المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقوق الإنسان في الإسلام من التأصيل إلى التقنين... لمحمد دكير.. كاتب من الغرب



الفرصة الأخيرة
11-28-2005, 10:05 AM
منقول:


حقوق الإنسان في الإسلام من التأصل إلى التقنين

الأستاذ محمّد دكير[1]
[1] كاتب من الغرب

انتشار الوعي الحقوقي في العالم

تعد قضية حقوق الإنسان من أهم القضايا التي احتلت الصدارة والاهتمام العالمي والمحلي. وذلك مباشرة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث ظهرت الحاجة للسلم العالمي، وضرورة خلق توازن دولي، إضافة إلى سعي عدد من الشعوب لتحقيق استقلالها، وشروعها في بناء الدولة الوطنية، هذه الدولة التي واجهتها عدة مشاكل وعقبات مهمة، كان على رأسها الاختيارات السياسية والاقتصادية والايديولوجية التي تبين أن لها علاقة مباشرة بموضوع حقوق الإنسان.

هذه الاختيارات كان لها وقع مزدوج داخل العالم الإسلامي، فهي إلى جانب إسهامها في إحداث تغييرات جذرية في جميع البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التقليدية، أحدثت تطوراً ملموساً في مجال الحقوق الإنسانية، إلاّ أنها، في المقابل، فجرت مجموعة من الإشكاليات التي عولجت، وتمت مناقشتها بشكل واسع تحت عناوين مختلفة مثل: الأصالة والمعاصرة، الخصوصية والعالمية، الهوية والغزو الثقافي، وغيرها من العناوين التي تدل على فداحة التحديات التي تعرض لها العالم الإسلامي، بعدما فقد السيطرة على حدوده السياسية والثقافية بالخصوص.

لقد وضع الإسلام في قفص الاتهام، مباشرة بعد الهزائم الحضارية التي توالت على العالم الإسلامي، واعتبر المسؤول الأول عن تخلف المسلمين. وطالبت فئات داخل العالم الإسلامي، منبهرة بالحضارة الغربية، بإبعاد الإسلام عن جميع مناحي الحياة، لأنه يشكل، من منظورها، عائقاً أمام التطور المطلوب. وقد وجدت هذه المطالبات من يدعمها على المستوى الفكري والأيديولوجي؛ إذ نجد أن مجموعة كبيرة من الكتابات التي أنجزت داخل مراكز البحث في الجامعات الغربية وخارجها، انصبت في إثارة الشبهات وتفجير القضايا الفكرية الحساسة، للتدليل على أن الإسلام يعد من أهم الأسباب في تخلف الأمة الإسلامية. وأن عدداً من تشريعاته ونظمه القانونية التقليدية المتوارثة، تسهم بشكل واضح في تكريس هذا التخلف عن ركب الحضارة.

كانت ردود الفعل مختلفة ومتعددة، بعد تحقيق التحرر السياسي وانطلاق عملية تجديد شاملة لجميع البنى، مواكبة في أحد جوانبها المهمة، عملية الدفاع عن الإسلام ونظمه التشريعية في مجالات الاقتصاد والسياسية والاجتماع، وتبرئته من الخلل الذي أصاب العقل المسلم الذي توقف عن الفعل الحضاري.

ومع التطور الذي عرفه مجال حقوق الإنسان، على المستوى العالمي، خلال العقود الخمسة الماضية، أضيف إلى التحديات السابقة تحد جديد، جعل الفكر الإسلامي الذي انشغل طويلاً بالدفاع عن النظم الإسلامية، يتوجه بسرعة نحو الإسهام بمعالجة قضايا حقوق الإنسان، لإبراز إسهام الإسلام في هذا المجال كذلك. وصولاً إلى تأكيد تفوق التشريع الحقوقي الإسلامي، وموافقة هذا التشريع ورؤاه الفكرية لحقوق الإنسان الشاملة.

لذلك فقد عرفت السنوات العشرون الأخيرة حركة نشطة في مجال التأليف الإسلامي في محاولة لتأصيل الحقوق الإنسانية. والكشف عن إسهام الإسلام في هذا المجال الذي حظي باهتمام كبير في الآونة الأخيرة.

وجاءت سرعة الاستجابة، من طرف الفكر الإسلامي، رد فعل مباشراً للتحدي الذي طرحته المواثيق والإعلانات العالمية، من جهة، وتصاعد وتيرة الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم من جهة أخرى.

