المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفكر الاسلامي ومأزق الحداثة - د. لؤي الصافي



نور الدين الدمشقي
07-29-2011, 09:35 PM
أعجبني عمق التحليل في المقال التالي (وأتمنى ممن عنده نقد للمقال ان يفيدنا):

الفكر الإسلامي ومأزق الحداثة

هدف مشروع الحداثة إلى تطوير المجتمع الغربي من خلال الاستفادة من الرصيد الأخلاقي والروحي الذي ولدته حركة الإصلاح الديني من ناحية، وتقديم الصيغة المناسبة للتعايش بين التيارات الدينية المتصارعة بحيث توظف روح التنافس لتطوير الحياة الإنسانية والسياسية الغربية. التحدي الذي يواجه المجتمعات المسلمة اليوم يكمن في الحاجة إلى تأجيج الروح الأخلاقية للشعوب المسلمة، وتطوير صيغة مناسبة لإعادة الخطاب الأخلاقي العلوي إلى الحياة العامة، مع المحافظة على روح الانفتاح والتعددية السياسية والدينية.

هذه المهمة التاريخية للفكر الإسلامي تجعل من المشروع الحضاري الإسلامي خياراً استراتيجياً للأمة الإسلامية، ومخرجاً حضارياً للشعوب الإنسانية من مأزق انفصام النسيج الأخلاقي للمجمتمع الحداثي عن الأساس العلوي الذي نجم تاريخياً عنه. ومن ثم فإن المهمة الأساسية الملقاة على عاتق الفكر الإسلامي المعاصر هو إعادة ربط الأخلاقي بالعلوي، وبالتالي استرجاع ما استبعده مشروع الحداثة الغربي خلال قرنين من الزمن.

الحداثة والمشروع الحضاري الغربي
الحداثة ظاهرة حضارية ورؤية فكرية ارتبطت تاريخياً بالنهوض الحضاري للمجتمع الغربي الحديث. وتعود التجليات الأولى لبروز الحضارة الغربية إلى ما يعرف في الأدبيات الغربية بعصر النهضة (Renaissance) والذي نجم عن تفاعل المجتمع الغربي مع الإنجازات الحضارية للمجتمعات الإسلامية المعاصرة في تلك الحقبة، خاصة في مجال الإبداع الفني. ومنذ البداية تمكن المجتمع الغربي الناهض من إبراز خصوصياته الثقافية في عملية التبادل الحضاري في جنوب إيطاليا والأندلس المسلم، حيث ظهرت بوادر النهضة الغربية. وتبدو الخصوصية الغربية في التحوير الذي أجراه على الفنون التي اقتبسها من الحضارة الإسلامية السائدة، كما هو واضح في الرسوم والتماثيل التي تملآ القصور الكنائس التي شيدت في تلك الحقبة، وغلبة رسومات الملوك والأحبار والقسيسين، وتماثيلهم.

لم تلبث الأفكار التي ترجمت من الأدبيات الإسلامية أن قادت إلى ثورة فكرية عارمة، ولدت حركة الإصلاح الديني الذي رفض النموذج التاريخي للكنيسة الغربية واستعاض عنه بنماذج كنسية متأثرة بالتراث الإسلامي الذي يرفض الهرمية الدينية ويؤكد على تساوي المؤمنين أمام الله بالكرامة الإنسانية. ورفض الإصلاحيون الدينيون في الغرب وساطة الكنيسة في فهم النص الإلهي، وأكدوا على واجب المؤمنين بقراءة الإنجيل، متأثرين بالتقاليد الإسلامية التي اختبروها خلال تعاملهم مع المجتمع الإسلامي في المشرق العربي خلال الحروب الصليبية، وفي الأندلس المسلمة وجنوب إيطاليا.

بيد أن التحول الجذري في الفكر الغربي ارتبط في مرحلة عصر الأنوار الذي أعطى الحضارة الغربية معالمها الرئيسية، ووضع خطوط نموها السياسي والاقتصادي والثقافي التي بلغت أوجها في القرن الميلادي المنصرم. ولعل أبرز معالم الحضارة الغربية الحديثة توجهها العلماني الداعي إلى فصل المؤسسة الدينية عن المؤسسة السياسية.

