المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في الروايات التاريخية التي تتحدث عن ترك الأشعريُ المعتزلةَ



حسن الخطاف
11-23-2005, 10:30 AM
قراءة في الروايات التاريخية التي تتحدث عن ترك الأشعريُ المعتزلةَ
كان الأشعري يسير في أصول الفقه على نهج الإمام الشافعي كما يقول ابن فورك [ت:406] ، أما علم الكلام فقد تتلمذ فيه على يد أبي علي الجبائي[ت:303] رئيس معتزلة البصرة في عصره ، وكان خلال متابعته لشيخه ينهل من علم الكلام ، من منهجهم في البحث والمناظرة ، وتذْكر الروايات التاريخية أنه استمر في الاعتزال حتى الأربعين من عمره ، وفجأةََ تغيب عن الناس في بيته خمسة عشر يوماَ،ثم خرج إلى الجامع فصعد المنبر وقال: " معاشر الناس إنما تغيبت عنكم في هذه المدة ، لأني نظرت فتكافأت عندي الأدلة ، ولم يترجح عندي حق على باطل ، ولا باطل على حق ، فاستهديت الله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه ، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده ،كما أنخلع من ثوبي هذا ، وانخلع من ثوبٍ كان عليه ، ورمى به ، ودفع الكتب إلى الناس ، ومنها كتاب (اللمع) وكتاب أظهر فيه عوار المعتزلة سماه (كشف الأسرار وهتك الأستار )" .
تبين مما سبق أنه استمر على الاعتزال أربعين سنة وأنَّ تركه الاعتزال كان فجأة ، فهل تركه الاعتزال كلن فجأة ؟ وهل استمر في الاعتزال أربعين سنة ؟
اختلف القدامى والمعاصرون في تفسير هذا التحول ، والذي فتح المجال للاجتهاد أنَّ الأشعري لم ينص صراحةً على ذلك في كتبه الموجودة بين أيدينا ، ومن هنا تباينت التفسيرات ، ويمكن إجمالها في اتِّجاهين :
الاتجاه الأول :
عزا أصحابه ، أسباب التحول إلى رؤية الأشعري للنبي r، وعلى رأس هؤلاء ابن عساكر ونجد من المعاصرين من تابعهم فجعل الرؤية صدىً لما كان يحس به الأشعري ، وذلك نتيجةً لسيره على منهج المعتزلة المغالي في العقليات ، كما أنه لم يكن راضياً عن طريقة المحدثين والمشبهة فخشي على الأمة من التفرق وأخذته الحيرة فاستهدى الله فهداه برؤية رسوله r
الاتجاه الثاني :
لم يلتفت أصحابه إلى الرؤية ، فالشهرستاني[ت:548] يرى أن السبب هو المناقشة التي جرت بينه وبين أستاذه الجبائي في الأخوة الثلاثة في مسألة الصلاح والأصلح ويعزو الدكتور: جلال محمد عبد الحميد موسى سبب التحول ، إلى رؤية الأشعري للهوة الواسعة بين أصحاب الحديث والفقه الذين قصروا همتهم على التفقه في الدين – وبين المتكلمين الذين قصروا همتهم على الدفاع عن الدين ، وأن الاقتصار على ناحية هو الذي ساق إلى التناحر بينهم ، وقد رأى هذا التناحر ، فأراد نصرة الدين ، ويلزم لنصرة الدين الجمع بين الفقه وعلم الكلام ، وكان فقيهاً في المذهب الشافعي،والشافعي كان متكلماً فقيهاً ، فوجدت في شخصية الأشعري هذه المقومات ، ولا يبتعد الدكتور:أحمد محمود صبحي عن هذا الرأي كثيراً ؛ إذ يرى أن العامل الحاسم في تحوله هو مذهبه الفقهي الشافعي .
