح في تلك العين الصافية ويشرب من ماءها, بدأ يمشي في حذر وهو يمد يديه كالأعمى يتحسس بهما سبيله, كان جبينه يتصبب عرقا, مشى خطوات وخيل إليه أنه يسمع خرير الماء, لا بد أنه اقترب من المنبع, ما أن خطر هذا بباله حتى سمع هديرا مدويا, إنه صوت الرعد القاصف, يا للهول إنها عاصفة, ماذا يصنع؟ هذا النفق المظلم قد ضاق به حتى اضطره إلى أن يمشى منحنيا كيلا يؤذي رأسه, أحس بالدوار, لا بد أنه في طريقه إلى الاختناق, شعر بالرعب يكتنفه, استدار وعزم أن يعود أدراجه, يبدو أن حلمه الطفولي لاستكشاف هذا المكان العجيب لن يتحقق اليوم, مضى في ذلك النفق كهيئة الراكع يخبط خبط عشواء, يصطدم تارة بالجدار وأخرى بالسقف, تمنى لو كان يمتلك شمعة أو عود ثقاب, إنه يغرق في ظلام دامس ساعة الضحى, لكن ماذا تجديه الشمس وقد زج بنفسه في هذا النفق المظلم, كم كان والده حكيما إذ منعه طوال سنين من الاقتراب من هذا المكان المخيف, فجأة أبصر نورا خاطفا, إنه البرق, خيل إليه أنه وصل إلى مفترق طريقين, عجبا إنه لا يذكر إلا نفقا واحدا, فكيف تفرع إلى اثنين, تحسس بيديه ليتأكد من أن عينيه لم تخدعاه, حينها أضاء البرق مرة أخرى فتأكد أنه دخل متاهة محيرة, فقرر أن يسلك أحد النفقين, مشى قليلا وهو يرتعش من الخوف, تمنى لو أن البرق يضيء أطول من ذلك, لكن من أين ينفذ ضوءه, لم يتبين ذلك, لكنه استمر في مشيه حين أحس بالماء يملأ حذائه, تسمرت قدماه في الأرض من الفزع, إن المطر لن يلبث أن يملأ هذا النفق الكريه, يجب أن يسرع إنه يخشى أن يغدو هذا الكهف الموحش قبرا له, إنه يوشك أن يقضي غرقا, عندها أضاء البرق من خلفه, فقرر أن المخرج لا بد أن يكون وراءه, مشى قليلا وهو يخوض في الماء إلى كعبيه, حين أضاء البرق مرة أخرى وجد نفسه حيث بدأ عند مفترق النفقين فاختار ثانيهما ومشى يجر رجليه وهو يتمنى لو ينقذه أحد مما هو فيه, ويتمنى لو كان يؤمن بإله غير وحش السباجيتي العاجز فيدعوه, لكن ماذا يصنع؟ لقد أطفأ الإلحاد شعلة الإيمان في قلبه, عنّ له أن الإلحاد يشبه هذا النفق المظلم, كلما توغل فيه المرء ازداد ضيقا وضنكا, وأعجب شيء فيه أن يدعوه الزملاء مذهب التنوير! وكل ما يمني به الملاحدة أنفسهم لا يعدو أن يكون سرابا خادعا, كما يمني أبو الإلحاد النفس في هاته المتاهة بعين ماء لا دليل على وجودها إلا حكاية أطفال مروا من هنا قبل عشرات السنين, إن هذا النفق صورة للحياة التعيسة التي يحياها صاحبنا في واقع الأمر. سمع صوت الماء يجري من خلفه ثم أحس بنفسه يُدفع دفعا, كاد يسقط لكنه تماسك, ماذا لو كان الماء يدفعه إلى حتفه في هذه المتاهة القاتلة؟ ماذا لو كان طوفان هادر في طريقه إليه ليسحقه سحقا؟ أسرع الخطو رغم أنه كان يرتطم بجدران النفق في كل مرة, ولم يشعر بنفسه إلا وهو يسبح في النفق, والماء يكاد يغمره, كان يستسمك رغم هلعه الشديد بجرابه خوفا على اكتشافه الثمين أن يضيع, خطر بباله أن قيمة "التنيناريوس" العلمية أهم من حياته, فليجتهد إذن في البقاء حيا حرصا على إطلاع الجنس البشري على هذا الكشف العلمي المثير, وبعد دقائق كاد قلبه فيها أن يخرج من صدره أبصر النور أخيرا, لقد لفظه الكهف كأنه لوح من خشب, لم يصدق أنه نجا بأعجوبة من هلاك محقق.

هاهوذا منبطحا على بطنه منهك القوى مبتلا جائعا يرتعش من البرد, لكنه حي معافى, وهذا ليس كل شيء, إنه يحمل في جرابه "التنيناريوس" دليل التطور وبرهان الداروينية الدامغ, إنه سيلقم المتدينين شرقا وغربا الحجر بهذا الكشف التاريخي, لكن يجب أن يخرج غنيمته النفيسة من هذا الجراب المبتل بسرعة. حين فتح الجراب كان ممتلئا ماء كأنه ركوة, فتحه وشرع يسكب منه الماء في حذر ودقات قلبه تتسارع خوفا على أمل الداروينية ومستقبل الملة الإلحادية أحفورة "التنيناريوس الطائر " , لكنه حين أدخل يده في الجراب أمسك شيئا لزجا وأخرجه ببطء وحذر شديدين, ثم ما لبث أن قفز من مكانه فزعا, إنه ثعبان, نظر إليه متعجبا, يا للحسرة, لقد انخدع ببعض الطمي والطين اليابس, إنه ثعبان ابتلع بومة وكانت نهايتهما على هاته الصورة الغريبة, ثم غمرا بالطين حتى وطئت أقدام أبي الإلحاد هذا المكان, هذا كل شيء, لم يكن يحتاج "التنيناريوس" الوهمي إلا لبعض الماء ليكشف عن حقيقته. لقد كانت تلك "الحلقة المفقودة" حلما جميلا سرعان ما تلاشى من الوجود كما تتلاشى فقاعة الصابون, شعر أبو الإلحاد بالحسرة والمهانة, لكن إيمانه بالداروينية لم يتزعزع قيد أنملة, لأن غياب الحلقات المفقودة لا يعني عدم وجودها, إنها هناك في مكان ما, لكن لماذا لم يفلح أحد في اكتشاف شيء منها؟ ربما لأن الكائنات الفضائية قد جمعتها من الأرض لدراسة الحياة الأرضية تمهيدا لاستيطان الكوكب الأزرق؟ قفل أبو الإلحاد راجعا ليستقل الحافلة بعد هذا اليوم المرعب, وخطر له أنه ما زال يدين "للتنيناريوس" بشيء من الفضل, إنه استمسك بالحياة بسببه, واجتهد أن يبقى صامدا خدمة للداروينية الركن الأعظم لملة الإلحاد المعاصر, مضى صاحبنا في طريقه يقطر ماء ويترنم بكلماته المتفائلة:

هيئ الزاد واقصد الغابة
واعزف على أوتار الربابة
أنشودة بلحن الربيع
بها أحيا الفتى شبابه

أبو يحيى الموحد
06-15-2011, 10:47 PM
بارك الله فيك يا لاقم الملاحدة بالاحجار.............
جزاك الله خيرا و زادك علما
اسأل الله بأن يثبتك وايانا على الايمان

هشام بن الزبير
06-15-2011, 10:51 PM
إخواني الكرام,
أبو الوليد, سلمة, عربية, أبو القاسم, طلب العلم, التواضع, سالتا, وكل من قرأ هذه الصفحات,
بل أنتم جزاكم الله خيرا, وأسأل الله أن يبارك في حروفنا وأن يسدد أقلامنا وألسنتنا.

أبو يحيى الموحد
06-25-2011, 09:52 PM
كيف ينزل هذا الموضوع!
للرفع

هشام بن الزبير
07-01-2011, 01:55 AM
21 أبو رقاقة العدمي

دخل أبو الإلحاد موقعا إسلاميا يتصفح مناظرات زملائه المتنورين وغزواتهم الإلكترونية لإفحام المؤمنين, فبدا له نتوء رقمي غريب في جسم المنتدى, نظف زجاج نظارته ثم نظر إليه بعينين فاحصتين ليتبين حقيقته, وليعلم أي نوع من الأورام الإلكترونية هو, فإنها أضحت أنواعا منوعة تتفاوت خطورتها وإن تشابهت أعراضها, وقد أدى بعضها إلى إصابة بعض المواقع بأعراض الترهل الرقمي. إننا في زمان ازدهرت فيه فصيلة "المجوجلين الأشاوس" وتعددت تكتيكاتهم الماكرة وأساليبهم الملتوية التي تتراوح بين "القص واللصق" و "التعميم والتعويم" و"الغمر والإغراق".

إنه موضوع آخر أدركته أعراض "التضخم الرقمي" وهذه آفة يعرفها من خبر عالم المنتديات, كان الموضوع ينمو باستمرار كأنه مخلوق خرافي أصابه خلل هرموني, فصار يتمدد مثل الفقاعة حتى كاد يحجب المنتدى في ظله. قرأ العنوان: "هل حقا نعيش على الأرض؟" لكاتبه "طيفور". طار ببصره يتحسس لغة الموضوع لعله يلمح مفاتيح تكشف شخصية الكاتب, لم يطل به الأمر, إنه الزميل "تأبط كفرا" هذا أسلوبه, إنه هو لا شك في ذلك.

إن أعضاء هذا المنتدى في ورطة حقيقية, ترى هل يعلمون كم هي "مسرطنة" مواضيع الزميل العنيد؟ إنه يثير زوابع كلامية لا تنتهي في مواقع الزملاء, فكيف به إذا حل بساحة الخصوم؟ هذه عباراته: "ميتافيزيقا الخواء وهندسة العدم المتماوج, الجهل بما كان هنالك يفضي إلى الحيرة والضبابية حول ما نحن فيه ههنا." لقد فضحه توقيعه الذي تشعرك قراءته بالصداع النصفي: "الدليل المنطقي مسارات فكرية متماوجة خارجة عن إطار كينونة ما يستدل عليه به, تجتاح مسالك يُعبّدها الجهد العقلاني المسكون بهواجس التنوير"

يبدو أنه يقتات على نوع من المعلبات الإلحادية, وإلا فمن أين يأتي بهذه المفرقعات اللفظية الغريبة. فلأتصفح موضوعه قليلا: "هل حقا نعيش على الأرض؟" الأحرى أن تسأل: "هل يعيش"تأبط كفرا" على الأرض؟" و لست أدري أيها الزميل, لعلك تعيش على كوكب بلوتو, ولعلنا نحتاج لمترجم من الكائنات الفضائية ليفك لنا "شيفرة" مواضيعك الغريبة.

كتب "طيفور" التالي: "أيها الزملاء أنتم تزعمون أن الحياة فترة اختبار يعقبها الجزاء في حياة أخرى, وأصدقكم القول أن التأمل في هذا التفسير الديني المنطقي يكاد يحملني إليكم ويدنيني من قناعاتكم, لولا أن قريحتي المتوقدة كشفت عن ثغرة عميقة في بينانكم الإعتقادي, إذ رصدت أن الحجة لن تقوم على الإنسان حتى يثبت للأرض وجود حقيقي خارجي. فالكون المرصود يضم بلايين المجرات فضلا عن كوكب الأرض, لكن رصده لا ينفي احتمالا طفيفا بأن وجوده وجود ذهني لا حقيقي, فهل الأرض مجرد انعكاس لبرنامج مذهل تمليه علينا شريحة متطورة؟ فلو كان تصوركم للحكمة من وجود الإنسان الراصد هي ما زعمتم, فلماذا لا يُخلق في دار الجزاء ابتداء, وتزرع في دماغه شريحة تملي عليه ذكريات حياة حافلة عاشها على الكوكب الأزرق, بالنسبة للإنسان لن يتغير شيء, فهو في دار الخلود, وبذلك اكتملت دائرة الوجود فيما تعتقدون, وتمت الحكمة التي حولها تدندنون." ألقى الزميل بهذه الكومة اللفظية في قسم الحوارات الفكرية وجلس يفرك يديه ينتظر أن تفعل فعلها. ولم يلبث أن جاءه جواب وثان وثالث أن الإفتراضات بحر لا ساحل له وأن الخيالات و الأوهام رؤوس أموال المفاليس.

حين قرأ صاحبنا الردود المتسرعة ألقى بسؤاله الذي كان يترقب هذه الفرصة ليطرحه: "أيها الزملاء, إن جيء بي في الآخرة للحساب كما تعتقدون, فسأنفي أني عشت في الدنيا, وسأعترض بأني كنت سجين برنامج ماكر تبثه رقاقة إلكترونية في دماغي." جلس أبو الإلحاد فاغرا فاه أمام شاشة الحاسوب وهو لا يكاد يصدق جنون افتراضات زميله الملحد, حقا إن بين الذكاء والغباء حرفين لا ثالث لهما, وماذا يجدي عقل مثل هذا حتى تنفعه شريحة؟ هل يريد الزميل أن يقتصد النفقات الكونية حين ينفي وجود الكون برمته, ويجعله انعكاسا حقيرا لشريحة صينية رخيصة في رأسه؟ إن الزميل يعكس أزمة الإلحاد العربي المعاصر, والغريب أنه يحسب أنه أحكم لتوه بناء فلسفيا متينا, ليته يدري أنه يقعي عاريا في العراء الإلكتروني. ليتني ألتقيه يوما لأهمس في أذنه هذه الكلمات: "عزيزي, توقف عن مشاهدة برامج الكرتون اليابانية, أما يكفيك أن الشيب قد غزا رأسك؟ انظر إلى نفسك وإلى مبلغ فهمك, إنك لا تكاد تميز بين الإنسان وبين البوكيمون." لكن كيف ألوم الزميل أبا رقاقة و البروفيسور "دونكي" على علو كعبه في الإلحاد وتبحره في العلوم يؤمن بالمخلوقات المريخية الخضراء مهندسة الحمض النووي البشري؟

إن الزميل المشاكس يستحق بالفعل اسم أبي رقاقة العدمي, فهذا الموضوع الذي يكاد المنتدى ينوء بكلكله أشبه شيء بالعدم, إنه رحى إلكترونية ضخمة تدور من غير طائل, إنه ثمرة عقل تعصف فيه رياح عاتية تثيرها طواحين الأهواء المضطربة. لقد سمع أبو رقاقة الجواب منذ أسابيع, لكن شريحته تأبى عليه أن يرى العالم من حوله, إنه سجين في عالم وهمي اخترعه لنفسه. بلغ الموضوع عشرات الصحائف, وصاحبنا لا يزال يدندن حول سؤاله الأسطوري: "هل حقا نعيش على الأرض؟", لم تزل الشمس بين شروق وغروب, ولم تزل الأرض تدور, وأبو رقاقة على ظهرها لا يتزحزح قيد أنملة ولا يقر طرفة عين أنه قد مل هو نفسه من ريح سفسطته العدمية. إنه يريد أن يخرج من هذه الجعجعة الإلكترونية ظافرا منتصرا, ليحمل أخبار غزوته المجيدة إلى رفاق "الجرب والجذام", ليخبرهم كيف اصطف له المتدينون صفا متراصا, فقارعهم وحيدا فريدا حتى أفحمهم, وياليته يدرك أنه إنما يقارع طواحين أوهامه الرعناء.

جلس أبو الإلحاد يرتب أفكاره, ويخط رؤوس أقلام بقلم لاأدريته يصور بها حالة الغيبوبة السريرية التي دخلها الفكر الإلحادي العربي, فكتب: "يبدو أن الإلحاد العربي في نسخته الإفتراضية قد دخل سردابا مهلكا يوشك أن تقضي ظلماته على حلم التنوير اللاديني في منطقتنا, ويلاحظ أن كتابات الزملاء الأشاوس تصدر في بنيتها المعقدة عن ميكانيزمات الجهل المؤسس على قواعد افتراضية متينة تتغلغل في أعماق التساؤلات الإلحادية المفعمة بحب السفسطة والتطلع إلى المعدوم. ويظل نفي هذا الجهل بتحصيل العلوم المادية الباهرة ثم نقلها من الوجود الذهني والرقمي إلى الوجود الحقيقي, هو التحدي الأكبر الذي يقف أمامه الفكر الإلحادي العربي حيران مترددا. هذه هي العتبة المقدسة التي يعكف عندها عتاة ملاحدة الشبكة ويلزمونها متهيبين, لأنها تبدو كقمة إيفرست..." قرأ أبو الإلحاد هذه الكلمات فكاد يصعق, لقد أصابه أبو رقاقة بعدوى أسلوبه الكرتوني, ألقى بالورقة في سلة المهملات وهو يتساءل لأي شيء يتحسر على طرده من مواقع الزملاء؟

أبو يحيى الموحد
07-01-2011, 01:54 PM
ويظل نفي هذا الجهل بتحصيل العلوم المادية الباهرة ثم نقلها من الوجود الذهني والرقمي إلى الوجود الحقيقي, هو التحدي الأكبر الذي يقف أمامه الفكر الإلحادي العربي حيران مترددا. هذه هي العتبة المقدسة التي يعكف عندها عتاة ملاحدة الشبكة ويلزمونها متهيبين, لأنها تبدو كقمة إيفرست
بارك الله فيك و في علمك

هشام بن الزبير
07-05-2011, 08:45 PM
22 من أدب الطفولة الإلحادية

منذ أن شاع خبر إلحاده بين خواصه و أقاربه قبيل سنوات وصاحبنا منزو في ركنه, منطو على نفسه, يزحف على الأرض شريدا, ويلوذ بالشبكة وحيدا, يتحاشى الزيارات العائلية ويختلق الأعذار المتنوعة ليتملص من بعض الدعوات التي ما تزال تأتيه بين الفينة والأخرى, لكن أبا الإلحاد لم يجد بدا من الاستجابة لدعوة أخيه الأصغر هذه المرة. لقد فاجأه سفيان حين طرق عليه الباب ثم قال له: "إني أنتظرك في السيارة, لا تتأخر الجميع ينتظرونك للعشاء."

هاهوذا في غرفة الضيوف يتصنع ابتسامة باهتة ويطرق ببصره كيلا يتورط في حديث لا يدري إلى أين يفضي به كمن يحاذر دخول النهر كيلا يجرفه التيار, مضى بعض الوقت في تبادل عبارات التحية والمجاملات المعتادة حين ارتفع الأذان فجأة, فتهيأ الحضور لأداء الصلاة, حينها أخرج أبو الإلحاد هاتفه النقال كأنه تلقى لتوه اتصالا وأومأ للجمع معتذرا ثم خرج واختفى بعض ساعة ريثما يفرغ القوم من صلاتهم. حين عاد إلى مكانه جاءه بن أخيه وليد وجلس إزاءه ينظر إليه في فضول, لقد كبر بسرعة, إنه الآن في الثامنة من عمره, ابتسم أبو الإلحاد حين سأله الطفل فجأة: " لماذا لا تصلي يا عمي؟ الذي لا يصلي يدخل النار!", نظر إليه والدهشة تملأ عينيه, وسكت للحظة خيل إليه أنها دهر, وأطرق كأنه يغوص في نفسه عن جواب ينهي هذا الوضع المحرج ثم قال: "ما زلت صغيرا, سأجيبك عندما تكبر قليلا." قال وليد: "لقد كبرت بما يكفي, سمعت خالي أحمد يقول عنك (ملحد), إيش معنى (ملحد) يا عمي؟" نظر أبو الإلحاد حوله وشعر كأن الأرض تخسف من تحته, وماذا عساه يقول؟ إنه لا يعلم لوجوده ولا لإلحاده معنى, فمن أين له الجواب الذي يملأ عقل طفل؟ قال له: "أحضر لي كوب ماء رجاء." حين شرع أبو الإلحاد يشرب ويتمنى أن ينسى الصبي أسئلته قال له مستغربا: "تشرب بالشمال يا عم, الشيطان فقط هو الذي يأكل ويشرب بشماله." كاد صاحبنا يغص بالماء, نظر حوله وقد امتلأ ندما على حضوره في هذا المكان.

مضت بقية الليلة في أحاديث متناثرة لا يضمها رابط إلا الولع بالضوضاء والرهبة من الصمت, ولم تنقطع هذه الأحاديث إلا قليلا حين حضر الطعام. وما أن رفعت مائدة العشاء حتى اعتذر صاحبنا ثم انصرف لا يلوي على شيء. ظلت الأسئلة الطفولية تطارده, فقطع طريقه متفكرا في جناية المتدينين على أبنائهم, وحملهم لفلذات أكبادهم على اقتفاء آثارهم واتباع معتقداتهم. تساءل عن سر غربة الإلحاد وغرابته, وعن ذلته ومهانته. ثم خطر له أمر طالما أرقه: - هل من سبيل إلى تربية الأطفال تربية إلحادية عميقة تستسيغها عقولهم وتعصمهم من الإيمان الذي يتشربونه - فيما يبدو - بلا تكلف كما تتشرب الأرض العطشى ماء السماء؟

لم يزل أبو الإلحاد يقلب وجوه الرأي ويتفكر في سبل تخليص أهل الصبا والطفولة من والوهم والخرافة . فخطر له أن يكتب بقلم الإلحاد قصة لطيفة تشرح قصة الحياة والكون بلغة أدبية تفهمها عقول الأطفال الصغيرة وتمنحهم تذكرة الولوج إلى عالم الإلحاد العجيب في سن مبكرة. إنه يريدها قصة رمزية خفيفة الهضم يسيرة الفهم يقرؤها المتنورون لأبنائهم منذ نعومة أظفارهم, ليرضعوا لبان الإلحاد وليتخيلوا مبادئه التنويرية.

دخل أبو الإلحاد بيته وهو يفكر ويقدر, ويقدم ويؤخر, ويهمهم ويغمغم, ويحاذر أن تضيع أفكاره قبل أن يقيدها بقيد الكتابة, فكم من فكرة باهرة هجرته وولت إلى غير رجعة. سارع إلى غرفته, كأن هاتفا يملي عليه أفكاره, ويستحثه أن يتخير لها أحسن لفظ وأبلغ عبارة, فجلس إلى حاسوبه في غاية التركيز, وافتتح صفحة جديدة في مدونته وكتب العنوان التالي:


سلسلة من أدب الطفولة الإلحادية - (1) قصة الحياة:

(أيها الصبيان)
كان يا ما كان, ما كان زمان ولا مكان..
ما كان شيء ولا فيء, لا غبار ولا حجر, لا سهل ولا جبل..
كان يا ما كان, ظلام في ظلام, وخواء في خواء, لم يكن هناك حتى هواء..
لكن كل شيء كان على وشك أن يتغير إلى الأبد..
فكيف كانت البداية أيها الصبيان؟

(في البدء كانت الصدفة)

والصدفة أمرها عجيب, فلا شكل لها ولا لون ولا سمع ولا بصر..
الصدفة شيء عجيب لا نسمعه ولا نراه, لكنا نرى فعله وأثره..
لو سألنا حكماء الإلحاد, الذين غاصوا في بحور العلوم وطغوا في البلاد..
وانسلخوا من الأديان وخلعوا لباس الإيمان..
لقالوا: إن الكون انبثق من العدم والظلام صدفة.. فكان بعد أن لم يكن..
ساد الظلام زمانا مديدا و صمت الكون إذ لم يكن ثمة كون..
وصمت كل شيء إذ لم يكن ثمة من شيء..
فكيف يجيء شيء من لا شيء؟
يجيء صدفة كما قال حكماء الإلحاد..
صمت الكون الذي لم يكن, وصمت اللاشيء, لكن الصدفة بقيت تتحين الفرص..
فهي صدفة تواقة, صبورة خلاقة, إنها لن تستريح حتى يكون كون..

(الإنفجار الكبير)

وحين جاء يوم سعد الصدفة الأكبر..
أبصرت في ثنايا اللاشيء شيئا عجيبا مشعا..
فزحفت نحوه يملأ جنباتها الفضول والعجب..
اجتهدت أن تصف ذلك الشيء المشع المبهر فلم يكن لها بوصفه طاقة..
فأسمته حينذاك (طاقة), فبادرتها الصدفة بالسؤال: - أيتها الطاقة أين الهوية والبطاقة؟
حينها انفجرت الطاقة من الغيظ وانبعثت منها غازات غريبة, بمحض الصدفة..
فكان (انفجار عظيم), ورجة هائلة وفجأة كانت هناك سماء وأرض, طول وعرض, أعراض وأجرام..
نور وظلام, ماء وهواء, أنهار وبحار, كواكب ونجوم, شمس وقمر..
كذا قال أساطين الإلحاد الذين غاصوا في بحور العلوم وطغوا في البلاد..
وكانت الصدفة مستلقية على بطنها فاعتدلت جالسة, ثم تبسمت وقالت:
الآن لدي كون, لدي زمان ومكان, وها قد جاء يومي..
اهتزت الصدفة وانتفضت ثم أخرجت فجأة حجر نرد وصارت ترميه فيتدحرج, وتتأمل وتتفرج..
وتجرب وتراكم, وكل ذلك صدفة, فالصدفة لا تبحث عن شيء وليس لها غرض ولا غاية..
لكنها لا تكل ولا تمل, كما لا يمل حجر النرد؟ كذا قال أساطين الإلحاد..

(المعجزة الكبرى: أحادية الخلية)

وفجأة اجتمعت ذرات متناثرة بمحض الصدفة في بقعة خالية, فشرعت ترتعش من الوحدة..
فقالت لها الصدفة أنت أيتها الفاتنة البهية, أنت أحادية الخلية..
زحفت الخلية إلى الماء, فصارت الصدفة ترمي بها بدل حجر النرد..
ومع كل رمية تتشكل في هيئة أخرى, فطورا تزحف وطورا تسبح, وطورا تعلو وطورا تهبط..
فهتفت الصدفة في حماس ارتجت له أرجاء العالم الإلحادي: تطور... تطور... لدينا تطور..

(التطور)

لم تزل الخلية تسبح وتنمو وتتمدد حتى نبتت لها زعانف, وحين شعرت أنها تكاد تذوب في الماء..
منحتها الصدفة حراشف سميكة, فانسلت في رشاقة, فقالت لها الصدفة أنت سمكة..
ولم تزل تسبح حتى خشيت عليها الصدفة من الوحدة, فما زالت ترمي حجر النرد حتى صارت السمكة تبيض..
وسرعان ما غدا لها نسل وذرية, وبمحض الصدفة كان منهم ذكور وإناث..
وفي يوم من الأيام جرف التيار بعض الأسماك إلى الشاطئ, فمات معظمها اختناقا..
لكن بعضها ظل يزحف في حذر حتى نبتت له أطراف فمضى إلى الأدغال..
ولم تزل الأحياء تزحف وتدب في تطور ترقبه عين الصدفة الحانية, حتى قام بعضها على رجلين, وصار يتسلق الأشجار ويلتقط الثمار..
إنهم أسلافكم من النسانيس والقرود التي تقتات على الحشائش والفواكه والورود..
عاش أولئك الأسلاف المثابرون حياة الوحوش حتى اكتشف بعضهم النار وسكن الكهوف..
وتساقط شعرهم فلبسوا الثياب وبدأت إذذاك مسيرة الحضارة..
لكنها مسيرة بطيئة.. بطيئة جدا..

(الجينوم البشري ذو الأصل الفضائي)

ثم حصل شيء عجيب رواه بعض أساطين الإلحاد الذين طغوا في البلاد, إذ حط يوما من الزمن الغابر صحن فضائي على الأرض, فخرج منه كائن أخضر اللون ضخم الرأس أصلع منتفخ البطن فأخرج قارورة فأفرغ محتواها في إحدى مغارات القرود, وألقى بالقاروة الفارغة وعليها الحروف التالية (ج ي ن و م). ومنذ ذلك الحادث الغريب وتلك القرود لا تتوقف عن التطور السريع حتى بلغت من الحضارة ما نراه في أنفسنا اليوم..

فأولئك أيها الصبيان الأعزاء أسلافنا الأولون وأباؤنا الأقدمون, وجدنا الأكبر مجرد خلية بسيطة, انبثقت في عالم نشأ صدفة..
فالفضل في مذهب الإلحاد كل الفضل للصدفة التراكمية وللمخلوقات الفضائية..
ولعلكم تتساءلون: - ومن أين جاء الفضائيون؟ وهذا سؤال ليس له بعد من جواب في مذهب الإلحاد, وإن كان له جواب في أفلام الكرتون, ونحن نتطلع إلى يوم نعثر فيه بالصدفة على حل هذا اللغز...

عندها انقطع التيار الكهربائي , فكاد يغشى على صاحبنا, فإنه نسي في غمرة حماسته أن يحفظ الملف, لقد ذهب جهده العقلي سدى, يا لها من صدفة حمقاء, إنه لا ينسى مثل هذا عادة, أخذ مصباحا يدويا واتجه إلى سريره وهو يتساءل: - كم من هذه الدرر النفيسة سيبقى في ذاكرته حين يستيقظ في اليوم التالي؟

أبو يحيى الموحد
07-05-2011, 10:56 PM
بارك الله فيك

هشام بن الزبير
07-05-2011, 11:58 PM
وفيك بارك الله أخي الكريم.

عبدالرحمن الحنبلي
07-06-2011, 12:33 AM
جزاك الله خيرا استاذنا القدير هشام ....انت الوحيد حسب علمي في المنتدى الذي دخل مجال الكتابه الكوميديه ....ولاشك هذا المجال يحتكره الملاحده فتشاهد الكاريكاتيرات الساخره من الاسلام ....وتشاهد المقالات الساخره من الانبياء والرسل والملائكه ..... دخولك في هذا المجال سد ثغره مهمه في الدعوه الى الله .... جزاك الله خيرا .....اهجهم وروح القدس معك .....تحياتي لك

Maro
07-06-2011, 08:15 AM
ولاشك هذا المجال يحتكره الملاحده فتشاهد الكاريكاتيرات الساخره من الاسلام ....وتشاهد المقالات الساخره من الانبياء والرسل والملائكه

الأحرى أن نقول... هذا المجال يبرع فيه (ولا يحتكره) كل من ملحدى الغرب و من يحاربون الله ورسوله (اليهود و الماسون وأشباههم)
أما ملحدى العرب... فلا يفعلون سوى التقليد والإستشهاد بأساتذتهم من الغرب

ontology
07-06-2011, 12:23 PM
لغتك اخي الكريم أسطورية.. جزاك الله خيراً على هذا المجهود المشهود!#

هشام بن الزبير
07-06-2011, 09:55 PM
إخواني,
عبد الرحمن و مارو و أنتولوجي, بارك الله فيكم.
وأهديكم جميعا اليومية التالية...

هشام بن الزبير
07-06-2011, 10:02 PM
23 شرنقة الإلحاد

أبحر أبو الإلحاد ليلة على أمواج الشبكة الإلكترونية متنقلا بين المنتديات والمواقع المختلفة, شعر بأنه يكاد يغرق في بحر من الصور والكلمات والأرقام والخيالات. كان يقرأ مقالات المؤمنين تارة, وردود الملحدين تارة أخرى, فيظل مذبذبا متأرجحا بين الآراء المتباينة, والأحاسيس المتضاربة, أغمض عينيه وأخفى وجهه بين كفيه حين تصور أن ملايين النقط التي تشكل هذا العالم الافتراضي العجيب تهجم عليه كأنها أسراب مرعبة من الزنابير السامة, وخيل إليه أنه يحس بوخزها في سائر أنحاء جسمه وخاصة في عينيه. أطفأ الحاسوب وأشعل سيجارة. أخذ نفسا عميقا ثم تساءل عن مذهب الإلحاد وكنهه, وعن وروده وشوكه, وعن لبه وقشره وعن تخبطه وشكه. تمثلت له الصورة الفاتنة التي يرسمها الزملاء لمذهبهم حين يحاجون المتدينين, إنك إن تسمع لأقاويلهم لتحسب الإلحاد جنة وارفة الظلال طيبة الهواء واسعة الأرجاء يحيا فيها المتنورون حياة هنيئة طيبة تهب عليهم فيها نسائم الطمأنينة واليقين الإلحادي, فيرفعون رؤوسهم في فخر واعتزاز ليلتقطوا في كل لحظة ثمرات التنوير اليانعة, في بيئة اجتثت منها رواسب الخرافة وغرست فيها أغراس العلم وارتفعت صروح الحضارة. يا لها من صورة مغرية يسيل لها لعاب من اكتفى من الإلحاد بما يدعيه أهله, أما من خبره واكتوى بشواظ ناره المحرقة كما اكتوى أبو الإلحاد فإنه يعلم أن هذه صورة لا تصلح إلا للدعاية ولمجادلة الخصوم.

ما أشبه صنيع الزملاء في تزويق ملتهم العوجاء وتنميق مذهبهم الأعرج بصنيع الشيوعيين في دولتهم البائسة البائدة. لقد أقام البلاشفة للبروليتاريا جحيما مرعبا وأحاطوه بالأسوار العالية الملونة, ثم طفقوا يرسمون صورة خيالية لجنة يحبر فيها مجتمع فريد تخلص من رواسب الرجعية والطبقية وانعتق من كل القيود المادية والمعنوية, لقد أحكم الزملاء آنذاك حبك خديعتهم حتى انطلت على طائفة من عقلاء العالم, فحسبوا نار الدولة الحمراء ماء عذبا فراتا.

تساءل صاحبنا عن أعظم ما يقض مضجعه حين يضطر للدفاع عن مذهبه, فوقع في نفسه أنه افتقاره دوما للخروج من قوقعة الإلحاد الضيقة ليستعير من قاموس الخصوم وأفكارهم ما يستعين به في الرد عليهم, إن الإلحاد يضيق عليه كلما أراد أن يناظر خصما في أصول الأخلاق وقيم العدالة والخير والشر والمسؤولية والجزاء. إنه يبدأ خيانته للمذهب الإلحادي عادة بهذه الجملة الماكرة: "لنسلم جدلا أيها الزميل المؤمن,على سبيل التنزل..." إنه يعلم أنه ليس تنزلا ولا جدلا, لكنه العجز الفاضح عن تفسير العالم تفسيرا ماديا محضا.

إنه يشعر بالصداع النصفي حين يضطر ليستعمل مصطلحات ملوثة ميتافيزيقيا في جداله لأهل الإيمان, إنه يشعر بنفسه عاريا حين يتحدث عن الضمير الإنساني وعن الفضيلة والرذيلة وعن السلوك الأخلاقي. إن الإلحاد لا يرى في الكون إلا فضاء ماديا تسبح فيه مادة صماء تحكمها قوانين مادية صارمة, إن الإلحاد لا يرى وجودا لشيء غير مادي أبدا, وإن وجد شيء من ذلك في تفكيره, وهو الملحد الجلد فإنما هو من رواسب الأفكار الرجعية, فكيف لم يستطع بعد كل تلك السنوات الخدّاعات أن يخلص إلحاده من تلك الشوائب المزعجة؟

إنها سلسلة طويلة من المسائل التي تحير الفكر المادي كأنها من طينة أخرى غير طينته. لكن بينها شيئا مشتركا, إنها محاولة لترجمة العالم المادي إلى لغة غير لغته, إنها أحكام يصدرها العقل الإنساني الذي لم يتحرر بعد من رواسب المعتقدات الدينية, بعد أن يعرض وقائع العالم المادي وتفاعلاته الدقيقة على ميزان آخر, له مقاييس أخرى غير مقاييس المختبر. إنه ميزان لا يقيس الحجم والكثافة والحرارة وغيرها من الخصائص الفيزيائية للمادة, بل يسعى للحكم عليها من جهة الخير والشر والعدل والظلم والحق والباطل والصلاح والفساد. إنها منظومة متكاملة من الأحكام الميتافيزيقية الفضفاضة التي يتوهم المتدينون قدرتها على كبح جماح العالم المادي بقوته القاهرة وحتميته الباهرة. لا يهمني كثيرا أن يبقى المتدينون أسرى أوهام الأخلاق والخير والعدالة, الذي يحيرني أني ما أبرح أستقي من ذات المعين الذي يغرفون منه هذا الفكر الأسطوري, وأنني لا أقوى على التبرؤ الكامل منه. فهل أستطيع أن أنفي أني أشعر بمعنى العدل والظلم وبحقيقة الخير والشر؟ إني أرى مثلا أن الحكم على نتائج تفاعلات العالم المادي بمعيار العدل والظلم يعد في حد ذاته ظلما للمادة, يا للمفارقة, إني أسعى لإلغاء سطوة هذه المقاييس الغريبة فأجد نفسي في كل مرة واقعا في فخها متخبطا في شباكها!

إني كلما جادلت متدينا وبارزته في حزم وشجاعة كما يليق بفرسان الإلحاد الصناديد, وحملت عليه بسيف التسفيه أبغي نسف بنيان معتقده, كلما تمنيت ألا يفتح علي باب هذه المتاهة العجيبة. إن أخشى ما أخشاه إن انتقدت على الخصم اختياراته وقناعاته أن يجيبني: "وأي شيء يضيرك فيما أراه وأقوله وأختاره أيها الزميل الملحد, أليس كل شيء محكوما بقوانين مادية دقيقة؟ فما وجه الإنكار أصلا؟ "كتلة مادية لها تفاعلات إلحادية تنكر على كتلة مادية لها تفاعلات إيمانية", قل لي أيها الزميل, بأي قوانين مادية استطعت أن تحكم على تفاعلاتي بالبطلان والفساد, بل من أين جئت بحكم البطلان والفساد أصلا؟"

حينها أخرج مكرها من بيت الإلحاد البارد إلى العراء الفسيح, حيث تلفحني شمس الميتافيزيقا, وتعصف بي رياح الأفكار المثالية المهلهلة, لكم أشعر بالمهانة حين أضطر للإستعارة من قاموس الإفتراض, وأقترض من لغة الإعتقاد, إني أكاد أظن حينذاك أن الإلحاد مشرف على الإنقراض. وما للمادة والإفتراض؟ إن المادة لا تفترض شيئا, إنها لا تقف قط في مفترق طرق حائرة متفكرة, تحك جبينها متساءلة: "أيجدر بي أن أمشي يمينا, أم أن الأولى أن آخذ ذات الشمال؟" هل تصورتم أن الذرات والإلكترونات تهبط إلى هذا الحضيض من الترف الفكري الميتافيزيقي؟ إن هذا لغو وهراء لا تعرفه المادة وأنا مادة, فمن أين جاءني هذا السلوك العجيب؟

تظل هذه الأسئلة القاتلة تهجم على رأسى كأنها مطارق مدببة, كالتي استعملها محاربوا الشمال في العصور المظلمة, إلى أن أيأس من الحصول على جواب, فأعود ذليلا صاغرا إلى بيت الإلحاد المتهالك, لعله يهبني شيئا من الدفء والسكينة. لكن هيهات.
إني يرقة إلحادية يتيمة تؤوي إلى شرنقة ضيقة, شرنقة الإلحاد, إني يرقة تتوق أن تصير يوما فراشة مضيئة تسهم في تنوير مجتمع لا أرى فيه إلا الظلام ولا أرى أهله إلا كالهوام, لكني كلما أردت أن أنشر أجنحتي فأطير مبشرا بملة التنوير, كلما شعرت أني أنا من يتخبط في الظلام. إني لا أغادر الشرنقة إلا لأكتشف أن العالم خارج خيوطها المتشابكة أرحب وأوسع. أجادل غيري باسم الإلحاد وأهاجمه بلسان من أمسك بناصية المعرفة وتمكن من زمام العلم, فما يلبث الهجوم أن يرتد إلي, فلا أجد مناصا من طرح الإلحاد وماديته وصرامته وحتميته خلف ظهري, لأتطفل على ميزان الخير وجماله والشر وقبحه والعدل وتناسقه والظلم وتناقضه, ثم أعود بعد هذا كله إلى شرنقتي المتهالكة, التي تتمزق في كل مرة أنسل من بين خيوطها المتشابكة وفي كل كرة أعود فيها إلى تلافيفها الضيقة, إنها صارت مع مرور الليالي والأيام أوهى من بيت العنكبوت. إني أحيا حياة النفاق, إني أعاني أعراض انفصام الشخصية.

تساءل صاحبنا في نفسه: "ما دمت أرى هذا كله فما الذي يبقيني مستمسكا بالإلحاد؟" حينها طرق رأسه سؤال: "وهل تظن أن كل أولئك العباقرة الأفذاذ كانوا على باطل؟" ضبط نفسه مرة أخرى يستعير من غير قاموس المادة, وهل تعرف المادل "التساؤل" و"الظن" و"البطلان"؟ ويئس أن يصل الليلة إلى مخرج من متاهته المظلمة فوضع رأسه على مكتبه وقد غلبه الإجهاد, ولم يشعر بنفسه إلا وهو يغط في نوم عميق.

