المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عرض كتــاب ... (لن تلحـــد).



اللجنة العلمية
04-09-2011, 01:35 AM
يسرنا أن نقدم لكم كتاب (لن تلحد) من تأليف الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري جزاه الله خيرًا، وبعد تمام عرضه سنرفعه لكم في ملف وورد، نسأل الله أن ينفع به السائلين، وييسر عمل الباحثين.

اللجنة العلمية
04-09-2011, 01:41 AM
الإهــــــــــــــــــداء

* إلى بقيّة عُمرك يا أبَا عبد الرحمـٰن لعـَـلك تعوُد إلى نصَـابك.
* وإلى كُل مـلحد ليؤمن.
* وإلى كُل مؤمن لـيزداد إيماناً مع إيمانه..

المؤلف
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري
سـَامحـه الله


الاسـتفتاح

الحمد لله رب العالمين الذي قال:
«وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ».
والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله وعلى جميع النبيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللجنة العلمية
04-09-2011, 01:46 AM
المقــدمة

الإلحاد في عرف عامة الناس يعني إنكار وجود الله ، والتكذيب بشرع الله ، وجحد حقائق الغيب.

والإلحاد في اللغة يعنى الميل والانحراف ، ومن عموم المفهوم اللغوي حددت مفهوم هذا السفر ، فجعلت الإلحاد يشمل إنكار وجود الله ، وجحد حقائق الغيب ، والتكذيب بشرع الله إما في ثبوته .. وإما في صدقه .. وإما في معقوليته .. وإما في عدله .

فإلغاء عقوبة القصاص إيماناً بأنها ظالمة ، أو غير معقولة نوع من أنواع الإلحاد .
وإنكار وجود الجن نوع من الإلحاد .
والمطالبة بالتحرر من قيود الشرع نوع من الإلحاد .
وتفسير حقائق الغيب بما ينافي خبر خالق الغيب نوع من الإلحاد .

إلا أنني في مناقشة هذه المسائل الإلحادية تحاشيت المسائل العلمية واقتصرت على المسائل الاعتقادية ، فلم أحفل مثلاً بشروط إقامة القصاص ، لأن غرضي بيان المعتقد الصحيح في مشروعية القصاص .

ولم يكن الغرض من هذا السفر ملاحقة شبه الملاحدة . وإنما كان الغرض تحرير العقل من أغاليط الفكر ، وإقناع الناس بثمرة الإيمان بالله وبشرعه .

ولهذا كان العنوان « لن تلحد » تفاؤلاً وثقة باستجابة العقول المنصفة لموجبات الضرورات الفكرية .
ولهذا أيضاً كتبت عن الطائفة المنصورة دلالة على ثمرة الإيمان وصدق الخبر الشرعي .
ولهذا ثالثاً حرصت على تحقيق نظرية المعرفة (الأبستمولوجيا) ولا أنكر أن لي ريادة في هذا الباب ، وصححت ومحصت طرق الاستدلال والجدل ، لأن تنظيم الفكر وتصحيح طرق الاستدلال قمين بالمعتقد الصحيح .
وهناك ظاهرة تثلج صدر المؤمن ، وهي إن مفكري الملاحدة مجندون فكرهم لهدم نظرية المعرفة بسفسطة أو حسبانية . أما مفكرو المؤمنين فهم أحرص الناس على تنظيم المعرفة وهدم السفسطة، وهذا يعنى أن الإيمان أسعد بضرورات الفكر .

وإذا كان في قضايا الإيمان ـ كبعض مسائل الغيب ـ ما يحار العقل في فهمه لقصور وسائل المعرفة البشرية عن تكييفه، فليس فيها ما يستحيل على العقل الإيمان به، أما قضية الإلحاد فمستحيلة على تصور العقل .

وعلى أي حال فهذا السفر محاولة رائدة في نظرية المعرفة : إما لأن أغلب مواده من قضايا المعرفة ، وإما لأن عموم منهج مواده استثمار لما صححته من نظرية المعرفة ، لأن مدار هذا البحث على ثلاثة أمور :

أولها: تحقيق نظرية المعرفة ذاتها.
ثانياً: تصحيح طرق الاستدلال والجدل بناء على المحقق من نظرية المعرفة.
ثالثاً: كشف أغاليط المنطق وأخطاء الاستدلال فيما ناقشته من استدلال لبعض الشبه الإلحادية .

ولم يكن هذا السفر مؤلفاً مقصوداً منذ البدء في صميم هذه الموضوعات ، وإنما كانت مواده من جملة المحاضرات والمقالات التي كنت أنشرها في الصحف خلال عشرين عاماً . فقد أهملت جملة منها وحفظته ، لأنني غير راض عنه ، وما رضيت عنه وزعته في أسفار تحت عنوان عام ( الفنون الصغرى ) إلا أنني ميزت بعض الأسفار بعنونات خاصة لما رأيت موضوعاتها موحدة الهدف ، فكان السفر الأول بعنوان « هكذا علمني ورد زورث» لأن مواده من موضوعات الفن والأدب التي توزن بالمعيار الجمالي .
وكان هذا السفر ـ وهو السفر الثاني ـ عن قضية الإيمان والإلحاد.
وكان السفر الثالث بعنوان « اللغة العربية بين القاعدة والمثال » .
وكان السفر الرابع بعنوان « هموم عربية » .
والله أسأل أن ينفع بهذه الأسفار ، وأن يعين على إنهاء بقيتها والله المستعان ..


الرياض ـ غبيراء ـ دارة فيصل
فجر يوم الخميس 26/1/1401

وكتبه لكم :
أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري

اللجنة العلمية
04-26-2011, 12:21 AM
الخطوط الرئيسية لنظرية المعرفة

معنى المعرفة :
ما يسميه الناس معرفة ـ بمختلف أنواعها ـ تلتقي في هذين النوعين :
( أ ) الصورة الحاصلة في عقل الإنسان عن الموجود المحسوس وهذه معرفة تصورية.
مثالها : معرفتي برائحة ( السنا ) الذي سبق أن شممته .
( ب ) الصورة الحاصلة في عقل الإنسان عن موجود غير محسوس ساعة التصور ولم يسبق للمتصور الإحساس له . مثال ذلك : معرفتي بالإسهال الحاصل عن ( السنا ) الذي لم أره ولم أجربه وهذه تحصل بالوصف . والقياس تبنى على معارف حسية أخرى .
وهذه المعرفة تسمى بالمعرفة التصديقية ، أو الحكمية ، أو البرهانية .

أركان المعرفة :
تقوم المعرفة على أربعة أركان :
1 _ معروف . وهو الشيء
( أ ) الذي حصلت لعقلي صورته بواسطة الحس .
( ب ) أو الذي حصلت لعقلي صورته . أو صورة الحكم فيه بواسطة البرهان.
2 _ عارف : وهو الذات التي تملك وسيلة المعرفة المباشرة .
3 _ معرف : بالبناء للمفعول . وهو الذات المعرفة بالبرهان . وكذلك الشيء المعروف .
4 _ معرف : بالبناء للفاعل : وهو الذي ينقل معرفته الحاصلة له مباشرة . أو بالبرهان ويجوز ـ تجوزا ـ تسمية وسيلة المعرفة معرفا .


أنواع المعرفة البشرية :
المعرفة البشرية ـ من عدة اعتبارات ـ تنقسم إلى أنواع كثيرة ، وقد جمعتها بالاستقراء ولم أر أحداً جمعها هذا الجمع . وهي كما يلي :
1 _ معرفة حسية موضوعية :
وهي المعرفة المباشرة للأعيان المحسوسة كمعرفتي لهذا القلم الذي بيدي .

2 _ معرفة معنوية :
كمعرفتي أن المطر سبب الإنبات ـ بإذن الله ـ وأن المطر قبل الإنبات . وأن العشاء بعد الغروب.
فهذه معنوية ، لأن السبب ، والقبل ، والبعد : أمور غير عينية : يراها البصر ، وتلمسها اليد .. الخ .
وهي موضوعية ، لأنها مفهومة من أمور حسية خارج الذات .

3 _ معرفة كلية :
وهي أن أعرف جوانب الشيء بكل ما تستطيعه وسائل المعرفة عندي ، فأعرف : أن التفاحة الخضراء ملساء ، ندية ، غير مجوفة ، كروية بطنها أبيض ، بها حبوب بنية ، لها رائحة معينة ، ولها فوائد غذائية معينة ، حلوة المذاق .. الخ .

4 _ معرفة جزئية :
كأن لا أعرف عن التفاحة إلا شكلها .

5 _ معرفة تامة :
كمعرفتي لطعم التفاحة بطرف لساني .

6 _ معرفة ناقصة :
وهي المعرفة الحاصلة بالوصف أو التشبيه : كمعرفتي بأن طعم التفاحة كطعم السكر ولم أذق التفاحة .

7 _ معرفة مطلقة :
كقولنا : طرفا المستقيم لا يلتقيان ، فهذه مطلقة الزمان والمكان والحالة ، لا يمكن أن يلتقي طرفا المستقيم في زمان ما ، ولا مكان ما . ولا حالة ما .

8 _ معرفة نسبية أو مقيدة :
كقولنا : يغلي الماء في حرارة درجتها 100 ، فهذه معرفة حقيقية بالنسبة إلى ماء معين ، وضغط معين .

9 _ معرفة واقعية :
وهي ما كانت صورة لواقع موجود في الموضوع ، أو الذات .

10 _ معرفة وهمية :
وهي ما كانت بخلاف الواقع ، وسميت معرفة ، لأنها صورة في العقل ، وسميت وهمية لأنها لم تحصل للعقل بتفكير صحيح وتسمى إرادية ، واعتقادية.

11 _ معرفة إثبات :
وهي الحكم بوجود شيء ، أو الحكم له بصفة ما .

12 _ معرفة نفي :
وهي أن تنفي وجود شيء ، أو تسلب عنه صفة أو حكما .

13 _ معرفة حسية ذاتية :
وهي ما أدركته بحسي الباطن : كمعرفتي بأنني فرح أو مغموم .

14 _ معرفة تجريبية :
وكل معرفة حسية تجريبية ، ولكن جرى الاصطلاح على أن المعرفة الحسية لا تكون تجريبية حتى تكون نتيجة تطبيقات حسية متكررة في حالات مختلفة .

15 _ معرفة عقلية :
وهي الأفكار الخالصة ، أو المجردة ، أو الحدسية ( رؤية العقل المباشرة ) أو البديهية ، أو الأولية ، أو القبلية ، أو الضرورية ، أو الفطرية .
فمن يقول : لا يعرف العقل إلا بواسطة الحس : يسمى هذه المعرفة عقلية لأن العقل جردها من محسوسات ما ثم عممها .
ومن يقول : أن العقل يستقل عن الحس بالمعرفة ، يسمى هذه المعرفة عقلية باعتبار العقل مصدراً لها .

16 _ معرفة روحية أو إلهامية :
فيدخل في ذلك الرؤيا الصادقة ، والتجليات في اليقظة ، كالتلباثي عندما قال : عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ الجبل يا سارية .

17 _ معرفة يقينية :
وهي ما لا يدخلها احتمال ، أو يكون الاحتمال مرجوحاً ، وهي معرفة الواجب والممتنع أو المتعين والمستحيل .

18 _ معرفة احتمالية :
وهي ما تتكافأ الاحتمالات حولها ، ولا يترجح أحدها ،وهي معرفة الممكنات حينما: لا يوجد المقتضي . ويتخلف المانع .

