المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مغالطات للشيخ محمد قطب حفظه الله



متروي
09-02-2011, 03:09 AM
مغالطــات!



للشيخ/ محمّد قطب حفظه الله





مغالطات!

· مقدمة
· العودة إلى القرون الوسطى
· الحكومة الدينية
· العقلانية
· موقفنا من الآخر
· الحداثة
· ما بعد الحداثة




بسم الله الرحمن الرحيم



(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (البقرة: 213).

مقدمة

منذ فترة داومت على قراءة بعض الصحف التي تنشر الفكر العلماني وتدعو إليه، وتقوم في الوقت ذاته بهجوم منظم على الفكر الإسلامي "الرجعي" "الظلامي" "القروسطي"[1] "الشمولي" "الدكتاتوري" "الاستئصالي" "الأصولي" "الأحادي" "المنغلق".. فوجدت مجموعة من المغالطات تردد بانتظام بالنسبة إلى الإسلام وفكره وتطبيقه وتاريخه، مقيسا في كل مرة بما حدث في أوربا، سواء في قرونها الوسطى المظلمة، أو في عهد التنوير، أو في عهد الحداثة، بنتيجة واحدة في النهاية: هي أنه قد آن لهذا الدين أن ينتهي دوره في الأرض، ويخلى مكانه للفكر الحديث "المبدع" "الخلاق" "المتنور" المتحرر" الذي يمثل انطلاقة "الإنسان" من القيود..

وذكرتني هذه الجولة بجولة سابقة في مصر في فترة من الفترات، دأبت فيها بعض الصحف يومئذ على نشر الفكر الدارويني والفكر الماركسي ونظريات فرويد ودور كايم، بهدف واضح هو زعزعة العقيدة الإسلامية في نفوس معتنقيها، وجرّهم إلى العبودية للغرب، باسم التحضر والترقي والتقدم، والانطلاق المبدع الخلاق!

ولما تعرضت في كتبي –منذ الخمسينيات في القرن الماضي –للفكر الدارويني والفكر الماركسي ونظريات فرويد ودور كايم، كان "المثقفون" يستهولون ما فعلت، ويرونه "خَرَقاً" لا ينبغي للعاقل أن يقدم عليه! وظلوا كذلك حتى جاءهم من أوربا ذاتها ما جعل حماستهم تفتر لهذه الأفكار وتلك النظريات، حين تخلى عنها أصحابها الأصليون، وبيّنوا عوارها، ودخلوا في "أطوار" جديدة، فأصبحت تلك الأفكار والنظريات في ذمة التاريخ! وصار من شيمة المثقف التقدمي ألا يشير إليها على الإطلاق، فضلا عن أن يتحمس لها ويدعو إليها!

واليوم تأتي هذه الجولة..

ما أشبه الليلة بالبارحة..!

لقد بدا في وقت من الأوقات أن الجولة الأولى "التحررية" قد آتت ثمارها، وأن "الفكر الديني" قد انحسر وتوارى إلى غير رجعة. ولكنه فاجأ العالم كله –فضلا عن "المثقفين" العرب التحرريين- بعودة عارمة على الساحة، لا تتمثل في السذج البسطاء من العوام، ولكنها تتمثل أساسا في مثقفين تثقفوا بالثقافة الغربية، وتعاطوا العلم الحديث، وبرّزوا في جوانب كثيرة منه.. فهبّ العالم الغربي كله يحارب "الصحوة" تحت شتى المسميات وشتى المعاذير.. وقام "ألمثقفون" العرب من جانبهم ليؤدوا "واجبهم!" في مهاجمة الإسلام وفكره وتطبيقه وتاريخه، لعلهم بذلك يطفئون الجذوة، أو يحدون من "أخطارها"!

وما نريد –ابتداء- أن نتهم أحدا بسوء النية في هذه الحملة الضاربة على دين الله. وسنفترض –من أجل البحث العلمي الموضوعي- أن القائمين بالحملة مؤمنون حقاً بما يقولون، ويعتقدون حقاً أنه سبيل الرشاد! فنريد في هذه الوريقات أن نبين الأخطاء العلمية الموضوعية التي يقعون فيها حين يتخذون المفاهيم الأوربية والمعايير الأوربية منهجا لهم في الحديث عن الإسلام، والمغالطات –أو الأغاليط- التي تنشأ من ذلك، والتي لا يعتذر عنها حسن النية ولا الإخلاص؛ لأنها بالمقاييس العلمية الموضوعية العقلانية لا تستقيم ولا تثبت للنقاش.

ونقول، كما وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه" ونرجو من الله التوفيق.


محمد قطب

العودة إلى القرون الوسطى

كانت القرون الوسطى في أوربا عهد ظلام مطبق، امتد ما يقرب من عشرة قرون. وهي في حس الأوربي المعاصر مرتبطة بالدين.. أي أنها الفترة التي سيطر فيها الفكر الديني على الحياة في أوربا، والتي انتهت حين بدأ عصر "النهضة" الذي اتسم بدوره بنبذ الدين أو –في القليل- تحجيمه حتى يصبح "علاقة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا صلة لها بواقع الحياة".

والأوربي في هذه الرؤية منطقي مع ذاته، منطقي مع تاريخه وظروفه، كما أنه –إلى حدّ ما- معذور في رؤيته تلك، حسب تجربته الخاصة التي خاضها مع الدين[2].

ففي تلك الفترة من سيطرة رجال الدين على الحياة في أوربا وقعت مجموعة من المظالم -والظلمات- وكان الحل الذي توصلت إليه أوربا في النهاية لإزالة الظلم والظلمات هو إلغاء سيطرة الدين على الحياة، وتقليصها إلى آخر مدى مستطاع.

ولنتتبع –في خطوات سريعة- هذا التاريخ.

إلى أن دخل قسطنطين في النصرانية –أو ادعى الدخول فيها- كان النصارى في الدولة الرومانية الوثنية يسامون سوء العذاب: يقتّلون ويشردون ويعذّبون. يحرقون أحيانا في النار أحياء، أو يلقى بهم إلى السباع الجائعة، أو تلهب ظهورهم بالسياط..

ثم تغير الحال حين اعتنق قسطنطين النصرانية، أو ادعى اعتناقها كما يقول فريق من المؤرخين الأوربيين أنفسهم، بهدف سياسي هو المحافظة على وحدة الإمبراطورية الرومانية التي كان النزاع بين الوثنيين والمعتنقين للنصرانية فيها يوشك أن يهز كيان الدولة كله.

منذ ذلك الحين بدأ نفوذ رجال الدين يزداد، وبدأ الدين يأخذ مكانه في حياة الناس. ولكن ما الدين الذي عرفته أوربا، ومارست تجربتها الدينية من خلاله في قرونها الوسطى المظلمة؟

إن كل رسالة جاءت من عند الله كانت عقيدة وشريعة. عقيدة في الله الواحد الذي لا شريك له، وشريعة تنظم حياة البشر في الأرض بمقتضى المنهج الرباني، وأوضح ما يكون هذا في الرسالات الثلاث الأخيرة: التوراة والإنجيل والقرآن.

(إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ، وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة 44-50).

ولكن ظروفا تاريخية حالت دون تطبيق الشريعة التي أنزلها الله في الإنجيل خلال القرون الثلاثة الأولى من تاريخ النصرانية، حيث كان النصارى مستضعفين في قبضة الدولة الرومانية الوثنية التي تحارب دين الله بضراوة، وتتعقب المؤمنين به بالقتل والتعذيب والتشريد. ولكن منذ القرن الرابع –وابتداء من 325م- حدث تحول هائل في تاريخ النصرانية، حين اعتنق قسطنطين الدين الجديد، وتنامى نفوذ الكنيسة حتى أصبح البابا هو الذي يعين الأباطرة ويعزلهم، وأصدر أحد البابوات –وهو نيقولا الأول –بيانا قال فيه: "إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها، وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل، ولذلك فإن البابا –ممثل الله على ظهر الأرض- يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين، حكاما كانوا أو محكومين"[3].

عندئذ لم يعد للكنيسة عذر في عدم تحكيمها شريعة الله المنزلة في الإنجيل، وتركها القانون الروماني يحكم في أرجاء الدولة الرومانية بدلا من شريعة الله، ولكنها هكذا فعلت في واقعها التاريخي.

وحين فعلت ذلك فقد تسببت في لونين من ألوان الفساد الذي خيم على الناس في أوربا، في عصورها الوسطى المظلمة.

فكل دين يمارس عقيدة فقط بلا شريعة يتحول رجاله إلى "كهنة" ووسطاء بين العبد والرب، لهم سلطان على أرواح الناس وقلوبهم، رضاهم من رضا الرب، وسخطهم من سخط الرب، ولهم قداسة في حس الناس. وهذا ما حدث بالفعل في أوربا النصرانية حيث أصبح "رجال الدين" كهنة، وصار لهم ذلك السلطان الطاغي الذي كان لهم على قلوب الناس وأرواحهم في العصور الوسطى، ابتداء من كاهن الأبرشية –أصغر رجال الدين شأنا- إلى قداسة البابا ممثل الله على ظهر الأرض.

ولكن الطغيان الذي نشأ ابتداء من تحول رجال الدين إلى كهنة، وصيرورتهم وسطاء بين العبد والرب، لم يكن –بطبيعته- ليقف هناك عند عالم الأرواح والقلوب، إنما كان من شأنه أن يمتد إلى ميادين أخرى، كما هي طبيعة الطغيان في جميع العصور!

لقد استأثرت الكنيسة بتفسير "النص الديني"، وزعمت أنه يحتوي على "أسرار"، وأن الكنيسة وحدها هي التي تعلم حقيقة هذه الأسرار، وأن الناس لا ينبغي لهم التفكير فيها والتفتيش عنها، لأنهم عاجزون عن إدراكها، ومهمتهم هي التسليم المطلق بمقولات الكنيسة، وإلا فهم مهرطقون ينالهم العقاب في الدنيا والآخرة. وأصبح الشعار المرفوع: آمن ولا تناقش! وبذل تم الحجر على العقل البشري، الذي استمر عدة قرون، حتى جاءت "النهضة" وجاء عهد "الإصلاح".

وفي أثناء ذلك كان قد اتسع مجال الطغيان، فتولد عنه طغيان مالي، وطغيان سياسي، وطغيان علمي..

فأما الطغيان المالي فقد تمثل في "العشور" التي تحبيها الكنيسة من أموال الناس، لا لتنفق على الفقراء كما أمر الله، ولكن لتمتلئ بها جيوب رجال الدين، ويغرقوا بها في الترف والفساد، بالإضافة إلى الهبات، والإتاوات التي يأخذونها من الأغنياء، والسخرة التي فرضوها على الفلاحين المعدمين، إذ يعملون في يوم راحتهم –يوم الأحد- في حقول الكنيسة سخرة بغير أجر!

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (سورة التوبة: 34).

وأما الطغيان السياسي فتمثل في سطوتهم التي كانوا يرهبون بها الأباطرة والأمراء لكي يستجيبوا لرغباتهم، ويخضعوا لأهوائهم. مهدَّدين-إذا لم يفعلوا ذلك- بالعزل والحرمان.

وأما الطغيان العلمي فقد كان كما يقال: القشة التي قصمت ظهر البعير!

فقد قام علماء –ممن تأثروا في الحقيقة بالعلوم الإسلامية- يعلنون أن الأرض كروية، وأنها ليست مركز الكون، فقامت الكنيسة بمحاربتهم، بوصفهم كفارا ملحدين لمخالفتهم ما جاء في التوراة من أن الأرض منبسطة، وحكمت على ثلاثة منهم بالحرق في النار أحياء، ونفذت الحكم بالفعل في أحدهم –"جور دانو برونو"- وأما ثانيهم –"كوبرنيكوس"- فقد مات قبل أن ينفذ فيه حكم الحرق، وأما الثالث –"جاليليو" فقد ارتد عن أفكاره ظاهرا، لينجو من الحرق، ولكنه على فراش الموت ظل يردد: الأرض كروية. الأرض كروية.. حتى مات!

ولقد كانت كل أفعال الكنيسة تلك ظلما وطغيانا، ولكن ربما كان الطغيان العلمي أشد ما أثر في مجرى الأحداث.

وبصرف النظر عن "التعتيم الإعلامي" الذي تمارسه المراجع الأوربية عن السبب الحقيقي في ثورة الكنيسة على هذه الأفكار العلمية، وهو أنها أفكار إسلامية جاءت من التتلمذ المباشر من علماء الغرب على العلوم الإسلامية في الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام، سواء بتعلم اللغة العربية أو بالترجمة إلى اللاتينية، لغة العلم في أوربا يومئذ.. بصرف النظر عن هذا التعتيم فإنه تبقى هناك حقيقة واقعة، وهي أن الكنيسة وقفت ضد التقدم العلمي بضراوة بالغة، وعدّته لونا من ألوان الكفر لا يسعها السكوت عليه!

يقول المؤرخ البريطاني ويلز عن ألوان الطغيان التي مارستها الكنيسة:

"فأصبح قساوستها وأساقفتها على التدريج رجالا مكيفين وفق مذاهب اعتقادية حتمية، وإجراءات مقررة وثابتة.. ولم تعد لهم بعد رغبة في رؤية مملكة الرب موطدة في قلوب الناس، فقد نسوا ذلك الأمر، وأصبحوا يرغبون في رؤية قوة الكنيسة –التي هي قوتهم هم- متسلطة على شئون البشر.. ونظرا لأن كثيرا منهم كانوا على الأرجح يسرون الريبة في سلامة بنيان مبادئهم الضخم المحكم، وصحته المطلقة، لم يسمحوا بأية مناقشة فيه. كانوا غير لا يحتملون أسئلة ولا يتسامحون في مخالفة، لا لأنهم على ثقة بعقيدتهم، بل لأنهم كانوا غير واثقين بها"[4].

ثم يقول:

"كان هذا التعصب الأسود القاسي روحا خبيثة لا يجوز أن تخالط مشروع حكم الله في الأرض، وإنه لروح يتعارض تماما مع روح يسوع الناصري. فما سمعنا قط أنه لطم الوجوه أو خلع المعاصم لتلاميذه المخالفين له أو غير المستجيبين لدعوته. ولكن البابوات كانوا طوال قرون سلطانهم في حنق مقيم ضد من تحدثه نفسه بأهون تأمل في كفاية الكنيسة الذهنية.

"ولم يقتصر تعصب الكنيسة على الأمور الدينية وحدها، فإن الشيوخ الحصفاء، المولعين بالأبهة، السريعي الهياج، الحقودين، الذين من الجلي أنهم كانوا الأغلبية المتسلطة في مجالس الكنيسة، كانوا يضيقون ذرعا بأية معرفة عدا معرفتهم، ولا يثقون بأي فكر لم يصححوه ويراقبوه، فنصبوا أنفسهم للحد من العلم، الذي كانت غيرتهم منه بادية للعيان، وكان أي نشاط عقلي عدا نشاطهم يعد في نظرهم نشاطا وقحا"[5].

ولم تقف مظالم الكنيسة وظلماتها عند هذا الحد..

فإذا أضيف إلى القائمة فساد رجال الدين، وغرقهم في الترف الفاجر في الوقت الذي ينهون فيه الناس حتى عن المتاع المباح، مما حفلت به مراجعهم التاريخية.. وإذا أضيفت فضائح الأديرة، أماكن التطهر والتعبد التي انقلبت مواخير يرتكب فيها ما يعف الرجل العادي عن ارتكابه.. وإذا أضيفت مهزلة صوك الغفران التي تباع فيها قطع من الجنة لمن يدفع الثمن للبابا وكبار قساوسته.. وإذا أضيفت أخيرا محاكم التفتيش وفظائعها، أمكن أخذ صورة تقريبية لألوان الظلم والظلمات التي عاشتها أوربا في قرونها الوسطى المظلمة من خلال تجربتها الدينية.

يقول "ول ديورانت" في فصل بعنوان "أخلاق رجال الدين" من كتاب "قصة الحضارة":

"لقد كان يسع الكنيسة أن تحتفظ بحقوقها القدسية المستمدة من الكتب المقدسة العبرية والتقاليد المسيحية لو أن رجالها تمسكوا بأهداب الفضيلة والورع.. ولكن كثرتهم الغالبة ارتضت ما في أخلاق زمانها من شر وخير، وكانوا هم أنفسهم مرآة ينعكس عليها ما في سيرة غير رجال الدين من أضداد.."

ثم يقول بعد أن يستشهد ببعض ما سجله الأدب الإيطالي من أحوال رجال الدين في ذلك العصر:

".. "فبوكاتشيو" يتحدث عما في حياة رجال الدين من دعارة وقذارة ومن انغماس في الملذات طبيعية كانت أو غير طبيعية.. ووصف "ماستشيو" الرهبان والإخوان بأنهم خدم الشيطان، منغمسون في الفسق واللواط، والشره، وبيع الوظائف الدينية، والخروج على الدين، ويقر بأنه وجد رجال الجيش أرقى خلقا من رجال الدين. وها هو ذا "أرتينيو" الذي لم يتورع عن أية قذارة يسخر من الطابعين بقوله إن أخطاءهم لا تقل عن خطايا رجال الدين..! ويكاد "بجيو" يفرغ كل ما عرفه من ألفاظ السباب في التشنيع على فساد أخلاق الرهبان والقسيسين، ونفاقهم، وشرههم، وجهلهم، وغطرستهم، ويقص "فولينجو" في كتاب "أرلندينو" هذه القصة نفسها. ويبدو أن الراهبات ملائكة الرحمة في هذه الأيام كان لهن نصيب من هذا المرح، وأنهن كن رشيقات في البندقية بنوع خاص، حيث كانت أديرة الرجال والنساء متقاربة قربا يسمح لمن فيها بالاشتراك من حين إلى حين في فراش واحد. وتحتوي سجلات الأديرة على عشرين مجلدا من المحاكمات بسبب الاتصال الجنسي بين الرهبان والراهبات. ويتحدث "أرتينيو" عن راهبات البندقية حديثا لا تطاوع الإنسان نفسه على أن ينطق به. و"جوتشيارديني" الرجل الرزين المعتدل عادة يخرج عن طوره ويفقد اتزانه حين يصف رومة فيقول: أما بلاط رومة فإن المرء لا يستطيع أن يصفه بما يستحق من القسوة، فهو العار الذي لا ينمحي أبد الدهر، وهو مضرب المثل في كل ما هو خسيس مخجل في العالم"[6].

ويقول المؤرخ البريطاني ويلز:

"شهد القرن الثالث عشر تطور منظمة جديدة في الكنيسة هي محكمة التفتيش البابوية. ذلك أنه جرت عادة البابا قبل ذلك الزمان بأن يقوم في بعض الأحيان بتحقيقات أو استعلامات عن الإلحاد في هذا الإقليم أو ذاك، ولكن "إنوسنت الثالث" وجد الآن في عقد الرهبان الدومينيسكيين الجديد أداة قوية للقمع. ومن ثم نظمت محاكم التفتيش كأداة تحقيق مستديمة تحت إدارتهم. وبهذه الأداة نصبت الكنيسة نفسها لمهاجمة الضمير الإنساني بالنار والعذاب، وعملت على إضعافه مع أنه مناط أملها الوحيد في السيادة على العالم. وقبل القرن الثالث عشر لم تنزل عقوبة الإعدام إلا نادرا بالملاحدة والكفار. فأما الآن فإن كبار رجال الكنيسة كانوا يقفون في مائة ساحة من ساحات الأسواق في أوربا ليراقبوا أجسام أعدائها –وهم في غالبية الأمر قوم فقراء لا وزن لهم- تحترق بالنار وتخمد أنفاسهم بحالة محزنة، وتحترق وتخمد معهم في نفس الحين الرسالة العظمى لرجال الكنيسة إلى البشرية، فتصبح رمادا تذروه الرياح"[7].

* * *

ذلك كله وأسوأ منه كان من أفاعيل الكنيسة التي نشرت الظلم والظلام في قرون أوربا الوسطى المظلمة. ولكن المشكلة لم تكن تكمن في أفاعيل الكنيسة فحسب، بل في الصورة ذاتها التي اصطنعتها أوربا من الدين".

فقد تحول الدين أولا إلى رهبانية:

(وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [سورة الحديد: من آية 27].

وتحول ثانيا إلى تحقير للجسد، واعتباره –في ذاته- دنسا لا ينبغي للمؤمن الحق أن يستجيب لهواتفه أو يلتفت إلى نداءاته، بل عليه أن يكبتها من أجل صفاء الروح!

وتحول ثالثا إلى دين أخروي يهمل الحياة الدنيا وينهى عن الاشتغال بها، ويعتبر رعايتها والاهتمام بشئونها نقصا في الإيمان من جهة، وتدنيسا لطهارة الروح من جهة أخرى، وتعطيلا لها عن التحليق إلى الملكوت!