أبو يحيى الموحد
07-06-2011, 10:17 PM
يا اخي......اقصى ما استطيع ان اقوله....جعل الله مثواك الجنة

هشام بن الزبير
07-06-2011, 10:23 PM
أخي سلمة, أسأل الله أن يجزيك خيرا أن دعوت لي بخير الدعوات وأن يجمعنا جميعا في مستقر رحمته.
أخي الكريم, هذه السلسلة التي تراها هنا ثمرة من ثمار المنتدى, فالمادة اللازمة لها متوفرة بكثرة هنا, وربما كان في كل جملة يكتبها ملحد ما لا يحصى من اللفتات التي تصلح لتشريح هذا الفكر المنحرف بصورة تشبه ما أحاوله هنا. لكن تشجيع الإخوة يسهم في إثراء الموضوع, فبارك الله فيكم جميعا ولله الحمد أولا وآخرا.

هشام بن الزبير
07-07-2011, 09:20 PM
24 هلوسات إلحادية

استيقظ أبو الإلحاد ورأسه لا تزال متورمة من فرط تأملاته حول ضنك الإلحاد وخزيه وتهافت بنيانه وضيق شرنقته. أحس أن عِرقا هائجا ينبض في جمجمته. قضى يومه شاردا عابسا متفكرا. ولما عاد من عمله آخر اليوم, أتى مكتبته فأخذ يتصفح كتاب "إفحام أهل الملل والأديان". لقد هوى به هذا الكتاب منذ قرأه قبل سنوات إلى قعر مستنقع الإلحاد, وجلّى له كثيرا من الحقائق التنويرية التي ما تزال توجه دفة حياته البئيسة. نظر في الفهرس وهو يمني النفس أن يجد شيئا يدفع عنه الحيرة والإضطراب الذي استحوذ عليه منذ فترة, فخطر له أن يقرأ الكتاب مرة أخرى تجدد له إلحاده الرث.

قرأ صاحبنا كتابه المفضل متمعنا حتى كاد يحفظه, فخيل إليه أنه صار ورشة متنقلة لتفكيك أوصال المعتقدات الدينية ولكشف مغالطاتها المنطقية, وسقط في روعه أنه طرد عنه كثيرا من شكوكه, بعدما أوشك أن يخسر معركته مع هواجسه ووساوسه. جلس يتفكر في حاله, وأن الحكمة تقتضي أن ينقل المعركة إلى أرض أخرى غير أرض نفسه, فإن خير ضروب الدفاع الهجوم كما هو معلوم. إن الإلحاد نار تستعر في أحشائه, فإن خلى بينها وبين نفسه حرّقته وذرّته في الهواء. فليهجم إذن على أعداء الإلحاد في ديارهم وليُجلب عليهم بما وقر في قلبه من دلائل الفلسفة والمنطق, لعله يستعيد شيئا من ثقته بنفسه و اعتداده بكفره وعناده. أبحر أبو الإلحاد بحاسوبه على أمواج اللجة الإلكترونية يحمل أوساق الأماني حتى رسى في إحدى المنتديات التوحيدية يمني النفس بغزوة تنويرية مجيدة.

حل صاحبنا بساحة الخصوم منتشيا والفخر الإلحادي يملأ خياشيمه, وقصد قسم التسجيل ليلبس لهذا الموقع ما يليق به من الثياب الرقمية, فإن الأسماء المستعارة حلية المنتديات الإلكترونية وزينة المواقع التواصلية, وبها يتميز اللبيب الفطن من بين أفواج الأغمار والمجاهيل, ذوي الأسماء الباهتة والمعرفات الشاحبة. فجراءة الملحد شطر رأس ماله الإلكتروني وشطره الثاني معرف رنان. بدأ أبو الإلحاد ينقر على لوحة المفاتيح في ثقة حروف معرفه الجديد: (ملحد وبس), ثم بدأ ينسج موضوعا يندرج تحت ما يسميه النقاد غرض (الإلحاد الهجومي الإنترنيتي). شعر بالزهو من سلاسة أفكاره, كانت كلماته تسيل دونما عناء فتملأ الشاشة أمامه, كأن صفحات الكتاب الذي أنهاه لتوه ما تزال ماثلة أمام ناظريه مرتسمة في مخيلته, كتب عن القضاء والقدر وعن الوجود والعدم وعن العقل والروح وعن الحدوث والأزل وعن الجواب الإلحادي الحاسم لكل تلك المقولات الدينية التي لا يراها إلا ستارا شفافا تحجبه أسوار من المغالطات المنطقية الماكرة. لقد بدا أبو الإلحاد كمن يحاول نفض غبار التدليس عن تلك المفاهيم المختلفة, لكنه في واقع الأمر إنما كان يسعى ليزيح سحائب الشك عن نفسه المتحيرة. كان يجادل نفسه ويقارعها وإن كان خطابه في الظاهر لغيره. تلقى صاحبنا جوابه الأول من أحد كتاب المنتدى, يدعى (أبا الخطيب). وقد عقب على موضوعه بالكلمات التالية:

"مرحبا بك أيها الزميل, تعجبني حماستك وسيلان قلمك, إذ طرحت في سطور من التساؤلات ما لو أجبناك عنه لما انتهينا خلال شهور, لكن دعني أسألك سؤالا يهمني جوابك عنه: "هل أجبرك أحد ما على اختيار الإلحاد؟". قرأ (ملحد وبس) التعقيب فحرك رأسه متعجبا, يا له من سؤال؟ طبعا أجاب أنه شق بنفسه ولنفسه سبيل الإلحاد الموحشة, كما تشق السفينة عباب البحر الهائج, ولن يضيره أن يقف أهل الأرض في وجهه فهو إنسان حر. عندها جاءه السؤال الذي لم يذكر أنه طرق سمعه قط, ولم يعرض له صاحب كتاب "إفحام أهل الملل" بل لم يحم حوله على كثرة ما أورد على الخصوم من المسائل الفلسفية والإشكالات الميتافيزيقية, سأله محاوره: "أيها الزميل هل لك أن تخبرنا عن أي قانون مادي صدرت إرادتك الحرة؟ وكيف استطاع جسمك المادي أن يعي مفهوما لا وجود له في العالم المادي البتة, ألا وهو مفهوم (الحرية) والإختيار والإرادة الحرة؟" قرأ صاحبنا السؤال مرارا, وكلما هم بجواب بدا له هزاله وخفته فعدل عنه إلى غيره, حتى يئس أن يتحصل له شيء ذو بال في المجلس نفسه. تحسر على أيام خلت كان فيها حاضر الخاطر متوقد الذهن سريع البديهة. فاختار بكامل حريته التي لا يفهم لها كنها ولا مصدرا, أن ينسحب بشرف قبل أن يفتضح أمره.

أطفأ الحاسوب وهو يتفكر في وجه الخروج من هذا الفخ المحكم, هل حقا يملك الإختيار الحر؟ أم أنه آلة مادية متطورة مبرمجة؟ فجأة خطر له خاطر عجيب, تساءل ما الذي يمنع أن تكون المادة التي تشكل هذا العالم نفسها تملك حرية الإختيار؟ ماذا لو كانت مع ذلك في غاية الحكمة, فهي لا تختار إلا الأفضل, ربما كان الأمر كذلك, فلما تتبع الإنسان حركتها ودرس سلوكها ظن لفرط جهله أنها لا تملك إلا السير في تلك المسالك الرتيبة التي كشف عنها العلم بعد قرون من الملاحظة والتجربة والتأمل؟ ماذا لو كانت المادة أرقى من هذا الإنسان المغرور؟ إنها تسير وفق قوانين مادية اختارتها بمحض مشيئتها الحرة لأنها اكتشفت أنها الأفضل والأحكم. تخيل أبو الإلحاد ما الذي سيحل بهذا العالم لو أن الجمادات والسوائل والغازات التي تملأ الكون سلكت فجأة مسالك البشر واقتدت بهم في تخبطهم وتضارب اختياراتهم وتذبذب مواقفهم؟ أحس لوهلة أن كثيرا من الزملاء من بني جنسه أحط شأنا من بعض الجمادات. أحس بجفونه تنطبق رغما عنه, كان يشعر بالعطش ويود لو يشرب كوب ماء قبل أن يستسلم للكرى.

حمل أبو الإلحاد كوب ماء ورفعه إلى فيه, لكنه استحال في سرعة البرق جليدا كاد يكسر ثناياه, لم يصدق عينيه, لكن الماء استحال من غير سبب ظاهر ,وفي يوم مشمس, قطعة من جليد كأنها الصخر! أخذ قنينة أخرى فسكب منها ماء يملأ الكوب, فخيل إليه أن الماء يتبخر, حين هم أن يشرب, لم ينتبه إلا والبخار الحار يكاد يشوي صفحة وجهه. ألقى بالكوب والفزع يملأ كيانه. هل هي مقدمات الجنون؟ همّ أن يجلس على أريكته فلم يشعر إلا وهو منبطح أرضا, لقد ضنت الأريكة بنفسها عليه فانزاحت بمقدار ذراع, ما الذي يجري؟ كيف تتحرك أريكة من خشب وجلد؟ بل كيف تختار لذلك اللحظة المناسبة لينال هذه السقطة المؤلمة؟ لا بد أنه يفقد عقله شيئا فشيئا, نظر إلى السقف فخيل إليه أنه يتأرجح, فهرول مسرعا يريد الباب, لكن أنى له بفتحه؟ لم تفلح كل محاولاته ومفاتيحه في قهر هذا الباب الخشبي, فجأة رأى النافذة مفتوحة فأطل منها لعله يجد من ينقذه من هلوساته, لكنه لم ير أحدا, إما أنه جن, أو أن العالم من حوله يتصرف بخلاف ما اعتاده طيلة حياته, يبدو أن العالم المادي اكتسب أبرز صفات الشخصية الإنسانية, لم تعد مادته بذلك الحزم والإنضباط والثبات الذي عهده, بل إنها صارت تتسم بنفس خصيصة الإنسان: استقلال الإرادة وحرية الإختيار. يا له من كابوس مرعب! لقد أصبح العالم فجأة خضما مضطربا لا وثوق بشيء منه, كل ذرة حوله تتصرف كأنها ابتلعت صيدلية كاملة من حبوب الهلوسة. رأى العمارات تذوب ذوبان الشحم على النار, ورأى النار باردة والماء محرقا والحديد سائلا. رأى كل شيء يمضي في غير الوجهة التي انطبعت في ذهنه منذ عقل, ولا يؤدي شيئا مما يفترض أنه الحكمة من وجوده, لم يبق شيء حوله قابلا للفهم والتوقع. ود لو كان للأشياء سمع فيخاطبها, ويستفسرها ويرجوها أن تلين له وأن تستجيب لإرادته, لكن شيئا من ذلك لم يحدث. بدا له ألا انتفاع بشيء أبدا على هذه الحال. حتى الآلات صار لها اختيار ومشيئة. هاهي ذي السيارات لا تطيع ركابها, بل تمضي حيث شاءت ولا تعبأ لشيء يخالف إرادتها. لقد صار العالم المادي بحذافيره غارقا في أتون مستعر من الحرية المطلقة. رأى أبو الإلحاد نفسه يجري في العراء يحاذر أن يسقط عليه جدار أو أن يحرقه معدن سائل أو يخنقه غاز قاتل. ظل يجري وأنفاسه تكاد تنقطع, رافعا يديه يذب بهما عن نفسه ما يتقاطر عليه من شظايا العالم المادي المجنون المفتون بحريته المكتسبة, بحث يائسا عن شيء مادي يستطيع الإحتماء به, بحث عن شيء ما يزال يحيا وفق القوانين المادية الجبرية, أمسك شيئا لينا ناعم الملمس بيديه وأخفى وجهه فيه فشعر بالأمان, فتح عينيه فإذا هو يغطس بوجهه في الوسادة المبللة والعرق ما يزال يتصبب من جبينه, فاعتدل جالسا يسترد أنفاسه متعجبا من غرابة كابوسه ويمسح بكمه جبينه. وهمهم: "ما أسعد العالم المادي بجبريته وما أتعس الإنسان بحريته!"

هشام بن الزبير
07-09-2011, 05:29 PM
25 كازينو الإلحاد

لقي أبو الإلحاد صديقا له أثناء سفرة إلى العاصمة, فجلسا يتسامران في حانة (كل شيء على ما يرام) وسط المدينة. لم يكن قد رآه منذ سنوات طوال. عجب لتبدل حاله, إذ كانت علائم الثراء بادية عليه. كان يتكلم في ثقة ويمشي في خيلاء ولا يفتأ ينظر إلى ساعته الفاخرة ويقلب في يده هاتفه النقال الذي يفوق في سرعته وسعة ذاكرته حاسوب أبي الإلحاد بمراحل. وحين هم صاحبنا بالإنصراف هم أن يستفسره عن سر النعمة السابغة البادية آثارها على محياه حين سأله فوزي: "لماذا لا تقضي الليلة معي؟ سنستمتع سويا وربما نكسب بعض المال؟" نظر إليه في استغراب, ولم يلبث أن وجد نفسه في مكان لم تطأه قدماه من قبل.

كانت الألوان تنبعث من كل حدب وصوب, تمتزج بأصوات الألحان والضوضاء التي تلف المبنى, كانت أمارات البذخ والترف تبدو على هذا المكان وأهله. خيل إليه أن كل شيء حوله يعبق بريح المال والنعمة. قلب بصره في وجوه الحاضرين فرأى رجالا ونساء منكبين في لهوهم وقد أقبلوا على أصناف الآلات المبثوثة هنا وهناك. إنه عجيب عالم الكازينو. لأمر ما يستهوي اللون الأحمر الناس, إنه لون الدم واللحم ولون الشيوعية وهو اللون الغالب على هذا المكان. تساءل صاحبنا عن لون الإلحاد فترجح لديه أنه أسود قاتم. وقف خلف شيخ في السبعين يحمل في قبضته قطعا نقدية يلقمها آلة لا تشبع, كان يشخص ببصره مترقبا كلما ألقى قطعة, فتنبعث من الآلة أصوات صرير وأزيز ثم تشرع أشكال وصور في الدروان, سيارة حمراء, عمارات, حلي, كان يتوقع كل مرة أن تستقر تلك الدواليب الثلاثة الصماء على نفس الصورة لكي تلفظ الآلة أرطالا من القطع المعدنية الرنانة, لكن شيئا من ذلك لم يقع, نظر إليه أبو الإلحاد بمزيج من الشفقة والشماتة وهو يتخيله واقفا أمام هذه الآلة المخادعة منذ كان شابا غضا طري الإهاب, ترى كم مرة ابتسم الحظ في وجهه وأسمعه رنين الدراهم التي تنهمر كالمطر؟

ظل يرقب حركة المكان في شرود, ويعجب من خضوع البشر للصور والخيالات في جريهم المحموم وراء الحظ العابس, ومن لزومهم لآلات اخترعوها لعلها تتبسم بين الفينة والأخرى في جوههم. أحس بنفسه وقد غمرته أمواج من الأرقام والحروف والصور والرنات, تحيط به الكراسي الفارهة والشاشات العملاقة. ثم خطر له أن التصور الإلحادي للكون غير بعيد من واقع هذا المكان. إن التفسير المادي لنشأة الحياة بمحض الصدفة عبر تسلسل عشوائي عبثي, ثم تطورها عبر طفرات عمياء متراكمة يجعل الكون أشبه شيء بكازينو عملاق, لا تحكمه إرادة ولا قصد ولا هدف.

في كازينو الكون الإلحادي تدور العجلة لتستقر كل مرة على نتيجة معينة, ثم تدور مرة أخرى, على هذا الوجه -زعموا- نشأ كل شيء, هكذا نشأت الغازات والسوائل والجمادات, هكذا تكونت النجوم والكواكب والمجرات, هكذا تكونت الجراثيم والحيوانات والحشرات, هكذا تكون الإنسان كي يطلع على هذا الكون العجيب ويعيه ويستكشفه ويعجب به, هكذا تكونت أجهزته الحيوية المعقدة, هكذا نشأت كرياته الحمراء والبيضاء, هكذا تكونت معلومات حمضه النووي الموسوعية. إنه كازينو لا يكافئ الفائز فيه بالجوائز المالية, بل يهبه الوجود والحياة والوعي. إن الإنسان في المذهب الإلحادي الدارويني ليس إلا فائزا محظوظا يدين للصدفة والإنتخاب المادي الطبيعي بكل ما ينعم به من وعي وفكر وإبداع. يجب على الإنسان الملحد أن يتواضع كثيرا, فليس له الفضل في شيء أبدا, إن هو إلا ذرة حقيرة في كازينو تدمن ذراته المادية المقامرة. إنها مقامرة كونية مادية عبثية مستمرة, لا تعرف حدودا ولا ضوابط, إلا ضابط الصدفة التراكمية. نظر أبو الإلحاد حوله وتساءل: "هل يعقل أن يكون الكون مجرد كازينو؟ لكن هذا الكازينو الأرضي لم ينشأ صدفة, ولم ينشأ بفعل مقامرة, بل إن أصغر عجلة فيه ثمرة دراسة وحساب وهندسة, فمن أين جاءت العجلة الكونية التي يفترض أنها بدأت يوما ما بالدوران؟ وكيف عرفت أنها حققت شيئا ذا بال حتى تتوقف عند نتيجة ما, ثم تراكم ما حصلته؟ هل تقوم الطبيعة بالتخمين كل مرة قبل أن تدير العجلة؟ إن في هذا الكازينو عمال صيانة وكهرباء ومراقبة ومحاسبة, فضلا عن الزبناء المقامرين, العابرين والمدمنين. إن ههنا عجلة ومن يديرونها, لكن الإلحاد يريد أن يوهمنا أن اللعبة واللاعب والملعب والقواعد والنظام والنتيجة والحساب كلها شيء واحد, وأن العجلة والدوران والمدير شيء واحد, وأنها جميعها ثمرة صدفة مقامرة..." أحس بيد تربت على كتفه, استدار فقال له فوزي: "تعال لترى كم هو سهل كسب المال, كم معك؟" أجاب مترددا: "معي ألفان وخمسمائة درهم" كان قد حصل للتو على راتبه. مد فوزي يده, فما شعر أبو الإلحاد بنفسه إلا وهو يخرج من جيبه الظرف ويعطيه المال كاملا.

جلس فوزي إلى الطاولة تغمره النشوة, وفي عينيه بريق الواثق من الفوز, وبدأ يقلب الأوراق ويدير العجلة, نظر إليها أبو الإلحاد تدور عيناه معها كأنه يستعطفها أن تقف منه موقفا يليق بالزمالة المادية الكونية. تسارع نبض قلبه وهو يرى أنه تحت رحمة قوانين مادية صارمة لا تحابي أحدا, تفكر في سرعة العجلة وقوة احتكاكها بالهواء, واحتمالات حصول الفوز. وحين بدأت سرعتها بالتباطؤ رآها تتجه نحو الأرقام الكبيرة: مائة ألف, خمسون ألفا..., كاد قلبه يخرج من صدره, ظلت العجلة تدور حتى توقفت أخيرا وحطت الرحال عند الرمز العجيب الذي يترجم للعدم: "صفر" كاد يغمى عليه, لقد فقد لتوه مرتب شهر كامل, من أين له الآن ثمن إيجار البيت؟ بل ماذا سيأكل؟ يا ويله من أم الإلحاد! كيف له أن يخبرها بأمر كهذا؟ التفت حوله ليسأل فوزي أن يعيره بعض المال, لكنه لم يجد له أثرا, خرج صاحبنا من الكازينو كئيبا تتقاذفه الهموم وينظر إلى السماء تارة وإلى الأرض أخرى وهو يكاد يجزم أن الفكر الإلحادي أكبر مقامرة أقدم عليها في حياته, ويتمنى أن يخرج يوما من عالم كازينو الإلحاد كما خرج من هذا الكازينو الصغير دون أن يخسر نفسه.

هشام بن الزبير
07-14-2011, 09:21 PM
26 ألاعيب الحارات الإلحادية

مرت سنة على طرد أبي الإلحاد من منتديات الزملاء اللادينيين والمتشككين والملحدين, سنة كاملة من الضياع والحيرة والتخبط والغضب. كانت وحدته أشد ما يغيظه بعدما افتقد الحضن الدافئ الذي كان يؤويه؟ طالما لاذ بتلك المستنقعات الفكرية الآسنة, من شواظ المجتمع المحافظ الذي يحيط به, وطالما التمس السلوى في مواضيع الزملاء التي تفيض عنادا وثقة في مذهب الإلحاد. سنة عجفاء كاملة مرت عليه فيها أزمات كادت تذهب بالبقية الباقية من عقله, وأتت عليه فيها ساعات ظن أنه قد شارف الجنون. هاهو يبحر بحاسوبه ميمما شطر أعتى منتديات "الجرب والجذام", لعله يسترجع ذكريات أيام خلت تعبق بريح الشك وبريح الإلحاد.

لكم كانت صدمته كبيرة حين وجد وكر الثعالب مهجورا كئيبا, كأن عناكب افتراضية نسجت شباكا رفيعة على أبوابه. راجع شريط المواضيع الجديدة فاكتشف أن آخر موضوع يرجع إلى شهور, وأن كل ما كتب بعدها بقبقة إلكترونية فارغة. لقد كسدت سوق الزندقة الإلكترونية وتلاشت أسهم الهرطقة الإفتراضية كالهباء. ابتسم حين خطر له أن زملائه لم يكونوا أحسن حالا منه, يبدو أن الملحد كائن منبوذ سواء تحزب مع أضرابه أو اعتزلهم وخلا بنفسه. جلس يتفكر في أسباب هذه الحال البئيسة التي تخيم على الموقع. لا بد أن مرجع ذلك إلى طبيعة الإلحاد نفسه, فهو مذهب سلبي عدمي, لا يقوم إلا على النفي والإنكار, ولا يستمد وجوده إلا من نقد الإيمان وازدراء الأديان, فما أشبهه بالنار وما أشبه نفَسه العدواني بالحطب. لقد استنفذ الزملاء كل طاقتهم في تسفيه خصومهم وفي معارك الشتم والقذف والكلام البذيء, حتى إذا فرغوا من ذلك كله جلسوا كالأيتام ينظر بعضهم إلى بعض, فما تراهم يصنعون؟ لقد شتموا الخصوم وسخروا من معتقداتهم دهرا, ثم قعدوا بعد ذلك كله منبوذين في ناديهم, فانقلبوا على أنفسهم فأوسعوها شتما ولعنا. تصفح بعض المواضيع فألفاها ركيكة المبنى رخيصة المعنى. هذا يدعو إلى اغتنام العمر القصير في اقتناص كل متعة والغوص في لذائذ الحياة واهتبال كل فرصة في سبيل ذلك, وذاك يتشدق بذكائه ولباقته, ويفخر أن إلحاده انطلى على أقرب الناس إليه. يا له من حضيض مهين, لقد انحدر الزملاء إلى حياة النفاق. خطر لأبي الإلحاد أنه لم يخسر في النهاية شيئا يذكر بنفيه عن المجتمع الإلحادي الإفتراضي, لعلها كانت فرصة ثمينة ليجدد بحثه وليمحص أفكاره.

طفق صاحبنا متأملا في حاله وحال زملاء أمسه, غارقا في أفكاره حين لمح في شريط المواضيع الجديدة عنوانا مثيرا تحيط به علامات التعجب: "!!! فكرة عبقرية لتنشيط المنتدى!!!" دخل مسرعا تسبقه آماله, فقرأ موضوع الزميل (طرطور), إنه يعرفه, هذا زميل ملحد من الدرجة الثالثة, إنه يعرفهم من توقيعاتهم, المثقف منهم يتخذ لنفسه توقيعا رنانا, يوحي بسعة الإطلاع وبالرغبة في الحوار ومعرفة أفكار الخصم. أما صاحبنا (طرطور) فقد اختار توقيعا يفضح ضحالة عقله ويشي بهزالة فكره: [ الفعل هو دليل عدم وجود الفاعل.فالفاعل هو بحد ذاته فعل.ومهما عدنا بالسببية للوراء فسوف نجد فعلا بدون فاعل، فلا بد أن نعترف أن الفعل لا يحتاج لفاعل، الفعل مفعول بدون فاعل.] قال يحدث نفسه: "يبدو أني تسرعت في استبشاري بالموضوع, وأي شيء يجيء من مثل هذا؟"

بدأ الزميل يشرح لرفقاء "الجرب والجذام" فكرته العبقرية قائلا: " كما ترون فنحن في بطالة وفراغ قاتل, والمنتدى صار كالخربة, تنعق فيها غربان الحداثة, وتنقنق فيها ضفادع اللاأدرية وتعوي فيها ذئاب الإلحاد -طبعا أمزح معكم- باختصار أنتم ترون بأم أعينكم ما نحن فيه, وقد جئتكم باقتراح نحرك به مياه التنوير اللاديني الآسنة, ونوجه دفة السفينة الإلحادية وجهتها الحقيقية, لقد عزمت أن نهجم على أكبر مواقع الخصوم, وأن نغير عليهم بما يفحمهم, فلنجعل هذا الشريط ورشة إلكترونية لتهيئة الفكرة, أرى أن نسأل الزملاء أين توجد الأرض السابعة, ونلزمهم بالإجابة العلمية وبالحجج الجيولوجية, فما رأيكم, ومن أين نبدأ؟ قرأ أبو الإلحاد هذا الجزء من الموضوع فأصيب بالإحباط, وأحس بأنه في رفقة شرذمة من المراهقين الأغمار, أو الكهول البطالين, أي شيء أصنع بك وبموضوعك يا طرطور؟ ظننتك وقعت على حجة علمية تشد من أزر الملة الإلحادية المتهالكة, ظننتك وقفت على الدليل الدامغ لصحة العقيدة الداروينية, ظننتك جئتنا بالبرهان الساطع على نظرية الأكوان المتوازية, حسبتك جئتنا بمقال عن خبايا الحضارة المريخية, فإذا بك تعود بنا إلى الألاعيب الصبيانية, وإلى لهو غلمان الحارة, تريدنا أن نلعب "الغميضة"؟ انتظر صاحبنا حتى اكتملت فصول المسرحية الإلحادية وانصرف الممثل المغرور ليفتتح فصلها الأول, فدخل الموقع المسلم وهو لا يكاد يشك في أن زميله يوشك أن يقع على أمر رأسه.

بدأ أبو الإلحاد يتنقل بين المقالات, ويتأمل في الحوارات, فوجد لغة سائغة وكلاما سلسا. ثم نظر في ردود الملاحدة فألفى أكثرها مغرقا في التكلف, كان يقرأ الجملة ثم يعيدها لعله يظفر منها بشيء, فلا يزيده تكرار النظر فيها إلا حيرة, كأنها كتبت بالفارسية. هذا أحدهم سمى نفسه "كوبرنيكوس" سئل عن دليله على إلحاده فتكلم بكلام لا يدرى بطنه من ظهره ولا رأسه من قدمه: "النظر العقلي المجرد في هذه المسألة الأنطولجية يفضي إلى ولوج مساحات من التساؤلات الفلسفية التي تستدعي معقولية وفكرا منطقيا يجتاح فضاءات مسكونة بالمجهول, وهذا معنى النسبية, وهذا جوهر خلافنا مع المتدينين الذين يصدرون عن فكر ينبني على إيمان ميتافيزيقي بالمطلق, السؤال هو كيف انبثق المعنى والغاية والنظام والتصميم والإبداع من اللامعنى واللاغاية واللانظام واللاإبداع, هذا السؤال في نظري لا يمكن الإجابة عنه بالرجوع بالبشرية إلى الماضي واستلهام الموروث الديني, بل بتصحيح أوضاع حركة التنوير اللاديني. إن الكون نسبي لا معنى له من دون حركة رصد, فالراصد والمرصود, والشاغل والمنشغل, والماسك والممسوك, في النهاية شيء واحد, وهذه هي القبعة الفكرية للإلحاد في أعمق تجلياته, فكيف تريدونني أيها الزملاء أن أترك هذا الثراء الفكري والمعرفي بحذافيره لأعتنق معكم تصورا بسيطا للكون يهبك جوابا مباشرا عن كل هذه الأسئلة؟"
قرأ أبو الإلحاد كلام زميله مرارا, فهاله ولعه بالحشو وتكلف العبارات الجوفاء التي تستر من المعاني ما يحصل بأدنى مؤنة وأقل جهد. ثم ظهر موضوع الزميل الذي انبثق من ورشة عمليات منتدى "الجرب والجذام", كتب (طرطور) موضوعه وسرعان ما جاءته الردود تدعوه إلى مناقشة أصول الإعتقاد قبل النظر في الفروع, وتعده بجواب مسألته إن استطاع أن يبرهن على صواب مذهبه وأن يأتي بدليل إلحاده. حينها أخذت الحمية الزميل المتحمس فكتب مشاركة بعنوان:


أقصر دليل إلحادي

البطاطا موجودة والدليل المادي هو دخولها في الحيز المكاني والزماني الذي تخضع له الظواهر المادية التي تسري عليها الأعراض. وأقرب تجليات البطاطا هي تفاعلها الباهر مع الزيت المغلي عند بلوغ ذروة فعل القلي. ودون الدخول في التداعيات الكيميائية لهذه العملية المعقدة, ودون الحديث عن المعاني المخيفة دينيا لوجود بطاطس معدلة جينيا, فإنني أنا (طرطور) أقول: "البطاطا موجودة خارج الفلاح, فهي مستقلة بوجودها, ففعل الفلح والبذر والسقي لا يقتضي وجود ذات فالحة متصفة بإرادة حرة فاعلة, نحن نرى أن البطاطا تنبت عند توافر حزمة من العوامل الطبيعية وتظافر عمليات تقودها قوانين مادية صارمة لا تترك مجالا لافتراض أسباب خارقة, فبوجود المطر والتربة والحرارة تنتعش البطاطا المالحة والحلوة وتزدهر. ولا يطعن في هذا أن تقوم بعد ذلك ذات عاقلة مريدة مفكرة باستنساخ هذه الميكانزمات الطبيعية وإعادة إنتاجها بصورة منظمة في إطار ترشيد الإنتاج الزراعي, فالأصل في الطبيعة أنها مستقلة بإرادتها كما بينته من مثال البطاطا. فالبطاطا لا تحتاج إلى فلاح كما أثبتت بالبرهان المنطقي الصارم الذي يؤيده الحس السليم والبطاطا جزء من العالم المادي, وقياسا عليه فإن العالم المادي يثبت مرة أخرى أنه مستقل بنفسه قائم بذاته.
قرأ أبو الإلحاد دليل البطاطا كأنه يقرأ نعي الإلحاد العربي الإنترنيتي, وشعر بالجوع فأطفأ الحاسوب وخرج يطلب شيئا يأكله.

هشام بن الزبير
07-17-2011, 01:16 AM
26 اختراق الإلحاد

مضت سنة كاملة على إلغاء اشتراك أبي الإلحاد من جميع منتديات "الجرب والجذام". تعرض فيها لهزات فكرية زلزلت إلحاده, إنه يعيش في وسط معاد يسوده الدين والإيمان, فكيف يحرمه زملاؤه المتنورون من بصيص النور الذي تمثله منتدياتهم التنويرية في الفضاء الإلكتروني. الشياطين, لقد أرسلوا عنوان جهازه إلى جميع المنتديات الإلحادية, فلم يقبله بعدها أحد, فإلى من يلجأ إن صده حزب التنوير؟ حتى رسائل الرفاق الصعاليك انقطعت, كم يفتقد الشتائم اليومية المقذعة التي تنهال عليه كلما فتح صندوق بريده الإلكتروني, لقد انتهى ذلك كله, إنه لم يعد يرغب في الحياة, لقد فكر بالفعل في الإنتحار, لكنه تردد, رغم أن من مذهبه أن المادة لا تعرف التردد, وتعلق بأمل ما, رغم أن مذهبه يغتال الأمل, وقاوم اليأس, رغم أن مذهبه يزرع اليأس, لكن السبب الأكبر لنكوصه عن إنهاء حياته البئيسة هو أنه انقلب لا أدريا وارتد متشككا, لقد تلوث إلحاده, وصار يخشى إن طالت محنته أن يعود كما كان مؤمنا ساذجا يصدق أن للحياة معنى عميقا.

فتح بريده الإلكتروني وهو لا يتوقع إلا بعض رسائل الدعاية المزعجة, لكنه رأى اسما كبيرا, تسارع نبضه, ارتعشت أنامله وقرأ: "رسالة جديدة: المرسل, الدكتور زاجر المحموم." الموضوع: "كلمة السر الجديدة" لم يصدق عينيه, فتح الرسالة: فقرأ: زميلي العزيز شماس 13, هذه كلمة السر الجديدة: [خروف الفضاء] . ندعوك للقاء طارئ في القسم الخاص غدا على الساعة العاشرة مساء لأمر عاجل ومهم. هم أن يرسل رسالة شكر لولا أن قرأ: "هذه رسالة إدارية, نرجو عدم الرد." كان قلبه يرقص طربا لأن رفاقه لم ينسوه, لكنه استغرب أنهم غيروا معرفه, لكن كيف يختارون له اسما كهذا "شماس 13"؟ ربما أرادوا تأديبه بعد أن فهموا من مقالاته في "نقد الفكر الإلحادي" أنه بدأ يميل إلى التدين, ربما كان اللقاء مجلسا تأديبيا يتقرر بعده مصيره, فليكن, إنه يقبل أي شيء يمنحه حق العودة للمنتديات الإلحادية. لكن ألا يكفي المعرف الغريب للقيام بالمهمة التربوية حتى يضموا إليه كلمة سر من قاموس القرون الوسطى, شم رائحة غريبة تفوح من هذه الرسالة, رائحة أقبية مظلمة, نظر إلى معلومات الدخول الجديدة لأكبر منتديات "الجرب والجذام" فتخيل أنه حصل لتوه على "شيفرة دا فينشي" هذه "شيفرة أبي الإلحاد" جلس يكررها حتى يحفظها, تخيل شماسا يونانيا بلباسه الأسود الفضفاض يرعى ثلاث عشرة نعجة بيضاء في يوم مشمس, وتخيل خروفا وسيما يطير فوق القطيع. هكذا سترسخ المعلومات الثمينة في رأسه. تساءل: "لأي شيء حظي بشرف لقاء الدكتور زاجر شخصيا في الصالون الخاص التابع للمنتدى العتيد؟ أمر عقله أن يتوقف عن طرح الأسئلة و أن يصبر إلى الغد.

جاءت الساعة الموعودة, لبس أبو الإلحاد أحسن ثيابه, ومشط شعره وتعطر وأعد فنجان قهوة ثم جلس إلى مكتبه. فتح الموقع العتيد الذي يعد طليعة منتديات "الجرب والجذام" وقاطرة التنوير اللاديني في الفضاء الرقمي العربي, وتوجه للقسم الخاص, أحس برعشة تسري في جسده من رأسه إلى أخمص قدميه, أدخل معلومات الدخول فوجد نفسه مع نخبة الإلحاد: الدكتور زاجر المحموم مدير الموقع والدكتور فراس العث والأستاذ جورج المهماز وغيرهم. كان دخان غريب يملأ الشاشة, ظن صاحبنا لوهلة أن خللا قد أصاب حاسوبه في أسوأ توقيت, فبدأ يحرك الشاشة لعل الصورة تتضح, ثم ما لبث أن قرأ في الشريط أسفل القسم الخاص أنه هذا نوع من البخور الإلكتروني تمت برمجته احتفاء بقرب قدوم الأب (رائيل الثاني). لم يكتب صاحبنا شيئا ريثما ينتهي الزملاء من دعاباتهم الظريفة. لكن شعورا ملحا ظل يراوده أن شيئا غريبا يحدث في موقع التنوير. بدأ الدكتور زاجر يشرح برنامج اللقاء فكتب: "أيها الإخوة, لقد اجتمعنا لنناقش سوية التوصيات الأبوية الحكيمة لأبينا الروحي المفدى (رائيل الثاني). ولا شك أنكم قرأتم رسالته السنية واستشكلتم إشاراتها الخفية, فلهذا اجتمعنا بكم يا أوتاد كنيسة الخلاص الكوني. فأدعوكم جميعا للإسهام في إثراء الحوار كي نعجل بقدوم سفينة الخلاص." نظر أبو الإلحاد إلى أسماء الحاضرين فوجدها مصدرة بنجمة سداسية يتوسطها صليب معقوف فزاد عجبه, وهم أن يسأل عن سر هذه الحفلة التنكرية العجيبة, لولا أنه آثر التريث حتى يستبين الأمر على حقيقته. كان الأستاذ جورج أول من علق على كلمة الدكتور الإفتتاحية, فشكره وقال: "يشرفنا جميعا أن نكون في خدمة الكائنات العلوية, فنحن ندين لها بالوجود, ويشرفنا أن نكون جنودا لبث رسالة أبينا الأول رائيل. لقد بلغنا أن الوفد الفضائي السامي قد أكمل إعداد السفينة الفضائية, وأن هذا إيذان بدنو انتهاء أمد الحياة الأرضية, فليس بيننا وبين الخلاص من الوشائج الترابية إلا قدوم الموكب الأنفس, لنستقل المركب المقدس. كذا قال الأب." أدخل أبو الإلحاد كلمة "رائيل" في محرك البحث فتعرف على الكنيسة الرائيلية ومعتقداتها الفضائية, ورموزها الغريبة, لكنه لم يفلح في تفسير النقاش الدائر في المنتدى الإلحادي. لا بد أن ثمة خطأ ما. هل اخترق أنصار الملة الفضائية موقع التنوير اللاديني؟ نعم, لا بد أنهم اخترقوا حساب مسيري الموقع, لكنهم أخطئوا بمراسلته. لكن كيف حصل ذلك؟ جلس أبو الإلحاد يعيد ترتيب أفكاره, ويحاول أن يتصور حقيقة ما يجري, حين خطر بباله فجأة أن إدارة الموقع الإلحادي تنتمي بالفعل إلى تلك الكنيسة العجيبة, لكنه طرد عنه هذا الخاطر الغريب. كيف يعقل أن يكون دعاة الإلحاد وأساطين التنوير مؤمنين بخرافة كهاته؟ وكيف يعقل أن يكون لهم أب روحي يهيئهم لمقدم الموكب الفضائي المخلص؟ كيف ساغ لهم إذن أن ينتقدوا دين المسلمين وأن يسفهوا معتقداتهم؟ لماذا لم ينتقدوا سواه من الأديان إلا لماما؟ هل يكون الإلحاد في الموقع العتيد قناعا يستر الحقيقة التي اكتشفها لتوه؟ لا بد أن استلامه للرسالة كان خطئا قاتلا فضح اللعبة الماكرة. أخفى وجهه بين كفيه برهة, ثم انتفض وحرك رأسه مستنكرا. نظر إلى الشاشة فوجد الجمع غائصا في ترانيم خاشعة تتغنى بقرب الخلاص من العلائق الترابية وتدعو الكائنات الفضائية وتسألها الفرج بتحقيق النبوءة الرائيلية. جاءته رسالة من الدكتور زاجر فتحها فإذا فيها: "عزيزي شماس 13, اختم لنا المجلس بتقرير النشاط الإستنساخي للسنة الماضية." جلس صاحبنا يتفكر في طريقة يستدرج فيها هذه الشرذمة من مخترقي مذهب الإلحاد كي يفصحوا أكثر عن خبيئة نفوسهم, ثم كتب: "لقد ضاع مني التقرير يا دكتور, معذرة" حينها فطن الجمع إلى أن بينهم من ليس منهم, فقد كان لهم رمز يفتتحون به كتاباتهم. وجد أبو الإلحاد نفسه خارج القسم الخاص في أسرع من لمح البصر. جلس يقلب وجوه الرأي ويتفكر أي شيء يصنع, فظهر له أن يكتب رسالة إلكترونية إلى إدارة المنتدى يستفسر فيها عن حقيقة الذي يجري.

أرسل الرسالة ولبث بضع دقائق فجاءه الرد: "عزيزي أبا الإلحاد, يسرني أن أشكرك على الخدمة الجليلة التي أسديتها للموقع خاصة ولمذهب التنوير عامة. فقد كشفت بذكائك وفراستك أكبر عملية اختراق يتعرض لها الموقع منذ تأسيسه, وقد قام خبراؤنا في السلامة الإلكترونية بتدارك الوضع وبتخليص الموقع من قرصنة الشرذمة الدخيلة. وقد ارتأت الإدارة أن تكافئك على مساعدتك القيمة بإعادة تنشيط حسابك وبمنحك عضوية برونزية بامتيازات خاصة. توقيع الدكتور زاجر المحموم.

قرأ أبو الإلحاد الرسالة مرات, ولم يتمالك نفسه من البكاء, تحدرت دموعه على خديه, كانت دموعا باردة. لقد عاد إلى حظيرة الإلحاد الإلكتروني من جديد بعد أن أنقذ الزملاء من اختراق الدخلاء, ملأ الفخر جوانب نفسه, وجلس يرتب في ذهنه الأسئلة والإشكالات التي سيطرحها على زملائه قريبا على صفحات أعتى مواقع "الجرب والجذام".

