د. هشام عزمي
08-19-2011, 02:36 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب عيسى عبدالله السعدي
تصديق الرُّسل أصل الإيمان الَّذي يقوم عليه بناؤه كلّه قولاً وعملاً ؛ لأنّ تصديقهم هو الموجب لقبول أخبارهم ، واتّباع شرعهم ظاهرًا وباطنًا([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn1)) ؛ ولهذا آتى اللّه كلّ نبيّ آية تدلّ على صدقه ، قال تعالى : } لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ {[ الحديد : 25 ] ؛ أي بالأدلّة الواضحة على صدق ما جاءوا به ، وحقيته ([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn2)) ، وروى البخاريّ بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t مرفوعًا : ((مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ))([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn3)) ؛ يقول ابن حجر : (( هذا دالّ على أنَّ النبيَّ لا بُدّ له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه ، ولا يضرّه من أصرّ على المعاندة ))([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn4)) ؛ وذلك لأنّ آية النبيِّ لا تكون إلاّ برهانيّة في الدلالة على صدقه ، وما يكون من تكذيب وتولٍّ فسببه الظلم أو الكبر أو اتّباع الهوى لا قصور دلالة آيات الأنبياء ، قال تعالى : } وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا {[ النمل : 14 ] ، وقال : } وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {[ القمر : 3 ] ؛ فدلّ على أنَّ منشأ كفرهم الكبر واتّباع الهوى لا الشكّ في آيات الرّسل ([5] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn5)) .
ولما كانت آيات الرسل من الإيمان بهذه المنزلة كثرت وتعددت آحادها ؛ لأنّ الشيء كلما كان النَّاس إليه أحوج كان الرب به أجود ([6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn6)) ، وتصديق الرسل من المطالب الكلية ؛ ولهذا كثرت آياته وتنوّعت ؛ لتلائم جميع المدارك ، وتقوم بها الحجّة على الخلق كافّة ؛ فكان من آيات الرسل الظّاهر العام القاهر ، والدقيق الخاص الباهر ([7] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn7)) ، وكان منها الشخصي الَّذي تدلّ عليه ذوات الرّسل ، وصفاتهم وأخبارهم ، والنوعي الَّذي يدلّ عليه اتّفاق أخبارهم ، ومقاصدهم ، وأصول شرائعهم ([8] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn8)) ، ويندرج تحت هذه الأنواع ما لا يكاد يحصى من آحاد الأدلّة ؛ ومن أعظم ما يندرج تحتها دليل العاقبة ؛ فإنّ حلول العقوبات بأعداء الرسل ، وحصول العاقبة لهم باطراد مع قلّة العدد والعُدَد أكبر برهان على صدقهم ، وصحّة دينهم ، يقول ابن القيّم : (( أيّ دلالة أعظم من رجل يخرج وحده ، لا عدّة له ولا عدد ولا مال ، فيدعو الأمّة العظيمة إلى توحيد اللّه ، والإيمان به ، وطاعته ، ويحذّرهم من بأسه ونقمته ، فتتفق كلمتهم ، أو أكثرهم على تكذيبه ومعاداته ، فيذكّرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر ، فيغرق المكذّبين كلّهم تارة ، ويخسف بغيرهم الأرض تارة ، ويهلك آخرين بالريح ، وآخرين بالصّيحة ، وآخرين بالمسخ ، وآخرين بالصواعق ، وآخرين بأنواع العقوبات ، وينجو داعيهم ومن معه ، والهالكون أضعاف أضعافهم عددًا وقوّة ومنعة وأموالاً !! ... فهلاّ امتنعوا إن كانوا على الحقّ وهم أكثر عددًا ، وأقوى شوكة بقوّتهم وعددهم من بأسه وسلطانه ؟! وهلاّ اعتصموا من عقوبته كما اعتصم من هو أضعف منهم من أتباع الرّسل ؟! ))([9] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn9)) .
ولأهميّة دليل العاقبة ، وظهور دلالته على صدق الرّسل كثر ذكره في النّصوص ، والتنويه بشأنه ، والحثّ على النّظر في دلالاته وعظاته وعبره ، قال تعالى : } وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {[ الشعراء : 65 ـ 67 ] ، وقال : } قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَـيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {[ النمل : 69 ] ، وقال : } أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ {[ السجدة : 26 ] ؛ أي لدلالات متناظرة ، وحجج واضحة تدلّ على صدق الرّسل ، وصحّة دينهم ، وعلى الترغيب في اتّباعهم ، والتحذير من عصيانهم ؛ فمفاد دليل حسن العاقبة علم ووعظ لا مجرّد علم ؛ ولهذا كان أكمل الآيات من جهة حصول المقصود منه ؛ يقول ابن تَيْمِيَّة : (( إثبات نبوّة الأنبياء بما فعله بهم من النجاة ، وحسن العاقبة ، وما فعله بمكذبيهم من الهلاك وسوء العاقبة يفيد العلم بصدقهم ، والرغبة في اتّباعهم ، والرهبة من مخالفتهم ؛ ولهذا كان أكمل ، وأبلغ في حصول المقصود ))([10] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn10)) ؛ ولهذا لم يكن فضل من كان إيمانه ناشئًا عنه كفضل من آمن قبل الظهور والنّصرة ([11] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn11)) .
ودليل حسن العاقبة يدلّ على صدق الرّسل دلالة عقليّة لا وضعيّة ([12] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn12)) ، ودلالته مبنيّة على ثبوت الحكمة في خلق اللّه وأمره ([13] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn13)) ؛ فلا يمكّن اللّه من آياته ، ولا يؤيّد بنصره المستقرّ ، وإظهاره المستمرّ إلاّ من كان صادقًا فيما يخبر عن اللّه وعن دينه ؛ لأنّ تأييد الكذّاب ، ونصره ، وإظهار دعوته على وجه مطّرد إضلال عام للخلق يتنزه عنه أحكم الحاكمين ([14] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn14)) . ولا يُشكل على هذا ظهور الكفار أو المتنبئين أحيانًا ؛ لأنّ ظهورهم لا تقارنه خصائص ظهور الأنبياء ؛ كاطراد الظهور ، واقتران دعوتهم ببراهين الصدق ، وحسن العاقبة ، وبقاء لسان الصدق لهم في العالمين ([15] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn15)) .