أهم التطورات العالمية في مجال حقوق الإنسان

الاهتمام بمجال حقوق الإنسان ليس وليد الآونة التي تلت الحرب العالمية الثانية، كما لا يمكن أن نرجعه إلى " حقبة زمنية معينة أو مترتبة عن أيديولوجية واحدة، ومحددة، وإنما هي (الحقوق) نتاج تراكمات تاريخية متتالية ومتعاقبة[2]، و " ما خلفته العقائد الدينية من مبادئ تُبجَّل الإنسان وتعلي من قيمته وتنبذ العسف والظلم "[3].

إلاّ أن الاهتمام الغربي المعاصر، بهذا المجال، على مستوى التنظير والممارسة، وصولاً إلى تقنينه في مواثيق وإعلانات عالمية، جعل هذا الاهتمام يأخذ بعداً عالمياً لم يسبق له مثيل من قبل، وكان من نتائجه المهمة، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر عن منظمة الأمم المتحدة سنة 1948م.

إن التطور الذي عرفه مجال الحقوق الإنسانية، على المستوى النظري بالخصوص، يرجع بالأساس إلى التطور السياسي الذي عرفته أوروبا، ومحاولة عدد من المفكرين والفلاسفة، الوقوف في وجه الاستبداد السياسي للدولة والكنيسة، من دون إغفال الموروث اليوناني والروماني الذي شكل الخلفية الفكرية لهؤلاء المفكرين، وهم يضعون المباحث السياسية ويطورونها. لقد شهدت أوروبا آنذاك صراعات دامية وطويلة من أجل: " إسقاط بعض المفاهيم السياسية التي تؤسس للاستبداد السياسي والديني، وتنكر على الإنسان الفرد كيانه وحقوقه "[4]. كفكرة الحق الإلهي التي كانت الكنيسة تروج لها، أو فكرة العناية الإلهية التي قامت عليها الشرعية السياسية للملوك والأباطرة.

من هنا بدأ الفكر الأوروبي، بعد صراع سياسي واجتماعي طويل ومضن، يصل إلى بعض النتائج، وكان من أهمها فصل الدين عن السياسة، ومحاولة وجود بدائل وأفكار تؤسس لعلاقة جديدة بين الدولة والمجتمع، على أساس ديني أو غيبي، ولكن على أسس واضحة وموضوعية، وذلك ليس لتحجيم الاستبداد السياسي فحسب، ولكن لتحرير الإنسان من قوة الدولة وسيطرتها المجحفة والمنتهكة لحقوقه الذاتية والواقعية. ويمكن الحديث هنا عن ثلاث نظريات طورت المجال السياسي الغربي ودفعت به إلى الأمام، ما كان له التأثير الكبير، ليس على مجال حقوق الإنسان بشكل عام فحسب. ولكن على الواقع السياسي الغربي المعاصر الذي شكلت هذه النظريات خلفيته الفلسفية والفكرية.

النظرية الأولى: فكرة القانون الطبيعي التي عرفها اليونان، وكانت تعني عندهم " وجود قانون ثابت لا يتغير مستمد من الطبيعة، ويتمثل بكشف العقل عن روح المساواة والعدل الكامنة في النفس "[5]. ثم انتقلت الفكرة إلى الرومان، لكنها ستعرف تطوراً على مستوى المضمون؛ وذلك عبر إضفاء طابع اللائكية عليها، مع فقهاء القرن السابع عشر الميلادي.

النظرية الثانية: العقد الاجتماعي، وهي كما صاغها لوك (ت 1704م) وروسو (ت 1770م)، تقوم على مناهضة الحكم المطلق، في محاولة لترسيخ أسس الحكم الديمقراطي، وذلك باعتبارهما العقد الاجتماعي عقداً تبادلياً، يرتب حقوقاً وواجبات إزاء المحكومين والحاكمين[6]. وقد أسهمت هذه النظرية في تطور المذهب الفردي، بإقرار وجود حريات وحقوق طبيعية سابقة على المجتمع المنظم، يجب على السلطة عدم الاعتداء عليها. كما أسهمت في وضع الضمانات الدستورية والسياسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وعموماً فقد جاءت الثورة الفرنسية معتمدة على مبادئ المذهب الفردي الحر. فأصدرت وثيقة إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789م، متضمنة النص على الحرية والمساواة والملكية وحق الأمن وحق مقاومة الظلم[7].