AMS
07-17-2011, 12:22 PM
قمة في الإبداع
بارك الله فيك

سمسم
07-17-2011, 01:17 PM
السلام عليكم
هذه اول مشاركه لى فى هذا المنتدى الاكثر من رائع واحببت ان تكون فى اول المواضيع التى اثرت بى جدا بالرغم من انى مسلمه ولكن جعلتنى افهم كيف يفكر الملحد وحجم الدوامات والتخبطات التى يعانون منها ولكنهم يكابرون ... جزاك الله اخيرا اخى هشام وجعله فى ميزان حسناتك وارجوك لاتحرمنا المزيد منها ....تقبل تحياتى

عياض
07-17-2011, 08:55 PM
أحسن ما في هذه اليوميات الأخيرة سيدي هشام تصاعد الجودة في اتقان الخلطة التي تكتنفها بين الخير و الشر دون ادعاء امتلاك الصواب كله من طرف واحد ..ثم حتى اذا استوت السخرية بالذين يحسبون انفسهم انهم يسخرون من المومنين بهذه الخلطة ...من بين الأسطر ظهر ان الحق غير منوط لا بمومن و لا كافر ...فيكون اخراج الفرقان الحق بعدها من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا للشاربين...متابع لكم سيدي

إلى حب الله
07-18-2011, 01:36 AM
ما شاء الله أخي هشام .......
أنت تبني هنا معينا ًجيدا ًللنشر على النت وغيره : لفضح أولئك المشعوذين !
أدعو الله تعالى لك ولناقله بجزيل الثواب والعطاء : وألا ينقص ذلك من أجرك
شيئا ً..
إنه ولي ذلك والقادر عليه ..

mohamed77
07-18-2011, 02:47 AM
اسلوبك جميل اخى هشام

لا تنسانى من الدعاء

هشام بن الزبير
07-26-2011, 10:51 PM
قمة في الإبداع
بارك الله فيك
يشرفني تعليقك أخي الكريم, وفيك بارك الله.

السلام عليكم
هذه اول مشاركه لى فى هذا المنتدى الاكثر من رائع واحببت ان تكون فى اول المواضيع التى اثرت بى جدا بالرغم من انى مسلمه ولكن جعلتنى افهم كيف يفكر الملحد وحجم الدوامات والتخبطات التى يعانون منها ولكنهم يكابرون ... جزاك الله اخيرا اخى هشام وجعله فى ميزان حسناتك وارجوك لاتحرمنا المزيد منها ....تقبل تحياتى

وجزاك الله خيرا, والحمد لله أن وجدت فائدة في كلماتي.


أحسن ما في هذه اليوميات الأخيرة سيدي هشام تصاعد الجودة في اتقان الخلطة التي تكتنفها بين الخير و الشر دون ادعاء امتلاك الصواب كله من طرف واحد ..ثم حتى اذا استوت السخرية بالذين يحسبون انفسهم انهم يسخرون من المومنين بهذه الخلطة ...من بين الأسطر ظهر ان الحق غير منوط لا بمومن و لا كافر ...فيكون اخراج الفرقان الحق بعدها من بين فرث و دم لبنا خالصا سائغا للشاربين...متابع لكم سيدي

سيدي الكريم عياض, أصدقك القول أني سررت كثيرا بقراءتك النقدية, وآمل أن تؤدي هذه اليوميات ما أرتجيه منها, سأضع في الحسبان ملاحظاتك القيمة.




ما شاء الله أخي هشام .......
أنت تبني هنا معينا ًجيدا ًللنشر على النت وغيره : لفضح أولئك المشعوذين !
أدعو الله تعالى لك ولناقله بجزيل الثواب والعطاء : وألا ينقص ذلك من أجرك
شيئا ً..
إنه ولي ذلك والقادر عليه ..

بارك الله فيك أخي الكريم, سررت بتعليقك وتشجيعك, وليتك تسهم معي في نشر هذه اليوميات.
ولك مثل ما دعوت لي به وأكثر أخي الفاضل.


اسلوبك جميل اخى هشام

لا تنسانى من الدعاء

بارك الله فيك وغفر لي ولك أخي محمد.

إخواني الكرام, يشرفني أن أرحب بكم جميعا قراء لهذه الصفحات, وأرحب أكثر بالنقد مهما كان لونه, وأعني ما أقول.
وأهديكم جميعا اليومية التالية, التي ستكون خاتمة يوميات سنة إلكترونية من سنوات أبي الإلحاد العجاف.

هشام بن الزبير
07-26-2011, 10:52 PM
27 استعداد أهل الإلحاد لشهر المحنة والأصفاد


مشى أبو الإلحاد إلى بيته غارقا في هلوساته كديدنه, حين تسللت رائحة نفاذة إلى خياشيمه. وسرعان ما بدأت تستثير فيه عوالم كامنة في أعماقه, رغم أنه استمر في شروده كأنه منفصل عن هذا العالم. تداعت مع ذلك الشذى ذكريات الطفولة الحالمة إلى عقله. ما أغرب أمر حاسة الشم. لقد نقلته فجأة في نفق عابر للسنين إلى أيام الصبا الأول. ربما كانت الخياشيم هي المنفذ الأمثل للسفر عبر الزمن. حملته الرائحة الزكية التي لم يتبينها بعد إلى مطبخ أمه حيث تجمعت الجارات لإعداد الحلوى لإستقبال مناسبة سعيدة. ها هو يعود من المدرسة جائعا, يلقي محفظته ويهرع مسرعا ليذوق حلوى بمذاق اللوز والسمسم وماء الورد, سال لعابه حين تمثلت حلوى رمضان مغموسة في العسل أمام عينه. فجأة انتبه من شروده وتسمر في مكانه كمن نزلت به مصيبة. قال يحدث نفسه: " حلوى رمضان؟ يا للهول, لقد عاد رمضان, كيف مرت سنة بهذه السرعة؟ عندها وصل إلى باب بائع الحلوى, وجده يصفها في الأطباق, تماما كما كانت أمه تصنع مع جاراتها. وقف هنيهة يهمّ أن يقول شيئا, فمد إليه البائع قطعة وقال: "ذق هذه" أخذها ووضعها في فمه, فشعر بها تذوب كأنها قطعة سكر, تذكر أيام رمضان, تذكر التمر والحلوى, وتذكر صبيان الحارة وحالهم في آخر ليلة من شعبان. رأى نفسه عبر جدار السنين يترقب مع أخيه وأصحابه الهلال في شوق, حتى إذا رأوه انصبوا كالسيل عبر الأزقة والحارات مبتهجين كل يسعى أن يكون أول من يبث البشرى: "رمضان, رمضان, رأينا الهلال, هلال رمضان."

توقف لحظة عن التفكير وسأل نفسه: "أين اختفت تلك الفرحة العارمة؟ لماذا حافظ عليها الناس من حوله وضيعها هو؟" سأل البائع: "متى يحل رمضان؟" فأجابه: "الأسبوع المقبل إن شاء الله" طار صاحبنا من الفزع, ومشى كالسهم يريد اللحاق برفاق "الجرب والجذام" ليبثهم شكواه وليستشيرهم في ملمته. على الأقل صار له على الشبكة بيت يؤويه. كان يود أن يسألهم عن شيء أهم من هذا. إنه أمر مخجل أن يكون لرمضان كل هذا الأثر عليه بعد سنوات الإلحاد العجاف. لكنه يعلم أنه ليس وحده, إن جحافل التنوير اللاديني في ديار الإسلام لا تبغض زمانا قدر بغضها لشهر الصيام. دخل بيته وجلس إلى حاسوبه. افتتح موضوعه في قسم الإستشارات بأنامل مرتعشة. كتب العنوان: "أرشدوني, باغتني رمضان دونما استعداد فماذا أصنع؟" ثم استرسل يتتبع أفكاره ويبث إخوانه شكواه: "أيها الزملاء, لم أكد أنسى نكد رمضان الفائت حتى أطل علينا من جديد, جاءكم شهر الجوع والعطش, شهر ترفرف عليه رايات التعبد والصلوات والأذكار, جاءكم شهر يزحزحكم من قمة الإلحاد وكبريائه إلى حضيض النفاق وريائه, أيها الزملاء, لقد استخفيت العام الفائت بالطعام والشراب حتى استحييت, بل إن رمضان انقضى وبقيت أياما لا آكل إلا بعد أن أوصد الأبواب, وأجتهد ألا يسمع لي صوت فكنت أبلع الطعام ولا أكاد أمضغه. لقد أصابتني عقدة رمضان, وهاهو على الأبواب. فما العمل؟"

مضت دقائق فانهالت الردود على صاحبنا, وشعر أنه نطق على لسان كثير من زملائه. كتب أحدهم: "أيها الزميل, هون عليك, أوصيك بالصبر فنحن في زمان غربة, واملإ الجيب باللوز والسكر, واختل بنفسك في الحمام بين الفينة والأخرى لتختلس لقيمات وجرعات تقيم أودك, حافظ على إلحادك واجتهد أن تبقى حيا, وإياك والدخان فإن الفتوى بتحليله للصائم لم تلق القبول الذي نتمناه بعد, وإن أمنت الأخطار فعليك بالتبغ الممضوع, واغسل فمك جيدا بالنهار قبل أن تبرز للناس, وتصنّع الإعياء, وأقل الكلام, وأظهر الترقب قبيل الغروب والفرح عند الإفطار, وإياك والمشوي والمقلي أول النهار, واقنع بما لا رائحة له حتى يدنو الليل, وإياك والأكل عند الشرفات والناس صيام, و لا تنس إسدال السُّتر, وأنعم بالقبو ملاذا للمتنور المنبوذ, فاجعله واحة تهرب إليها من شهر الجوع والأصفاد, وهيئ فيه ما لذ وطاب من زكي المطاعم وبارد الشراب."

ثم عقب عليه زميل غاضب قائلا: "اخرس يا جبان, ألهذا القدر يرعبك رمضان؟ تأكل طعام نفسك وتستخفي من الناس؟ بئس هل التنوير أنتم, تطايرون كالفراش في الشبكة وتنزلقون إلى الأقبية والجحور كالجرذان, متى تبرزون للناس وأنتم على هذا الهوان؟ أما أنا فلا أستخفي ولا آكل إلا على مرأى من الناس." فأجابه ثالث: "يا فيلسوف, أنت في سيدني فممن تخاف؟ هل ستخاف أن تجرح مشاعر الكنغر الأسترالي؟ تعال هنا حيث سنغرق في بحار من الصائمين, ثم أرنا جراءتك"

بدا أبو الإلحاد كالمستجير من الرمضاء بالنار, ولم يجد في أكثر الردود إلا بعض المسكنات, لكنها لم تهبه الجواب الشافي الذي يستأصل هذا الشعور الغريب الذي ينتابه. إنه يشعر بالإشمئزاز من رمضان الذي صوره له الإلحاد وأهله, ويكاد يشعر بالشوق والحنين إلى رمضان الذي نشأ على الفرح بمقدمه والإحتفاء بشعائره. يا ترى, هل هو الوحيد بين أقرانه من يشعر بأن الإلحاد يحجزه عن النظر إلى هذا الشهر بتجرد؟

طفق صاحبنا يقلب البصر في الردود حتى وقع على جواب لأحد الزملاء نزل على رؤوس القوم كالصاعقة المحرقة, والغريب أنه أحد كبارهم. لم يدر كيف يصنف كلامه لكنه جمع أشتاتا من الأسئلة والهواجس التي تتنازعه فسلكها في نسق واحد. أحس أبو الإلحاد بعدها أنه يكاد يقترب من فهم سر الحاجز الذي يفصل في نفسه بين نكهة حلوى رمضان ولذة ذكرياته, وبين الرعب والضيق الذي كاد يغص به حين أدرك أن الشهر يكاد يطرق بابه. إنه خيط الإلحاد الذي يحيط بعنقه ويخنقه.

كتب الزميل: "أيها المتنورون, يا من تسيرون وسط المؤمنين كأنكم مجذومون, تسترون إلحادكم كما يستر المؤمن عورته, وتنزوون في هذه المنتديات الكالحة ينظر بعضكم إلى بعض كأنكم من كوكب آخر. طبعا إنكم تعيشون وسط المسلمين, من يستمع إليكم يحسبكم ما اكتشفتم هذا إلا الساعة! أفيقوا من سكرتكم, إنكم أنتم أنفسكم لستم في أعين الناس حولكم سوى مسلمين, انظروا إلى أسمائكم الحقيقية, وتناسوا معرفاتكم الطنانة, أنت إبراهيم أحمد ولست سبينوزا, وأنت يا نيتشه العربي, أليس اسمك عبد الغفور سلامة؟ وأنت يا تروتسكي ألست عبد الرحمن سليمان؟ إني أعرفكم واحدا واحداو دعونا نصارح بعضنا بعضا, إنكم حزب النفاق لا حزب التنوير. تخافون من رمضان؟ هل نسيتم حالكم قبل شهور, ألم تفرحوا بالكريسمس؟ ترى كم ملحدا أقعى ليلتها تحت الشجرة؟ قلتم هي فرصة للفرح وإنما هي تقاليد اجتماعية. عجبا لكم تفرحون لشيء لا وجود له على أرضكم ويكاد يصيبكم الجنون لموسم يفرح فيه آباؤكم وذووكم؟ أنتم فاشلون بكل المقاييس, خصوصا مقاييس التنوير الذي تتشدقون به. إن كان هذا الشهر بغيضا إليكم فلِم لمْ تستطيعوا أن تقنعوا من حولكم بما ترونه؟ تجلسون هنا في هذا العالم الوهمي تتباكون كالأطفال, كأن رمضان سيختفي بعدها من الوجود, أشعر بالتقزز من سلبيتكم القاتلة. أما لو سألتموني فإني أفرح لقدوم رمضان, إني أنغمس وسط الناس, وأستمتع بوقتي, ألا ترون أن زملائنا من شياطين الفن يؤدون عملا إيجابيا خلافا لكم, إنهم فرسان الفضائيات ومهندسو المسلسلات, إنهم يسلسلون الألوف المؤلفة في البيوت, ويغسلون أدمغتهم في مكر بالغ كما يصنعون طيلة الوقت خصوصا في رمضان, ربما يملك هؤلاء فرصة لقهر هذا الشهر الذي يخيفكم, أما أنتم فقد استمرأتم العويل والصياح. تخافون من الجوع والعطش؟ ومن ذا الذي حال بينكم وبين ما تشتهون؟ أم تريدون أن تأكلوا في الطرقات؟ ثم ماذا يكون بعدها؟ هل ستزحزحون بذلك شهرا من شهور السنة فيتبخر في الهواء؟ أف لكم, لستم سوى شرذمة من الأغمار. أنتم لا تشعرون بالخطر الحقيقي الذي يشكله رمضان, إنه يغربلكم غربلة ويهدم في أيام ما تبنونه في سنة, أين اختفى كثير من الزملاء؟ أين القبطان التائه؟ أين المتشكك؟ أين سبيل الحقيقة؟ ألم يختفوا قبل رمضان الماضي؟ إنكم تشهدون نقصان أمركم كل ساعة, إن هذا الشهر شهر ارتداد الزملاء, إنه شهر نقصان الإلحاد, إنه موسم الحساب السنوي لكم أيها المهرجون, وقصارى همكم الطعام والشراب, ألا تمتد أبصاركم لترى العالم وراء بطونكم؟ ما زالت أمامكم فرص التخفي في بحر من عوام المسلمين, ستقضون الساعات في المقاهي في لعب الورق, ستمضون الليالي في التسكع في الطرقات, لكن ذلك لن يدوم لكم, إن مجتمعاتكم تمور بحركة دينية لا تكاد تهدأ, إن الحشود تنفض من حولكم وتعود رويدا رويدا إلى تدين يشمل سائر مناحي الحياة, وكلما جاء رمضان اشتد الخناق عليكم, ويوما ما -وأراه قريبا- ستقفون أفذاذا في العراء, حينها لن تهتموا كثيرا بغسل أفواهكم من بقايا الطعام الذي تلتهمونه خلسة ورهبة من الناس, لأنهم سيسألونكم: "لماذا لا نراكم معنا في صف الصلاة؟" إلى ذلك الحين استمتعوا بحربكم الكلامية يا رفقاء الجرب والجذام وتنعموا بالحلوى فإني لا أرى فيكم لبيبا, وأبشركم أني سأراجع نفسي, فلم ينلني منكم إلا العنت ونقصان العقل, لذا أقر مرة أخرى أني أفرح برمضان, ومن يدري, ربما يهب حياتي معنى بعدما صارت كأنها صحراء يباب منذ عرفتكم, فسحقا لكم وليتني لم أعرف أحدكم يوما من دهري."

قرأ أبو الإلحاد هذا الكلام اللاذع مرارا, وشعر أن الطفل فيه يحثه أن يفرح برمضان كما كان يصنع أيام براءته, ثم عاد فندم أنه كتب الموضوع ابتداء, لقد تعكر صفو المنتدى بهذا الجواب الذي نزلت حروفه على القوم كالحراب المسننة, إنه زميل آخر يتساقط أمام أعين أقرانه كما تتساقط أوراق الخريف, يبدو أن مغامرة الإلحاد قد انتهت لديه بهذه المشاركة. تمنى صاحبنا في قرارة نفسه لو كان صاحب تلك الكلمات القوية, لكنه يأبى أن يفرط بسهولة في مذهب التنوير, إنه سيجتهد أن يمر عليه رمضان بسلام, وسيزحف على الأرض كما صنع طوال تلك السنين, ويؤجل جواب الأسئلة الكبيرة إلى حين.

noname
07-27-2011, 09:42 PM
سلمت يمناك استاذ هشام
يوميات اكثر من رائعة
--------------
لكن هناك ملاحظة صغيرة


..
..
..
..

..
هناك خطأ في الترقيم فرقم 26 مكرر
الرجاء التعديل :)

هشام بن الزبير
07-28-2011, 01:01 AM
بارك الله فيك أستاذي الكريم,
سبحان الله, لقد اكتشفت ذلك اليوم. سأراسل الإخوة في الإشراف لتصحيح الخطإ. إنها إذن ثمان وعشرون يومية تحاول أن تسبر أغوار الإلحاد الإفتراضي الذي يملأ أصحابه الشبكة ضجيجا. وبهذا ينتهي الجزء الأول من يوميات أبي الإلحاد.

NiceBird
07-28-2011, 10:06 PM
(:
(:
شكرا لك

هشام بن الزبير
07-28-2011, 10:36 PM
بارك الله فيك أخي الكريم.

هشام بن الزبير
07-28-2011, 10:39 PM
أيها الإخوة الفضلاء,
لقد تم بحمد الله الجزء الأول من فصول الكوميديا الإلحادية, وأعدكم بالمزيد إن شاء الله لو بقي أبو الإلحاد بعد رمضان على حاله.

وإليكم فهرس اليوميات السابقة:

1 أبو الإلحاد الرقمي في أزمة
2 أبو الإلحاد ورحلة البحث عن "معرف"
3 أبو الإلحاد في زمن الصحوة
4 السلفية الإلحادية
5 نحو تنوير النحو
6 تطهير العلم من الإيمان
7 بين الإلحاد الافتراضي والأرضي
8 صراع الأجيال: نسخة إلحادية
9 موت الإلحاد
10 تأملات داروينية
11 الآلهة الإلحادية
12 فصل لتعليم الإلحاد
13 من سيربح الغليون؟
14 مأساة الأبوة الإلحادية
15 الإلحاد وإيقاف الزمن
16 ملحدستان
17 هل الإلحاد عسير الهضم؟
18 الإنجاز في شفاء الملحد من عقدة الإعجاز
19 أبو الإلحاد في بلاد العجائب
20 أبو الإلحاد ولغز الأحافير
21 أبو رقاقة العدمي
22 من أدب الطفولة الإلحادية
23 شرنقة الإلحاد
24 هلوسات إلحادية
25 كازينو الإلحاد
26 ألاعيب الحارات الإلحادية
27 اختراق الإلحاد
28 استعداد أهل الإلحاد لشهر المحنة والأصفاد.

وبارك الله فيكم.

أبو يحيى الموحد
07-29-2011, 03:14 AM
بارك الله فيك اخي.... وجعلها في موازين حسناتك

هشام بن الزبير
07-29-2011, 09:27 PM
وفيك بارك الله أخي الكريم.

أبو يحيى الموحد
08-10-2011, 07:38 PM
يُرفع

للترفيه عن النفوس على نسائم الهواء في امسيات رمضان المباركة

أبو يحيى الموحد
08-10-2011, 07:40 PM
يُرفع

للترفيه عن النفوس في امسيات رمضان المباركة

مسلمة أنا
08-12-2011, 04:39 AM
ماشاء الله تبارك الله
اخ هشام
سعيدة بدخولي متصفحكَ
لانني والله ضحكت من القلب
بارك الله فيكَ على هذا الطرح المميز
وهذا النقد الساخر الساحر
فعلا سحرتني لغتكَ السلسة الجميلة
لي عودة اكيدة وقراءة باقي الاجزاء عن ابو الالحاء
لعلهم يتفكرون ويعرفون انهم في ضلال
تحياتي

هشام بن الزبير
09-01-2011, 02:26 PM
أخي سلمة وأختي مسلمة, بارك الله فيكما.
وما دام الإخوان يقرأون هذه الخربشات على هذه الصحائف الطويلة, فإني أضعها بين أيديهم مفهرسة وجاهزة للطباعة مع بعض التنقيح والترتيب, شكرا لكم على احتفالكم واهتمامكم بها وضنا بأعينكم أن تتعبوها في القراءة على الشاشة.

http://www.4shared.com/document/7Thd494s/Abo-Ilhad-1.html

حسن المرسى
09-01-2011, 06:15 PM
الصراحة عمى هشام ..
هذه تستحق النشر فى كتاب .. ما إن تكتمل ..
وإن كنت أظن أنها ستستمر طويلا إن شاء الله .

عَرَبِيّة
09-02-2011, 11:50 AM
هذه تستحق النشر فى كتاب .. ما إن تكتمل ..
+1


وإن كنت أظن أنها ستستمر طويلا إن شاء الله .
ليكن ذا أجزاء إذاً ,

بارك الله فيك أخي هشام وفكرة أخي حسن جديرة بأن تؤخذ بعين الإعتبار فما تكتبه بديعٌ سهل الفِهم يستحضِر الإيمان بالله ويطرد الشك , ويستحق الإنتشار لهذا وأكثر .

هشام بن الزبير
09-03-2011, 03:07 PM
خالي الكريم حسن :):, سأنشرها إن شاء الله حالما يتهيأ لها ناشر.
أختي عربية, لا أرى أنها ستستمر بشكل ممل, لعلي أجعلها ثلاثة أجزاء, أما الأول فقد رأيتموه, وهو يترجم لحال التخبط والحيرة العارمة التي تكتنف الإلحاد العربي في نسخته الإلكترونية, أما الثاني فلعله يكون مرآة تعكس الزلازل النفسية والعقلية التي تدمر أهل الإلحاد والتي تنتهي بالمرض أو الجنون أو الإنتحار, ويبقى الجزء الثالث لغزا محيرا, فلننتظر قليلا لنرى أين تنيخ بأبي الإلحاد راحلته وعلى أي أرض يحط رحاله.
شكرا لكم جميعا.

أبو يحيى الموحد
09-03-2011, 10:04 PM
يا سلام.....بإنتظار المواسم الجديدة لأبي الالحاد

هشام بن الزبير
09-03-2011, 10:08 PM
الكوميديا الإلحادية (الجزء الثاني)

29 العيد بنكهة الإلحاد


فتح أبو الإلحاد عينيه بعد ليلة قضاها مكدودا كمن ابتلعه ثقب أسود, خيل إليه أنه غدا كومة من العظام المتورمة, شعر بالألم ينخر كيانه, لم يبق فيه مغرز إبرة لا يؤلمه, ثم ظللته سحابة من الهم حين بدأ يعي العالم من حوله شيئا فشيئا, تذكر ليلته وبدأ يتفكر كيف يقضي يومه, لم يدر أيفرح بانصرام رمضان وانفراط عقد أيامه ولياليه, أم يحزن لمقدم العيد الذي يكلل موسمه. بدأت ذكريات السنوات البعيدة تهجم عليه, رأى نفسه طفلا يبيت يتقلب في فراشه في مثل هذه المناسبة يترقب الصبح ليتسربل بحلل العيد, العيد في عقل الطفل الذي أصبح أبا الإلحاد يعود كل عام ليحمل إليه البسمة والبهجة ولينفخ في حياته نفسا جديدا, لكن ذلك كله ولى إلى غير رجعة, مرت هذه الخواطر في ذهن صاحبنا فلم يشعر بنفسه إلا وهو يتنهد كمن يتحسر على أيام هنيئة خلت.

بدأ النور ينفذ إلى مِخدعه فاستدار قِبل الجدار, وقع بصره على الساعة فوجدها تشير إلى السادسة والنصف, شعر بالامتعاض الشديد, إنه يجتهد منذ سنين أن يغوص صبيحة العيدين في نوم عميق, فلا يستيقظ إلا بعيد الظهر. إنه يصنع ذلك كيلا يعي شيئا من احتفال المسلمين بانقضاء مواسم طاعاتهم, لكنه الآن مستيقظ في يوم يود لو نام إلى مغيب شمسه. عاد فأغمض عينيه فشعر أنه يتردى في هوة سحيقة ما لها من قرار, ما أتعس أهل الإلحاد في هذه البلاد! بدأت أفكاره تهدأ ونفَسه ينتظم فاستبشر بقرب استسلامه لسلطان الكرى.

فجأة تسلل إليه صوت من خلف الجدار: "الله أكبر, الله أكبر, لا إله إلا الله, الله أكبر ولله الحمد..." استدار أبو الإلحاد في حنق بالغ ووضع الوسادة على رأسه, لقد حصل ما كان يحاذره, سيظل حبيس سريره في هذه الصبيحة تحيط به نفحات هذا اليوم المفعم بفرحة المسلمين, لقد قضى شهره مكشرا عن أنيابه وهو يلعن الصيام ويهزأ بالقيام, ويندب حظه العاثر الذي ألقى به بين أظهر المسلمين, أمضى أيام رمضان ولياليه وهو يكابد مشقة الحياة الإلحادية البئيسة, حياة النفاق والترقب والتوجس, وهاهوذا ملقى في سريره كالمنبوذ حزينا يوم فرحة الناس, وهاهو التكبير يقتحم عليه خلوته التعيسة, إنه ينبعث من إحدى القنوات الدينية, إنه تكبير بلكنة حجازية.

لقد حزن لمقدم رمضان وهاهو يحزن لمقدم العيد, فيا ليت شعري بأي شيء يفرح أهل الزيغ والإلحاد, ولِم يفرحون ومتى يفرحون؟ طرق هذا الخاطر ذهن صاحبنا وتساءل: "يا ويح الزملاء, يا لخيبة المتنورين في هذه الأرجاء, أين الفرحة الإلحادية أين الأعياد المنسلخة من العقائد الإيمانية ومن التصورات الغيبية؟ إن رفاق (الجرب والجذام) يفرحون للكريسمس ورأس السنة والفالنتاين والهالويين ولما لا يحصى كثرة من الأيام الإفرنجية المخترعة, لكنه لا يذكر منها يوما يحمل عشر معشار هذه الطاقة التي تشع في مثل هذا العيد, إنها أيام لا تختلف عن البقية الباقية من أيام الناس لو استثنينا ما يكتنفها من الإقبال على اللهو ولذائذ الطعام, أما هذا اليوم فيختزن قوة وهيبة يبثها في أوصال المجتمع فتنبعث الفرحة من أهل الإسلام وتغمر الحسرة والأسى أهل الإلحاد.

تمنى لو كان يملك التأشيرة والمال اللازم ليلوذ ببلد متنور كلما حل مثل هذا اليوم كما يفعل الموسرون من الزملاء, لكن هيهات لقد منحته الصدفة خلطة قاتلة: الإلحاد والضلال والبؤس والإقلال, إن الملحد الفقير أتعس الدواب على وجه الأرض, إنه يعشق الدنيا ويهيم في غرام العالم المادي ويفنى في شهود ظاهر الحياة, ثم تقعد به فاقته عن الإنغماس في نعيمها والتلذذ بشهواتها. أشعل التلفاز وبقي ممددا يتسلى بمشاهدة نشرة الأخبار فساءه أن أخبار العيد استغرقت معظمها, رأى كيف احتفل المسلمون بالعيد في أصقاع الأرض, ولما شاهد الجموع في مساجد باريس ولندن وساحاتها وقد اصطفت لصلاة العيد أيقن أنه ربما يحتاج تأشيرة لكوكب المريخ كيلا يسمع التكبير والتهليل بالمرة. ليته يقضي هذا اليوم في عاصمة الإلحاد في حاضرة الزميل المرعب أبي شنب جوزف ستالين, ما أن عنّت له هذه الفكرة حتى بدأ بث تقرير مصور حول احتفال مسلمي روسيا بالعيد, كاد أبو الإلحاد يصعق لمرأى الألوف المؤلفة وقد احتشدت في أكبر مساجد موسكو, إن التزمت يكاد يبتلع آخر معاقل الملة الإلحادية, أطفأ الجهاز والحسرة تأكل فؤاده, ثم جلس في سريره وهو يتمثل بهذا البيت الذي لم يعد يذكر أين سمعه:

لمثل هذا يذوب القلب من كمد.........إن كان في القلب إلحاد وكفران

شعر صاحبنا برائحة العود تنبعث من بيت الجيران واستمر في شروده على إيقاع التكبير والتهليل والتحميد حتى سمع طرقا خفيفا على الباب, تسارع نبضه وخشي أن يكون أخوه قد أتى ليصطحبه, لكنه سمع صوت جاره سليمان يسلم عليه, تردد ولم يدر ماذا يصنع, إن شيئا غريبا يحصل بين الرجلين منذ أسابيع, إن التقارب المتزايد بينهما ينذر بخطر محدق, ثم هاهو سليمان يطرق بابه صبيحة عيد الفطر, خطر لأبي الإلحاد أن جاره ينصب له فخا دعويا محكما يوشك أن ينطبق عليه, أطل من ثقب الباب فرآه يحمل في يده طبقا من الحلوى, فلم ير بدا من فتح الباب فهو لا يصبر عن حلوى العيد.

وقف سليمان في ثوبه الأبيض الناصع وقد استنار وجهه ببسمة هادئة, قدم له الطبق الشهي قائلا: "كل عام وأنتم بخير" فارتبك أبو الإلحاد وشعر بحرج بالغ ثم تمالك نفسه وقال: "كل عام وأنتم بخير, شكرا لك سليمان", فقال له بنبرة ودود: "هذه هدية لأهل البيت, لقد جئت لأدعوك لفطور العيد, سأنتظرك ريثما تستعد" وقف أبو الإلحاد برهة يفتش عن عذر يتملص به من هذه الدعوة المفاجئة, لكنه أبعد الناس عن سرعة البديهة خصوصا في مثل هذه الساعة المبكرة, ارتسمت على وجهه ابتسامة بلهاء حسبها جاره تعبيرا عن الرضا, فقال له: "سأنتظرك بالبيت" دخل أبو الإلحاد إلى الحمام فغسل وجهه بالماء البارد لعله ينفض عنه تعب الصباح, ثم فتح دولاب الملابس, فلم يشعر إلا وهو يلبس قميصا أبيض جديدا ويتعطر, نظر إلى صفحة وجهه في المرآة فرأى كيف اكتسى بكسوة النفاق, ثم نظر إلى قلبه فألفاه كما عهده تعلوه حلكة الإلحاد. شعر بالخجل من نفسه, كيف له أن يجلس إلى مائدة من لا يرى فيه إلا متزمتا بليدا يحيا في أحضان الفكر الخرافي؟ بل كيف له أن يأكل من طعام العيد وهو ملحد جلْد, لماذا لا يصارحه بحقيقة حاله؟ إن بين ظاهر سليمان وباطنه ما يشبه التطابق, إن وجهه يعطي هذا الإنطباع, أما أبو الإلحاد فإن بين قشرته الخارجية وبين ما يدور في دهاليز نفسه المتحيرة قفارا وفيافي يتيه فيها العقل البشري. إنه يجتهد الآن أن يعبر هذه المتاهات المظلمة ليبرر لنفسه نفاقه المخزي, هاهو يقول محدثا نفسه: "إنه أمر عادي جدا, فأنا إنسان اجتماعي, أفرح لفرح الناس, سأشارك الناس في هذا العرف المتجذر, ثم إنني أقبل بكثير من جزئيات الثقافة الشعبية..." نظر إلى قميصه الأبيض الجميل, ففطن إلى أنه يلبسه لأول مرة, لقد لبس أبو الإلحاد الجديد يوم العيد, بل إنه لبس البياض! شعر بالتناقض الشديد وبالتذبذب الفاضح الذي ينغمس فيه في أمثال هاته المواقف, لقد حسم أمره, سيفرح لفرح الناس حتى يخرج من هذه الورطة, لكن الفرحة ليست بالشيء الذي يسهل تصنّعه, وهذا أمر آخر يحزنه, إنه كثيرا ما يرمي المسلمين بالنفاق والتصنع, فهل يستطيع أن يقنع نفسه أنهم يتصنعون الفرحة يوم عيد فطرهم؟ كلا إن فرحتهم صادقة ما بذلك من خفاء. خطر له هذه الساعة أن عليه أن يتوقف عن رمي الناس بما هو فيه, إن له في النفاق نسبا عريقا فما باله يدعي استهجانه.

دخل على سليمان فوجد البيت في أحسن حال, يعبق بريح العود ويتراكض فيه الأطفال في لباس العيد, فأجلسه إلى مائدة ازدانت بما لذ وطاب, والتكبير لا ينقطع من شاشة التلفاز, أفطر أبو الإلحاد ومضت بعض ساعة في أحاديث متناثرة, ثم قام سليمان فجأة قائلا: "لنسرع قبل أن يضيق الوقت" وقبل أن ينبس صاحبنا ببنت شفة وجد نفسه في السيارة حيث يصدح أحد مشاهير القراء بالقرآن, وما أن سارت السيارة قليلا حتى بلغ قوله تعالى: (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) النساء: 142-143 شعر بالدوار إنه في طريقه إلى مصلى المسلمين, طالما اشتكى من الإكراه الذي يئن حزب التنوير تحت وطأته في ديار الإسلام, لكنه يمضي في هذه الساعة المبكرة إلى ما يكره طوعا كأنه مسلوب الإرادة.

وقف أبو الإلحاد على حافة بحر بشري أبيض يهدر بالتكبير, مضت عليه هنيهة كأنها أحقاب متطاولة, تخيل كيف ستمضي عليه ساعة وسط هذه الصفوف المكبرة, وكيف سيستمع إلى خطبة لن تخلو من تقريع لأمثاله, وامتعض حين تخيل كيف يهنئه بالعيد أناس غرباء. لا بد من مخرج من هذه الورطة, التفت إلى جاره قائلا: "معذرة أحتاج أن أتوضأ من جديد, خذ مكانك وسأتدبر أمري." عاد صاحبنا أدراجه وهو يتنفس الصعداء, امتطى سيارة أجرة وعاد إلى بيته كمن استيقظ لتوه من كابوس مرعب, في ذلك الصباح العجيب استيقن أبو الإلحاد أن الإلحاد واللاأدرية واللادينية التي يدندن حولها دعاة الإلحاد الإلكتروني العربي جعجعة لفظية لا تكاد تجد موطئ قدم في ديار الإسلام وأن أصحابها يذوبون في واقع الأمر وسط المجتمع دون أن يكون لهم فكر يميزهم, إنهم أنصار المذهب الحربائي بدون منازع إنهم حزب النفاق وملؤه.

حسن المرسى
09-03-2011, 10:19 PM
قبلة على جبينك.. أخى هشام ..
لولا اليقين .. لقلت أنك قد عشت التجربة ..
تستطيع تبين مشاعر الملحد بذكاء شديد ..
أعجبتنى هذه الجملة للغاية ...

لكن هيهات لقد منحته الصدفة خلطة قاتلة: الإلحاد والضلال والبؤس والإقلال, إن الملحد الفقير أتعس الدواب على وجه الأرض, إنه يعشق الدنيا ويهيم في غرام العالم المادي ويفنى في شهود ظاهر الحياة, ثم تقعد به فاقته عن الإنغماس في نعيمها والتلذذ بشهواتها.

هشام بن الزبير
09-03-2011, 11:11 PM
أخي الحبيب حسن, يسرني أن تروقك كلماتي كما يسرني أن أنكأ بها في نحور الذين لا يعلمون, أما قولك أني أحسنت وصف حال القوم فأنا بحمد لله جندي من كتائب منتدى التوحيد, فكيف يخفى علي تلون هذه الشرذمة المعتدية, فلله الحمد أولا وآخرا وجعلنا الله ممن يعز دينه وممن يذل أعداءه.

هشام بن الزبير
09-21-2011, 09:49 PM
30 أبو الإلحاد في زمن الثورة

شعر أبو الإلحاد بنفسه يطفو فوق بحر آدمي أسود متلاطم, ترتفع فوقه الأعلام واللافتات الضخمة كأنها أشرعة سفن من زمن غابر, كانت الجموع تموج ويكاد هديرها يصم الآذان. مشى يخط برجليه الأرض ووهج الشمس يلفح جلده حتى تبللت ثيابه وأنكر رشح نفسه, لم يكن يدرك أن ريح الثورة كريه بهذا القدر.

ندم أنه لم يضع على رأسه شيئا يقيه لسع سياط الشمس, وندم أكثر أنه لم يلبس حذاء مناسبا, لقد جاء يمشي في نعلين كأنه سائح أوربي يمشي إلى الشاطئ في يوم مشمس. استسلم لهذا التيار البشري الجارف كما استسلم لخيط أفكاره التي لاحت أمام عيني عقله كأنها شريط أحداث الفترة الماضية.

ظل صاحبنا يحملق في شاشة التلفاز طيلة الشهور المنصرمة يتتبع الأخبار حتى كلّ ناظراه وأسكرت الحماسة رأسه , لقد أخذت الأحداث المتسارعة بمجامع قلبه فنسي أن يتعاهد نفسه بإصلاح حاله وتجميل هندامه فتلبد شعر رأسه وأهمل حلق ذقنه. لقد هبت رياح الثورة التي طالما حلم بها, لكن يا للأسف ويا للحسرة! إنها ليست الثورة الحمراء التي بشر بها الزملاء, إنها ليست ثورة المطرقة والمنجل, إنها ثورة أنجبتها شعوب غاضبة قبل الأوان, لكن الذوق الإلحادي يخبره أن هذه الثورة لم تستو بعد, إنها أشبه شيء بحساء بارد بلا ملح ولا بهارات, إن قِدر الثورة تحتاج لمزيد من الدماء والأشلاء حتى تستوي بحسب الوصفة الإلحادية.

اضطرب موقف صاحبنا كثيرا إزاء هذا البركان الفائر من حوله حتى استقر رأيه أخيرا على أنه يعاصر ثورة لا شك في ذلك, فقد أسقطت عروشا وأطاحت رؤوسا لكنها لم تقم المقاصل ولم تنصب أعواد المشانق, إنها ثورة مجهولة الهوية تتخللها الألوان المتباينة كما تتخلل البستان أشواك وأشجار وزهور يانعة. لعل أهل الإعلام يدعونها بالربيع لذلك, يا للهول إنها ثورة توشك أن تصير خضراء إن لم يتدارك العقلاء المتنورون الأمر. إنها ثورة اشتعل أول شررها من أعواد المنابر, وارتفع التكبير إذكاء لأوارها من قمم المآذن, فمتى يرى الثورة التي تصنع من مصارين رجال الدين قلائد تزين أعناق الملوك؟

حين رأى أبو الإلحاد الجموع الثائرة تصطف في الميادين بالآلاف لتصلي صلاة المسلمين كاد يغشى عليه من الغيظ, "أي ثورة هذه إن لم تثر على الدين؟" تذكر شعار سلفه الغاوين: (الدين أفيون الشعوب), تأمل هذه الحكمة الماركسية المنسية, وتفكر في معانيها العميقة التي لم تفقد شيئا من بريقها رغم تعاقب السنين وتساءل: "هل كان الزميل يوم قالها محششا؟ وكيف يستقيم أن يذكر الملحد الأفيون بنبرة الإنكار؟"

لم يطل الأمر بأبي الإلحاد حتى بلغت الثورة أرضه وأطاحت برأس البلد وصاحب أمره, لم يعد يذكر أي شيء كان في أول أمره قبل أن يصير مخلوعا, لقد رآه منذ عقل في كل الصور والأزياء التي تخطر لآدمي على البال, رآه في زي أهل البلد وفي جبة العلماء وفي لباس كبار الضباط وفي سراويل أهل الكرة, إنهم ينادونه بالزعيم الملهم وبالإمام المعظم وبالقائد المغوار وبالراعي الحكيم وبالرياضي الأول وبأب الأمة وبحامي الملة. حين كان طفلا خيل إليه أن الزعيم يمتلك من دون الناس قدرات خارقة, ثم اكتشف أن موهبته الوحيدة شيء من براعة الفن المسرحي مع المهارة الفائقة في عرض الأزياء, وكلها لا تحتاج إلا لخشبة وجمهور بليد.