19 _ معرفة ظنية أو ارتيابية :
وهي أن يكون الاحتمال مرجوحاً، فما حصل بالاحتمال الراجح يقين، وما حصل بالاحتمال المرجوح ظن.

20 _ معرفة ظاهرية:
وهي ما يظهر للحس : كرؤيتي للزبد يطفو على سطح النهر .

21 _ معرفة جوهرية:
وهي معرفة ما غاب عن الحس من باطن المحسوس : كمعرفتي بعمق مجرى النهر من ظاهر معرفتي للزبد يطفو على سطحه .

22 _ معرفة مغيب:
وهي أنواع :
أ ) مغيب كان قبل ذلك حاضراً: كتصوري للقاهرة، وأنا في الرياض.
ب) مغيب لم يحضر بعد : كمعرفتي بعمق مجرى النهر قبل أن ينضب ، أو قبل أن أغوص فيه أو اكتشفه بمجهر.
جـ) مغيب عن الحس البشري بأجمع ، كمعرفتنا بوجود الله والجن والملائكة .

23 _ معرفة حاضر :
وهي معرفتك وقت الإحساس.

24 _ معرفة مباشرة: أو بسيطة.
كمعرفتي بأن طعم التفاحة حلو بطرف اللسان مباشرة وأن الجزء أقل من الكل .

25 _ معرفة بواسطة، أو مركبة:
وهي التجريبية ، كمعرفتي بالغيرية بين موجودين .

26 _ معرفة برهانيه:
وهي المعرفة بواسطة وتركيب .

27 _ معرفة بديهية:
وهي المعرفة المباشرة .

28 _ معرفة وجودية أو عدمية:
وهي حكمي بوجود شيء في الواقع ، أو عدم وجوده .

29 _ معرفة كيفية:
وهي معرفة وجودية وزيادة .

30 _ معرفة كمية :
كمعرفة الكثافة والثقل والمقدار والعدد، وهي معرفة وجودية وزيادة.

عائدة إلى الله
04-26-2011, 10:35 AM
عرض رائع و عميق للكتاب والأفكار
في الانتظار للتتمة

اللجنة العلمية
06-05-2011, 07:06 PM
لمحة عامة عن المذاهب في نظرية المعرفة :
لم تبلغ الفلسفة ـ من النضج ، ودقة التحليل ، وشموله ـ ما بلغته في العصر الحديث ، ومع هذا : كانت نظرية المعرفة مشكلة لم تحلها الفلسفة الحديثة ـ رغم نضجها ، ودقتها وشمولها !
بل كانت نظرية المعرفة : من أعوص مشاكل الفلسفة ، وكانت مباحثها من أخصب مباحث الفلسفة الحديثة .

قال أبو عبد الرحمن : واعتباري نظرية المعرفة مشكلة : يعني : أن الفلسفة لم تحلها حلاً يتفق عليه جمهرة المفكرين وأنما مذهبتها إلى مذاهب كبرى : يقتسمها المفكرون .

وكل مذهب : يدلي بعظمة في التفكير، وغطرسة في البرهان، وهذا ما جعلها مذاهب كبرى متكافئة .
ووجه الخطأ في كل مذهب ضئيل بالنسبة إلى ما في كل مذهب من جوانب الحق والصواب . فماذا يعني هذا ؟
يعني : أن كل المذاهب حقائق تعارضت في ذهن المفكرين، فأخذت كل فئة بمذهب ترجيحا !

قال أبو عبد الرحمن : ويمكن الأخذ بهذه المذاهب جميعاً : بشرطين ، هما :
( أ ) الانتباه للفروق الدقيقة الصحيحة ، التي تمايز بينها .
( ب ) الانتباه لمثارات الغلط في كل مذهب ، ليتمحض للحق .

جوامع المذاهب في نظرية المعرفة :
تنقسم المذاهب إلى مذهبين : من جهة الشيء المعروف .
كما تنقسم إلى مذاهب : من جهة الوسيلة التي حصلت بها المعرفة فأما المذهبان في الشيء المعروف فهما :
( أ ) مذهب مادي يقول : أن ما عرفناه انعكاس للواقع ، وصورة له.
( ب ) مذهب مثالي يقول : إن ما عرفناه لا يعني شيئًا من الواقع ، وإنما هو وجود في ذواتنا .. وما في الخارج : إما مشكوك فيه ، وإما زائف ، وإما مستحيل ، ويدخل في هذا جميع مذاهب السفسطة .
ومنهم من يقرب من المادية ، فيقول : نعرف ظواهر الأشياء لا جواهرها ، والمذهب المادي : يسمى موضوعيًا ، والمذهب المثالي يسمى ذاتيًا .

وإما المذاهب في وسائل المعرفة فكما يلي :
( أ ) مذهب حسي يقول : لا معرفة إلا ما جاء بواسطة الحواس .
( ب ) مذهب عقلي _ يقول : لا معرفة إلا ما جاء بواسطة العقل ، وهؤلاء يقولون :
يمكن أن يحصل العقل معارف بغير واسطة الحس .
( ج ) مذهب صوفي ، أو حدسي(1) يقول : لا معرفة إلا ما جاء بواسطة الروح ، وهؤلاء يريدون بالنفي : نفي الشكل الأعلى للمعرفة ، وهو معرفة جواهر الأشياء ، وهذه المعرفة الصوفية العليا لا تكون إلا لأشخاص قلة وفي حالة مستثناة ، يحصل فيها الإلهام ، أو الكشف أو الإشراقة ، وأهل هذا المذهب يسمون بذوي المعرفة النزيهة .
( د ) مذهب ذرائعي يقول : المعرفة ما أرادته الذات الحرة ، أي عقيدة القلب .

وهذه المذاهب في المعرفة : مرتبطة بمذاهب أصحابها في الوجود : أي الموجودات أسبق : المادة أم الروح أم العقل ؟ وما بين هذه المذاهب : مذاهب تتميز بمصطلحات جزئية : من ارتيابية ، وتعرف الجزئية بـ (الاكليكتية) أي الانتقائية ، أو التلفيقية(2) .

__________________
(1) للحدس معنى آخر عند العقليين ، وهو رؤية القلب المباشر .
(2) أشار إلى هوية هذه المذاهب الانتقائية مؤلفو كتاب المادية الديالكتيكية .

مستفيد..
06-05-2011, 07:22 PM
جزاكم الله خيرا..
في انتظار ملف الوورد..

اللجنة العلمية
06-06-2011, 10:05 PM
مصادر المعرفة الصحيحة أو العليا في شتى المذاهب :
مصدر المعرفة عند المليين : ما جاء بكتبهم المقدسة ، فمصدر المعرفة عند اليهود التوراة ، وعند المسيحيين الإنجيل ، وعند الامامية قول الامام المعصوم ، ومصدر المعرفة عند الصوفية تجليات الروح ، ومصدر المعرفة عند الذرائعيين عقيدة القلب وإرادته ، ومصدر المعرفة عند الفلاسفة العقل فقط ، أو الحس ، أو هما معًا .

المصدر الصحيح لجميع المعرفة :
المحسوس : هو المصدر الصحيح لجميع أنواع المعرفة البشرية . فالتفاحة مصدر معرفتي بطعمها ، وجملة مما أدركته بحسي ـ مصدر معرفتي ـ بأن الجزء أقل من الكل ومعرفتي بغير المحسوس مصدرها المحسوس ، فالتفاحة التي ذقتها مصدر معرفتي بكل حلاوة مشابهة لم أذقها ، ولا مصدر للمعرفة مطلقاً غير الموجود المحسوس :
( أ ) أما الموجود المحسوس خارج الذات .
( ب ) وإما الموجود داخل الذات .

وسائل تحصيل المعرفة :
تنتقل المعرفة بالوسائط التالية :
1_ الحس الظاهر ، بالحواس الخمس .
2_ الحس الباطن ، بانفعالات القلب .
3_ العقل وللعقل ملكات ذات وظائف :
( أ ) ملكة تسجل صورة المعروف وتحتفظ به وهي الذاكرة .
( ب ) ملكة تختبر المعرفة وتصححها ، وهي ملكة الفهم والتمييز والحكم .
( ج ) ملكة الخيال ، وهي التي تؤلف بين صور المحسوسات ، وتخترع صورًا غير موجودة بهذا التركيب أو لم يشاهدها المتخيل بهذا التركيب ، ولكن هذا المتخيل المركب لا يقوم إلا بجزئيات محسوسة .
( د ) ملكة التأمل والتفكير وبها يحصل التجريد من المحسوس والتعميم فنفهم غير المحسوس بالقياس أو باللزوم العقلي .
4 _ اللغة : وبها يكون التعبير عن المفهومات ، وقد يكون وسيلة التفاهم بالرمز والإشارة ، ولكننا تقيدنا باللغة لأنها وسيلة التفاهم لجمهرة الناس ومعرفة كل إنسان مضمنة في لغته ، ومعرفة البشر : هي معاني الألفاظ التي يتكلمون بها ، والسوفسطائي محجوج من معاني لغته ، لأنه يقول : «لا نعرف شيئًا» فعبر بجملة تعني شيئاً عنده وجملة : «لا أعرف شيئًا» = أعرف أني لا أعرف! والسوفسطائي لن ينصر مذهبه إلا بكلام يتضمن معارفه .
ومن جهل معنى الكلمة ـ في لغة قومه ـ بحث عن معناها عند قومه ، فوجد المعنى شيئًا يشترك معهم في فهمه كما اشترك معهم في النطق بتلك الكلمة ولقد ولدنا وبقينا لا نحسن الكلام ، بل ندرك الأشياء وعند بداية النطق نلتمس المصطلح اللغوي لكل شيء عرفناه .
ولهذا لا يحدث الإنسان بمعارفه إلا بالألفاظ التي يشاركه غيره في فهم معانيها ، إذن نحن نعرف ، وما نعرفه ليس سوى معاني الألفاظ التي نتفاهم بها ، وربما قيل : هل للعنقاء معنى ؟ وأقول : نعم يعرفه العرب بالوصف ، وإن كانت العنقاء غير موجودة : فصفاتها مركبة من موجود محسوس ، لأن معنى العنقاء لا بد أن يكون مفهومًا ، وإلا كانت كلمة عنقاء بلا معنى !.

مصادر للمعرفة مجازية :
الكتب المقدسة مصادر للأديان ، وهي مصادر للمعرفة البشرية تجوزًا لأن التصديق بهذه الكتب جاء من أدلة عقلية مصدرها المحسوس ، والروح مصدر لنوع من أنواع المعرفة ، فلا تكون مصدرًا للمعرفة عامة إلا تجوزًا ، ومعرفة الروح مصدرها المحسوس ، وتحصل بوسائل نقل المعرفة من حس وعقل ولغة .
فرؤيا المنام محسوسة نحصلها بالحس والعقل واللغة ، والقلب مصدر للمعرفة تجوزًا ، لأن ما اعتقدناه شيء مفهوم بالحس والعقل ، ويعبر عنه باللغة ، والحس مصدر للمعرفة تجوزًا ، لأنه أداة لنقل المعرفة ، والعقل مصدر للمعرفة تجوزًا ، لعدة اعتبارات :
أولها : أن العقل وسيلة لنقل المعرفة .
وثانيها : أن عمل العقل في تحصيل المعرفة أغلب من غيره لناحيتين :
( أ ) أن العقل يشارك الحس في تحصيل المعرفة ثم يستقل عنه في تصحيحها واختبارها وتسجيلها وحفظها واستذكارها ، ومعاني الألفاظ جاءت وفقاً لما يختزنه من صور .
( ب ) أن أغلب معارفنا مأخوذة من الحالات التي استقل فيها العقل بعمله ، ولهذا كان العقل مصدر المعرفة البرهانية .
وثالثها : أن العقل مجمع المعارف التي أخذها بالتدريج من الإحساسات الجزئية .
ورابعها : أن ما في العقل صورة للموجود ، فإذا كان الأصل مصدرًا فالصورة مصدر تجوزًا .
وخامسها : أن العقل مصدر تأكيد المعرفة أو رفضها .