ولا يعتبر دليل حسن العاقبة نوعًا مستقلاًّ عن أدلّة النبوّة المشهورة؛ لأنّه يندرج ضمن دليل المسلك الشخصي؛ الَّذي هو عبارة عن الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأخباره ، وصفاته وأحواله على صدقه وصحّة دينه ؛ أي أنَّهُ يدور على ثلاثة محاور كبرى ؛
أحدها : الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كاستدلال سلمان الفارسي t بخاتم النبوّة على صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([16] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn16)) ، وكاستدلال عبد اللّه بن سلام t بهيئة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كما يدلّ لذلك قوله : (( فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ))([17] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn17)) ؛ وهذا المعنى ما قصده حسّان بن ثابت t في قوله : ـ
لو لم تكن فيه آيات مبينةُ .... كانت بداهته تنبيك بالخبر([18] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn18))
أي أنَّ بداهته صلى الله عليه وسلم تدلّ على صدقه ؛ وهي أوّل ما يظهر للنّاظر من وجههصلى الله عليه وسلم ، ومنظره ، ونوره ، وبهائه ([19] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn19)) .
والثّاني : الاستدلال بأخبار الأنبياء على صدقهم ؛ فإنّ خاصّة النبوّة الإنباء الصادق عن الغيب ؛ كإخبار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فتح بلاد فارس والروم ، وعما سيحصل لأصحابه ، وأمّته من الفتن ، ثُمَّ جاء الواقع مطابقًا لخبره ، فدلّ يقينًا على صدقه ، وصحّة نبوّته ([20] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn20)) . ومن هذا الباب الاستدلال بما تحقّق من وعد الأنبياء ووعيدهم على صدقهم ؛ فالأنبياء وعدوا أتباعهم بالنصر والتمكين ، وأوعدوا أعداءهم بحلول العقوبات ، فأنجز اللّه عداتهم ، وصدق أخبارهم ، كما قال تعالى : } ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ {[ الأنبياء : 9 ] ؛ فكان ذلك الصدق في أخبارهم أكبر برهان على نبوّتهم ، وصحّة دينهم .
والإخبار عن الغيب لا يختصّ بالغيوب الآتية ، وإنّما يشمل الإخبار عن الغيوب الماضية ([21] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn21)) ؛ ولهذا كان إخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عمَّا حلّ بالأمم السّابقة من أنواع العقوبات إخبار من شاهدها وحضرها برهانًا ظاهرًا على نبوّته ، وبخاصّة أنَّهُ أمي نشأ في أمّة أميّة لا تعلم شيئًا يذكر عن أصحاب المَثُلات([22] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn22)) ، قال تعالى : } تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا {[ هود : 49 ] ، وقال : } وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {[ العنكبوت : 48 ] ، وقال : } فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {[ يونس : 16 ] ؛ فدلّ على أنَّ إخباره الصادق عن الغيب عامّة ، وعن عقوبات الأمم خاصّة لم يكن عن تعلّم أو تطلّع وإنّما كان بوحي أوحاه إليه علاّم الغيوب ([23] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn23)) .
والثّالث : الاستدلال بخصائص الأنبياء وصفاتهم على صدقهم ؛ كما استدلّ هرقل بصفات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ، روى البخاريّ بسنده عن ابن عَبَّاسٍ ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : (( حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ، قَالَ : انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ ... ، فَقَالَ هِرَقْلُ : هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ ، فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَنَا ([24] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn24)) . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ : إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ ، قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ ، أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ([25] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn25)) ، قَالَ : يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : لاَ بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ([26] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn26)) ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ : تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ فَزَعَمْتَ : أَنْ لاَ فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ، فَزَعَمْتَ : أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَزَعَمْتَ : أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً ؛ يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ . قَالَ ثُمَّ قَالَ : بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ قُلْتُ : يَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ ، قَالَ : إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ))([27] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn27)) ، وفي رواية للبخاري أيضًا : (( هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ))([28] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn28)) ، وفي رواية ابن الناطور ([29] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn29)) : (( فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ ([30] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn30)) حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ ))([31] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn31)) ؛ فاستدلّ هرقل بصفات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله على صدق نبوّته ، وازداد يقينًا بشهادة صاحب رومية ، حتَّى إنّه عرض الإسلام على عظماء الروم ، ورغّبهم في الدخول فيه ([32] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn32)) ، وكان من جملة ما استدلّ به من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه مع قومه ؛ لأنّ الرُّسل ( تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ) ؛ قال تعالى : } إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ {[ هود : 49 ] ، وقال : } وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإ الْمُرْسَلِينَ {[ الأنعام: 34 ] ، وقال : } حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ([33] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn33)) جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {[ يوسف : 110 ] ؛ فخاصة الأنبياء اقتران دعوتهم بحسن العاقبة فعلاً وقولاً ؛ فلهم النصر والنجاة عند حلول المَثُلات ، ولهم لسان الصدق في الآخرين ؛ قبولاً ، ومحبّة ، وثناءً ، ودعاء ، وصيتًا باقيًا إلى يوم القيامة ([34] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn34)) .
وبرهان حسن العاقبة لا يختصّ بمن وقعت العقوبة لأجله من الرسل ، وإنّما يدلّ على صدق من قبله ومن بعده من الرسل ؛ لاتّفاقهم في العقائد وأصول الشرائع ؛ فما يدلّ على صدق أحدهم فإنّه يدلّ على صدق سائرهم ؛ ولهذا كان كفر أصحاب المثلات برسولهم بمنزلة الكفر بجميع الرسل ، قال تعالى : } وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ {[ الفرقان : 37 ] ، وقال : } كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ {[ الشعراء : 123 ] ، وقال : } وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ {[ الحجر : 80 ] ، وقال : } كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {[ الشعراء : 176 ] ؛ فنزّل كفرهم برسولهم منزلة الكفر بالجميع ، لوحدة مقاصد الرسل ، وأصول دينهم ؛ قال الحسن البصري : (( إن الآخر جاء بما جاء به الأوّل ، فإذا كذبوا واحدًا فقد كذبوا الرسل أجمعين ))([35] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn35)) .
وكذلك لا يختص دليل حسن العاقبة بزمن الرِّسالة ، أو حال التحدي ، كما يشترط ذلك المتكلمون في دليل النبوّة ([36] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn36)) ؛ لأنّ الدّليل لا يشترط أن يكون في محلّ المدلول عليه ، ولا في زمانه ، ولا في مكانه ؛ فيجوز أن تكون آية النبوّة سابقة ؛ كالبشارة والإرهاص ([37] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn37)) ، ويجوز أن تكون متراخية ومستمرة إلى يوم القيامة ؛ ككرامات أتباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([38] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn38)) ، والعقوبات الَّتي تحيق بأعدائهصلى الله عليه وسلم ([39] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn39)) ؛ يقول ابن تَيْمِيَّة : (( من آيات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما هو باق إلى يوم القيامة ؛ كالقرآن ، وكالعلم والإيمان الَّذي في أتباعه ، وكشريعته الَّتي أتى بها ، وكالآيات الَّتي يظهرها اللّه وقتًا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمّته ، ووقوع ما أخبر بوقوعه ، وظهور دينه بالبرهان والسنان ، ومثل المَثُلات الَّتي تحيق بأعدائه وغير ذلك ))([40] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn40)) .