سمع صاحبنا عن الثورة والثورة المضادة وعن استغلال التيار وركوب الموجة, وتساءل كيف يتقاعس الزملاء عن اقتناص الفرصة المواتية, إن بين أيديهم ثورة ناضجة حان قطافها, بذل غيرهم الدماء في سبيلها, فلماذا يتأخرون حين يجدر بهم التقدم ويحجمون حين ينبغي لهم الإقدام؟

خطر له أن الخصوم يوشكون أن يصبغوا المجتمع بصبغتهم الخضراء لو تقاعس حزب التنوير ونكصت فلول الملة الإلحادية, لا بد من ثورة على الثورة وثورة في الثورة وثورة فوق الثورة. تفكر في هذا كله ثم بدأ يتمتم كمن يحدث نفسه: "لكن مهلا, الثورة رغبة في التغيير, وغضب من الظلم, والظلم في المذهب المادي كلمة لا معنى لها, فكيف لو أضفنا لها كلمات من قاموس البذل والتضحية والإستشهاد؟ إن التضامن والتراحم ونصرة المظلومين وغيرها من المشاعر الإنسانية الجياشة ليست سوى رواسب من الإرث الديني, إنها من فكر الضعفاء فكيف يلتفت إليها من ينتحل مذهب القوة؟ كيف يبرر الملحد التطوري رغبته في مساعدة المظلومين؟ وما الداعي إلى مساعدتهم أصلا؟ فلينقرضوا حتى يبقى الأصلح والأقوى, هل صار الإلحاد مؤسسة خيرية تعنى بشؤون المتخلفين داروينيا؟ إن المذهب المادي يرفع شعار "اقتلع الضمير والرحمة وانصب راية القوة فوق جثث الضعفاء وجماجمهم." فما محل الثورة ضد الظلم من الإعراب في مذهب يقدس القوة ويستهين بكل قيمة إنسانية؟"

"ما الذي يحركك يا أبا الإلحاد لتثور؟ أليس حب العدل وبغض الظلم؟ وأي معنى للظلم في عرف المادة؟ لماذا قد تسعى المادة إلى تغيير شيء ما من أمرها؟ بأي قانون مادي تطمح المادة للثورة على واقع نشأ عن تفاعل قوانين مادية؟ أليس دين المادة الرضا بقهر قوانينها الحتمية؟ أوليس الزهد في التطلع إلى التغيير ديدنها؟ وما الذي سيحل بنا لو تطلع العالم المادي إلى التغيير؟ أوليس معنى ذلك أن يبغي بعضه على بعض وأن تتطلع كل ذرة فيه إلى التمرد على قيودها الصارمة؟"

أحس صاحبنا أنه لو تصرف بمقتضى ماديته الصارمة لما ثار ولما طلب شيئا غير ما هو فيه, و لزهد في التطلع لمثل أعلى, ولعاش دهره خاملا منبطحا على بطنه منطرحا في خضم كينونته المادية دونما رغبة أو رهبة, و لربما أشبه حينذاك بعض فقراء الصوفية في شهودهم للأمر القدري دونما سواه, فيحيا ملقيا بنفسه في خضم التفاعلات المادية كالريشة في مهب الريح, لا يطلب شيئا غير ما يتحصل له دون عنت, ولا يتكلف شيئا أبدا. لكن شيئا ما لا يدرك أبو الإلحاد كنهه يلح عليه أن ثمة مثلا ينبغي بلوغه وغاية يحسن التطلع إليها.

دس صاحبنا أنفه في أكناف الشبكة أياما يتحسس حركة الثائرين من الزملاء وهو يرجو أن يرفعوا رؤوسهم أخيرا بإلحادهم, فها قد أطلت على الديار شمس الحرية. لكن هيهات لقد خاب ظنه من جديد إذ لم ير منهم إلا متلفعا بمروط العلمانية أو متبرقعا بخُمر الليبرالية, لقد أبصر أكثرهم وقد التفت عليهم أزياؤهم التنكرية كما يلتف القماط على الرضيع فلا يكاد يستطيع حراكا, نظر إليهم فمقتهم ومقت جلودهم الحربائية.

عثر أبو الإلحاد بعدما كاد ييأس على صفحة فيسبوكية لشرذمة من فصيلته الموشكة على الإنقراض فسرته نبرتهم وأعجبته جرأتهم وأعاد إليه شعار حركتهم بعضا من الأمل في مستقبل الثورة الإلحادية على الأرض العربية: (معا من أجل تنوير الثورة- معا على درب الإلحاد). اجتمع في صفحة الزملاء بضعة مئات بشق الأنفس وأجمعوا النزول للشارع ليسمعوا الناس صوتهم خلال المسيرة الأسبوعية المقبلة.

جاء اليوم الموعود, فتح دولاب الملابس وهو يفكر في الزي الملائم لهذا اليوم التاريخي, ثم همهم "هذا ما أحتاجه" لبس (تي شرت) أحمر يحمل صورة الشاب الثائر (تشي جيفارا), نظر إلى وجهه في المرآة تكسوه لحية خفيفة بدأ يتخللها البياض, هم أن يحلقها لولا أنه رأى لحية الثائر الملحد فأحجم عن ذلك, عجبا, لماذا صار الزملاء فجأة يبغضون اللحى؟ تذكر ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وكاسترو وجيفارا, إنهم سدنة الإلحاد وقسسه, وتلك لحاهم ما زالت تملأ قلب كل ملحد زنديق بالفخر, يبدو أنه قد آن لأبي الإلحاد أن يلتحي إحياء لسنة سلفه من البلاشفة الهالكين, ثم إن جلده يحتاج لبعض الراحة بعد مرِّ هذا الزمن المديد وكرِّ شفرة الحديد.

عاد أبو الإلحاد من رحلته في أعماق نفسه ليجد نفسه في قلب المظاهرة, لكنه جاوز المكان الذي ضربه الزملاء موعدا, التفت حوله فوجد ألوفا مؤلفة من الملتحين يلبس أكثرهم البياض, التفت يمنة فوجد شابا تملأ لحيته صدره وبيده سواك, والتفت يسرة فوجد آخر يرفع صوته بالتكبير, لقد ضل صاحبنا سبيله فوجد نفسه وسط جموع ملتحية تهدر بشعارات دينية: (إسلامية إسلامية, لا مدنية ولا علمانية), تذكر أنه يحمل على صدره شهادة إدانته, تذكر قصص الرعب وحكايات الإرهاب فتحسس رقبته وجرظ بريقه, سار منحنيا كي يخفي وجه الثائر الأرجنتيني الوسيم, ثم وقعت عيناه على علم أخضر ملقى على الأرض فمد يده فالتقطه كما يمد الغريق يده ليستمسك بقشة, التحف أبو الإلحاد بالعلم الاخضر ثم صار يمشي ذات اليمين كأنه يسبح ليخرج من منطقة الخطر, وحين أوشك أن يخرج من الميدان الفسيح التفت إليه شيخ أبيض الرأس واللحية وناوله مكبر صوت قائلا بصوت متهدج: "أدركتنا العصر, أذن لنا يا ابني." نظر إليه والدهشة تملأ عينيه, ولم يدر ما يقول, لقد ألجمته الصدمة, تنحنح ليغالب شعوره بالحرج, سأله الشيخ: "آه, أنت مش متوضي" فأومأ إليه أن نعم, فما كان من الشيخ إلا أن أخرج في خفة قنينة ماء من جرابه فقال له: "تعال, سأصب لك الماء, توضأ مرة مرة". دارت الأرض بأبي الإلحاد, لكنه مد يديه فغسلهما إلى المرفقين, فهمس الشيخ: "أنت لا ترى الترتيب؟" ثم غسل وجهه وتوقف ولم يدر ما يصنع, فنظر إليه قائلا: "امسح رأسك واغسل رجليك يا ابني", غسل فارس التنوير رجلين لم يمش بهما إلى خير قط, لكن كيف يؤذن؟ وماذا لو رآه زملاؤه؟ لكنه خائف فكيف يتملص من هذا الموقف العصيب؟ خيل إليه أنه يحلم, ثم طرق أذنه نداء الأذان, فكان أحب الأصوات إليه في هذه الساعة, لقد أنقذه أحد الملتحين بصوته الرخيم من ورطته.

لم تمض إلا لحظات حتى أقيمت الصلاة, فوجد أبو الإلحاد نفسه منتصبا وسط الصفوف المتراصة متلفعا بالقماش الأخضر, مر بيده على وجهه يتحسس شعر لحيته, ثم سمع التكبير, فشرع يحكي حركة الناس من حوله, ويتفكر فيما خرج من أجله وفيما صار إليه أمره, ركع وهو يتهيأ للهرب حالما يخر الناس من حوله سجودا, تخطى أبو الإلحاد الرقاب وخرج من الميدان يتجرع خيبته.

خادم أبى القاسم
09-22-2011, 11:25 AM
ألف تحية وتحية لأخانا هشام
نعم الأدبية التعبيرية !
اكتب فقد أوجعتهم بؤسا
واوجعتنا ضحكا :)))

alqods arabia
09-24-2011, 01:42 PM
السلام عليكم و رحمة الله
بارك الله اناملك التي انهالت على رؤوسهم حجارة من سجيل

هشام بن الزبير
09-24-2011, 08:36 PM
ألف تحية وتحية لأخانا هشام
نعم الأدبية التعبيرية !
اكتب فقد أوجعتهم بؤسا
واوجعتنا ضحكا :)))
ولك أعطر تحية وأزكى سلام أيها الحبيب,
الحمد لله أن قيض لي حروفا أرد بها شيئا من سخرية القوم الذين لا يعلمون, وليس لي من الفضل في ذلك من شيء, ووالله إني لو كتبت كلام الملاحدة بنفس حروفهم وكلماتهم لما جاء إلا كوميديا, فجزى الله قارئ هذه الصحائف وناقلها خيرا, أما من ينقلها إلى مواقع (الجرب والجذام) فذاك يستحق بالفعل جائزة.

هشام بن الزبير
09-24-2011, 08:40 PM
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته,
وأنت بارك الله فيك أيتها الأخت الكريمة وجزاك الله خيرا على دعائك الطيب و صبرك على قراءة هذه الخربشات العجيبة.

ولبقية القراء الفضلاء أقول, إني أعتز باهتمامكم وأتطلع إلى نقدكم وتوجيهكم.
أخوكم هشام

noname
09-24-2011, 09:27 PM
جزاك الله خيرا استاذ هشام

اتمنى منك ان تكتب يومية اهتدى فيها احد اصدقاء صديقنا الرقمي وتتناول فيها ردة فعله

هشام بن الزبير
09-25-2011, 02:24 PM
أخي الكريم,
جزاك الله خيرا, قد كنت عرضت لشيء مشابه في اليومية الثالثة (أبو الإلحاد في زمن الصحوة), لكن مثلك يأمر كما يقول المصريون, فترقب معي يومية جديدة يتعرض فيها صاحبنا لهزة عنيفة, ويأتيه ما لا قبل له بتحمله.

أخوك هشام

noname
09-25-2011, 11:11 PM
جزاك الله خيرا استاذي هشام
بالفعل قد تناولتها في (أبو الإلحاد في زمن الصحوة)
فربما لم الحظها لانها من اولى اليوميات

بارك الله فيك
وكما يفعل الاستاذ عياض دائما
لك مني باقة ورود :emrose: :emrose:

إلى حب الله
09-27-2011, 11:51 PM
أخي الحبيب هشام ..
أستأذنك في نشر هذه الكوميديا الإلحادية في قسم القصص الدعوية
باسمك في مدونتي التي أنشئها حاليا ً......... !
مع الإشارة لمنتدى التوحيد أيضا ً...

فهل توافق ؟!!..
< سوف أقوم بتلوينها لك مجانا ً--- عرض مغري يعني :thumbup: >

هشام بن الزبير
09-28-2011, 12:01 AM
هذا يشرفني أخي الحبيب, فافعل كما تحب أيها الأخ الفاضل.

هشام بن الزبير
09-28-2011, 11:16 AM
31 تعديل المزاج الإلحادي


ما فتئ صاحبنا يدور في بيادر الإلحاد المقفرة كما يدور بغل الطاحون, وكلما أكمل دورة عاد ليستأنف مسيرة التيه من حيث بدأها أول مرة. صار كثيرا ما يتوقف في مفترق طرق حياته المظلمة ليحك جبينه قائلا: "تبا, لقد مررت من هنا من قبل!" وأحيانا تتلاطم من حوله أمواج أحداث يكاد يرى تفاصيلها المقبلة, ويلمس ما تؤول إليه من الخسار والخيبة. خطر بباله أنه عثر للتو على تفسير وجيه لظاهرة "ديجافو", ليس للأمر علاقة بالعقل الباطن إذن, ولا بهمس ذكريات بعيدة, كل ما في الأمر أنها ثمرة حياة تعيسة خسيسة تنخرها الرتابة, تتكرر فيها المشاهد كأنها سلسلة تلفزيونية سخيفة, إنها صدى حياة تحياها دابة متطورة تجر رجليها على تربة تكاد تحفظ عدد ذراتها. قضى فارس التنوير سنوات عجافا يجتر المهانة ويلتحف الملل, ويقلب صحائف حياته في لهفة يبحث لها عن معنى. ما أشقى هذا القرد بتطوره! يا ليته بقي محتفظا بكامل (قرديته), يا ليته لم يفكر يوما في ارتقاء درجات هذا السلم الخادع, سلم التطور, تخيل أبو الإلحاد بني عمومته وذوي رحمه الدارويني كيف يرفلون في حيوانيتهم دون أن تتصارعهم هواجس الحياة والموت واللفظ والمعنى والسعادة والشقاوة, إنهم حتما يقنعون بقضمة عشب وجرعة ماء ثم يتقافزون كأنهم في أطيب عيش, إنهم قطعا لا يفنون أعمارهم يقتاتون على موائد المتفلسفة من عشيرة آل (لوسي) وبني (آردي), يا لسعادتهم إذ لم يسمعوا قط لا بالمادية الجدلية ولا بالانتخاب الطبيعي ولا بالنظرية النسبية ولا بالفيزياء الكمية ولا بالأوتار الفائقة, ويا لتعاسته بمئات المصطلحات الرنانة التي يشقّقها هذا الحيوان الناطق فلا تزيده إلا حيرة وخبالا.

اهتز إلحاد أبي الإلحاد هزات عنيفة وغاص في أوحال النفاق حتى أنكر نفسه وأظلمت الدنيا في وجهه, لم يعد يطيق أن ينظر إلى وجهه في المرآة, ولم يعد يحتمل بعد الشقة بين اسمه الرنان الذي اتخذه لنفسه في شرة شبابه, وبين ما آل إليه أمره في السنوات الماضية, إنه أبو النفاق لا أبو الإلحاد, إن مخه يكاد ينفجر, لا بد أن يضع حدا لهذه الرياح العاتية التي تعصف في رأسه, لا بد أن يسدل ستارا سميكا على هذا الشيء المزعج الذي يدعونه عقلا.

رافق زوجته ذلك المساء لزيارة أهلها ثم عرج على حارة مظلمة حيث اعتاد أن يجد بغيته, دس ورقة نقدية في يد الشاب الملتصق بالجدار وعاد مسرورا بغنيمته, إنه يدعوها -وإن لم تكن سوداء- حبة البركة, فإن من بركتها أنها تخفف ضجيج الكتلة الرمادية في جمجمته رغم أنها في حجم حبة العدس, لكن بركتها العظمى أنها تنقله إلى عالم مزركش خيالي كأنه رسم بريشة سالفادور دالي.

لم تقطع الحبة العجيبة الطريق إلى معدة أبي الإلحاد حتى انتقل إلى فضاء متعدد الأبعاد, تتراقص فيه عوالم ذات أصوات وألوان وأشكال عجيبة, تذكرك بهلوسات رواد الفيزياء الحديثة, رأى نورا يشع من أعلى, فوقع في روعه أنه معدن التنوير ومنبع الحكمة فحنت نفسه المضطربة إليه, فما كان منه إلا أن طار بلا جناح, تعلق صاحبنا بشعاع رفيع من نور واستمر في الإرتفاع, حينها تساءل في صمت: "لماذا تبحث عن خلاصك في العلو؟ لماذا لا ينبع النور تحت قدمي؟" ما أن مر هذا الخاطر في ثنايا نفسه حتى سقط في هوة سحيقة, والتف به السواد من كل جنب, رأى نفسه يسبح في بحر الزمن كأنه مبحر إلى الماضي, رأى أباه وهو يحتضر في ذلك اليوم البارد الكريه, كان أبوه يصلي إلى آخر رمق من حياته, تدحرج صاحبنا في سراديب مظلمة كأنه يتجول في تلافيف ذاكرته, رأى قردا يافعا يرمقه من خلف قضبان القفص ويقول له معاتبا: "لماذا خذلتني يا بابا؟" إنه (دريوين) مد يديه ليضمه إليه فتلاشى في الهواء, لقد ضاع مستقبل دريوين بسبب قلة حزم أبي الإلحاد, فجأة سمع أنغاما عذبة وخيل إليه أن هاتفا يدعوه: "هلم إلى الأهل والعشيرة يا فارس التنوير" ثم انفتح أمامه باب عظيم فإذا مدينة لم يسمع الملحدون بمثلها, كانت أعمدة من العاج ترتفع في جنبات ميدان فسيح من المرمر الأبيض, رأى من النعمة والثراء ما لا طاقة له بوصفه, لا بد أنها (ملحدستان), نظر حوله فإذا الملأ الإلحادي قد تجمع في صعيد واحد, كانوا في درجات ثلاث بعضها فوق بعض, اللادينيون في أدناها والملاحدة في أوسطها واللاأدريون في أعلاها. لقد كان محقا تماما في تصوره لبنية الهرم الإلحادي.

رآهم يلبسون ثيابا رقاقا, إذ لم يبق لديهم شيء يخفونه, لكنهم يغطون رؤوسهم العبقرية بقبعات عظيمة احتفاء بها وإكراما لها وقد انتفخت طيلة حياتهم تحت وطأة الإشكالات الإلحادية القاتلة, وفي صدر المجلس رأى حبيبه البروفيسور (دونكي) يبكي, لابد أنها دموع الفرح بظهور الملة الإلحادية واجتماع شمل الشرذمة التنويرية, إنحنى أمامه في إجلال وقال له: "ثانك يو دونكي أفندي". كانت أشجار الأكاليبتوس والصبار تظلل الزملاء المتنعمين وأنهار السباجيتي والصلصلة الحمراء تجري تحتهم, فلا يشاء أحدهم أن يتزلف إلى معبوده إلا وجده أدنى إليه من شراك نعله.

كانوا في سعادة غامرة, لا بد أنهم وجدوا الحلقات المفقودة, وفرغوا من الكشف عن أسرار الكون وتسلقوا بأبحاثهم سلم التطور درجة درجة, وأفلحوا أخيرا في فك (شيفرة) الحياة فأفحموا المؤمنين ودقوا آخر المسامير في نعش خرافات المتدينين. لابد أنهم حصلوا على تفاصيل أحداث الدقيقة الأخيرة قبل الإنفجار العظيم. لن يسخر منهم أحد بعد اليوم. كانوا جميعا يتطلعون إلى امرأة ساحرة تظهر على محياها أمارات النباهة والدهاء , إنها (الطبيعة هانم) أم الملاحدة.

أحس بالجوع فصعد على تل قريب وقفز في نهر الصلصة فسُمعت لسقوطه رجة هائلة, تطاير على ملإ الإلحاد رشاش البِركة المقدسة, فمسحوا بها جباههم وظهورهم تبركا بإله الملحدين وحش السباجيتي الطائر. أحس أبو الإلحاد بطعم الثوم والطماطم في فمه, إنه في جنة الإلحاد بلا ريب, لقد زالت عنه الهواجس ونزلت عليه السكينة.

غطس في النهر الأحمر فرأى أشلاء ممزقة وبقايا بشرية, رأى أسنانا وآذانا وأصابع, شعر بالفزع والإشمئزاز, وحين هم بالخروج رأى أبا شنب يسبح نحوه, يا للهول إن الزميل جوزف ستالين مرعب بالفعل! هل ينتهي أبو الإلحاد قربانا للإله الإلحادي؟ هل سيختلط دمه ولحمه بالصلصة المقدسة؟ عندها رأى سفينة فضائية تحلق فوقه كأنها نجم متوهج, رفع كلتي يديه فشعر بنفسه يُسحب بقوة كأنه يدخل في خرطوم مكنسة كهربائية, رأى المخلوقات الخضراء تحتضنه وتمسح أم رأسه في حنان, ثم تغمره في سائل الخلود, وجد نفسه مغمورا في حمام النيتروجين البارد, لم يدر هل شرعوا في تجميده ليصير مومياء تسافر عبر المجرات, أم أنها مراسيم التعميد الرائيلية؟ حين تدفق السائل الثمين في منخريه عطس عطسة عظيمة فوجد نفسه يطير في الفضاء الفسيح, تساءل: "هل تفسر نظرية التطور وجود الكائنات الفضائية؟" لا بد أن يسأل القسيس (دونكي), فهذه معضلة ليس لها سواه.

بدأ أبو الإلحاد يذوب شيئا فشيئا حتى صار رذاذا يتطاير في الهواء, خطر له أنه في حالة فيزيائية مناسبة ليسدي خدمة جليلة للإنسانية, لماذا لا يصلح ثقب الأوزون أو يبتكر حيلة للتخفيف من آثار الإحتباس الحراري, لكنه للأسف يفتقر للكفاءة العلمية اللازمة, فليستغل الفرصة على الأقل ليقترب من معشوق الشعراء, لماذا لا يتأمل القمر عن كثب, لعله يلقي نظرة فاحصة على تراث رواد وكالة (ناسا) وآثار خطواتهم الجبارة ورايتهم المجيدة المرفرفة, حتى يخرس الألسنة المشككة ويبطل الأقاويل المضحكة التي يبثها الجاهلون حول هبوط أبناء العم سام على أرض القمر. ربما بقي له بعدها متسع من الوقت ليقوم بجولة سريعة على الكوكب الأحمر, للأسف تردد كثيرا كعادته حتى تكاثفت ذراته وعادت إلى طبيعتها الأصلية, فوجد نفسه يمشي في حقل عجيب تنبت فيه كائنات بشرية, هل هذا مشروع آخر من مشاريع كريك فينتر؟ هل يقوم باستنساخ فصيلة مختارة من الزملاء؟ فجأة رأى أبو الإلحاد كأنه ينظر في خبايا رأسه, رأى نتوءا عجيبا بين مخه ومخيخه ينبض بعنف, فترتسم في مخيلته عشرات الإشكالات الإلحادية, لا بد أنها الشريحة البيولوجية التي حبا بها التطور الفصيلة المتنورة, إنها برنامج معقد ينبت الشك ويجتث اليقين, تمنى لو كان يستطيع أن يستأصل هذا الورم المزعج قبل أن يصاب بالجنون, فجأة سمع صوتا مألوفا يناديه: "أبا الإلحاد, ماذا جرى لك, كيف تنام على أرض الحمّام؟" فتح عينيه وهو يتساءل: "النعجة دولي؟ ماذا جرى لصوفك؟" سمع دوي صفعة على خده, ثم أحس بحرارتها, رأى زوجته وهي تصرخ في وجهه غاضبة: "ألا يكفيك أن تدعوني نوال وأنا آسية حتى تسميني بأسماء النعاج؟ هل عدت لإدمان حبوب الهلوسة؟ أنت لا تصلح لشيء..." أحس أبو الإلحاد بصداع شديد فأغمض عينيه واستسلم لنوم عميق.

أبو عثمان
09-28-2011, 02:12 PM
ماشاء الله تبارك الله ....
في الحقيقة الكتابات الأدبية كُثُر , والكتابات الكوميدية الساخرة كذلك .
لكن يندر ان تجد من يجمع بينها بهكذا اتزان , بارك الله فيك وزادك من فضله وجوده
السلام عليكم ..

أبو يحيى الموحد
09-28-2011, 02:41 PM
بارك الله فيك اخانا هشام

أبو يحيى الموحد
10-08-2011, 12:04 AM
نرفعه
لتوزيع الابتسامات

هشام بن الزبير
10-20-2011, 06:35 AM
تقبل ودي ومحبتي أخي الفاضل سلمة.
أهدي أخي عبد الرحمن الحنبلي هذه اليومية, تسلية له ولكل من أزعجته كثرة مواقع (الجرب والجذام) التي تتهجم على الإسلام.



32 فايروسات إلحادية

توالت العثرات والنكسات على صاحبنا حتى وجد نفسه منبطحا في حمأة النفاق. تفكر في أمره كثيرا وخلص إلى أنه أخطأ في تقليم مخالبه وتخفيف حدة إلحاده. لقد تأكد مرة أخرى -بعد أن أثخنته الجراح- أن الإلحاد العربي يموت حين يخلع لأمة الحرب ويهمّ أن يلزم خندق الدفاع. هذا فخ قاتل يا أبا الإلحاد, إن الزندقة الإفتراضية تصنف من قبل هراطقة النقاد في فنون الإلحاد الهجومي المتطرف. جلس يخاطب نفسه: "تأمل التعريف جيدا, وفكك أجزاءه أيها الزميل المنتكس كي تفهم كم تبدو بليدا في قناع الحمل الوديع."
إن الإلحاد على وزن (إفعال) مثل (إملاق), و(إخفاق) وهو هجومي شرس متطرف لا يقبل أنصاف الحلول. فالملحد يلحد ويهجم أو يتردد ويزول, هكذا فلتكن يا أبا الإلحاد أو لتندثر إلى الأبد.

امتلأ صدره بالحماسة, وأحس كأن روحا جديدة تدب في أوصاله فاشتاق إلى رفقة (الجرب والجذام) فأبحر إليهم في ناديهم الإلكتروني. دخل يتصفح شريطا طويلا, فخيل إليه أنه قرأ مثل هذا الكلام آلاف المرات من قبل, حاول أن يجد موضوعا أصيلا فريدا تسري فيه روحه وتتميز ملامحه, عبثا حاول أن يقنع نفسه أن ثمة ما يستحق القراءة ويستثير فيه مشاعر الفخر الإلحادي والنخوة الداروينية. وجد نفسه يسبح في مستنقع إلكتروني آسن تعلوه الرتابة وتغمره الكآبة. همّ أن يطفئ الحاسوب حين خطر له أمر عجيب, انفرجت أساريره وكشر عن أسنانه واستغرب: "لماذا لم أفكر بهذا من قبل؟ نعم نعم, هذا يفسر كل شيء, إنهم ليسوا هناك, لا أحد هناك, هل التقيت أحدا منهم قط؟ كلا, لقد كنت أحترق وأذوب في اليوم ألف مرة من أجل كائنات إلكترونية وهمية."

لقد حل أبو الإلحاد اللغز أخيرا, إن منتديات (الجرب والجذام) تصيبه لرتابتها بالإحباط والغثيان, لأنها مجرد برامج غبية يسيرها على الأكثر زميلان أو ثلاثة, إنها فكرة تفتقت عنها العبقرية الإلحادية العربية. تصمم موقعا وتربطه ببرنامج آلي لتسجيل الزملاء والخصوم الإفتراضيين, ولتفريع المسائل وتفريخ الشبهات وتشقيق الردود. إنها بالفعل فكرة عبقرية لولا أن هذه البرامج ما زالت تحتاج لكثير من التطوير والمراجعة. الآن فقط فهمت لماذا يخيل إلي -في العالم الإفتراضي- أن الملاحدة في ديارنا بمئات الألوف ثم لا تكاد تلقى منهم بشق الأنفس إلا نفرا قلائل.

قرر أبو الإلحاد أن يحتفظ بأصل الفكرة وأن يلتزم قاعدتها النظرية التي لاحت له, ثم يمضي في تعبيد الطريق في وجه جحافل التنوير اللادينية, سيطور مشروع الحملة اللادينية في مواجهة الملة الإسلامية, ما أسعده باكتشافه, حمد عقله أن هداه لبرنامج إلكتروني يكفي لتسعير هذه الحرب الإفتراضية الضروس.

جلس يضع تصوره للبرنامج الخارق, ولما اجتمعت لديه صفحات من الأفكار الباهرة, صدّرها بالرسالة التالية:
"عزيزي (الحلاج الهاكر), لقد حضرت دورتك التدريبية في البرمجة قبل عام, وأنا بحاجة لتوجيهك بخصوص تطوير البرنامج التالي "تجييش جحافل التنوير الإلكترونية"...

كتب أبو الإلحاد عن برنامج آلي ذكي لتصميم منتديات ومدونات ومجموعات إلحادية, يحوي آلاف الأسماء الرنانة التي تستجيب لسائر الأذواق الإلحادية بنكهاتها السوفسطائية واللادينية واللاأدرية, وهذه عينة عشوائية منها: منتديات سدوم, مدونة زندقة, مجموعة كافر وأفتخر, فردوس أبي جهل, ملتقى تعداد محاسن الإلحاد, جروب من وحي الشيطان, ساحات هيا إلى الهرطقة, مدونة كل شيء بالعقل, جروب الطبيعة فقط, حدائق الداروينية الأليفة, منتديات أشباه البشر, جروب قرود ولكن, مدونة هل أنا إنسان؟ مدونة هل أنا كائن فضائي؟ منتدى طقطق لإحياء المنطق...

وما أن تحدد اسم الموقع حتى يشرع بشكل آلي في تسجيل أسماء مئات الأعضاء الإفتراضيين, و تتفرع هذه الأسماء الغريبة إلى مجموعات كثيرة منها أسماء الحيوانات والحشرات والمستحثات وأبطال الأساطير اليونانية وأسماء الفلاسفة وغيرهم. قام صاحبنا بنسخ آلاف المعرفات الإلحادية من مواقع الشبكة ليطعم بها مشروع برنامجه. ومما سترونه لو قدر لهذا العمل الجليل أن يكتمل مواضيع مذيلة بالأسماء التالية: عبد الصدفة, نبي الحقيقة, ابن عبد هواه, خادم دارون, الراهب الملحد, الثعلب المعمم, حمار ماركس, هدهد التنوير, السلف المشترك, خطيب آردي, خنفس الفضاء, حفيد آينشتاين, جار بيغاسوس, مستر سوفوكليس...

وما أن يتم تفعيل اشتراك الأعضاء المسجلين حتى يبدأ البرنامج في إنشاء المواضيع الإلحادية, فهو مزود بقاعدة بيانات ضخمة تضم بحرا من الشبهات والتشكيكات والمغالطات التي أنتجها العقل الإلحادي عبر تاريخه الطويل. وهذا بؤبؤ عين البرنامج, وزبدة حياة أبي الإلحاد, إنه عصارة مواقع (الجرب والجذام) انتبذها في قرص صلب حتى أنتنت, ثم صبها في ملفات مخفية, ثم حصنها بأرقام سرية, وكان يرجو أن تكتب لها حياة ثانية, وهاهو حلمه يوشك أن يتحقق, ستشتغل الآلة التنويرية قريبا لتبث خلاصة جهاد صاحبنا في أرجاء العالم الإلكتروني. وتندرج هذه الشبهات تحت أبواب متعددة, فهناك شبهات لغوية وتاريخية وجغرافية ورياضية وفلسفية وتطورية وسيكولوجية وسوسيولوجية ومنطقية وهلم جرا.

فإذا اختار البرنامج مثلا شبهة تطورية, فإن أقساما أخرى كثيرة تندرج تحتها, فهناك شبهات متعلقة بالحشرات وأخرى بالفقريات وأخرى بالرخويات وأخرى بالصدفيات وأخرى بالحرشفيات وأخرى بالطفيليات وقس على ذلك. ولو تصورنا أن البرنامج اختار شبهة تطورية تتعلق بالحشرات, فإنه سيقوم مثلا بجرد يشمل كل أنواع النمل المعروفة قديما وحديثا, بما فيها المستحثات التي تؤرخ للفصائل النملية المنقرضة, وسيقوم بجرد لدراسات الأجهزة الحيوية للنمل, ويرفقها بنتائج تشريحها من أرقى الجامعات الغربية التي تدرّس جميعها التطور كما هو معلوم, وسيثبت بالأدلة العلمية الدامغة أن أيا من أصناف النمل المعروفة لا يمتلك حبالا صوتية, و بناء على ذك سيقوم البرنامج باختيار عنوان الموضوع: "زميلي المسلم: كلام النمل مستحيل داروينيا" عندها يتم اختيار اسم الزميل الذي سيتصدر اسمه الموضوع, ولنقل إنه (خادم دارون), ولا يبقى بعد ذلك إلا نشر الموضوع على الشبكة ليقوم البرنامج بالجزء الأهون من عمله, فيؤلف الردود العلمية الدقيقة من قبيل: "لول, تسلم يا زعيم" و "ثانك يو مستر دارون بوي" و "بصراحة, رد علمي يصلح للنشر في مجلة علمية." و "يحيا التطور" وأمثال هذه العبارات التي تملأ مواقع الزملاء.

بعد ساعات جاء رد الزميل (الحلاج الهاكر). بدأ صاحبنا يقرأ بتركيز شديد:

"عزيزي أبا الإلحاد, لقد فهمت فكرة مشروعك, إنك تريد تصميم فايروس متعدد الوظائف, إنك تريد شيئا يجمع بين القدرة على التناسخ وبين آليات التحليل والتأليف والترتيب, إنك تريد باختصار حصان طروادة بالغ التعقيد مجهزا بمضامين إلحادية دقيقة ومركزة. بصراحة قد أعجبت بفكرتك وقضيت بضع ساعات أبرمج نسخة تجريبية للبرنامج, يمكنك البناء عليها لو أحببت. تحياتي لك ومتمنياتي بحياة إلحادية سعيدة وحافلة بالمسرات."
البرنامج في المرفقات.
توقيع (الحلاج الهاكر): ما في الجبة إلا الإلحاد.

أحس أبو الإلحاد بقلبه يتراقص في صدره من الفرح, حرك زر الفأرة بأنامل مرتعشة ونقر على أيقونة البرنامج وبدأ التنصيب. وحين بدت له واجهة البرنامج ضغط على زر التشغيل, فبدأ البرنامج عمله, فتح صفحة واثنتين وثلاثا حتى بلغ عشرات الصفحات, ثم بدأ يسجل الأسماء ويؤلف المواضيع, صارت الشاشة تهتز أمام ناظريه كأنها تئن من ثقل مئات الصفحات المتناسخة, حاول أن يغلق بعض النوافذ, لكن أضعافها حلت محلها في لمح البصر, جلس صاحبنا يحك رأسه وينظر إلى فايروس الإلحاد يفتك بحاسوبه, لم يجد بدا من فصله عن تيار الكهرباء. لقد خرب البرنامج التنويري الجهاز, وضاع تعب السنين, فكيف لو أتيح له أن ينتشر على الشبكة ليصل إلى ملايين البيوت؟ رأى صاحبنا ثمرة عقدين من نضاله الإلكتروني تذهب أدراج الرياح فحمد الصدفة أن منحته عقلا لم يفلح فايروس الإلحاد في تخريبه في سنوات طويلة كما صنع بالحاسوب في دقائق معدودة ثم خرج إلى المقهى لعل فنجان قهوة ولفافة دخان تنسيه مرارة فشله الجديد.

هشام بن الزبير
11-01-2011, 09:28 PM
33 طواف بين الحقيقة والحلم


رأى صاحبنا نفسه يغمره البياض من كل حدب وصوب, لم يتبين من أين يشع كل ذلك النور, لكنه مشى كأنه يخوض في قطن مندوف, شعر بانشراح عجيب وخيل إليه أن صدره يسع الكون أجمع, ثم سمع رنينا رتيبا يسري في مسامعه, مد يده إلى الجوال وأوقف المنبه وظل ممسكا به ساعة حسبها برهة, ثم حدق في شاشته لحظات كأنه يستعيد شيئا فشيئا صلته بهذا العالم, قفز فجأة من فراشه, لقد تأخر عن موعد العمل لليوم الثاني هذا الأسبوع.

لبس ثيابه عجلان وخرج يهرول. قطع طريقه وحلمه الأبيض لا يفارق ذهنه ونشوته تكاد تطغى على غضبه من تأخره المتكرر. وصل إلى البوابة فحياه عبد الكبير ثم قال كلمة عجيبة: "عقبى لنا يا حاج!", يا له من صباح عجيب, إن عبد الكبير شيخ وقور لا يمزح معه عادة, إنه يجلس طيلة النهار في حجرته الصغيرة يراقب البوابة ولا يكاد ينطق بشيء, فما باله اليوم؟

دخل إلى المبنى فأحس أن شيئا غريبا يسري في الهواء, ثم خيل إليه أن أبصار زملائه ترمقه بنظرات لم يعهدها من قبل, وقبل أن يفكر في تفسير يخفف دهشته ناداه سليم: "المدير يطلبك في مكتبه". شعر أبو الإلحاد بعرق بارد يتحدر بين كتفيه ونظر إلى ساعته, لقد تأخر كثيرا, لا بد أنه سيسمع توبيخا وتقريعا, تبا! لماذا لا يتوقع خيرا؟ قد يكون خبر سار ينتظره في الطابق الثاني, من يدري؟

طرق الباب طرقا خفيفا ودخل على المدير خلف مكتبه الفخم الذي يملأ المكان, كان رجلا أنيقا يشارف الستين. "تفضل اجلس, ماذا تشرب قهوة أم شاي؟" جلس أبو الإلحاد وهو يحدث نفسه بأن هذا أول الشر, لا بد أن صاعقة ستنزل على رأسه, إن خبرا مزلزلا يحوم فوقه, لا بد إذن من تلطيف المزاج ببعض الشراب الساخن. همهم: "قهوة من فضلك." صب له فنجانا وهو يقول: "كما تعلم فإن أرباح الشركة تضاعفت في العقد الأخير, وقد حان الأوان ليقتسم الجميع نتائج النجاح..." نزلت هذه الكلمات على صاحبنا كالماء البارد, وأحس أن عبئا ثقيلا قد انزاح عن كاهله, ارتشف قليلا من القهوة, وانفرجت أساريره, قال يحدث نفسه: "لا بد أنها ترقية, لا لا, مستحيل, إن من زملائه من هو أحق منه بشيء كهذا."

استرسل المدير في حديثه: "حان الوقت لنرد بعض الجميل للمستخدمين, لقد افتتحنا برنامجا للخدمات الإجتماعية, وبعد تشاور مع مجلس الإدارة قررنا أن نبدأ هذه السنة بإجراء قرعة سنوية لمنح رحلة إلى الحج."
عند هذه العبارة أحس أبو الإلحاد أن الزمن قد توقف وأن عقله لم يعد يعي مما يجري حوله إلا صورة باهتة, لم يعد يسمع شيئا, كان ينظر إلى شفتي المدير تتحركان كأنه في عرض بطيء لفيلم صامت بلا ألوان, فجأة لم يعد يرى أمامه إلا أثر السجود على جبين مخاطبه, تذكر حلمه الجميل, تذكر سروره بالبياض. ثم طرقت هذه الكلمات سمعه: "أهنئك, لقد تم السحب بالأمس وحصلت على منحة سفر إلى الحج." قام المدير ومد إليه يده مصافحا. التقت كفاهما, وأحس لأول مرة في حياته أن الأرض تدور بالفعل, جلس في هدوء ثم بدأ جسمه يرتعش ويهتز, لم يتمالك نفسه ضحك كأنه طفل, ثم انخرط في بكاء خافت, لم يدر ما الذي أصابه, مد إليه المدير منديلا وقال: "أفهم شعورك يا ابني, خذ إجازة لبقية اليوم لتكمل بقية الإجراءات." أراد صاحبنا أن يقول شيئا, أراد أن يعتذر, أراد أن يعترض, لكنه كان أشبه بمن يحلم أنه في خطر داهم يريد الركض للنجاة منه, لولا أن أعضاءه لا تطاوعه, قام المدير وفتح له الباب.