يرتبط بروز الفكر العلماني الذي تبناه مفكرو الأنوار الغربيين بإدراك المفكر الغربي الحاجة إلى الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية في المجتمع الغربي لتحقيق السلام الداخلي، وتطوير مجتمع سياسي متعدد الأديان يسمح بتقويم الأفراد بناء على إنجازاتهم الفردية ومساهماتهم في تطوير المجتمع السياسي، بدلا من التعويل على انتماءاتهم الدينية لهذا الغرض. اقتنع قادة المجتمع الغربي ومفكروه أن لا طريق لإحلال السلام بين الفرق الدينية المتصارعة ما لم يقبل الجميع بالاحتكام إلى عدد من المبادئ السياسية المشتركة التي تسمح بإحقاق الحقوق وتوفير العدل، وتحول بين سيطرة فرقة دينية محددة على السلطة، ومن ثم استخدامها لفرض رؤية ضيقة على الجميع. وهكذا لاقت فكرة الدولة العلمانية قبولاً واسعاً في المجتمعات الغربية الناهضة بدأ من القرن الخامس عشر الميلادي.

الفكر الحداثي والخصوصية التاريخية للمجتمع الغربي

أدى الفكر الحداثي الذي قاده ثلة من المفكرين الغربيين المؤثرين، من أمثال هوبر ولوك البريطانيين، وكانط وهيغل الألمانيين، وروسو وفولتير الفرنسيين، إلى تأجيج روح جديدة في الجسد الأوربي الهرم، وتكريس النزعة التحريرية التي بدأت مع حركة الإصلاح. واستطاع الفكر الحداثي أن يقدم أطروحات جديدة في أسس الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، داعبت المخيال الغربي، وأدت إلى بروز مجتمع متوثب صاعد في جهد حثيث طامح إلى تحقيق جملة المثل المبادئ التي شكلت المحتوى التصوري والأخلاقي لمشروع الأنوار التحريري.

وبالفعل أدت الروح الجديدة إلى تحرير الفرد الغربي من النظام الملكي المطلق، وتقديم نموذج جديد في التنظيم السياسي للمجتمعات، يعطي أفراد المجتمع القدرة على محاسبة الحكام المنتخبون. كما تمكنت الحركات العمالية والاشتراكية من تجاوزات الرأسمالية المطلقة الرافضة بالاعتراف بمسؤولية أصحاب رؤوس الأموال اجتماعية.

بيد أن مشروع الحداثة الغربي لم يلبث أن واجه سلسلة من الأزمات في مطلع القرن العشرين، تمثلت في حربين عالميتين مدمرتين، وفي التآكل التدريجي للأساس الأخلاقي والوجداني الكامن وراء النهضة الغربية. لقد حاول قادة حركة الأنوار في جهدهم الرامي إلى تحرير العقل الغربي من وصاية الكنيسة التأكيد على أهمية الحفاظ على القاعدة الدينية للروح الحداثية. لذا نراهم يميزون بين النظام الديني الذي مثلته الكنيسة في المجتمع الغربي، والروح الدينية المستقلة عنها. لذلك يمكن تلمس مركزية الوعي الدين للحياة الإنسانية في كتابات رواد الفكر الحداثي من أمثال ديكارت وهوبز ولوك وروسو الذين حرصوا على تأكيد أهمية الحس الديني رغم رفضهم للمرجعية الدينية المتمثلة في الكنيسة. إذ يؤكد ديكارت على “ارتباط اليقين المعرفي بالوعي بأسبقية الوجود الإلهي، بحيث يستحيل الوصول إلى القطع بالحقائق الوجودية للأشياء دون الانطلاق من حقيقة وجود الله المطلق.”[1]

وبالمثل، نجد المفكر الفرنسي روسو يقر بحاجة المجتمع والحياة الاجتماعية إلى التزام ديني بالقيم التي تجعل الحياة الأجتماعية والتعاون بين أبناء المجتمع على اختلاف مشاربهم ممكناً، رغم رفضه للأشكال الدينية التقليدية في المجتمع الذي واكبه. لذلك نجده يدعو في كتابه العقد الاجتماعي إلى دين “طبيعي” يقوم على عدد من المعتقدات الايجابية والسلبية، ويضع مجموعة من المعتقدات التي يدعوها “بالايجابية” منها: ” الإيمان بوجود إله عليم حكيم رحيم يعلم الغيب ويحيط الناس بعنايته؛ وبالإيمان باليوم الآخر؛ وبسعادة العادل وعقاب الآثم؛ وبقدسية العقد الاجتماعي والقانون—هذه هي المعتقدات الإيجابية. أما المعقتدات السلبية فإنني أختزلها إلى واحدة: رفض التعصب.”[2]