النظرية الثالثة: جاء منتسكيو، صاحب كتاب " روح القوانين "، ليعلن أن تحقيق العدل، داخل أي نظام سياسي، رهين بفصل السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ومع هذه التجارب، وما واكبها من بحوث ودراسات فكرية، اهتمت بميدان الحريات العامة وحقوق الإنسان، تبلورت الرؤية الخاصة لدى الغرب (الرأسمالي) في مجال حقوق الإنسان.

استفاد المذهب الليبرالي (الرأسمالي) من الانتقادات التي وجهها له المذهب الاشتراكي الذي بدأ يتبلور تنظيراً وممارسة، ما دفع به نحو التطور والتوسع ليشمل ميادين جديدة، ظهرت أهميتها مع التطور الصناعي، كالحقوق الاقتصادية والاجتماعية المتعددة للطبقات العاملة، ما أضاف أبعاداً جديدة لمفاهيم حقوق الإنسان، وأعاد النظر في بعض الحقوق من حيث الأولوية والأهمية. وأدخل حقوقاً جديدة لم تكن معتبرة من قبل وبالتالي فالتطور الفكري والسياسي الذي عرفته أوروبا، بشطريها الرأسمالي والاشتراكي، إضافة إلى التجربة السياسية الأمريكية، قد نجم عنه تراكم هائل على مستوى التجربة والتنظير في مجال حقوق الإنسان. دفع به ـ أي هذا التراكم ـ ليفرض نفسه على المستوى العالمي، لتصبح المطالبة بحقوق الإنسان والدعوة إلى احترامها دعوة عالمية، تتبناها المؤسسات الدولية والوطنية وتسعى لاحترامها وفرضها[8].

أمامَ هذا التراكم، نجد أن مجال حقوق الإنسان قد عرف تطوراً لا مثيل له من قبل، وأن الوعي أصبح ذا بعد عالمي، يؤثر في جميع المشاريع والتشريعات والاختيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تقوم بها الدول في العالم ككل. وهذا مما وسع مجال التحدي أمام الفكر الإسلامي، الذي وجد نفسه مضطراً للدخول في معالجات وسجالات متعددة المناحي والأوجه، سنطلع على بعض ملامحها بعد قليل.

أما في العالم الإسلامي، وعلاوة على أصالة الحقوق الإنسانية في الإسلام، فهذه الحقوق محل إجماع عدد لا بأس به من المفكرين المسلمين والعرب، كما أن الدعوة للاهتمام بالحقوق الإنسانية كانت قد واكبت عمليات التحرر السياسي، حيث كان شعار الدفاع عن الحقوق الإنسانية، من أهم الشعارات التي رفعتها الحركات التحررية في وجه الاستعمار. وبعيد الاستقلال، عرفت هذه المطالب نوعاً من التوسع، وفجرت مشاكل وقضايا جديدة. يقول المحامي حسين ضناوى: " أصبحت قضية حقوق الإنسان داخلية وطنية تهدف لضمان عدم استبداد الحكام، وقيام أنظمة ديمقراطية ذات شرعية حقيقية "[9] إلاّ أن الاهتمام بحقوق الإنسان في العالم الإسلامي، سواء على المستوى التنظيري أم على مستوى الممارسة، لم تتضح معالمه إلاّ خلال العقدين الأخيرين، وذلك مع انتشار موجه التأليف والتأصيل وتوسعها في هذا الميدان من جهة، وظهور منظمات وهيئات محلية تختص بالدفاع عن حقوق الإنسان من جهة أخرى. إضافة إلى تطور التشريعات القانونية المعمول بها. وحجم الضغوط الدولية التي كان من آثارها مصادقة عدد كبير من الدول الإسلامية على بعض المواثيق الحقوقية الدولية، وإدخال بنودها ضمن التشريعات والقوانين المحلية المعتبرة عند التطبيق[10].

لكن ما يلاحظ، وخصوصاً بالنسبة للعالم العربي، أن الاهتمام بهذا الميدان، وما أنتج، من مواثيق محلية، ومنظمات حقوقية[11]، جاء من طرف بعض الشخصيات العلمية والأكاديمية، من حقوقيين ومفكرين. ولم يكن للدولة أو الأجهزة الرسمية أي نشاط فعال في هذا المجال، باستثناء الاهتمام المتواضع الذي أبدته جامعة الدول العربية، والذي أثمر إنشاء اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان.