خرج من المكتب فوجد زملاءه مجتمعين في مدخل الممر, جاءه سليم وربت على كتفه قائلا: "هذه فرصتك, افتح صفحة جديدة يا صديقي." أحس بدمعة حارة تترقرق في عينه, وخرج مسرعا لا يلوي على شيء. إنه يحب الأسفار. سافر في أوج شبابه إلى أوربا. وكان يحلم بزيارة موسكو حين كانت أحلام الملاحدة حمراء بلون الدم. لو أتيح له ذلك حينها لكان زار ضريح الزميل المحنط لينين. إن لأهل الإلحاد مزارات ورموزا يعظمونها, لكن ماله ولهم؟ إنه يكاد يفقد صوابه من هول ما جرى في هذا الصباح العجيب.
تساءل عن سبب بغض زملائه الملاحدة لمناسك الحج الإسلامي, لماذا تصرف الملايين على أفلام تمجد البوذية وتصور حجاج لاهاسا الزاحفين على بطونهم وأيديهم؟ قد يقول قائلهم: "إنها إرث حضاري قديم وثقافة عريقة." لماذا لا يسعهم أن يقولوا عن الحج مثل ذلك؟

جلس في مقهى ليرمم شظايا نفسه, ويستعيد شريط أيامه, ويتأمل في فهرس حياته, أغمض عينيه لعله يعود ليرى بياض حلمه المشع, تذكر عبد الكبير بشعره الأبيض وملامحه الهادئة وهو يقول له: "عقبى لنا يا حاج!" أخرج جواله وأطرق يرتب أفكاره ويستجمع قواه, ثم أجرى المكالمة, رن الهاتف مرات ثم سمع رسالة العلبة الصوتية, فسره أنه يخاطب آلة لا تملك أن تراجعه في قراره وقال: "سيدي المدير, فاتني أن أشكركم, لكني اتنازل عن هذه المنحة السخية لعبد الكبير البواب, فهو أحق بها مني . شكرا لكم."

هشام بن الزبير
12-01-2011, 11:41 AM
34 الجينوم قاهر الإلحاد


جلس أبو الإلحاد يقرأ كتاب "وهم الإله" للقسيس دونكي ويقلب صفحاته في ملل, لم تعد مطالعاته الإلحادية تحرك كوامن نفسه الراكدة, لقد فترت حماسته, واشتدت تعاسته, وشعر أنه محبوس في نفق طويل مظلم. أغلق الكتاب ونظر إلى غلافه في شرود فقرأ: "وهم الإلحاد", فرك عينيه وهو لا يصدق ما يراه, اجتهد أن يقرأ العنوان الأصلي, فلم يفلح في طرد هذا العنوان المزيف السخيف, لا بد أن أعصابه المرهقة صمّمت هذه الخدعة البصرية الماكرة. رمى بالكتاب بعيدا وجلس إلى حاسوبه ليخط مقالة يعرض فيها لأزمة الملحد في عصر عودة الإيمان.

كتب صاحبنا في مدونته: "يتعرض الإلحاد المعاصر لحرب ضروس ينبغي لأهل التنوير أن يخوضوا غمارها بشجاعة ورباطة جأش. والأمر في البلاد العربية أشد خطرا, إذ أن رياح الإيمان بدأت تنفخ من جديد في أشرعة أهل الإسلام, فإن تقاعسنا فسرعان ما يستفحل الخطب, ويستتب لخصومنا الأمر, فيجتثوا بذرة الإلحاد الوليدة من أرضهم, قبل أن تخرج من قشرتها الليبرالية والعلمانية الهشة.

إن مذهبنا قائم على الكفر بالغيب, والإيمان بما كان نقدا حاضرا في الجيب, إلا أن الإلحاد لا يستغني عن النظرة الغيبيبة المستقبلية التي تستشرف المجهول المتوقع, وتحاذر المكروه قبل أن يقع, وأرى أن تسويق مذهبنا يقتضي أن نلائم بينه وبين واقعنا الشرقي وتراثنا الميتافيزيقي . لقد دوّن التاريخ أن فلاسفة التنوير واجهوا في الغرب بيئة غير بيئتنا و خصوما غير خصومنا. إننا لا نواجه كنيسة ولا فكرا لاهوتيا عاكفا في أديرة وصوامع, بل نواجه مجتمعا كاملا متراصا يتغلغل فيه التدين من ذؤابته إلى أخمص قدميه, إننا نحاول أمرا لو انبرى له مونتيسكيو وفولتير وسبينوزا لأعجزهم, ولست أدري كيف السبيل لنجتث التدين من أمة لا يحمل الفرد منها اللقمة إلى فيه, ولا يدخل, ولا يخرج, ولا يجلس, ولا يضطجع, إلا وهو يتمتم ويتعوذ؟

إن سلفنا من فلاسفة التنوير في أوربا نجحوا لأنهم واجهوا خصما يدين بالجهل ويتنكر للعلم, فعكفوا في معاهدهم ومختبراتهم يصلون الليل بالنهار حتى تكشفت لهم نتف من حقائق العالم المادي فسرّوا واستبشروا وصرخوا في قومهم: "إن هو إلا عالم مادي يسير وفق قوانين فيزيائية ثابتة, إن الكون إلا آلة عظيمة, توشك عقولنا العبقرية أن تحيط بتفاصيل أجزائها علما, فيصير الغائب من حقائقه أمام أعيننا جليا ظاهرا."

هكذا تم لفلاسفة النهضة ما أرادوه, لقد جعلوا العامة يكفرون بدين الكنيسة ويعتنقون دين العلم, فعظمت آمالهم وترقبوا الجولة الأخيرة من المعركة التي ستطيح برأس الدين والإيمان إلى الأبد. لقد توهم الملاحدة منذئذ أنهم يوشكون أن يثبتوا لأهل الإيمان بالدليل المادي كم كانوا مخطئين في إثباتهم خالقا مدبرا يمسك بمقاليد الكون. فلبثوا يترقبون أن يسعفهم العلم بالنظرية التي تفسر كل شيء تفسيرا ماديا يجهز على ما في الأرض من بقايا الإيمان. لكن هيهات, لقد اكتشفوا بعد حين أن الكون ليس آلة في واقع الأمر, وليس نظاما جامدا رتيبا, بل هو عوالم عجيبة متشعبة متراكبة, تتجدد فيها الحياة في كل يوم وفي كل دقيقة, بل في كل لمحة ونفس.

أطرق أبو الإلحاد يتفكر في عظمة القوانين المادية المذهلة التي استطاعت أن تصنع هذا الكون الفسيح العجيب من مادة حقيرة تتقاذفها أمواج الصدف ويطورها كرور القرون والأحقاب, في فوضى خلاقة, وعشوائية منظمة, لا قصد لها ولا هدف ولا معنى. ثم خطر له أن التصور الإلحادي للحياة والكون أشبه شيء بحبات عقد متناثرة لا يضمها خيط, وأن لا بد للمتنورين من فك اللغز بأكمله حتى يفحموا المتدينين ويسكتوهم إلى الأبد, لا مناص إذن من تحقيق الفتح الأعظم بالكشف عن الحلقة المفقودة التي يخرس بها أساطين العلم المادي الألسنة المسبحة, ويقطعون بها حجج العقول المؤمنة, لا بد لهم من كشف السر الأعظم, سر الوجود وسر الحياة.

أقر صاحبنا في قرارة نفسه أن العلوم الكونية كثيرا ما تلح عليه أن يراجع نفسه في مسلماته الإلحادية, التي خلخلتها النشرات العلمية, و أوهتها الحقائق العلمية التي تظافرت لترسم للكون صورة مذهلة غير الصورة الرتيبة التي تصورها ملاحدة القرن التاسع عشر. إن أعظم ما يعكر صفوه ويحز في نفسه حال المسلمين عند كل كشف علمي جديد, فإنهم يزدادون ثباتا على إيمانهم, بدل أن يلحدوا مثله, ويسبحون خالقا لا يرونه, بدل أن يعجبوا بالمادة التي يلمسونها, ويثنون على علم إله لا يسمعونه, بدل أن يتغنوا بعبقرية الطبيعة وهم يحيون في أحضانها.

تذكر حاله يوما حين دعا مسلما إلى اتخاذ الموقف الإلحادي الشجاع بطرح الدين والتنصل من الإيمان, فأجابه: "أيها الزميل في جسمي 100 ترليون خلية, في كل خلية قاعدة بيانات مفقلة متناهية في الصغر, كتيب ميكروسكوبي قوامه ثلاثة بلايين من الحروف الكيميائية, لو صفت لامتدت على مسافة ثلاثة آلاف كيلومتر, إنها حروف رتبت لتؤدي معنى, وأنا ذلك المعنى, فقد تضمنت جنسي ولون شعري وبشري وصفاتي الخِلقية التي تميزني, فهل أنا مجنون حتى تقنعني أنها نشأت وتجمعت بمحض الصدفة؟ إنه "الدي إن إي" أيها الزميل, وقد زادني استمساكا بديني, إنه الجينوم قاهر الإلحاد يا عزيزي, فهل تملك الصدفة حقوق تأليفه؟"

تحميل الجزء الأول من يوميات أبي الإلحاد (http://www.4shared.com/document/7Thd494s/Abo-Ilhad-1.html)

هشام بن الزبير
12-18-2011, 12:40 PM
ماشاء الله تبارك الله ....
في الحقيقة الكتابات الأدبية كُثُر , والكتابات الكوميدية الساخرة كذلك .
لكن يندر ان تجد من يجمع بينها بهكذا اتزان , بارك الله فيك وزادك من فضله وجوده
السلام عليكم ..

أخي الحبيب حفيد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته, وجزاك الله خيرا على ثنائك الجميل. هذه اليوميات هي ردي على ركام البذاء الذي يقذفنا به زملاء أبي الإلحاد هداهم الله, وأبشرك ان هذه اليوميات تؤدي دورها بحمد الله, وحسبي أن أحدا منهم لم يجرؤ أن يعارضها أو يرد عليها, وقد قام بعض الفضلاء بنقلها إلى مواقعهم, فأثبتوا أنهم لا يجيدون إلا السب الفاحش, وأنهم عاجزون عن فهم شيء يدعى الأدب الساخر.

هشام بن الزبير
12-18-2011, 12:42 PM
35 هل وراء كل ملحد عظيم قرد؟


ظل صاحبنا يجر رجليه على أرض تعاسته, ويفقد مع مرّ الأيام حماسته, لم يبق في حياته الباهتة شيء ذو بال, إلا عمله الممل الذي ينجزه في شرود مستمر, أما ساحات (الجرب والجذام) الإلكترونية فقد خبا بريقها في عينيه. تخيل نفسه ركاما مرميا على قارعة طريق الحياة, والناس يمرون به فلا يناله منهم إلا بعض نظرات الشفقة, تخيل أحدهم يسأل صاحبه: "المسكين, ماله؟" فيجيبه: "لا شيء, لقد دهسه الإلحاد." جلس في بيته يقلب فهرس نكساته المتتالية, ويتأمل تفاصيل فشله وإخفاقه, ويتساءل عن السبيل إلى افتتاح فصل جديد.

وجد مقالا في مجلة تنويرية عنوانه: "كيف ترمم حياتك في خمسة أيام", قرأه مرارا وأعجب بأفكاره المدهشة, فعزم على تطبيقها في حياته لقهر الرتابة التي تخنقه. لكن حالته مستعصية فماذا عساه يصنع؟ فليبدأ ببعث الحياة في مسكنه, لا بد أن يضفي شيئا من الجمال على هذه الجدران الباهتة, نظر إلى صورة العم دارون التي تزين الجدار, تأمل لحيته التي تضفي عليه الوقار, اقترب منه ونظر في عينيه ونفخ بفمه ليزيل عن صفحة وجهه الغبار, ثم قرر أن يحيطه بصور تذكره بأصوله البعيدة وبأسلافه الأولين, بحث عن عدد قديم لمجلة ناشيونال جيوجرافيك فاقتطع منه صور أسلافه الأقدمين كالأسترالوبيثيكس والهومو إيريكتس والهومو هابيليس وجعلهم يحيطون بأبي التطور دارون. نظر إلى ظهورهم المقوسة ووجوهم البشعة فشعر بشيء من الإرتياح, عليه ألا يبالغ في تشاؤمه, فهو يملك على الأقل أن يمشي منتصب القامة مرفوع الهامة, لكنه يدين لأولئك الرواد بالفضل, إنهم من وهبه كل ما يملكه الآن من ميزات بيولوجية رائعة. تذكر مثله الأعلى البروفيسور "دونكي" في حوار له مع رجل إفريقي, تذكر كيف قال له في تواضع دارويني جم: "إني قرد إفريقي, وأنا فخور بذلك." لكن أبا الإلحاد لا يقنع بهذا النسب المقتضب, إنه يحب أن يعرف شجرة نسبه كاملة بجذورها وفروعها وأغصانها, الإلحاد يوشك أن يفسر كل شيء, فما المانع من وجود علم أنساب إلحادي يستند إلى شجرة التطور؟

جلس إلى مكتبه يتفكر في هذه المسألة العظيمة, أغمض عينيه مجتهدا أن يمسك بخيوط فكرته الجديدة, لا بد أنها ستقربه من فهم لغز تحول الأنواع, فإن عقله لم يتخلص قط من شكوكه في صحة نسبه الدارويني. إن نظرية التطور صحيحة لأن الإلحاد صحيح, لقد أصبحت أسّه وركنه الأعظم, لذا يسعى الخصم جاهدا لنقضها وإبطالها. كيف استطاع أجداده الأوائل أن يحفزوا مواهبهم التطورية؟ هل كانت مسيرتهم الداروينية جهدا بيولوجيا واعيا؟ هل كانوا يفهمون معنى الإنتخاب الطبيعي؟ هل تكفي غريزة حب البقاء لتفسير هذا التحول الباهر من قرد لإنسان؟ لماذا عجزت القرود الأخرى عن تحقيق هذه المعجزة الداروينية؟ لماذا أخفقت جهود الزملاء في تحفيز القدرات اللغوية لقريبهم الشمبانزي؟ من هم أولئك القرود الرواد الذين نجحوا في تطوير أنفسهم إلى هذه الصورة الإنسانية الفريدة؟

انثال عليه سيل من الأسئلة وهو يتأمل ألبوم الصور العائلية فخطر له أن القرود التي استوعبت آليات التطور والإنتخاب الطبيعي قرود فريدة بلا شك, وأنه لو عاد بعجلة الزمان إلى الخلف, لتشرف بلقاء سلفه الأول, أغمض عينيه كأنه يتمنى أن يرى ذلك القرد المثابر الذي يدين له بهذه النقلة النوعية العظيمة, من كائن يكسوه الشعر ويتبعه ذيل, إلى إنسان وسيم ذي جلد حسن وصورة طيبة. تخيل جده الأكبر يتسلق شجرة باسقة قبيل الغروب ويتأمل قرص الشمس وهو يختفي في الأفق شيئا فشيئا, ترى هل أدى به انعزاله عن بني جنسه للتأمل, إلى تحفيز خلاياه العصبية ليتطور دماغه, وليكتسب رويدا رويدا خاصية التفكير التجريدي؟ هل استطاع القرد اللبيب أن يخترع التفكير؟ هل خطر بباله أن يطمح لحياة غير حياته, وأن يتفكر في مستقبل أحفاده؟ هل بدأت بعض الخلايا العصبية المتطورة بتهييء بقية أجزاء الآلة الداروينية لرحلتها التطورية؟ هل تعرضت بعض القرود "المؤنسنة" إلى نكسات داروينية مفاجئة؟ هل المسخ الذي يذكره المتدينون دليل على أن بعض القرود تطورت من الإنسان؟

أحس أبو الإلحاد برأسه تدور, ولم يفض به التفكير المضني إلى شيء يذكر, لكنه شعر بالفخر يملأ صدره بعدما ذكر مناقب أبائه الأقدمين, وتحسر لأن أباه عاش مسلما ولم يتح له أن يطلع على جذوره الداروينية. لكن الإبن يملك أن يتدارك بعض ما فات, إن له في القرود رحماً سيبلها ببلالها, إنه يستطيع أن يرد بعض الجميل لأبناء عمومته من الفصائل القردية, تعجّب كيف يهتم البشر بالكلاب والقطط, أوَليس أولو القربى أولى بالمعروف؟

وجد صاحبنا على الشبكة كتابا لطيفا اسمه "الرائق في تربية القرود", بدأ يتصفحه فقرأ: "عزيزي المتنور, إذا كنت تقرأ هذه المقدمة, فهذا يعني أنك تشاركنا رغبتنا في رد الإعتبار إلى أقاربنا الداروينيين, وتسعى لتربية قرد منزلي, نحن قطعا لا نملك أن نربي الغوريلا أو الأورانجوتان في عصر التكدس في المدن وأزمة الإسكان, تخيل نفسك في الحافلة أو المصعد مع غوريلا ضخم مفتول العضلات, لكن لحسن الحظ فإن هناك قرودا لطيفة المنظر خفيفة المحمل..."
شرد صاحبنا بعيدا وهو يتخيل مزايا القرود إذا قيست بالكلاب, إنها بارعة في استعمال أيديها وتستطيع أن تقوم لك ببعض الأعمال, بل إنك تقدر أن تعلمها أن تغسل أسنانها بالفرشاة وأن تنام في السرير. حقا إن القرود زينة الحياة الإلحادية.

ابو ذر الغفارى
12-18-2011, 01:21 PM
بسم الله ما شاء الله لا قوة الا بالله اللهم بارك فى تلك الموهبة الأدبية وصاحبها
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت أن شعره أشد على قريش من وقع النبال

اخت مسلمة
12-18-2011, 08:27 PM
رائِع يا هِشام ماشاء الله ,,, بارَك الله في قلمِك وزادكَ حُسنَ بيان
الآن عليكَ إضافة يوميات أبو الإلحاد ( المُمنطق ) , فقد حلّ بِباكُم وأطلق تجريداته في داركم , فوجب الترحيب الهِشامي له ..!
هيّا سُل لهُ قلمَك البتّار , وعلِمه منطِق العُقلاء ..!

هشام بن الزبير
02-09-2012, 10:01 PM
بسم الله ما شاء الله لا قوة الا بالله اللهم بارك فى تلك الموهبة الأدبية وصاحبها
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت أن شعره أشد على قريش من وقع النبال

أخي الكريم أحمد, بارك الله فيك وفي علمك, أنا أعتبر هذه اليوميات من إنتاج منتدى التوحيد, وهي جوابي على ما أراه وأسمعه من عجائب الزملاء كل يوم.


رائِع يا هِشام ماشاء الله ,,, بارَك الله في قلمِك وزادكَ حُسنَ بيان
الآن عليكَ إضافة يوميات أبو الإلحاد ( المُمنطق ) , فقد حلّ بِباكُم وأطلق تجريداته في داركم , فوجب الترحيب الهِشامي له ..!
هيّا سُل لهُ قلمَك البتّار , وعلِمه منطِق العُقلاء ..!

جزاك الله خيرا أختي الفاضلة, وقد قمت بالفعل بكتابة يومية حول المنطق الإلحادي العجيب سترينها هنا بعد قليل إن شاء الله.

هشام بن الزبير
02-09-2012, 10:07 PM
36 تعلم المنطق الإلحادي بغير معلم


دخل صاحبنا منتدى إلكترونيا يتصفح مناظرات زملائه مع المؤمنين, فوجدهم يخوضون في كل علم, ويتسللون من كل باب, ويتعلقون بكل شبهة. كانوا يتقافزون في خفة الطير من علم إلى علم, ومن فن إلى فن, فمن الفلسفة إلى البيولوجيا, ومن الفيزياء إلى الرياضيات, ومن علم الفلك إلى الجيولوجيا, ومن الطب إلى الفلك, ومن التاريخ إلى الأخلاق. حك أنفه وهو يهمهم: "يبدو أن رفقاء (الجرب والجذام) يرون أن العلوم كلها تصلح لنقض الإسلام!"

لكن أمرا عجيبا استوقفه, إن الزملاء يكررون أثناء خوضهم في كل تلك المباحث المتشعبة لفظ المنطق, ففكر أبو الإلحاد في استقراء المنطق الإلحادي, عساه يستكمل الآلة اللازمة لإفحام المتدينين. إن معلوماته حول المنطق تشبه معلومات جدته عن الفيزياء النووية, لكنه يرجو أن يستخلص من مشاركات زملائه ما يمحو به أميته في هذا العلم الجليل. تذكر أنهم كثيرا ما يتحدثون عن المنطق الأرسطي, فخطر له أن الزميل (أرسطو) في المنتدى اللاديني العتيد لا بد أن يكون ملما بهذا الفن.

أرسل إليه رسالة خاصة يستفسره فجاءه الجواب المفصل سريعا مذيلا بروابط الويكيبيديا, قرأ عصارة المنطق الأرسطي بعينين جاحظتين وتركيز شديد, ثم أغمض عينيه ليتصور مسائله ويتشرب قضاياه, ثم سرعان ما طفق يقلب نظره في المقدمات ويسلك بفكره طرق الإستدلال, ويحاذر الوقوع في التناقض, ويجتهد أن يصل إلى نتائج أولى مغامراته المنطقية. أحس بنفسه يغوص في بحر أفكاره, وولج هذه المتاهة المتشعبة المظلمة:

"أنا ملحد إذن أنا موجود, أنا موجود لأني أرى أرنبة أنفي, عجبا, لماذا يسمونها أرنبة؟ ربما تطورت من نوع ما من الأرانب, هل تحمل اللغة العربية إشارات إلى نظرية التطور؟ سأبحث في ذلك لاحقا, مهما يكن الأمر فأنا أفضل حالا من الأرانب, وأنا أعي ذلك لأن دماغي متطور, أنا ملحد عقلاني إذن أنا لا أؤمن بالفكر الخرافي, أنا لم أر الإبريق الصيني الطائر ولا العفاريت ولا الآلهة, إذن كل أولئك غير موجودين, لكن وحش السباجيتي الطائر موجود, والصلصة الإلحادية التي تزينه موجودة, والعالم موجود, تبا إنه موجود وأنا ملحد!" انغمس في هلوساته المنطقية ولم يشعر إلا وهو يغمغم ويحدث نفسه, ولم يجد في خلوته حرجا في ذلك.

" العالم لم يكن شيئا, ثم كان انفجار عظيم, فنتج عنه هذا العالم العجيب, ترى هل هذا منطقي؟, يا للهول لقد نتج شيء عن لا شيء, فهل من سبب يفسر ذلك؟ ما دمنا لا نرى شيئا غير هذا العالم, إذن فوجوده لا يحتاج لسبب, لكن يبقى أن المنطق يقول: لكل فعل فاعل, فكيف يمكن حل معضلة قانون السببية الذي صدع به المتدينون رؤوس الملحدين؟ العالم الذي نحن فيه عبارة عن شظايا الإنفجار العظيم, إنها شظايا انتظمت بفعل الصدفة عبر بلايين السنين لتكون لنا هذا الكون العجيب, وإذا تصورنا ما لا نهاية له من الأكوان المتوازية المتراكبة, فإن لكل منها منطقه الخاص به, إذن فالمنطق لا يكتسب سلطته إلا بعد وجود العالم, وقبل وجوده فكل شيء ممكن, وإن خالف منطقنا الحادث, ربما كان هناك منطق آخر خارج العالم تحدث بموجبه الحوادث بدون محدث, ويحصل الفعل بلا فاعل, حتى إذا خرج العالم من رحم العدم انتظم في سلك القوانين المنطقية واحتكم في حركته إلى السببية."

فغر أبو الإلحاد فاه وقد أخذه الزهو بنفسه, هل استطاع أن يتشرب المنطق الإلحادي بقراءة رسالة واحدة لأحد أقطاب الزملاء؟ ماذا لو عكف على أمهات الكتب الفلسفية؟ ربما استطاع أن يحل معضلة الفكر الإلحادي التي حيرت حبيبه البروفيسور "دونكي" حتى انزلق إلى الإيمان بالفضائيين. إن السببية تفسر ما يجري داخل العالم, ولا تفسر ما يجري خارجه ولا ما كان قبله, يجوز إذن أن يحصل أي شيء من لا شيء ومن أجل لا شيء قبل أن يكون شيء ثم يحصل شيء يؤدي إلى كل شيء. خطر له أنه يوشك أن يمسك بالخيط الذي يفسر كل شيء ويحل معضلاته الفسلفية ويشفي شكوكه وهواجسه الوجودية إلى الأبد, هكذا إذن إن الإلحاد مذهب يستمد قوته من عدميته, الإنفجار العظيم لا سبب له, والوجود لا سبب له, والأفعال لا تحتاج لفاعل إلا في منطقنا الذي خلفته شظايا الإنفجار العظيم. لكن من قال إن منطقنا ثابت؟ من قال إن له حقيقة؟ ربما كانت الصدف التراكمية والإحتمالات الرياضية للمكونات المادية العجيبة لهذا العالم توهمنا أن ثمة منطقا ما يفسر ما يجري حولنا, ليتني أستطيع أن أتحرر من هذا المنطق نفسه فأكون مثل فوتون أو إلكترون أو كوارك لا يكترث لشيء أبدا, ياه, ما أسعدني بالمنطق, وما أتعسني به! فلأجرب أن أتحرر من سيطرة هذه القيود المنطقية الصارمة:

"أنا ملحد لأن الصلصة حمراء ولأن هذه المادة الرمادية اللعينة في جمجمتي تغلي كأنها بركان يوشك أن ينفجر, لكن انفجاره لا يؤدي في ظاهره إلا إلى الدمار, لكنه يخلق في الواقع عوالم متوازية تنشأ إثر كل انفجار بركاني, لكنا لا نراها, أنا ملحد إذن الأكوان المتوازية موجودة والدليل هذا الهراء الذي يعصف في رأسي الساعة, أين كانت المادة قبل الإنفجار العظيم؟ لا بد أنها كانت تتحين الفرصة المناسبة لتخرج للوجود, لتصنع كل شيء, ولتجعل بعض الغبار يتحول إلى هذا الكائن التعيس الذي يقعي الآن في الحمام ويهذي كالمجنون, منطق.. منطق.. طق.. طق.. طقطق.. إنه يسمع صوتا, طقطق.., تساءل في نفسه: "من؟" طق.. طق.. هل هو طرق على الباب؟ تساءل في شروده: "من الطارق يا ترى؟" ثم خطر له ما استقر في باله أخيرا أن المنطق لا يعدو أن يكون وهما من إنتاج الخلايا في رأسه, إذن كيف يجزم أن هذه الطقطقة تحتاج لفاعل؟ إنه لا يستطيع بالفعل أن يجزم بذلك, طق طق, تجاهل الأمر وغاص في هلوساته, لكن الطرق اشتد, ثم سمع صوتا مألوفا: "لماذا لا تفتح الباب, هل أنت نائم؟" إنه صوت زوجه, لكن من أدراه أنها هي, إنه لم يرها بعد, هناك احتمال ما أن ينتج الصوت الخادع بنفس الطريقة التي نتج بها الكون برمته, ما أعظم المنطق الإلحادي, طق.. طق.. طق.. بدأ الباب يهتز, فانتبه من شروده وقام ليفتحه, فوجد زوجه وقد تملكها الغضب, دفعته وهي تصيح: "ماذا كنت تفعل؟ هل أصبت بالصمم؟" فنظر إليها معتذرا وقال: "أبدا عزيزتي, كان صوت التلفاز مرتفعا, على فكرة كم أشتهي طبق أرانب بالفستق."

loulou ranim
02-09-2012, 10:52 PM
بصراحة من أجمل و أبلغ ما قرأت بالنسبة للملحد العربي من حيث الأسلوب و الكتابة
يجب أن تجعل منه كتابا يا أستاذ .. أتحدق بكل جدية
فعلا ضربة قاضية في الصميم للملجدين او أبو الحاد
بارك الله فيكم

هشام بن الزبير
02-16-2012, 05:31 PM
أختي الكريمة ربما أنشر هذه اليوميات حين تكتمل, وهي إن شاء الله مستمرة جنبا إلى جنب مع سعينا لاجتثاث هذه النبتة الإلحادية الشوهاء التي ستصبح قريبا بعون الله أضحوكة يتندر بها العقلاء.
بارك الله فيك.

saqrarab
03-10-2012, 05:19 PM
بارك الله فيك
وصف دقيق لحالتهم باسلوب ممتع هداهم الله الى الحق

هشام بن الزبير
03-10-2012, 05:55 PM
وفيك بارك الله أخي الكريم.

ما أريد إلا الحق
03-19-2012, 10:25 AM
فعلاً ضحكت من كل قلبي :)
لديك أسلوب ساخر متميز إلا أنه يفتقر إلى الواقعية الإلحادية :)

بالتوفيق...

هشام بن الزبير
03-19-2012, 11:55 AM
أيها الزميل , إن كنت لا تريد إلا الحق فإني أبشرك أنك ستجده حتما, كل ما تحتاجه هو أن تسلك السبيل الموصلة إليه. كما أنك لو وقفت في مفترق طرق, تحتاج أن تحدد وجهتك, وإلا بقيت هناك حائرا مترددا. إذن قولك إنك لا تريد إلا الحق يؤهلك للوصول إليه إن كنت صادقا.
أما هذه اليوميات, فإن الغرض منها رغم طابعها الساخر أن أبين لبعض الزملاء أن النقد الساخر لا يرادف الشتم, كل ما أريده أن أحفز نفسي وغيري للتفكير في تناقض هذا المذهب المحيّر الذي يسمى الإلحاد.
أرجو لك الخير كله.

ياسرالعمراني
04-09-2012, 03:35 PM
حقيقة إنها كوميديا إلحادية.....هيهيهيهيهي

هشام بن الزبير
04-23-2012, 08:31 PM
37 مباراة الإلحاد

استيقظ أبو الالحاد على ذكرى حلم جميل يتفلت منه, اجتهد أن يتذكر بعض تفاصيله فلم يظفر بشيء, شعر بالضيق لعودته إلى عالم اليقظة. ملأ النور جدرانا تضمه, وفتح عينين مرهقتين ليبصر عالمه الكئيب من جديد. تناهى إليه صوت التلفاز الذي لا يكاد ينقطع, قرأت مذيعة فاتنة حصاد اليوم, كانت تعد الرؤوس المبتورة كأنها تتحدث عن أكياس البندورة, في الشريط خبر عاجل: "أجرى اللاعب الدولي شيشو جراحة معقدة لزراعة ركبة اصطناعية". عجبا صار البشر مثل الآلات يحتاجون لقطع الغيار! تساءل في نفسه: "إذا كان شيشو سيغيب عن الملاعب قرابة سنة, فمن سيأتي بالكأس, الفريق العريق في أزمة خانقة".

قام من فراشه فوجد نوال قد أعدت له فنجان قهوة, ارتشف رشفة وهو لا يكاد يقوى على فتح عينيه, فحمله خياله إلى يوم بعيد من أيام صباه, كان يحرس مرمى فريقه وكانت الحارة كلها ملعبا. تذكر كيف كان الأطفال يتخذون أسماء المشهورين من لاعبي الكرة, لا بد أن في الحارة الآن من يتسمى شيشو صاحب الحذاء الذهبي.

بدأ يتأقلم مع عالم اليقظة كأنه يخرج من نفق مظلم, فتح عينيه ونظر إلى زوجه, إنها أحسن منه حالا, فهي لا تحمل كل هذه الأثقال التي تكاد تدمر نفسه, إنها لست ملحدة مثله, إنها تداريه وتسايره أحيانا في بعض أمره, لكنه يعلم أنها لم تنخلع قط من ثقافة مجتمعها المحافظ, إنه لا يدعوها أم الإلحاد إلا لماما في معرض المزاح, ولا يحدثها بأفكاره إلا نادرا, إنه يخاف أن يفقدها إذ لم يتبق معه من رفاق دربه سواها.

بدأت هواجسه تنثال على رأسه, كانت نوال تحدثه فيهمهم ويحرك رأسه بين الفينة والأخرى, لم يسمع حرفا واحدا مما قالته, لقد كان في عالمه الخاص, أحس بالصداع, لقد قطع الشوط الأول من مسيرة الإلحاد وانقضت أيام العناد والتحدي, وأقبلت أيام العناء والنكد, نعم إن حياته أصبحت خطا مستقيما يربط بين نقط سوداء غير متناهية من الضنك والشقاء, إنك تراه يجلس الساعات الطوال مطرقا حزينا يحس بأن شيئا كريها يطبق على صدره ويكتم أنفاسه. إن المسلمين يخوّفونه من العذاب المؤجل, لكنه يحيا العذاب بالفعل. هل هي مقدمات الإكتئاب؟ هل سيقذف به الشوط الثاني من لعبة الإلحاد إلى عالم المرض والشذوذ النفسي؟ ماذا عن أشواطه الإضافية؟ لقد قرأ الكثير عن العلاقة بين الإلحاد والإنتحار. هل ستنتهي به مباراته المصيرية متدليا بحبل من السقف؟ أخذته قشعريرة وحرك رأسه مستنكرا. أحس بيد تربت على كتفه: "مابك؟ أما زلت نائما؟" أجابها: "أبدا, شردت قليلا." حركت رأسها في استغراب وقالت: " هذا ليس شرودا, إنك تعيش في عالم آخر, انظر إلى عينيك, ألم تنم بالليل؟"
"بلى, ما بال عينيّ؟"
قام إلى المرآة فإذا عيناه حمراوان تحفّهما خطوط سوداء, غسل وجهه بالماء البارد مرارا, ثم قال: "إني أشعر بالفعل ببعض التعب ."

تناول طعام الإفطار في صمت, ثم سلمته نوال لائحة المقتنيات فانصرف إلى السوق. وجد في الطريق صبيانا يلعبون الكرة في حديقة عامة, لم يشعر بنفسه إلا وهو مستند إلى حائط ينظر إليهم, تساءل في نفسه: "لماذا يحتاج البشر لحَكم حتى في أمر تافه كلعب الكرة؟ لماذا تحتاج لعبة كهذه لقواعد وأحكام وضوابط وعقوبات؟ حقا إنه أمر محيّر!" تذكر كيف كان حكام الكرة يرفلون في السواد كأنهم قضاة في محكمة, إذا كان اللهو والعبث يحتاج لكل هذا النظام, فما بالك بالكون بأسره, وما بالك بهذا الإنسان العجيب نفسه, إن مباراة الإلحاد نفسها تخضع لقواعد صارمة, إنها تبدأ بحركات تسخينية تشعر لاعبها بالغرور والثقة, لكنه شعور خادع سرعان ما يندثر, إنها لعبة تفضي بصاحبها إلى نفق مظلم يبتلع كل أثر للأمل والطمأنينة, لقد مضى زمان الزهو والغرور يا أبا الإلحاد وأقبل زمان الضيق والعنت. لماذا تحتاج الكرة وهي لهو ولعب, لغالب ومغلوب, ولمنتصر ومنهزم, لماذا لا تنفك الحياة عن صعود ونزول, وعن حزن وفرح؟ تساءل كيف أقحم نفسه في هذه المتاهة القاتلة, كيف جعل من نفسه كرة تتقاذفها الهموم والهواجس والشكوك, فجأة أحس بشيء يرتطم بوجهه بقوة, لقد أصابت الكرة عينه اليمنى فتورم شق وجهه وسقط كأنه ملاكم تلقى ضربة مزلزلة, التفّ الأطفال من حوله, فتح عينيه بصعوبة, قام مترنحا يجر رجليه إلى البيت, قال يحدث نفسه: "إنه إنذار يا أبا الإلحاد, لن تستمر هكذا طويلا في هذه اللعبة القاسية, لا بد من تغيير الخطة, فالمجنون هو الذي يرتكب نفس الأخطاء المدمّرة, ويترقب نتيجة مختلفة."

بن حيان
04-23-2012, 09:34 PM
والله إبداع وأكثر ما أعجبني في الجزء الأخير ارتطام الكرة في وجهه هههههه
على العموم والله ثم والله ثم والله لو لم يكن من الإيمان إلا السكينة والطمأنينة والراحة النفسية لكان ذلك كافيا للعيش في حياة هانئة فما بالك ونحن نتيقن أن الله لن يخلف وعده وسيجزي المحسنين
وبما أن الإيمان لا يقوم إلا بأداء العبادات التي يرى الملحد أنها مرهقة بالنسبة له لذا نرى أنه يحاول أن يجد المبررات التي تجعله في حل من هذه التكاليف فيبدأ بالتملص شيئا فشيئا من هذه العبادات ثم لا يكاد يصدق نفسه وهو يرى أحد الناعقين يزين له طريق الإلحاد المليء بالأشواك في عالم أصبحت فيه وسائل الإتصالات والحصول على أي معلومة أسهل من شربة ماء ومن هنا تبدأ رحلة العذاب التي تبدأ - كما قلت - بنوع من الغرور الذي لا يلبث حتى يعود على صاحبه بالوبال فيجعله في أسوأ حال ولن تكون نهايته إلا كما كانت نهاية أمثاله ممن سلك هذا المسلك الوعر كالموت انتحارا أو في أحد المصحات العقلية ويالها من نهاية مأساوية

شكرا لك فقد وجدنا فيما كتبت المتعة والفائدة

محب القران
04-25-2012, 03:27 AM
بوركتم.

ريوم
05-19-2012, 06:36 AM
هذه سلسلة إبداعية تستحق أن تنشر في كتاب ، رائع اخي هشام ..:thumbup:

هشام بن الزبير
05-21-2012, 11:59 PM
38- وصفة حلوى إلحادية

ظل أبو الالحاد يتقلب في فراشه ذات ليلة شاتية حتى يئس من النوم ويئس النوم منه, فأمضى ساعات يقلب القنوات الفضائية حتى استقر على برنامج "تخمة", نظر إلى مقدم البرنامج في لباسه الأبيض ولحيته الخفيفة ووجه الباسم فشعر بالامتعاض, همهم: "لا شك أنه منهم.. إنهم في كل مكان." قام إلى التلفاز حتى ألزق وجهه بالشاشة, نظر إلى أثر السجود في جبهة الرجل, فرجع إلى فراشه مغضبا, كانت المائدة أمامه تحفل بما لذ وطاب من كل مشروب ومطعوم, رأى فواكه عجيبة لم يرها في حياته من قبل, سال لعابه وهو يشاهد ألوان الأطعمة الشهية تتنقل بين القدور اللامعة والصحون الفاخرة, كان الطباخ يتحرك في رشاقة, ولا يكف عن شرح تفاصيل أطباقه الزاهية. "الشيف" يقطّع اللحم والخضار والأعشاب, ويؤلف بينها كأنه فنان يرسم لوحة, وينضج المقادير المختلفة وفق ترتيب محكم, ويتفنن في ذلك شيّا وسلقا وقليا وحشوا حتى استوت فنثر عليها بهارات نادرة, ولعلها مما لا ينبت إلا في جزائر الهند, وحين فرغ من تأليف تحفته اللذيذة, كانت مصارين أبي الالحاد تعزف سيمفونية حزينة بلغت ذروتها لما جلس الطباخ ليذوق ثمرة يمناه وقال: "بسم الله, بالهناء والشفاء" اشتدت في بطن صاحبنا القرقرة, ولعن الصدفة التي جعلته يعرض نفسه لهذا التعذيب النفسي في تلك الساعة المتأخرة, فزوجه تغط في نوم عميق, وهو لا يحسن إلا طهي البيض مقليا أو مسلوقا.

أطفأ التلفاز وصورة الشيف البارع ما زالت مرتسمة أمام ناظريه, رآه وهو يعدّ أطباقه العجيبة في نشاط وخفّة, ويعلق على كل حركة يقوم بها, ويتلقى الاتصالات الهاتفية فيجيب عن مسائل تعم بها البلوى في علوم البطن, ويفتي في معضلات يحار فيها عقل المبتدئ في هذا الفن: "شيف, كيف اسوّي طبق "اللازانيا بالبيشاميل"؟ شيف, يعيشك, كيف ندير كيك الأناناس؟ شيف, متى أسقي البسبوسة, وكيف أزين طبق الكبسة؟" خيل إليه أنهم ينادونه بالشيخ وأن القبعة البيضاء فوق رأسه عمامة.