لمحة عن حدود المعرفة البشرية :
تتبين حدود المعرفة البشرية بقراءة ما كتبناه عن «أنواع المعرفة» ، وهنا نشير إلى ملحظ ضروري وهو أن قولنا : المحسوس مصدر المعرفة : لا يعني أننا لا نعرف غير المحسوس ، ومعرفتنا المحسوس ، إما شرعية ، وإما عقلية .
منذ يبدأ الحس في نقل المعرفة : يبدأ العقل في تسجيلها وحفظها ، ثم بعد ذلك يكون العقل المرجع في تصحيح هذه المعرفة واستذكارها ، ويبدو دور العقل في العمليات الفكرية التي يجتلب بها المعرفة ويحفظها ، وتتلخص هذه العمليات في التالي :
1 _ الانتباه عند التقاط صور المحسوسات .
2 _ الملاحظة ، وثمرتها : تمييز كل صورة بهويتها ، وتمييز العلاقات بين الصور ، وتمييز وجوه الاختلاف بينها .
3 _ التذكر وهو استرجاع صور الأشياء وعلاقاتها ومميزاتها في أي وقت .
4 _ التعميم ، وهو تجريد الأحكام من المحسوسات وتعميمها على ما لم يحس .
5 _ التخيل والاقتراح والفرض .
6 _ التحليل ، وهو رد الشيء إلى أبسط عناصره اعتماداً على مخزون الذاكرة من صور المحسوسات وذلك هو الانتقال من العام إلى الخاص .
7 _ التركيب وهو رد العناصر البسيطة إلى شكل كانت عليه في الواقع .
8 _ التأليف وهو رد عنصر ما إلى شكل ما .
والمعرفة التي تتم بهذه العمليات تسمى معرفة عقلية ، ولا تكون معرفة عقلية إلا وفق : «قوانين العقل» المشهورة .

اللجنة العلمية
06-06-2011, 11:53 PM
وجوه ارتيابية :
هل نحن لا نعرف شيئًا ؟
( أ ) لأنه لا حقائق في الوجود .
( ب ) أو لأننا لا نستطيع أن نعرف شيئًا ؟
أم أننا نعرف شيئًا على سبيل الشك لا على سبيل اليقين ؟
أم أننا إذا عرفنا شيئًا مشكوكًا فيه : فكل ما آمن به بعضنا ( وإن كان بخلاف ما عند الآخرين ) فهو حق كله . لأن الحق حق عند من يعتقده ، وهذه هي مذاهب السفسطة وتتلخص في ثلاثة مذاهب هي :
( أ ) إنكار الحقائق وهو مذهب العنادية .
( ب ) الارتياب فيها وهو مذهب الشكاك أو الارتيابيين أو الحسبانيين أو اللا أدرية .
( ج ) الاعتقاد بأن كل شيء ارتبنا فيه فهو حق وإن كان متناقضًا الجمع بينه في الاعتقاد ، وهؤلاء أصحاب مذهب «الحق حق عند من يعتقده» وحجتهم تكافؤ الأدلة بين المختلفين ، وقد رد على هؤلاء العلماء والفلاسفة في كتبهم وشرحوا مذهبهم .

انظر على سبيل المثال : المغني لعبد الجبار بن أحمد المعتزلي في الجزء الثاني عشر الخاص بالنظر والمعارف ص 41 _ 54 كما ذكر ابن حزم مذاهبهم ورد عليها في المواضع التالية :
«الفصل 1/8 _9 بعنوان : باب الكلام على أهل القسم الأول ، وهم مبطلو الحقائق وهم السوفسطائية» .
«وفي الفصل 5/119_ 136 بعنوان : الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة» .

وثمة استشكال رابع وهو:
هل في الوجود حقائق ، من الممكن أن نعرف منها أشياء ومن الممكن أن نجهل أشياء ، ومن الممكن أن نعرف أشياء على سبيل القطع واليقين ؟
وأصحاب هذا المذهب مختلفون في المثل الأعلى للمعرفة ؟
أي المعرفة اليقينية بماذا نحصلها ؟ أبالحس، أم بالحس والتجربة ، أم بالعقل أم بالروح والإلهام أم بالشرائع ؟
وكل مذهب من هذه المذاهب يحرص على وضع قانون للحصول على المعرفة اليقينية .
وقد آثرت هنا أن تكون نظرية المعرفة مبنية على المسلمات العامة التي يؤمن بها مثبتو الحقائق والمعرفة ، وهم أصحاب المذاهب المتفرعة عن المذهب الأخير الذي ذكرته آنفا .

أما السوفسطائيون ـ بشتى مذاهبهم ـ فقد آثرت ألا أراعي خلافهم هنا وأن أقول لكم دينكم ولي دين لعدة اعتبارات :
أولها : أن كل بداية سوفسطائية لا بد أن تعتمد على أركان من المسلمات والقطعيات .
وثانيها : أن مذهب السفسطة يعني اعتقاد شيء ما فهذا الاعتقاد معرفة فهو مذهب ينقض آخره أوله وما بني على التناقض فمن الحيف أن يراعي في الخلاف .
وثالثها : أن كل خطوة يخطوها السوفسطائي في الحوار تعني أنه يعرف شيئًا وما يلزمه من معارف في خطواته الأولى هو المسلمات العامة لمثبتي الحقائق فلا بد أن نبدأ من المسلمات التي يؤمن بها كل مخلوق إما لإقراره بها وإما للزومها له عند الحوار .
ورابعها : أن جميع مذاهب السفسطة لا تخلوا من أحد أمرين : إما أن يكون شاكًا وإما أن يكون مستيقنًا ، فمذهب اللاأدرية مذهب شك بطبيعته ، ومذهب العنادية يبدو أنه يقيني لأنه نفى يقينًا أنه لا وجود للحقائق ولا معرفة له بها ، فهذا في حقيقته شاك أو مستيقن ولا بد من أحدهما ، لأنك إن قلت له : هل نفيك للحقائق معرفة يقينية عندك أم لا ؟
فإن قال : معرفتي بذلك يقينية فقد نقض مذهبه في أنه لا يعرف شيئًا فكان من فئة القطعيين ، وإن قال : لا أدري أو أنا شاك فهو من اللاأدرية ولهذا كان البناء على المسلمات هو الأصل عند كل البشر .
وخامسها : أن غرضي شرح معرفتي وبيان مدى ثقتي بها وتحصيني اليقيني منها من الشكوك وإلزام كل من يؤمن بالمسلمات العامة باليقين بها لأنها عند تحليلها تعود إلى المسلمات ، وموجز هذه المسوغات الثقة بالمذهب القطعي ( مذهب مثبتي الحقائق ومثبتي معرفة بعضها على سبيل اليقين ) وعدم الخوف من السفسطة حتى ولو كانت بداية المنهج .

ومنهجي منهج من يذهب إلى بناء نظريات المعرفة على مسلمات قطعية يؤمن بها كل من يؤمن بمعرفة يقينية لأي حقيقة ما أي عدم مراعاة خلاف السوفسطائية ، وعدم الإبتداء بالسفسطة ، وهؤلاء لا يهمهم إرغام السوفسطائي على الإيمان بالمعرفة وإنما يهمهم تحصين عقيدتهم أنفسهم من أن ينحرف بها شك السوفسطائي ، وهذا هو منهج المتكلمين من المسلمين فهم لا يحاجون السوفسطائي عند تقريرهم لنظرية المعرفة وإنما يحاورونهم في مباحث خاصة لإفساد اعتراضهم .

بل هناك من لا يرى محاورتهم أو التكلم معهم وأن حقهم أن يؤدبوا فقط ( انظر المغني 12/41) . وقد رأيت أن صياغة المنهج الأول وإن كانت مبنية على صياغة سوفسطائية في بناء نظرية المعرفة لا تقوم دون أركان من المسلمات القطعية .

أذكر على سبيل المثال منهج ديكارت في بناء المعرفة على السفسطة ، فقد زعم ـ على سبيل الافتراض ـ : أنه لا يعرف شيئًا حتى وجوده لا يعرف أهو موجود أم لا ؟ فهذه بداية سوفسطائية ، ثم زعم أنه إن عرف شيئًا فهو مشكوك فيه ، فهذه سفسطة ثانية ، ثم انتهى إلى قطعية أخذها من هاتين السفسطتين : وهو أنه يشك ، لأنه لا يقين عنده ، لأنه إن كان هذا الشيء يقينًا من تلك الوجوه فهو باطل من وجوه أخرى ، هذه هي صفة الشك ، ومن يشك يفكر لأن الشك أدنى مراحل التفكير ، فعند ديكارت حقيقة ثانية هي : أنا أفكر .

قال أبو عبد الرحمن : لو كانت كل بداية المنهج سوفسطائية لما كان له الإيمان القاطع بأنه يفكر بل انتهى إلى هذا اليقين بقطعية لا سفسطة فيها وبين الشك والفكر علاقة لغوية .
وهذه العلاقة اللغوية رمز عن معرفة ما إذ ألفاظ اللغة رموز للمعارف ، ولو أتم صياغة البداية للتسفسط لقال : لا وجود لشيء اسمه شك أو يقين ، والفكر صفة إثبات والإثبات وجود ، فلا يفكر إلا موجود ولهذا كانت صياغة الكوجيتو الديكارتية : «أنا أفكر إذن أنا موجود» وهاته قطعية لا سفسطة كالتي قبلها .





***

اللجنة العلمية
06-07-2011, 12:52 AM
معرفتنا انعكاس لارمز

أريد أن أتجنب المصطلحات التي تعددت معانيها حتى لا يحدث اللبس والإيهام في المعاني التي أريدها .
فلن أتكلم عن المادة واللامادة ، لأن في ذلك متاهة بين الماديين والمثاليين وإنما أتكلم عن الموجود واللاموجود والمفهوم واللامفهوم .

والموجود الذي تصل إليه معرفتي : قد يكون حسيًا عرفته بحسي أو بممارسة الآخرين .
وهذا يطلق عليه ( مادي ) أي له كم أو كيف بشتى المقادير والأشكال ومعرفتي لهذا اللون معرفة ( حسية عقلية ) .
وقد يكون الموجود الذي تصل إليه معرفتي ـ ولا أقول إنه مادي أو غير مادي موجودًا لم أعرفه بحسي ولم أر أن الناس مارسوه .
فمعرفتي به ليست معرفة ( حسية عقلية ) بل معرفة ( عقلية خالصة ) لأنني أعرف وجوده بلزوم عقلي ، أو بإحساس لأثره .

ويؤيد صدق هذه المعرفة :
أن كثيرًا من معارفي الحسية العقلية كان معرفة عقلية خالصة ـ قبل أن أحس به فلما أحسست به صار معرفة عقلية حسية .
والذي يسقط المعرفة العقلية الخالصة من نصاب المعرفة البشرية :
ينسى أن كل تجربة حسية مسبوقة بمعرفة نظرية .
ولم تكن المعرفة النظرية خاطئة في كل التجربات فصدق وصحة بعض المعارف النظرية دليل على صحة المعرفة العقلية الخالصة .

