المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قيام الحجة بمجرد ترجيح المحجة



أبو القـاسم
07-21-2011, 09:34 PM
إذا كان ثم خياران أحلاهما مُرّ فإن العقلاء أجمعوا على لزوم أدناهما مرارة ..وإذا كان أمامك طريقان خيرُهما شر ,فلا ريب عند كل ذي لب أن سلوك الأهون شرًا هو المتعيّن الذي لابد منه ..هذه حقائق حيوية يعايشها الناس ولا جدال فيها , ومن يخالف فيها فهو منسوب للحمق والطيش والجهل ..
مامن ملحد عن الحق على وجه البسيطة مهما استبد به طغيانه الإلحادي إلا وهو يدرك في قرارة نفسه أن طريق الإيمان بالله عز وجل و الدين الحق =طريقٌ أسوأ أحواله (هذا تنزل جدلي) أن يكون الطريق الأرجح أو إن شئت :الأحوط الذي لا تحفه مخاطر سواء بالنظر للحاضر المعاش أو المصير المنتظر من باب أولى ,هذه قضية مركوزة في فِطَر بني آدم كافة , وإذا كان محتفًا ببعض المكاره كالملذات والشهوات المحرمة في الإسلام ,فليست سببا للكفر! إذ من الناس من يفعل هذا وهو مسلم, بخلاف طريق الإلحاد فإنه لا يفضي إلا إلى مخاطر مصيرية لا منتهى لها ..وخسائر حاضرة فهو دائم التقلب في الرِيَب حيران ..لا يسقيم له مبدأ يقرّ عليه ولا منتهى يفزع إليه سوى التخبط يمنة ويسرة ,مع ما يعيشه من حياة أقرب ما تكون لمعيشة البهائم ..وتراه يعبر عن هذه الحالة بسوء الأدب والاستكبار وليس له من شغل سوى التنقيب عما يظنه عوراتٍ في الإسلام ..
إذا فطنت لهذا المعنى فاعلم أن الله تعالى يقيم الحجة على العباد بالترجيح المشار إليه ..فمادام ترجح عنده أن الإسلام حق- ولو زعم أنه لم يستبن له اليقين- ثم نكص على عقبيه ولم يتبعه ,فقد ناقض نفسه أشد المناقضة حين تخير لها في أمور الدنيا طرق الحيطة كما لو قيل له هذا طبيب غير ماهر وهذا طبيب جيد..فلا تجد من يرجح الأول على الثاني , في حين يتنكب ترجيح الطريق الأحوط فيما يخص مصيره وحياته وروحه ..مع كونه مسلّما من الخسارة لو اختار الإسلام,فليس ثم ما يمنعه من ذلك إلا الكبر والجهل المتراكب والتقليد الأعمى لغيره وغير ذلك من الآفات"قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " , وها هنا لطيفة في معرفة سر من أسرار الهداية دقّ عن كثيرٍ فهمها ,يأتي غريرٌ ليقول:إن كان الإسلام حقًا فهل يعقل أن هؤلاء يؤثرون طريق الندامة على جانب السلامة ؟, ذلك مبلغهم من العلم ويحسبون أن قضية الإيمان كأحد قوانين الرياضيات منوطة بالحجة العقلية وحدها !,وسأستدل على هذا بدليلين فحسب تحريًا للاختصار :
الأول-ما يصدر عن كثير من الرموز الفكرية المرموقة في بني قومها ,من كلمات إنصاف تشهد بأن الإسلام دين الحق ..يقولون هذا وهم معرضون عن حق الدين..أعني اتباعه
الثاني-أن الذين يسكتون عن جنس ما نطق به الفريق الأول (من بيان أن الإسلام دين الله الذي ارتضاه للناس) وإن فاهوا بضده من الشتم والسخرية ,فلا يمكن أحدًا منهم أن يدعي ما اختاره من الكفر والإلحاد هو المرجح أو الأحوط ,ويقرّون في أنفسهم ترجيح الإسلام على غيره ,ثم لا هم يسلّمون به ولا يذعنون له..ودونك إن شئت أي مجابهة برهانية بين أحد أعلام الإسلام ونظيره من مل الكفر, لتقف على حقيقة ما أقول ..أي أن الله يظهر الحق أبلج ,ويبقى المبطل على ما هو عليه من باطل لجلج حتى بعد ما يرى أقوى الحجج رأي العين وقد يعترف أن لا جواب عنده عليها أو يلوذ بالفرار ما أمكنه ذلك من وسائل كالحيدة وغيرها..وبهذا تدرك أن الهداية في الأصل منحة ربانية يشرح بها صدر من شاء ممن هو حقيق بها "قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد" , "قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين" ,أما إنك لو تأملت هذه الآيات الشريفات انكشف لك كثير من المعاني ,فها هنا يقول "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" لأنهم عاينوا الحجة ولو بغلبة الترجيح على أضعف احتمال ثم تنكبوها فكانوا ظالمي أنفسهم بهذا الاستكبار ,فحجب الله الهداية عنهم ..وتدبر معي إمعانا في البيان, هذا القران : "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون *قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون"..فهم كافرون كافرون في كل حال! ,جاءهم أهدى مما هم عليه أو لا "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها"..وتأمل كيف يصور الله حالة الاضطراب والقلق في نفوس هؤلاء ممن يطالع الحجة ثم لا يلقي لها بالًا "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" قال ابن عباس في تأويلها :لمّا جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل شيء" ..على أن الحجج التي أقامها الله أعلامًا على الحق هي في نفسها بينة باهرة لكنها قد لا تكون قاهرة على رسمِ الملحد ووفق مراده وهواه ,فكان يسع الله تبارك اسمه سبحانه أن يكتب في صفحة السماء :الإسلام هو الحق أو يكتب :لا إله إلا الله محمد رسول الله ! ولكن أي معنى لسنة امتحان الله عباده يبقى إن كان الأمر كذلك؟! وحينئذ تعرف أن لحظة خروج الروح أو ظهور بعض أشراط الساعة الكبرى يواتيها إغلاق باب التوبة لأن الآيات التي من هذا الضرب لا تناسب مقصد الامتحان الرباني..(فتلخّص أن حكمة الحق في الخلق اقتضت أن تكون هناك بيّنات وشبهات ,وألا تكون البينات قاهرة ,ولا الشبهات غالبة ,فمن جرى مع فطرته من حب الحق وربّاها ونمّاها وآثر مقتضاها ,وتفقد مسالك الهوى في نفس فاحترس منها لم تزل تتجلى له البينات وتتضاءل عنده الشبهات ,حتى يتجلى له الحق يقينا فيما يطلب فيه اليقين ,ورجحانا فيما يكفي فيه الرجحان ..ومن اتبع الهوى وآثر الحياة الدنيا تبرقعت دونه البينات ,واستهوته الشبهات فذهبت به إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم*)كما يقول العلامة المعلّمي اليماني رحمه الله تعالى ..ولكن هنا وقفة :قد يقول قائل :ها أنتم تقولون ليست حجج الإسلام قاهرة فعلام تلقون علينا باللائمة إن قلنا لا تفيد اليقين؟!
والجواب على هذا من وجهين :
الأول-أن نفي كونها قاهرة لا يعني أنها غير يقينية ..بل هي تفيد اليقين الجازم المقطوع به لا محالة ,وسماها الله آيات وبينات وحججا وبراهين..ووهّى في مقابلها الشبهات وبين عوار منطق المتشدقين بها الصائلين بها على أهل الحق..
الثاني-أن هذه مسألة نسبية ,تختلف من شخص لآخر بحسب تجرده من داعي هوى نفسه وإنصافه وتحريه الحق وسلامة مقصده ..
ألا ترى أن الشيخ الهرم والشاب الفتيّ كليهما ,يريان شاخصًا فيبصر الشاب صورة أجلى ,وإن اشتركا في الغرض المنظور نفسه؟ فكذلك ما يتعلق بالمعقولات التي جعل الله لها ارتباطا بسبب يصل إلى القلب ..فقد ينظر إلى البرهان ولا يبصره لما علا قلبه من ران ,"لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" ,فالحاصل أن الحد الأدنى في حجج الله تعالى التي نصبها منارات ترشد الطالب إلى المقصود كونها بيّنة دامغة ,مشرقة بسنا ضياها محرقة لما عداها من دعاوى زائفة وأديان مفتراة ..فقد قطع الله بإرسال الرسل محاجة كل أحد "لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل" إلا أن يكون ممن لم تبلغه الكلمة فهذا له شأن آخر يتعلق بحال كل أحد بحسبه ..ولا يظلم ربك أحدًا
وحتى تدرك أن الحجة قائمة بمجرد الترجيح الذي مفاده أن يرى الشخص براهين تدل على الله وعلى دينه الحق ثم يعرض عنها أو يحاول دفعها بالشبهات ليغض منها أو يبصر هذي الأدلة ثم يقف حيران لا هو يقدر على ردها ولا مقدم على قبولها والإذعان لمقتضاها ..استمع "وإذا قيل إن وعد الله حقٌ والساعة لاريب فيها قلنا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين*وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون*وقيل اليوم ننساكم نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين*ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولاهم يستعتبون"
------
* يضرب مثلًا لما لا ترجى عودته ,وأم قشعم كناية عن الموت أو الحرب الشديدة ,ولها معانٍ أخر ,
قال زهير بن أبي سلمى :
فشد ولم يُفزِع بيوتًا كثيرة...لدى حيث ألقت رحلَها أمُّ قشعمِ