لكن، ومهما قيل عن تردي الوضع الحقوقي في العالمين العربي والإسلامي، فإن تطوراً إيجابياً يمكن تلمسه في صدور عدة بيانات حقوقية عربية وإسلامية، ومطالبة أصحابها بإدخالها ضمن التشريعات المحلية والنظم القانونية المعتبرة، وانتشار عدد كبير من المنظمات الحقوقية داخل العالم الإسلامي، وقد أخذت على عاتقها تطوير مجال الحقوق الإنسانية، بنشر الوعي الحقوقي، إلى جانب الكشف والتنديد بالخروقات التي تقع من طرف السلطات الحاكمة، أو غيرها من الجهات التي تملك وسائل القوة والقهر.

هذه التطورات، على المستويين العالمي والمحلي التي عرضنا لها باقتضاب، شكلت الخلفية الموضوعية، لانطلاق عملية التأصيل الإسلامي للحقوق الإنسانية، وتأثرت بإشكالاته التي يفجرها بين الحين والآخر.

ملاحظة لا يفوتنا ذكرها هنا، وتتعلق بالصحوة الإسلامية الشاملة التي اجتاحت العالم الإسلامي، منذ بداية هذا القرن، وصولاً إلى تشكل ملامحها الأساسية خلال العقدين الأخيرين. لأنها أسهمت إسهاماً فعلياً في تدعيم عملية التأصيل الحقوقي، وسرعت بتكاملها، لأن هذه الصحوة كانت قد عالجت عدداً من المواضيع في إطار دفاعها عن الإسلام والتبشير به، وتأكيد أفضليته من دون أن يكون العنوان الذي عولجت تحته هذه المواضيع حقوقياً. لكن توجه الفكر الإسلامي نحو التأصيل في مجال الحقوق، بخاصة، جعله يستفيد مما أنجز في مجالات فكرية إسلامية مختلفة.

إن قضية حقوق الإنسان مركبة ومتعددة الأبعاد والمداخلات، باختلاف جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية والدينية. ومن ثم يمكن أن تدخل ضمن دائرة اهتمام العديد من فروع المعرفة وتخصصاتها[12].

لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بالتأصيل، يعرض للمذهب الإسلامي المتكامل في جميع مناحي الفعل الإنساني. لهذا كانت الصحوة الإسلامية التي سبقت هذا الاهتمام المتميز بهذا الحقل، رافداً مهماً ساعد، كما قلنا، في عملية التكامل السريع والشامل، وأنضج مبكراً عملية التنظير في هذا المجال. وصولاً إلى تقنين هذه الحقوق في مواثيق وإعلانات إسلامية، صدرت تباعاً خلال السنوات العشرين الماضية. وعليه لا بد من اعتبار الصحوة الإسلامية واقعاً موضوعياً داخلياً، أسهم إلى جانب التطور العالمي في بلورة المنظومة الحقوقية الإسلامية، التي سنعرض لأهم ملامحها بعد قليل.

التأصيل الإسلامي لحقوق الإنسان: الملامح والمميزات

قلنا، سابقاً، إن قضية حقوق الإنسان قضية مركبة ومتعددة الأبعاد، لذلك فقد وجد الفكر الإسلامي نفسه، وهو يقوم بعملية التأصيل لحقوق الإنسان، يعرض النظم الإسلامية في جميع المجالات. وهذه العملية فتحت عينيه على قضايا متعددة، وجعلته يتعرض لتحديات ذاتية جديدة. لأنه اصطدم، أثناء معالجة بعض القضايا الخاصة، بتجربة تاريخية طويلة، تعرض فيها تطبيق الإسلام، لمجموعة من الإخفاقات، إلى جانب بعض النجاحات بطبيعة الحال.

وقد شكلت هذه التجربة وموروثها الفكري، زخماً ساعد من جهة المفكر الإسلامي على الإحاطة بأبعاد التشريع الإسلامي عند التطبيق أو التنظير. لكنه وقف، من جهة أخرى، عائقاً أمام الفصل في عدد من القضايا، التي تبين أن التجربة التاريخية فيها كانت بعيدة جداً عن مقاصد الإسلام وشريعته، بالرغم من ترسانة التبريرات التي أوجدها العقل الاجتهادي الذي عايش هذه التجربة. لذلك يمكننا أن نؤكد على أن عملية التأصيل كانت تسير إلى جانب إعادة النظر في عدد من الوقائع التأريخية، بالتحليل والدفاع عن اجتهاد معين تارة، باعتباره يمثل وجهة نظر الإسلام الحقيقية التي طبقها المسلمون، أو بالنقد والرفض تارة أخرى. وفي مرات عدة ساد الاختلاف وبقيت مجموعة من المواضيع معلقة تنتظر الحسم.