وهذا الاستمرار في هذا الضّرب من الآيات ضروري لإقامة الحجّة على الخلق ؛ فإنّ اللّه لا بُدّ أن يري أهل كلّ قرن من الآيات ما يدلّهم على صدق رسله ، وصحّة دينهم ، حتَّى كأنّ أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره . وهذا مقتضى حكمة الرب ورحمته وعدله ووعده الصادق([41] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn41)) ، قال تعالى : } سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {[ فصّلت : 53 ] ؛ يقول ابن القيّم : (( هذه الإرادة لا تختص بقرن دون قرن ، بل لا بُدّ أن يري اللّه سبحانه أهل كلّ قرن من الآيات ما يبين لهم أنَّهُ اللّه الَّذي لا إله إلاّ هو ، وأن رسله صادقون ))([42] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn42)) .
ــــــــــ
([1]) ملاحظة هذا الأصل ظاهرة في مصنّفات السّلف واستدلالاتهم ؛ فالبخاري مثلاً ابتدأ كتابه ببدء الوحي ؛ لأنّه أصل علم الرّسل ، ثُمَّ بكتاب الإيمان الَّذي هو الإقرار بما جاءت به الرّسل ؛ لأنّه أصل دين أتباعهم ، ثُمَّ بكتاب العلم الَّذي هو معرفة الإيمان قولاً وعملاً .. وهكذا .
وكذلك الشأن في استدلالاتهم ؛ فقد كانوا يستدلون ببراهين النبوّة على وجود الرب وصفاته وأفعاله ؛ لأنّ ثبوت النبوة يوجب تصديق أخبارهم ، واتّباعهم فيما يدعون إليه من التوحيد والأعمال . انظر : مجموع الفتاوى لابن تَيْمِيَّة 2/1 ـ 7 ، درء التَّعارض لابن تَيْمِيَّة 8/351 ، 352 ، الصواعق المرسلة لابن القيّم 3/1197 ، 1198 .
([2]) انظر : المفردات للراغب ص68 ، تفسير القرطبي 17/260 ، تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/301 .
([3]) صحيح البخاريّ : كتاب فضائل القرآن ، باب كيف نزل الوحي ( فتح الباري 9/3 ، ح4981 ) .
وانظر : صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ح ( 217 ) .
والحديث يدلّ على أنَّ الآية لازمة حتَّى للنبي ، ويدلّ أيضًا على أنَّ دليل النبوّة يطلق عليه شرعًا آية ، أو بيّنة ، أو برهان كما في هذه النّصوص ونظائرها ، وكما في كلام السّلف ، يقول ابن مسعود : (( كنّا نعدّ الآيات بركة )) . وهذا أولى ممّا درج عليه كثير من العلماء من إطلاق المعجز ، أو الخارق على دليل النبوة ؛ لأنّ الإعجاز ، أو خرق العادة شرط في دليل النبوة ، ولازم له ؛ ولازم الشيء قد يكون أعمّ منه ، فلا يختصّ به ، ويميّزه عن غيره . انظر : الجواب الصّحيح لابن تَيْمِيَّة 5/412 ـ 420 ، النبوات2/773 ـ 777 ، 785 ، 828 ، 829 ، فتح الباري 6/587 .
([4]) فتح الباري 9/6 .
([5]) انظر : تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 5/565 ، 566 .
([6]) انظر : النبوّات لابن تَيْمِيَّة 2/684 .
([7]) كبعض أوجه الإعجاز في القرآن الكريم .
([8]) انظر : شرح العقيدة الأصفهانية لابن تَيْمِيَّة ص88 ـ 157 .
([9]) التبيان في أقسام القرآن ص187 .
([10]) الجواب الصّحيح لابن تَيْمِيَّة 6/426 ، 427 [ بتصرّف ] ، وانظر : مجموع الفتاوى 17/119 ، تفسير ابن كثير 3/244 ، 373 ، 463 .
([11]) انظر : مفتاح دار السّعادة لابن القيّم 2/13 ، الأدلّة العقليّة للعريفي ص500 .
([12]) انظر : الجواب الصّحيح 6/393 ، النبوّات 1/512 ، 534 ـ 545 ، 2/738 .
والدلالة العقليّة هي : أن يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتيّة تنقله من أحدهما إلى الآخر ؛ كدلالة الأثر على المؤثّر . والدلالة الوضعيّة هي أن يكون بين الدال والمدلول علاقة الوضع ؛ كدلالة اللَّفظ على المعنى . انظر : التعريفات للجرجاني 104 ، 105 ، 252 ، 253 ، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 1/563 ، 564 .
([13]) انظر : شفاء العليل لابن القيّم ص333 .
([14]) انظر : الجواب الصّحيح 6/419 ، النبوّات 2/684 .
([15]) انظر : الجواب الصّحيح 6/413 ـ 426 .
([16]) انظر : المسند للإمام أحمد ، باقي مسند الأنصار ، ح ( 22598 ، 22620 )
([17]) سنن ابن ماجه : كتاب إقامة الصَّلاة ، ح ( 1324 ) . والحديث إسناده صحيح . انظر : سلسلة الأحاديث الصّحيحة للألباني 2/109 ، ح ( 569 ) .
([18]) ديوان حسان بن ثابت 1/315 . وقد نسبه ابن حجر لعبد اللّه بن رواحة . انظر : الإصابة 4/75 .
([19]) انظر : تهذيب اللّغة للأزهري 1/296 ، 297 ، مختصر الصواعق للموصلي 3/1058 .
([20]) انظر : صحيح البخاريّ بشرحه فتح الباري 6/604 ـ 631 .
([21]) انظر : البرهان للزركشي 2/96 .
([22]) انظر : تفسير ابن كثير 2/449 ، 3/391 .
([23]) انظر : إيثار الحق لابن الوزير ص80 .
([24]) وفي رواية للبخاري قال قيصر : ما قرابة ما بينك وبينه ؟ فقلت : هو ابن عمّ . وليس في الرَّكب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري . صحيح البخاريّ : كتاب الجهاد ، باب دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام . ( فتح الباري 6/109 ) ، فأبو سفيان يلتقي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، وهو الأب الرابع للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فأطلق عليه ابن عمّه ؛ لأنّه نزّل كلاّ منهما منزلة جدّه ، وعبد المطّلب بن هاشم ابن عمّ أميّة بن عبد شمس . وخصّ هرقل الأقرب لأنّه أحرى بالاطلاع على ظاهر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وباطنه ، فتكون إجاباته مطابقة للواقع تمامًا . انظر : فتح الباري لابن حجر 1/34 ، 35 .