لقد تغلغل المتدينون في كل شيء, حتى برامج الطبخ لم تسلم من قبضتهم, يا لها من خطة محكمة للامساك بمقاليد المجتمع, تبا, لماذا لا يوجد برنامج طبخ إلحادي؟ دخل أبو الالحاد صفحة تنويرية على الفيسبوك, وخطر له أن يكتب شيئا ظريفا من وحي ما يدور في ذهنه الساعة:

"أيها الزملاء أقدم لكم وصفة ظريفة يمكن تقديمها للمبتدئين الذين يخطون خطواتهم الأولى في عالم الالحاد العجيب, ولا شك أنهم في تلك الفترة الحرجة لا يقوون على مطالعة كتب سلفنا الفلاسفة الهراطقة , فضلا عن أن الهمم لتسلق تلك الجبال الشاهقة قد فترت في زمن الوجبات المعلوماتية السريعة, التي تقدمها مواقع الشبكة العنكبوتية, ولا تكلف إلا نقرات معدودة, وبعض المهارة في فن "القص واللصق".
لهذا سأضع بين أيديكم وصفة لإعداد ما يشبه المقبلات أو الحلوى الالحادية , وهذه طبعا عبارة مجازية, لكنها مما يفيد المبتدئ في هذا الطريق الوعر, ومما لا يستغني عنه من توسط هذا البحر, فإليكم المقادير:

- نأخذ كيلو ونصف من دقيق "العناد" الصلب ونقوم بغربلته لتنقيته من نخالة "الانصاف".
- كيس من خميرة "الشك".
- نصف لتر من ماء "الغرور".
- نصف كأس من زيت "الداروينية".
- كأس ونصف من عصير"المراء" المركز.
- منكهات "ليبرالية" حسب الذوق.
- بودرة "مصطلحات علمية" لتزيين الكيك الالحادي.

تترك المقادير في مكان آمن لتخلطها الصدفة, ثم نصب الخليط في قالب "سوفسطائي".
يوضع في فرن "حرارة شهوانية" لمدة ساعة.
وبالهناء والتنوير
ملحوظة: مهما كان المذاق الالحادي مرا كريها, فينصح بالصبر على ذلك, فإن الحلاوة تأتي مع الممارسة. ويرجى تقديم الطبق الالحادي في أبهى حلة في المواقع التواصلية والمحافل الفيسبوكية."
شيف أبو إلحاد.

هشام بن الزبير
05-22-2012, 12:01 AM
الاخوة: بن حيان ومحب القرآن وريوم, شكرا لكم وأهديكم اليومية الجديدة.

ريوم
05-22-2012, 12:36 AM
إبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداع ورائع جدا أخي ، بل الشكر لك :)):

مسلم أسود
06-07-2012, 01:27 AM
نرو أن تعود إلينا قريباً :)

المَاسَّةُ قُرطبة ©™
06-07-2012, 02:08 AM
ممتاز شكراً لمن رفع الموضوع وصدقاً انت تشرح الحالة النفسية للملحد تماماً فعلاً شذرات نبراسية وذهبية زادكم الله من فضله كمان وكمان
وهل لي ان اسئل اسئلة ان تكرمت غير اريد ان اسألها في موضوع فضفضة وهي في ما يخص ما لديكم من مواهب فانا اريد بهذا ان استجلب ما لديكم من خبرات.
فأتمنى ان يكون الامر متاحاً.
وشكراً لكم.

مسلم أسود
06-09-2012, 01:13 PM
اشتقنا إلى الأخ هشام ، لعل غيابه يكون خيراً :39:

همة ملوك
06-28-2012, 05:32 AM
اللهم اهدي أبآ الإلحآد
وبآركـ الله بككـ أخي هشآم موضوع مآتع ومميز

هشام بن الزبير
07-06-2012, 01:34 AM
الإخوة ريوم و الماسة قرطبة وهمة ملوك ومسلم أسود, شكرا لجميل ثنائكم وأهديكم جميعا اليومية التالية...

هشام بن الزبير
07-06-2012, 01:36 AM
39- رسالة بين الأمواج (1)

مشى أبو الإلحاد على الرمل حافيا وهو يغرق في شروده, شعر أنه بدأ يغوص في مستنقع الاكتئاب الكريه, كان صوت هدير الموج يكاد يختفي وراء هدير هواجسه وأفكاره, أحس بشيء يرتطم بقدمه, إنها زجاجة بلون بني داكن, انحنى فرأى بداخلها شيئا, أزال سدادة الفلين فرأى ورقة ملفوفة بعناية, أخرجها بيد مرتجفة, نظر حوله, هل أعد له أحدهم مقلبا؟ هل سيصبح غدا أضحوكة في أحد البرامج الترفيهية؟ دس الورقة في جيبه بإحكام ومضى بعيدا وبدأ يقرأ:

أبا الإلحاد, -كاد يغشى عليه من هول المفاجأة, التفت مرة أخرى ثم جلس ليكمل القراءة-

إني أراك توسطت بحر الشكوك, تتقاذفك أمواجه, ويملأ فاك زبده, ولما رأيت نفسك ما زالت تطفو أخذك الزهو بالالحاد ولما يصْفُ لك, فتعال نقس ما نلته بما بذلته, وننظر لِمَ تركت أرض الايمان وقد كان لك فيها موطئ قدم, وهجمت على بحر الشبهات فما زلت تغوص في الوحل.

وإني محدثك عن مؤمن خرج إلى أرض نائية يدعو إلى الله فتبعه هناك فتى يافع من بيت ثراء ونعمة, فما لبث أن جاء أبوه تعلوه حمرة الغضب يقول: "أيها الدجال, كيف تدعو إلى الإيمان بإله لا يُسمع ولا يُرى, ولا يقاس بطول ولا عرض, لا يعلم له شكل ولا لون, فلا أرى هذا كله إلا صفات العدم."
فنظر إليه الداعية في هدوء وقال: "عجبتُ لسكينتك وحلمك, وإني أظن أنك لا تحب ابنك هذا"
ازداد الرجل غضبا وحيرة وصرخ بأعلى صوته: "بل إن غضبي بلغ منتهاه, وليس في الدنيا أحب إلي من ولدي هذا الذي تسعى في إفساده."
عندها حرك الداعية رأسه قائلا: "لن أصدق حرفا مما تقول حتى تخبرني عن غضبك هذا وحبك ولدك الذي تدعيه, كم وزنه وطوله وعرضه, وكيف لي أن أقبل دعواك في شيء لا قِبل لي بقياسه؟"

استمع الرجل لهذا الكلام فبدأ غضبه يخف ثم قال: "إن لغضبي منك ولحبي ولدي آثارا تعرف بها."
فأجابه الداعية مبتسما: "وكذلك ربي فإن لصفاته آثارا يعرف بها هي هذا الكون علويه وسفليه."

ولم تمض إلى ساعة حتى فهم الرجل أن العالم الذي نحيا فيه أرحب من اللغة التي نسعى لنصفه بها, فما بالك بخالق الأكوان كلها؟ إن العالم بأسراره العجيبة أغنى من أن يحيط به اللسان.
إن اللغة تنقلب سجنا قضبانه الحروف والرموز والصور والكلمات إذا حُرم المرء نور البصيرة.

إن لكل حادث بداية ونهاية. فقصتك أيها الانسان تبدأ بالولادة وتنتهي فيما يظهر للناس بالوفاة. إنها الحياة التي يدرك معناها الناس كلهم, لكن هناك ولادة أخرى تمنح الانسان صفاء الروح وسكينة النفس. أو ليس هذا مطمح كل نفس بشرية؟

ألسنا نطمح للسعادة والطمأنينة والأمن؟ أليس سلوكنا وسعينا في هذه الحياة ترجمة لهذا السعي الحثيث لتحقيق هذه الغاية النبيلة؟
السعادة تقتضي السلام والأمن, ولا يزول الخوف والاضطراب إلى باليقين والعلم, ففي العلم جواب عن الأسئلة الكبيرة والصغيرة وحلل للعقد الظاهرة والباطنة.
السلام والطمأنينة والسعادة: يالها من كلمات كبيرة, لكن هل نملك أن ندعي شيئا من ذلك لأنفسنا في هذه المجتمعات المعاصرة؟ هل تمنحنا الحياة اليوم هذا السلام المنشود؟

فلأضع بين يدي الجواب عن هذا السؤال مشاهد ثلاثة:
المشهد الأول:

في مكان ما في صحراء قاحلة لا حياة فيها ولا بنيان لا يقطع هدوءها إلا هدير محرك سيارة, خلف عجلة القيادة شاب بدأ يشعر أنه تائه. الطعام والشراب والوقود قد يكفي لستين ساعة أو سبعين على الأكثر, مضى شطرها قبل أن يتنبه صاحبنا لما يحدق به من أخطار. إنه يسير بلا خطة واضحة ويغير الوجهة المرة تلو الأخرى وهو يتأمل الكثبان الرملية من حوله كأنها أمواج بحر متلاطم. إن احتمال اهتداء من هذه حاله إلى طريق الخلاص بدون دليل أو خريطة أشبه بالمعجزة.

المشهد الثاني:

في بقعة ما من قبة السماء الزرقاء تخترق طائرة ركاب ركاما من السحب الفضية تحمل على متنها عشرات المسافرين. إنهم يقطعون زمن الرحلة لاهين غافلين عما يوشك أن يحل بمركبهم. كل ما يعلمونه أنهم سيهبطون بعد ساعات في وجهتهم حسب البرنامج المحدد ليستمروا في رحلة حياتهم الأرضية.
ما لا يعلمونه أن طاقم الطائرة بأجمعه بمن فيهم الربان ومساعده قد قضوا جميعا بعيد تناولهم شرابا مسموما. ولسبب غير معروف تعطل الربان الآلي أيضا. لكن الطائرة استمرت بالطيران كأن شيئا لم يكن لتحط في المطار رغم كل تلك العوائق.

المشهد الثالث:

في نقطة ما من الفضاء البعيد تتجه سفينة فضائية صوب المريخ تحمل طاقما من ثلاثة أفراد: صيني وياباني وأمريكي, وعند هبوطهم على سطح الكوكب الأحمر, اكتشف رواد الفضاء قاعدة مجهزة بكل ما يلزم لحياة البشر من هواء وماء وطعام ولباس وأثاث, كما وجدوا مائدة عليها طبق سوشي, و طبق أرز بالصويا, وشريحة بورجر بالبطاطس المقلية. بعد تناولهم الطعام الطازج اللذيذ أجمع العلماء على أنهم يدينون للصدفة بذلك المكان المريح الذي يوافق احتياجاتهم من كل الوجوه, فإنهم يقطعون بأن أحدا لم يضع قدمه على المريخ من قبلهم, وهم لم يصادفوا أي نوع من الحياة الذكية, وما دامت كل المواد التي تتكون منها القاعدة الفضائية متوافرة في الطبيعة بوفرة, وما دامت القوانين المادية تفسر عملية التحولات اللازمة للحصول على ذلك المأوى الآمن الذي يوفر شروط الحياة, فإن العقل لا يحيل أن تتظافر كل تلك العوامل مجتمعة لتنتج ما يشبه المعجزة.

والآن: هل سيهتدي المسافر التائه يوما لسبيل النجاة, وهل سيحصل على تذكرة عودة للحياة, هل ستكفيه ساعاته الستون لينال الأمن والطمأنينة وليصل سالما إلى وجهته؟

هل تملك طيارة صماء عمياء بكماء أن تعيد المسافرين إلى الأرض سالمين ونحن نرى أن أدنى خلل تقني أو خطإ يرتكبه الربابنة يعني الدمار الأكيد والموت المحقق؟

وهل يعقل أن تحدث مثل تلك القصة يوما ما على سطح المريخ, ثم يجمع العلماء أن كل ذلك ثمرة صدفة؟

أما عن السؤالين الأولين فإني أترك جوابهما لذكائك, أما الثالث فإني أؤكد أن العقول العبقرية لعلماء الزمان الذين افتنت بهم تجيب بنحو من ذلك حين يتعلق الأمر بحقيقة العالم الذي نحيا فيه.

إنهم يخبروننا أن وجودنا ووجود الكون الفسيح من حولنا ثمرة للصدفة. إنهم يقولون إن المجرات بما فيها مجموعتنا الشمسية, السماء والأرض, الشمس والقمر, الجماد والشجر, الحيوان والبشر, الماء والهواء, البحار والأنهار, الليل والنهار, الزمان والمكان, الحُسن والجمال, العلم والحكمة, العقل والقلب, الموت والحياة, كل ذلك وغيره مما يحير العقول ويحرك القلوب ما كان ليوجد لولا الصدفة!

إنها إحدى آلهة الحضارة المادية المعاصرة وقطب دينها الجديد, أفلا يحق لنا أن ننادي هذه الصدفة العجيبة عرفانا بفضلها: "يا أيتها الصدفة العظيمة, نحن أبناؤك لا أبا لنا سواك, لك ندين بكل هذا العالم الذي نبصره وذاك الذي لا نبصره, ورغم فضلك الباهر فإن أحدا لم يؤد لك بعد حق الشكر والتبجيل الذي تستحقينه."

ترى لماذا يبخس الملحد الصدفة حقها؟ ربما لأن لها شركاء في الأمر, أعظمهم أمه الطبيعة وأبناؤها اللقطاء وأنجبهم ولدها البكر "الانتخاب الطبيعي".

أبا الإلحاد, أيجدر بنا أن نطرح هذه الأسئلة, أم أنها ترف فكري لا مكان له في حياة الإنسان التائه المُعَوْلم؟ أيملك هذا الإنسان خيار السؤال أم أن قدره أن يعيش حياة المسافر التائه في الصحراء أو الغافل اللاهي في طائرة بلا ربان؟

أين يجد مثل هذا الإنسان سكينة النفس وبرد السلام؟ أنى لنا أن نحيا بمثل هذا الاعتقاد العجيب؟ إني أعرفك جيدا وأعلم كم يصعب أن أجد اللغة الصالحة لطرق باب عقلك, لكني أمَلك الأخير فلا تستخف بهذه الرسالة, فأنا أعلم أن القناع الذي تخفي وراءه تعاستك وضياعك أشبه بالواجهة الزجاجية, وأنا أنظر إلى حقيقة حالك من خلفه, وأكتب إليك لأصرخ في أذنيك صرخة استغاثة أقرأها في ملامح وجهك كلما رأيتك, إني أعرفك جيدا, وأراك تتخبط كالغريق فهذه يدي تمتد إليك فلا تقابلها بالتعنت الذي أوصلك إلى هذا النفق المسدود. ما زال لدي الكثير, لكني أود أن أنتظر فعلك, واعلم أني أهتم لأمرك.

فرصتك الأخيرة

أطرق صاحبنا متفكرا في هذه الرسالة المحيرة, كان عقله يعدو في كل اتجاه ليكشف عن سر هذا اللغز, من الكاتب, ولماذا اختار هذه الوسيلة؟ عاد إلى بيته وهو يعيد قراءة الرسالة في الطريق.

هشام بن الزبير
07-06-2012, 01:49 AM
أختي الماسة, لم أنتبه لسؤالك إلا الآن, ماذا أقول: أنا أكتب على سجيتي, ربما كان أصل ذلك موهبة نميتها منذ صغري, لكني أظن أن قوة الملاحظة ودقة الوصف وحسن اختيار الألفاظ دون تكلف مما يساعد في إتقان الكتاب الأدبية.

مسلم أسود
07-06-2012, 07:57 PM
عاد إلينا الأستاذ هشام بما يسر ^^ و ننتظر منه الجديد المفيد

هشام بن الزبير
07-15-2012, 01:51 AM
40- شلقفوط الزبال

قضى أبو الإلحاد أياما وهو يفكر في صاحب الرسالة دون أن يصل لشيء, تمنى أن يعرفه كي يريه أنه ما زال راسخ القدم في الإلحاد رغم نكساته المتتالية,
تمدد في فراشه يشاهد برنامجا صباحيا, فراعه مرأى شيخ ذي لحية بيضاء يحف به عدد من الأطفال, وهو يحدثهم عن قصة خلق آدم عليه السلام, نظر إلى عيونهم الصغيرة وهي تتبع حركات الشيخ الوقور وتركز على كل كلمة يتلفظ بها, فشعر صاحبنا بالحزن الشديد على جَلَد المتزمتين وعجز المتنورين. أطفأ التلفاز مغضبا وشرد بعيدا وتخيل نفسه بين يدي أحد وعّاظ الإلحاد.

رأى نفسه طفلا يجلس إلى أحد مشايخ الإلحاد, كان أبيض الرأس محدودب الظهر قد سقط حاجباه على عينيه, نظر إلى الصبية من حوله و تنحنح ثم بدأ يحدثهم:

كان يا ما كان في سالف العصر والزمان, مليحيد اسمه شلقفوط الزبال, لم يكن هذا اسمه لكنه حين شب واشتد عوده شك في كل شيء وأنكر كل ما ورثه من والديه, وأحب أن يشق طريقه بنفسه فقرر أن يغير اسمه, وضع أسماء الحروف في ظرف, وبدأ يسحبها حرفا حرفا حتى حصل هذا الاسم الفريد. كان شقلفوط يخرج من المدرسة فيذهب إلى المزبلة ويتأمل الساعات الطوال كيف تقوم شاحنات البلدية ببناء تلك التلال الملونة الفاتنة, وذات يوم رأى كيف بدأ بعض الدود يخرج من كومة من الأرز المتعفن, فأخرج كراسا صغيرا يحتفظ به, وكتب فيه: "في البدء كانت المزبلة" عاد شلقفوط إلى البيت وهو يحمل في جيبه بعض الدود.
وفي المدرسة سأل المدرس: "لماذا يتحول الأرز إلى دود؟" فنظر إليه المدرس مستغربا وقال: "هذا غير صحيح, إن الذباب يضع بيضه في الطعام المتعفن, فمنه يخرج الدود." حرك شلقفوط رأسه موافقا وهو يقول في نفسه: "لن أصدقك وأكذب عيني" عاد إلى بيته وقد قرر أن يمشي في طريق الحقيقة إلى آخره.

ترك المدرسة و بدأ يقضي ساعاته وأيامه وهو يتجول بين تلال المزبلة, يدرس سر الحياة, وبينما هو يمشي بين أكوام القمامة إذ رأى شيئا يتحرك, بدأ يزيح أكياس البلاستيك وبقايا الطعام حين رأى عددا من الفئران تطل برؤوسها وأسنانها البيضاء, عاد إلى بيته وهو يقول: "الأرز ثم الدود ثم الفئران" ومرت سنوات حصل فيها شلقفوط على منحة من البلدية ليتفرغ لمشروع حياته, فعين زبالا مساعدا فبدأ رحلته لاكتشاف أسرار المزابل, لأنه كان يعتقد أن الحياة نشأت أول الأمر في مزبلة ثم تطورت وارتقت.

ارتقى شلقفوط سلم النبوغ درجة درجة حتى بلغ القمة, ونشر سيرته الذاتية التي تعد مرجعا للأجيال الصاعدة من المتنورين: "ذكريات من قمة المزبلة" لكن كتابه الأعظم بلا منازع هو: "الدود دليل الالحاد". وحين رأى القطط تتغذى على الفئران والفئران تتغذى على الحشرات وضع قانون "البقاء للأشرس" لكن اللغز المحير الذي لم يجد له بطلنا جوابا هو من أين جاء الإنسان, فإنه لم يصادف له شبيها في بعثاته الاستكشافية تحت أكوام النفايات, إنه لا يشبه أي نوع من الديدان أو الفئران أو الوزغ أو الصراصير, نعم إنه يشبه القرود, لكنه لم يرها في المزابل قط رغم سنوات من التنقيب المضني. لم ييئس شلقفوط ولم يستسلم رغم تهكم المتزمتين بل استمر يشق طريقه الطويل في انضباط تام, و لم يذهب صبره سدى, فقد وجد يوما رضيعا مغمورا في النفايات, فازادا يقينه أن المزبلة تفسر لغز الحياة, وأن المؤمنين مجانين.

اشتغل صاحبنا بجد وإخلاص, و ارتوى من "ترعة" الإلحاد الآسنة ووضع نظريات فريدة وخلف تراثا علميا فريدا مكتوبا بعصير المجاري, وحصل على ما لا يحصى كثرة من الأوسمة التقديرية وشهادات الدكتوراه الفخرية, لكنه كان متواضعا لا يحب أن يدعى إلا شلقفوط الزبال, وحين مات أمر أن يُكتب على قبره:
الرِّكْسُ والأزبال تعرفنى *** والدُّودُ والفئران والقِمم

مسلم أسود
07-15-2012, 05:43 PM
الرِّكْسُ والأزبال تعرفنى *** والدُّودُ والفئران والقِمم

ارحمنا يا رجل ستقتلنا من الضحك ;):

هشام بن الزبير
07-16-2012, 10:17 PM
41- ظلام في نفق التنوير

اشتاق أبو الالحاد إلى الأيام الخوالي وسئم المستنقع الراكد الذي أفضى به إليه مذهبه. ألا يفترض أنه اعتنق مذهب التنوير, فما باله لا يكاد يبصر أرنبة أنفه من حلكة الظلام؟ حنّ إلى أيام صفا له فيها إلحاده, على الأقل هذا ما يخيل إليه الآن, ومن يدري فلعلها كانت حماسة الصبا وفورة الشباب وشِرة الفتوة, لقد كان الإلحاد شيئا جديدا وكلمة براقة تنطق بالتحدي, لقد بدت كأنها كلمة السر لولوج عالم يحفل بالعباقرة الأفذاذ الذين كفروا بكل موروث ليشقوا طريق الخلاص بعقولهم الألمعية. كانت أياما شعر فيها بأن لحياته معنى. أما اليوم فقد صار أشبه بالسيارة العالقة في الرمال, تدور عجلاتها بأقصى سرعتها ثم لا تبرح مكانها, لقد كان يرجو أن يجد في آخر النفق بعضا مما يبشر به أهل الإلحاد من تحرر وانعتاق ورقي ورفاهية, ألم يخبروه أن انسلاخه من الدين سيكسر الأغلال المصطنعة التي تقعد به عن بلوغ ما يرجوه كل عقلاني متنور؟ فما باله يحس أن حريته المزعومة لم تزده إلا خبالا وعذابا؟

آه كم صار يكره رفقة الجرب والجذام من حدثاء الأسنان الذين يحلو له أن يسميهم باليرقات الإلحادية, إنهم يملئون المنتديات و الفيسبوك و التويتر بلغطهم وتهريجهم, إنهم يستمتعون بسويعات المراهقة الإلحادية الخادعة ليصطدموا عم قريب بجدران المتاهة القاتلة التي يتخبط فيها منذ سنين, فلينعموا بمتعة السفسطة قليلا فإن لكل جديد لذة, لكن للتباهي بالإلحاد والتبختر بالفجور والتيه في بيداء الخواء الفكري والتفنن في الفحش والبذاء حلاوة عابرة تعقبها غصص بمرارة العلقم, بلع ريقه وهو يتخيل كيف صارت منتديات الزملاء كالمواخير, يا لهم من مغرورين, تجد الموقع تتصدره شعارات رنانة: منتدى العقلانيين التنويريين الطبيعيين المتحررين اللادينيين, تبا لهم, إنها بضاعة النوكى, كلام لا حقيقة له, لقد خبرهم سنين عجافا اجتثت السكينة من نفسه , إنهم يبشرون بالإلحاد ولما يكتووا بشواظه, إنهم يرتشفون من نقيعه قطرات وقد احتسى كأسه حتى الثمالة فصارت حياته بلقعا من كل شيء جميل.

ماذا يصنع بمنتديات الزملاء و قد تبوأ الغباء من عقولهم مجلسا واتخذ الطيش وزيرا لا يبث في أمر إلا بمشورته؟ إنهم شوكة في خاصرة التنوير ووصمة عار في جبين الالحاد. إنهم يكتبون عن كل شيء مهما كان ساقطا ممجوجا تافها , يكتبون بلغة القذارة والغباء والفشل والإفلاس الفكري والنفسي.

خطر له أن ليس للبشر علاقة بتلك المنتديات البتة, من يدري, فربما جمع أحد علماء الشمال المتنور جيوشا من القرود ووضعها أمام مئات الآلاف من الحواسيب المحمولة ليثبت صواب نظرية الصدفة بالمنهج التجريبي, ربما كانت تلك المنتديات الدليل العلمي الدامغ على أن الصدفة تنتج نظاما وأن القرود قد تؤلف مواضيع حوارية توحي بأنها نتاج مجهود عقلي بشري.

لم ينته التفكير بصاحبنا إلى شيء فخرج ليقضي بعض الوقت في مقهى حيه, رأى إعلانا ملونا لسيرك عالمي عليه صورة فيل يرفع قوائمه الأمامية, تخيل نفسه يركب فيلا في شوارع بانكوك يتأمل المارة كأنه يطل من عمارة, إنك مجرد حيوان آخر يا أبا الإلحاد, نعم قد تطورت قليلا لكنك حيوان, فما الداعي لكل هذه الهموم الفكرية؟ ما حاجة الحيوان إلى هذا الحديث الداخلي الذي لا ينقطع؟ نعم إنك حيوان, فلتكن حيوانا جيدا يملأ جوفه بالعلف ويكف عن طرح الأسئلة الفلسفية والأفكار الوجودية.

ابو ذر الغفارى
07-16-2012, 11:01 PM
كلمة رائع لا تصف هذه المواضيع بما فيها من أدب بليغ وتأمل ووصف دقيق لهذا الصراع النفسى المرير لكن أود أن تتحول إلى مقاطع فيديو كما فعل الأخ عيضه سواء بالتنسيق معه أو أن نوكل هذا لمن عنده الموهبة من الأعضاء هنا فما رأيك؟

هشام بن الزبير
07-18-2012, 09:41 PM
شكرا لك أخي الكريم, لا مانع عندي من إخراج هذه اليوميات في قالب آخر لتصل إلى عدد أكبر من الناس.

مسلم أسود
08-03-2012, 10:33 PM
إنك حيوان, فلتكن حيوانا جيدا يملأ جوفه بالعلف ويكف عن طرح الأسئلة الفلسفية والأفكار الوجودية.

هذا من الأمور التي تهز كيان الإلحاد و هي العقل ، فلماذا ابن آدم هو الوحيد الذي يصيبه الصداع و الأمراض النفسية ؟

هشام بن الزبير
08-28-2012, 12:51 AM
42 اللسانيات الإلحادية


لبث أبو الإلحاد ليلة من ليالي الصيف يتقلب على سريره كأنه يفترش الجمر, لم يترك حيلة ولا وسيلة إلا جربها ليظفر بقسط من النوم لكن هيهات, لقد اكتسب عقله مناعة ضد جميع أصناف الحبوب المنومة. أعمض عينيه وحاول أن يخمّن عدد القرود التي تكفي لمضاهاة قريحة شكسبير الأدبية, رأى فضاء فسيحا يسد الأفق تملؤه قرود لا حصر لها بين أيديها أجهزة الآيباد, كانت تضرب بلا هدف على لوحة مفاتيحها الرقمية, وهي تصدر أصواتا منكرة, استبعد صاحبنا أن تؤدي هذه التجربة العجيبة إلى شيء ذي بال, ثم بدا كأن القرود بدأت تتطور وتكتسب جلودا حسنة وصورا إنسانية, اقترب من أحدها فراعه الشبه الشديد بينهما و خيل إليه أنه ينظر إلى نفسه ويتأمل صفحة وجهه, لقد تحولت صورة الجحافل القردية في خيال أبي الإلحاد إلى مجتمعات متنورة إلحادية, إن الإلحاد يذيب الفوارق الداروينية ويصهر التجليات المادية في بوتقة الوحدة الوجودية, فالملحد حين ينظر إلى القرد وذمامته وإلى الخنزير وبشاعته فإنما ينظر إلى نفسه المنتكسة وفطرته المرتكسة, إن الإلحاد يذيب كل معنى جميل وعميق للحياة, فأنت ترى القوقعة الخارجية للملحد فتحسبه مستقر البال هادئ النفس, لكن القلاقل الفكرية والنفسية ترجّه رجّا وتزلزله زلزلة, وأي شيء تغني عنك الصورة الإنسانية المتناسقة البديعة يا أبا الإلحاد ما دامت الحيرة و التناقض والاضطراب تنهش كيانك, ونار الهواجس والوساوس تستعر في جوفك, وأي شيء تنفعك الوسامة وأنت منذ ساعات تستجدي النوم حتى صرت تغبط القرود؟ أو لست تود لو أنك تشتري سكون البال وبرد الطمأنينة بكل ما تملك لتقطع سواد هذا الليل؟ فهل عجزت الملة الإلحادية أن تنتشلك وأنت ابنها البار من مستنقع القلق ومن براثن الأرق؟

اجتهد ألا يفكر بشيء وشعر أن رأسه بدأ يتثاقل فاستبشر بدنو الفرج, و ما أن بدأ النوم يدب في أوصاله حتى اكتشف أن ضيفا مزعجا قد تسلل إلى مخدعه في غفلة منه, نظر إلى زوجه وهي تغط في نوم عميق, إن صوت شخيرها على قوته أشبه بالهمس إذا قيس إلى هذا الصوت المزعج الذي يكاد يخرق طبلة أذنه.

أخذ مصباحا يدويا وتتبع مصدر الصوت لكن يبدو أن الصرصار يملك من الذكاء نظير ما يملك من الحس الموسيقي, فما أن يقترب منه حتى يلوذ بالصمت, لبث صاحبنا متحفزا يرهف السمع و يحمل في يده نعلا لعله يتبين مكان هذا المطرب المتطفل فيكرم وفادته, ظل كذلك برهة حتى يئس منه فذهب إلى مكتبه وقرر أن يكتب موضوعا طالما أرقه: لماذا طور الإنسان كل هذه اللغات المعقدة فيما لا يستطيع الصرصار وغيره من الكائنات المتخلفة داروينيا إلا إصدار بعض الأصوات الغريبة المملة؟ لماذا لم يستطع الصرصار أن يعبر عن معنى واحد خلال هذه السهرة الصاخبة؟ أم أن لغة الصرصار تضاهي اللغات البشرية غير أننا لا نفهمها؟ ماذا لو كان الصرصار مبعوثا من حضارة فضائية برسالة تنقذ أبا الإلحاد من مأساة حياته البيئسة؟

افتتح صاحبنا صفحة جديدة في مدونته المهجورة, وبدأ بوضع مقدمات عامة ليبني عليها مقالته متسلحا بموسوعة الويكيبديا وبخياله الواسع:
الداروينية نظرية النظريات ومفتاح المعضلات, إنها سعد الملاحدة الذي لاح في سماء العلم بعد قرون من الخمول. والتطور يفسر كل شيء كما هو معلوم بالضرورة من مذهب الإلحاد, فهو يفسر الثراء اللغوي بلا شك, ولا تستبعد بعض الدراسات وجود إرهاصات لغوية لدى بعض أنواع الأميبا والكائنات أحادية الخلية, غير أننا لا نملك أي وسيلة لإثبات ذلك, لكن القردة العليا تعد من أنجب تلامذة التطور الذين أسسوا صرح التجربة اللغوية منذ أحقاب بعيدة جنبا إلى جنب مع الطيور والدلافين, ويرجح الخبراء أن هذه الفصائل الداروينية لم تنجح في تطوير مهارات نحوية وقدرات تركيبية راقية, بل لم تتجاوز مرحلة إنتاج أصوات بدائية لتحقيق غايات تواصلية, وفق آليات البقاء للأفصح. خطر لصاحبنا أن يسمي هذا الطور بالمرحلة الصرصارية. قد لا تكون المهارات اللغوية للصرصار تؤهله ليفسر نشأة "اللغة الأولية" لكنه يصدر بجناحيه الصغيرين أصواتا تتحدى قدرات حبالنا الصوتية. لا شك أن لغته المزعجة نظام صوتي يؤدي وظيفة ما, لكن هل يدرك الصرصار أن لصوته معنى, وهل يقصد أن يعبر عما يختلج في نفسه؟ هل تعود جذور بعض أنواع الموسيقى المنتشرة اليوم في وسائل الإعلام إلى زمن بعيد من ماضينا التطوري وبالضبط في الزمن الصرصاري, إنك تشعر أن محطات الراديو والتلفاز تفتح المجال اليوم لبعض الأصوات التي يتفوق عليها الصرصار بمراحل في تناسق صوته و جماله و قوته, وإن كانت تضاهي توجهاته الفنية في اقتصاره على جانب الأداء الصوتي البحت وإهماله لجانب النص والمضمون, فشعار الأصوات الصرصارية: "أنت تصرخ إذن أنت فنان" قد نحتاج اليوم نخبة من النقاد الفنيين يُحيون المنهج اللاماركي ببتر الحبال الصوتية لأجيال من أصحاب تلك المواهب الصرصارية, ربما اكتشفنا بعدها أن المجتمع الفني يعاني من انتكاسة تطورية في الجهاز العصبي اللغوي. بلغ صاحبنا هذا الموضع فشرد بعيدا, وحين نظر إلى النافذة بدا له صرصار الليل فقام إليه حذرا ليجهز عليه, ولما دنا منه طار بعيدا ليكمل سهرته في الهواء الطلق, أغلق النافذة بإحكام وعاد إلى فراشه وهو يُمنّي النفس بنوم عميق, وضع رأسه على الوسادة وبدأ يفارق هذا العالم المضطرب حين شعر كأن طائرة عمودية تحلق بالقرب من أذنه, يا للهول إنها بعوضة, اي مصادفة حمقاء هاته, هل أعد له أقاربه الداروينيون مقلبا لينغصوا عليه عيشه هذه الليلة؟ يا له من صوت مزعج من حشرة لا ترضى بشراب دون دمه, همّ بالقيام ليتخلص من المتطفل الجديد لكن الإرهاق جعله يعدل عن ذلك, واكتفى بحشو أذنيه بالقطن وتلفّعَ في لحافه الأبيض كأنه مومياء فرعونية واستسلم لمصيره وآثر النوم وإن جاد ببضع قطرات من دمه.

مسلم أسود
08-29-2012, 10:13 PM
جميلة هذه الجديدة ^^

هشام بن الزبير
08-30-2012, 03:43 PM
مرحبا بك أخي الكريم مسلم, تشرفني قارئا ومعلقا.

عَرَبِيّة
09-29-2012, 04:11 PM
ماشاء الله لا تنفك هذه اليوميات تجذبنا بأسلوبها الأدبي وتدهشنا ببنائها الفكري، اللهمَّ بارك لأخينا هشام في موهبته هذه ونفع به .

مسلم أسود
09-29-2012, 04:36 PM
الشعب .. يريد .. حلقة جديدة

الشعب .. يريد .. حلقة جديدة

الشعب .. يريد .. حلقة جديدة

الشعب .. يريد .. حلقة جديدة

هشام بن الزبير
09-29-2012, 06:53 PM
شكرا أختي الكريمة عربية.
أخي الحبيب مسلم, ستصل اليومية الجديدة عاجلا إن شاء الله.

هشام بن الزبير
10-11-2012, 06:34 PM
ماشاء الله لا تنفك هذه اليوميات تجذبنا بأسلوبها الأدبي وتدهشنا ببنائها الفكري، اللهمَّ بارك لأخينا هشام في موهبته هذه ونفع به .
بارك الله فيك أختي عربية, واليومية التالية تدور حول كراهة الملحدين تندر المؤمنين عليهم, رغم أنهم لا يكفون عن السخرية منا بأقذع الأساليب, ولما كان مثل هذا الموضوع يحتاج لاستعمال بعض الكلام العامي فإني وجدت صعوبة في صياغة النص, فمرحبا بكم جميعا خصوصا الأخ مسلم أسود.

هشام بن الزبير
10-11-2012, 07:06 PM
43 نكات إلحادية

تفكر صاحبنا ليلةً في الحال المخزية التي وصل إليها الإلحاد العربي المتقوقع في العالم الافتراضي, وتخيل زملاءه حبيسي الفقاعة الالكترونية التي يحسَبونها سيلا جارفا يزلزل أركان الدين, وحرَّك رأسه حين تذكر طابور المفاليس من شيعته المستخفين خلف المعرفات المضحكة, إنهم لا يدركون أن غزواتهم الدونكيشوطية وانتصاراتهم الافتراضية لا تساوي في ميزان الحياة الواقعية والتجارب الأرضية فلسا . إن الزملاء يسخرون من الإسلام على الشبكة, ويستمْرون حياة النفاق في واقع الأمر, فهل يطمحون أن يغيروا المجتمع من خنادقهم الكرتونية؟ لم يتغير من ذلهم ومسكنتهم شيء منذ مؤتمر "من الإلحاد الافتراضي إلى الإلحاد الأرضي (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?29323-%C7%E1%DF%E6%E3%ED%CF%ED%C7-%C7%E1%C5%E1%CD%C7%CF%ED%C9&p=225875#post225875), الذي كان مهزلة بكل المقاييس التنويرية. إن الزملاء منافقون رضوا بحياة الخفافيش في الكهوف والجرذان في الجحور, يحيوْن بين المسلمين تغلي أحقادهم كالمراجل في الصدور.

لقد أتى على أبي الإلحاد زمان لم يعد يجد فيه طعما لجهاده الإلكتروني الإلحادي, لكنه لا يكاد يجد له اليوم موطئ قدم في مجتمع يزداد كل ساعة اعتزازا بدينه, ألم يجد نفسه مرارا مرغما على الحضور في مناسبات اجتماعية يُقرأ فيها القرآن ويوعظ فيها بحديث الجنة والنار؟ إن الخصوم يستحوذون في صبر ومثابرة على العالم الأرضي شبرا شبرا, حارة حارة, دارا دارا, والملاحدة يصرخون في الإنترنت: "لقد انتشر الإلحاد بين المسلمين", سحقا لهم, و كم تبلغ عِدَّة أهل الإلحاد في دار الإسلام و رواد المساجد يتضاعفون, والمجتمع يصطبغ شيئا فشيئا بصبغة الدين؟ إن الزملاء قوم غرتهم نقرات الإعجاب على الفيسبوك و تفاهات التغريد على التويتر, يسخرون من أهل الإسلام بالليل وينافقونهم بالنهار.

لن يعلم الملاحدة حقارة شأنهم وخسة حالهم ما لم ينغمسوا في بحر المجتمع فيصارحوا أهله بمعتقدهم ويواجهوه بما يُسِرُّونه في منتدياتهم, حتى يعلموا فرق ما بين المنتديات النسناسية وبين المجتمعات الإنسانية. إنه يعلم أن طريق التنوير شاقٌّ طويل, كما يعلم أن الملاحدة من أعظم الناس جَلبةً, ومن أجبنهم عند اللقاء, لكنه أبو الإلحاد, فلينزل للميدان ليعلم أفرسٌ تحته أم أتانٌ, ويختبر حقيقة الدعاوى الإلحادية.

جلس في مقهى فوجد بضعة شبان يعرفهم معرفة عابرة, يتسامرون ويحتسون القهوة ويدخنون السجائر, فانخرط معهم في أحاديث الكرة وأخبار الدوريات والأفلام والمسرحيات, وهو يتحين الفرصة ليلقي بطعم يهيئ به الجوَّ, و ليوجه الحديث إلى ما جاء لأجله, وحين بدأوا في أحاديث الفكاهة لاحت له فرصته, فبدأ يفرك جبهته ليتذكر بعض النكات الشيطانية التي يتفنن الزملاء في اختلاقها في مواقعهم للسخرية من أهل الدين, خاصة الموحِّدين, تسارع نبضه وهو يتوجس خيفة من وقع الكوميديا الإلحادية على القوم, فبحث عن شيء غير مقذع, ليكون مفتاحا لما بعده, فقال:
- واحد * مؤذن طلع الصومعة وهو سكران...
فقاطعه أحدهم:
- مؤذن وسكران؟ ذي مصيبة.. هو أنت يهودي؟

فأحس أبو الإلحاد أنه فشل في تقدير الموقف, لكنه تماسك وعزم ألا ينكص هذه المرة فتنحنح وقال:
- أنا لا ديني..
فالتفت إليه أصغر جلسائه - وكان عارفا بالإلحاد- و قال و هو يتبسم, :
- قل ملحد يا حبيبي, لا تخف؟ خائف نكون إرهابيين يعني؟ نحن ناس متفتحة وديمقراطية ومعتدلة, والدليل أني متشوق أسمع منك , لكن أحسن شيء نبدأ بنكات ملحدين ثم نسمع نكاتك الحلوة, أكيد أنت موافق.

ثم استطرد:
- أحلى شيء أن كلام الملحدين نفسه خفيف وظريف, أنا لما أكتئب أقرأ "أصل الأنواع" فأجلس أضحك و أنسى الهم.

- الملحدون كلهم ذوق وإحساس, يخافون يجي يوم يرتطم نيزك مدمر بالأرض, من فضلك فهّمني سبب خوفهم إذا كان الكون كله سببه انفجار عظيم؟

- حاجة ثانية, الملحد يحب الشك في كل شيء لدرجة أنه غير متأكد أنه موجود, طيب كيف يفعل الملحد إذا سألته: "أثبت لي أنك موجود"؟
- ينسخ السؤال ثم يطرحه في موقع إجابات جوجل." ثم يختار أفضل إجابة.

- حتى إمام المذهب وشيخ الطريقة عمّك دارون نفسه, خلّى الدُّب يعمل عملية تغيير نوع, وطلّع زعانف وصار حوت!!! هو ما كان مدمن حشيش, القضية أن دمه خفيف, لما لاحظ الحيوانات تعرق طلع بنكتة ما تخطر لمجنون على البال, قال لك صغار الحيوانات كانت تلعق عرق أمهاتها, ولما كانت الطبيعة فيها حنان حولت العرق إلى لبن!!!