وهب أن معرفة العقل الخالصة : لا تتأتى إلا من تجريدات وعمومات حسية .
إلا أننا في هذا التجريد والتعميم : نصل إلى معرفة وجود ما لم نحسه بعد .
فكلامنا عن الشيء الذي نعرفه وليس عن مادتنا في المعرفة .

ولست الآن بصدد إقامة البرهان على وجود معرفة حسية عقلية ومعرفة عقلية خالصة وإنما حديثي عن المعرفة الحسية العقلية فقط .
فالمعرفة الحسية هي التي التقطها بحواسي الخمس الظاهرة .

وسأستثنى من البحث : ما أعرفه بحسي الباطن : الذي يدرك ألم الحزن ولذة الجماع . والشيء المحسوس ـ الذي عرفته بحسي ـ : لا بد أن يكون له مقدار من المقادير الكمية أو شكل من الأشكال الكيفية ، وهو ما يسمونه بالمادة وهي الكائنات الحية ( من الحيوان والنبات ) وغير الحية : من الجوامد والسوائل والكهارب ، والذبذبات والطاقة .
والماديون يسمون هذه الأشياء الطبيعية . أن الطبيعة ـ في أغلب أشكالها وفي جميع عناصرها ـ : سابقة للوعي البشري لأن كل مولود منا يفتح وعيه على كائنات موجودة ـ قبل أن يوجد هو ووعيه .

فإذا تفتح وعيه على الكائنات : عكس له حسه البشري صورة الكائنات . ومن تجمع هذه الانعكاسات ومشاهدة العلاقات بينها يأخذ العقل أحكامه وقوانينه وتجريداته وعموماته والبرهان على ذلك : أن الكائنات قبل الوعي ، وأن الكائنات لا تفتقر ـ في وجودها إلى مخلوق بشري يعيها .

بيد أن عددًا من الفلاسفة تقحموا حماقات أيديولوجية : يحار الفكر في تسليمهم بها ـ مع عظم عبقريتهم وسعة معارفهم ـ فثمة فلاسفة يعرفون بالمثاليين الذاتيين كـ ( باركلي ) و ( ماخ ) يقولون :
ماثمة موجود موضوعي خارج حسنًا ، إنما الموجود الإحساس الذاتي . أي الثابت في إحساسي ، أو المشترك في إحساس عدد الناس .

ويترتب على هذا المذهب : أن الإنسان لا يعرف الأعيان بصفاتها وخصائصها أي أنه لا وجود لشيء خارج الحس البشري له صفات وخواص .

وإنما الحس البشري ـ بوجود هذه الإحساسات فيه ـ : خلق أشياء خارج الحس ومنحها صفات وخصائص ، ويلزم هؤلاء أنه لا وجود إلا للوعي البشري وبعضهم يقول : توجد أعيان خارج وعينا ولكن حسنا البشري لا يعكس لنا صورة هذا الوجود ولا سبيل لنا إلى المعرفة إلا بالحس لذا فنحن عاجزون عن معرفة الأعيان الموجودة وبهذه يلتقون في كلتا الحالتين ـ مع الارتيابيين .
ومجرد عرضنا لدعوى المثاليين ، ومن يقول باستحالة المعرفة كاف للدلالة على سخافة هذه الدعوى .
ولكن الإنصاف يقتضي منا عرض وجهة نظرهم مصحوبة بتأييداتهم لها .

ولقد رأيت : أن كل تأييد لهذه الدعوى يقوم على التمثيل بحالات من حالات خداع الحواس خذ ـ على سبيل المثال :
1 _ يقول الفيزيولوجي الألماني ( موللر ) ( أن الإحساسات لا تتعلق بتأثير أشياء العالم الخارجي ، بل بأعضاء الحواس ذاتها ) ( الطاقة النوعية الملازمة لها ) وهذا يعني أن معرفتنا الحسية ليست ، انعكاسات للعالم الخارجي ، وإنما هي من معطيات الحس ذاته .

وقد وسع ( فورباخ ) هذه النظرية وسماها ( المثالية الفزيولوجية ) .
وما داموا يتكلمون بلغة فيزيولوجية فالأمر هين . إن المعرفة الحسية التي نعتبرها انعكاسًا للواقع الخارجي : لا تنكر أن للحواس معطيات من ذاتها لاتعكس الواقع ونحن نستثنى حالة خداع الحواس من المعرفة الحسية التي نؤمن بها .
والمعرفة الحسية المبرأة من خداع الحواس : مشروطة بسلامة الحواس .
فالعين السليمة المجردة تعكس العالم الخارجي ولكنها لا تعكسه كما يعكسه المجهر .

2 _ يذهب ( غيل مغولنر ) أحد العلماء الطبيعيين في القرن التاسع عشر - في كتاب له اسمه «فيزيولوجية البصريات» إلى أن الإحساسات رموز للظواهر الخارجية ينتفي عنها كل تشابه مع الأشياء التي تمثلها :

وهذا يعني : أن الحس البشري لا يعكس الواقع ، لأنه لا تشابه بين الإحساس والمحسوس وعلى هذا أيضًا :
يكون الإحساس مجرد رمز ، ونظرية الرمز هذه تسمى ( النظرية الهروغلوفية ) قال بها ( بليخانوف ) ونحن لا نقول : إن إحساسنا ينقل لنا الأعيان في الخارج على صورة واحدة .
ولا نقول أنه ينقل لنا صورة كل جانب من جوانب أحد الأعيان .
بل هذا مرهون بطاقة الحس واستعداده وفي شريعة ربنا : نحن مكلفون ـ في عبادتنا ومعاملتنا ـ وفق الطاقة الحسية المشتركة بين المسلمين .
لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها .

ونقول أيضًا أن حسنا ـ مهما كانت طاقته ـ يعكس لنا شيئًا موجوداً ، لا يخلع على الأشياء صفات غير صفاتها وإنما يعكس صورة الموجود .
فرؤيتنا للقمر قرصًا أصفر ـ بالعين المجردة ـ انعكاس صحيح لصفحة القمر حال بعده .
ورؤيتنا له وديانًا وجبالًا «بالتليسكوب المكبر» انعكاس صحيح لصفة القمر حال قربه ولإيضاح هذه الحقيقة أحب أن أناقش صورتين من صور الخداع الحسي ، ليكون ذلك أنموذجًا لنقاش كل صورة من صور الخداع الحسي .
أ _ الصورة الأولى :
لنأخذ شيئين موجودين في غرفة واحدة في شروط واحدة :
أحدهما : معدني .
والآخر : خشبي .
فسنجد أن اليد تحس بأن المعدني أبرد من الخشبي مع أن حرارتهما واحدة فالإحساس باللمس خدعنا ، فكيف نجعل الإحساس صورة للواقع ؟
ويجيب العلماء عن ذلك :
بأن حرارة المعدن والخشب متساوية ، بلاريب إلا أن الخشب سيئ النقل لحرارة اليد بخلاف المعدن الذي ينقل الحرارة بسرعة .
فإحساس جلدنا اللامس انعكاس للفارق بين سرعتي الحرارة .
وعلى هذا يكون إحساسنا نقل لنا صورة من صور الواقع .

ب _ الصورة الثانية :
إذا وضعت يدي اليمنى في ماء ساخن ووضعت اليسرى في ماء بارد ، ثم نقلتهما إلى ماء عادي : تبين لي : أن اليمنى تشكو البرودة مع أنها خرجت من الماء الساخن ـ في حين أن اليسرى تشكو الحرارة (مع أنها خرجت من الماء البارد) .
فالحواس نقلت لنا عكس الواقع فكيف تكون صورة له ؟
ويجيب العلماء عن ذلك .
بأن قانون الفيزياء يقرر أن الحرارة تنتقل من الأجسام التي تتمتع بحرارة أعظم إلى الأجسام التي تتمتع بحرارة أدنى ، فالحس نقل لنا صورة من صور الواقع .

أنظر المادية الدياليكتيكية ص 164_165 .. وهذا الواقع ـ من خداع الحواس : لا يعني اطراحنا للحواس وهي مصدر معرفتنا بل يعني : استقراءها وتحليلها بشكل صحيح دقيق .
ويعني : الإحاطة بقوانين الأعيان وكل ذلك لا يتأتى إلا بعد استخدامنا للحواس . وهو :
أن نربط معطياتها بنشاط التفكير عندنا قال مؤلفو (المادية الدياليكتيكية ص 166) : (ليس هناك مجال للشك المبدئي بما تدلنا عليه أعضاء حواسنا ولكن هذا لا يعني أن الإحساسات تعطي صورة دقيقة كل الدقة من الواقع الموضوعي ـ في ذات اللحظة التي يصبح فيها هذا الواقع موضوع إدراك أعضاء حواسنا .
ان الصورة الأولية للأشياء المادية ـ تتوضح وتغتنى وتتكامل تدريجيًا ، على أساس الادراكات المتكررة كثيرًا وعلى أساس عمل الفكر المتحقق منه بمختلف أعضاء الحواس .
وعلى أساس نشاط الإنسان العلمي المتعدد الجوانب) .




***

اللجنة العلمية
06-15-2011, 08:34 PM
مصادر المعرفة البشرية

معرفتنا البشرية على قسمين :
( أ ) معرفة اضطرارية لا تفتقر إلى برهان ، وهذه لها ثلاثة مصادر لا رابع لها البتة ..
1 _ الحس .
2 _ أوائل العقل التي لا تفتقر إلى الحس ، وهي التي يسميها أبو محمد ( أوائل التمييز ) ..
3 _ الإلهام ويدخل في ذلك ( الإشراقة الروحية ) .. وهي رؤية القلب ولك أن تعتبرها حاسة سادسة ، وهذه المعرفة موقوفة على من وجدها ، ولا تتعدى إلى الآخرين إلا بالبرهان ولا يبطلها : أن هناك من يدعي الإلهام وهو كاذب ، لأن هناك من يدعي الإلهام وهو صادق .

( ب ) معرفة تكتسب بالبرهان وهذه مصدرها الحس وأوائل التمييز لأنها تستمد برهانها منهما أو من أحدهما ، وليس الإلهام مصدرًا للمعرفة البرهانية لأن معرفة الملهم خاصة به ، فلا تتعدى غيره إلا ببرهان .. ولأن صدق المعرفة الإلهامية متوقف على وقوعها والفرق بين المعرفتين : أن المعرفة الاضطرارية تحصيل لحقيقة الشيء وحكمه وأن المعرفة البرهانية تحصيل لحكم ذلك الشيء دون حقيقته خذ مثال ذلك :
1 _ من شرب السنا فقد عرف حكم السنا وهو الإسهال وعرف حقيقة الإسهال ، ولم يحتج إلى برهان .
2 _ من شرب السنا ، ولم يتناول مسهلاً قط ، ولم يصب بإسهال قط ، فمعرفته البرهانية الاكتسابية : أن السنا مسهل ولكنه لا يعرف حقيقة الإسهال ومعرفته هذه برهانية توصل إليها بالبرهان : وهو مشاهدة الأثر والاستدلال به ، مع ضرورة صدق الناقل .