([25]) هذا محمول على الأعمّ الأغلب ، حتَّى لا يَرِد أبو بكر وعمر وأمثالهما ممّن أسلم من الأشراف قبل هذا السؤال . انظر : فتح الباري لابن حجر 1/35 .
([26]) هذا القيد يخرج من ارتدّ مكرهًا ، أو لهوى في النفس لا سخطة للدين ؛ كما وقع لعبيداللّه بن جحش ؛ ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكره مع أنَّهُ صهره . انظر : فتح الباري 1/35 ، 8/218 .
([27]) صحيح البخاريّ : كتاب التّفسير ، باب قوله : قل يا أهل الكتاب ... الآية ( فتح الباري 8/214 ـ 216 ) ، وانظر : صحيح مسلم : كتاب الجهاد ، باب كتب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ( شرح النَّوويّ 12/103 ـ 112 ) .
([28]) صحيح البخاريّ : كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ( فتح الباري 6/110 ) .
([29]) ابن الناطور أو ناطوراء كان سُقُفًّا على نصارى الشام وقت الحادثة ، ثُمَّ أسلم ، ولقيه الزهري بدمشق زمن عبد الملك بن مروان ، وروى عنه هذه الرواية . انظر : فتح الباري 1/40 ، 41 .
([30]) بفتح الياء ، وكسر الراء ؛ أي لم يبرح مكانه . انظر : فتح الباري 1/42 .
([31]) صحيح البخاريّ : كتاب بدء الوحي ( فتح الباري 1/33 ) .
وهذه الروايات تدلّ على جزم هرقل بصدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولكنّه لم يذعن لما عرفه قلبه ؛ خوفًا على مُلكه ، أو خوفًا من قومه أن يقتلوه كما فعلوا بضغاطر ، صاحب رومية ، حين صدّق النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم واتّبعه ، وتبرأ من النصرانية . ولما كاتب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هرقل وهو في تبوك أجاب بأنَّهُ مسلم ، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كذب عدو اللّه ليس بمسلم . وهذه الرواية الثابتة تدلّ على صحّة مذهب السّلف وبطلان مذهب المرجئة ؛ فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم له بالإسلام بمجرّد قول القلب أو اللّسان ؛ لأنّه لم يذعن لما عرف من الحقّ ، وتدلّ أيضًا مع مجموع روايات الحادثة على ضعف ما ذكره ابن حجر من أن هرقل أقرّ ولم يستمر ، أو أن أمره كان مستبهمًا ؟ ولهذا ختم به البخاريّ كتاب الوحي الَّذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات ؛ إيماء إلى أنَّهُ إن صدقت نيّته انتفع وإلا خسر . انظر : تاريخ الطبري 2/649 ـ 652 ، فتح الباري 1/33 ، 37 ، 42 ـ 45 ، الإصابة 3/405 ـ 406 .
([32]) انظر : فتح الباري 1/33 .
([33]) الظن متعلّق بالمرسل إليهم لا بالرسل ؛ لأن الرسل لا يجوز عليهم الشك في وعد اللّه ووعيده مع معاينة حجج اللّه وبراهينه ؛ أي ظنّ الأتباع أو المكذِّبون أنَّ الرسل قد أخلفوا فيما وعدوا به من النصر ، وإهلاك الأعداء . وهذا قول ابن عبّاس وسعيد بن جبير وغيرهم واختاره الطبري ، وقيل غير ذلك . انظر : تفسير الطبري 13/82 ـ 87 ، تفسير ابن كثير 2/497 ، 498 .
([34]) انظر : تفسير ابن كثير 3/338 ، إيثار الحق لابن الوزير ص55 ، صفوة البيان لحسنين مخلوف 2/110 .
([35]) نقلاً عن تفسير البغوي 3/392 ، وانظر : تفسير القرطبي 10/46 ، تفسير ابن كثير 2/450 ، 3/318 .
([36]) انظر : حاشية الدسوقي على أم البراهين ص176 ، 177 ، شرح الجوهري للبيجوري ص133 .
([37]) من المثلات المشهورة الَّتِي كانت إرهاصًا لنبوّة نبيّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مثلة أصحاب الفيل ، فقد وقعت عام ولادة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على الصَّحِيح ؛ تمهيدًا لشأنه ، ودلالة على نبوّته ، ولا صحّة لما ذكره الصاوي من أنّ ذلك كان ببركة النّور المحمدي الَّذِي كان في أصلاب آبائه . انظر : تفسير القرطبي 20/194 ، 195 ، روح المعاني للآلوسي 30/298 ، حاشية الصاوي على الجلالين 4/479 ، تفسير ابن سعدي 7/674 .
([38]) كرامات الأولياء على الصّحيح من قولي العلماء تعتبر من آيات الأنبياء الصغرى ؛ لأنهم إنّما نالوا الكرامة ببركة اتباع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم . انظر : النبوات لابن تَيْمِيَّة 2/823 ، 1084 .
([39]) انظر : النبوات لابن تَيْمِيَّة 2/794 ، 853 ، 984 ، 985 ، الجواب الصّحيح لابنتَيْمِيَّة 6/408 ، 409 .
([40]) الجواب الصّحيح 5/420 ، 421 [ بتصرف ] .
([41]) انظر : التبيان لابن القيّم ص187 .
([42]) المرجع السّابق .
كتب عيسى عبدالله السعدي
تصديق الرُّسل أصل الإيمان الَّذي يقوم عليه بناؤه كلّه قولاً وعملاً ؛ لأنّ تصديقهم هو الموجب لقبول أخبارهم ، واتّباع شرعهم ظاهرًا وباطنًا([1] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn1)) ؛ ولهذا آتى اللّه كلّ نبيّ آية تدلّ على صدقه ، قال تعالى : } لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ {[ الحديد : 25 ] ؛ أي بالأدلّة الواضحة على صدق ما جاءوا به ، وحقيته ([2] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn2)) ، وروى البخاريّ بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t مرفوعًا : ((مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ))([3] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn3)) ؛ يقول ابن حجر : (( هذا دالّ على أنَّ النبيَّ لا بُدّ له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه ، ولا يضرّه من أصرّ على المعاندة ))([4] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn4)) ؛ وذلك لأنّ آية النبيِّ لا تكون إلاّ برهانيّة في الدلالة على صدقه ، وما يكون من تكذيب وتولٍّ فسببه الظلم أو الكبر أو اتّباع الهوى لا قصور دلالة آيات الأنبياء ، قال تعالى : } وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا {[ النمل : 14 ] ، وقال : } وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ {[ القمر : 3 ] ؛ فدلّ على أنَّ منشأ كفرهم الكبر واتّباع الهوى لا الشكّ في آيات الرّسل ([5] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn5)) .
