المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الغضب وماتلاه



حازم
10-08-2005, 02:12 PM
بقلم : محمد إسماعيل بطرش

كان فلاسفة اليونان يميزون في النفس قوى ثلاث أو يجدونها ثلاثة أنفس هي النفس العاقلة والنفس الشهوانية والنفس الغضبية، والغضب هيجان يفيض وراء أسوار العقل فيكون كالسيل الهادر أو كالحمم المتدفقة يأكل بعضها بعضاً فتحيل المدن آثاراً والحقول اليانعة هباءً منثورا، وكان العرب يرون في الغضب انتصاراً للحق ونصرة للضعيف وثأراً للكرامة ويقول الشاعر:

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

ويتردد في جوانب التاريخ أصداء انتصار المعتصم للمرأة التي صرخت وا معتصماه عندما سباها الروم وتم فتح عمورية بما يصوره لنا أبو تمام:

لقد تركت أمير المؤمنين بها

للنار يوماً ذليل الصخر والخشب

حتى يقول:

لقد تركت بني الإسلام في صعد

والمشركين ودار الشرك في صبب

وقد ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين مسرحية في إنكلترا تهافت عليها الشباب تهافت الذباب على جيفة منتنة وعنوان المسرحية (انظر إلى الخلف بغضب)Look Back in Anger .

تلك المسرحية التي يدرسها مختصو الآداب الأجنبية على أنها أنموذج من الإنتاج الأدبي للجيل الحديث؛ ذلك الجيل الذي يطلقون عليه منذ ذلك التاريخ اسم (الجيل الغاضب) Angry Generation .

ولا يعنينا في هذا المجال التعرض لتلك المسرحية التي تمثل ذلك النمط من الشباب الشقي الخاسر لدينه ودنياه والذي يربطه فيما بينه نزوع التكالب: فتجد كل فرد منهم يمسك بأنثاه إمساك اثنتين من بنات عرس كل واحدة منهما تشد بأسنانها على عنق الأخرى حتى تستنزفها آخر قطرة من دمائها كما يقول أحد النقاد الأدبيين في تلك المسرحية.

أقول: ليس الغرض عرض تلك المسرحية وإنما الهدف دراسة ما تلى تلك النزعة من تطورات في الغرب، وما انعكست به من ظلال على بعض من شبابنا الذين يستهويهم سراب الضلال، ولو استنزف منهم ميعة الصبا وعنفوان الرجولة ويعرف الجيل الغاضب في الغرب أنه ذلك الجيل الذي اشترك آباؤهم في الحرب العالمية الأولى وفتحوا هم أعينهم على جحيم الحرب العالمية الثانية، هم ذلك الجيل الذي خلفته الحروب التي لم يكن من غاية لها سوى الفتك والتسلط وامتصاص الدماء، فكفر بحكمة الأولين من آبائه وأجداده، الذين لم يخلفوا له سوى الضياع، وكان ذلك الجيل (اللامنتمي) الذي نراه اليوم يعيش على قارعة الطريق كالسوائم وهو يتمرغ على مزابل (الحضارة) المادية التي هيأتها له حكمة الغرب ونتاجه الحضاري المادي، والذي ينظر إليه أحد النقاد الغربيين إليوت T.S.eliot نظرته إلى أرض بباب عقيم (Waste Land) لا ينتظر منه أي خير أو إنتاج . تلك هي (الموضة) التي يحاول تبنيها البعض من شبابنا ويا للأسف، وهي وإن لم تشكل بعد ـ والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه غيره ـ سوى قشرة واهية على السطح والتي ـ كما أرجو ـ لا يمكن أن تبلغ أعماق الإنسان المسلم ـ إلا أنها ولا بد تشوه مظهره وتسيء إلى سمعته.