والمعرفة البرهاينة من ناحية الحكم والتصديق على قسمين :
( أ ) عقلية .
( ب ) وغير عقلية .
فالعقلية : ما أقنع العقل من حس وخبر واستدلال .
وغير العقلية : ما لم يقنع به العقل ، من حس خاطيء ، وشرع مدسوس ، وإشراقة كاذبة ، والمعرفة البرهانية هي قوانين العقل

وقوانين العقل على قسمين :
1 _ قوانين اضطرارية وهي التي سميناها ( أوائل التمييز ) لأنها لا تفتقر إلى الحس .
2 _ قوانين اكتسابية تستمد خبرتها من الحس كقولنا ( ما كان تصوره حتميًا فوجوده حتمي ) فهذا قانون استنبطه العقل بالتجربة الحسية .
والملاحظ أن قوانين العقل الاكتسابية تستمد برهانها : إما من الحس ، وإما من قوانين العقل الاضطرارية .

قال أبو عبد الرحمن :
إذا ذكر لك العقل ، فالمراد به قوانين الاستدلال الاضطرارية والاكتسابية ، وإذا ذكر لك الفكر فالمراد به هيئة الاحتكام إلى هذه القوانين ، وإذا ذكر لك الذكاء والنباهة والذهن ، فالمراد بكل ذلك ملكة الإنسان ، وقوة قواه النفسية ولا يحصى معرفة العقل الاكتسابية إلا خالق الخلق وإنما نذكر من المعارف الاكتسابية :
الشرع ( القائم على المعجزة المحسوسة وعلى القوانين الاضطرارية ) فنصوصه باللغة مصدر للبرهان ، ونذكر الخبر الذي يثبت به التاريخ ، والأنساب والحقوق فيستدل العقل من الحس ومن القوانين الاضطرارية على أن الخبر المتواتر حق .

ونذكر علم الحساب مصدرًا للبرهان ، لأنه ثابت بالحس وبالقوانين الاضطرارية فكانت قواعد الحساب وأصوله مصدرًا للبرهان وهكذا جميع العلوم والمعارف البشرية وإذا استعرضت معارف العقل الاكتسابية في مجال التوفيق بينها فلا تقل : اختلف العقليان وإنما عليك الممايزة بين الأنواع ، فتقول هذا عقلي بالشرع ، وهذا عقلي بالحس ، وهذا عقلي باللغة ولك بعد ذلك أن تقول : اختلف العقلي بالشرع ، والعقلي بالحس ، وحينئذ ننظر في مصدر المعرفة فلا بد من ثلاثة أمور لا رابع لها بيقين :
1 _ أن يكون الحس كاذبًا .
2 _ أن يكون الشرع مدسوسًا .
3 _ أن يكون فهمنا خاطئًا .




***

اللجنة العلمية
06-15-2011, 08:45 PM
تفكيرنا لم يتطور .. ولكنه استراح

يقول مجموعة من الأساتذة السوفيت في كتاب لهم اسمه ( المادية الديالكتيكية ) ( إن تفكيرنا تطور ) . وهذا بناء على الإعجاز العلمي الذي حققه السوفيت وهذا التطور يسمونه ( الديالكتيك الذاتي ) وتقول كيف تطور تفكيرنا ؟
فيقولون إنه انعكاس للديالكتيك الموضوعي ، ويراد بالموضوعي العالم خارج الذات الحاسة العاقلة ( العالم المادي ) ولقد تطورت ظواهر العالم المادي فتطور تفكيرنا تبعًا لذلك ، وهذا التطور يبنونه على خلفيات ( الديالكتيك التاريخي ) كان الإنسان قردًا فأصبح مفكرًا ، تطور الديالكتيك الذاتي والتاريخي والمادي على أنقاض صراع المتناقضات والأضداد فكان البقاء للأصلح أي المتطور .

ولا ندري هل سيطبقون هذه الظنون على الحزب الشيوعي السوفيتي أم لا ؟ هل تطورت من اللينينية إلى المادية ؟ هل تطورت الشيوعية من ماركس إلى لينين ؟ وهل سيفضي صراع المتناقضات إلى ما هو أصلح من الشيوعية وأشد تطورًا ؟ كل هذه الظنون علمها عند الله .

وإنما نريد هنا أن تفكيرنا في العصر الحديث لم يتطور ولكنه استراح وأضرب المثال لذلك بعاملين استعملا آليتين بدائيتين كالمعول متكافئتين في قوتهما وصنعهما فاستعمل أحدهما المعول الأول في حفر بئر لم يتجاوز عمقها أكثر من متر لأنه صخور وشظايا ثم مات العامل وانكسر المعول ، فجاء عامل آخر يكافئ العامل السابق في قدرته ومهارته فحفر سبعة أمتار في وقت أوجز ولم ينكسر المعول وكانت الأرض هشة فهل نقول أن المعول تطور وإن القدرة البشرية تطورت ؟ كلا .. إنما كان العامل الثاني متممًا لمسيرة العامل الأول ولولا ذلك لأنفق ما أنفقه الأول من جهد ووقت وخسارة ، وتفكيرنا اليوم لم يتطور بحيث يصل إلى الحقيقة مباشرة أو في وقت قصير لأنه تفكير لا يوجد مثله عند الأسلاف .
وإنما كان تفكيرنا اليوم لا يزيد عن تفكير العباقرة في الأمس غاية ما هنالك أن مفكر الأمس اختصر الطريق بمليون فرض خاطئ ومليون تجربة غير ناجحة .

فاستغنى الفكر الحديث عن اتخاذ هذه المحاولات ، وبرهان آخر وهو أن أعظم مخترع في العصر الحديث لا يقال إنه أذكى العالم إلا بالنسبة لأفراد ، أو مادة علم ، وليس بالنسبة للأجيال السالفة .
إن أعظم مخترع لآلة أو أسبق الناس إلى اكتشاف قانون : لا يملك بذلك أنه أذكى من الخليل بن أحمد أو ابن تيمية وإنما الاختلاف في مجال العمل الفكري .

أما تطور الخلق فيعني زيادته وتعدد صوره والله يزيد في الخلق ما يشاء ويخلق ما لا نعلم والله خالق الخلق وما صنعوا .
إلا أن الفكر الحديث لم يخلق المادة ولم يخلق قوانينها ، ولم يرتب النتائج على الأسباب ، وإنما اكتشف بإرادة الله - مادة مخلوقة واكتشف قانونًا مخلوقًا .
واكتشف علاقات مخلوقة ، والله المستعان .




***

اللجنة العلمية
06-21-2011, 07:58 PM
ظاهرية سارتر

من المقرر في إفهام الناس أن للموجودات ظاهرًا وباطنًا ، ولا مشاحة في هذا إلا إذا أحال الظاهر والباطن الوجود إلى ثنائية فعبقرية شكسبير وجودان :
1 _ وجود بالقوة وهو استعداد شكسبير وقابليته - أي عبقرية شكسبير الباطنية أو الداخلية .
2 _ وجود بالفعل وهو عمل شكسبير في المسرحية الفلانية «أي عبقرية شكسبير الظاهرية أو الخارجية» . بيد أن سارتر «في كتابه الوجود والعدم» ص 13_20 ، يرفض هذه «الثنائية» ويقرر واحدية الظاهرة ، إذ يرى أن الموجود سلسلة من المظاهر فالقوة لا تحتجب خلف آثارها من التسارعات والانحرافات . الخ . بل جماع هذه الآثار هو«القوة» وعلى هذا فالظاهر ليس مقابلًا للوجود ولا مرادفًا له ، ولكنه مقياس له .

وكل شيء عند سارتر بالفعل وليس وراء الفعل قوة ولا حال ولا قدرة . والفعل هو ما تجلى للعيان ، وما يتجلى مظهرًا من الموضوع قال سارتر : «والموضوع كله : في هذا المظهر وخارج المظهر :
1 _ إنه فيه بكله من حيث هو يتجلى في هذا المظهر .
2 _ وهو خارجه بكله لأن «المتوالية» نفسها لن تظهر أبدًا .. ولا يمكن أن تظهر» أهـ .. بتصرف واختصار ص 16 ..

قال أبو عبد الرحمن : المتوالية هي التجليات التي نسميها وجودًا بالفعل . واعتبر سارتر الظاهر مقياسًا للوجود ، وليس ضدًا ولا مرادفًا له : لأن تعريف الوجود عنده ببساطه أنه «شرط كل كشف» .
إنه وجود من أجل الكشف وليس وجودًا منكشفًا ص 17 . وقد فر سارتر من «ثنائية» فوقع في أخرى ؛ لأن مظاهر كل موجود غير متناهية ، هذا الوجود متناه . فثمة ثنائية المتناهي واللا متناهي .. أو «اللا متناهي في المتناهي» .

قال أبو عبد الرحمن الظاهري : هذه الثنائية مدخل إلى الأنطولوجيا الظاهراتية الكفورة . إن سارتر أخطأ جهة القسمة فأصحاب الثنائية «الظاهر والباطن» لا يجعلون الظاهر وجودا والباطن عدما . وإنما يقسمون الموجودات إلى قسمين :
1 _ موجود مغيب ، وهو الوجود بالقوة .
2 _ موجود مشهود ، وهو الوجود بالفعل وإنكار هذا خروج على البداهة . ولا ضير عندنا أن يسمى أحد الموجودين «واحدية الظاهرة» إذا لا يأبى الفكر أن تكون موجودات ما ظاهرات لموجود ما .

إذن من أخطاء سارتر في وجوديته أنه حصر الواقع في الظاهرة !! راجع ص 21 .
قال أبو عبد الرحمن : الظاهرة قبل أن تظهر من الواقع ، لأن من الواقع ما لم يظهر !..
وحركة الشمس إذا أصفقت للمغيب لا تظهر لنا في ثانية .. ولكنها تظهر بعد دقائق .. فهل حركة الفيء في هذه الثواني : غير واقع ؟

وسارتر يقول : «فما يقيس وجود الظهور هو أنه يظهر» ..ص 21 .
قال أبو عبد الرحمن : ونحن نقول بهذا فكان ماذا ؟ أن حصره الواقع في الظاهرة لا يعني أن الظهور مقياس الوجود . وإنما يعني أن الظهور يمنح الوجود ، وهذا ما يأباه الفكر . ويحسب سارتر أنه أضاف إلى الفكر الفلسفي جديدًا إذ قال : «إن وجود الظهور هو الظهور» ليحل هذه العبارة محل عبارة باركلي «الوجود هو كون الشيء مدركًا» .. ص 21 .

قال أبو عبد الرحمن : هذا إمعان في الخطأ ومضغ لفلسفة «الحسبانيين» وإنما نقول : الوجود هو كون الشيء مدركًا بالنسبة لرب الكائنات لأنه سبحانه لا يند عن إدراكه أدنى موجود إذ هو خالق كل موجود . أما البشر فليس إدراكهم مهيمنًا ، وأن قووه بالتلسكوب والفولسكوب وما لم يدركه البشر من الموجودات أكثر مما أدركوه .
إن الإدراك يدل على الوجود ولكنه لا يمنح الوجود . وإذ ذلك كذلك : فليس الوجود كون الشيء مدركًا .. ولكننا إن ادركناه علمنا بوجوده .




***

اللجنة العلمية
06-21-2011, 08:22 PM
نقد العلية عند العرب والأوروبيين

كان نقد العلية ظاهرة انحراف فكري في تاريخ الحضارة العربية قديمًا ! .
ثم كان هذا الانحراف الفكري تقليدًا أمينًا لأخطاء أسلافنا عند كل من : مالبرانش وباركلي وديفيد هيوم من رواد الحضارة الأوروبية المعاصرة ! ..