ولما كانت آيات الرسل من الإيمان بهذه المنزلة كثرت وتعددت آحادها ؛ لأنّ الشيء كلما كان النَّاس إليه أحوج كان الرب به أجود ([6] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn6)) ، وتصديق الرسل من المطالب الكلية ؛ ولهذا كثرت آياته وتنوّعت ؛ لتلائم جميع المدارك ، وتقوم بها الحجّة على الخلق كافّة ؛ فكان من آيات الرسل الظّاهر العام القاهر ، والدقيق الخاص الباهر ([7] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn7)) ، وكان منها الشخصي الَّذي تدلّ عليه ذوات الرّسل ، وصفاتهم وأخبارهم ، والنوعي الَّذي يدلّ عليه اتّفاق أخبارهم ، ومقاصدهم ، وأصول شرائعهم ([8] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn8)) ، ويندرج تحت هذه الأنواع ما لا يكاد يحصى من آحاد الأدلّة ؛ ومن أعظم ما يندرج تحتها دليل العاقبة ؛ فإنّ حلول العقوبات بأعداء الرسل ، وحصول العاقبة لهم باطراد مع قلّة العدد والعُدَد أكبر برهان على صدقهم ، وصحّة دينهم ، يقول ابن القيّم : (( أيّ دلالة أعظم من رجل يخرج وحده ، لا عدّة له ولا عدد ولا مال ، فيدعو الأمّة العظيمة إلى توحيد اللّه ، والإيمان به ، وطاعته ، ويحذّرهم من بأسه ونقمته ، فتتفق كلمتهم ، أو أكثرهم على تكذيبه ومعاداته ، فيذكّرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر ، فيغرق المكذّبين كلّهم تارة ، ويخسف بغيرهم الأرض تارة ، ويهلك آخرين بالريح ، وآخرين بالصّيحة ، وآخرين بالمسخ ، وآخرين بالصواعق ، وآخرين بأنواع العقوبات ، وينجو داعيهم ومن معه ، والهالكون أضعاف أضعافهم عددًا وقوّة ومنعة وأموالاً !! ... فهلاّ امتنعوا إن كانوا على الحقّ وهم أكثر عددًا ، وأقوى شوكة بقوّتهم وعددهم من بأسه وسلطانه ؟! وهلاّ اعتصموا من عقوبته كما اعتصم من هو أضعف منهم من أتباع الرّسل ؟! ))([9] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn9)) .
ولأهميّة دليل العاقبة ، وظهور دلالته على صدق الرّسل كثر ذكره في النّصوص ، والتنويه بشأنه ، والحثّ على النّظر في دلالاته وعظاته وعبره ، قال تعالى : } وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ {[ الشعراء : 65 ـ 67 ] ، وقال : } قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَـيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ {[ النمل : 69 ] ، وقال : } أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ {[ السجدة : 26 ] ؛ أي لدلالات متناظرة ، وحجج واضحة تدلّ على صدق الرّسل ، وصحّة دينهم ، وعلى الترغيب في اتّباعهم ، والتحذير من عصيانهم ؛ فمفاد دليل حسن العاقبة علم ووعظ لا مجرّد علم ؛ ولهذا كان أكمل الآيات من جهة حصول المقصود منه ؛ يقول ابن تَيْمِيَّة : (( إثبات نبوّة الأنبياء بما فعله بهم من النجاة ، وحسن العاقبة ، وما فعله بمكذبيهم من الهلاك وسوء العاقبة يفيد العلم بصدقهم ، والرغبة في اتّباعهم ، والرهبة من مخالفتهم ؛ ولهذا كان أكمل ، وأبلغ في حصول المقصود ))([10] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn10)) ؛ ولهذا لم يكن فضل من كان إيمانه ناشئًا عنه كفضل من آمن قبل الظهور والنّصرة ([11] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn11)) .
ودليل حسن العاقبة يدلّ على صدق الرّسل دلالة عقليّة لا وضعيّة ([12] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn12)) ، ودلالته مبنيّة على ثبوت الحكمة في خلق اللّه وأمره ([13] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn13)) ؛ فلا يمكّن اللّه من آياته ، ولا يؤيّد بنصره المستقرّ ، وإظهاره المستمرّ إلاّ من كان صادقًا فيما يخبر عن اللّه وعن دينه ؛ لأنّ تأييد الكذّاب ، ونصره ، وإظهار دعوته على وجه مطّرد إضلال عام للخلق يتنزه عنه أحكم الحاكمين ([14] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn14)) . ولا يُشكل على هذا ظهور الكفار أو المتنبئين أحيانًا ؛ لأنّ ظهورهم لا تقارنه خصائص ظهور الأنبياء ؛ كاطراد الظهور ، واقتران دعوتهم ببراهين الصدق ، وحسن العاقبة ، وبقاء لسان الصدق لهم في العالمين ([15] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn15)) .
ولا يعتبر دليل حسن العاقبة نوعًا مستقلاًّ عن أدلّة النبوّة المشهورة؛ لأنّه يندرج ضمن دليل المسلك الشخصي؛ الَّذي هو عبارة عن الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأخباره ، وصفاته وأحواله على صدقه وصحّة دينه ؛ أي أنَّهُ يدور على ثلاثة محاور كبرى ؛
أحدها : الاستدلال بذات النبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كاستدلال سلمان الفارسي t بخاتم النبوّة على صدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([16] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn16)) ، وكاستدلال عبد اللّه بن سلام t بهيئة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ؛ كما يدلّ لذلك قوله : (( فَلَمَّا اسْتَبَنْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ))([17] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn17)) ؛ وهذا المعنى ما قصده حسّان بن ثابت t في قوله : ـ
لو لم تكن فيه آيات مبينةُ .... كانت بداهته تنبيك بالخبر([18] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn18))
أي أنَّ بداهته صلى الله عليه وسلم تدلّ على صدقه ؛ وهي أوّل ما يظهر للنّاظر من وجههصلى الله عليه وسلم ، ومنظره ، ونوره ، وبهائه ([19] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn19)) .