بل إننا نرى مفكراً مثل كانط، الذي رفض الاعتراف بقدرة العقل الإنساني على الإلمام بالحقائق الغيبية المتعالية على الخبرة الحسية، والذي اختزل مفهوم الحقيقة إلى المستوى الحسي من التجربة الإنسانية، وسعى جاهداً إلى بناء المفاهيم الأخلاقية على أساس عقلاني صرف، يؤكد أنه “في حال غياب الإيمان بالوجود الإلهي وبوجود عالم غيبي لا يمكن إدراكه اليوم لكن مدار أمل الإنسان ورجاءه، فإن المثل الأخلاقية السامية ستبقى محط التقبول والتقدير، لكنها لن تصبح باعثاً للمقاصد والأفعال.”[3]

ولم تلبث جهود رواد الحداثة الذين أرادوا عزل الفكر الديني الكنسي عن دائرة الحياة العامة أن قادت إلى زعزعة القاعدة الأخلاقية التي تقوم عليها الحضارة الحداثية. لقد جهد رواد الحداثة في الحفاظ على القيم الأخلاقية الأساسية التي ولدتها حركة الإصلاح الديني، واكتفت باستبدال الأساس الديني للأخلاق بأساس عقلي. بيد أن غياب الأساس العلوي للأخلاق أدى إلى إضعاف الدافع الأخلاقي في المجتمع الحداثي أولاً، ومن ثم أفرز حركات فكرية رافضة للمنظومة الأخلاقية الحداثية، وقادرة على تحدي المنظومة العقلانية التي قامت عليها.

مأزق الحداثة وبروز الفكر بعد الحداثي

برزت الأزمة الأولى للحضارة الحداثية والفكر الحداثي في عجز هذا الفكر عن تحقيق المساواة والحرية الإنسانية على المستوى الاجتماعي. فقد أقتصرت الانتصارات التي حققتها حركة الأنوار التحررية في المستوى السياسي. فالحرية والمساواة والأخوة التي دعت إليها الثورة الفرنسية والثورات الديمقراطية الأخرى لم تتجاوز دائرة الفعل السياسي، حيث تحصل مواطن الدولة الديمقراطية الحداثية على الحريات السياسية والتساوي في الحقوق والواجبات أمام القانون. في حين استمرت الفروقات الاقتصادية الكبيرة بين أباء المجتمع، وبقي معها تفاوت أفراد المجتمع في قدارتهم السياسية نتيجة لتكريس التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين أباء المجتمع الواحد. كما بقي القانون أداة في يد القوى السياسية الميسورة لتكريث الثروة والنفوذ. وهذا ما أدى إلى بروز التحدي الفكري والسياسي الأول للمشروع الحداثي المتمثل في الحركات اليسارية والشيوعية التي اجتاحت أوربا. كما استطاع الفكر الماركسي على وجه الخصوص من إظهار التناقضات الداخلية في الفكر الحداثي من ناحية، ومن ثم إلقاء اللوم على القاعدة الدينية للمجتمع الغربي المدني.

وبدلا من العمل على تحقيق إصلاح اجتماعي سياسي من خلال توظيف الوعي الديني لتحقيق عدالة اجتماعية، نرى ماركس يندفع في الاتجاه المعاكس، ملقياً اللوم على بقايا الوعي الديني، وداعياً إلى تخليص المجتمع المدني من كل النزعات الدينية، بل والقضاء على كل أشكال التضامن الاجتماعي. بيد أن غياب التضامن الاجتماعي والأساس الأخلاقي للفعل السياسي والاجتماعي في دول المنظومة الأشتراكية التي نجحت الحركة الشيوعية من الهيمنة عليها أدت إلى مزيد من الاستغلال والتفاوت السياسي والاقتصادي بين المتنفذين في دوائر الدولة الشيوعية وجمهور المواطنين، لتزيد أزمة المجتمع الحداثي حدة، بدلاً من السعي لتجاوز الأزمة، وانتهت التجربة الشيوعية في أوربا الشرقية بالفشل الذريع الذي توضحت ملامحه في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

وفي حين تم القضاء على الخيار الماركسي بعد صراع بين المنظومة الليبرالية والشيوعية استمر ما يقرب من القرن، فإن الحداثة نفسها وصلت إلى طريق مسدود، يعبر عنه اليوم أفضل تعبير الفكر بعد الحداثي، والذي يشكل النتيجة المنطقية لتداعيات الحداثة. لكن المشروع بعد الحداثي لا يهدف إلى إعادة ربط الأخلاقي والعلوي لوقف النزعات البهيمية والعدمية التي تزداد شدة ووضوحاً، بل نراه يشتط في الدفاع عن هذه النزعات، ويصر على نزع آخر التبريرات العقلانية التي ارتكز إليها الفكر الحداثي الأنواري خلال القرنين الماضيين، وهو بالتالي يعمل معول الهدم في الأركان التي قامت عليها الحضارة الحداثية.