وتحول رابعا إلى تحقير "للإنسان" من حيث هو إنسان، ودعوة له أن يستشعر عظمة الله من خلال تحقيره لنفسه، والتيقن بأن اعتزازه بأي شيء في كيانه الإنساني إن هو إلا هاجس من عمل الشيطان عليه أن يتعوذ منه بالمزيد من التحقير لنفسه والإزراء بطاقاته.

وتحول خامسا إلى رضاء سلبي بالواقع، وعدم محاولة تغييره مهما كان ظالما أو مظلما، لأن محاولة تغييره تمرد على قدر الله من ناحية، ونقص في الإيمان من ناحية أخرى، يعرض صاحبه للحرمان من الأجر الذي يناله الصابرون في الآخرة.

وبالقطع فإن دين الله ليس كذلك! ولكنه هكذا صار على يد رجال الدين الأوربيين في العصور الوسطى.

وكانت نتيجة ذلك كله هي الانقلاب الرهيب الذي أحدثته "النهضة" في الحياة الأوربية. الانقلاب الذي نقل الناس من دين أخروي يهمل الحياة الدنيا إلى دين دنيوي يهمل الحياة الآخرة. من دين يعظّم الله بتحقير الإنسان إلى دين يؤله الإنسان بدلا من الله. من دين يحتقر الجسد ويكبت طاقاته إلى دين يمجد الجسد بكل نزواته ويرفض الضوابط. من دين يحجر على العقل إلى عقلانية تحجر على الدين. من دين بلا علم إلى علم بلا دين، ومن دين بلا حضارة إلى حضارة بلا دين!

ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن الانقلاب الذي أحدثته "النهضة" في الحياة الأوربية علينا أن نقف وقفة مهمة:

إذا كانت هذه هي تجربة أوربا مع دينها، فكيف كانت تجربة المسلمين مع دينهم في ذات الفترة من الزمان؟!

لقد كانت تجربة مختلفة تماما.. لا يكاد يجمع شيء على الإطلاق بينها وبين التجربة الأوربية! فحيث كان هناك الظلام كان هنا النور. وحيث كان هناك الجهل كان هنا العلم. وحيث كان هناك الانغلاق كان هنا الانفتاح. وحيث كانت هناك السلبية والركود كانت هنا الإيجابية والحركة الموارة في كل اتجاه! وحيث اقتضى العمل للآخرة هناك إهمال الحياة الدنيا كان الشعار هنا أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن عمارة بمقتضى المنهج الرباني هي هدف رئيسي من وجود الإنسان في الأرض. وحيث كان تقديس الله وتعظيمه هناك يتم من خلال تحقير "الإنسان" كان تقديسه وتعظيمه هنا يتم من خلال تكريم الإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق الله! وحيث كان تطهير الروح هناك يتم بكبت نوازع الجسد وقمعها كان تطهير الروح هنا يتم بممارسة الحياة كلها، في جميع جوانبها، بما فيها نشاط الجسد كله، وفقا للتعاليم الربانية، فتتم "تزكية النفس" من خلال النشاط الإيجابي لا من خلال الامتناع عن النشاط!

ولذلك قامت حضارة إسلامية من أزهى حضارات التاريخ، في ذات الفترة التي كانت أوربا تعيش في الظلمات، بل كان احتكاك أوربا بتلك الحضارة هو الدافع الرئيسي لنهضة أوربا، وسعيها الجبار للخروج من الظلمات:

يقول بريفولت في كتاب "بناء الإنسانية Making of Humanity":

"لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية[8] على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج.. إن العبقرية التي ولدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوربية. فعلى الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوربي إلا ويمكن إرجاعها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكوّن ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي[9].

وتقول: زيجريد هونكه العالمة الألمانية في كتابها "الله ليس كذلك"[10]:

"إن العالم العربي قد صار بلا ريب –كما أفضنا في كتابنا "شمس الله تشرق على الغرب" –مؤسس علوم الكيمياء العضوية. هذا ولم يتردد العرب بحال من الأحوال في امتحان الفروض اليونانية وإخضاعها لمعايير النقد العربية التجريبية –وكان معظم هذه القروض لا أساس له سوى التخمين –ولعديد من الاختبارات والتجارب، وصوبوا مئات ومئات من تلك الفروض العلمية الخاطئة، ولا بأس أن نكتفي هنا بثلاثة منها:

1- خطأى جالينوس اللذين بينهما المشرّح العربي عبد اللطيف، أحد أطباء صلاح الدين الأيوبي، وقد صوبهما.

2- فساد نظرية جالينوس حول وجود ثقب في الحجاب الحاجز في القلب، وبيان أنها خيال محض، على يد ابن نفيس الذي خلف عبد اللطيف في رئاسة المستشفى بالقاهرة، وتصويبه إياها باكتشافه الدورة الدموية الصغرى.

3- خطأ نظريتي إقليد (إقليدس) وبطليموس، الزاعمة أن العين تسلط نورها على المرئيات، بالتصويب العبقري لعالم البصريات ابن الهيثم مؤسس علم البصريات التجريبي، والذي وضع نظريات وقوانين عديدة في علم البصريات، مقدماً لأوربا نظرية تكاد تكون كاملة حول الأشعة، بما في ذلك الأسس التي يقوم عليها استخدام العدسات والمجاهر، وكافة أنواع المرايا، وآلة التصوير بالتعتيم الشمسي وكشافات الضوء الكهربية وغير ذلك.

"ولقد بلغت تلك العلوم والمخترعات والمكتشفات أوربا بواسطة الطرق الخمس التالية:

-عن طريق السفن والتجار وفرسان الحروب الصليبية وحجاج بيت المقدس والأماكن المقدسة للنصارى.

-صقلية العربية إبان خضوعها لحكم العرب مائتين وخمسين عاما دون انقطاع، وعن طريق صديق العرب الأكبر فيها القيصر فردريك من آل هوهن شتاوفن.

-إسبانيا والبرتغال (الأندلس) حيث خضعتا للعرب ثمانمائة عام.

-مترجمات مدرسة الترجمة العليا في طليطلة العربية.

-وعن طريق طلاب العلم المتقلبين بين الجامعات والبعثات واليهود الجوالين والحجاج والتجار.

وكما قيل حقا فإن إنجازات علماء العرب من أطباء وكيميائيين ورياضيين وفلكيين ومخترعاتهم الغنية، التي وصلت إلى أوربا إبان إحكام آباء الكنيسة قبضتهم عليها ليزداد تخلفها من سيئ إلى أسوأ، كل ذلك قد هطل على أوربا كالغيث على الأراضي الميتة فأحياها قرونا، وخصبها إبان ذلك من نواح متعددة، ودفعها دفعا قويا لكي تباشر بحوثها الخاصة بها"[11].

ويقول فون جرونيباوم في كتابه "إسلام القرون الوسطى Medieval Islam":

"وليس ثمة ميدان من ميادين الخبرة الإنسانية لم يضرب فيها الإسلام بسهم، ولم يزد ثروة التقاليد الغربية فيها غنى. فثمة الأطعمة والأشربة، والعقاقير والأدوية والسلاح والدروع ونقوشها، والفنون الصناعية والتجارية والبحرية، ثم بعد ذلك الأذواق والموضوعات الفنية، ودع عنك الحديث في المصطلحات العديدة في الفلك والرياضة -فإن قائمة تدل على المدى الكامل لمساهمة الإسلام في كل ذلك تستنفد صفحات عدة دون أن تبلغ ولو من بعيد درجة التمام. وإن نفس وجود العالم الإسلامي كان له أثر كبير في صوغ التاريخ الأوربي والحضارة الأوربية. وكانت الحروب الصليبية من كثير من النواحي أعظم مغامرة أقدم عليها الإنسان في العصور الوسطى وأبعدها أثرا. ذلك أن القصص الإسلامي والأخيلة الشعرية وفلسفة الغيبيات الإسلامية وجراءة المذاهب الصوفية الإسلامية، قد تركت جميعها آثارها ببلاد الغرب في القرون الوسطى. ولا شك أن أعظم رجالات اللاهوت وأعظم الشعراء في القرون الوسطى الأوربية مدينون للإسلام بأكبر الفضل في ناحيتي الإلهام والمادة جميعا.."[12].

* * *

إذن فقد كان هناك فارق ضخم بين ظلام القرون الوسطى في أوربا والإشراقة الضخمة للإسلام في ذات الفترة. وتفسير ذلك لا يغمض على الأفهام..

لم يكن الفاروق في نوعية البشر.. ولنضع في حسابنا أن الإسلام قد استوعب شعوبا مختلفة وأجناسا مختلفة –بعضها من أوربا ذاتها- صاروا كلهم مسلمين، وكانت لغتهم في تلك الفترة التي نتحدث عنها هي العربية، سواء احتفظ بعضهم بلغاتهم الأصلية أو لم يحتفظوا بها..

إنما كان الفارق في طريقة تناول الدين..

فهنا دين لا كهانة فيه، إنما فيه علماء وفقهاء يعلمون الناس دينهم، ويجتهدون فيما أبيح لهم من ميادين الاجتهاد لمواكبة حركة الحياة الدائبة، لا قداسة لهم وإنما هم يوقّرون لعلمهم، وعلى قدر علمهم، ولا وساطة لهم بين العبد والرب، فعلاقة العباد بربهم مباشرة لا وسيط فيها إلا العمل الصالح، ومن ثم لا مجال لأن ينشأ من وجودهم، ومن قيامهم بمهمتهم طغيان روحي أو مالي أو سياسي أو علمي أو عقلي.. ودين مفتوح للعقل، بل العقل مأمور أن يعمل في ظله، ويتدبر شئونه[13]، وشريعة ربانية مطبقة في واقع الأرض يستظل الخلق بظلها الوارف فتنظم لهم حياتهم، وتطلقهم يمارسون كل مناشط الحياة في توازن واعتدال..

وهناك كانت الأحوال كما وصفنا من قبل..

وكان بديهيا ومنطقيا أن يختلف المسار بين ما حدث هنا وما حدث هناك.

* * *

لذلك فإن من العجب العجاب أن يُجْمَع بين المسارين المختلفين تحت عنوان واحد يسمى "القروسطية" أو "فكر القرون الوسطى" أو ما شابه ذلك من الأسماء!!

أين المنطق؟! أين الموضوعية؟!

كيف يجتمع الأبيض والأسود فيوصفان بوصف واحد؟!

كيف يجتمع النور والظلام في اسم واحد مع اختلاف المسمّى[14]؟!

ليست "القروسطية" أو "فكر القرون الوسطى" حالة عامة ذات خصائص معينة تعرض للبشرية كلها في وقت من الأوقات أو في أوقات مختلفة، حتى يقال إن البلد الفلاني أو الشخص الفلاني يعيش حالة القرون الوسطى، أو يفكر بطريقة القرون الوسطى، أو يريد العودة إلى القرون الوسطى.. فهناك قرون وسطى يحفها الظلام، وقرون موازية لها يحفها النور. قرون وسطى يعمها الطغيان الروحي والمالي والفكري والسياسي والاقتصادي، وقرون موازية تعيش في انطلاق وتسامح وبحبوحة روحية وفكرية (في حدود ما يتاح للبشر مع ما فيهم من قصور أحيانا وانحراف أحيانا وتخبط أحيانا) فأية قرون؟ وأي فكر؟ وأية عودة؟!

إنما يسمى كل مسمى باسمه! فيقال: القرون الوسطى الأوربية المظلمة، والقرون الإسلامية المنيرة المشرقة المتحضرة التي بلغت الذروة في حضارتها! ويحدد لكل فكر اتجاهه! فيقال: فلان يريد العودة إلى فكر القرون الوسطى الأوربية المظلمة، وفلان يريد العودة إلى فكر القرون الإسلامية المضيئة!

إنما تطلق أوربا مصطلحاتها الخاصة على التاريخ البشري كله غرورا منها، على اعتبار أن أوربا هي العالم، وتاريخها هو تاريخ العالم، وأحوالها وتطوراتها هي أحوال العالم وتطوراته..

أما نحن..؟!

كيف جاز لنا أن نتخذ معاييرهم ومصطلحاتهم وتعميماتهم فنصف بها تاريخنا وحضارتنا ومسارنا التاريخي، بينما أحوالنا غير أحوالهم، وتاريخنا غير تاريخهم، سواء في ارتفاعاته أو انخفاضاته، أو استقاماته أو انحرافاته؟!

إنما يفعل "مثقفونا" ذلك بتأثير الغزو الفكري.. شعروا بذلك أم لم يشعروا به!

إن أوربا تقول في دينها ما تقول.. وهي حرة تقول في دينها ما تشاء..

وأوربا من جانب آخر لا تريد للمسلمين أن يرجعوا إلى الإسلام أو يتمسكوا به، سواء كان الدافع لهم إلى ذلك هو الروح الصليبية المتأصلة فيهم –كما نقول نحن- أو كان المصالح الاقتصاية- كما يزعمون هم- أو كان صراع الحضارات- كما يقول هنتجتون- ولذلك سعت خلال القرن الماضي وهذا القرن إلى محاربة الصحوة الإسلامية بكل وسائل الحرب، بما في ذلك تشويه صورة الإسلام لتنفير الناس منه وصدهم عن العودة إليه.

ومن وسائل التشويه والتنفير أن يضفى على تاريخ القرون الإسلامية المشرقة من الأوصاف ما يضفى على قرون أوربا الوسطى المظلمة، ثم يقال: إن الذين يريدون العودة إلى الإسلام يريدون العودة إلى ظلمات القرون الوسطى المظلمة.. ويا لها من ظلمات!!

ويا لها من مغالطة يتعمدها الغزو الفكري.. ويقع فيها "المثقفون" بعلم أو بغير علم!

مغالطة لا يعتذر لهم فيها حسن النية ولا الإخلاص.. فإنها بكل المعايير "العلمية" و"الموضوعية" لا تثبت للنقاش!

* * *

ونعود إلى خطوات التاريخ

لقد كان تأثير الإسلام على أوربا جارفا في كل الاتجاهات..

يقول جرونيباوم في كتابه المشار إليه آنفا:

"ولقد أهمل الإسبان المسيحيون في القرن التاسع تراثهم القديم إيثارا منهم للتراث العربي، وهذا "ألفارو" –الكاتب المسيحي المتعصب[15] –يأسى في سنة 854 لهذا الاتجاه أسى مريرا، فيقول: يطرب إخواني المسيحيون لأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانيا[16] يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ واأسفا! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية. فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فواحر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل قد يقرض من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم!"[17].

ولم يكن هذا التأثير الجارف محصورا في الأندلس، فقد كان ساريا في أوربا كلها مع اختلاف في الدرجات.

يقول المؤرخ البريطاني ويلز:

"لو تهيأ لرجل ذي بصيرة نفاذة أن ينظر إلى العالم في مفتتح القرن السادس عشر، فلعله كان يستنتج أنه لن تمضي إلا بضعة أجيال قليلة، لا يلبث بعدها العالم أجمع أن يصبح مغوليا، وربما أصبح إسلاميا.."[18].

والعالم أجمع يشمل أوربا بطبيعة الحال!

ولكن هذا التأثير الجارف قد أزعج الكنيسة الأوربية إزعاجا جاوز الحد، فقامت –بضراوة- تحارب التأثير الإسلامي بكل وسائل الحرب. وكان من أفعل الوسائل وسيلتان اثنتان على وجه التحديد: محاكم التفتيش، بكل فظائعها المعروفة، وتشويه صورة الإسلام على يد كتاب الكنيسة وشعرائها وأدبائها، الذين قدموا إلى أوربا صورة عن الإسلام والمسلمين تشمئز منها النفوس.

ولنذكر –بالنسبة إلى الوسيلة الأولى- أن إحراق العلماء أحياء لأنهم قالوا بكروية الأرض كان جزءا من هذه الحملة الضارية. فقد كانت كروية الأرض معروفة عند علماء المسلمين منذ القرن الرابع الهجري على الأقل –العاشر الميلادي- ومنهم انتقل العلم إلى علماء أوربا حين ترجمت كتبهم إلى اللاتينية، فكانت حرب الكنيسة لهم بتلك الوحشية جزءا من الحرب الصليبية ضد الإسلام.

ولنذكر –بالنسبة إلى الوسيلة الثانية- ما انتشر في كتابات الأوربيين في تلك الفترة من سب بذيء للرسول صلى الله عليه وسلم ووصفه بالنبي الكذاب، السفاح، المتعطش للدماء، الشهواني، عدو المسيح! ووصف المسلمين بالبرابرة، والقراصنة، والسفاحين.. إلخ.

ونجحت الوسيلتان –ولا شك- في إبعاد أوربا عن الإسلام..

ولكن النتائج كانت خطيرة!

لقد أدركت أوربا –نتيجة احتكاكها بالمسلمين في الحروب الصليبية وفي العلاقات التجارية وفي الجامعات الإسلامية في الأندلس وصقلية والشمال الإفريقي وغيرها من بلاد المسلمين -كم جنت عليها الكنيسة بطغيانها الذي مارسته باسم الدين، وأن هناك صورة للحياة تختلف تماما عن حياتها في ظل تلك الكنيسة، فبدأت تتمرد على الدين الذي مارست الكنيسة طغيانها باسمه، ورغبت –كما قال ويلز- في الإسلام، ولكن الكنيسة وقفت ضد هذه الرغبة بالعنف الذي أشرنا إليه، فانغلق في وجه أوربا باب "الدين"، فانكفأت على تراثها الإغريقي الروماني Gerco-Romanتستمد منه المقومات الفكرية لنهضتها، في خصومة مع الدين!

وهكذا ولدت النهضة.. مزيجا من إيجابيات ضخمة، وسلبيات هائلة.

فأما إيجابياتها فقد كانت –كما يذكر الكُتَّاب الغربيون أنفسهم- مستمدة من أصول إسلامية واضحة. وأما سلبياتها فصناعة محلية بحتة، مصدرها حماقات الكنيسة سواء في فترة الفعل أو في فترة رد الفعل، ففي كلتا الفترتين كانت عاملا منفرا من الدين!

أبرز تلك السلبيات هو الخصومة مع الدين.

إن العداء بين الدين والعلم، وبين الدين والحضارة، وبين الدين والتقدم ليس أصلا من أصول الحياة البشرية، إنما هو مرض أوربي بحت، سببه سوء التجربة الأوربية التي مارستها في ظل الدين، ومارست الدين من خلالها.. ولقد مارست البشرية تجربة أخرى على نطاق واسع امتد من المحيط إلى المحيط، لم تكن فيه عداوة بين الدين والعلم، أو بين الدين والحضارة، أو بين الدين والتقدم، بل كان الدين فيها هو الدافع إلى التقدم العلمي والتقدم الفكري والتقدم الحضاري، وتلك هي تجربة المسلمين مع الإسلام، في ذات الفترة التي كانت أوربا تعيس فيها في الظلمات من خلال تجربتها الدينية.

ولولا حماقات الكنيسة –وهي قضية أوربية بحتة- فقد كانت "النهضة" في أوربا قمينة ألا تقوم على عداء مع الدين. فالدين أمر مركوز في الفطرة.

(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم: من آية30).

والرغبة في العلم، والرغبة في تسخير طاقات السماء والأرض لتحسين أحوال البشر على الأرض أمر مركوز في الفطرة:

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (سورة هود: من آية 61).

(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (سورة الجاثية: الآية: 13).

(وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل: الآية: 78).

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (سورة الإسراء: الآية: 12).

(اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (سورة العلق: الآيات: 3-5).

والفطرة –كما خلقها الله- لا تتناقض ولا يتنافر بعضها مع بعض، إلا أن يفسد الغذاء الذي يقدم عليها، فعندئذ يحدث المرض، ويحدث الانحراف.

ولقد جاء المرض إلى أوربا من مصدرين متعاقبين، كلاهما سيء، وكلاهما خطير..

ففي الفترة التي سيطرت فيها الكنيسة حدث من الظلم والمظالم ما نفر الناس من الدين. وفي فترة النهضة أضيف إلى العامل الأول عامل جديد، نشأ من بعث الروح الإغريقية الوثنية الكافرة، التي اختصت بين وثنيات التاريخ بتصوير العلاقة بين البشر و "الآلهة" على أنها علاقة خصام وعداء: الإنسان يتمرد على الآلهة لكي يثبت ذاته، والآلهة تسعى إلى تحطيمه وتدميره لكي تنفرد بالسلطان، كما يتضح جليا في أسطورة "بروميثيوس" سارق الناس المقدسة..