والثّاني : الاستدلال بأخبار الأنبياء على صدقهم ؛ فإنّ خاصّة النبوّة الإنباء الصادق عن الغيب ؛ كإخبار النَّبيّ صلى الله عليه وسلم عن فتح بلاد فارس والروم ، وعما سيحصل لأصحابه ، وأمّته من الفتن ، ثُمَّ جاء الواقع مطابقًا لخبره ، فدلّ يقينًا على صدقه ، وصحّة نبوّته ([20] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn20)) . ومن هذا الباب الاستدلال بما تحقّق من وعد الأنبياء ووعيدهم على صدقهم ؛ فالأنبياء وعدوا أتباعهم بالنصر والتمكين ، وأوعدوا أعداءهم بحلول العقوبات ، فأنجز اللّه عداتهم ، وصدق أخبارهم ، كما قال تعالى : } ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ {[ الأنبياء : 9 ] ؛ فكان ذلك الصدق في أخبارهم أكبر برهان على نبوّتهم ، وصحّة دينهم .
والإخبار عن الغيب لا يختصّ بالغيوب الآتية ، وإنّما يشمل الإخبار عن الغيوب الماضية ([21] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn21)) ؛ ولهذا كان إخبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عمَّا حلّ بالأمم السّابقة من أنواع العقوبات إخبار من شاهدها وحضرها برهانًا ظاهرًا على نبوّته ، وبخاصّة أنَّهُ أمي نشأ في أمّة أميّة لا تعلم شيئًا يذكر عن أصحاب المَثُلات([22] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn22)) ، قال تعالى : } تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا {[ هود : 49 ] ، وقال : } وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ {[ العنكبوت : 48 ] ، وقال : } فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ {[ يونس : 16 ] ؛ فدلّ على أنَّ إخباره الصادق عن الغيب عامّة ، وعن عقوبات الأمم خاصّة لم يكن عن تعلّم أو تطلّع وإنّما كان بوحي أوحاه إليه علاّم الغيوب ([23] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn23)) .
والثّالث : الاستدلال بخصائص الأنبياء وصفاتهم على صدقهم ؛ كما استدلّ هرقل بصفات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صدقه ، روى البخاريّ بسنده عن ابن عَبَّاسٍ ـ رضي اللّه عنهما ـ قال : (( حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ مِنْ فِيهِ إِلَى فِيَّ ، قَالَ : انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّأْمِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى هِرَقْلَ ... ، فَقَالَ هِرَقْلُ : هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالُوا : نَعَمْ . قَالَ : فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ ، فَأُجْلِسْنَا بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : أَنَا ([24] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn24)) . فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي ، ثُمَّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ : قُلْ لَهُمْ : إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ . قَالَ أَبُو سُفْيَانَ : وَايْمُ اللَّهِ لَوْلاَ أَنْ يُؤْثِرُوا عَلَيَّ الْكَذِبَ لَكَذَبْتُ ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ : سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قُلْتُ : هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ ، قَالَ فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ ، أَيَتَّبِعُهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ([25] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn25)) ، قَالَ : يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ ؟ قُلْتُ : لاَ بَلْ يَزِيدُونَ ، قَالَ : هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ([26] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn26)) ؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قُلْتُ : تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً يُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْهُ قَالَ فَهَلْ يَغْدِرُ قُلْتُ : لاَ ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا ، قَالَ : وَاللَّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ قَالَ : فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قُلْتُ : لاَ ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ : قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ فَزَعَمْتَ : أَنْ لاَ فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ ، وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ : بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؛ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ، فَزَعَمْتَ : أَنْ لا ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ، فَزَعَمْتَ : أَنَّهُمْ يُزِيدُونَ ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّكُمْ قَاتَلْتُمُوهُ ، فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً ؛ يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ لاَ يَغْدِرُ ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ ، فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمَّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ . قَالَ ثُمَّ قَالَ : بِمَ يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ قُلْتُ : يَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ ، قَالَ : إِنْ يَكُ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا فَإِنَّهُ نَبِيٌّ ))([27] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn27)) ، وفي رواية للبخاري أيضًا : (( هَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ ، وَلَكِنْ لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِنْكُمْ ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ ))([28] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn28)) ، وفي رواية ابن الناطور ([29] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn29)) : (( فَقَالَ هِرَقْلُ : هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ ، ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ ، فَلَمْ يَرِمْ ([30] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn30)) حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ ))([31] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn31)) ؛ فاستدلّ هرقل بصفات النَّبيّ صلى الله عليه وسلم وأحواله على صدق نبوّته ، وازداد يقينًا بشهادة صاحب رومية ، حتَّى إنّه عرض الإسلام على عظماء الروم ، ورغّبهم في الدخول فيه ([32] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn32)) ، وكان من جملة ما استدلّ به من أحوال النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ابتلاؤه مع قومه ؛ لأنّ الرُّسل ( تُبْتَلَى ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ ) ؛ قال تعالى : } إنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ {[ هود : 49 ] ، وقال : } وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإ الْمُرْسَلِينَ {[ الأنعام: 34 ] ، وقال : } حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ([33] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn33)) جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ {[ يوسف : 110 ] ؛ فخاصة الأنبياء اقتران دعوتهم بحسن العاقبة فعلاً وقولاً ؛ فلهم النصر والنجاة عند حلول المَثُلات ، ولهم لسان الصدق في الآخرين ؛ قبولاً ، ومحبّة ، وثناءً ، ودعاء ، وصيتًا باقيًا إلى يوم القيامة ([34] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn34)) .
وبرهان حسن العاقبة لا يختصّ بمن وقعت العقوبة لأجله من الرسل ، وإنّما يدلّ على صدق من قبله ومن بعده من الرسل ؛ لاتّفاقهم في العقائد وأصول الشرائع ؛ فما يدلّ على صدق أحدهم فإنّه يدلّ على صدق سائرهم ؛ ولهذا كان كفر أصحاب المثلات برسولهم بمنزلة الكفر بجميع الرسل ، قال تعالى : } وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ {[ الفرقان : 37 ] ، وقال : } كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ {[ الشعراء : 123 ] ، وقال : } وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ {[ الحجر : 80 ] ، وقال : } كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ {[ الشعراء : 176 ] ؛ فنزّل كفرهم برسولهم منزلة الكفر بالجميع ، لوحدة مقاصد الرسل ، وأصول دينهم ؛ قال الحسن البصري : (( إن الآخر جاء بما جاء به الأوّل ، فإذا كذبوا واحدًا فقد كذبوا الرسل أجمعين ))([35] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn35)) .