إن تلازم الوعي الديني والنهوض الحضاري حقيقة تاريخية وشرط موضوعي. فالحضارات الإنسانية عبر التاريخ تعود في جذورها إلى وعي ديني ورؤية كونية متعالية، بدءاً من حضارات الهلال الخصيب ومصر الفرعونية، ومروراً بالحضارات الصينية والهندية والفارسية والإغريقية والرومانية، وانتهاءً بالحضارتين الإسلامية والغربية. ولقد وثق المؤرخ الغربي الشهير أرنولد توينبي العلاقة بين الدين والحضارة وأظهر في كتابه دراسة الحضارة أن العلاقة بين الدين والحضارة علاقة المقدمة بنتيجتها. [4]كذلك أظهرت الدراسات الاجتماعية أن القيم والمعتقدات الدينية تشكل العنصر الأساسي في البناء الثقافي للمجتمع. فأظهرت أبحاث ماكس فيبر العلاقة الوثيقة بين النهوض الثقافي والحضاري لمجتمع وبروز الوعي الديني. وانتهى فيبر إلى تقديم نظرية في التطور المؤسسي الاجتماعي تربط ارتقاء المجتمع والمؤسسات الاجتماعية بظهور القيادة الملهمة (charismatic leadership) التي يمثل الرسول، والمصلح الديني من بعده، أهم أشكالها. فالقائد الملهم إنسان يملك رؤية متميزة تؤدي إلى تحفيز الهمم والأفعال، وتوليد زخم نفسي وروحي يخرج المجتمع من ركوده ويدفعه للمضي في عملية بناء قدراته العلمية ومؤسساته التنظيمية. ويتبع مرحلة القائد الملهم مرحلة العقلنة الثقافية والاجتماعية التي يقودها المثقفون من مفكرين ورجال دولة، والتي تهدف إلى تحويل القيم والتصورات الرسالية الجديدة إلى قواعد ومرتكزات يتأسس عليها البناء الاجتماعي.

فإذا تساءلنا عن سر التلازم بين الوعي الديني والنهوض الحضاري وجدنا تعليلاً عميقاً عند ابن خلدون، تحت فصل “في أن الدول العامة الإستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق” من مقدمته، يقول فيه: “وذلك لأن الملك إنما يكون بالعصبية واتفاق الأهواء على المطالبة، وجمع القلوب وتأليفها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دينه قال تعالى: لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم. وسره أن القلوب إذا تداعت إلى أهواء الباطل والميل إلى الدنيا، حصل التنافس وفشا الخلاف. وإذا انصرفت إلى الحق ورفضت الدنيا والباطل، وأقبلت على الله، اتحدت وجهتها، فذهب التنافس وقل الخلاف، وحسن التعاون والتعاضد، واتسع نطاق الكلمة لذلك، فعظمت الدولة كما تبين لك بعد، إن شاء الله سبحانه وتعالى، وبه التوفيق لا رب سواه.” [5]

إن الأشكال السلبية التي يولدها الفكر بعد الحداثي اليوم، من تحلل أخلاقي، وتهافت على المتعة البدنية، وتراجع البعد الروحي الوجداني، والفردية المفرطة التي تدفع الفرد إلى إهمال واجباته الاجتماعية، وتفكك الأسرة وانتشار الرذيلة، وهيمنة الدول الصناعية على مقدرات الدول النامية، والتفاوت الاقتصادي والسياسي المتزايد، وغيرها من الأزمات الاجتماعية المحيقة بحياتنا المعاصرة، لا تعود بطبيعة الحال إلى فصل الكنيسة عن الدولة، بل إلى عملية العقلنة الغربية نفسها التي حوّلت الدين والأخلاق إلى دوائر معرفية مستقلة عن الدوائر المعرفية والاجتماعية الأخرى، كالسياسة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس. إن التفسخ الاجتماعي والتحلل الأخلاقي الذي يطبع الحياة في المجتمعات الحديثة ناجم عن فصل الأخلاق والقيم والتصورات العلوية – وفي مقدمتها الشعور بالمسؤولية أمام الله – عن التفكير السياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي. فالاقتصادي الحداثي اليوم يحكم على الفعل الاقتصادي بأنه ناجع طالما أدى إلى تحقيق ربح مادي، غير آبه بآثار هذا الفعل على المحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية، وغير مكترث فيما إذا نجم الربح عن ظلم أو استغلال.