فالأسطورة تقول إن "زيوس" إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض، ثم سواه على النار المقدسة التي ترمز في الأسطورة إلى المعرفة. ثم أهبطه إلى الأرض وحيدا في الظلام، وترمز الأسطورة بذلك إلى حالة الجهل التي كان الإنسان عليها، فأشفق عليه كائن أسطوري هو "بروميثيوس" -الذي ربما كان يرمز إلى الشيطان –فسرق له النار المقدسة من الإله! وترمز الأسطورة بذلك إلى أن الإنسان قد بدأ يتعلم.. ولكن تعلم الإنسان أثار غيرة الإله وسخطه فقرر الانتقام منه ومن بروميثيوس الذي سرق النار المقدسة (مع عجزه في الوقت ذاته عن استرداد النار المسروقة منه!) فأما بروميثيوس فقد عاقبه الإله بنسر يأكل كبده طول النهار، وتنبت له كبدة جديدة في الليل فيأتي النسر فيرعى كبده من الصباح إلى الليل، هكذا في عذاب أبدي. وأما الإنسان (واسمه في الأسطورة "إبيميثيوس"، الذي يرمز إلى آدم) فقد أرسل الإله إليه مخلوقة أنثى (اسمها في الأسطورة "باندورا" وترمز إلى حواء) بحجة أن تؤنسه في وحدته، وأرسل معها صندوقاً هدية، فلما فتح الصندوق إذا هو مملوء بالشرور، فتناثرت الشرور من الصندوق وملأت وجه الأرض!

هذه الروح الخبيثة –بالإضافة إلى أفاعيل الكنيسة وحماقاتها- هي التي أحدث الانقلاب الذي صاحب النهضة، والذي أدى إلى تأليه الإنسان بدلا من الله فيما يعرف في أدبيات النهضة "بالاتجاه الإنساني" "Humanism" ولا علاقة له بالروح الإنسانية كما يظن المخدوعون بها، إنما معناه أخذ المعرفة من "الإنسان" بدلا من المصدر الرباني!

هذا المرض –وهو مرض أوربي بحت- هو الذي أدى في "الحضارة" الأوربية المعاصرة إلى ذلك العداء العنيف للدين، والسعي إلى مطاردته والتضييق عليه، وتحجيمه إلى أقصى حد مستطاع إذا لم يتيسر القضاء الكامل عليه، بحيث يصبح علاقته بين العبد والرب، محلها القلب، ولا صلة لها بواقع الحياة!

ومرة أخرى نقول: إن أوربا حرة تقول في دينها ما تشاء، وتفعل بدينها ما تشاء.. ولكن ما بالنا نحن الذين اختلفت تجربتنا مع الدين اختلافا جذريا نتبع سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى إذا دخلوا جحر ضب دخلناه!

* * *

ولم يكن العداء مع الدين هو السلبية الوحيدة في تلك النهضة..

فقد ورثت أوربا من انتكاستها الوثنية الإغريقية عبادة العقل[19]، وعبادة الجسد في صورة فن عار، كما ورثت من الوثنية الرومانية عبادة الجسد في صورة لذائذ حسية، وشهوة السيطرة وإذلال الآخرين، كما تمثلت في الاستعمار العسكري فترة، ثم الاستعمار الاقتصادي فترة.. وآخر صورها هو "العولمة" التي تهدد باكتساح كل الأرض!

* * *

تلك كلها أمراض أوربية بحتة.. وأحوال أوربية بحتة.. وليست تراثا "إنسانيا" نابعا من كيان "الإنسان" من حيث هو إنسان.. فما بال "مثقفينا" يبلغ بهم الغزو الفكري من حيث يعلمون أو لا يعلمون أن ينظروا إلى الأشياء بعيون غيرهم، وقد وهب الله لنا عيونا مستقلة نستطيع أن نميز بها بين الخير والشر، بين الأبيض والأسود، وبين الظلمات والنور؟!

لأوربا أن تصرخ كما تشاء: لا تعودوا بنا إلى القرون الوسطى.. لأن القرون الوسطى في تجربتها هي الظلم والظلام.

أما نحن فلماذا لا نعود إلى تجربتنا الحية المشرقة المتفتحة الموارة بالنشاط والحركة في كل اتجاه؟!

سيصرخ صارخ ساذج يقول: والتقدم العلمي، والمخترعات، والتقنيات، وثورة المعلومات، هل نهدر هذا كله في سبيل الرجوع إلى الدين؟!!

فنقول في بساطة: ومن يقول إن علينا أن نهدر هذا كله لكي نرجع إلى الدين؟! أليس الإسلام هو الذي دفعنا من قبل –حين وعيناه، ومارسناه على حقيقته- إلى التقدم العلمي، والتقدم الحضاري، مع القوة والتمكين في الأرض؟!

تلك الدعوى الساذجة لا تستحق أن يقف عندها عاقل، ولا إنسان يأخذ الأمور مأخذ الجد، وإن كنا سنعود إليها في حديثنا عن "الحداثة"..

إننا لا ننادي فقط بالعودة إلى روح تلك القرون الإسلامية المستنيرة المتفتحة المشرقة، بل نصبو إلى ما هو أعظم من ذلك، وهو العودة إلى روح خير القرون، قرن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي شهدت له السماء والأرض: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 110) "خير القرون قرني"[20].

نريد أن نعود إلى الخير الصافي في أصوله الصافية: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (سورة الروم: الآيتان من 4-5).

الحكومة الدينية (الثيوقراطية)

الحكومة "الثيوقراطية" التي تترجم باسم "الحكومة الدينية" حكومة سيئة السمعة في التاريخ الأوربي، تتمثل فيها كل مظالم الكنيسة الأوربية وظلماتها، كما تتمثل فيها جرائمها وحماقاتها، من حجر على الفكر، وتضييق على الناس، وجمود وكبت، وقسوة وعنف، واتهام للناس بالباطل، وتصيد للأخطاء أو المخالفات من أجل الإيقاع بالناس تحت طائلة العقاب الذي يصل أحيانا إلى حد إهدار الدم، وحرق الناس أحياء بتهمة الكفر والإلحاد.. وتقترن الحكومة "الثيوقراطية" في ذهن الإنسان الأوربي بمحاكم التفتيش، وما صاحبها من الفظائع في القرون الوسطى الأوربية المظلمة.

ويعمد "المثقفون" عندنا إلى وصف الحكومة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله بأنها حكومة دينية، أو حكومة "ثيوقراطية" ليلصقوا بها كل فظئع الحكومة الثيوقراطية الأوربية وشناعاتها، وينفّروا الناس منها ومن الداعين إليها، بوصفهم "ظلاميين" يريدون أن يرجعونا إلى القرون الوسطى المظلمة.

وهنا تكمن المغالطة التي يقع فيها أولئك "المثقفون" بوعي منهم أو بغير وعي.

فلننظر في الأمر في هدوء البحث "العلمي" "الموضوعي" لنرى هل يصدق الوصف؟ وهل يصلح القياس؟ وهل كانت تجربة أوربا تجربة "إنسانية" بمعنى أنها ظاهرة تاريخية شاملة تشمل كل البشرية، أم تجربة أوربية خاصة، أو بالأحرى مرضاً أوربياً خاصاً بالتاريخ الأوربي؟

فما هي على وجه التحديد تلك "الحكومة الثيوقراطية" التي حكمت أوربا في قرونها الوسطى المظلمة؟

إنها على وجه التحديد "حكومة رجال الدين". حكومة تحكم الناس باسم الدين، وفي الوقت ذاته لا تحكّم شريعة الله!

ولنعد قراءة بيان البابا نقولا الأول الذي أثبتناه في الفصل السابق:

"إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها. وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل. ولذلك فإن البابا –ممثل الله على ظهر الأرض- يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم على جميع المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين".

وواضح لكل من يستطيع القراءة أنها سيادة البابا وليست سيادة القانون! ليست سيادة الشريعة!

وهذا فارق رئيسي بين الحكومة الثيوقراطية الأوربية –حكومة رجال الدين- وبين الحكومة الإسلامية التي تحكّم شريعة الله.

وإذا كانت أوربا لا تدرك هذا الفارق، أو تتجاهله، بسبب سوء تجربتها الدينية، التي لم تعرف "الدين" فيها إلا عن طريق "رجال الدين"، ولم تعرف الممارسة الدينية إلا بالطريقة التي علمها إياها رجال الدين، فنحن المسلمين أحرى أن تكون لنا رؤيتنا الخاصة؛ لأن تجربتنا الدينية مختلفة من أساسها، سواء في أصولها النظرية أو تطبيقاتها العملية، بحيث لا يصلح القياس.

فابتداء، ليس في الإسلام رجال دين! لا توجد فيه هيئة "إكليروس" ذات مسوح خاصة، ولها "قداسة" ولها سلطان روحي على الناس، مستمد من كونها وسيطا بين العبد والرب، رضاها من رضا الله، وغضبها من غضب الله، عن طريقها يتم الغفران للناس، وعن طريقها يتم الحرمان من الملكوت في الآخرة.. إنما فيه –كما قلنا في الفصل السابق- علماء وفقهاء، يوقّرون لعلمهم، وعلى قدر علمهم، ولكن لا قداسة لهم، ولا عصمة لهم كذلك فيما يقولون وما يفعلون، فكلهم يؤخذ من كلامه ويرد. والعصمة هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي لا ينطق عن الهوى، إنما ينطق عن وحي يوحى.

وهؤلاء العلماء والفقهاء هم –بعد التحاق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى- هم الذين يعلمون الناس الدين، نعم، ولكنهم لا يبتدعون شيئاً من عند أنفسهم، ولا تقبل منهم بدعة. وإنما مصدر "العلم" في الإسلام هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو علم يحمل ضوابطه الذاتية:

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر الآية: 9).

فالحفظ من عند الله، والضوابط من عند الله.

والعلماء بشر.. والبشر يخطئون ويصيبون.. وقد تختلف أفهامهم إزاء النص الواحد، ولو كان هو النص القرآني أو الحديث النبوي. وقد اختلف العلماء بالفعل في أمور كثيرة. ولكن هناك أموراً أساسية لم يختلف عليها أحد، ولا يمكن أن يختلف عليها في الإسلام أحد، وهي التي عرّفت بأنها "المعلوم من الدين بالضرورة". أبرز هذه الأمور قضية الألوهية. قضية التوحيد.

من الإله؟ أإله واحد أم آلهة شتى؟

(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (سورة يوسف من الآية: 39-40).

والتوحيد –الذي هو أساس الدين- له في الإسلام معنى محدد، ومواصفات محددة، حددها منزّل الدين، وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي أرسله الله ليبين للناس ما نزل إليهم:

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ( سورة النحل الآية: 44).

ويشمل التوحيد أمورا ثلاثة أساسية:

توحيد الله في الاعتقاد.

توحيد الله في العبادة.

توحيد الله في التشريع.

أي: الاعتقاد الجازم بوحدانية الله، وتفرده في ذاته وصفاته وأفعاله، وربوبيته وألوهيته.

وتوجيه كل شعائر العبادة من صلاة وصيام وزكاة ونسك ودعاء وذبح واستعانة واستغاثة إلى الله وحده دون شريك.

وتحكيم شريعته وحدها دون غيرها من الشرائع.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) (سورة محمد الآية: 19).

(وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً) (سورة النساء الآية: 36).

(ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الجاثية الآية: 18).

(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (سورة المائدة الآية: 50).

(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (سورة النساء الآية: 65).

والإخلال بأي من هذه الثلاثة ينقض الإيمان، ويدخل صاحبه في الشرك، فقد حكى الله عن المشركين قولهم:

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (سورة ص الآية: 5). فهذا شرك الاعتقاد.

(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ) (سورة النحل الآية: 35). فهذان هما شرك العبادة وشرك التشريع.

تلك من الأمور التي لا يختلف عليها في الإسلام.

أما التفاصيل الدقيقة في هذه الأمور فقد تخفى على عامة الناس، وقد يقع الخلاف في بعضها بين العلماء أنفسهم، فيبحث فيها عن الدليل، ولا يتبع فيها إلا صاحب الدليل. أما أصول هذه القضايا الثلاث فليست موضع خلاف –ولا يجوز أن يكون فيها خلاف- لأنها "من المعلوم من الدين بالضرورة" الذي يقع التكليف فيه على الناس جميعا بصرف النظر عن مدى علمهم وفقههم، ولا يقبل من الناس عذر في مخالفتها، بعد أن بينها الله للناس في كتابه المنزل، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.

والعلمانيون على أي حال لا يجادلون في قضية الاعتقاد، ولا في قضية العبادة، لأن أوربا لا تجادل فيهما، وإن أباحت حرية الإلحاد للملحدين، وأدخلت ذلك في باب "الحرية الشخصية"!

إنما تجادل أوربا في قضية التشريع، ومن ثم يجادل العلمانيون عندنا في القضية اتباعا لأوربا!

وفي وسط الجدل تضيع الحقائق، ويقال إن الحكومة الثيوقراطية في أوربا كانت شرا وفسادا وظلما وظلاما، وكذلك تكون كل حكومة تحكم "بالدين"!! فلا بد إذن من إقصاء الدين عن السياسية، وإيجاد "حكومة مدنية" لا تحكم بما أنزل الله!!

* * *

نحب أولا أن نشير إلى خطأ منهجي في وضع الإسلام على الموازين الأوربية البشرية، وقراءة النتائج بما تشير إليه تلك الموازين! فقد صنعت أوربا ذلك في دينها، وهي حرة تفعل بدينها ما تشاء. ولكنها كانت منطقية مع نفسها في ضلالتها (وليس معنى كونها منطقية مع نفسها، أن حكمها في القضية صحيح، إنما معناه فقط أن هناك ما يفسر وصولها إلى ذلك الحكم، والتفسير لا يعني التبرير، فليس هناك ما يبرر الخروج على حكم الله مهما تكن الظروف!)

إن أوربا –منذ النهضة- قد ألهت الإنسان بدلا من الله، ثم وضعت تجربتها الدينية في القرون الوسطى على ميزانها البشري فقررت أنها كانت ظلما وظلاما لا يجوز العودة إليه، فأصابت في جانب وأخطأت في جانب. أصابت في حكمها على التجربة التي خاضتها، ومارست الدين من خلالها، بأنها كانت خطأ لا يجوز أن يتكرر. وأخطأت في نسبة الخطأ إلى الدين ذاته، فقررت إبعاده عن الهيمنة على الحياة، وحصره –في أحسن الأحوال- في علاقة فردية بين العبد والرب، محلها القلب، ولا شأن لها بواقع الحياة، سواء الواقع السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الفكري أو التشريعي..

أما نحن الذين نؤله الله ولا نؤله الإنسان فمن غير المنطقي بالنسبة إلينا أن نضع دين الله على موازين البشر، سواء أصابت هذه الموازين أو أخطأت.. وهنا قضية تلتبس فيها الأمور فيما يسمى "ميزان العقل" أي عقل؟ وعقل من على وجه التحديد؟ وسنناقش هذه القضية في فصل "العقلانية"، ولكنا نقول هنا في إشارة سريعة: أليس "العقل" الأوربي هو الذي يبيح الربا بكل مظالمه، وكا ما يؤدي إليه من غنى فاحش في جانب وفقر فاحش من جانب؟!

أليس "العقل" الأوربي هو الذي يبيح الفاحشة بكل ألوانها، شاذة وغير شاذة، بكل ما تؤدي إليه من انحلال في المجتمع وفساد في الأخلاق؟!

أليس "العقل" الأوربي هو الذي يبيح لخمسة من الطغاة –التي تسمي نفسها "الدول العظمى" –أن تمتنع عن الرضوخ للحق البين إذا كان على غير هواها، عن طريق "الفيتو" الذي يوقف كل عدل، ويحمي كل جبروت؟! والصحيفة لا تنتهي!

إنما المنطقي بالنسبة إلى الذين يؤلهون الله ولا يؤلهون الإنسان أن يكون دين الله عندهم هو الأصل، وهو الميزان الذي توزن به تصرفات البشر وأفكارهم ومناهجهم وراؤهم، فيقال عنها إنها صائبة أو خائبة بمقدار قربها من دين الله أو بعدها عنه:

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (سورة الحديد الآية: 25).

هذا من ناحية الاعتقاد.. أي فيما يخص قضية الألوهية: من الإله؟ الله أم الإنسان؟

وأما من ناحية الواقع فالإسلام لا ينطبق عليه أي ميزان من تلك الموازين التي تقيس بها الجاهلية المعاصرة أنظمتها، فلا هو حكومة "ثيولوجية" بالمواصفات الأوربية، ولا هو نظام "ديمقراطي"، ولا هو نظام "دكتاتوري" ولا هو نظام "شمولي".. ولا أي شيء من هذه النظم والأيديولوجيات ينطبق انطباقا صحيحا على الإسلام. إنما هو "الإسلام" بمواصفاته الخاصة التي نزل بها من عند الله، والتي قد تشابهها بعض النظم الأرضية وقد تبتعد عنها. فلا المشابهة تزيد من قدره، ولا المخالفة تضيره أو تنقص من قدره. ويظل هو كما هو، بصورته الربانية، بمقاييسه الخاصة، وتقاس إليه نظم الأرض كلها، لمن كانت عنده هواية القياس، ليُعرفَ مدى قربها أو بعدها من الإسلام!

* * *

سيقول العلمانيون: أي إسلام تقصدون؟ الإسلام الكلاسيكي؟ أم إسلام العصور الوسطى؟ أم الإسلام المعاصر؟ وأي إسلام معاصر؟ الإسلام السلفي أم الإسلام الليبرالي! (ونضيف نحن من عندنا: أم الإسلام الأمريكاني، الذي يراد تعميمه في المنطقة؟!).

ونقول نحن: إن هذه التقسيمات مرفوضة ابتداء.. فهي تقسيمات المستشرقين، التي يبثونها في كتبهم لتمييع صورة الإسلام، والإيهام بأنه ليس شيئا واحدا ثابتا يمكن التعرف عليه من مواصفاته الخاصة، إنما هو صور وأشكال متباينة، وكلها إسلام!.. ويبلغ التبجح بأحد المستشرقين المعاصرين "ولفرد كانتول سميث" أن يسمي العلمانية الصارخة المحاربة لكل معنى إسلامي في تركيا أتاتورك بأنها صورة جديدة من صور الإسلام!![21] كما أن هذا التقسيم: كلاسيكي ووسيط وحديث ومعاصر وهو تقسيم أوربا لتاريخها، قد يكون منطقيا مع ذلك التاريخ. أما تلبيسه على تاريخ الإسلام فإذا صنعه المستشرقون لغايات في نفوسهم، فلا يجوز لنا نحن استخدام مصطلحاتهم ولا تقسيماتهم، ونحن نملك مصطلحاتنا الخاصة وتقسيماتنا الخاصة التي استخدمها المؤرخون المسلمون: عصر صدر الإسلام –العهد الأموي- العهد العباسي -عصر المماليك- الدولة العثمانية.. وأهمية هذا التقسيم هي تقرير استمرارية هذا الدين وتاريخه في عصوره المختلفة، وأنه تاريخ "الأمة الإسلامية" الواحدة المستمرة، وذلك في مقابل التمييع والتلويع الذي يقصده المستشرقون!

ولا شك أن هناك فروقا في مظاهر المجتمع الإسلامي حدثت من عصر إلى عصر. وهذا الاختلاف في مظاهر المجتمع أمر واقع من جهة، ومحسوب حسابه في النظام الإسلامي ذاته من جهة أخرى.

فالله سبحانه وتعالى –منزل هذا الدين- يعلم علم اليقين أن حياة الإنسان تتغير باستمرار، عن طريق أدوات التغيير التي وهبها الله للإنسان سواء في ذات نفسه أو في الكون المادي الذي يتعامل معه:

(وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل الآية: 78).

هذه هي الأدوات الحسية والمعنوية..

(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (سورة الجاثية الآية :13)

وهذا هو الكون المسخر للإنسان، والإنسان يحقق التسخير الرباني باستخدام الأدوات التي وهبها له الله.

وينتج عن هذا التفاعل بين الإنسان والكون حدوث أحوال جديدة في حياة الإنسان على الدوام. والدين المنزل من عند الله، المطلوب العمل به من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لم يقصد به منزّله سبحانه وتعالى تجميد الحياة على صورة واحدة لا تتجدد ولا تنمو ولا ترتقي.. وإنما على العكس من ذلك كلف الإنسان بعمارة الأرض..

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (سورة هود الآية: 61).

والعمارة تقتضي استخدام الأدوات والخامات، وينتج من استخدام الأدوات والخامات جديد على الدوام، عن طريق "العلم" واستخدام هذا العلم في مزيد من تحقيق التسخير الرباني لطاقات السماوات والأرض.

ولكن هذا الجديد المتجدد لا يغير أصول الحياة! لا يغير "الفطرة" التي فطر الله الناس عليها:

(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم من الآية: 30).

وسنعاود الحديث عن هذه النقطة في فصل "الحداثة"، ولكنا هنا نقول إن الله العليم الحكيم الذي خلق الإنسان ويعلم ما تسوس به نفسه:

(أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (سورة الملك الآية: 14).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (سورة ق الآية: 16).