وكذلك لا يختص دليل حسن العاقبة بزمن الرِّسالة ، أو حال التحدي ، كما يشترط ذلك المتكلمون في دليل النبوّة ([36] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn36)) ؛ لأنّ الدّليل لا يشترط أن يكون في محلّ المدلول عليه ، ولا في زمانه ، ولا في مكانه ؛ فيجوز أن تكون آية النبوّة سابقة ؛ كالبشارة والإرهاص ([37] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn37)) ، ويجوز أن تكون متراخية ومستمرة إلى يوم القيامة ؛ ككرامات أتباع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ([38] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn38)) ، والعقوبات الَّتي تحيق بأعدائهصلى الله عليه وسلم ([39] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn39)) ؛ يقول ابن تَيْمِيَّة : (( من آيات النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما هو باق إلى يوم القيامة ؛ كالقرآن ، وكالعلم والإيمان الَّذي في أتباعه ، وكشريعته الَّتي أتى بها ، وكالآيات الَّتي يظهرها اللّه وقتًا بعد وقت من كرامات الصالحين من أمّته ، ووقوع ما أخبر بوقوعه ، وظهور دينه بالبرهان والسنان ، ومثل المَثُلات الَّتي تحيق بأعدائه وغير ذلك ))([40] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn40)) .
وهذا الاستمرار في هذا الضّرب من الآيات ضروري لإقامة الحجّة على الخلق ؛ فإنّ اللّه لا بُدّ أن يري أهل كلّ قرن من الآيات ما يدلّهم على صدق رسله ، وصحّة دينهم ، حتَّى كأنّ أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره . وهذا مقتضى حكمة الرب ورحمته وعدله ووعده الصادق([41] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn41)) ، قال تعالى : } سَنُرِيهِمْ ءَايَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ {[ فصّلت : 53 ] ؛ يقول ابن القيّم : (( هذه الإرادة لا تختص بقرن دون قرن ، بل لا بُدّ أن يري اللّه سبحانه أهل كلّ قرن من الآيات ما يبين لهم أنَّهُ اللّه الَّذي لا إله إلاّ هو ، وأن رسله صادقون ))([42] (http://www.ahlalhdeeth.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=58#_ftn42)) .
ــــــــــ
([1]) ملاحظة هذا الأصل ظاهرة في مصنّفات السّلف واستدلالاتهم ؛ فالبخاري مثلاً ابتدأ كتابه ببدء الوحي ؛ لأنّه أصل علم الرّسل ، ثُمَّ بكتاب الإيمان الَّذي هو الإقرار بما جاءت به الرّسل ؛ لأنّه أصل دين أتباعهم ، ثُمَّ بكتاب العلم الَّذي هو معرفة الإيمان قولاً وعملاً .. وهكذا .
وكذلك الشأن في استدلالاتهم ؛ فقد كانوا يستدلون ببراهين النبوّة على وجود الرب وصفاته وأفعاله ؛ لأنّ ثبوت النبوة يوجب تصديق أخبارهم ، واتّباعهم فيما يدعون إليه من التوحيد والأعمال . انظر : مجموع الفتاوى لابن تَيْمِيَّة 2/1 ـ 7 ، درء التَّعارض لابن تَيْمِيَّة 8/351 ، 352 ، الصواعق المرسلة لابن القيّم 3/1197 ، 1198 .
([2]) انظر : المفردات للراغب ص68 ، تفسير القرطبي 17/260 ، تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 7/301 .
([3]) صحيح البخاريّ : كتاب فضائل القرآن ، باب كيف نزل الوحي ( فتح الباري 9/3 ، ح4981 ) .
وانظر : صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ح ( 217 ) .
والحديث يدلّ على أنَّ الآية لازمة حتَّى للنبي ، ويدلّ أيضًا على أنَّ دليل النبوّة يطلق عليه شرعًا آية ، أو بيّنة ، أو برهان كما في هذه النّصوص ونظائرها ، وكما في كلام السّلف ، يقول ابن مسعود : (( كنّا نعدّ الآيات بركة )) . وهذا أولى ممّا درج عليه كثير من العلماء من إطلاق المعجز ، أو الخارق على دليل النبوة ؛ لأنّ الإعجاز ، أو خرق العادة شرط في دليل النبوة ، ولازم له ؛ ولازم الشيء قد يكون أعمّ منه ، فلا يختصّ به ، ويميّزه عن غيره . انظر : الجواب الصّحيح لابن تَيْمِيَّة 5/412 ـ 420 ، النبوات2/773 ـ 777 ، 785 ، 828 ، 829 ، فتح الباري 6/587 .
([4]) فتح الباري 9/6 .
([5]) انظر : تيسير الكريم الرحمن لابن سعدي 5/565 ، 566 .
([6]) انظر : النبوّات لابن تَيْمِيَّة 2/684 .
([7]) كبعض أوجه الإعجاز في القرآن الكريم .
([8]) انظر : شرح العقيدة الأصفهانية لابن تَيْمِيَّة ص88 ـ 157 .
([9]) التبيان في أقسام القرآن ص187 .
([10]) الجواب الصّحيح لابن تَيْمِيَّة 6/426 ، 427 [ بتصرّف ] ، وانظر : مجموع الفتاوى 17/119 ، تفسير ابن كثير 3/244 ، 373 ، 463 .
([11]) انظر : مفتاح دار السّعادة لابن القيّم 2/13 ، الأدلّة العقليّة للعريفي ص500 .
([12]) انظر : الجواب الصّحيح 6/393 ، النبوّات 1/512 ، 534 ـ 545 ، 2/738 .
والدلالة العقليّة هي : أن يجد العقل بين الدال والمدلول علاقة ذاتيّة تنقله من أحدهما إلى الآخر ؛ كدلالة الأثر على المؤثّر . والدلالة الوضعيّة هي أن يكون بين الدال والمدلول علاقة الوضع ؛ كدلالة اللَّفظ على المعنى . انظر : التعريفات للجرجاني 104 ، 105 ، 252 ، 253 ، المعجم الفلسفي لجميل صليبا 1/563 ، 564 .
([13]) انظر : شفاء العليل لابن القيّم ص333 .
([14]) انظر : الجواب الصّحيح 6/419 ، النبوّات 2/684 .
([15]) انظر : الجواب الصّحيح 6/413 ـ 426 .
([16]) انظر : المسند للإمام أحمد ، باقي مسند الأنصار ، ح ( 22598 ، 22620 )
([17]) سنن ابن ماجه : كتاب إقامة الصَّلاة ، ح ( 1324 ) . والحديث إسناده صحيح . انظر : سلسلة الأحاديث الصّحيحة للألباني 2/109 ، ح ( 569 ) .
([18]) ديوان حسان بن ثابت 1/315 . وقد نسبه ابن حجر لعبد اللّه بن رواحة . انظر : الإصابة 4/75 .
([19]) انظر : تهذيب اللّغة للأزهري 1/296 ، 297 ، مختصر الصواعق للموصلي 3/1058 .