إن العلية قانون حتمي في تصور العقل البشري ، ولقد استخدم أرسطو هذا القانون ، واعتبره من بديهيات العقل .
ومن ثم أغرم متفلسفو المسلمين بهذا القانون ، واستعملوه في أعوص مشكلاتهم الفلسفية فقالوا : لكل حادث محدث .

ولا تزال العلية أساسًا صلبًا أقام عليه ابن حزم وابن تيمية وغيرهما بناءهم المنطقي . وفي الفلسفة الأوروبية وجد مفكرون نقدوا هذا القانون نقدًا استحوذ على عقول بعض الناشئة وليس هذا هو المهم ، بل الأهم من ذلك : أن مفكري المسلمين لم تخف عليهم هذه النقدات ، ولم تهز إيمانهم بقانون العلية بحيث يصح القول بأن هؤلاء الأوروبيين سبقوا إلى نقد العلية .
أو القول : بأن مفكري المسلمين لولاب بذهنهم هذا النقد لهجروا هذا القانون.

وأول هؤلاء الفلاسفة الغربيين الفيلسوف العقلاني «مالبرانش» الذي بني إيمانه بالحقيقة الأزلية على البرهان الأونطولوجي تبعًا لسلفه ديكارت ولهذا قال :

لا يوجد إلا الموجود الكامل الذي لا نهاية له .

أي لا يوجد إلا الله .
وهذا النفي فيه مؤاخذة ، لأنه لم يفرق بين أنواع الوجود .
وليس هذا غرضنا .
وإنما غرضنا قوله :
«لا علة إلا ما أدرك العقل بينها وبين معلولها علاقة ضرورية والله - جل جلاله - هو العلة الحقيقية للأشياء» .. أهـ .

قال أبو عبد الرحمن :
ونحن لا نسمي الله إلا بما سمى به نفسه ، ولا نصفه إلا بما وصف به نفسه ولكن لا محيص لنا عن الاحتفاظ بعبارة مالبرانش لتصور مذهبه .

يقول مالبرانش :
لا اقتران ولا ارتباط ضروري بين الله وبين العلة وإنما هناك إرادة ربنا الحرة في فعل ما يشاء .
فإن ذكرت العلل الطبيعية فإن مالبرانش يقول : هذه ليست عللًا حقيقية ولكنها علل مناسبات .

ثم جاء «باركلي» و «هيوم» فقالا :
إن ما نسميه عللًا لا ينطوي على ضرورة حتمية مستقرة بين العلة والمعلول .
وإنما هذه الضرورة ظاهرة تجريبية ، ليست قانونًا لما وراء التجربة .
إننا إذا رأينا دائمًا في حدود مشاهدتنا وتجربتنا ظاهرة حسية تتبع أخرى : فإننا نصطلح على تسمية الأولى علة وننتظر دائمًا في كل مشاهدة - أن نرى الأخرى تتبعها فإذا تكرر تلازم الحدوث وتكررت ملاحظاتنا لهذا التلازم : تكونت لنا هذه العادة العقلية .
يعني تصورنا لمعنى العلية .
إذن العلة مجرد عادة عقلية .

قال أبو عبد الرحمن :
والواقع أنه لا جديد في نقد مالبرانش وباركلي وهيوم .
فهذا أمر فرغ المسلمون من فحصه بعد أن فرغ بعضهم من استدراكه . ففكرة مالبرانش قد قال بها بعض أئمة الأشاعرة كالباقلاني والغزالي والهروي .

قال الهروي الأنصاري : ليس في الوجود شيء يكون سببًا لشيء أصلًا ولا شيء جعل لشيء بل محض الإرادة الواحدة يصدر عنها كل حادث .
هكذا نقل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في «منهاج السنة» .
ويريد بالإرادة الواحدة إرادة الله سبحانه .
وفكرة العادة العقلية عند هيوم قال بها الهروي والغزالي والباقلاني في التمهيد .

قال الهروي :
إن الحادث يصدر مع الآخر مقترنًا به اقترانًا عاديًا لا أن أحدهما معلق بالآخر ولكن لأجل ما جرت به العادة والاقتران .
وتجد هذه الفكرة بتوسع عند الغزالي في «التهافت» ولقد نقد ابن تيمية نقدهم للعلية نقدًا بارعًا .

قال أبو عبد الرحمن :
والحق عندنا : أن العلة ناموس إلهي خلقها ربنا ، وجعل نتائجها في معلولاتها ضرورة حتمية لا تختل إلا بإعجاز يخرق الناموس .
والكل من الله سبحانه .
وإذا وجد الاقتران في بعض ظاهرات الكون دون ضرورة فلا يعني ذلك أن كل ظاهرات الكون كذلك ولا يعني أن هذه الظاهرة خلت من علة بل يعني أنه ظهر الاقتران ولم تظهر العلة .
والحقيقة أن محصول العالم من التجربة والمشاهدة منذ كان العقل البشري طفلًا حتى الآن لم يجد ظاهرة كونية تفصل عن علة أو سبب .

وحسبك بقوة وصلابة برهان العلية أنه لم يشذ في كل تجربة بشرية .
ومن ثم تنطلق من المحسوس إلى غير المحسوس ، وما غرضنا هنا أن نحق برهان العلية أو نبطله إنما بحثنا الموضوع من ناحية حضارية بحتة وهي أن مفكري المسلمين أحاطوا علمًا بكل ما وجه لقانون العلية من نقد إلى هذا اليوم وردوه فلم يضعف من إيمانهم ببرهان العلية .

وكان المنحرفون فكريًا من أعلام الفلسفة الأوروبية مقلدين أمينين للمنحرفين فكريًا من أعلام الفلسفة العربية القديمة في هذه المسألة إن لم يكن هذا إتباعًا مقصودًا فهو إتباع بالمصادفة .




***

اللجنة العلمية
06-30-2011, 11:28 AM
الاستقراء التلخيصي

يقول أرسطو : ( الإنسان والحصان والبغل حيوانات طويلة العمر ، وهي كل الحيوانات التي لا مرارة لها ، إذن كل الحيوانات التي لا مرارة لها طويلة العمر ) وهذا النوع من الاستدلال يسمونه (الاستقراء التام ) أو ( الاستقراء الشكلي ) .
ولقد نوقش هذا الاستدلال ووجهت إليه المآخذ .

قال أبو عبد الرحمن محمد : أنظر على سبيل المثال : ( التقريب لشيخنا امام الدنيا ابن حزم ص 163 _ 173 .. ومعيار العلم لأبي حامد الغزالي ص 160_ 161 .. والاستقراء والمنهج العلمي للدكتور محمود فهمي زيدان ص 27_34 .. والمنطق الحديث ومناهج البحث للدكتور محمود قاسم ص 62_ 66 ) .

قال أبو عبد الرحمن بن عقيل : في هذه الردود مضلة يصاب قارئها بالدوار ، ولتذليل علم المنطق لقراء الجرائد جنحت إلى التحليل الديكارتي المحبب فقلت : نقد هذا الاستدلال يتعلق بأمور مختلفة :
أولها : أن المثال الذي أورده ( أرسطو ) لا ينطبق على ( الاستقراء التام ) ، لأن الاستقراء إحصاء .
فهل أحصى ( أرسطو ) كل إنسان وحصان وبغل ، فعرف أن كل فرد منها طويل العمر ؟
وهل أحصى ( أرسطو ) كل موجود في الوجود فلم يجد حيوانًا ذا مرارة غير هؤلاء ؟
لا ريب أن هذه الأنواع من الأنواع الثابتة المحدودة ، وأن النوع دال على كل أفراده .
إلا أن ( طول العمر ) و ( امتلاك المرارة ) ليستا من ماهية النوع الإنساني حتى نقول أن معرفة النوع دالة على أفراده ، وإذن فلا بد من إحصاء أفراد النوع الإنساني والبغلي والحصاني وهذا مستحيل ، لأن الفرد الإنساني متناه ، والإنسان أعداد لا متناهية بالنسبة للفرد المستدل بالاستقراء ، والبديهة : أن المتناهي لا يحصى اللامتناهي .
وإذن فمثال أرسطو غير صحيح ، وأكثر أمثلة المنطقين ( للاستقراء التام ) من هذا النوع .
وكذلك الأنواع قد يكون ما لا نعرف منها أكثر مما نعرف .

وثانيها : أننا لا نقول ( كما قال بعض المتسرعين ) أن الاستقراء التام مستحيل ، بل هو ممكن في الأفراد المحصورة المتماثلة .
ولكننا نقول : إذا وجد الاستقراء التام فإنه لم يفد معرفة جديدة ولم يكن انطلاقًا من المعلوم إلى المجهول ، وإنما يلخص لنا ما قد عرفناه مسبقًا ، خذ مثال ذلك :
كل شهر من شهور السنة يتألف من أقل من (32) يومًا ، لأنه باستقراء شهور السنة من يناير إلى ديسمبر - وهي اثنا عشر شهرًا فقط - لم نجد ما يبلغ (32) يومًا ، بل بعضها (28) يومًا ، أو (30) يومًا ، أو (31) يومًا .
الاستقراء لزيدان ص (31) .
ولهذا قال ( جون استيوارت ميل ) : ( أنه تلخيص لما سبق لنا معرفته ) .

وثالثها : قولنا أنه لم يفد معرفة جديدة ، وأنه تلخيص لمعرفة سابقة ، لا يعني أنه ليس بحجة ، ففرق بين هذا وذاك .
أنه - إن كان تامًا - حجة بيقين على الإطلاق وإن كان غير تام فهو حجة في الفقه ، لأن الصواب في الفقه اعتباري وليس واقعيًا .




***

اللجنة العلمية
06-30-2011, 11:36 AM
المنطق ثابت ، لا يتغير

قالوا : إن العلم القديم - الذي عاش في ظله منطق أرسطو :-
يتكلم عن كيفيات الأشياء ، دون كمياتها .
فهو – مثلًا - يعتبر أن الحرارة ضد البرودة ، لأنه نظر إلى كيفيتهما دون كميتهما ..
وقال العلم الحديث - ليس هناك بارد وحار ، وإنما هناك درجات من الحرارة تختلف .. ومن هذا الاختلاف تختلف الحرارة والبرودة .. وبقدر كمية هذه الدرجات تكون الحرارة .

وقال أبو عبد الرحمن : لم يتغير منطق أرسطو لناحيتين :
أولاهما : أن الاختلاف الكمي لدرجة الحرارة نتج عنه اختلاف في الكيفية ، ويجب أن يكون للكيفية عبارة تدل عليها كلفظ البارد مثلًا .
وأخراهما : أن قانون التضاد يضبط الكيفيات كما يضبط الكميات ..
وقالوا : إن العلم القديم : لا يهتم باستكناه العلاقات بين الأشياء وإنما يعتبرها أمورًا عرضية .. والمنطق الأرسطي تبعًا لذلك ، يعتبر العلاقات أمورًا خارجة عن المحتوى .
أما العلم الحديث فيعتبر العلاقات أخص خصائص البحث العلمي ، لأنها تربط بين المتغيرات .

وقال أبو عبد الرحمن : لم يتغير منطق أرسطو وإنما تعثر وضاق لناحيتين :
أولاهما : أن التأصيل الأرسطي للعلاقات في المحتويات : تأصيل صحيح - ولكن الخطأ في التنفيذ والتطبيق بسبب قصور العلم آنذاك .
وثانيهما : أن استكناه العلم الحديث لحقيقة العلاقات يعطي تربة خصبة للمنطق الأرسطي ، فيجني عددًا كثيرًا من الأمثلة التطبيقية .
فيكون المثال حقيقيًا بدل أن يكون فرضيًا .