إن الله سبحانه وتعالى يعلم أن حياة الإنسان على الأرض لا تستقيم حتى تكون له ثوابت معينة هي التي توجهه، وهي التي تحكم متغيراته، فأنزل في هذا الدين ما بين الثوابت التي تنظم حياة الإنسان، والتي لا تقف في الوقت ذاته في طريق التغيير الصحي الذي ينمي الحياة ويرقيها، ولكنها تضبطه فلا يقع في الانحراف الذي يفسد الحياة ويؤدي بها إلى البوار.

ومن بين هذه الثوابت –بل أساسها- التوحيد بجذوره الثلاثة: التوحيد في الاعتقاد، والتوحيد في العبادة، والتوحيد في التشريع.

وجعل في الشريعة المنزلة ما يواجه الثابت والمتغير معاً في حياة الإنسان. فالثابت أنزل فيه أحكاما مفصلة غير قابلة للتغيير، والمتغير أنزل فيه مبادئ عامة، وترك للعقل المؤمن أن يجتهد لتطبيقها على كل متغير بجدّ.

فثبّت أولا ضرورة التحاكم إلى شريعة الله دون غيرها من الشرائع، وجعل ذلك من أصول الإيمان: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ..) (سورة النساء الآية: 65).

وثبت علاقات الجنسين وعلاقات الأسرة.

وثبت تحريم الربا وتحريم الزنا وتحريم الخمر وتحريم القتل وتحريم السرقة وتحريم العدوان، وجعل لكل ذلك "حدودا" ثابتة لا تتغير..

كما ثبت أمورا أخرى في مجالات مختلفة ليس هنا مكان الحديث عنها، إنما تطلب في مباحث الفقه.

ولكنه في العلاقات الاقتصادية والعلاقات السياسية وفي "المعاملات" عموما قرر الأصول الثابتة، وترك للعقل المؤمن أن يجتهد لضبط المتغيرات فيها بضوابط الشريعة.

وهكذا يتحقق لهذه الشريعة الثبات والمرونة معاً في ذات الوقت.

فأما التغيرات التي تحدث في حياة المجتمع الإسلامي فالمرجح في الحكم عليها، لإقرارها أو رفضها –هو إلى هذه الثوابت، سواء فيها الثوابت التي لا تقبل التغيير، أو الثوابت التي تحكم التغيير.

والحكم على أي مجتمع إسلامي، هل هو مستقيم أو منحرف، مرده إلى تلك المعايير.. ويبقى الإسلام هو الإسلام كما أنزله الله، لا يتغير من كلاسيكي إلى وسيط إلى حديث.. ويبقى المجتمع الإسلامي مسلما طالما التزم بثوابت الإسلام، وإن تغيرت مظاهر حياته، ما دامت في تغيرها ملتزمة بثوابت الإسلام.. فأما إن خرج عن تلك الثوابت وانحرف عنها، فهو بعيد عن الإسلام بمقدار انحرافه عنها، وعليه أن يسعى دائما إلى العودة والالتزام.

* * *

وهنا يجيء ختام حديثنا عن "الدولة الدينية" و"الدولة المدنية" وما يثور حولها من المغالطات.

فأما الدولة "الثيولوجية" -بمواصفاتها الأوربية –فهي أبعد شيء عن أن تسمى حكومة دينية، وإن كانت تزعم أنها تحكم الناس بالدين، وذلك لأنها لا تطبق شريعة الله.

(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (سورة المائدة الآية: 47).

والفاسقون لا يكونون أبدا هم أهل الدين!

إنما الصحيح أن نسميها –بحسب واقعها الأوربي- "حكومة رجال الدين".

فأما الحكومة الإسلامية –التي تحكم بما أنزل الله- فهي تختلف اختلافا جذريا عن الحكومة الثيولوجية الأوربية في أمرين رئيسيين: أنه ليس فيها "رجال دين" لأنه لا يوجد أصلا "رجال دين" في الإسلام، وأنها تحكم بشريعة الله.. وهذا الخلاف الجذري يخرجها من القياس الذي يفتعله العلمانيون ليشوهوا صورة الحكومة التي تحكم بما أنزل الله، وينفروا الناس منها لكيلا يسعوا إلى العودة إليها.

وفي الحكومة الإسلامية لا يجلس الفقهاء والعلماء في كراسي الحكم كما كان يفعل رجال الدين في الحكومة الثيولوجية الأوربية، ولو جليسوا فلا ضير عليهم ولا على الأمة منهم، ولكن الواقع التاريخي يقول إنهم كانوا أزهد الناس في مناصب السلطة وأبعدهم عنها! إنما يتولون الفتيا التي تبين للناس ما هو حلال وما هو حرام في تصرفاتهم، ويتولون تعليم الناس أمور دينهم، وكثيرا ما كانوا هم الملجأ الذي تلجأ إليه "الجماهير" لحمايتها من جور السلطان حين يقع الجور من السلطان.

إنما يجلس في مقاعد الحكم الفنيون الذي تؤهلهم مواهبهم وعلمهم أن يتبوءوا المناصب –وذلك بصرف النظر عما يحدث من مخالفات في التطبيق الواقعي، فإنما نتحدث هنا عن الأصل في الأشياء، وأما المخالفات فهي مخالفات لا تحسب على النظام، وهي تقع دائما في كل نظام بشري، ولكنها لا تتخذ ذريعة لإلغاء النظام!

والضمان الأكبر للعالة في ظل النظام الإسلامي هو تطبيق الشريعة، وهو المهمة الحقيقية والرئيسية للحكومة الإسلامية، التي تستمد شرعيتها أساسا من قيامها بها.

فإذا نظرنا إلى الواقع التاريخي الإسلامي فقد حدثت ولا شك مخالفات شتى في تطبيق الشريعة، نتجت عنها مظالم وقعت على الناس. وعلاج ذلك لا يكون بإلغاء الشريعة، كما يدعو العلمانيون، إنما بتربية الأمة التربية الصحيحة التي تضمن التطبيق السليم، والتي ترفض الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله محرما على عباده.

ثم إذا نظرنا إلى الواقع المعاصر فإن الحكومات التي أبعدت الشريعة وحرّمت تطبيقها والمناداة بها قد ارتكبت من المظالم والمجازر ما لم يحدث مثله في التاريخ حتى في أشد عهوده ظلاما ووحشية، ومع ذلك فإن العلمانيين لم يتحركوا حركة واحدة للوقوف في وجه تلك المظالم والمجازر، بل باركوها، وأثنوا على مرتكبيها، وأضفوا عليهم "بطولات" ما أنزل الله بها من سلطان..

* * *

وفي الأخير يقول العلمانيون إن الزمن تجاوز "الحكومة الدينية"، وإنه لا بد لنا من اللجوء إلى "الحكومة المدنية" التي تبعد الدين عن الحياة العامة، وتجعله –في أحسن الأحوال- علاقة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا شأن لها بواقع الحياة..

ونحن من جانبنا نسأل: من الذي قرر ذلك؟!

والإجابة الواضحة هي أن الغرب هو الذي قرر!

فنعود فنسأل: من الإله الذي يؤلهه الغرب، ويخضع لتوجيهاته: الله أم الإنسان؟

والإجابة الواضحة هي أن الغرب في ضلالته الحالية قد أله الإنسان بدلا من الله!

وبصرف النظر عن الظروف السيئة التي أدت إلى ظهور هذا المرض الخبيث في الغرب، فهل نحن قررنا أن نؤله الإنسان مثلهم بدلا من الله؟

فإذا قلنا إننا ما زلنا نؤله الله سبحانه وتعالى، كما ينبغي لنا أن نفعل، فهل أذن الله لنا أن نتخلى عن شريعته ونتبع غيرها، أم قال لنا سبحانه:

(اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) (سورة الأعراف الآية: 3).

وهل قال لنا الله أو رسوله: طبقوا الشريعة الربانية حتى سنة كذا، فإذا جاء القرن العشرون الميلادي فقد أحللتكم من تطبيق الشريعة، وشرعوا أنتم لأنفسكم، فأبيحوا الربا وأبيحوا الزنا وأبيحوا الخمر وأبيحوا كل ألوان الفاحشة بقرارات من هيئة الأمم، وأبيحوا في السياسة العالمية شريعة الغاب: القوي يأكل الضعيف أو يزيحه من الطرق، وأبيحوا للملحدين أن يلحدوا، وللفجار أن يفجروا، وللعراة أن يتعروا باسم الحرية الشخصية وباسم الديمقراطية وباسم العلمانية وباسم الإبداع وبكل اسم غير اسم الله؟!

إن المسلم ليس مخيرا في ترك الشريعة:

(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (سور الأحزاب الآية: 36).

ولن يحتفظ المسلم بإسلامه إذا رضى بشريعة غير شريعة الله:

(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (سورة النساء الآية: 65).

(فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (سورة النساء الآية: 59).

(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ) (سورة النور الآيتان: 47-48).

(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة النور الآية: 51).

"إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضى وتابع[22]"[23].

* * *

بقي أن نقول كلمة عن الواقع السيء الذي تعيشه الأمة في واقعها المعاصر.

إن المسلمين اليوم في معظم بلاد العالم الإسلامي عاجزون عن تحكيم شريعة الله. ولكن عجزهم عن التطبيق شيء، والقول بأن الزمن قد تجاوز حكم الدين، أو أن على المسلمين أن يجاروا "التطور" الذي حدث في الأرض، وأن يتخلوا عن تحكيم الشريعة لأن هذا الأمر لم يعدله مجال في العالم الحديث.. هذا شيء آخر!

إن الزمن قد تجاوز الحكومة الثيوقراطية الأوربية، نعم! بل إن هذه الحكومة لم يكن لها شرعية الوجود أصلا حتى في القرون الوسطى، فضلا عن أن يكون لها شرعية الوجود في الوقت الحاضر.

أما الإسلام، بعقيدته وشريعته، فقد نزل ليبقى في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والمسلمون اليوم عاجزون عن تحقيق إسلامهم، بسبب الهجمة الصليبية الصهيونية على بلادهم. وبصرف النظر عن كونهم هم المسئولين أولا عن حالة الضعف التي جعلت الأمم تتداعى عليهم كما تداعى الأكلة على قصعتها كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرناً[24].. فالأمر الواقع أنهم اليوم عاجزون. ولكن هذا لا يسقط عنهم التكليف الرباني، ولا يبرر لهم الاستمرار في الضعف!

لقد حدث مرات في التاريخ من قبل أن عجز المسلمون عن تحكيم شريعتهم في بعض بلدانهم بسبب هجمة صليبية أو هجمة تترية. ولكن المسلمين سعوا إلى مجاهدة الصليبيين والتتار حتى أجلوهم عن بلادهم، وعادوا إلى تحقيق إسلامهم، وتطبيق شريعتهم.

والحال اليوم كما كان في ذلك الزمان..

وعلى المسلمين أن يجاهدوا الهجمة الصليبية الصهيونية لتعود إليهم حريتهم المسلوبة، ويعودوا إلى تحقيق إسلامهم وتطبيق شريعتهم التي يمنعون اليوم منها. وعندئذ يعودون إلى التمكين الذي وعدهم به الله:

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) (سورة النور الآية: 55).

العقلانية

الدين الذي يخاصم العقلانية، والعقلانية التي تخاصم الدين، أمراض أوربية بحتة، لا صلة للعالم الإسلامي بها. ولكن الأمراض تنتقل من مكان إلى مكان، كما انتقل مرض الإيدز من بيئته الأصلية فانتشر في العالم كله، وكما انتشر مرض جنون البقر من بريطانيا إلى بلاد أوربية أخرى، رغم إجراءات الحظر المفروضة عليه!

والعقلانية التي تخاصم الدين تحاول اليوم أن تنتقل إلينا من خلال "مقالات العلمانيين" التي يبثونها فيي مختلف وسائل الإعلام، من كتب وصحافة وإذاعة ومسرح وسينما وتلفاز!

فلنحتكم في شأن العقلانية إلى العقل ذاته، ولننظر ماذا يقول!

في قرون أوربا الوسطى المظلمة نشأ خصام بين الكنيسة –حامية الدين والمتحدثة باسمه- وبين العقل، لظروف محلية بحتة، لا صلة لها "بالإنسان" من حيث هو إنسان. ومن ثم فهي لا تنطبق إلا على الإنسان الأوربي الذي وقع في تلك الظروف، ولا يصح –عقلا- تعميمها على كل بني الإنسان رغم اختلاف الظروف.

لقد احتفظت الكنيسة لنفسها بحق تفسير النص الديني، واحتفظت لنفسها بأسرار لا تكشف سرها لعامة الناس بدعوى أنهم لن يستطيعوا فهمها، وأن عليهم أن يؤمنوا بها دون نقاش، وإلا اعتبروا ملاحدة مهرطقين، ينالهم ما تفرضه عليهم الكنيسة من عقاب قد يصل –كما أشرنا في الفصول السابقة- إلى إهدار الدم أو الحرق في النار.

وتحت هذا التهديد خضع الناس، وكفوا عقولهم عن التفكير إلا فيما تصرح الكنيسة للناس بالتفكير فيه، وعلى النحو الذي تسمح لهم بالتفكير فيه. وولدت أجيال من البشر في أوربا خلال قرون متعاقبة مستسلمة لهذا الأمر، تعيش في الظلام ولا تحس أنها تعيش في الظلام، بل ترى أن كل شيء يسير في وضعه الطبيعي الذي وضعه الخالق ليسير عليه البشر، وذلك بسبب النفوذ الروحي الضخم الذي كان لرجال الدين على قلوب الناس، المستمد أساسا من كونهم وسطاء بين العبد والرب.. وسطاء لا تردّ وساطتهم!

ولكن حين احتكت أوربا بالإسلام والمسلمين تغيرت نظرتها، وتغير إحساسها بالأشياء، فأحست –لأول مرة- أن ما تعيش فيه ظلمات لا ينبغي أن تستمر، وحجر على العقول لا مسوغ له، واستسلام لطغاة من البشر، هم أولا وآخراً بشر لا قداسة لهم، ولا عصمة لأقوالهم ولا أفعالهم.

وهنا بدأ التمرد على سلطان الكنيسة، وبدأت هي من جانبها تشتد في الدفاع عن كيانها، وتشتط في معاملة الخارجين عليها، بما هو معروف باسم "محاكم التفتيش" التي كانت هي ذاتها وقودا أشعل الثورة عليها في النهاية للقضاء على ظلمها وظلماتها.. وذلك بالإضافة إلى حماقات الكنيسة الأخرى التي كانت ترتكبها في حق نفسها وفي حق الناس، من فساد أخلاقي يصل إلى حد التهتك، وبيع لصكوك الغفران، ووقوف في صف الأباطرة ورجال الإقطاع ضد حركات الإصلاح.. إلخ.. إلخ.

عندئذ انقلبت أوربا- في نهضتها- مائة وثمانين درجة كاملة.. من دين يخاصم العقل إلى عقلانية تخاصم الدين!

كان الانقلاب انتقاما من الكنيسة، وتشفيا فيها، ومحاولة لمحو كل آثارها!

و"مثقفونا" قد لا يصدقون أن "العملاق" الأوربي يتخبط في سيره من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لأنهم يرونه في بهرتهم مستقيم الخطى، صاعدا أبدا إلى الذرى، مالكا لأمره في كل مرة، يحسب حساب كل خطوة قبل أن يخطوها، ويتحرك حسب منهج مدروس!

ولكن الواقع لم يكن كذلك.. وكثير من تقلبات الفكر الأوربي لم تكن أفعالا بقدر ما كانت ردود أفعال، ولم تكن صادرة عن حسابات سليمة، ترى النتائج حين تضع المقدمات!

كانت الكنيسة ظالمة وجائرة وجاهلة.. نعم! ولكن لم يكن كل ما تقوله خرافة، ولم يكن كل ما تقوله جديرا بأن يداس –في فورة الغضب- تحت الأقدام!

كانت تقول بوجود إله.. وهذا حق.

وكانت تقول بوجود يوم آخر.. وهذا حق.

وكانت تقول بالبعث والحساب.. وهذا حق.

وكانت تقول بأن المصدر الذي يقرر للبشر حرامهم وحلالهم، وما يجوز لهم أن يفعلوه وما لا يجوز هو الله. وهذا حق من حيث المبدأ، بصرف النظر عما دست فيه الكنيسة من المخالفات حين أباحت أمورا حرمها الله كالخمر والخنزير، وحرمت أمورا أوجبها الله كالختان، وحجرت على أمور أباحها الله كالتفكير.

وكانت تقول إن الإنسان عبد لله، مهمته عبادة الله.. وهذا حق من حيث المبدأ، بصرف النظر عما دسته الكنيسة من تصورات خاطئة في مفهوم العبادة ومشتملاتها.

وكانت.. وكانت..

ولكن فورة الغضب لم تكن عاقلة.. ومتى كان الغضب –في فورته- يخضع لميزان العقل؟!

فرت أوربا من طغيان الكنيسة، وكان معها كل الحق في فرارها من هذا الطغيان.. ولكنها لم تتوقف لتغربل مقولات الكنيسة، فتفرز منها ما هو حق فتستبقيه، وما هو باطل وخرافة فتنبذه.. بل قذفت في وجه الكنيسة بالدين كله، وقالت لها –بلسان الحال- خذي إلهك الذي طالما طغيت علينا باسمه، وحجرت على عقولنا باسمه.. وسنبحث عن إله آخر ليس له كنيسة ولا رجال دين ولا يتدخل في أفعالنا بالتحريم والتحليل!

وطال البحث.. وتعددت الآلهة. فألهت أوربا "الطبيعة" فترة من الوقت، ثم ألهت "الإنسان".

وكان "العقل" من بين تلك الآلهة التي اتجه إليها الفكر الأوربي الهارب من سلطان الكنيسة!

* * *

يقول دارون عن "الطبيعة" في كتاب "التطور": الطبيعة تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها على الخلق[25]! وإن كان هذا لم يمنعه أن ينفى الحكمة عن إلهه الذي ابتدعه، فقال: الطبيعة تخبط خبط عشواء[26]!

ويقول جوليان هكسلي في كتاب "الإنسان في العالم الحديث": إن الإنسان كان يخضع لله في الماضي بسبب عجزه وجهله، والآن وقد تعلم وسيطر على البيئة، فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ما كان يلقيه من قبل في عصر العجز والجهل على عاتق الله، ومن ثم يصبح هو الله!

ويتكرر على ألسنتهم أن الإنسان قد شب عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله!

أما تأليه العقل فقد جاءت لوثته من بعث التراث اليوناني الذي كان يجعل العقل هو المحكّم في الأمور كلها، سواء ما يدخل في اختصاصه أو مع يعجز عن إدراك كنهه ولكنه يقحم نفسه فيه إقحاما كقضية الألوهية، وما قاله فلاسفتهم في وصف الإله شاهد على تخبطاتهم في هذا المجال..

وكان اندفاع أوربا إلى العقلانية محموما لا يقف عند الحد "المعقول"!

كان انتقاما من قرون الحجر على العقل، الذي مارسته الكنيسة في إبان سطوتها، فكان أول ما اتجهت إليه هذه العقلانية هو الكنيسة ومقولاتها.. لا لمناقشتها في "تعقل" كما ينبغي للعقلانية السليمة أن تفعل، ولكن لتخطئتها والتنديد بها والدعوة إلى نبذها!

وهكذا ولدت العقلانية الأوربية من لحظتها الأولى في خصام مع الدين، لا لأن الدين –في حقيقته العلوية- خصم للعقل، ولكن لأن الكنيسة حجرت –باسم ذلك الدين- على العقل أن يفكر، ومارست هذا الحجر بفظاظة تفوق الحد.. فهي إذن قضية "انفعالية" بحتة، وإن لبست زي العقل لتستر ما هي عليه من اندفاع!

* * *

ثم مرت تلك العقلانية في أطوار زادت من بعدها عن الدين وخصامها له..

اكتشف نيوتن قانون السببية.. وكان هذا بالنسبة إلى أوربا حدثا ضخما رجّ مفاهيمها رجاً، وكانت رجته الكبرى في مجال الدين!

في السابق لم يكن لدى الكنيسة ورجالها "علم" بالمعنى المعروف. إنما كانت إجابتها عن أي شيء في هذا الكون أنه هكذا خلقه الله.

وكون الله قد خلق كل شيء على هيئته التي يراها الإنسان هو حق في ذاته.. ولكن هذه الإجابة تبقي الأشياء غامضة في ذهن الإنسان لا تفسر شيئا من حركتها ولا تحولاتها ولا أسباب وقوعها.. فلما اكتشف نيوتن أن هناك أسبابا وراء كل ذلك، كان اكتشافه صدمة للتصور الأوربي، هزته من الأعماق. وفي اهتزازته لم يدرك أنه لا تناقض بين الحقيقتين: كون هناك أسبابا وراء حركة الأشياء وتحولاتها وكون الله سبحانه وتعالى قد خلقها على هذا النحو الذي تتحرك به وتتحول.. وأدى هذا الموقف "بالعقل" الأوربي المنفعل بقانون السببية أن جعل السببية بديلا من الله، وجعل العلم بديلا من الدين! وصارت العقلانية "عقلانية علمية" معادية للدين.