غير أن هناك بعض (المبشرين) والمروجين لهذه الغلالة الرخيصة الزائفة ممن يحاولون تشويه حقيقة الجيل العربي الحديث، بإبعاده عن المنابع التي تجلت فيها أصالته وتركزت فيها عزته ألا وهي الشخصية الإسلامية.

وأحب في هذا المجال أن أتناول بالبحث شخصيتي شاعر ومتفلسف.

أما الشاعر فهو نزار القباني في محاضرة ألقاها في الكويت في حفل للخريجين بعنوان (نزار قبل وبعد النكسة) . وأما المتفلسف فهو الشيوعي الوقح (جلال صادق العظم) في كتابه (نقد الفكر الديني).

ويجتمع الاثنان في تهافتهما على مصادر الغرب الفكرية والثقافية، حتى اصطبغت بها شخصيتهما وأصبحا غريبين عن جيلنا وشعبنا وأصولنا بل ومفاهيمنا ويفترقان في أن نزاراً شاعر تستهويه رؤى الغرب لأنه بدأ ماجنا ولم يهده الله بعد، فهو وراء التجديد حتى ولو خالف الطبيعة أو الفطرة وأما جلال فهو عبد ذليل من رقيق التصنيع الشيوعي الذي يسلب الإنسان إنسانيته ويحيله جهازاً آلياً كالدمية التي تسيرها المدخرة.. في تلك لمحاضرة يعرض نزار شعره، ويظن أن ما مر به من تحول يجب أن يكون مماثلاً لما يمر به كل شخص في بلادنا، ثم ينظر إلى الغرب فيستلهم من حالته لبوساً يحاول شد أستاره علينا، ولكننا نرفض ونرفض أن نقبل رفضه، لأنه رفضه رافضي وغصبه أجنبي، والحالة التي يعبر عنها ليست منا ولا هي فينا.

يقول نزار إن أجيالنا كانت تعيش في دوامة فراغ طاحونة ما طحنت قط سوى الهواء، وأن شعبنا كان مجمداً مسمراً في المساجد ليس له من أمره سوى ترديد الدعاء على اليهود، وأن هذا ما حدا به إلى (قتل) الإمام، وأن حكوماتنا ما كانت ترى في قضية فلسطين أكثر من دجاجة تبيض ذهباً، أو هي قميص عثمان يزايدون عليه. وخلاصة ما يصل إليه إعلان نفسه رافضاً شأن الغاضبين من الغرب، وهو يتنكر حتى لجلده وعظمه ولحمه ودمه !.

هذا نزار بعد النكسة.

أما جلال صادق العظم فهو بالأصل غريب عن عالم الدين، فتراه يهرف بما لا يعرف ويستعير من مفاهيم الغرب عن ديانات الغرب حللاً يدعي لها اسم الإسلام، فتراه يأخذ من جحيم (Inferno)وانتي وخرافات القرون الوسطى في أوربا، وصور الفردوس المفقود والفردوس المكتسب (Paradise lost&Paradise Regained ) لملتون Milton ، ودكتور فارستوس Dr.Faustus لكريستفر مارلو Marlowe ويحيل كل ذلك لوحة خلفية يدعي أنها الإسلام الذي هو منه براء، ثم ينتهي جلال صادق العظم إلى متاهة الزمان والمكان في الفصل الأخير من كتابه، ليؤدي طقوس الشرك والوثنية وعبدة الطاغوت، في دوامته التي لم تطحن سوى المارقين أمثاله ولن تستقطب سوى عبدة الشيطان.

كان اليونانيون في القديم يعبدون وثنا يسمونه هيدس Hades ـ عندهم ـ أي ( إله ) الجحيم، مملكته تحت الأرض يسودها الظلام، وقد اتخذ مسيحيو القرون الوسطى وطلبة (عصر النهضة) نفس الفكرة عن الجحيم، فكان وانتي يعتقد أن هنالك سرداباً مظلماً تحت بيت المقدس يصل إلى مركز الأرض، يمر به الموتى فيما يسمونه (المطهّر) Purgatory وكان ملتون الضرير يفكر في هبوط آدم وحواء من الجنة لارتكابهما ( الخطيئة الأصلية) وفقدهما فردوسهما، وأن الله تأسى عليهما فنزل إلى الأرض جسداً هو المسيح، كي يعاني آلام الموت على الصليب، محرراً بذلك بني البشر من زور (الخطيئة الأصلية) التي ارتكبها آدم وحواء في الاقتراب من الشجرة المحرمة.