ومن هذين المثالين : عن الاختلاف الشديد بين العلم القديم والحديث - قال بعض المعاصرين :
أن العلم القديم مليء بالأوهام والفروض والتصورات الخاطئة ، وأن المنطق الأرسطي يساير ذلك العلم ، فيجب علينا أن نصطنع المنطق التجريبي الحديث ، لامنطق أرسطو التصوري ، لأن المنطق الحديث ابن للعلم الحديث .

وقال أبو عبد الرحمن محمد :
كلا إن المنطق الأرسطي ثابت لا يتغير ، وقواعده الصلبة لاقتناص المعرفة وإقامة الحجة لا تزال نبراسًا هاديًا في ميدان المعرفة والعلم .
وقد رام أناس الخروج على قوانينه الثلاثة : الهوية - والثالث المرفوع - والتناقض ، وكانوا من الحسبانيين ، والحسبانية ضرب من السفسطة إلا أن تكون منهجًا لا غاية .. وإنما نذكر أشياء يعذر بها منطق أرسطو ولايهجر .
فمن ذلك أن الناس مختلفون في نظرية المعرفة ( الأبستمولوجيا ) إلا أن أرسطو وضع منطقًا لكل نظرية وكل أصحاب النظريات في المعرفة : يأخذون منطق أرسطو الجزئي ولا يستغنون عنه ، فهذا معنى ثبات منطق أرسطو ..
ومنها : أن البرجماتيين وغيرهم يعتبرون كليات أرسطو التجريدية مجرد فروض . ولكنهم لم يستطيعوا بعد أن يزيفوا كلية من كلياته في ميدان الخبرة والتجربة . فهذا معنى آخر للثبات .
ومنها : أن أرسطو يستمد أمثلته من علم عصره الناقص ، وتكون أمثلته من باب الفرض ، والعلم الحديث يجيز فرض الأمثلة لأن المثال شارح ولا يلزم من بطلان المثال بطلان القضية .
ومنها : أن تقدم العلم الحديث يساعد على صياغة المنطق الأرسطي صياغة أمتن وهذا شيء غير الثبات .
ومنها : أن منطق أرسطو لم يأخذ في حسبانه أن الشرائع السماوية مصدر من مصادر أي معرفة .
والمسلم يأخذ منطقه من حقيقة الشرع أولًا ويجد في منطق أرسطو أداة لاجتهاده مساعدة غير معاندة .
ومن الله نستمد العون ونستلهم الرشد ،،




***

اللجنة العلمية
06-30-2011, 11:50 AM
الفكر المعتزلي

لا يزال شعور العامة الإيمان الشديد بعدم جدوى الفلسفة ، مسوغين ذلك الزعم الخاطئ بأنه مر عليها كأثر علمي قرون كثيرة وهي مجرد أفكار والزامات وانعكاسات جدلية تلوب بالأذهان ولا تتلامس مع الواقع ولم تظفر الفلسفة بما يشبه التأييد الشعبي بل كانت عرضة للطعن، وفلاسفة المسلمين الذين دخلوها من أوسع أبوابها تمنوا إيمانًا كإيمان العجائز كما أثر عن الجويني والرازي . فإذا كان رأيي أن في الفلسفة خيرًا كثيرًا وكنت شديد الإيمان بجدواها فإنما أصطدم بشعور شعبي بيد أن هذا لا يهمني إذا كانت براهيني على جدوى الفلسفة ضرورية فأول ما استند عليه في هذه الدعوى أن الفلسفة الحديثة دفعت بأوربا إلى حياة علمية عملية فالمذهب التجريبي فتق آفاقًا بعيدة في مضمار الاختراعات والمصنوعات والطب والتشريح والاتجاهات العقلية محصت الكثير من الخرافات في الآداب والتصورات ومرويات التاريخ وأن للمنهاج الديكارتي يدًا بيضاء في التآليف العلمية المعاصرة التي اتسمت بطابع التجرد والاستفاضة في البحث والارتباط بالموضوع والترتيب والتنسيق والأصالة الفكرية وما الفنون النظرية الجديدة والتنظيمات الإدارية والإقتصادية التي تعيشها الدول الراقية اليوم إلا نتاج فكر فلسفي عتيد والبرهان الضروري الآخر الذي اعتمد عليه على أهمية الفلسفة أن الذين حملوا عليها قديمًا وحديثًا لم يقفوا على ثنتيهم إلا بتقعيدات فلسفية فالتفلسف أمر لا بد منه ، قال أرسطو حسبما نقل عنه المترجمون «إذا لزم التفلسف وجب أن نتفلسف ، وإذا لم يلزم التفلسف وجب أيضًا أن نتفلسف حتى نثبت عدم لزوم التفلسف» .

ولقد كان أبو محمد على بن حزم شديد الإيمان بجدوى المنطق وأنه يعصم الذهن في تلقي الحقائق من الخطأ ولكنه جعل للسمعيات الصدارة وغير أبي محمد ممن هو في مثل عبقريته كابن تيمية كان سيء الظن بالفلسفة والمنطق معًا ، بيد أنه كان يرد بالمنطق على المنطق وبالفلسفة على الفلسفة أفلا يكونان عنده كحب الشعير مأكول ومذموم ؟ إننا لكي ندفع عن تقي الدين بن تيمية هذه الدعوى لا بد أن نفهم غرضه من ذم الفلسفة والمنطق رغم استفادته منهما واليكم ما أفهمه .

أفهم أن من موضوعات الفلسفة ما يسمونه بالإلهيات أو علم «ما وراء الطبيعة» أو «المتافيزيقا» كما يصطلح عليه المتأخرون ، وكانت أهم ما شغل الفكر البشري وكانت موضوع علم الكلام الإسلامي الذي أثاره المعتزلة وكانت محل سخط أئمة المسلمين وكان الجدل فيها عقيمًا ولن يزال عقيمًا إلا بالمنهج الذي سنوضحه فيما بعد ولهذا فموضوع الميتافيزيقا وحده من مواد الفلسفة هو الذي نرى خطورة فلسفته ولا نقول عدم جدواها فحسب ، لأن التقنينات المنطقية تعتمد - قديمًا وحديثًا - على ادراكات حسية وعقلية ينبثق منها مدركات تجريبية وقياسية وحيث إن هذه الماورائيات غير محسوسة وغير خاضعة لمعمل التجربة وغير داخلة في قياس شمولي أو تمثيلي ، فلا بد من ثلاثة أمور لا رابع لها ألبته :
إما إيمان يملأ القلب بتلك الماورائيات لا تجر إليه دالة من الحس وإما الإدعاء الكاذب بمعارف حدسية وإلهامات إيحائية تدل على ما بعد الطبيعة وإما إلحاد يقذف بها في حظيرة الخرافات ويتحقق الأمر الأول بإبعاد الفلسفة عن هذه الغيبيات ويتحقق الأمران الآخران بإخضاع الغيبيات لتمنطقات الفلاسفة واقطع قطعًا باتًا بأن الفلسفة من الحسنات حتى عند ابن تيمية لو أن الفلاسفة المسلمين بلغوا النضج في الطبيعيات المحسوسة من الأجسام العنصرية وما يتكون منها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية التي كانت قوام الحياة العلمية الآلية في مخترعات أوربا اليوم أو لو أن الفلاسفة المسلمين بلغوا النضج في فلسفة الأمور العلمية وهي علوم الهندسة والمقادير والأعداد والأبعاد والموسيقى وعلوم الهيئة ، فكل ذلك قوام الحضارة المادية في الغرب اليوم ، ولكن غالبيتهم وقفوا نشاطهم الفكري في فلسفة الروحانيات والإلهيات واستكناهها ، وهي أمور غيبية غير محدودة ، أما الفكر البشري فمحدود بزمانه ومكانه ، والمحدود لا يدرك اللامحدود فكان أن تبدد الفكر البشري وتاه خارج إطاره وناداه دعاة الاصلاح لأن يعمل داخل الإطار فهذا ما نفهمه من إنكار الفلسفة وإلى هذا أظن أنني عبرت عن وجهة نظري في الفلسفة على العموم وفي الفلسفة الحديثة بوجه خاص وأعود مرة ثانية فأقول :
إن الفلسفة الحديثة فكر حيوي عتيد هيأ من أوربا نشأ متوثبًا متحفزًا ، وحققت لها فتحًا ماديًا مبينًا ولا أستثنى منه إلا الفكر الميتافيزيقي الذي جعل أوربا تفقد إلهها وتتذبذب بين آلهة عديدة لم يجد شبابها الراحة في الإلحاد ، فإذا تلمسنا الفكر المعتزلي في الفلسفة الحديثة فإنما نهدف إلى ثلاثة أمور :

الأمر الأول : أن المغرمين بالفكر الأوربي المعاصر يحسبونه شيئًا جديدًا لدى المسلمين يدعون إلى الاستعاضة به عن كثير من التصورات الإسلامية باسم التجديد ، فالتماس سابقة المعتزلة إلى الكثير من النظريات الغربية مع لفت الانتباه إلى أن أئمة الإسلام ناقشوها وزيفوا منها ما يستحق التزييف ببيان قوي ومنطق منظم لا يبقى مثارًا للشك يعني أن اطراحها من جانب المسلمين كان عن قناعة لا عن جهل لأنهم بذلك النقاش بأسلوب جدلي مفحم كانوا عباقرة الفكر وعمالقته .

والأمر الثاني : أن حسنات الفكر الغربي الحديث في منهج البحث وفي الواقع العملي في الطبيعيات والنظريات العلمية ارتادها لهم الفلاسفة المسلمون يوم كانت تسود الغرب خرافة وأنانية ونفاق القسس والبابوات .

والأمر الثالث : أن كثيرين من الفلاسفة يهزأون بالمعتزلة ولا يعتبرونهم أصحاب فلسفة حقيقية ، لأنها لم ترد بأسلوب علمي مبوب ، بل كانت أفكارهم فلتات وكانت أدلتهم مقتضبة وهذا صحيح وعيبهم أنهم ألفو - مثلًا - منهجًا متكاملًا في تقييم المعارف بادراكات العقل ، ولكنهم لم يعطوا الدلالة الكافية المتكاملة على أولوية العقل بالتحكيم وكيفما كان فمنهاجهم سبق فلسفي ، وقد تكون أدلتهم كاملة ولكنها لا تتجاوز حلقات المناظرات وإلا فأين جدلهم الكثير وهم أهل جدل ، وهل يكون جدل إلا ببراهينه ودلائله ؟ أو لعل تقعيداتهم واستدلالاتهم ضاعت مع ماضاع من كتبهم وآرائهم التي لم يحفل بها المسلمون وتجدر الإشارة إلى أن فلسفة المسلمين فكر معتزلي لأن المعتزلة هم أهل الكلام والكلام هو نواة الفلسفة الإسلامية ، ورغم هذا فلن نبحث إلا ما كان فكرًا معتزليًا أصيلًا صادرًا عن المعتزلة أنفسهم ، فلن نناقش رسالة الأسلوب والتأملات لديكارت التي كانت صورة لرسالة المنقذ من الضلال للغزالي وقد لاحظ الكاتب الفرنسي شارل شومات : أن العبارات في الرسالتين تكاد تكون متقاربة ، والغزالي مات قبل ديكارت بحوالي خمسمائة سنة لن نتعرض لذلك لأن الغزالي غير منسوب إلى المعتزلة وإن كان ربيب فكرهم ، ولن نتعرض إلى ما سبق إليه الباقلاني والجويني والغزالي من المطالبة بإبعاد الصفة العقلية عن علم الألوهية وكانوا يعدون مطالبة الفيلسوف (كانت) بإفساح المجال لإيمان القلب وإبعاد العمل العقلي عن مجال الألوهية تفردًا وسبقًا عجيبين ، لن نتعرض لذلك لأن الباقلاني والجويني والغزالي لا ينسبون للاعتزال وإن كانوا ربيبي فكره وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن للمعتزلة فكرًا أصيلًا يصح أن ينسب إليهم ، فقد يتوهم متوهم أن المعتزلة أرباب فلسفة يونانية قديمة ، وينسى أنهم بدأوا حيث وقفت الفلسفة اليونانية وورثوا إلى جانبها فكرًا إسلاميًا فكونوا منهما رأيهم الأصيل ، وقد كانوا تلامذة الحسن البصري ، وكانت لحلقات درسه ميزتان :
1 _ حرية الرأي والقول .
2 _ وسعة الأفق .