ثم أخذ العلم جولته، بعد تطبيق المنهج التجريبي في البحث العلمي، الذي أخذته أوربا عن المسلمين، فحظا خطوات واسعة، وكشف كشوفا لم تكن تخطر على البال، وفتح أبوابا من المعرفة كانت مغلقة من قبل، بل لم يكن أحد يعلم أن لها بابا يولج إليها منه، فزادت فتنة أوربا بالعلم.. العلم التجريبي خاصة. وتحولت العقلانية مع تلك الفتنة إلى عقلانية تجريبية، لا تصدق إلا ما تثبته التجربة، وتنفي ما عدا ذلك أو تسقطه من الحساب، فنفت الوحي والنبوة، والبعث والحساب، لأنها أمور لا تخضع للتجربة العملية، بل خطت خطوة أجرأ، فنفت وجود الله! وزاد هذا مسافة الخلاف والعداء بين العقلانية والدين.

* * *

ولكن عاملا آخر –خفيا- كان يعمل من وراء ستار ليزيد مساحة الخلاف والعداء بين العقلانية والدين، إلى الحد الذي يبرز العقلانية في النهاية بديلا من الدين.

وقد يكون المفكرون الأوربيون أنفسهم على وعي بهذا العامل الخفي أو لا يكونون.. ولكنهم في النهاية متأثرون به سواء وعوه أم لم يعوه..

هذا العامل الخفي هو اليهود..

في تصريحين متماثلين، وإن كان بينهما فترة من الزمن، كشف اثنان من كبار اليهود عن هذا العامل الخفي، وبينا مَنْ وراءه، والمهمة التي يؤديها.

قال لنين في بحث مختصر بعنوان (حل المشكلة اليهودية): إنه طالما كان هناك دين، وكان هناك تفريق بين البشر على أساس الدين فسوف يظل يقع تمييز مجحف على اليهود[27]. ولكن إذا ألغينا الدين، واتخذنا العقلانية بدلا منه، فإن عقل اليهودي مثل عقل غيره من البشر، وعندئذ سيزول التمييز المجحف الواقع على اليهود، ويعيش اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها بغير تمييز!

ثم قال سارتر في كتاب عنوانه بالفرنسية Reflexions sur la question juive(أي تأملات في المسألة اليهودية –أو المشكلة اليهودية)[28]: إن اليهود متهمون بثلاثة أمور: جمع الذهب، ونشر العقلانية في مواجهة الوجدان الديني، وتعرية الجسد البشري. ثم قال إن التهم صحيحة! وراح يحاول تبريرها بالنسبة لليهود بتبريرات سخيفة، ولكن يهمنا منها هنا ما قاله بشأن العقلانية، إذ ردد ما قاله لنين من قبل وإن لم يشر إليه، قال: إنه طالما كان هناك دين فسيقع تمييز مجحف على اليهود، لأن الناس ستشير إلى اليهودي وتقول: هذا يهودي! فيقع على اليهود تمييز مجحف، ولكن إذا ألغينا الدين، واتخذنا العقلانية بدلا منه، فعندئذ لن يقع ذلك التمييز المجحف على اليهود، وسيعيشون في المجتمعات التي يعيشون فيها بغير تمييز، ومن أجل ذلك يقوم اليهود بنشر العقلانية في مواجهة الوجدان الديني.

وإذا كانت العقلانية الأوربية قد ولدت من أول لحظة معادية للدين، فلا شك أن هذه العوامل كلها قد زادت عداءها للدين، ولا شك أن ذلك العامل الخفي كان من أكثر العوامل فاعلية في إقامة الصراع بينها وبين الدين، الذي ينتهي باستخدامها سلاحا يحارب به الدين!

* * *

في الإسلام.. لا شيء من هذا كله!

لا يوجد صراع بين الدين والعقل، ولا رجال دين يحجرون على العقل أن يفكر، ولا أصحاب عقل يخاصمون الدين!

إن الإنسان يخاطب "الإنسان" كله، عقله ووجدانه في آن.

وقد يركز مرة على مخاطبة عقله في الموقف الذي يحتاج إلى التفكر أكثر، ويركز مرة على مخاطبة وجدانه في الموقف الذي يحتاج إلى تحريك الوجدان أكثر، ولكنه لا يجزّئه في أية لحظة ليخاطب جزءا منه وينفي الآخر! بل يخاطبه في كل مرة مجتمعا كما فطره الله، لأن فاطر الفطرة هو منزل الدين:

(فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (سورة الروم الآية: 30).

في قضية الألوهية خاطبه مجتمعا: عقله ووجدانه في آن:

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ، أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ، أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (سورة النمل الآيات: 59-64).

فبينما يحرك وجدانه بمشاهد الكون من جهة، وبممارسات الإنسان الحياتية من جهة أخرى، يحرك عقله ليتملى هذه المشاهد وهذه الممارسات ليدرك ما وراءها من قدرة الله القادرة التي لا يشاركه فيها أحد، والتي تؤدي إلى الاقتناع –العقلي- بأنه لا إلا إله إلا الله، فيجتمع الاقتناع العقلي والاقتناع الوجداني معاً ليؤسسا في النفس هذه القضية الكبرى التي هي أساس كل شيء. وينتهي سياق الآيات بهذا التحدي للعقل المنكر- إن بقي منكرا بعد هذه الشواهد كلها- فيقول له: هاتوا برهانكم إن كان لكم برهان يقف أمام الدلالة المستفادة من المشاهد المعروضة أو يناقضها.. وبالطبع لا يوجد برهان! فليس أمام العقل المنكر إلا التسليم.. أو التبجح المكشوف بلا برهان.

كذلك في قضية الوحي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم: تحداهم بالأمرين معاً: بسحر القرآن وبلاغته المعجزة من ناحية –وهذا هو الجانب الوجداني في القضية- وكذلك دعاهم أن يتفكروا في الأمر من جميع وجوهه:

(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) (سورة سبأ الآية: 46).

(وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (سورة العنكبوت الآية: 48).

(قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) (سورة يونس الآية: 16).

وهكذا تنعقد شهادة الإسلام من طرفيها: شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا رسول الله، بإقناع وجداني وإقناع عقلي في آن واحد، فتأخذ مكانها المكين في العقل والوجدان معاً، وتستقر في نفس المؤمن لا تتزعزع بشبهة من شبهات العقل، ولا شبهة من شبهات الوجدان. ويظل القرآن الكريم يؤكد على القضية، يدخل بها من كل منافذ النفس البشرية حتى تصبح يقينا راسخا لا يساوره الشك.

ويلفت النظر فيما نحن بصدده هنا من قضية "العقلانية" كم ورد ذكر التعقل والتفكر والتدبر والتذكر في القرآن الكريم. مرات تعد بالمئات. وكلها دعوة للعقل أن يعمل ويتدبر لا أن يكف عن التفكير!

فإذا سلم العقل بأنه لا إله إلا الله، وبأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، فليس له بعد ذلك أن يجادل في النتائج التي تترتب على هذه المقدمة التي آمن بها وسلم، وإلا كان متناقضا مع ذاته!

فكون الله هو الإله الذي لا إله غيره، وكون محمد صلى الله عليه وسلم هو النبي المرسل من عند الله حقاً وصدقاً، يترتب عليه أن يكون القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب المنزل من عند الله، وأنه صِدْق، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه هو مصدر التلقي، وأنه هو الملزم دون غيره.

فإذا جاء "عقل" بعد ذلك يقول: أنا أصدق كذا مما جاء في القرآن ولا أصدق كذا، فقد ناقض المقدمة التي سلم بها من قبل، وخرق قانون العقل ذاته.. وارتد عن مقتضى الإيمان.

وإذا جاء "عقل" آخر يقول إن التشريع الفلاني، الوراد في القرآن، "غير معقول"، أو إنه كان معقولا في فترة معينة ولم يعد معقولا اليوم، فقد جعل من نفسه إلها مع الله، بل جعل من نفسه إلها من دون الله، وكفر بالمقدمة التي آمن بها من قبل وهي أنه لا إله إلا الله، وزعم لنفسه أنه أحكم من الله، وأعلم من الله، وأوسع إحاطة من الله!

ومن ثم فإن العقل المؤمن لا يقع صراع بينه وبين الدين الذي أنزله الله، لا لأن الدين يمنعه من التفكير أو يحجر علي أن يفكر كما فعلت الكنيسة.. ولكن لأن إيمانه يوفر عليه الصراع..

أما إذا لم يؤمن أصلا بأنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.. فهذا شأنه، وهو منطقي مع نفسه في ضلالته حين يقول أصدق كذا ولا أصدق كذا، أو أخذ بكذا ولا أخذ بكذا. أما إذا أقر بالشهادتين، فلا مجال عنده لهذا التناقض الذي يصدر عن العقلانيين الذين يزعمون أنهم مؤمنون، ثم يقولون في دين الله ما يقولون!

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) (سورة النساء الآية: 60).

(فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) (سورة النساء الآية: 65).

* * *

وفي دين الله الصحيح يُدْعى العقل للعمل بكل طاقته، وفي جميع المجالات السوية التي خلق من أجلها.

يدعى للتفكر في آيات الله في الكون، الدالة على وحدانية الخالق سبحانه وتعالى، وأنه الإله وحده، الخالق البارئ المصور، المحيي المميت، الضار النافع، الرزاق ذو القوة المتين.. المبينة صفاته في كتاب الله المنزل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيدعوه هذا التفكر إلى الإيمان بالله واليوم الآخر:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (سورة آل عمران الآية: 190-191).

ويدعى للتفكر في آيات الله في الكون ليعرف سنن الله في الكون المادي، ليعينه ذلك على تسخير طاقات السماوات والأرض للقيام بترقية الحياة وتنميتها، وتعمير الأرض.. وهذا هو خط العلم، الذي برع فيه المسلمون بتوجيه من دين الله.

ويدعى للتفكر في حكمة التشريع.. فالتشريعات الربانية تحتاج إلى فقه بأحكامها لتنزيلها على ما يحدث في حياة الناس من أمور مشتجرة متداخلة، وبغير هذا الفقه لا يمكن تطبيقها التطبيق الصحيح. وقد نما الفقه الإسلامي نموا هائلا، بإعمال العقل، وكان هذا استجابة مباشرة لأمر الله وتوجيهه: "لعلكم تعقلون" "لعلكم تذكرون" "لعلكم تتفكرون" "أفلا يتدبرون القرآن".

ويدعى للتفكير في سنن الله في الحياة البشرية، وكيف تجري أقدار الله في حياة البشر، وذلك من أجل إقامة مجتمع راشد مستقيم يكتب له الفلاح في الدنيا والآخرة:

(إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (سورة الرعد الآية: 11).

(ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (سورة محمد من الآية: 4).

(وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ) (سورة البقرة من الآية: 251).

(فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (سورة الرعد من الآية: 17).

(وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (سورة الحج الآية: 48).

(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) (سورة الأنعام الآية: 44).

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (سورة الأعراف الآية: 96).

وعلم السنن هذا هو الأساس الصحيح لعلم الاجتماع الصحيح. ومراعاة السنن الربانية في واقع الحياة هي سبيل الرشد الإنساني:

(فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (سورة البقرة من الآية: 186).

ويدعى العقل كذلك لتدبر التاريخ، فيتكرر في القرآن قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا).. وقوله: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا).. وما في معناها. ذلك أن السنن الربانية المتعلقة بالمجتمعات طويلة المدى في تحققها، وقد يستغرق تحققها عدة قرون، فلا يتسع عمر الفرد المحدود لاستيعابه، فيوجّه الإنسان لدراسة التاريخ حيث يرى السنن متحققة بتمامها:

(قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ) (سورة آل عمران الآية: 137).

* * *

تلك هي العقلانية الإسلامية السوية المتوازنة كما رسم منهجها خالق العقل البشري، عالم الغيب والشهادة الحكيم الخبير.. فماذا يريد عقلانيو اليوم، الذين يدعون إلى عقلانية تقوم مقام الدين، أو تزيحه لتأخذ مكانه؟!

إن أوربا في تخبطاتها تجزّئ "الإنسان" دائما، فتأخذ جانبا منه وتترك جانبا آخر.

ففي الفترة الإغريقية الأولى أخذت جانب العقل، فضخّمته حتى جعلته هو المحكم في كل أمر، وأهملت جانب الروج. وفي الفترة الكنسية أخذت جانب الروح وأهملت جانب العقل، بل حجرت على العقل أن يفكر، وفي الفترة الإغريقية الثانية –فترة النهضة- عادت فأخذت جانب العقل وأهملت جانب الروح، بل حجرت عليه بوصفه خرافة وتأخرا وظلاما ورجعية..

وفي الفترة الرومانية الأولى أخذت جانب الجسد فضخمته على حساب الروح، وعنيت بجانب الجياة الدنيا فزينته وزخرفته وجمّلته وأهملت جانب الحياة الآخرة فلم تضعه في الحساب. وفي الفترة الكنسية حقّرت الجسد واعتبرته دنسا وقذارة، لتسعى –في ظنها- إلى خلاص الروح، وركزت على جانب الحياة الآخرة فأهملت الحياة الدنيا واعتبرت الانشغال بأمورها رجسا من عمل الشيطان. وفي الفترة الرومانية الثانية –في الواقع المعاصر- عادت إلى تضخيم الجسد على حساب الروح، وتضخيم الحياة الدنيا وتزيينها وزخرفتها وتجميلها مع إهمال الحياة الآخرة وإسقاطها من الحساب.

وهكذا يلاحق الخلل الحياة الأوربية في كل مرة، وتعجز عن استيعاب الكيان الإنساني المتجمع في كل مرة.

والإسلام هو الرشد..

هو المنهج المتكامل المتوازن، الذي يأخذ "الإنسان" كله: جسمه وعقله وروحه، عمله وفكره، دنياه وآخرته، ضروراته وانطلاقاته، حسّياته ومعنوياته.. جميعها في آن.

والإسلام نزل ليعيد إقامة الإنسان في أحسن تقويم كما خلقه الله أول مرة، ويشفي ما يتعرض له من أمراض في مسيرته في الحياة الدنيا:

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (سورة التين الآيات: 4-6).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (سورة يونس الآية: 57).

فماذا يريد العقلانيون؟!

يريدون عقلانية تضع دين الله المنزل على الميزان البشري، ثم تنتقده وتقول إنه غير صالح، ثم تزيحه وتضع نفسها مكانه، كما فعلت أوربا بدينها!

وقد أشرنا من قبل في أكثر من موضع إلى ما فعلت أوربا بدينها –وهي حرة تفعل بدينها ما تشاء- وبينا أنه لا مجال للمقارنة والقياس بين تجربة أوربا مع دينها وتجربة المسلمين مع الإسلام.

ولكنا –في ختام حديثنا- نحب أن نسأل: ما هو ذلك "العقل" الذي يراد له أن يضع دين الله المنزل على ميزانه، يقول فيه ما يقول؟!

إن العقل البشري –كما يعترف العقلانيون أنفسهم- ليس حكمة مطلقة غير معرضة للخطأ في التقدير، أو الانحراف في التصور. ويكفي شاهدا على ذلك تخبط "الفلاسفة" في القديم والحديث في بحثهم عن "الحق" و"الحقيقة" واختلافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار!

ثم إن العقل البشري ليس "سيدا" كما يزعم له دعاة العقلانية، إنما هو "خادم" مطيع للسيد الذي يستخدمه، فإذا استقام السيد استقام العقل معه، وإذا انحرف انحرف معه، وراح –بكل منطق- يزين له انحرافه، ويوهمه أن انحرافه هو "عين العقل"!

وانظر إلى العالم المعاصر..

أليس العقل الأوربي هو الذي زين للثورة الصناعية أن تقوم على الربا، وبرر هذا الانحراف البشع لأصحابه بأن من حق صاحب رأس المال أن يربح، ومن حقه أن يربح بكل وسيلة ممكنة، فنشأ من ذلك ما تنبأ به بعض عقلاء الغرب أنفسهم –ولكن ممن لا حول لهم ولا طول- من تراكم الثروة في يد فئة يتناقص عددها باستمرار، وانتشار الفقر في فئة يتزايد عددها باستمرار. وتجاوز هذا الأمر أفراد البلد الواحد، فصار سمة عالمية: دول تتزايد ثروتها وسطوتها وجبروتها باستمرار، ودول تتزايد معاناتها من الفقر والضعف والقهر والتبعية باستمرار؟!

أليس العقل الأوربي هو الذي زين لأوربا الانفلات من ضوابط الأخلاق، والانغماس البشع في شهوات الجسد، وبرر ذلك بأن الضوابط الدينية والأخلاقية كوابت، وأن الكبت يورث العقد النفسية والاضطرابات العصبية، وأن السبيل إلى تفادي العقد النفسية والأمراض العصبية هو الانطلاق بلا قيود؟!

أليس العقل الأوربي هو الذي زين لأوربا استعمار البلاد الضعيفة ونهب خيراتها وإذلال أهلها وإخضاعهم لمصالحها، وبرر ذلك بأنه حق المتقدم على المتأخر، وحق العالم على الجاهل، وحق المتحضر على المتخلف، وحق القوي على الضعيف؟!

للعقلانية جوانب مضيئة ولا شك، ولكنها في وضعها الحالي، المتفلت من ضوابط الدين، بل الساعي إلى إحلال العقل محل الدين، تمارس من السيئات أكثر مما تمارس من الحسنات، ومن الانحرافات أكثر مما تمارس من الاستقامات..

وهكذا يكون العقل حين يشب عن الطوق، ويستغني عن وصاية الله!!

إن العقل البشري في حاجة إلى ضوابط –غير ضوابطه الذاتية- تمنعه من الانحراف مع أصحاب الأهواء، ضوابط من مصدر أعلى منه وأحكم، وأعلم بحقائق الأمور..

والعجب لقوم يريدون سيادة العقل بسفاهاته الحالية، وينكرون على الله أن تكون حكمته هي الحكمة البالغة وعلمه هو العلم المطلق، وإحاطته هي الإحاطة التامة، وكلمته هي العليا..

* * *

وأخيرا نقول إن الأمة اليوم في أسوأ حالاتها.. وإنها بلغت حدا من السوء لم تبلغه في التاريخ. فلا هي تمارس دينها الحق ممارسة سليمة، لا هي عالجت أمراضها التي ألمت بها في مسيرتها التاريخية نتيجة بعدها التدريجي عن حقيقة دينها، ولا هي خلال ما يزيد على قرن من الزمان في محاولة الأخذ من الحضارة الأوربية قد استطاعت أن تكتسب إيجابيات هذه الحضارة –وفيها ولا شك إيجابيات كثيرة وهائلة إلى جانب السلبيات الكثيرة الهائلة- بل إنها أخذت من سلبياتها ما أضافته إلى أمراضها الذاتية، فأضافت سوءا على سوء، وتخلفا على تخلف، وضعفا وهوانا وتبعية ومذلة..

ذلك أمر لا يجادل فيه إنسان..

ولكن الخلاف هو فيما يختص بالعلاج الشافي من هذه الأمراض..

وبصرف النظر عن كون العلمانيين يعيشون في أبراجهم العاجية، ينظرون في الفضاء، ولا ينزلون إلى ساحة العمل الواقعي لإخراج الأمة من واقعها السيء إلى واقع أفضل، فالقضية التي يتنازع عليها دعاة الإصلاح هي المنهج.. منهج الإصلاح.

والعلمانيون يقولون: نأخذ المنهج الأوربي..

والله يقول: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (سورة النساء من الآية: 59).

متروي
09-02-2011, 03:11 AM
موقفنا من الآخر

من القضايا التي يثيرها العلمانيون كثيرا قضية "الآخر" الذي يخالفنا في الرأي، وضرورة الاعتراف له بشرعية الوجود، وحرية التعبير عما يريد، وبالأسلوب الذي يراه مناسبا للتعبير عما يريد.

ولن نسأل العلمانيين هنا عن موقفهم هم من "الآخر" الذي يخالفهم في الرأي، حين يكون هذا الآخر إسلاميا –أصوليا كما يسمونه- كما ينددون بوجوده، وكم يدعون إلى استئصاله، ويستعدون قوى العالم ضده، ويسكتون السكوت المخزي عما يلقاه في سجون الطغاة ومعتقلاتهم من صنوف التعذيب الوحشي، وأقصى ما يصفونها به –إن اضطروا إلى ذلك- أنها "تجاوزات" كان يحسن ألا تقع!

لن نسأل عن ذلك، لأننا نريد أن نبحث القضية بحثا موضوعيا هادئا بلا انفعال.

فمن هو "الآخر" الذي يريدون له شرعية الوجود، وحرية التعبير عما يريد؟ وهل هو نبتة محلية، نبتت تلقائيا من ظروفنا وبيئتنا؟ أم هو نبتة "مستوردة" جيء بها من بيئة أخرى، ومن ظروف غير ظروفنا؟

فلنرجع إلى المنبت الأصلي للقضية.. أي إلى أحوال أوربا في مبتدأ خروجها من قرونها الوسطى المظلمة (راجع الفصل الأول من الكتاب).