والذي يبدو لي أنه يصعب أنْ نصدق الرؤية حسب الروايات التاريخية ، فالروايات التي تذكر الرؤية متعارضة : فرواية تذكر أن الرؤية حصلت بعد حيرة في مذهب الاعتزال ، لعدم وجود حلول مقنعة لأسئلته، والروايات الأخرى تظهِر أن شكوكه في المذهب حدثت بعد الرؤية ، ثم إذا كانت الحيرة قد حصلت بعد الرؤية ، فهذا يعني أن الرؤية ليست صدىً لما كان يشعر به ، والذي يزيد في شكنا ، أن روايةً تذكر الأشعري وهو يخاطب شخصية الرسول r قائلاً :" يا رسول الله كيف أدع مذهباً تصورت مسائله وعرفت أدلته منذ ثلاثين سنة لرؤية " ، ويفهم من هذا أنه ترك الاعتزال بعد ديمومةٍ عليه استمرت ثلاثين سنة ، فإذا كانت ولادته سنة 260هـ وعدل عن الاعتزال سنة 297 -باعتبار أنه كتب ( رسالة أهل الثغر ) سنة 297 -فهذا يعني أن الإلمام بمذهب المعتزلة تكون لديه وهو ابن سبع سنين ، وفي هذا من البعد ما ترى ، هذا إذا قلنا إن تركه كان سنة[297] وربما يكون هناك تأريخ أقرب من هذا التاريـخ في كتبه التي لم تصل إلينا .
وكذلك ليس السبب في عدوله عن الاعتزال شافعية مذهبه ، أو الهوة الواسعة بين المتكلمين والمحدثين ، إذ لا نستطيع أن نجزم أنه كان سائراً على مذهب الإمام الشافعي دون غيره من المذاهب ، فابن عساكر - الذي اهتم به أكثر من غيره - يجعله مالكياً ،بينما يرى الشيخ زاهد الكوثري أنه كان حنفياً ، ونستبعد كذلك أن تكون الهوة الواسعة بين المحدثين والمتكلمين هي السبب ؛ لأن نقده الرئيسي كان موجهاً إلى المعتزلة دون غيرهم ، وإذا كانت الفجوة بينهما هي السبب فمن الذي صنعها ؟ هل هم الفقهاء والمحدثون ؟ إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نجد لهم نقداً من قبل الأشعري ؟
بعد هذا نرى أن السبب الحقيقي هو خوفه على النص[ القرآن والسنة] – وذلك بقطع النظر عن وجاهة هذا الخوف- من الفكر الاعتزالي الذي غاص بالفلسفة ، نتيجة الاحتكاك الفكري ، مع أصحاب الملل الأخرى من الفلاسفة والمجوس والثنوية … وبيان ذلك أن المعتزلة واجهوا خصوما من المجوس والفلاسفة واليهود والنصارى … فاضطر المعتزلة لدراسة الفلسفة للرد على خصومهم ، بتوجيه من السلطة ، بينما كان الفقهاء وحملة السنة يأبون الخوض في ذلك ، فتأثر المعتزلة بهم ؛ لاستخدامهم طرقهم في النظر والجدل لمعرفة شبههم ونقضها ، فلا غرابة إذا رأينا شذوذاََ في آراء بعض المعتزلة لتأثرهم بهذه المجادلات.
والدليل على أن الأشعري خاف على النص ؛ أن النقد الذي وجهه للمعتزلة كان – من وجهة نظره- بسبب إهمالهم للنصوص ، وكتابه الإبانة شاهد على ذلك ، إذ يفتتحه بأنهم أولوا القرآن على آرائهم ، تأويلاً لم ينزل الله به سلطاناً فخالفوا روايات الصحابة في رؤية الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الروايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار ، وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم،وردوا قول الله لنبيه : ] قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ[[الأعراف:188]، وأنكروا شفاعة الرسول r ، وردوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين وحكموا على العصاة بالنار، والخلود فيها خلافاً لقول الله عز وجل : ]وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[[النساء:48] وأنكروا أن يكون لله وجه مع قوله عزوجل: ) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ([الرحمن:27] وأنكروا أن يكون له يدان مع قوله تعالى: )لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ [ص:75]وأنكروا أن يكون له عين مع قوله سبحانه: ]تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا[ [القمر:14]، ))
وقد صنف الأشعري منهج المعتزلة في التعامل مع النصوص مع أهل البدع الذين ابتدعوا مخالفة الكتاب والسنة، و بمقابل ذلك جعل الأشعري منهجه التمسك بهما.
وبناءً على ذلك نرى أن الخوف على النص من منهج المعتزلة هو الذي قاد أبا الحسن إلى هذا التحول ، وليست هي الرؤية كما أنها ليست شافعية مذهبه ولا الهوة الواسعة بين المتكلمين والمحدثين.