- يا دارون يا قشطة, ما رأيك يا لحّود؟ بصراحة الملحد ديمقراطي ما يعرف عنصرية أبدا, ما يهمه لو كنت حوت أو دب, قرد أو إنسان أو حتى ضبع أو ضفدع, يا سلام يا دارون, عرقك لبن, و أفكارك سمن, ودمك عسل.

- تصور يا عزيزي لو كانت الطبيعة جعلتنا كلنا نعرق لبنا, تخيل كم يخرج من كل واحد منا من السمن البلدي المغربي, أو المشّ المصري ؟ على الأقل تبقى العجول المسكينة تتمتع بلبن ماما لوحدها, لكن يا خسارة, أمك الطبيعة لما طورت القرود, ما فكرت تعطيهم اكتفاء ذاتي من مشتقات الحليب. على فكرة أنت تعرق كثيرا.

كان جبين أبي الإلحاد يتصبب عرقا, ورغم شعوره البالغ بالحرج, فإنه لم يجد بدا من التبسم حين تصور لو أن غدده العرقية كانت تفرز الآن لبنا, ربما احتاج منه قطرات ليخفف من مرارة قهوته السوداء , اجتهد أن يظهر شيئا من روح الدعابة, و استغرب من نفسه ومن زملائه كيف يريدون أن ينتزعوا لأنفسهم حرية شتم الدين والسخرية من المتدينين دون أن يقبلوا بمثل تلك الحرية لخصومهم, يا لهم من منافقين! فليتجرع الساعة الكأس التي طالما سقاها خصومه متخفيا وراء أقنعة الشبكة العنكبوتية.

استمر جليسه يلاعبه كما يلاعب الهرُّ الفأر, فلا هو يطْلقه, و لا هو يُجْهِز عليه:
- على ذكر القرود المتطورة, ذا خالك كارل ساغان اكتشف جذور شجرة العائلة العريقة للملحدين بالتفصيل, هم صحيح أحفاد قرود, لكن جدود جدود جدودهم كانوا باكتيريا و جراثيم و مايكروبات.

- طيب سؤال لو سمحت يا ملحد, ما مشكلة الداروينيين مع الحشرات؟ كل كلامهم عن الخلية الأولى والباكتيريا والحيوانات, لكن ما قصة الحشرات؟ ربما تكون هي الحلقة المفقودة بين الباكتيريا والبشر؟ يعني يمكن عمل ترقية لشجرة النسب الإلحادي, وتكريم الذِّبَّان و الخنافس والبعوض.

- ما رأيك عزيزي لو أناديك - على مذهب ساغان- يا ابن الباكتيريا يكون أحسن ولا يا ابن القرد, بصراحة المتدين يفهم الداروينية بشكل سطحي, البروفيسور دونكي يقول البشر ما تطوروا من قرود, ذا كلام غلط, كلام أميين, هم أولاد أعمام, يعني لو قلت لملحد: يا ابن القرد, فهي شتيمة, ومن حقه يغضب ويرد علي: "يا جاهل, أنت أكيد ما درست أحياء, القرد ابن عمي يا متدين.

- دونكي رجل ذكي, أنا شخصيا أتمنى أسأله: "كيف تتأكد يا بروفيسور أن ساعتك صممها مهندس ياباني ذكي و ليس صاحبك صانع الساعات الأعمى؟"
أنا أعرف سلاطة لسانه, لكن لا بأس, إذا عرف السبب بطل العجب, التطور يفسر كل شيء, لما عملت مقارنة بين طريقة دونكي في الحوار وبين جدوده الداروينيين خرجت بنظرية تشرح أصله القردي بالتفصيل:
هو جمع ذكاء الشمبانزي ووقاحة البابون وعبوس الأورانغوتان, و لما يغضب, يعطيك درسا عمليا في الداروينية.

- أنا لو كنت ملحدا يا عزيزي, فلا بد أسن في الإلحاد سنة حسنة, و أزور حديقة الحيوان كل عيد, تعرف السبب؟ صلة رحم يا لحود, الملحد مثل المؤمن تماما, عنده صلة رحم و بر والدين, أنت ما سمعته يتكلم عن جدوده باحترام ويقول: "قردة عليا" و "سلف مشترك"؟

- الملحد عنده روح نكتة, لكنه مثقف موسوعي و يحفظ الشعر, واحد قالوا له: يا ابن القرد فقال:

كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك محموده عن النسب

كان الآخرون ينفجرون ضاحكين عند كل نكتة, فترتج فناجين القهوة على الطاولة, و تتلاشى أحلام أبي الإلحاد الوردية كما تتلاشى فقاعات الصابون, حتى يئس أن تطلع عليه شمس يوم لا يحس فيه بالمهانة كأنه ينتمي لطبقة المنبوذين الهنود.

في هذه اللحظة مر النادل على مرأى منه, فناداه وانتصب قائما ليفر بجلده, لكن جليسه أمسك به, وقال:
- طيب, سمّعنا نكاتك يا بطل.

فتلعثم أبو الإلحاد وقال معتذرا:
-أنا مستعجل, لازم أمشي, جرسون...

فقاطعه الشاب وهو يحرك رأسه:
- تفضل, القهوة على حسابنا يا أبو دم خفيف.

انسل أبو الإلحاد وهو يلعن نفسه ويلعن دارون وساغان ودونكي, ويتمني لو يمحو من عقله ذكرى هذه الأمسية المخزية.

-------------------------
* نظرا لموضوع اليومية اضطررت أن أضمنها بعض العبارات العامية, ومن لم يرق له ذلك فليعلق في الشريط, فأنا أعتز بمساهماتكم.

مسلم أسود
10-11-2012, 08:34 PM
لا و الله بل أعجبني استخدامك للعامية ^^ أحسنت يا أستاذ مرة أخرى ما شاء الله

هشام بن الزبير
10-12-2012, 10:57 PM
مرحبا بك أخي مسلم.

عماد الدين 1988
11-27-2012, 12:12 AM
كتاباتك جميلة وأستمتع بقراءتها أخي هشام :)

هشام بن الزبير
11-27-2012, 12:13 AM
44 رسالة بين أمواج الإلحاد (2)

عاد أبو الإلحاد إلى بيته مساء فوجد ظرفا باسمه في صندوق الرسائل, حك جبهته في استغراب, إنها رسالة حقيقية وليست فاتورة, فتح الظرف وأغلق الباب, تأمل الخط فتذكر الرسالة التي قذفتها إليه الأمواج قبل ثلاثة أشهر, تمدد على فراشه وقرأ:

أبا الإلحاد, تركت الإيمان بالخالق بزعم أنك ما وجدت عليه دليلا, ثم آمنت بالطبيعة وقوانينها, والداروينية وخرافاتها, فهل ارتاحت نفسك وسكنت هواجسك؟ أم أنك ما زلت تائها في بيداء شكك ووساوسك؟ ألم تدّع أنك تحررت من الدين وقيوده؟ فما لي أراك تتخبط في حفرتك لا تبرحها؟ ألم تمنِّ نفسك بالسلام والطمأنينة بعدما تخلصت في زعمك من الخرافة؟ فما بالك ما تفتأ تتخبط كالثور المذبوح لا تكاد تهتدي سبيلا؟ إن الإلحاد أشبه بماء أجاج لا يروي عطش النفس البشرية إلى السكينة والطمأنينة, إنه بحر مالح من الشكوك والأوهام كلما شربت منه ازددت ظمأ إلى ظمئك وخبالا إلى خبالك, فهل رضيت نفسك بما أنت فيه, وقنعت بما أوقعتها فيه؟ كفّ لحظة عن تخبطك واسأل نفسك في شجاعة: "هل حقا هذه هي الحياة التي أريدها, هل حقا هذا كل شيء؟" إن الإلحاد قد أفرغ حياتك من كل معنى, وتركك في دوامة شكك وحيرتك. اسأل نفسك: لماذا لم يخرس الإلحاد الأسئلة القاتلة التي تمطرك ليل نهار؟ إن شيئا ما بداخلك لا يقنع بشيء دون فهم لغز الوجود, إنه يبحث عمن يبوح له بسر الإنسان وسر الحياة والموت, إن الإلحاد يدعوك للعكوف عند قشرة العالم, وشيء ما في أعماقك يستصرخك لتستكشف لبّه, إن شيئا ما فيك يقف على حافة العالم المادي يتطلع ليحظى بنظرة إلى ما وراءه, إنه يتساءل عن كنه هذا العالم, من أين جاءه الجمال؟ من أين جاءه العلم؟ من أين جاءته الحكمة؟ من أين جاءته الرحمة؟ من أين جاءه العدل؟ أوليس لكل شيء أصلا ومنبعا ومعدنا؟ أوليس لكل شيء بداية وساعة ولادة؟

في ذلك اليوم البعيد أزفت ساعة مقدمك, كانت حياة جديدة توشك أن تنبثق, كانت صرختك الأولى إيذانا بولوجك بوابة هذا العالم العجيب, يا له من موقف يمحق الإلحاد, إن أشد الناس عدمية ومادية لا يملك أن يصمد أمام طوفان المشاعر التي تكتنف الشخصية الإنسانية في هذا الموقف الباهر, إنه مزيج من السعادة والدهشة والرهبة والحيرة والحب والإعجاب, إنها أحاسيس غامرة متضاربة ترغم أقسى الناس قلبا وأعتاهم إلحادا أن يتساءل: "من أين جاءت هذه الحياة الجديدة؟ من أين جاءت هذه الهبة الفريدة؟" إن بنيان المعرفة الإنسانية والحكمة البشرية والعلوم النظرية والعملية يتلاشى في مثل هذه اللحظة, فيقف الإنسان كأنه طفل تائه يبحث عن أمه, هل تساءلت يوما: أي شيء يملك أن يهزّ أعماقنا بكل هذا العطاء, وبكل هذا الحبّ؟ أي شيء يعطينا كل مرة برهان عظمته وضآلتنا؟ أهي الطبيعة التي لا يُدرى ما هي؟ أم هو الخالق الذي أجهدت نفسك في إنكاره؟

هائنتذا قد حططت الرحال في هذا العالم, لتبدأ رحلتك في هذه الصحراء التي تسمى "عالما", إنك لم تختر لا المجيء, ولا زمانه, ولا مكانه, بل قضيت أشهرا قبلها في أضيق مكان يقيم فيه إنسان, فخرجت من رحم مظلم مزودا بآلات لا معنى لها لو لم تفارقه, وأي شيء تغني عنك الجوارح لو لم تلج باب هذا العالم, ترى من زودك بالعينين وباللسان والأذنين في مكان لا حاجة لك فيه لا إلى سمع ولا إلى بصر؟

جئت من عالم ضيق إلى هذا العالم الرحب, فكيف تجزم أنْ ليس بعد هذا العالم عالم أرحب منه وأوسع؟ بدأت تستكشف موطنك الجديد بقلب طفل يسأل: من أين أتينا؟ لماذا السماء زرقاء؟ إلى أين تذهب الشمس؟ أين نذهب حين نموت؟ إنها الأسئلة عينها التي تؤرقك الآن, إنها أسئلة "لماذا" التي يسخر منها عالَم رضي من العلم بـ"كيف", إنها أسئلة تتطلع لعنان للسماء في عالم يغوص في أعماق الأرض, إنها أسئلة لا تطفئها عصارة الحضارة المادية, حضارة الأشياء الملونة, والواجهات الزجاجية, والوجبات السريعة, والمشروبات الغازية, ومؤسسات الكذب, ومنظمات النفاق, وإنتاج الشهوة, وعبادة الذات, ودوامة الهلاك والاستهلاك, إنها دوامة يخرج منها الإنسان بعد رحلته العبثية خاوي الوفاض, بعد أن يستنفذ مدة الحياة, لتبتلع الأرض ذلك الجسد الذي أشقاه واستعبده, يا لها من صفقة خاسرة ! وماذا عن الروح؟ إلام تطمح؟ عمّ تسأل؟ إنها معنى في لفظ, كتاب في خزانة, طائر في قفص, فما أغبى من يمضي عمره يجلو قضبان القفص, ويطيب أرجاءه, ويفوته أن البنيان إنما يعمر بساكنه, إنها الروح يا أبا الإلحاد, سر دفين, إنها معنى وجودنا, إنك لا تؤمن بأن لك روحا, إنك لا ترى في نفسك إلا آلة داروينية يكسوها هذا الجسد, تبا لمن زرع هذا الوهم في عقلك, ومتى رأيت آلة تحبّ وتكره, وتخاف وتجزع, وتصحو وتنام, وتحيا ثم تموت؟ هل تفهم الآلة معنى الإيمان والإلحاد؟ أرأيت كيف ينزل بك الإلحاد دركة دركة, فبالأمس كنت ترى نفسك حيوانا, واليوم آلة, وأنا أخبرك أين يستقر بك المقام حين تبلغ قعر هاوية الإلحاد, أما وإنه سيأتي عليك يوم إن دمت على ما أنت فيه, ترى فيه نفسك أحط الأشياء, فتغبط الحشرات والجراثيم وذرات الغبار, بل ستغبط العدم, يومها ستصل في نهاية نفق الإلحاد إلى مفترق طريقين لا ثالث لهما: الجنون أو الإنتحار, فإذا وقفت هناك فانظر حولك, وتأمل حالك لعلك تفهم معنى التنوير الذي كنت توعد يا أبا الإلحاد.

كان صاحبنا يقرأ وعقله يتساءل عن المرسل, ويتأمل بين السطور عساه يجد ملامح من شخصية الكاتب, لكنه لم يصل إلى شيء, يبدو أن أحدهم يراقبه ويهتم لأمره, لكن من هو؟ تفكر في الكلمات الأخيرة من الرسالة, ظللته سحابة من حزن أسود, أطرق برأسه والرسالة بيده, بدا له شيء, قرّب الورقة من عينيه فرأى حشرة دقيقة تتحرك, نظر إليها وهو يتفكر في أمره: - إني بالفعل أغبط هذه الحشرة الحقيرة, إنها تدب على هذه الورقة دون أن تكترث لشيء, وأنا أدب على الأرض كأني أحمل الكون فوق كاهلي, فيا ليت لي حياة هذه الدويبة وأرتاح من هذه الأعاصير التي تعصف في رأسي!

هشام بن الزبير
11-27-2012, 12:28 AM
كتاباتك جميلة وأستمتع بقراءتها أخي هشام :)
شكرا لك ومرحبا بك أخي عماد فإنما أكتب لإخواني.

ليندا الموحدة بالله
11-27-2012, 12:38 AM
رااااااااااااااااائعة أخي بوركت


متابعة

ابوبكر الموحد
11-27-2012, 12:44 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ههههههههههههههههه
اخ هشام احب ادبياتك وكنت دوما اتمنى الكتابة الادبية لولا ظروف خاصة المهم
افكر من فترة فى ابتكار شخصية تسمى لحدون
تمثل الملحد العربى بغبائه وضحالة ثقافته وضيق افقه واتخاذه الالحاد كموضة لا اكثر
وعلى لسانه تتم مغامرات لحدون ولا مانع من صديق له يسمى ميمون
ايه رايك اخى فى الفكرة ؟؟؟
نتعاون معا فى كتابة قصص قصيرة عن مغامراته هو وصديقه وتكون هادفة ضد الالحاد والكفر وخفيفة على القراء
فكر وانت تعرف كيف تجدنى اى وقت
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

( ابو معاذ )
12-10-2012, 01:45 PM
هههههههههههههههههههههههههههههههههههه
ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
قام إلى المرآة فشرع يحك البثرة السوداء حتى تفتتت.. ثم عاد ليتم مقالته.. لما نظر إلى شاشة حاسوبه لم ير "بغلا" وإنما رأى "بعلا" ترى أين ذهبت النقطة؟ نظر مرة أخرى إلى موضع البثرة من أنفه.. ففهم أن نقطة "البغل" زالت من على أنفهاستغفر الله العظيم


أخي هشام بن الزبير / رعاك الله وحفظك
لقد اعجبني طرحك واسلوبك ورحابة فكرك ومخيّلتك . اسأل الله ان يزيدك من فضله وان يحرسك بعينه .
الى الأمام يا هشام , واجرك على الله الذي يحصي الأعمال ويعلم مفردات الأقوال ... وفي حفظ المولي .

مسلم أسود
12-10-2012, 03:20 PM
صدقت يا أبا معاذ . أسلوبه يجمع بين الحكمة و البيان و الإضحاك و غيرها :)

ريوم
12-20-2012, 12:00 PM
ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أرجو الأستاذ هشام الزبير اصدار كتاب قريبا بعنوان " الكوميديا الإلحادية " ، كتابة جميلة وتمثل الأدب الساخر الراقي :thumbup:

هشام بن الزبير
12-20-2012, 08:09 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ههههههههههههههههه
اخ هشام احب ادبياتك وكنت دوما اتمنى الكتابة الادبية لولا ظروف خاصة المهم
افكر من فترة فى ابتكار شخصية تسمى لحدون
تمثل الملحد العربى بغبائه وضحالة ثقافته وضيق افقه واتخاذه الالحاد كموضة لا اكثر
وعلى لسانه تتم مغامرات لحدون ولا مانع من صديق له يسمى ميمون
ايه رايك اخى فى الفكرة ؟؟؟
نتعاون معا فى كتابة قصص قصيرة عن مغامراته هو وصديقه وتكون هادفة ضد الالحاد والكفر وخفيفة على القراء
فكر وانت تعرف كيف تجدنى اى وقت
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخي الكريم, أنت تريد من شخصية "لحدون" أن تكون مثل "الساندويتش" خفيفة على "معدة" القراء, وليست مثل "كبسة" أبي الإلحاد, أليس كذلك؟ على كل حال أنا رهن إشارتك كلما احتجتني في شيء.

هشام بن الزبير
12-20-2012, 08:10 PM
هههههههههههههههههههههههههههههههههههه
ههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه
قام إلى المرآة فشرع يحك البثرة السوداء حتى تفتتت.. ثم عاد ليتم مقالته.. لما نظر إلى شاشة حاسوبه لم ير "بغلا" وإنما رأى "بعلا" ترى أين ذهبت النقطة؟ نظر مرة أخرى إلى موضع البثرة من أنفه.. ففهم أن نقطة "البغل" زالت من على أنفهاستغفر الله العظيم


أخي هشام بن الزبير / رعاك الله وحفظك
لقد اعجبني طرحك واسلوبك ورحابة فكرك ومخيّلتك . اسأل الله ان يزيدك من فضله وان يحرسك بعينه .
الى الأمام يا هشام , واجرك على الله الذي يحصي الأعمال ويعلم مفردات الأقوال ... وفي حفظ المولي .

أضحك الله سنك أبا معاذ, وبارك الله فيك وآتاك فوق ما سألت لأخيك.

هشام بن الزبير
12-20-2012, 08:15 PM
صدقت يا أبا معاذ . أسلوبه يجمع بين الحكمة و البيان و الإضحاك و غيرها :)

بارك الله فيك أخي مسلم, ونفع الله بنا فيما نقول ونكتب.

هشام بن الزبير
12-20-2012, 08:18 PM
ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أرجو الأستاذ هشام الزبير اصدار كتاب قريبا بعنوان " الكوميديا الإلحادية " ، كتابة جميلة وتمثل الأدب الساخر الراقي :thumbup:
بارك الله فيك أختي الفاضلة, وأسأل الله أن ييسر أمورنا.

Arsalan
12-29-2012, 02:06 AM
الله يهدي ابو الإلحاد هذا مغامراته مضحكة مؤلمة بنفس الوقت بصراحة

جزاكم الله خيراً أستمروا

Arsalan
12-29-2012, 02:09 AM
وانا مع أقتراح الإخوة بأصدار كتاب بعنوان الكوميديا الإلحادية , او مغامرات أبو الإلحاد ~

وجزاك الله خيراً أَخي هشام بن زبير

مسلم أسود
01-03-2013, 03:06 PM
الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

هشام بن الزبير
01-03-2013, 06:15 PM
الله يهدي ابو الإلحاد هذا مغامراته مضحكة مؤلمة بنفس الوقت بصراحة

جزاكم الله خيراً أستمروا
وجزاك الله خيرا أخي أرسلان.

هشام بن الزبير
01-03-2013, 06:17 PM
الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة

الشعب يريد حلقة جديدة
شكرا أخي مسلم أن ذكّرتني.
قرأت طلبك فدخلت وكتبت يومية ستراها هنا بعد قليل إن شاء الله.

عمر خطاب
01-03-2013, 07:33 PM
بانتظارها. قرأت أكثرهم إن لم يكن كلهم. والجميل أن الأخ هشام موجود داخل الموضوع الآآآآن! يبدو أنه سيضع الجديدة - بإذن الله -! بالانتظار!

هشام بن الزبير
01-03-2013, 07:52 PM
أخي مسلم أسود, هذه يومية لم يكن لدي منها إلا رؤوس أقلام في مذكرة, ثم قرأت طلبك أعلاه فكتبتها لك ولبقية الإخوان.


45- 2012 عام القيامة الإلحادية


انتزع أبو الإلحاد تقويم العام المنصرم من الجدار قبالة سريره وتمنى لو ينتزع معه مرارة خيبته وبؤسه المتفاقم, نظر إلى الأرقام الكبيرة الملونة التي ترمز للعام العجيب 2012, ألقى كومة الورق في سلة المهملات وبقيت ذكرى هذا العام المضطرب منطبعة في عقله.

قرأ يوما في أحد مواقع الرجل الأبيض المتنور أن مقدم عام جديد فرصة سانحة يجدر بالملحد اللبيب أن يغتنمها لتجديد إلحاده ولضخ دماء جديدة في شرايين شكه. وقف ينظر من النافذة إلى الشمس تبزغ من جديد, لتنقله إلى عام جديد, نظر إلى شعاعها المتوهج, شعر كأنه يراها أول مرة, لقد انقطع رجاؤه أمس أن يراها ثانية, بل إنه ظن أن الشمس نفسها لن تحظى بفرصة الشروق من جديد, لكنه هنا يمتع بصره بنور هذا النجم العجيب من جديد, إن أبا الإلحاد يحب الجديد, إنها كلمة براقة يتوق عقله المشوش إلى تجربة معناها مرة أخرى بعد سنين من التخبط في حفرة ضيقة اسمها الإلحاد, إنه سجين دوامة قاتلة لا تفلح لا الشمس ولا القمر في تخليصه منها.

مضى عليه عام آخر وهو يتأرجح بين لادينيته ولاأدريته, متطلعا إلى اليوم الذي تطأ فيه قدماه عالم الإلحاد الموعود, عالم اليقين المادي والسلام الطبيعي الذي لا تدنسه شوائب الأوهام الميتافيزيقية والأحلام المثالية, لكن هيهات, إنه يشعر بأنه كتلة مادية خالصة تسكنها شحنة مجهولة الماهية والهوية, لا تقنع بموازين الطبيعة ولا تطمئن إليها, بل تسائلها وتستصغرها وتتمرد عليها, إنها تهز كيانه بالليل والنهار كأنها جني في قمقم, فتضطرب نفسه وتتعاظم محنته وتتقاذفه أمواج شكه وحيرته, فيجتهد أن يظل مستمسكا بإلحاده كما تستمسك النملة بالقشة في خضم السيل.

بدأت الشمس ترتفع فأتبعها بصره وتساءل لماذا تتطلع المادة في صورتها الإنسانية إلى السماء, ما الذي زرع فيه معنى السمو والإرتقاء, وما الذي ركب فيه كره الهبوط والسقوط؟ إنه يتوق أن يشعر بأنه منسجم مع العالم المادي من حوله, إنه يتطلع إلى يوم يقبل فيه ذلك الشيء الغامض الذي يسكنه بحكم الطبيعة بلا جدال ولا اعتراض. إنه ملحد لكنه مؤمن بأن ثمة سبيلا للخلاص من ورطته, إنه كافر بالآخرة, لكنه موقن بأن ثمة حياة أخرى خيرا من حياته, إنه كتلة مادية تتدحرج في سراديب اليأس, لكن ذلك الشيء بداخله مازال يضخ في نفسه شيئا من أمل, في غد أجمل.

إن الأسابيع الأخيرة من كل عام تفضح تناقض أبي الإلحاد, فهو يسقط كل مرة في فخ يهشم أوصال ملته المادية, إنه فخ الرمزية. الزمان ليس شيئا ماديا, إنه إحساسنا بتوالي الأحداث, فمن أين جاء بكل هذه الحمولة الرمزية التي تجعله اليوم يقف متفكرا متحسرا؟ لماذا لم يفلح الرجل الأبيض في استئصال طقوس أعياد الميلاد ورأس السنة من رأسه رغم أنها رواسب بالية تذهب بصفاء عقيدته المادية؟ ألم يبشره أساطين الإلحاد في القرن الماضي بدنو اندثار التدين؟ لماذا يقعي الملايين من ملاحدة الغرب نهاية كل سنة تحت أشجار الصنوبر المزينة بالمصابيح الملونة, يعدّون الهدايا الفاخرة ليخبروا أبناءهم بعدها أن شيخا وقورا أبيض اللحية قد جاءهم بها؟ لماذا يضطر الرجل الأبيض أن يكذب على الاطفال ليهب لحياته معنى رمزيا؟

تذكر يوما شاتيا من شبابه الأول حين زار أوربا أول مرة, مر بمكان تباع فيه أشجار عيد الميلاد, رأى كيف يأتي الرجل الأبيض بأبنائه ليختاروا أفضل شجرة ليزينوها ليوم عيدهم, تأمل أبو الإلحاد الحمولة الرمزية لهذا كله وتذكر كيف كان أبوه يصطحبه قبيل عيد الأضحى بيوم أو يومين لشراء أضحية العيد, أغمض عينيه وغاص في بحر ذكرياته, شعر بالسكينة تغمره لذكرى زمان ما قبل الألحاد فتبسم, اختلط في ذهنه شريط ذكرياته, كأنه مخرج أفسد عليه مهندس المونتاج عمله, خيل إليه أنه ينظر إلى رجل أشقر يضع يده على رأس خروف يتحسسه, كأنه يتأكد من سلامة قرنيه وعينيه وأذنيه, ثم يمر بيده الأخرى على صوفه, ثم يسأل البائع عن الثمن, خيل إليه أن المرأة إلى جنبه تقول له: "يا عزيزي إنه صغير, لنأخذ هذا فهو أكبر." فجأة تحول الكبش في مخيلته إلى شجرة صنوبر, حمله الرجل إلى سيارته وانصرف.

إنها نفس الرمزية التي تلاحق هذا الإنسان التائه المفعم بالحيرة, الذي تلاحقه أسئلة الموطن والمغزى والمصير, إن عيد الأضحى رمز للتضحية والفداء, فهل استطاع الفكر المادي أن يتخلص من فكرة غريبة كفكرة التضحية؟ أم أنه اقتبسها من الدين ليستثمر طاقتها الهائلة لتعبئة الكائنات الإنسانية؟ إنه لم يستطع أن يتخلص من رمز وثني كشجرة الميلاد, فكيف يتخلص من فكرة نبيلة كالتضحية؟

ظل أبو الإلحاد سنة كاملة يتأرجح في بيداء وساوسه حتى أوشكت على الإنصرام, ثم قضى أياما مرعبة لم يذق فيها طعم النوم, إنه يعاني من أرق مزمن, لكن الذي أصابه آخر العام شيء مختلف, إنك لو لقيته لحسبته بعث لتوه من قبر, شعر أشعث وعينان غائرتان يحيط بهما السواد كما يحيط السوار بالمعصم, لقد دهمه أمر طالما دفعه إلى ازدراء أهل الدين, إنها فكرة نهاية العالم, لكم سخر من المتدينين ومن سذاجتهم, نهاية العالم؟ يا لها من فكرة حمقاء! العالم كل شيء, فكيف ينتهي كل شيء؟ ظل صاحبنا مطمئنا إلى بقاء العالم المادي حتى اطلع قبيل شهور على نبوءة المايا وتقويمهم المشهور الذي حدد ختام هذه السنة موعدا لنهاية العالم, قرأ كل ما وقع تحت يديه عن المايا وبراعتهم في التنجيم وطقوسهم الدموية, لم يشعر أنه بدأ ينزلق شيئا فشيئا إلى التفكير في الأمر ثم إلى تصديقه بعد أن انغمس في الإنترنت يترصد أشراط الساعة الإلحادية. ومن أعظم ما جعله أخيرا يجزم بأنه سيرى نهاية العالم بأم عينه, أن كثيرا من أذكياء العالم المتحضر جزموا بأن الأمر جد, واستأنسوا لصحة النبوءة بكثير من القرائن المتظافرة منها الاحتباس الحراري والكوارث المناخية والأزمات الإقتصادية.

تمنى أبو الإلحاد لو كان يملك ثروة طائلة ليخرج من ماله كله ويذهب إلى أمريكا حيث تجمعت طائفة من الزملاء تنتظر الخلاص من السماء, تمنى لو يتاح له شرف صحبة الكائنات العلوية الخضراء إلى عالم آخر حين يتلاشى هذا العالم العجوز المضطرب, ربما كان دونكي هناك أيضا, لكنه معدم, تبا لأبي الإلحاد, إن الإلحاد والفاقة لعنة قاتلة! طالما حلم أن يصير ثريا لا تحبسه الحاجة عن الاستغراق في حريته المادية, لكنه مضطر للبقاء هنا في شقته الصغيرة, يا للهول ستقوم عليه القيامة الإلحادية في هذا المكان الحزين. لم يحدث أحدا بهواجسه, وحاول أن يتناسى الأمر.

دخل بيته قبيل مغرب اليوم الموعود وقلبه يرجف, كان يحمل سلة فواكه أخفى بينها زجاجة فودكا صغيرة ملفوفة بعناية في جريدة قديمة , إنه لا يريد أن تحل نهاية العالم وهو في كامل وعيه, أقفل باب غرفته وشرب الزجاجة في دقائق معدودة, مر أمام عيني عقله شريط حياته, لم يجد فيه شيئا يستحق الفخر, لماذا يستمسك مثله بالحياة, وهل هذه حياة؟ كان يتساءل ما الذي جناه من رحلته الأرضية لو صدقت نبوءة المايا, لم يقلب النظر كثيرا ليدرك أن خلاصة حياته لا شيء, لا معنى, عبث في عبث... بدأ أثر الكحول يسري في عقله حين سمع فجأة رجة هائلة, وانقطعت الكهرباء, طار كل أثر للخمر من كيانه, وكادت نفسه تخرج من الهلع, أخذته قشعريرة وأحس بالعرق البارد يتحدر بين كتفيه, لقد صدق المايا إذن, تدحرج أبو الإلحاد على الأرض وانبطح على بطنه وأغلق أذنيه بإبهاميه, توقع أن ينهار السقف على أم رأسه في أي لحظة, بل توقع أن ينهار العالم بمجراته وأفلاكه, اصطكّت أسنانه واضطربت فرائصه حين همس صوت بداخله: "أنت تعلم أن للكون مدبرا وأن له معنى وحكمة, فلماذا لا تلجأ إليه الآن؟" فتح فمه وبدأ يهمهم: "لا إله والكون مادة, المادة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" خرجت هذه الكلمات من فمه وهو لا يصدق منها حرفا, إنه يعتقد أن الكون يتلاشى بالفعل. إنه قد يقبل أن يندثر الكون فلا تبقى منه ذرة, لكنه يريد أن تبقى نفسه, فهل يدل ذلك على أنه يشعر أن في أعماقه شيئا آخر غير قابل للفناء؟ لم يشعر بذرة من السكينة رغم أنه ردد الشهادتين الإلحاديتين بإخلاص تام.

فيم الجزع يا أبا الإلحاد, أنت مادة, وهل تجزع المادة؟ إنك غير قابل للفناء كما رددت لتوك, إنك في أسوإ الأحوال ستتحول إلى هباء مبثوث يحوم في أرجاء الكون الفسيح, وأي شيء في ذلك, على الأقل ستتخلص من الصداع الفلسفي الذي يفتت كيانك, وستتخلص من مطارق الأسئلة التي لا تترك لك مجالا للراحة.

سمع جلبة بالخارج, ثم عادت الكهرباء, دخلت زوجه فوجدته منبطحا على بطنه, فقالت له: "لا تخف يا عزيزي, انفجرت طنجرة ضغط في البيت المجاور, لحسن الحظ لم يصب أحد بأذى." اقتربت منه وقد علتها الدهشة: "إنك ترتعش من الخوف, ماذا بك؟ لقد بللت ثيابك!" استجمع أبو الإلحاد قواه وجلس وهو يلهث كأنه عاد لتوه من سفر بعيد.

عمر خطاب
01-03-2013, 08:06 PM
هههههههه! أضحكتني يا أستاذ هشام. أسعد بأن أكون أول من يرد على الجديدة!

مسلم أسود
01-04-2013, 09:05 AM
جميلة و الله . منذ ثلاثة أيام و أنا أقول لنفسي "أريد أن أرى وجوه الذين صدقوا بمثل هذا الهراء"

هشام بن الزبير
01-04-2013, 08:09 PM
بارك الله فيك أخي عمر.
أخي مسلم لقد فكرت كثيرا في هذا الأمر العجيب: مجتمعات ترى نفسها في قمة الحضارة انسلخت من الدين, ثم صدقت خرافات منجمين انقرضوا قبل قرون.

قلب معلق بالله
01-04-2013, 09:46 PM
ما شاء الله
نغبطكم على هذا الأسلوب الأدبى الرائع
زادكم الله من فضله
بعد إذنك أخانا الكريم أريد أن أعيد صياغة نفس الحلقة
وإن كانت طريقتى لا تصل لهذا المستوى لكنها مجرد محاولة
كما يقال من جاور السعيد يسعد
.................................................. .......
خرج ابو الإحاد من غرفته مطأطأ الرأس بعد أن تناول كأساً لتخمد بداخله بعض الحيرة والتخبط فلم تزده إلا تخبطا وتأرجحا ..وجد زوجته كعادتها تتقدم أمامه
بهذا الزى المعهود وربطة رأسها العجيبة التى تشبه آذان الأرانب صارخة فى وجهه أين النقود يا رجل الأطفال يصرخون يريدون وجبة مكدونلز والبيبسى
حرمك الله النوم كما حرمت أطفالى (الفاست فود )
لم يعرها ابو الإلحاد اهتماما ولوّح بيديه معلنا الامبالاة ..ثم قرر أن لا يقضى نهاية العالم مع تلك الزوجةوهذا البيت ..أغلق ابو الإلحاد الباب وكأنه يريد أن يغلق باباً طالما أعياه ..نزل على درجات السلم تتابعت عليه الذكريات ..أليست هذة هى الزوجة التى كان يحلم بها وهذا هو البيت الذى تمناه ..كتلة مادية ظنها ستلبى رغبات نفسه لتصل به إلى سعادة أبدية مزعومة ..لكن هيهات هيهات لم تكن تلك الزوجة إلا مجرد لحظات عابرة يسد بها شهوته كما يسد بالطعام جوعه ..تذكر أيام ملاحقته لها فى الطرقات وبين أسوار الجامعة ينشد الحب الأبدى الذى لا يفنى ..قائلاً فى نفسه
نعم هذة هى حبيبتى التى طالما حلمت بها
نعم أحببتها بكل جميل وسيء فيها ولكن ولكن ليس هذا هو الحب الذى فتح قلبى على مصارعيه وجدد لى الأمل فى تلك الحياة البائسة !!
أين هو إذا أين ؟
ثمّ أمسك برأسه الذى كاد أن ينفجر ..وكاد أن يسقط لولا أن أسند بأحد يديه على جدار السلم ..
سار ابو الإلحاد فى مفارق الطرقات يبحلق فى كل شيء حوله ..حتى فى المارة وهو يحدث نفسه بصوت عال ما بال البشر يسيرون هكذا ألم يعلموا أن العالم سينتهى
بعد ساعات أنهم بالتأكيد يغطون فى ثبات عميييييق ..إلا أنت يا ابو الملاحيد لعلك تفوز بحياة جديدة جائزة لتيقظك لنهاية العالم ..

البراء بن مالك 11
01-04-2013, 11:17 PM
ههههههههههه
مسلسل رائع يكشف خفايا وأسرار أبو الإلحاد عن قريب ..
بارك الله فى جهودك وجزاك خيرا على ما تقدم .

البراء بن مالك 11
01-04-2013, 11:19 PM
خرج ابو الإحاد من غرفته مطأطأ الرأس بعد أن تناول كأساً لتخمد بداخله بعض الحيرة والتخبط فلم تزده إلا تخبطا وتأرجحا ..وجد زوجته كعادتها تتقدم أمامه
بهذا الزى المعهود وربطة رأسها العجيبة التى تشبه آذان الأرانب صارخة فى وجهه أين النقود يا رجل الأطفال يصرخون يريدون وجبة مكدونلز والبيبسى
حرمك الله النوم كما حرمت أطفالى (الفاست فود )
لم يعرها ابو الإلحاد اهتماما ولوّح بيديه معلنا الامبالاة ..ثم قرر أن لا يقضى نهاية العالم مع تلك الزوجةوهذا البيت ..أغلق ابو الإلحاد الباب وكأنه يريد أن يغلق باباً طالما أعياه ..نزل على درجات السلم تتابعت عليه الذكريات ..أليست هذة هى الزوجة التى كان يحلم بها وهذا هو البيت الذى تمناه ..كتلة مادية ظنها ستلبى رغبات نفسه لتصل به إلى سعادة أبدية مزعومة ..لكن هيهات هيهات لم تكن تلك الزوجة إلا مجرد لحظات عابرة يسد بها شهوته كما يسد بالطعام جوعه ..تذكر أيام ملاحقته لها فى الطرقات وبين أسوار الجامعة ينشد الحب الأبدى الذى لا يفنى ..قائلاً فى نفسه
نعم هذة هى حبيبتى التى طالما حلمت بها
نعم أحببتها بكل جميل وسيء فيها ولكن ولكن ليس هذا هو الحب الذى فتح قلبى على مصارعيه وجدد لى الأمل فى تلك الحياة البائسة !!
أين هو إذا أين ؟
ثمّ أمسك برأسه الذى كاد أن ينفجر ..وكاد أن يسقط لولا أن أسند بأحد يديه على جدار السلم ..
سار ابو الإلحاد فى مفارق الطرقات يبحلق فى كل شيء حوله ..حتى فى المارة وهو يحدث نفسه بصوت عال ما بال البشر يسيرون هكذا ألم يعلموا أن العالم سينتهى
بعد ساعات أنهم بالتأكيد يغطون فى ثبات عميييييق ..إلا أنت يا ابو الملاحيد لعلك تفوز بحياة جديدة جائزة لتيقظك لنهاية العالم ..

هذا ابو الالحاد بعد أن أصيب بنوبه عقلية :41:

جزاك الله خيرا .

قلب معلق بالله
01-05-2013, 12:30 PM
جزانا الله وإياكم أخانا البراء بن مالك 11
بوركتم

أحمد109
01-28-2013, 12:21 PM
يمكن أن تصنع منها رواية :)

مسلم أسود
01-28-2013, 02:21 PM
عدت للإسلام يا أحمد ؟! الحمد لله !

عمر خطاب
01-28-2013, 02:43 PM
نعم، أستاذي الكريم مسلم أسود، عاد وكتب موضوعًا أيضًا!! الحمد لله.

Human Bill
02-11-2013, 10:11 PM
أستغفر الله، أليس الكذب حراماً؟
ما هذه... المؤامرات (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?49488-%CA%C2%E3%D1-%C7%E1%E3%E1%CD%CF%ED%E4-%E3%C7%D0%C7-%ED%DE%E6%E1-%C7%E1%E3%E1%C7%CD%CF%C9-%C7%E1%DA%D1%C8-%C8%E3%E4%CA%CF%ED%C7%CA%E5%E3%BF) التي تحيكونها ضد الملاحدة؟ :)

Maro
02-12-2013, 02:39 AM
أستغفر الله، أليس الكذب حراماً؟
ما هذه... المؤامرات (http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?49488-%CA%C2%E3%D1-%C7%E1%E3%E1%CD%CF%ED%E4-%E3%C7%D0%C7-%ED%DE%E6%E1-%C7%E1%E3%E1%C7%CD%CF%C9-%C7%E1%DA%D1%C8-%C8%E3%E4%CA%CF%ED%C7%CA%E5%E3%BF) التي تحيكونها ضد الملاحدة؟ :)

واضح انه لديك إشكالاً كبيراً فى مفهوم كلمة (مؤامرة)...
ولا أعرف إن كان بالمنتدى قسم خاص لتعليم مبادىء اللغة العربية أم لا !