لقد كان طغيان الكنيسة كما وصفناه من قبل، وكما هو معروف ومشهور من مراجع الأوربيين أنفسهم، وكانت تفرض على الناس أفكارا ومعتقدات لا تقبل النقاش فيها، وتطالب "المؤمنين" بالتسليم بها تسليما مطلقا بغير جدال، وتعتبر من يحاول مناقشتها مهرطقا ملحدا مستحقا للعقاب في الدنيا والآخرة: في الدنيا بوسائل التعذيب الوحشي الذي تمارسه محاكم التفتيش، وفي الآخرة بالحرمان من "ملكوت الرب" الذي تزعم أن الله أودعها مفاتيحه، وأن ما تربطه الكنيسة على الأرض لا يحل في السماء، وما تحله في الأرض لا يربط في السماء.

وكان فيما تفرضه الكنيسة وتطلب التسليم به بغير نقاش بعض الحقائق، وكثير من الأباطيل التي لا سند لها إلا مزاعم الكنيسة، سواء في أمور العقيدة أو في أمور الحياة الدنيا، وفي المجال العلمي خاصة.

وكان العامة يتبعون الكنيسة في كل ما تقول، ربما عن إيمان حقيقي بما تقول، أو خوفا من السلطان الطاغي الذي تمارسه الكنيسة على القلوب والعقول والأرواح، والذي لا يتيح لأحد أن يجرؤ على المخالفة حتى في دخيلة نفسه لأن "قداسة" البابا- ممثل الله على الأرض- يمكن أن يطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور!

ويجب أن نتذكر أن هذا السلطان الطاغي قد نشأ أصلا من تحول الدين –على يد الكنيسة- إلى عقيدة بلا شريعة، وكل دين هذه صفته يتحول حملته إلى "كهنة"، ثم يصبح الكهنة وسطاء بين العبد والرب، رضاهم من رضا الإله، وغضبهم من غضب الإله، فتصبح لهم سطوة على قلوب العباد.. وقد تكرر هذا مرات كثيرة في التاريخ.

وظل الأمر في أوربا على هذه الصورة قرونا ذوات عدد، حتى بدأت أوربا تخرج من ظلمات قرونها الوسطى المظلمة على طرقات الإسلام، سواء في الحروب الصليبية، أو عن طريق العلاقات التجارية بين جنوة والبندقية والعالم الإسلامي، أو بتأثير الحضارة الإسلامية في الأندلس وصقلية الإسلامية وغيرها من مراكز الحضارة، أو بتأثير حركة الترجمة وخاصة في المجال العلمي، في الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والرياضيات[29].

وبدأ مع النهضة بروز "المفكر الحر"، الذي لا يدين بما تدين به الكنيسة، ولا يرضخ لسلطانها، ولا يتخذها مرجعا له في الفكر أو السلوك، وولدت من ثم قضية "الآخر" في الحياة الأوربية.

ويهمنا في موضوعنا الراهن أن نتعرف على موقف الكنيسة من جهة، وموقف "الجماهير" من جهة أخرى من "المفكر الحر" لنتعرف على أركان القضية في بيئتها الأصلية.

لقد تضافرت عوامل كثيرة في تكوين ذلك "المفكر الحر" في عصر النهضة، كان من أبرزها –وإن أنكرت أوربا ذلك وكرهت أن تُقِرّ به- بدء إحساس أوربا- بعد احتكاكها بالإسلام- بما كانت تعيش فيه من الظلام دون أن تدرك أنه ظلام، وتكوّن الرغبة عندها في الخروج من ذلك الظلام إلى النور، بعدما رأت كيف ينطلق "الإنسان" –في العالم الإسلامي- مفكرا ومبدعا وعالما وناشطا في مجالات الحياة المختفة بلا معوّق يعوقه عن الانطلاق.

وكانت الحركة العلمية التي نشطت في أوربا بعد تتلمذها على علماء المسلمين، وأخذها عنهم المنهج التجريبي في البحث العلمي[30]، ذات أثر كذلك في تكوين "المفكر الحر" الذي لا يعترف بالكنيسة مرجعاً له، ويتجه إلى تقليص نفوذها ومحاربته. فقد كشفت تلك الحركة العلمية –من جهة- زيف كثير من المعلومات التي كانت تتبناها الكنيسة، وتعتبرها "حقائق مقدسة" لمجرد كونها تتبناها، ومن جهة أخرى فإن الفظاظة الوحشية التي عاملت بها الكنيسة العلماء كونها تتبناها، ومن جهة أخرى فإن الفظاظة الوحشية التي عامت بها الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وأنها ليست مركز الكون –مخالفين بذلك مقولات الكنيسة- فحكمت عليهم الكنيسة بالحرق في النار أحياء، كان لها أثر بعيد في تنفير الناس –وخاصة المتنورين منهم- من الكنيسة وظلمها وظلماتها وجهالتها.

فإذا أضفنا إلى ذلك سقطات الكنيسة الأخرى من الفساد الخلقي لرجال الدين، وغرقهم في الترف الفاجر والناس جياع، وفضائح الأديرة، ومهزلة صكوك الغفران، ووقوف الكنيسة ضد حركات الإصلاح، سواء الإصلاح الديني أو الإصلاح الاجتماعي.. فقد كانت هذه كلها عوامل تغذي بروز "المفكر الحر" في المجتمع الأوربي.

وهنا واجهت ذلك "المفكر الحر" قوتان جبارتان، كان عليه أن يخوض معهما حربا طويلة مجهدة، إحداهما الكنيسة، وثانيتهما "الجماهير"!

فأما الكنيسة فقد سارعت إلى اتهام المفكر الحر بالهرطقة والإلحاد. وحقاً لم يكن ذلك "المفكر الحر" مؤمنا بدين الكنيسة، وربما لم يكن مؤمنا بأي دين! وقد يعجب الباحث في المعاجم الأوربية حين يكشف عن معنى free thinker في المعجم الإنجليزي مثلا فيجد معناها –أو من معانيها- الملحد الذي لا يؤمن بالدين! ومن جانبه فقد رد هو عليها فوصفها بالجهل والظلام والتخلف والتعنت والانغلاق والقسوة والتحجر.

أما معركته مع "الجماهير" فقد كانت ذات طابع مختلف، وإن كانت تسير على خط مواز لخط الكنيسة، فقد أخذت عليه الجماهير خروجه عن مألوف الناس، ومناداته بأفكار تخالف ما نشأت عليه تلك الجماهير وتوارثته جيلا وراء جيل خلال عدة قرون. وكانت معركته مع الجماهير مركزة على حقه في مخالفة الأوضاع السائدة في المجتمع، سواء كانت عقدية أو فكرية أو علمية أو سياسية أو اجتماعية، وحقه في التعبير عما يخالج ضميره من أفكار ومشاعر، ولو تصادمت مع ما يؤمن به المجتمع في كل تلك المجالات.

وغني عن البيان أن المعركة لم تكن سهلة ولا هينة، وأنها استغرقت عدة مراحل حتى انتهت إلى تقرير هذا الحق في صورته الراهنة اليوم.

وقد كانت الثورة الفرنسية إحدى تلك المراحل، كما كانت الثورة الصناعية وما أحدثت من رجات عنيفة في المجتمع الأوربي مرحلة من المراحل، وكذلك كانت الثورة الداروينية، وأخير ثورة المعلومات. في الثورة الفرنسية تقررت الديمقراطية التي كان من شعاراتهاLaissez-faire، دعه يفعل (ما يشاء) بما في ذلك حق الإلحاد والفساد الخلقي.. وفي مكان آخر تحدثنا عن دور اليهود في إدخال هذا الشعار على الثورة الفرنسية وهدفهم منه[31]، ولكنا هنا نشير إلى التسلسل الزمني الذي كان في كل مرة يضيف "حقوقا" جديدة للفرد تزيد من حريته في الخروج على الأوضاع القائمة في بيئته ومجتمعه.

وفي الثورة الصناعية –ولا ننسى دور اليهود فيها[32]- تحطمت أوضاع بكاملها كانت السيادة فيها لطبقة النبلاء وطبقة رجال الدين، واستحدثت طبقات جديدة: طبقة أصحاب رءوس الأموال، والطبقة الوسطى المتعلمة "المتحررة" وطبقة العمال. وعمل اليهود على إفساد الطبقات الثلاث من خلال المزيد من الحرية الفردية، والمزيد من تحطيم تقاليد المجتمع، والمزيد من تقليص دور الدين، ومن خلال "تحرير المرأة" وإخراجها من بيتها إلى الطريق لتعمل، وتتكسب، وتَفسُد وتُفْسِد[33]!

وفي الثورة الداروينية تحطم ما كان قد بقي من نفوذ الدين بإلغاء دور الخالق في الخلق، ونسبته إلى "الطبيعة"، وتحطم معه ميزان القيم المستمدة من الدين، واستبدلت بها قيم نفعية –"براجماتية" كما يسمونها" لا تحسب حسابا للمعيار الديني أو المعيار الأخلاقي للتصرفات، إنما تنظر إليها من جانب ما تحقق من النفع أو الضر بمقياس الفرد الذي يريد أن "يستمتع" بأكبر قدر من المتاع.

وجاءت أخيرا ثورة المعلومات فزادت في العيار الأخير.. عيار الاستمتاع بأكبر قدر من المتاع.

* * *

كيف نقوّم دور "المفكر الحر" في هذه الأطوار المتعاقبة؟

لقد تقرر في الأخير حقه كاملا في الوجود، والتعبير عما يريد، وبالأسلوب الذي يراه معبرا عما يريد.

فهل كان موقفه صوابا خالصا، أم خطأ خالصا، أم مزيجا من الصواب والخطأ؟ وإن كان مزيجا من الصواب والخطأ فأيهما كان الغالب على موقفه: الخطأ أم الصواب؟

ويجب أن نضع في حسابنا ابتداء أن المعركة –سواء كانت مع الكنيسة أو الجماهير- كانت تدور في النهاية بين بشر وبشر، بشر يدّعون –أو يدعي فريق منهم- أنهم ظل الله في الأرض، وأن كلمتهم هي كلمة السماء، وبشر يرفضون الخضوع لهم ولمقولاتهم، ولو قالوا إنهم يمثلون كلمة السماء!

وهذا أمر نرى له أهمية كبيرة في قضيتنا.. نقرره هنا ابتداء ثم نعود إليه بالتوضيح.

لقد كان في مقولات الكنيسة حقائق وأباطيل..

كان إيمانها بوجود الله، وإيمانها بالبعث والنشور، وإيمانها بأن غاية الوجود الإنساني في الحياة الدنيا هي عبادة الله.. كان هذا كله حقا وصوابا من حيث المبدأ، بصرف النظر عن انحرافات التأويل.

ولكنها إلى جانب ذلك كانت تمارس كثيراً من الخطأ، وتتبنى كثيراً من الأباطيل.

فادعاء العصمة لبشر من البشر غير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، سواء كان ذلك البشر هو بطرس، أو "قداسة البابا"، أو أيا كان، كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

وكان حجرها على العقل أن يفكر، لئلا يفكر في بعض مقولات الكنيسة التي لا سند لها من الدين الصحيح، وتشديدها في هذا الأمر، واتهام كل من يناقش شيئا من ذلك بالهرطقة والإلحاد.. كان هذا خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

وكانت إقامة محاكم التفتيش، وتعذيبها الناس إلى حد حرقهم أحياء بمجرد الظنة دون دليل حقيقي، خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

وكان تحريقها العلماء لأنهم نادوا بأفكار علمية تخالف ما تتبناه من أفكار حول شكل الأرض ومركزها من الكون، خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

بالإضافة إلى فساد رجال الدين، ويبع صكوك الغفران، والبذخ الفاجر، والوقوف ضد حركات الإصلاح، ومساندة الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وإضفاء الشرعية المزيفة عليه بأنه يمثل إرادة الله، وأن مقاومته أو عدم الرضا به تمرد على إرادة الله..

وهنا كان "المفكر الحر" على صواب في حربه ضد الكنيسة ورجالها، والمطالبة بحقه في مهاجمتها، وتقليص نفوذها، ورفع يدها عن التدخل في أمور الحياة.

ولكن خطأه الأساسي كان أنه يتحرك حركة انفعالية، هي رد فعل للمظالم القائمة، فيتطرف في الجانب المقابل، فلا يكتفي بتفنيد ما تدعيه الكنيسة من الأباطيل وما تمارسه من الأخطاء، بل ينكر حتى الحقائق الثابتة لمجرد كونها صادرة عن الكنيسة! وهو موقف لا "عقلانية" فيه، وإن زعم أنه يقوم به تحت راية "العقلانية"!

أما موقف الجماهير فقد كان بدوره يشتمل على حقائق وأباطيل..

فإيمانهم بالله واليوم الآخر، وإيمانهم بأخلاق تحكم حياة الإنسان، وإيمانهم بوجوب تقديس الله وتوقير أنبيائه، وإيمانهم بوجوب المحافظة على الأسرة، وتربية الآباء للأبناء.. كان هذا كله حقاً وصوابا من حيث المبدأ، بصرف النظر عن انحرافات التأويل.

ولكن استسلامهم للظلم والذل كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

واستغراقهم في الجهل –بلا علم ولا تعلم- كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

واعتقادهم بقداسة رجال الدين، واتخاذهم وسطاء بينهم وبين الله كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان. وتحقيرهم للمرأة، والنظر إليها على أنها كائن أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان. وعدم تقبلهم لأي تغيير ولو كان صالحا كان خطأ ما أنزل الله به من سلطان.

وهنا كان "المفكر الحر" على صواب في حربه معهم، والمطالبة بحقه في الخروج على منهج تفكيرهم ومنهج حياتهم، ودعوتهم إلى تغيير ما هم عليه من سلبية وجمود.

ولكن خطأه الأساسي هنا أيضا كان أنه يتحرك حركة انفعالية، فلا يكتفي بمحاولة تصحيح الأخطاء، سواء أخطاء الفكر أو السلوك، وإنما يدعو إلى التغيير الشامل لكل شيء، بما في ذلك الدين والأخلاق، والتقاليد التي تمنع هبوط الإنسان إلى درك الحيوان.

* * *

إلى أن تقرر للمفكر الحر حقه الكامل في شرعية الوجود، وشرعية التعبير عما يريد، بالأسلوب الذي يراه معبرا عما يريد، كان المفكر الحر هو "الآخر" بالنسبة للمجتمع، وكان حقه واضحا في دعواه على الرغم من الشطط الذي كان واقعا فيه، والذي لا يبرره كل ما كان يدعو إليه من الحق والصواب. وأدى ذلك المفكر الحر دوراً إيجابياً في إخراج الناس من الظلمات التي كانوا يعيشون فيها إلى كثير من النور، وإن كان مأخذنا عليه أنه قادهم إلى ظلمات من نوع جديد!

واليوم يعتقد العلمانيون في العالم الإسلامي أنهم يمثلون دور ذلك "المفكر الحر" الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور.. ودور ذلك "الآخر" الذي ينبغي الاعتراف له بشرعية الوجود.

وهنا الوهم الكبير الذي يقع فيه العلمانيون.

ونحن –من أجل البحث- نفترض فيهم الإخلاص الكامل وتوفر حسن النية، ولكن الإخلاص وحسن النية شيء، واستقامة الفكر شيء آخر، ولا علاقة بينهما! فقد يوجدان معا، وقد يوجد أي منهما دون الآخر!

ونبدأ فنقول: إن "الآخر" الذي يخالفنا في الرأي في إطار الإسلام، لا تحريج عليه في الواقع التاريخي للأمة الإسلامية، وإلا فكيف وجدت المذاهب المختلفة؟ وكيف اختلف الفقهاء فيما بينهم؟ وكيف صار للخلاف قواعد تدرس لطلاب العلم؟ وكيف قال من قال من علمائنا: قلوان صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب، وتك قمة النزاهة العلمية وموضوعية البحث، إذ يعتقد العالم أنه على صواب ولكنه لا يصادر احتمال الخطأ، ويعتقد أن غيره مخطئ ومع ذلك يعطيه احتمال الصواب!

ومن ثم لا يكون "للآخر" شكوى، ولا تكون له قضية يثيرها في المجتمع المسلم. وذلك منشؤه أنه لا توجد في دين الله كنيسة ولا رجال دين، فلا يوجد من ثم من يحتكر الصواب وحده. ويؤمن المسلم أن الكمال لله وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يستطيع أن يظن في دخيلة نفسه أنه على صواب، ولكنه حين يحاجج الآخرين مطالب بإبراز الدليل، ولا قيمة لدعواه إن لم يقم عليها الدليل.. والواقع التاريخي للأمة الإسلامية هو مصداق هذه الحقائق جميعا، وقد وقع الاختلاف في الرأي منذ وفاة الرسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة سواء في حادث السقيفة أو في محاربة المرتدين أو غيرهما من المواقف، ولم ينكر المسلمون على بعضهم البعض مبدأ الاختلاف. وإن اشتد النقاش بينهم في أمور. وما كانت الشورى لتكون قاعدة أساسية من قواعد المجتمع المسلم ينص عليها القرآن نصا لو أن الخلاف في الرأي كان غير جائز! وإلا فما مجال الشورى إذا كان الرأي تفرضه جهة معينة فيلتزم به الجميع؟!

نعم.. ولكن!

* * *

إن العلمانيين لا تعنيهم هذه الحقائق كلها ولا تشبع تطلعاتهم..

إنهم يطالبون بشرعية الوجود لمن يحمل اسما مسلما ويريد أن يكون فكره أو سلوكه خارج إطار الإسلام (وإن ادعى غير ذلك!) فلا يسأل عما يفعل، ولا تصادر حريته، ويقول ما شاء له هواه أن يقول، ويفعل ما شاء له هواه أن يفعل دون تحريج، لأنه هكذا صار الأمر في أوربا حين خرجت من قرونها الوسطى المظلمة..

ونأخذ مثالين واقعيين من أمثلة "الآخر" الذي يطالب له العلمانيون بشرعية الوجود، وحرية التعبير عما يريد، لا لأنهما المثالان الوحيدان، ولكن لأنهم أثارا ضجة كبيرة من قبل العلمانيين عند وقوعهما.

الأول فيما يسمونه "نقد النص الديني" الذي قام به نصر أبو زيد، والثاني عمل "فني!" بعنوان "وليمة لأعشاب البحر"!

ونبدأ بالحديث عن "نقد النص الديني".. وهو أمر حدث في أوربا، ويريد له العلمانيون أن يحدث في العالم الإسلامي.

قلنا أكثر من مرة إن أوربا حرة تفعل بدينها ما تشاء.

أما نحن المسلمين؟!

إننا –ما دمنا مسلمين، نشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله –فنحن نؤمن إيمانا جازما بأن القرآن كلام الله، بنصه كما أنزل، لم يتغير منه حرف، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، محفوظ بحفظ الله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر الآية: 9).

فمنذا الذي يزعم أنه أحكم من الله، وأعلم من الله، وأقدر على معرفة الحقائق من الله، حتى يكون من حقه أن يضع كلام الله على ميزانه، فيقر منه ما يقر، ويعترض منه على ما يشاء؟!

أيكون "مسلما" مقرا بالشهادتين حين يفعل ذلك؟ وما الفرق بينه يومئذ وبين الشيطان الذي يعرف أن ربه وخالقه هو الله، ثم يتبجح بعد ذلك فيقول إن له رأيا في شأن من الشئون يخالف أمر الله؟!

قد يزعم العلماني أنه لا ينقض كلام الله، إنما ينقض فهم الآخرين لكلام الله، وهو أمر بشري في نهاية المطاف! وما دمنا نفهم القرآن بعقولنا البشرية، والعقول تختلف، والأفهام تختلف، فمن حق أي بشر أن يفهم من القرآن غير ما فهمناه نحن، ولا يكون بذلك قد خرج عن إطار الإسلام!

وفي هذا القول مغالطات كثيرة..

فمهما اختلفت العقول –السوية- ففي إطار معين، تحدده اللغة ذاتها. وإلا فلو أن من حق كل إنسان أن يفهم من اللغة ما شاء على هواه، فكيف تصبح اللغة أداة تفاهم بين الخلق، وأداة اتصال اجتماعي وفكري؟! وكيف تؤدي مهمتها في حياة البشر؟!

كيف يتأتى لعقل –سوي- أن يترجم "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" إلى: أنه يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه.. ثم يكون بعد ذلك "مؤمنا" بصحة النص؟! إلا أن يلغي "العقل ذاته، ومعاييره، ومفاهيمه.. أو يقر بأنه "غير مؤمن" بما يدعي الإيمان به!