أما الدكتور فارستوس للشاعر الإنكليزي مارلو فهو إنسان يبيع نفسه لإبليس لقاء أن يكون له كل ما يريد ويشتهي خلال فترة زمانية محددة، ويستهوي صورة الفردوس المفقود وصورة إبليس متمرداً على أمر ربه فيراه جلال صادق العظم أول الثائرين المتمردين من (الجيل الغاضب) لأنه لم يقبل حكم الله، أو بالأحرى لأنه كان له طمعه وجشعه غروره ما جعله ملعوناً في الدنيا والآخرة، من هذه الصور يتخذ جلال لبوساً للدين الإسلامي، ويدعي أن هذا هو الدين الإسلامي الذي يرى فيه سبباً لنكسه حزيران، ومن ثم يجد أن طريق إبليس هو طريق الخلاص والتحرير.

وينتهي جلال صادق العظم إلى بيت القصيد ليقيم من المادة إلهاً يملأ الزمان والمكان، والناس فيه دمىً تسير بلا هدف ولا غاية ولا حرية، وما كان أجدره أن يثور على ذلك العالم القميء الذي لم يترك له من إنسانيته شيئاً.

ويظهر لنا مما سبق أن كلاً من نزار وجلال كانا غريبين في فكرهما وتصورهما عن حقيقة ما يتعرضان له ويجترئان عليه ألا وهو الإسلام، والإسلام من ذلك كله براء، فهما كانا يكتبان لإنسان الغرب الذي تتبرأ منه المسيحية نفسها.

وأما الصورة الحقيقية لواقعنا ما يلي:

إن الله اصطفى رجلاً من البشر اسمه محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وسلامه، فحمَّله عبء الرسالة وثقل الأمانة، فوقف صلى الله عليه وسلم يدعو للإسلام الذي جعل الله به للإنسان قيمة وللحياة معنى وغاية وللتاريخ كياناً، نظام رباني تناول الحياة وما بعدها، والكون وما حواه، والمسلمون موحدون يصدقون الحديث ويؤدون الأمانة، ويصلون الرحم ن ويحسنون الجوار، ويكفون عن المحارم والدماء، يعبدون الله لا يشركون به شيئاً ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان وذلك دين القيمة.

يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، فاللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا طريق الرشاد.

لو تتبعنا الشخصية الإسلامية الحقة لوجدنا فيها حقيقة ما خلق الإنسان له، وأين منها أجيال الضياع ! ولو تسائلنا كيف وصلت الأمة الإسلامية إلى ما وصلت إليه في انتصارها وسؤددها لوجدنا الجواب صريحاً بيناً، لقد كان المسلمون مخلصين فيما قصدوا إليه لا ترهبهم في الحق لومة لائم، نصروا الله فنصرهم وثبت أقدامهم، أما اليوم قمن أين يأتي الضياع ؟ ..

الجواب بسيط وواضح أيضاً.. إن بعض المسلمين نسوا الله فأنساهم أنفسهم وأن طريق الهدى الحقيقي والقوة الحقيقية هي العودة إلى تفهم الإسلام والعمل به، فأهل الغرب ما نالوا منا إلا بمحاولاتهم الدس علينا في ديننا، وماذا ينفعنا لو ربحنا العالم كله وخسرنا أنفسنا، أما ما نستطلعه اليوم في المنعطفات المهملة من جادة الحياة في بلادنا فليست سوى جيف لا تستهوي غير الذباب.