عبدالرحمن الحنبلي
07-21-2011, 10:41 PM
استاذ ابي القاسم بارك الله فيك موضوع رائع ...جزاك الله خيرا

اذكر مره في حوارات سابقه مع احد الملاحده سألني ماهو معيار الاختبار في الدنيا والاخره

قلت له الايمان بالله والرسول والدخول في الاسلام ؟؟؟ رد علي وقال الايمان بالرسول والاسلام ليس معيارا عادلا .....لانه يوجد اناس على الارض لايؤمنون بالرسول لكن يؤمنون بوجود الله

معنى ذلك كلهم في النار ...على حد كلام الملحد او اللاديني .....ثم سألني عن معيار الاختبار في الاخره للذين لم تبلغهم الحجه ؟؟؟ انا قلت له سوف ارد عليك فيما بعد ...ولكن نسيت الموضوع واظنه نسي الموضوع ....الى ان رايت موضوعك وتذكرت الحوار الذي جرى بيني وبينه ....تحياتي

واسطة العقد
07-21-2011, 11:37 PM
بارك الله بعلمكم

أمةُ الله
07-22-2011, 01:34 AM
جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل أبا القاسم المقدسي
وبارك فيكم وفي علمكم وعمركم وعملكم ، وجعل ذلك كله خالصا لوجهه الكريم.
ورزقنا مما رزقكم.
اللهم آمين...

أبو يحيى الموحد
07-22-2011, 01:51 AM
بارك الله فيك.....

أبو يحيى الموحد
07-22-2011, 01:58 AM
يا سلام على الاستنباطات النفيسة ....جزاك الله خيرا

عَرَبِيّة
07-22-2011, 07:53 AM
صارمةٌ قاصمة يا أبا القاسم ,
بارك الله فيك شيخنا وفتح لك أبواب خيْري الدنيا والآخرة وَ أبواب الجنان .