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: إذا كنا قد عبنا على "المفكر الحر" الغربي –على الرغم من كل دوره في "التنوير" وإخراج أمته من بعض ظلماتها- أنه قد شطح بتأثير الانفعال غير العقلاني، فأنكر ما في دينه من الحقائق، مكايدة للكنيسة وطغيانها، فأدخل أمته في ظلمات من نوع جديد، فكيف يتأتى لنا أن ننادي بحق المفكر العلماني الذي يحمل اسما مسلما أن يشطح فينكر حقائق دينه، وهي حقائق ربانية المصدر، لا مجال فيها للتأويل الذي يخرجها عن أصولها ومصداقيتها بدلالة اللغة ذاتها التي هي منطق العقول؟!

أما الفن!

فالفنان المسلم هو مسلم أولا، أي ملتزم بمقررات دينه، ثم هو فنان بعد ذلك[34]، وكونه فنانا، و"مبدعا"، لا يخرجه عن التزامه بمقررات دينه، ولا يبيح له أن يسخر منها ويهزأ بها، وإلا أخرجه ذلك من إسلامه. وقد قال تعالى في حق بعض أولئك المستهزئين: (قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ، وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (سورة التوبة: الآيات: 64-66).

وهؤلاء –وأمثالهم- هم الذين يعتذر لهم العلمانيون بعذر لم يجزه لهم الله سبحانه، وحكم عليهم بالردة، فكيف يكون لهم في المجتمع المسلم شرعية الوجود، وحرية التعبير عما في أنفسهم ولو خالفوا كل مقررات الدين؟

إن منهج الفن الإسلامي لا يحرّج على الفنان المسلم أن يتناول أي موضوع يشاء، ولكن مع الالتزام بمقررات الدين وروحه وتوجيهاته. ولقد تناول القرآن الكريم قصة امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام، فكيف تناولها؟ ألتبريرها بحجة الواقعية؟ ألتلذيذ القارئ بالفاحشة كما تصنع الفنون الهابطة؟ أم لإثارة الاستنكار لها والتنفير منها؟ ثم كيف ختمت القصة في القرآن الكريم؟ أبلحظة الهبوط أم بلحظة الإفاقة والعودة إلى السلوك السوي؟ وهكذا يكون تناول الفنان المسلم لانحرافات الكيان البشري. لا لإقرارها على أنها واقع، ولا لتبرير وجودها لمجرد أنها صادرة عن "الإنسان"!

ولقد سجل القرآن الكريم كل انحرافات البشر العقدية، بما فيها بعض تخرصات اليهود على ذات الله سبحانه وتعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) (سورة المائدة الآية: 64)، (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء) (سورة آل عمران الآية: 181). فهل سجلها ليعرضها على أنها واقع فحسب؟ أو سجلها ليعطيها شرعية الوجود؟ أم سجلها ليبين انحرافها، وينكر عليها، ويثير في نفس المؤمن استعظام الجرم الذي ارتكبه قائلوها، ومدى خروجهم على آدميتهم وعتوّهم على أمر الله[35]؟

* * *

كلا! ما هذا تكون الأمور في المجتمع المسلم الملتزم بما أنزل الله..

ولا نقول مع ذلك إن "الآخر" ليس له دور يؤديه في واقعنا المعاصر! بل نقول على العكس إن له دورا هائلا عليه أن يؤديه!

إن المجتمع الإسلامي في واقعه المعاصر مليء بالانحرافات والأمراض والآفات. وإن الأمة في واقعها المعاصر قد بعدت بعدا شاسعا عن الصورة التي أرادها لها الله وأخرجها من أجلها:

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (سورة آل عمران الآية: 110).

(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (سورة البقرة الآية: 143).

وهي في حاجة لمن يذكرها: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (سورة الذاريات الآية: 55).

وفي حاجة لمن يردها عن انحرافاتها ويعيدها إلى الطريق: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة آل عمران الآية: 104).

في هذه النقطة لا خلاف بيننا وبين العلمانيين.

فنحن جميعا متفقون على وجود الأمراض في المجتمع الإسلامي، ومتفقون جميعا على ضرورة علاج هذه الأمراض إذا أريد لهذه الأمة أن تنزع عنها تخلفها، وتعود إلى الحياة من جديد. ولكن موضع الخلاف هو في تشخيص المرض ووصف العلاج. فهم يرون أن السبب فيما أصاب الأمة من الأمراض هو الدين، وأن العلاج –على الطريقة الأوربية- هو نبذ الدين أو تحجيمه كما فعلت أوربا لتخرج من قرونها الوسطى المظلمة.

ونحن نرى أن السبب فيما أصاب الأمة من الأمراض هو الانحراف عن الدين، وأن العلاج –على الطريقة الإسلامية- هو العودة الصحيحة إلى دين الله القويم، الذي أنزله الله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بدءاً بتعريف الناس ما جهلوه من حقائق الدين، وانتهاء بتربية الأمة على مقتضيات هذا الدين، لتعود كما أرادها الله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).

والذي تحتاج إليه الأمة في واقعها المعاصر هو ذلك الداعية المربي، الذي يبين الحقائق ويربي الناس عليها.. وهو هو "الآخر" الذي تتضافر قوى كثيرة في الأرض على خنق صوته وإخماد نشاطه تحت شتى المعايير.. وهو هو الذي يحتاج أن نقرر له شرعية الوجود، وشرعية التعبير عما يريد!

الحداثة

كانت أوربا في الفترة التي سيطر فيها رجال الدين متأخرة جاهلة منغلقة محدودة الآفاق.

وحين نبذت دينها تقدمت وتعلمت وتحضرت واتسعت آفاقها..

هذه حقيقة تاريخية لا وجه للجدال فيها..

ولقد تواكبت جملة عوامل أدت كلها إلى القفزة الهائلة التي قفزتها أوربا في مجالات القوة العلمية والقوة الاقتصادية والقوة الحربية والقوة السياسية.. وحدث ذلك كله في الفترة التي نبذت فيها أوربا دينها، مما رسّخ في حسها أن نبذ الدين هو السبيل إلى كل تقدم، كما أن الدين كان هو السبب في التأخر الماضي كله، فلا عودة إليه، لأن العودة معناها الخروج من النور إلى الظلام.

وهذا الذي رسخ في حس أوربا بعضه حقائق، وبعضه ظنون نشأت عن موافقات معينة حدثت منذ النهضة، لا تشكل بالضرورة سببا ونتيجة، ولكنها في الجو المحموم الذي صاحب النهضة ضد الدين والكنيسة، أخذت صورة السبب والنتيجة سواء في حالة السلب أو الإيجاب، أي في كون الدين سبب كل مصيبة، وأن نبذ الدين سبب كل فلاح!

كان الدين ورجاله في عصور أوربا الوسطى المظلمة على الحالة التي وصفناها من قبل، والتي تفيض المراجع الأوربية في وصفها بكل قبيح من الأوصاف.

ولكن الغلطة الأولى في تصورات أوربا في عصر النهضة كانت في تصورها أن الدين من حيث هو، هو سبب البلاء كله. وقد كانت التجربة الإسلامية المعروضة أمام أوربا بوضوح في الأندلس وغيرها من بلاد الإسلام كفيلة بأن تبصرها بالحقيقة، وهي أن سبب البلاء لم يكن الدين من حيث هو، إنما كان تصرفات الكنيسة بذلك الدين.

ولا تقف الحملة الشرسة التي وقفتها الكنيسة ضد الإسلام عذرا في تغييب هذه الحقيقة عن ذهن أوربا، لو أخذنا الأمور بميزان العقل الذي تزعم أوربا أنها فاءت إليه، فقد كان الموقف كله انفعاليا واضح الانفعال، لا أثر للتعقل فيه!

ثم اكتشف نيوتن قانون السببية كما أشرنا في فصل سابق فأضاف هذا في حس أوربا بعداً جديداً ضد الدين؛ مؤداه أن العلم يصلح بديلا من الدين، بل هو البديل الصحيح الذي يدفع بالبشرية إلى الأمام.

وكان هذا وهما جديدا من أوهام النهضة الأوربية غير المستبصرة.. فقد كانت التجربة الإسلامية –كما قلنا- معروضة بوضوح أمام أوربا، وكان واضحا فيها ليس فقط أنه لا يوجد تعارض بين الدين والعلم، بل إن الدين كان هو الدافع إلى العلم.

ولا تقف الحملة الشرسة التي قامت بها الكنيسة ضد العلماء الذين قالوا بكروية الأرض عذرا في تغييب هذه الحقيقة عن ذهن أوربا، فالشخص العقلاني المتنور لا يأخذ الانفعال فينسيه الحقائق، ولا يتصرف إزاء الحقائق بانفعالاته!

إن اكتشاف قانون السببية قد جعل رجلا مثل "برنتون" يقول: "إن السببية تهدم كل ما بنته الخرافات والإلهامات والمعتقدات الباطلة (يقصد المعتقدات الدينية) في هذا العالم"[36].

ويقول في الصفحة نفسها: "الإله في عرف نيوتن أشبه بصانع الساعة، ولكن صانع هذه الساعة الكونية، ونعني بها الكون، لم يلبث أن شد على رباطها إلى الأبد، فبإمكانه أن يجعلها تعمل حتى الأبد. أما الرجال على هذه الأرض فقد صممهم الإله كأجزاء من آلته الضخمة هذه ليجروا عليها. وإنه ليبدو أن ليس ثمة داع أو فائدة من الصلاة إلى الإله صانع هذه الساعة الضخمة الكونية، الذي لا يستطيع إذا ما أراد التدخل في عمله"!!

وقال في الكتاب نفسه قبل ذلك بصفحات: "فالمذهب العقلي يتجه نحو إزالة الله وما فوق الطبيعة من الكون. فإن نمو المعرفة العلمية وازدياد الاستخدام البارع للأساليب العلمية يرتبط بشدة مع نمو الوضع العقلي نحو الكون"[37].

حماقات..!

(إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ) (سورة فاطر الآية: 41).

(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (سورة الأنبياء الآية: 104).

(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً) (سورة فاطر من الآية: 44).

فالله سبحانه، خالق هذا الكون، لا يعجز عن تغييره أو إبطاله أو خلق غيره إذا شاء، وهو الذي يقول للشيء كن فيكون. وليس ثبات النواميس الكونية دليلا على عجز الله عن التغيير كما استنبطت عقلانية النهضة بسذاجة حمقاء، إنما هي الرغبة في مكايدة الكنيسة، التي وقفت بضراوة ضد العلم، هي التي دفعت أهل العلم أن يردوا للكنيسة إلهها الذي اضطهدتهم باسمه، ويزعموا لها أن الكون يمكن أن يسير بغير إله!!

حماقة انفعالية، لا صلة لها بالعلم، ولا صلة لها بالعقل، ولكنها سادت عصر النهضة وما بعده إلا من رحم ربك!

ثم إن اكتشاف السببية، أي اكتشاف أن هناك أسبابا وراء الظواهر التي نشاهدها في الطبيعة، والتعرّف على هذه الأسباب، لا يلغي الإيمان بوجود الإله الخالق سبحانه وتعالى، إنما هو فقط يشرح السنن التي يجريها الله في هذا الكون، وإلا فما الذي جعل الأسباب تؤدي إلى نتائجها على هذا النحو بالذات، الموجود في الكون، وليس على أي نحو آخر؟! ولو شاء الله ألا تؤدي الأسباب إلى النتائج فكيف كان "العلم" سيجعلها تؤدي إليها؟!

(أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ، أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ، أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ،لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (سورة الواقعة الآيات 58-74).

(أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) (سورة الملك الآية: 21).

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (سورة الطور الآية: 35).

لقد عرف المسلمون قبل أوربا بقرون، أن هناك أسباب تؤدي إلى حدوث الأشياء، فلم يجعلهم ذلك يكفرون بالله، ولا جعلهم يضعون العلم بديلا من الدين. ذلك أنهم أدركوا أن مسبب الأسباب –سبحانه- هو الذي أنشأ الأسباب، وأجراها على النحو الذي تجري عليه، فزادتهم معرفة الأسباب قربا من الله لا بعدا عنه:

(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) (سورة فاطر من الآية: 28).

وعرفوا أن الأسباب لا تجري على النحو الذي تجري به من ذات نفسها، وإنما لأن مجريها هو الذي أجراها على هذا النحو:

(رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (سورة طه الآية: 50).

فعبدوا الله واستمسكوا بعبادته وهم يفتحون مغاليق العلم، ويكتشفون أسرار الكون، ويتعرفون نواميسه، فنما على أيديهم علم الكيمياء وعلم الفيزياء وعلم الفلك وعلم الطب وغيرها من العلوم في وفاق كامل مع العقيدة، وسلام كامل مع الدين..

ولكن على العكس من ذلك تماما كان نمو العلم في أوربا، كلما زاد القوم علما زادوا بعداً عن الدين!

* * *

ثم حدثت تحولات في حياة أوربا زادتهم إهمالا للدين، ونفيا له من واقع الحياة..

جاءت الثورة الفرنسية، ثم الثورة الصناعية، ثم الثورة الداروينية، ثم ثورة الاتصالات وثورة المعلومات!

وكل منها كان موجة جارفة، تبعد بالناس عن شاطئ الدين، وتنفرهم من الاتجاه إليه!

فأما الثورة الفرنسية التي يقول اليهود إنهم هم الذين أشعلوها (ولا شك أن جمعياتهم الماسونية المنتشرة في فرنسا يومئذ كان لها دور في إشعالها) فقد قالت: نريد أن نشنق آخر ملك بأمعاء آخر قسيس!

وليس هنا مجال التفصيل في أحداث الثورة الفرنسية وملابساتها، ولكنا نقول باختصار إن الماسونية التي قامت بدور في إشعالها استطاعت أن تحول السخط المتنامي على رجال الدين إلى كراهية للدين ذاته، وتنصل منه، وإبعاد له من واقع الحياة. فصدر أول دستور علماني في أوربا النصرانية ينص فيه على علمانية الدولة، أي عدم قيامها على أسس دينية، وينص كذلك على أن اليهودي مواطن كامل المواطنة في فرنسا العلمانية! كما يلفت نظرنا شعار الثورة: الحرية –الإخاء- المساواة، الذي هو شعار الماسونية! وكذلك الشعار الآخر الذي رفعه اليهود في غفلة من "الأمميين" الفرنسيين: laissez faire,laissez passerدعه يعمل (ما يشاء)، دعه يمر (من حيث يشاء) الأول يعني الحرية الشخصية التي تشمل حرية الإلحاد وحرية الفساد الخلقي، والثاني يعني حرية رأس المال في اختراق الحواجز كلها للوصول إلى الربح.

وفي تلك الثورة تحرر عبيد الأرض، وأرسيت قواعد الديمقراطية، وكان هذا تقدما كبيرا ولا شك، كسب فيه الشعب مكاسب كثيرة لم تكن متاحة له من قبل.. ولكن هذا التقدم اقترن –دون صلة حقيقية –بنبذ الدين، فزاد من إحساس أوربا- أو من توهمها- أن نبذ الدين هو أساس التقدم، وأساس تحقيق إنسانية الإنسان!

وأما الثورة الصناعية فكانت ثورة عنيفة وصريحة ضد الدين، سواء في نظرياتها أو في واقعها. ولا بد لنا أن نتذكر أن الثورة الصناعية قد ولدت من أول لحظة في يد اليهود، لأنهم هم الذين مولوها عن طريق الإقراض بالربا، فسيطروا على المجتمع الأوربي بما جمعوه من الذهب عن طريق الربا، وشكلوه على الوجه الذي يحقق مخططهم الشرير في إفساد "الأمميين" من أجل استحمارهم وتسخيرهم لخدمة اليهود كما يذكر التلمود. وكانت أداتهم الكبرى في الإفساد نظريات ماركس وفرويد ودور كايم من ناحية، وإخراج المرأة لتعمل، ونشر الفساد الخلقي من جراء الاختلاط، وإنشاء العلاقات "البريئة" في مبدأ الأمر بين الجنسين، ثم تحويلها إلى علاقات منفلتة من جميع الضوابط التي شوه صورتها ماركس وفرويد ودور كايم ودعوا إلى تحطيمها[38]!

وتقدمت الصناعة كثيرا في ظل الثورة الصناعية، وتقدمت العلوم، وتقدمت التكنولوجيا، وأخذت تؤدي للبشر خدمات لم يكن البشر يحلمون بها من قبل –واقترن هذا التقدم- دون صلة حقيقية- بنبذ الدين، فزاد من اقتناع أوربا أن نبذ الدين هو أساس كل تقدم ورقي وانطلاق!

وجاء دارون بنظريته التي أكد فيها حيوانية الإنسان وماديته، فتلقفها اليهود، ونشروها في الآفاق، وهم يدركون آثارها السامة بالنسبة إلى العقيدة، إذ تؤله "الطبيعة" بدلا من الله، وتنسب إليها الخلق، وتزعم أن الله لا دخل له بالخلق ولا التدبير، إضافة إلى رد الإنسان إلى أصل حيواني، لا مكان فيه للدين ولا القيم ولا الأخلاق.

وقال دارون فيما قال: survival of the fittest، وترجمتها بالنسبة إلى نظريته في التطور أن البقاء للأنسب، أي للذي يؤهله وضعه العضوي والوظيفي للبقاء حين تتغير الظروف الجيولوجية، بصرف النظر عن موقعه في سلم التطور، وإلا فقد بقي الصرصار وهو من أدنى المخلوقات وانقرض الديناصور وهو أرقى منه مئات أو آلاف المرات.

ولكن الرأسمالية حورت كلام دارون فجعلته "البقاء للأصلح"، ثم قالت إنها هي الأصلح بمقتضى أنها هي المسيطرة! ولما كانت هذه الرأسمالية –اليهودية أساسا- عدوة للدين والأخلاق والتقاليد، فقد صار "الأصلح" هو الأبعد عن الدين والأخلاق والتقاليد!

وفي الوقت ذاته كان هناك تحول سياسي وحربي هائل يحدث في الأرض، نتيجة الضعف المتزايد للعالم الإسلامي، الذي أغرى الصليبية الأوربية بالانطلاق لاحتلال العالم الإسلامي ونهب خيراته، وكان من نتيجة الاستعمار الغربي ونهب الخيرات أن زادت أوربا ثراء بشكل فاحش، ومكنها ثراؤها –المسلوب من دماء المسلمين- من رفع مستواها الاقتصادي والتنعم بخيرات الأرض، وجاءها هذا الثراء كله وهي بعيدة عن الدين، فزاد من إحساسها أن البعد عن الدين يجلب الثروة ويجلب الرخاء ويجلب النعيم في الأرض[39].

وأخيرا جاءت ثورة الاتصالات وثورة المعلومات –واليهود أساطينها- لتغرق الناس عن طريق القنوات الفضائية في حمأة من الدنس لا مثيل لها في التاريخ، في الوقت الذي تقدم إلى الناس خدمات مذهلة تأخذ بالألباب.. واقترن الأمران معا، التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل مع الفساد الخلقي الذريع، مع أنه لا صلة لأحدهما بالآخر على الإطلاق، وصار في حس الناس أن أساس التقدم كله –وفي جميع المجالات- هو نبذ الدين.

* * *

تلك –في أوربا- هي قصة "الحداثة"..

مرتفعات شاهقة ومنحدرات سحيقة!

والإشكال في العقلية الأوربية هو الربط بين المرتفعات والمنحدرات كأنها حزمة واحدة مترابطة لا ينفصل بعضها عن بعض، وكأنما تلك المنحدرات من مستلزمات تلك المرتفعات.

وهو وَهْمٌ بطبيعة الحال، لا يثبت أمام العقلانية المدعاة! بل هو مجموعة أوهام..

الوهم الأول والأكبر أن هذا التقدم لم يكن ممكنا مع وجود الدين.

لو قالوا إنه لم يكن ممكنا مع وجود الكنيسة بحالتها التي كانت عليها، وسطوتها التي كانت لها.. لو قالوا ذلك لكانوا صادقين كل الصدق، وعاقلين كل العقل.. أما إطلاق القول، والظن بأن الدين –أي دين وكل دين- هو عائق عن التقدم، ففضلا عما فيه من سوء الأدب مع الخالق منزل الدين، وسوء التعامل مع الفطرة –والدين مركوز فيها- فهو مخالف لواقع تاريخي ضخم، امتد في الزمان عدة قرون، وامتد في المكان من المحيط إلى المحيط. وإغفال هذا الواقع لمجرد أنه واقع قوم آخرين وليس واقعا أوربيا أمر مجاف للعقلانية السوية من جهة، وغرور مرذول من جهة أخرى لا يليق بالإنسان الراشد، الذي "شب عن الطوق" كما يزعمون لأنفسهم.

والوهم الثاني –وهو خطير كذلك- هو الظن بأن التقدم العلمي والتكنولوجي معناه أن "الإنسان" كله قد ارتقى، وأن واقع البشرية اليوم هو أعلى ما وصلت إليه البشرية في جميع العصور!