اللجنة العلمية
07-02-2011, 12:51 PM
فكان كل رأي جديد يعرض ويدرس ويمحص ليعرف مدى تلاقيه أو تجافيه مع مصادر العقيدة الإسلامية حتى الآراء السياسية ونقد الخلفاء والولاة ، وقد قال في مجلسه وعلى جمع من تلامذته : أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة ، ففي هذا الجو من الحرية اثير الكلام في مسألة القدر التي ما كان أحد يستطيع أن يبحثها لو كان عمر حيًا ، وكان الحسن البصري متعدد جوانب المعرفة بحكم التلوين في مظاهر بيئته ، فكان يقيم بين أهل المدينة من الصحابة والتابعين وهي بيئة أثرية بحتة ثم أقام بقية حياته في العراق وهي الطينة التي نبتت بها بذور الرأي والقياس ، فكان تلامذته يجدون عنده كل شيء ، قال أبو حيان التوحيدي :
كان يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير وعمرو وواصل صاحبا الكلام وابن أبي اسحق صاحب النحو وفرقد السنجي صاحب الرقائق وأشباه هؤلاء ونظراؤهم . هذا ما أردت بسعة الأفق في درس الحسن البصري - رحمه الله - فإذا ما أغفلنا هاتين الميزتين فلا يفوتنا أن المعتزلة هم تلامذته ثم ليكن بدهيا ما للحسن البصري من أثر في نمو واستقلال الفكر المعتزلي الذي قام أول ما قام على حرية الفكر وسعة آفاق المعرفة . ولا يحسبن أحد أنني سأتجاوز هاتين الميزتين الملحوظتين في استقلال الفكر المعتزلي دون أن استنتج استنتاجًا آخر ، هو تأرجح الفكر المعتزلي بين المدرسة الأثرية وبين المدرسة العقلية الفلسفية التي تفسر ظواهر الكون وتستخلص الحقائق النهائية القطعية في شتى أنواع المعارف ، فهل يعتز التاريخ الإسلامي بالفكر المعتزلي لأن المعتزلة فرقة إسلامية ولأن فكرها ربيب الحسن البصري وهو ثبت مأمون عند الأمة حمل لها دينها والرسول - صلى الله عليه وسلم- يقول :
«يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله» ؟ أم أن التاريخ الإسلامي يبرأ من هذا الفكر ويشكو تبعته ؟ ثم ما مدى إعجابنا بآرائهم ، وما الذي نتمثله فيهم ؟
الحق أن الإطار المكتنف لهذا الفكر رائق وجذاب فحرية القول والفكر نحبها وندعو إليها إلى أن نصل إلى حقيقة يقينية صحيحة ، فإن تمادى النقاش إلى الشك والقول بتعادل الأدلة وسفسطة اللاأدرية كان ذلك من الجدل المذموم لأن الأمة تظل في بلبلة فكرية . أجل أننا نعشق الإطار لذلك الفكر ولكن تلك الأفكار وتلك المسلمات عند المعتزلة غير مرضية وغير صحيحة لأنهم لم يحفظوا توازنهم بين العقل والنقل ، ولأنهم دعوا إلى حرية الرأي فضلوا سبيلها ، فنخلص من هذا إلى أن الإطار جذاب ورائق ولكن الفكر ذاته ضال ومنحرف كأي مذهب هدام لا تلبث التجارب أن تكشف عن وجهه الكالح ويعلل الشيخ محمد أبو زهرة منهج المعتزلة العقلي بهذه الأسباب :
أولًا : أن مقامهم في العراق وفارس وقد كانت تتجاوب فيها أصداء مدنيات وحضارات قديمة .
ثانيًا : أنهم سلائل غير عربية ، وأكثرهم من الموالي .
ثالثًا : أن كثيرًا من آراء الفلاسفة الأقدمين سرت إليهم لاختلاطهم بكثيرين من اليهود والنصارى وغيرهم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل أثاروا الفكر وحملوه على البحث ووجهوا نظره إلى مسائل لم تثر قبلهم ، وهم أصحاب الأسلوب العلمي الأدبي لما رزقه الكثيرون من رجاحة العقل وفصاحة اللسان والقدرة على الخطابة ، ولقد كان بشر بن المعتمر المعتزلي واضع أصول الخطابة في اللغة العربية برسالته القيمة .

قال الجاحظ عنهم : كانوا فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء وهم تخيروا الألفاظ لتلك المعاني وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء ، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، ومن فضل ثقتهم بالعقل . أن كان لهم السبق في وضع أسس علم البحث والمناظرة بدليل هذا الذي رواه الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ، قال :
اجتمع متكلمان فقال أحدهما : هل لك في المناظرة ؟ فقال : على شرائط : ألا تغضب ولاتعجب ولاتشغب ولاتحكم ولاتقبل على غيري وأنا أكلمك ولا تجعل الدعوى دليلًا ولا تجوز لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوزت لي تأويل مثلها على مذهبي وعلى أن تؤثر التصادق وتنقاد للتعارف وعلى أن كلًا منا يبغي من مناظرته على أن الحق ضالته والرشد غايته . لقد قدس المعتزلة العقل واشتطوا في ذلك حتى في باب اللغة والنحو كانوا يميلون إلى العقل فزعيم القائلين بالقياس(1) واستعمال ما لم يروه العرب قياسًا على ما رووه وذلك - من غير شك - يحتاج إلى قوة عقلية لا مجرد رواية .

وقد قال متطرفوهم :
إن حجة العقل تنسخ الأخبار كما جاء في كتاب «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ، قال جولد تسيهر :
والذين يقفون على جناح التطرف من المعتزلة يصرحون تصريحًا حاسمًا بأن ثمرات النتائج العقلية تزيل المعارف المأثورة من الطريق . أهـ .

ولهذا ، كان التأويل والتمحل في رد دلالات النصوص بأوجه يعلمون يقينًا أنها غير مرادة للشارع في تفاسيرهم ونتيجة لمنهجهم العقلي المتطرف لم يسلموا بمنهج السمعيات مصدرًا للمعرفة دون بحث عقلي يحكمون به عليها ، لأن العقل عندهم يبين ما ينبغي وما لا ينبغي قبل ورود الشرع . وصدى ذلك في قول أبي العلاء المعري :

أيهــــا الغــــر إن خصصــــت بعقل ............................ فاسألنــــه فكل عقــــل نبيّ

وهذا معنى مسألتي التحسين والتقبيح العقليتين اللتين بنى عليهما مؤمنوهم مسألتهم الأصولية بأن الناس يحاسبون بمعارف وتوجيهات عقولهم قبل ورود الشرع ، وتناسوا قول الله تعالى : «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» .. وقوله : «وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون» ولقد ردوا نصوصًا ثابتة قطعية الثبوت بمجرد استشكالات عقولهم ، وتصدى لمناقشتها نقاشًا علميًا محكمًا الشيخ ابن قتيبة في كتابه تأويل مختلف الحديث ، ومن آثار تحكيمهم العقل في السمعيات وإن ثبتت سندًا الأمور التالية :
أولًا : أنكروا المعجزات وبعضهم حصرها في دائرة ضيقة ، فكان النظّام يكذب الصحابة ويقول في وقاحة : زعم ابن مسعود أن القمر انشق ، وأنه رآه وهذا من الكذب الذي لا خفاء به ، لأن الله تعالى لا يشق القمر له وحده ولا لآخر معه ، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين وحجة للمرسلين ومزجرة للعباد وبرهانًا في جميع البلاد فكيف لم تعرف بذلك العامة ولم يؤرخ الناس بذلك العام ولم يذكره شاعر ولم يسلم عنده كافر ولم يحتج به مسلم على ملحد ؟ أ هـ .
فبهذا الدليل الخطابي يتناسى النظّام آية : - وانشق القمر . فإن حملها على يوم القيامة لم يطاوعه السياق ، وكان ينكر نبع الماء من بين أصابع النبي صلى الله عليه وسلم .

الأمر الثاني : إنكارهم كرامات الأولياء وفعالية السحر ورؤية الجن ، وللجاحظ في نفي رؤية الجن إفاضة عجيبة في كتابه «الحيوان» ونساء المعتزلة لا يخشين الجن وكذلك صبيانهم ولذا قال بعض الباحثين : من بركة المعتزلة أن صبيانهم لا يخافون الجن وقد تعرض النظّام لتوهمات الأعزاب وحللها - كما قال الدكتور أحمد أمين - تحليلًا نفسيًا فلسفيًا دقيقًا .
قال : «أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد عن الناس استوحش ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة ولا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير والفكر وبما كان من أسباب الوسوسة وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه» وبتحكيم العقل أسسو مناهج فلسفية بارزة هي :
أولًا : مبدأ الشك فقالوا في شجاعة : ينبغي أن نبدأ في كل معرفة بالشك والتحفظ حتى إذا وصلنا إلى اليقين كان يقينًا معززًا سليمًا ، وقد كان الشرط الأول للمعرفة عندهم هو الشك ، وقال بعض أئمتهم : خمسون شكًا خير من يقين واحد . وقد قال النظّام : الشاك أقرب إليك من الجاحد ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ، ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره لا يكون بينهما حال شك . وقال الجاحظ تلميذ النظّام : تعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا فلو لم يكن من ذلك إلا تعرف التوقف والتثبت ، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه ، والعوام أقل شكوكًا من الخواص لأنهم لا يتوقفون في التصديق ولا يرتابون بأنفسهم فليس عندهم إلا الإقدام على التصديق المجرد أو على التكذيب المجرد وألغوا الحالة الثالثة من حال الشك .
ثانيًا : أنهم قالوا حقائق العقل نهائية قطعية وهو الحكم في مصادر المعرفة كلها ومعارفه ضرورية .
ثالثًا : أنهم وضعوا تجربة الحواس في الصف الأخير من أدلة المعرفة ولم يصح دليلها لديهم إلا بسند العقل وشهادته .
رابعاً : أن النظّام استثقل أحكام الشريعة ولم يجسر على إظهار دفعها فأبطل الطرق الدالة عليها كالقياس والاجماع والخبر وقال بجرأة : إنه لا يُعلم بأخبار الله ولا بأخبار رسوله شيء على الحقيقة ، لأن المعارف عنده قسمان محسوسة وغير محسوسة والمحسوس أجسام لا تعلم إلا بالحس وغير محسوسة ولا تعلم إلا بالقياس والنظر .

__________________
(1) هو أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جنى ، وهما من المعتزلة .