([20]) انظر : صحيح البخاريّ بشرحه فتح الباري 6/604 ـ 631 .
([21]) انظر : البرهان للزركشي 2/96 .
([22]) انظر : تفسير ابن كثير 2/449 ، 3/391 .
([23]) انظر : إيثار الحق لابن الوزير ص80 .
([24]) وفي رواية للبخاري قال قيصر : ما قرابة ما بينك وبينه ؟ فقلت : هو ابن عمّ . وليس في الرَّكب يومئذ أحد من بني عبد مناف غيري . صحيح البخاريّ : كتاب الجهاد ، باب دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام . ( فتح الباري 6/109 ) ، فأبو سفيان يلتقي مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، وهو الأب الرابع للنّبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ فأطلق عليه ابن عمّه ؛ لأنّه نزّل كلاّ منهما منزلة جدّه ، وعبد المطّلب بن هاشم ابن عمّ أميّة بن عبد شمس . وخصّ هرقل الأقرب لأنّه أحرى بالاطلاع على ظاهر النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وباطنه ، فتكون إجاباته مطابقة للواقع تمامًا . انظر : فتح الباري لابن حجر 1/34 ، 35 .
([25]) هذا محمول على الأعمّ الأغلب ، حتَّى لا يَرِد أبو بكر وعمر وأمثالهما ممّن أسلم من الأشراف قبل هذا السؤال . انظر : فتح الباري لابن حجر 1/35 .
([26]) هذا القيد يخرج من ارتدّ مكرهًا ، أو لهوى في النفس لا سخطة للدين ؛ كما وقع لعبيداللّه بن جحش ؛ ولهذا لم يعرج أبو سفيان على ذكره مع أنَّهُ صهره . انظر : فتح الباري 1/35 ، 8/218 .
([27]) صحيح البخاريّ : كتاب التّفسير ، باب قوله : قل يا أهل الكتاب ... الآية ( فتح الباري 8/214 ـ 216 ) ، وانظر : صحيح مسلم : كتاب الجهاد ، باب كتب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ( شرح النَّوويّ 12/103 ـ 112 ) .
([28]) صحيح البخاريّ : كتاب الجهاد ، باب دعوة اليهود والنصارى ( فتح الباري 6/110 ) .
([29]) ابن الناطور أو ناطوراء كان سُقُفًّا على نصارى الشام وقت الحادثة ، ثُمَّ أسلم ، ولقيه الزهري بدمشق زمن عبد الملك بن مروان ، وروى عنه هذه الرواية . انظر : فتح الباري 1/40 ، 41 .
([30]) بفتح الياء ، وكسر الراء ؛ أي لم يبرح مكانه . انظر : فتح الباري 1/42 .
([31]) صحيح البخاريّ : كتاب بدء الوحي ( فتح الباري 1/33 ) .
وهذه الروايات تدلّ على جزم هرقل بصدق النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولكنّه لم يذعن لما عرفه قلبه ؛ خوفًا على مُلكه ، أو خوفًا من قومه أن يقتلوه كما فعلوا بضغاطر ، صاحب رومية ، حين صدّق النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم واتّبعه ، وتبرأ من النصرانية . ولما كاتب النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هرقل وهو في تبوك أجاب بأنَّهُ مسلم ، فقال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كذب عدو اللّه ليس بمسلم . وهذه الرواية الثابتة تدلّ على صحّة مذهب السّلف وبطلان مذهب المرجئة ؛ فإن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحكم له بالإسلام بمجرّد قول القلب أو اللّسان ؛ لأنّه لم يذعن لما عرف من الحقّ ، وتدلّ أيضًا مع مجموع روايات الحادثة على ضعف ما ذكره ابن حجر من أن هرقل أقرّ ولم يستمر ، أو أن أمره كان مستبهمًا ؟ ولهذا ختم به البخاريّ كتاب الوحي الَّذي استفتحه بحديث الأعمال بالنيات ؛ إيماء إلى أنَّهُ إن صدقت نيّته انتفع وإلا خسر . انظر : تاريخ الطبري 2/649 ـ 652 ، فتح الباري 1/33 ، 37 ، 42 ـ 45 ، الإصابة 3/405 ـ 406 .
([32]) انظر : فتح الباري 1/33 .
([33]) الظن متعلّق بالمرسل إليهم لا بالرسل ؛ لأن الرسل لا يجوز عليهم الشك في وعد اللّه ووعيده مع معاينة حجج اللّه وبراهينه ؛ أي ظنّ الأتباع أو المكذِّبون أنَّ الرسل قد أخلفوا فيما وعدوا به من النصر ، وإهلاك الأعداء . وهذا قول ابن عبّاس وسعيد بن جبير وغيرهم واختاره الطبري ، وقيل غير ذلك . انظر : تفسير الطبري 13/82 ـ 87 ، تفسير ابن كثير 2/497 ، 498 .
([34]) انظر : تفسير ابن كثير 3/338 ، إيثار الحق لابن الوزير ص55 ، صفوة البيان لحسنين مخلوف 2/110 .
([35]) نقلاً عن تفسير البغوي 3/392 ، وانظر : تفسير القرطبي 10/46 ، تفسير ابن كثير 2/450 ، 3/318 .
([36]) انظر : حاشية الدسوقي على أم البراهين ص176 ، 177 ، شرح الجوهري للبيجوري ص133 .
([37]) من المثلات المشهورة الَّتِي كانت إرهاصًا لنبوّة نبيّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مثلة أصحاب الفيل ، فقد وقعت عام ولادة النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم على الصَّحِيح ؛ تمهيدًا لشأنه ، ودلالة على نبوّته ، ولا صحّة لما ذكره الصاوي من أنّ ذلك كان ببركة النّور المحمدي الَّذِي كان في أصلاب آبائه . انظر : تفسير القرطبي 20/194 ، 195 ، روح المعاني للآلوسي 30/298 ، حاشية الصاوي على الجلالين 4/479 ، تفسير ابن سعدي 7/674 .
([38]) كرامات الأولياء على الصّحيح من قولي العلماء تعتبر من آيات الأنبياء الصغرى ؛ لأنهم إنّما نالوا الكرامة ببركة اتباع النَّبيّ صلى الله عليه وسلم . انظر : النبوات لابن تَيْمِيَّة 2/823 ، 1084 .
([39]) انظر : النبوات لابن تَيْمِيَّة 2/794 ، 853 ، 984 ، 985 ، الجواب الصّحيح لابنتَيْمِيَّة 6/408 ، 409 .
([40]) الجواب الصّحيح 5/420 ، 421 [ بتصرف ] .
([41]) انظر : التبيان لابن القيّم ص187 .
([42]) المرجع السّابق .