أيمن إسكندر
02-22-2013, 09:07 PM
الاخ الفاضل هشام ابن الزبير

بارك الله فيك وفي موضوعاتك

استئدنك بنقل مقالاتك في صفحتي على الفيس بوك مع ذكر اسمك والمنتدى


وفقكم الله

أخوك

أيمن

هشام بن الزبير
02-23-2013, 12:04 AM
هذا يشرفني أخي الكريم أيمن بارك الله فيك.

يونس متوكل
03-17-2013, 12:57 AM
بارك الله فيك يا أخي :41:
الشعب يريد حلقة جديدة :o:
الشعب يريد حلقة جديدة :o:

هشام بن الزبير
04-04-2013, 09:42 AM
أبشر أخي يونس, سأكتبها من أجلك.

ياسمين بنت سوريا
04-13-2013, 10:19 PM
انت عميق التفكير يا استاذ .. كتير حبيت كتابتك

Eng
04-21-2013, 02:13 AM
أدخــل الله السـرور عـلى قلبك :emrose:

هشام بن الزبير
04-27-2013, 10:14 AM
إخواني: يونس وياسمين وإنج, بارك الله فيكم جميعا وأهديكم اليومية الجديدة.



46- الملحد الصغير



خرج أبو الإلحاد يوما هائما على وجهه غائصا في تأملاته مستغرقا في همومه, حتى سمع جلبة وضحكا وضوضاء, نظر إلى جماعة من الأطفال يلعبون ويتراكضون في خفة الطير, قرأ على وجوههم حروف البراءة, وفي عيونهم بريق الأمل, تذكر طفولته, وقع في روعه أنها امتدت زمانا طويلا ولم يخرجه منها إلا اعتناقه لمذهب التنوير, لقد فقد براءته الأصلية يوم فقد الإيمان, ويوم فقد أباه, ولعل الأمرين حدثا في اليوم نفسه, لم يعد يذكر الأمر بالتفصيل, يبدو أن الإلحاد قد أطفأ شعلة الأمل في نفسه, وصبغه في بحر التعاسة صبغة أنسته طعم الحياة, حنَّ صاحبنا إلى طفولته وودّ لو يسترجع ذكرى تلك الأيام السعيدة.

عاد إلى بيته واستلقى على أريكته ساعة يشاهد مباراة كرة قدم, لكنه لم ير سوى نفسه, خيل إليه أن ليس على أرض الملعب أحد سواه, كأن أولئك المتراكضين قد استُنسِخوا منه, فهم يحملون نفس قسمات وجهه, ويشتركون معه في تيهه, إنهم يركضون مثله خلف سراب عابر, إنه يلهث وراء وهم خادع, كما يعدون خلف جلد حشوه هواء, غاص في تأملاته, فبدأ كل شيء من حوله يتلاشى ويندثر في لمح البصر, لم يبق لا فوق ولا تحت, ولا أثر ولا عين, لم يعد يعي إلا ذاته المتحيرة المتسائلة, هل اخترق حاجز الزمان والمكان ليحل في أحد الأكوان المتوازية؟ فجأة وجد نفسه في مكان آخر لم يره من قبل, رأى نفسه صغيرا رشيقا كما كان, نظر حوله فوجد نفسه في ظل شجرة دانية الأغصان, كأنها نبتت في ذلك المكان من أجله, ثم نظر حوله فلم ير إلا بساطا ممتدا من العشب الأخضر, أخذ نفسا عميقا فخطر له أنه يستنشق الهواء لأول مرة, أحس بانشراح عجيب, ذهب عنه ذلك الضيق البغيض الذي يقال إنه أحد الأعراض الجانبية للإلحاد, لكن مهلا إنه يود أن يحيا بقلب طفل وعقل ملحد, لا بد أن يعود من رحلته في خضم ذكرياته بجواب السؤال المحير: "كيف تكون ملحدا سعيدا؟"

اشتاق إلى لهو الطفولة فعزم أن يبحث عمن يشاركه اللعب, مشى قليلا فلم يسمع شيئا سوى صوت أفكاره, بدا كأن الأفق على مرمى حجر, ركض بأقصى سرعته فوجد نفسه عند ظل الشجرة نفسها, عجبا لقد دار في دقائق حول الكوكب بأكمله! وجد تحت الشجرة الفريدة ثمرة جوز هندي كبيرة يابسة, ها قد وجد شيئا يصلح للعب, بدأ يقذفها كما يصنع لاعبو كرة اليد أو كرة السلة, ويرفعها بأقصى قوته إلى الأعلى, فجأة ارتطمت بحجر فانكسرت شقين, سال منها الشراب البارد اللذيذ, رفع نصفها إلى فيه فشرب ما بقي منه, وأكل الثمرة, ياله من مكان رائع, وضع قشر جوز الهند على رأسه كأنه محارب من زمان آخر, إنه طفل وحيد على كويكب صغير, ليس فيه غير شجرة واحدة.

ركض طوال اليوم حتى آذنت الشمس بالمغيب, خارت قواه فنام على العشب حتى أيقظته أشعة شمس يوم جديد. أحس بالظمإ, أصاخ السمع فسمع صوتا من فوقه, رفع بصره فإذا سحابة بيضاء ,كأنها نُسجت من قطن, تكلمه: "لا تقلق, سآتيك كل صباح بأعذب ماء." وما أكملت كلامها حتى رأى الماء يتحدر على جبينه, ملأ قشر جوز الهند ماء ثم شرب حتى ارتوى, نظر إلى الشجرة فوجدها تحمل في كل غصن لونا آخر من الفاكهة, رأى فيها الموز والإجاص, والعنب والتوت, والتفاح والرمان, والتين والبلح, كانت شجرة عجيبة ناضجة الثمار, دانية القطوف, خيل إليه أنه كلما مد يده لثمرة منها تدانت منه, قطف بضع ثمرات فأكل حتى شبع, ثم حط طائر قرمزي اللون أصفر المنقار على مقربة منه وشرع يغرد بأعذب صوت, ولما اقترب منه سمعه يقول: "سبحان الخالق, سبحان منزل المطر, سبحان مخرج الثمر...".

شعر بالأنس لمرأى شيء تدب فيه الحياة, تمنى لو يكلمه قليلا, فقال له الطائر: "لا تقلق سآتيك كلما شعرت بالملل, وأحدثك بما أصادفه في أسفاري البعيدة, كاد قلب صاحبنا يطير من الفرح, سأله: "أنا لم أر خالقا فكيف أؤمن بخالق لا أراه, أخبرني من أنا, وما اسم هذا المكان؟" نظر إليه الطائر وهو يحرك رأسه قائلا: "لا تسألني عن نفسك أيها الملحد الصغير, أنت أعلم بنفسك, لكن اسألني عن المروج والجبال, والهضاب والوديان, والليل والنهار, والشمس والقمر, أجبك بما رأيت من ذلك كله." طرقت كلمة "الملحد الصغير" سمع صاحبنا, فنظر إلى نفسه, إنه صغير, لكنه لم يفهم بعد معنى "ملحد" وهل يفهم معنى شيء عجيب كالإلحاد أحد؟ رفع بصره إلى الطائر الذي حط على رأس الشجرة يسأله: "ما معنى "ملحد" أيها الطائر القرمزي الجميل ذو المنقار الذهبي اللامع؟" حينها بدأ الطائر يغرد بنغم شجي حزين, كأنه يشكو مصابا نزل به, ثم قال: "الملحد أيها الملحد الصغير هو الذي يشرب الماء النازل من السماء ثم لا يتطلع إليها, ويأكل الثمار التي تنبت بماء السماء فلا يخرج من فيه سوى الجشاء." ثم طار بعيدا حتى اختفى وبقيت كلماته ترن في عقل الملحد الصغير.

مشى صاحبنا على العشب فوجد قردا طاعنا في السن يدب على الأرض فوقف في طريقه, نظر إليه بوجه تملؤه التجاعيد ثم حاد عنه دون أن يعبأ به, ناداه: "مهلا مهلا, هلا سمحت بسؤال: "كيف ينزل الماء من السماء, وتطلع الشمس كل يوم, فتملأ كوكبي نورا, وتنضج على شجرتي مختلف الثمار؟" فأجابه بصوت متهدج دون أن يلتفت إليه: "مفتاح اللغز "سؤال", وروحه "عطاء" وحله "شكر", فلماذا تهتم بالكيف, وتغفل عن المعنى أيها الملحد الصغير؟ لماذا؟"

شعر بالحاجة ليتوقف عن المشي ليتأمل كلمات القرد الحكيم, فهمهم: "لماذا ينزل الماء من السماء؟ لماذا يبدو كل شيء مهيئا لوجودي هنا؟ لماذا أشعر كأن كل شيء من حولي يطاوعني ويخطب ودّي؟" عاد إلى ظل الشجرة, فمد يده إلى ثمرة تين, فشرع يمضغها, فإذا هي في منتهى الحموضة, لفظها ممتعضا, وتساءل: "كيف تكون بعض الفواكه من نفس الشجرة حلوة والأخرى حامضة والسحابة واحدة؟" ما أتم سؤاله حتى تذكر كلمة القرد, فغمغم: "لماذا؟" لكنه عاد فقال يحدث نفسه: "إنها طبيعة الأشياء, فبعض الأشياء سائلة كالماء, وبعضها صلب كالحجر, وبعضها حي يطير, وبعضها يدب على الأرض, ربما كانت تلك الأشياء كلها يوما ما شيئا واحدا فبدأت لسبب ما تتصور في صور مختلفة, تذكر الشبه بين الثمار المختلفة, وبينه وبين القرد, فسيطر عليه هذا الخاطر حتى توهم أنه اكتشف حل لغز وجوده ووجود الأشياء من حوله, لكن أنى له أن يستيقن أنه على الحق؟

رفع بصره إلى السماء, فرأى الطائر القرمزي يحلق في حركة دائرية, فصرخ بأعلى صوته: "أيها الطائر القرمزي ذو المنقار الذهبي, لماذا لا تطير بي لأرى مكانا آخر فقد مللت هذا الكوكب الصغير؟"
حط الطائر على الشجرة وهو يقول: "أيتها الشجرة الكريمة, هل رأيت أعجب من هذا الكائن المغرور الذي لا يكف عن السؤال, هل رأيت شجرة تتمنى أن تنتقل إلى أرض أخرى؟ أم رأيت سلحفاة تتمنى أن تطير؟ لماذا يطلب هذا الملحد الصغير ما لا يكون, ولا يرضى بما هو فيه؟"

هبت ريح فجأة فشعر أبو الإلحاد في نسخته المصغرة بالبرد الشديد, لجأ إلى جذع الشجرة ليحتمي بها, كانت أسنانه تصطك من البرد, سمع صوتا يختلط بصوت هدير الريح, إنها شاة تثغو, جاءت تمشي حتى وقفت بجنبه, كان صوفها الأبيض الناعم يكاد يلامس العشب, نظرت إليه قائلة: "أيها الملحد الصغير, يوشك أن يحل بنا الشتاء, فلنتاقسم هذا الصوف سوية." حمل صاحبنا مقصا وشرع يجز الصوف, حتى اجتمعت لديه كرة كبيرة, أدخل فيها يديه ورجليه فبدا كأنه رجل ثلج, شعر بالدفء أخيرا. إنه الملحد الصغير على كوكبه العجيب, يرى القصد في كل شيء, ثم يقول "صدفة", ويرى الحكمة في كل شيء ثم يقول "عبث" وتحجبه صورة العالم عن معناه, ويطرح سؤال "كيف" وعقله يصرخ به: "لماذا؟"

ارتج المكان بهتاف شديد: "جول, جول, جـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــول, هدف رائع للهدّاف اللامع شاشا, بعد تمريرة ذكية من كاكا, يا للروعة, يا للإبداع, اللاعب الأسطورة الأستاذ المبدع العبقري شاشا يحرز هدف النصر في الوقت بدل الضائع, بطل يا شاشا, فنان يا باشا..." عاد أبو الإلحاد ليحط الرحال في هذا العالم, فمد يده وضغط زر آلة التحكم عن بعد ليخرس صوت هذا الغراب البليد, الذي ينطق بكل ذلك الهراء بصوت منكر كأنه يحمل في فمه لقمة حارة يخشى أن يبلعها, فتتنازعه شهوة الطعام فلا يلفظها, وشهوة الكلام فلا يصمت, عجبا لهذا المأفون إنه يتكلم العربية بلكنة إسبانية, لكم وددت أن ينتزع أحد مشجعي الفريق الخاسر أضراسه ضرسا ضرسا بالكماشة حتى يكف عن إصدار تلك الأصوات المنكرة, عجبا شاشا طفل الشوارع الأمي أصبح أستاذا عبقريا فيلسوفا, لأنه يحسن ركل الكرة! اعتدل أبو الإلحاد في جلسته ومد يده إلى الإناء على المائدة, أخذ تفاحة, قضم منها قضمة وعيناه مغمضتان, وحاول أن يتخيل طعم فاكهة الشجرة العجيبة فوق كوكبه الصغير.

إلى حب الله
06-11-2013, 09:26 PM
الكوميديا الإلحادية (الجزء الأول) ..
القصص من 1 : 46 كاملة إن شاء الله ...

التنزيل أو التحميل من موقع فورشيرد 4shared :
http://www.4shared.com/office/Cnkd1w62/__-_1-46.html?

اضغط على زر التنزيل الصغير ...
ثم اضغط على زر التنزيل مجانا الرمادي اللون ...

والشكر موصول للأخ الحبيب muslim.pure ...

وقد عرضت الملف على الأخ الحبيب هشام بن الزبير ووافق عليه ...

وفي انتظار جديده إن شاء الله ... >>>>>> عايزين يوصل العدد لـ 100 بإذن الله

:):

muslim.pure
06-11-2013, 11:03 PM
بارك الله فيكما أخ ابو حب الله و أخ هشام بن الزبير
في انتظار وصول العدد الى 100 بإذن الله :41:
و هذا رابط الكتاب من مدونة هنا الحقيقة
http://honaalhakika.blogspot.com/2013/06/blog-post.html

أحمد حرقان
06-14-2013, 10:16 AM
إخواني الحياة ارحب من هذا الركن الضيق الذي حبستم فيه أنفسكم .. أنتم لن تلاحظوا أبداً نقاط الضعف في طرحكم إلا إذا قارنتموه بغيره .. أنتم مساكين فعلاً وأنا مشفق عليكم كثيراً!

واسطة العقد
06-14-2013, 10:23 AM
إخواني الحياة ارحب من هذا الركن الضيق الذي حبستم فيه أنفسكم .. أنتم لن تلاحظوا أبداً نقاط الضعف في طرحكم إلا إذا قارنتموه بغيره .. أنتم مساكين فعلاً وأنا مشفق عليكم كثيراً!

هذا النوع نادر حقيقة، اذكر اني صادقت اثنين ربما او ثلاث منه... غالبًا الملاحدة يتواقحون و يتهمون المسلمين بالتخلف و ما اشبه، لكن النوع الذي يقول انه مشفق علينا لان افق الحياة اتسع له فجأة و زاد معامل ذكائه عشرة اضعاف و تضاعفت ثقافة و اصبح حكيمًا مثقفًا مشفقًا علينا .. و الحياة لونها بمبي بمجرد ان اصبح ملحد، و نحن المساكين نحبس نفسنا عن هذا البمبي لاننا لم نلحد و هو يود و يحاول ان يجعلنا متنورين رائعين مثله.. هذا صنف نادر.
عمومًا زميلي، الثرثرة الزائدة لا فائدة منها.. ان كان عندك شيء يقال فهاته و الا فأنا استطيع ان ارد عليك بنفس الجمل الانشائية، بل افضل بكثير بما اني على الحق الذي لا يخالطه باطل.. فما دمت ملحدًا اجب سؤالاتي في الموضوع الاخر.. و دع هذا الاسلوب فلن ينفع او يفيد.

Maro
06-14-2013, 10:33 AM
إخواني الحياة ارحب من هذا الركن الضيق الذي حبستم فيه أنفسكم .. أنتم لن تلاحظوا أبداً نقاط الضعف في طرحكم إلا إذا قارنتموه بغيره .. أنتم مساكين فعلاً وأنا مشفق عليكم كثيراً!

بل أنت المسكين والله...
وكلنا نشفق عليك !
أى ركن ضيق هذا الذى حبسنا فيه أنفسنا؟؟؟
من الذى حبس نفسه يا أحمد؟
لابد وأنك تتحدث عمّن جعل إلهه هواه وأطلق لجسده العنان... !

أقول لك: دعك من هذا الكلام الذى لا يزن جناح بعوضة لدى ذوى الألباب... وتفضّل بعرض حياتك الرحبة علينا
ما يدريك، لعلّك تكون سبباً فى إلحاد كل مسلمى المنتدى لو أعجبتهم حياتك الرحبة تلك !
(إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) !!!

أم سمـية
06-14-2013, 10:39 AM
كما قالت الأخت الأستاذة واسطة ... ثرثرة زائدة ولافائدة منها.

إخواني الحياة ارحب من هذا الركن الضيق الذي حبستم فيه أنفسكم .. أنتم لن تلاحظوا أبداً نقاط الضعف في طرحكم إلا إذا قارنتموه بغيره .. أنتم مساكين فعلاً وأنا مشفق عليكم كثيراً!
حتى عبدة الإنسان يقولون ماتقولة أنت.!فماالجديد؟
فدع عنك اسلوب التمسح والشفقة ... فمنذُ متى الملحد يهتم بأمر المتدين ويخاف علية ولايتهجم على دينة ومقدساتة ؟
فلتبداء حوار الأخوة في موضوع واحد وعدم التقافز من موضوع لآخر لنرى شفقتك لنا هل تضل كماهي أو يظهر لنا وجهاً آخر!.


الله المستعان.

واسطة العقد
06-14-2013, 10:40 AM
أقول لك: دعك من هذا الكلام الذى لا يزن جناح بعوضة لدى ذوى الألباب... وتفضّل بعرض حياتك الرحبة علينا

من ايام اسماعيل ادهم و هذا الي فالحين فيه.. انا سعيد انا مرتاح انا فرحان، ثم اكبر نسب الانتحار عند الملاحدة :(:

كما قالت الأخت الأستاذة واسطة.

لست استاذة اختي.. بل تلميذة اتعلم منكم هنا.

أحمد حرقان
06-15-2013, 05:05 AM
أكبر دليل على اهتمام الملحد بأمر المتدين أنني هنا دون انتظار أجر من أحد ، أصبر على هجومكم علي دون سبب، وسوء ظنكم بي. أنا هنا في منتدى التوحيد أدرك أنني في قلب أكثر الأماكن ظلاماً على وجه هذه الأرض، لغتكم هذه ما عاد يستخدمها أحد .. ارتقت البشرية كثيراً لكنكم في أماكنكم لم تبرحوها .. أنا أيضاً مستغرب من إزالتكم لصورتي

lightline
06-15-2013, 05:18 AM
ارتقت البشرية كثيراً لكنكم في أماكنكم لم تبرحوها

صحيح لدرجة أن العالم الفيزياء الملحد Lawrence Krauss لا يرى مشكلة في زنا المحارم
وانتشار الboyfriend و girlfriend من الرقي وشرب الخمر والجلوس في البار

ارتقت البشرية في نظر الملحد حتى قالوا اصل البشرية من الحيوانات

أحمد حرقان
06-16-2013, 04:00 AM
:emrose: ارتقت لدرجة أني رغم لغة الكراهية التي تستخدمونها معي لا أقدم لكم سوى :emrose:

جوكر السلام2
06-16-2013, 05:51 AM
:emrose: ارتقت لدرجة أني رغم لغة الكراهية التي تستخدمونها معي لا أقدم لكم سوى :emrose:

بل أنت هنا لشك في قلبك يقض مضاجعك من إلحادك
ولا تحاول لعب دور الحمل الوديع في هذا المنتدى لأن هذا الدور لا يلقى استحسان المشفقين عليك

أحمد حرقان
06-16-2013, 06:19 AM
بل أنت هنا لشك في قلبك يقض مضاجعك من إلحادك
ولا تحاول لعب دور الحمل الوديع في هذا المنتدى لأن هذا الدور لا يلقى استحسان المشفقين عليك

أخطأت ما عندي شك في إلحادي طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وأنا لا أحاول لعب دور الحمل الوديع ولا أحتاج إلى ذلك، إضافة إلى أنني لا أستجلب الشفقة .. أنا مشفق عليكم أنتم .. ألا تنظر إلى نفسك أنت حتى دون أن تحاورني وتعرف شيئاً عن أخلاقي وطباعي هاجمتني بهذه اللهجة الغير متحضرة.

( محمد الباحث )
06-16-2013, 06:26 AM
أخطأت ما عندي شك في إلحادي طرفة عين ولا أقل من ذلك ، وأنا لا أحاول لعب دور الحمل الوديع ولا أحتاج إلى ذلك، إضافة إلى أنني لا أستجلب الشفقة .. أنا مشفق عليكم أنتم .. ألا تنظر إلى نفسك أنت حتى دون أن تحاورني وتعرف شيئاً عن أخلاقي وطباعي هاجمتني بهذه اللهجة الغير متحضرة.
عمتاً انا اتمني لك الهداية ان كنت فعلا تبحث بصدق يا احمد و ارجوا منك ان تكون علي قدر المسئولية في انصافك و بحثك
قد يكون الله جعل دخولك لهذا المنتدي نقلة في حياتك
و سأتمني لك امنية
اهتديت للحق اينما و حيث كان و أرجوا ان تهدئ فنحن لسنا في عراك معك بل نتمني لك الخير و صدقني اهل المنتدي أناس طيبون لا تأخذ عنهم انطبعات مسبقه بذات ان سيكون محاورك الاستاذ ابو حب الله وهو من اطيب المحاورين في المنتدي و كلهم ايضا كذلك
دمت بخير :):

أحمد حرقان
06-16-2013, 06:37 AM
وأنا لست في عراك معكم .. عشت طيلة عمري سلفي وكل أصدقائي سلفيون ولما ألحدت لم أفقد منهم أحداً إلا حبيب قلبي عبد الفتاح منجود فجعت بموته وهو في طريقه إلى ليبيا أيام الثورة هناك، وأحمد لطفي الذي قتل في سوريا بعد أن ترك زوجة حامل في طفله الأول وحزنت لذلك ووضعت صورته وهو مسجى على حسابي على الفيس بوك.. جميعاً ظلوا أقرب الناس إلي .. حتى شيخي الدكتور ياسر برهامي قابلني مقابلة حسنة ولم يبلغني أنه أفتى بتكفيري بل بلغني أنه عذرني لوجود مانع من موانع التكفير عندي. حتى الآن صدقني الإخون يقولون لي نحبك في الله.
أنا أيضاً أحبهم جميعاً ونتحاور بأدب .. ما يحزنني هو ما لقيته سابقاً في هذا المنتدى وما ألقاه الآن أيضاً من سوء الظن والتعسف بحقي. لأني إنسان أتأذى مما يتأذى منه الإنسان.

( محمد الباحث )
06-16-2013, 06:45 AM
وأنا لست في عراك معكم .. عشت طيلة عمري سلفي وكل أصدقائي سلفيون ولما ألحدت لم أفقد منهم أحداً إلا حبيب قلبي عبد الفتاح منجود فجعت بموته وهو في طريقه إلى ليبيا أيام الثورة هناك، وأحمد لطفي الذي قتل في سوريا بعد أن ترك زوجة حامل في طفله الأول وحزنت لذلك ووضعت صورته وهو مسجى على حسابي على الفيس بوك.. جميعاً ظلوا أقرب الناس إلي .. حتى شيخي الدكتور ياسر برهامي قابلني مقابلة حسنة ولم يبلغني أنه أفتى بتكفيري بل بلغني أنه عذرني لوجود مانع من موانع التكفير عندي. حتى الآن صدقني الإخون يقولون لي نحبك في الله.
أنا أيضاً أحبهم جميعاً ونتحاور بأدب .. ما يحزنني هو ما لقيته سابقاً في هذا المنتدى وما ألقاه الآن أيضاً من سوء الظن والتعسف بحقي. لأني إنسان أتأذى مما يتأذى منه الإنسان.
اقسم لك انك لست فرحاً بالالحاد و لست سعيد فيه و لازلت تبحث لان الالحاد لا يريح ولا يجعل منك الا انسان غريب في وطنك غير مستقر نفسياً منبوذ
الحياة المادية سيئة ستظل تطاردك و لن ترتاح الا اذا تجردت انظر في بيئتك انظر في اصدقائك ما يجب ان تحرص علي ان تغيرة
ابدء خد خطوة ايجابيه بعيداً عن اي اعتبار و انطباعات مسبقه جرب تأخذ بنصحي كما انت تقول انك تحزن و تشفق علينا
نحن نحاول ان نحرص عليك قدر المستطاع
جرب تقف لحظه بينك و بين نفسك وقول يا اله هذا الكون ان كنت موجوداً اهديني جرب ومش هتخسر حاجه بس جرب بصدق و كررها مرة و اتنين و تلاته
لعله يطلع علي قلبك و يجدك صادق فيهديك لعلك حاولت الاقتراب منه فتقرب منك و ساعدك
صدقني ستظل هكذا و لن ترتاح الا اذا تجردت و انصفت و تركت الانطباعات المسبقه و بحثت بصدق
لان ليس من صفات الباحث الكذب المصر علي الكفر
إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار
فلو صدقته لصدقك اسئله ان يهديك الي ما شتت عليك و ضللت فيه

BStranger
06-16-2013, 06:50 AM
وأنا لست في عراك معكم .. عشت طيلة عمري سلفي وكل أصدقائي سلفيون ولما ألحدت لم أفقد منهم أحداً إلا حبيب قلبي عبد الفتاح منجود فجعت بموته وهو في طريقه إلى ليبيا أيام الثورة هناك، وأحمد لطفي الذي قتل في سوريا بعد أن ترك زوجة حامل في طفله الأول وحزنت لذلك ووضعت صورته وهو مسجى على حسابي على الفيس بوك.. جميعاً ظلوا أقرب الناس إلي .. حتى شيخي الدكتور ياسر برهامي قابلني مقابلة حسنة ولم يبلغني أنه أفتى بتكفيري بل بلغني أنه عذرني لوجود مانع من موانع التكفير عندي. حتى الآن صدقني الإخون يقولون لي نحبك في الله.
أنا أيضاً أحبهم جميعاً ونتحاور بأدب .. ما يحزنني هو ما لقيته سابقاً في هذا المنتدى وما ألقاه الآن أيضاً من سوء الظن والتعسف بحقي. لأني إنسان أتأذى مما يتأذى منه الإنسان.

ما هو مانع التكفير؟

أحمد حرقان
06-16-2013, 06:58 AM
اقسم لك انك لست فرحاً بالالحاد و لست سعيد فيه و لازلت تبحث لان الالحاد لا يريح و يجعل منك الا انسان غريب في وطنك غير مستقر
الحياة المادية سيئة ستظل تطاردك و لن ترتاح الا اذا تجردت شوف بيئتك شوف اصدقائك ابدء خد خطوة ايجابيه بعيداً عن اي اعتبار و انطباعات مسبقه
جرب تقف لحظه بينك و بين نفسك وقول يا اله هذا الكون ان كنت موجوداً اهديني جرب و مش هتخسر حاجه بس جرب بصدق
لعله يطلع علي قلبك و يجدك صادق فيهديك لعلك حاولت الاقتراب منه فتقرب منك و ساعدك
صدقني ستظل هكذا و لن ترتاح الا اذا تجردت و انصفت و تركت الانطباعات المسبقه

صديقي أنا أعذرك في قسمك أني لست فرحاً بالإلحاد لأنك لم تعش كملحد من قبل. اسمح لي أن أقول لك إنني أعلم أن الإلحاد عبئ كبير على الإنسان في هذا المجتمع وأنا ورفاقي الملحدين نعاني معاناة رهيبة، فنحن في الوقت الذي لا نؤمن فيه بالآخرة لا نجد دنيا سعيدة تلهينا عن هذه الحقيقة المرة.
الإلحاد معناه عدم الإيمان بالله ، وهذه كانت بالنسبة لي حقيقة صادمة .. لذلك أول ما ألحدت عملت حساب على هذا الموقع سميته الحقيقة الصادمة ..
بمناسبة البحث عن حقيقة ..
أول شخص في الدنيا عرف بإلحادي هو حسن المرسي وهو كان رفيقي وحبيبي أيضاً وأنا من عرفته على الشيخ ياسر ودعوته للاعتكاف معنا في رمضان، دخل الدعوة السلفية على يدي . وتناقشنا كثيراً ، ولما قابلت الشيخ ياسر طلب مني أن أقرأ كتاباً اسمه الإسلام يتحدى.. أنا قرأته مرتين وقت أن كنت سلفياً ثم أعطيته لحسن فقرأه ولم يستحسنه ساعتها مثلما استحسنته أنا وفرحت به .. أخبرت الشيخ بإني قرأته من قبل في إسلامي فطلب مني إعادة قراءته بعد أن ألحدت .. قرأته بالفعل وذهبت إليه وطلبت منه مناقشته فيه فاعتذر لضيق وقته وضرب لي موعد لم يتسير له أن يحضر فيه، ثم قابلته مرة أخرى مع بعض الإخوة منهم محمد فاضل الذي وعدني بأنه سيرتب لي لقاء مع الشيخ .. ما تركت أحد كنت أعرفه إلا ناقشته .. حتى الشيخ أحمد السيسي على صفحته بعد أن بدأ نقاش محترم معي فوجئت أنه مسح كل تعلقاني فجأة وأنهى الموضوع.
اعذرني فأنا استرسلت في هذه النقطة لأثبت لك أني محب للأخوة ومريد للخير لم أهرب منهم يوماً . فلماذا تتوقعون أنني أعطي ظهري للحق مع أنه ما من أحد يحب أن يخلد في النار ويفرط في الجنة .. من أجل ماذا؟ أنت لا تعرف الملحد في هذا المجتمع كيف يعيش!
تحياتي لك ومعذرة للإطالة

أحمد حرقان
06-16-2013, 07:02 AM
ما هو المانع؟

هذا أمر لا يعنيني، واسأل الشيخ إن أردت.
تحياتي:emrose:

BStranger
06-16-2013, 07:09 AM
سبحان مقلب القلوب

BStranger
06-16-2013, 07:12 AM
ما هو مدى علمك بالسلفية ايام سلفيتك؟

أحمد حرقان
06-16-2013, 07:21 AM
سبحان مقلب القلوب

منذ كان عمري 14 عاماً وأنا أدعو مئات المرات كل يوم، في السجود وقبل التشهد وفي الأسحار بعد التهجد : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .. يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك" ولم تكن الإيام والطاعة والعبادة وقراءة القرآن تزيدني مع الأيام إلا شكاً.
في الأيام الأخيرة قبل الإلحاد كنت أخرج خارج المدينة في الليل أمشي بين الحقول وأمرغ خدي في التراب وأتوسل إلى الله أن يعطيني آية على أنه موجود .. كنت أضع جبهتي على الأرض حتى أجد رائحة ترابها في أنفي وأبكي لله قائلاً : يا ولي الإسلام وأهله مسكني الإسلام حتى ألقاك عليه"

BStranger
06-16-2013, 07:22 AM
يا احمد، عليك ان تعرف ان أكثر ممن تحاور الآن كان ملحداً|لا دينياً يوماً من الايام، فأنت تتكلم وكأنك طفرة في السلفية.

أحمد حرقان
06-16-2013, 07:27 AM
ما هو مدى علمك بالسلفية ايام سلفيتك؟

درست في العقيدة أولاً الثمرات الزكية للشيخ أحمد فريد في مدرسة البخاري قبل أن يغلقها الأمن .. وكان مدرسي الشيخ أمين سليم تلميذ الشيخ ياسر ..
ثانياً كتاب فضل الغني الحميد ، وهذا الكتاب هو الذي جعلني أتعلق بالشيخ ياسر وألازم دروسه بعدها 9 سنوات .. وأكثر ما كنت أحبه في هذا الكتاب كلامه عن أعمال القلوب. وهو من الكتب التي فرحت بها كثيراً ساعتها.
ثالثاً : أسئلة وأجوبة في السلفية للدكتور علاء بكر.
ثم شرح المنة للشيخ ياسر في مسجد الخلفاء الراشدين..
كانت لي قرائتي المستقلة في كتب السلف أيضاً وكنت مولع بالإمام ابن تيمية ..
كانت لي عدة قراءات في قضايا الإيمان والكفر بالذات لأختلاطي بكثير من الفرق، وقرأت في هذا الباب كتباً كثيرة أولها كتيب للشيخ أحمد فريد : العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير ، وسمعت أيضاً قضايا الإيمان والكفر للدكتور محمد إسماعيل المقدم ..
وغير ذلك .. لعل هذا كافياً لإعطائك فكرة عن مدى علمي بالسلفية
تحياتي:emrose:

BStranger
06-16-2013, 07:29 AM
منذ كان عمري 14 عاماً وأنا أدعو مئات المرات كل يوم، في السجود وقبل التشهد وفي الأسحار بعد التهجد : " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .. يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك" ولم تكن الإيام والطاعة والعبادة وقراءة القرآن تزيدني مع الأيام إلا شكاً.
في الأيام الأخيرة قبل الإلحاد كنت أخرج خارج المدينة في الليل أمشي بين الحقول وأمرغ خدي في التراب وأتوسل إلى الله أن يعطيني آية على أنه موجود .. كنت أضع جبهتي على الأرض حتى أجد رائحة ترابها في أنفي وأبكي لله قائلاً : يا ولي الإسلام وأهله مسكني الإسلام حتى ألقاك عليه"
غيرك دعا واستجيب له-هذه ليست القضية، ما فائدة هذه القصة؟ هل فهمت ما اعنيه بـ"سبحان مقلب القلوب"؟

BStranger
06-16-2013, 07:34 AM
درست في العقيدة أولاً الثمرات الزكية للشيخ أحمد فريد في مدرسة البخاري قبل أن يغلقها الأمن .. وكان مدرسي الشيخ أمين سليم تلميذ الشيخ ياسر ..
ثانياً كتاب فضل الغني الحميد ، وهذا الكتاب هو الذي جعلني أتعلق بالشيخ ياسر وألازم دروسه بعدها 9 سنوات .. وأكثر ما كنت أحبه في هذا الكتاب كلامه عن أعمال القلوب. وهو من الكتب التي فرحت بها كثيراً ساعتها.
ثالثاً : أسئلة وأجوبة في السلفية للدكتور علاء بكر.
ثم شرح المنة للشيخ ياسر في مسجد الخلفاء الراشدين..
كانت لي قرائتي المستقلة في كتب السلف أيضاً وكنت مولع بالإمام ابن تيمية ..
كانت لي عدة قراءات في قضايا الإيمان والكفر بالذات لأختلاطي بكثير من الفرق، وقرأت في هذا الباب كتباً كثيرة أولها كتيب للشيخ أحمد فريد : العذر بالجهل والرد على بدعة التكفير ، وسمعت أيضاً قضايا الإيمان والكفر للدكتور محمد إسماعيل المقدم ..
وغير ذلك .. لعل هذا كافياً لإعطائك فكرة عن مدى علمي بالسلفية
تحياتي:emrose:

وسبب الحادك؟

أحمد حرقان
06-16-2013, 07:35 AM
غيرك دعا واستجيب له-هذه ليست القضية، ما فائدة هذه القصة؟ هل فهمت ما اعنيه بـ"سبحان مقلب القلوب"؟

يا صديقي إن فعل الله إنما يتجلى في إغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، وإطعام الجائع، وإسقاء العطشان، وشفاء المريض، وتلبية الثكالى واليتماى والأيامى. عندما يفقدون كل أمل في الحياة. فماذا قدم الله لهؤلاء وأولئك إلا الحث على الصبر والسلوان. هل رأيت رجلاً مبتور القدم دعا الله أن ينبت له قدماً جديدة فاستجيب له .. إن الناس أخي حينما يفقدون الأمل في شفاء مريض بمرض لا يرجى الشفاء منه يقولون يتولى أمره الله.. يسمع الأطباء هذه العبارة كثيراً .. هل هناك أمل يا دكتور؟ فيأتيهم الرد ادعو له.

أحمد حرقان
06-16-2013, 08:07 AM
هذا يكون في رأيك لا أكثر.

افتح موضوعاً وناقش هذه القضية وأرنا الأدلة.


هذه آخر مشاركة لي في الحوار معك.

أنا بالفعل أحاورك في موضوع وهو الإلحاد
أنا كملحد أعرف جيداً أن وراء هذا الكون أسرار كبيرة أكبر من قدراتي وإمكاناتي المتوفرة الآن، وربما في المستقبل ومكمن الخلاف بيني وبين المؤمنين هو أنني حين أسأل : "ماذا وراء كل هذه الكائنات المعقدة التصميم والمصممة ببراعة حولي؟" أجيب على هذا السؤال بالتالي: إن هناك لا شك سبب وراء كل هذا الوجود لا أعلمه حتى الآن، ويمكنني البحث عنه بالقراءة في كتب العلماء المتخصصين .
في حين أن المؤمن يجيب : إن وراء هذا الكون إله اسمه الله وصفاته كذا وكذا وهو أعلمنا بوجوده عن طريق الأنبياء والرسل.
أنا أختلف معهم من هذه النقطة

مشرف 7
06-16-2013, 08:40 AM
الزميل أحمد الحرقان - بداية ؛ هذا الموضوع للأخ هشام ليس موضوعا حواريا وأخشى أن التطفل عليه بصنع حوار فيه غير لائق . أما وقد فتحت لك الإدارة مجالا لحوار ثنائي في قسم الحوارات الثنائية http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?53218-%E3%D1%CD%C8%C7%F0&p=2889001#post2889001 , فالأفضل ولا شك أن تدلي بدلوك فيه بما يخرج منه القاريء بشيء مفيد سواء في الإلحاد أو الدين , وقد تم حذف كل المشاركات السابقة تقريبا مما لا طائل من ورائه في هذا المنتدى الحواري . وأبقيت المشاركة الوحيدة التي قد تصلح لبدء حوار مثمر حولها - وهي التي تراها قبل مشاركتي تلك - وسوف أنقلها لحوارك الثنائي ليمكنك الزيادة عليها أو يمكن لمحاورك الانطلاق منها . ونرجو عدم تشتيت نفسك والأعضاء بالمشاركة في أكثر من موضوع وموضع بل ضع كل ما تراه مفيدا في إثبات إلحادك في موضوعك الحواري عسى الله تعالى أن يفتح بيننا وبينك بالحق وهو خير الفاتحين
بالتوفيق

هشام بن الزبير
06-21-2013, 10:39 AM
شكرا لك أخي المشرف, تمنيت أن أعرف ما الذي أزعج الزميل بالضبط في هذا الموضوع الكوميدي, هل رأى نفسه في شخصية الملحد الصغير على كوكبه العجيب؟

أبو يحيى الموحد
09-12-2013, 04:28 PM
نفتقد الاخ هشام منذ فترة
حفظه الله اينما كان

عكرمة علي
09-13-2013, 11:21 AM
جزاك الله خيراً أخي الفاضل وأسأل الله العظيم أن يعافي جميع المسلمين من حال ( أبو الإلحاد )

OMMNYR
09-13-2013, 01:09 PM
رباااه ,,,, أين هذا الكاتب ؟ ما هذا الأسلوب الساخر الراقى ؟ :13:

أنصح أن يتم عمل كتيب لمواضيع هذا الكاتب , خسارة والله يترك هكذا , أحزن لإمكانيات كهذه تترك هدرا ,

كيف لم أرى هذا من قبل , يبدوا أن المنتدى زاخر لكن يحتاج وقت ليس فقط متابعة أحدث الموضوعات , بارك الله للكاتب , عمل أفضل من رائع ,,,

muslim.pure
09-13-2013, 04:56 PM
رباااه ,,,, أين هذا الكاتب ؟ ما هذا الأسلوب الساخر الراقى ؟ :13:

أنصح أن يتم عمل كتيب لمواضيع هذا الكاتب , خسارة والله يترك هكذا , أحزن لإمكانيات كهذه تترك هدرا ,

كيف لم أرى هذا من قبل , يبدوا أن المنتدى زاخر لكن يحتاج وقت ليس فقط متابعة أحدث الموضوعات , بارك الله للكاتب , عمل أفضل من رائع ,,,
بالفعل تم تجميع هذا الموضوع في كتاب يمكنك تحميله من مدونة هنا الحقيقة في توقيعي

أبو يحيى الموحد
09-13-2013, 10:13 PM
http://www.youtube.com/watch?v=JGoB7Mi70W4

و هذه احد كوميدياتهم المضحكة بحق .. اتمنى المشاهدة من الجميع.

Rengle
09-27-2013, 07:48 PM
جُزيتَ خيراً وأُطعمتَ طيراً ... مقالات رائعة ... فهل من مزيد :):

القاضي 007
10-07-2013, 04:51 AM
شيء جميل والله بارك الله فيك