وهذا الوهم –فضلا عما فيه من جهالة بالنفس البشرية وأحوالها- ففيه كذلك جهل بالسنن الربانية التي يجريها الله سبحانه وتعالى في حياة البشر.

نستطيع أن نسلم بصفة عامة أن هناك في حياة البشرية خطا صاعدا باستمرار، هو خط العلم وما يصاحبه من تقدم في استخدام الأدوات.. فالصعود المستمر في هذا الخط له ما يسنده من طبيعة النفس البشرية ذاتها كما خلقها الله. ففي فطرة الإنسان أن يسعى إلى التعرف على ما حوله من الموجودات ، وأن يستخدم معرفته في تحسين أحواله المعيشية، تحقيقا لما سخره الله للإنسان من أدوات في ذات نفسه، وطاقات في السماوات والأرض..

(وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (سورة النحل من الآية: 78).

(وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ) (سورة الجاثية الآية: 13).

أما الصعود النفسي فله طريق آخر..

ولا يقول دارس واحد للتاريخ إن البشرية سارت –من الوجهة النفسية والأخلاقية- في خط واحد صاعد باستمرار، إنما هو خط متذبذب –دائما- بين الصعود والهبوط، حسب معتقدات الناس وأفكارهم وما يتواضعون عليه من معايير لضبط سلوكهم.

بل إن التقدم العلمي والتكنولوجي قد ينقلب وبالا على أهله إذا أدى بهم إلى الترف والانحلال الخلقي، لأنه –مع صعوده في ذاته- يحل في نفوس هابطة، فيهبط معها إلى الحضيض.

والشاهد هو التاريخ..

وإذا كان الغرور قد أدى بجيل من البشرية إلى الظن بأنه فريد في التاريخ، وأنه خرج من نطاق السنن الربانية التي يجريها الله في حياة البشر، وأنه يصنع نفسه بنفسه غير عابئ بأحد إلا ذاته.. فهذا ذاته هو حضيض الانتكاس الذي هبط إليه هذا الجيل، وهو يحسب أنه في قمة الارتفاع!

إن السنن الربانية لا تتبدل ولا تتحول ولا تجامل:

(فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (سورة فاطر من الآية: 43).

وإن من سنن الله أن يملي للناس إملاء حين ينسون ما ذكروا به، ويفتح عليهم أبواب النجاح والتمكين ليزداود إثما وانحدارا حتى يصلوا إلى الهلاك.. أو يرجعوا إلى الله:

(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (سورة الأنعام الآيتام: 44-45).

(وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (سورة آل عمران الآية: 178).

(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (سورة الروم الآية: 41).

فالنجاح والتمكين في الأرض ليس في ذاته شهادة صلاحية لأصحابه، لأن الله يعطي الدنيا للمؤمن والكافر، للمصلح والمفسد:

(كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً) (سورة الإسراء الآية: 20).

وليس النجاح والتمكين في الأرض في فترة من الزمن مهما طالت ضمانا للاستمرار:

(وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (سورة الحج الآية: 48).

وفي وقت من الأوقات كانت الشيوعية طودا راسخا، وخطرا داهما يهدد كل الأرض.. ثم؟! ثم أخذها الله في الموعد الذي قدره لأخذها، فكأنما لم تكن قط!

* * *

المهم في الموضوعنا أن العلمانيين عندنا يدعون إلى "الحداثة".

ومرحبا بالحداثة.. ولكن أي حداثة؟!

الحداثة –في قولهم- هي التي تدمر التراث، وتقضي عليه، وتحرر الناس من إساره، وتطلقهم ليتحرروا ويمارسوا "إنسانيتهم" كما يمارسها الغرب..

والغرب نبذ الدين فلننبذ الدين.

والغرب أخرج المرأة من بيتها وزج بها إلى الطريق تمارس نشاطها كما يحلو لها، وليكن من هذا النشاط المخادنة والمسافحة والشذوذ.. فهذا شأنها ليس لأحد عليها سلطان.. فلنخرج نحن المرأة كما أخرجها الغرب..

والغرب سن في السياسة الدولية قانون الغاب: القوي يأكل الضعيف.. فليكن الغرب هو الآكل ولنكن نحن المأكولين!

أما إيجابيات الغرب فلنحاول.. فإذا لم نستطع، فيكفينا التحرر من الدين، والتخلص من التراث!!

نقول للعلمانيين إن العبد المقلد لا يقدر على الإيجابيات، إنما يقدر فقط على السلبيات، لأنها لا تقتضي منه أكثر من فك الرباط! أما الإيجابيات فتحتاج إلى عزيمة صادقة، وعمل جاد، ومثابرة على بذل الجهد، وتلك كلها لا يملكها العبد المقلد، بحكم أنه عبد..

والدليل هو تجربة ما يزيد على قرن من الزمان في محاولة تقليد الغرب، والتشبث بأهدابه، ما زادتنا إلا ضعفا ومذلة وهوانا على الناس.

ونذكرهم بقولة صادقة قالها "توينبي" المؤرخ البريطاني الشهير في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي[40]، قال: إننا ظللنا نطارد الرجل التركي ونهاجمه لكي يترك دينه، لأنه كان ينظر إلينا من علٍ كأننا خنازير برية، فلما ترك دينه وتبعنا احتقرناه، لأنه لم يعد عنده ما يعطيه!!

وتكفي هذه القولة الصادقة لإيقاظ السادرين في الوهم، الذين يظنون أنهم إذا تبعوا الغرب في "حداثته" فسوف يحترمهم الغرب، ويعاملهم معاملة الند للند.

ونحن ندعو إلى اكتساب الإيجابيات التي تنقصنا في انتكاستنا الحاضرة، لعلنا نخرج من وهدتنا، أما أن نقلد الغرب في انتكاساته فخبل لا يقول به عاقل!

ما بعد الحداثة

ما بعد الحداثة نتوقع أن يكون هو العودة إلى الدين!

في عام 1385هـ (1965م) أصدرت كتابا بعنوان "جاهلية القرن العشرين" تحدثت فيه عن مظاهر الجاهلية السائدة في العالم الذي لا يحكم بما أنزل الله، ويرفض أن يرجع إلى حكم الله في شأن من شئون الحياة الدنيا، وتحدثت عن آثار هذا الوضع في حياة الناس، وتوقعت –في الفصل الأخير من الكتاب- أن يعود الناس في النهاية إلى الله.

ومما قلته في ذلك الفصل (وهو بعنوان العودة إلى الله):

"هذا الشقاء الذريع الذي تقاسيه البشرية تحت وطأة الجاهلية الحاكمة في كل الأرض..

هذا العذاب القاتل الذي يصوغ حياة الناس..

هذا القلق المدمر للأعصاب..

هذا الفساد الذي يوقع المظام بالناس: في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق وعلاقات الجنسين والفن.. وكل شيء..

هذا –بذاته- عامل من العوامل التي ستعيد الإنسان إلى الله..".

وفي نهاية الفصل كتبت هذه السطور:

"سيعود الإنسان إلى الله!

سيعود شديد الإيمان!

فبقدر الكفر الحالي.. بقدر عذابات الناس.. وبقدر ظلام الطاغوت.. سيكون النور!

وبشائر هذا النور.. بادية في الظلمات..

وغدا يشرق دين الله..

وسواء أبصرناه بأعيننا في العصر المحدود.. أم كان غدا.. في جيل آخر..

سيعود الإنسان إلى الله!

سيعود شديد الإيمان!"

واليوم بعد مضي هذه السنوات الطوال، ما زلت أردد ما قلته بالأمس، ولكن باقتناع أكثر، ويقين أعمق..!

في تلك السنوات الطويلة بالنسبة إلى عمر الفرد، ولكنها قصيرة في عمر الأمم والشعوب، حدثت تحولات كثيرة في حياة الناس..

من ناحية زادت المظالم في السياسة الدولية، وانكشف المستور، من سعي أمة بعينها إلى السيطرة على العالم كله بالإرهاب الحربي والإرهاب الاقتصادي والإرهاب السياسي والإرهاب العلمي والإرهاب التكنولوجي، ومن ورائها سيطرة اليهود..

ومن ناحية أخرى زاد الفساد والفجور في الأرض إلى درجة لم يسبق لها مثيل في التاريخ، وتبجح الفساد فطالب بمنحه شرعية الوجود، وشرعية الدعوة إلى ما يدعو إليه من التبذل والفجور والشذوذ، في "مؤتمرات" داعرة تقام تحت راية "الأمم المتحدة"، وتهديدات من هيئة الأمم بإصدار "قرارات حرمان" لمن يستعصي على هذا الفساد، ويرفض أن يحميه أو ينخرط فيه!!

(أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (سورة الأعراف من الآية: 82).

وفي الوقت ذاته حدثت في داخل خضم الفساد هذا موجة راجعة.. تريد الرجوع إلى الدين.. تريد الرجوع إلى الله!

فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان يحمي الشيوعية، هرع الناس في شرق أوربا إلى الكنائس التي كانوا قد هجروها تحت وطأة الحديد والنار.. أما المسلمون في تلك البلاد فقد عادوا بطبيعة الحال إلى مساجدهم في قوة وحماس.

وفي أمريكا وغرب أوربا حركة نشيطة تقوم ببناء الكنائس، ورواد متحمسون يرتادونها ليتعبدوا فيها. وقد سعى اليهود –مؤقتا- إلى السيطرة على هذه الموجة الراجعة في محيط النصارى، وتسخيرها لحسابهم، فقالوا لهم إن المسيح قادم في الألفية الثالثة، وإنه سيحكم الأرض ألف عام، ولكنه لن ينزل حتى يبني هيكل سليمان، والهيكل مكانه المسجد الأقصى، فأعينونا على هدم المسجد الأقصى، لينزل مسيحكم، ويحكم الأرض ألف عام! وقد دخل في هذه الدوامة ملايين من البشر في غرب أوربا وأمريكا، ليسوا كلهم من عامة الناس، بل فيهم مثقفون، وسياسيون كبار!

ولكن بصرف النظر عن سعي اليهود هذا، ومحاولة استغلالهم للموجة الراجعة، فإن الذي يهمنا هو الموجة ذاتها، ودلالتها.. ودلالتها واضحة.. إنها بدء العودة إلى الله.

ولسنا نتحدث هنا عن الحركات الإسلامية، فأمرها مفهوم، إنما نتحدث عن عودة الناس إلى الدين في البلاد التي قادت الإلحاد، وحاربت الدين بكل أنواع الحرب، فإن عودتها إلى الدين تحمل دلالة لا شك فيها.

بل إنه وجدت في أمريكا جماعات تطالب بفصل البنات عن البنين في جميع مراحل التعليم من الروضة إلى الجامعة، ووجدت بالفعل مدارس وجامعات تلبي رغبة هذه الجماعات، وتفصل البنين عن البنات! وذلك بالإضافة إلى ما تعمد إليه بعض الأسر من تعليم أولادهم وبناتهم في المنازل home schooling صيانة لهم من مباذل الاختلاط.

وقد يستغرب الذين ظنوا أن الدين قد ذهب إلى غير رجعة، وأن عوامل الهدم التي صوبوها إليه قد قضت عليه القضاء الأخير.. قد يستغربون ما يحدث الآن في الأرض!

أما نحن فلا نستغرب!

إن الدين فطرة..

في فطرة الإنسان أن يتوجه إلى الخالق ويعبده:

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا) (سورة الأعراف الآية: 172).

فإذا شردت الفطرة زمنا.. وإذا فسدت فطرة جيل من أجيال البشر أو أفسدت، فليس يترتب على ذلك بالضرورة أن يستمر الشرود، أو يستمر الفساد.

وحين يعودون إلى فطرتهم، يعودون إلى الله..

ثم إن الدين –وحده- هو الذي يجيب على أسئلة الفطرة: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ وكيف؟

من أين جئتنا؟ وأين نذهب بعد الموت؟ ولماذا نعيش؟ (أي ما هدف الوجود الإنساني) وكيف نعيش؟ (أي على منهج نعيش).

وهي أسئلة تلح على الفطرة بوعي أو بغير وعي، وتبحث عن الإجابة. وإن لم تتلق إجابة واضحة تطمئن لها النفس فإنها تسبب القلق والاضطرابات النفسية والعصبية، وقد تؤدي إلى الجنون أو إلى الانتحار.

والعلم قد يجيب إجابة جزئية عن قضية من هذه القضايا، ولكنه لا يمس أهل القضية!

والفلسفة تحاول دائما أن تجيب، ولكنها –قط- ما شفت غليل البشر، وهي بطبيعتها تستعصي على فهم الغالبية العظمى من الناس، ولا يتعاطاها إلا فئة محدودة من الناس، وذلك فضلا عن كونها –خلال التاريخ- قد تخبطت وتقلبت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

والترف والفسوق والفجور والانغماس في الشهوات قد يشغل الفطرة زمنا فتذهل عن أسئلتها، ولا تبحث –بوعيها- عن الإجابة. ولكن ذلك ينعكس في "اللاوعي"، في الأعماق، فيظهر في صورة قلق نفسي، أو اضطراب عصبي، يلجأ صاحبه –للهروب منه- إلى الخمر والمخدرات.. أو يلجأ إلى الجريمة!

والدين –وحده- هو الذي يجيب على أسئلة الفطرة الإجابة التي تطمئن لها القلوب:

(الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (سورة الرعد الآية: 28).

من أين؟ من عند الله. من القدر الذي قدره الله:

(وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) (سورة الرعد من الآية: 8).

إلى أين؟ إلى الله.. بعث ونشور وحساب وجزاء:

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (سورة المؤمنون الآية: 115).

لماذا؟ لنعبد الله وحده بلا شريك.. العبادة بمعناها الواسع الشامل الذي يشمل كل دقائق الحياة، سياستها واقتصادها واجتماعها وفكرها وأخلاقها، كما يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (سورة الذاريات الآية: 56).

(قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) (سورة الأنعام الآيتان: 162-163).

(هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (سورة هود من الآية: 61).

كيف؟ باتباع ما أنزل الله: (اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) (سورة الأعراف الآية: 3).

ومن بديهيات المسلم أن الإسلام هو الرسالة التي اكتمل بها الدين، وتمت بها النعمة الربانية:

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) (سورة المائدة من الآية: 3).

ومهمة الأمة الإسلامية أن تدعو البشرية كلها لهذا الدين:

(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (سورة آل عمران الآية: 104).

ولكن عليها –لكي يستمع الناس لدعوتها- أن تعود هي أولا إلى حقيقة دينها، وتمثله تمثيلا صادقا ليرى الناس النموذج الواقعي الذي يشرح الدعوة شرحا واقعيا لا بمجرد الكلمات.

ويملؤنا اليقين بأن المستقبل للإسلام:

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (سورة الفتح الآية: 28).

ولكنا –إلى أن يتحقق وعد الله– نستبشر بعودة الناس إلى الله، كما فرح المؤمنون يوما بنصر الروم على الفرس، مع أن الروم لم يكونوا على دين صحيح! ولكنهم –على الأقل- كانوا يعرفون الله، بينما الفرس كانوا يعبدون النار!

* * *

وحين تعود أوربا إلى الدين، فسيجد العلمانيون أنفسهم في مأزق!

وأتصور هذا على ضوء المأزق الذي وقع فيه مثقفونا الذين كانوا يدافعون عن ماركس وفرويد ودور كايم حين تخلى الغرب نفسه عن نظرياتهم، وبالذات حين سقطت الشيوعية، فوجدوا أنفسهم في العراء! إما أن يتخلوا عن الدفاع عن هؤلاء، اتباعا للسادة الذين أمروهم بالدفاع عنهم أول مرة، وإما أن يصبحوا متخلفين عن الركب، يدافعون عن قيم بالية، تخلى عنها حتى مبتدعوها!

فعندئذ أغمض مثقفونا أعينهم، وسكتوا عن الكلام المباح!

وفي يوم من أيام المستقبل أراه قريبا ويرونه بعيدا سيقف العلمانيون ذات الموقف من قضية الدين، حين تعود أوربا إلى الدين!

(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (سورة الروم الآيتان: 3-4).



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - هذا اللفظ الغريب على السمع هو من ابتداع العلمانيين على طريقة التركيب المزجي، وهو عندهم محاولة لترجمة كلمة "Medieval" بلفظة واحدة كما هو في الأصل الأوربي.

[2] - سنتكلم فيما بعد عن مدى هذا العذر.

[3] - ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد طبع القاهر ج14، ص352.

[4] - "معالم تاريخ الإنسانية" تأليف المؤرخ البريطاني ويلز، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد، طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة ص 902-903 من الترجمة العربية.

[5] - المصدر السابق ص905.

[6] - ول ديورانت، قصة الحضارة، ج1 مقتطفات من ص 83-86 من الترجمة العربية.

[7] - معالم تاريخ الإنسانية، مصدر سابق، ج3 ص908-909 من الترجمة العربية.

[8] - يقصد الإسلامية كما بين بعد ذلك.

[9] - عن كتاب "تجديد الفكر الديني" لمحمد إقبال، ترجمة عباس محمود، ص149.

[10] - هكذا ترجم المترجم عنوان الكتاب من اللغة الألمانية ولعل المؤلفة تقصد أن إله المسلمين ليس كما يصفه الغربيون.

[11] - عن كتاب "الله ليس كذلك" ترجمة د. غريب محمد غريب، نشر دار الشروق بالقاهرة، الطبعة الأولى عام 1416هـ 1955م، ص81-82.

[12] - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد بعنوان "حضارة الإسلام" طبع مكتبة مصر بالقاهرة سنة 1956، ص435.

[13] - سنتحدث عن هذه النقطة في فصل قادم بعنوان "العقلانية".

[14] - المسمّى هو الشخص أو الشيء الذي يطلق عليه الاسم. وبعض الناس يخطئون فيستخدمون لفظ المسمى بدلا من لفظ الاسم.

[15] - لا ننسى أن جرونيباوم يهودي وليس مسيحيا!

[16] - يقصد الشخص غير المتخصص في العلوم الدينية.

[17] - عن كتاب "إسلام العصور الوسطى" المترجم بعنوان حضارة الإسلام، ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد" ص81-82 من الترجمة العربية.

[18] - عن كتاب "معالم تاريخ الإنسانية"، مرجع سابق، ج3 ص966.

[19] - سنتحدث عن هذه النقطة في فصل "العقلانية".

[20] - أخرجه البخاري.

[21] - في كتابه "Islam in Modern History" انظر إن شئت مناقشة له في كتاب "المستشرقون والإسلام".

[22] - يعني أن من رضي وتابع فلا برىء ولا مسلم.

[23] - رواه مسلم.

[24] - قاله عليه الصلاة والسلام: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل" رواه أحمد وأبو داود.

[25] - Nature creates everything and there is no limit to its creativity. [26] - Nature works haphazardly.
ـ
[27] لم يقل لنين ولا غيره ممن يدافعون عن اليهود لماذا يقع هذا التمييز المجحف عليهم! لماذا يكرههم الناس؟ أمن أجل لطف معاشرتهم ودماثة أخلاقهم وحسن تعاملهم مع الآخرين أم بسبب نقيض ذلك كله؟

[28] - ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزية بعنوان "أعداء السامية واليهود Anti-Semite and Jew"، وقد قرأته بالإنجليزية.

[29] - انظر إن شئت فصل "التأثير الإسلامي على أوربا في عصر النهضة" من كتاب "من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر".

[30] - اقرأ على سبيل المثال كتاب "زيجريد هونكه" "شمس الله تشرق على الغرب"، وكتابها "الله ليس كذلك" و"حضارة الإسلام" لفون جرونيباوم وغيرها.

[31] - انظر إن شئت فصل "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".

[32] - انظر الهامشة رقم (1) في الصفحة السابقة.

[33] - انظر الهامشة رقم (1) في الصفحة السابقة.

[34] - انظر إن شئت فصل "طبيعة الالتزام في الأدب الإسلامي" من كتاب "من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر".

[35] - انظر إن شئت كتاب "منهج الفن الإسلامي".

[36] - منشأ الفكر الحديث، ترجمة عبد الرحمن مراد، ص151 من الترجمة العربية.

[37] - المرجع السابق، ص103.

[38] - انظر إن شئت "دور اليهود في إفساد أوربا" من كتاب "مذاهب فكرية معاصرة".

[39] - قد يستغرب الناس لأول وهلة أن تكون حملة الاستعمار الغربي على العالم الإسلامي حملة صليبية، في الوقت الذي يرون فيه بعد الناس في أوربا عن الدين.. ولا غرابة في الواقع، فقد أهملت أوربا دينها، ونبذته من حياتها الواقعية، ولكنها لم تنس قط حقدها الصليبي على الإسلام.. ولا علاقة لهذا الحقد بالتدين، وإن كان مبعثه في الماضي كان هو الدين!

[40] - اقرأ ترجمة المحاضرة التي قال فيها توينبي هذه المقالة في كتيب بعنوان "الإسلام والغرب والمستقبل" لنبيل صبحي.