الفكر الإسلامي ودوره الحضاري

يشترك الفكر الإسلامي المعاصر موقفه الناقد للحداثة الغربية مع الفكر بعد الحداثي، لكنه يفترق معه في ما عدا ذلك. ففي حين يمضي الفكر بعد الحداثي في تفكيك ما تبقى من الثوابت التي قامت عليها الحضارة الغربية الحديثة، يسعى الفكر الإصلاحي الإسلامي إلى تجاوز الذلات والانحرافات في التجربة الحداثية، والبناء على مواطن القوة فيها. لا شك في أن الحضارة الغربية الحديثة وريثة في كثير من الجوانب للبناء الحضاري الإسلامي، وبالتالي للحضارة الإنسانية التي ساهمت في صياغتها ثقافات عديدة. لذلك فإن على الفكر الإسلامي أن يتعامل بثقة وهدوء مع النتاج الحضاري الحداثي، يأخذ منه ما يأخذ ويرفض ما يرفض عبر منهجيات علمية نقدية، وبعيداً عن الجنوح العاطفي في اتجاه أو آخر. ومن هنا كان الرفض المبدئي لكل ما هو غربي أو حداثي موقف متطرف غير مقبول.

ويبدو جلياً أن المهمة الأولى الملقاة على عاتق الفكر الإسلامي المعاصر إعادة ربط الأخلاقي بالعلوي. هذه المهمة على بساطتها مهمة شاقة تتطلب جهوداً كبيرة ومثابرة مستمرة. ففك الارتباط بين الإثنين عملية استمرت قرون طويلة. ولعل الجهد الكبير المطلوب لتحقيق هذه المهمة هو ما يجعل بعض المفكرين الإسلاميين يفضل تجاوز الحقبة الحداثية برمتها، والبناء على القواعد التي أسسها الفكر الإسلامي والتراثي والحضارة الإسلامية التاريخية. بيد أن مثل هذا النكوص إلى عصور الإزدهار الإسلامي التاريخي والانطلاق منها، وإن بدا للوهلة الأولى أكثر سهولة ويسراً، في حقيقته ليس إلا سراباً خادعاً وهروباً مشيناً من العمل الجاد لتحمل المسؤولية التاريخية للأمة اليوم. ذلك أن الانسحاب إلى الماضي والشروع بالبناء انطلاقاً من مواقف الفكر والحضارة الإسلامية التاريخيين يفترض أن الحداثة واقع منفك عن الخبرة الاجتماعية والثقافية للمجتمعات المسلمة اليوم، وأن هذه المجمعات تملك بالتالي الخيار في موجه والحداثة أو تجنبها. هذ الافتراض ينطوي على وهم كاذب خادع. فلقد أضحت الحداثة بعد قرن ونيف من المحاكاة والمعايشة جزء من واقع المجتمعات المسلمة، وأن لا طريق لتجاوز مأزق الحداثة إلا من خلال النقد البناء والحوار المنفتح والعمل الدؤوب لتبين ما هو إنساني عام مما هو تاريخي لصيق بالمجتمع الغربي.

هوامش


--------------------------------------------------------------------------------

[1] رينيه ديكارت، تأمل في الفلسفة الأولى:

Rene Descartes, Meditations on First Philosophy, trans. John Cottingham (Cambrigdge University Press, 1986), p. 49.

[2] جان جاك روسو، العقد الاجتماعي:

Jean-Jacque Rousseau, The Social Contract, trans. Maurice Cranston (London: Penguin Books, 1968), p. 186.

[3] عمانوئيل كانط، نقد العقل الصرف:

Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, trans. Norman Kemp Smith (New York: Macmillan, 1929), p. 640.

[4] أرنولد تويني، دراسة التاريخ :

Arnold Toynbee, A Study of History (Oxford University Press, 1946)

[5] عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة، ص 124

متروي
07-29-2011, 10:42 PM
الحق أنني لم أرى ما أعجبك فالرجل يجعل العالم الإسلامي الآن و العالم الغربي في نقطة واحدة دون أي إعتبار للفروق بين المسيحية و الإسلام و قوله هذا غير مفهوم :
ويبدو جلياً أن المهمة الأولى الملقاة على عاتق الفكر الإسلامي المعاصر إعادة ربط الأخلاقي بالعلوي.
فعندنا لم يحدث أي إنفصال بين الاخلاق و الدين حتى نسعى لربطها من جديد ؟؟ زيادة على أنه يدعو لعدم العودة مباشرة إلى الدين بل الإنطلاق من حيث توقف الغرب والذي فهمته من كلامه أن مفهوم الدين عنده ليس هو مفهوم الدين الذي نعرف بل هو اشبه بدين مريم نور .