لكن ظهرت بعض الكتابات التي انتهجت الموضوعية العلمية، لتؤكد على أن الانتقادات التي وجهت للإسلام، كان يجب في حقيقة الأمر أن توجه للتطبيقات الخاطئة التي وقعت، وإلى بعض الاجتهادات التي تأثرت بالظروف التاريخية الموضوعية. لذلك لا بد من التفريق هنا بين مبادىء النظام الإسلامي التي لا يشك أحد في أن مقاصدها تهدف إلى تحقيق واقع أفضل للإنسان في بعديه المادي والروحي، وبين وقائع التاريخ المحسوبة على الإسلام.

هذه الحقيقة التي أفصح عنها الفكر الحقوقي الإسلامي كانت مهمة جداً، لأنها ساعدت على تعميق المراجعة الشاملة التي يقوم بها الفكر الإسلامي، وهو يجدد نفسه، لمواكبة التطورات الحضارية، وينفض عنه غبار التقليد وتجارب الماضي السلبية.

نجد، مثلاً، أن البحث في الحقوق السياسية في الإسلام، يدفع بهذا الفكر إلى محاولة الكشف عن النظام السياسي في الإسلام بعيداً عن التجربة التاريخية، ومناقشة إشكالاته، كالحديث عن الشورى ومقارنتها بالديمقراطية الغربية، والتأكيد على ان نظام الشورى الإسلامي يضمن حقوق المشاركة السياسية للإنسان المسلم. إضافة إلى الحديث عن حجم الحريات السياسية وطبيعة علاقة الحاكم بالمحكومين، وحقوق المعارضة وإنشاء الأحزاب. وكما قلنا، سابقاً، أدت معالجة هذه القضايا إلى إعادة النظر في عدد من الاجتهادات والتطبيقات التاريخية، انتهت إلى رفض الاستبداد السياسي، وتفنيد مسوغاته الفكرية، وقطع صلته بمبادىء دينية تلبست بلباس القداسة، واتخذها أعداء الإسلام مطية للطعن فيه وفي تشريعاته.

الحقوق الاقتصادية كان لها نصيب مهم في عملية التأصيل، لأنها ستكشف بدورها عن نظام الإسلام الاقتصادي، عند البحث في الحقوق الاقتصادية التي يقدمها الإسلام للإنسان فرداً وجماعة، وتشريعاته الاقتصادية التي تكفل الرخاء والرفاه للمجتمع المسلم. لكن التأصيل، في مجال الحقوق الاقتصادية، عانى من تحديات جمة لأن المذهب الاقتصادي في الإسلام غير متكامل من حيث التنظير والتفصيل، وملامحة تعاني من الغموض. مع قلة البحوث الاقتصادية المنجزة في الماضي، وتطور المجال الاقتصادي المعاصر وتعقيده وتفرعاته الكثيرة، التي جعلت المفكر الإسلامي يشعر بنوع من التخبط، لأنه لم يجد بين يديه سوى الأصول العامة، وبعض الأحكام الجزئية في قضايا اقتصادية متفرقة. لذلك كان عليه أن يفتح باب الاجتهاد على مصراعيه لعلاج نواقص هذا الموضوع بالذات. خصوصاً إذا علمنا أن المذاهب الاقتصادية التي تم استيرادها من الغرب، وطبقت في العالم الإسلامي، كان لها وقع سيء على الهوية الدينية، لأن هذه المذاهب حملت معها خلفيات عقائدية ومظاهر، على نقيض تام مع دين التوحيد، بل مناقضة لكل دين. لذلك فالتحدي في هذا المجال كان كبيراً.

إلى جانب البحث في الحقوق السياسية والاقتصادية، كان هناك اهتمام متميز وخاص بحقوق المرأة، تشهد على ذلك كثرة الكتابات والدراسات التي أنجزت في هذا الموضوع، سواء الكتابات العامة التي تحدثت عن موضوع المرأة في الإسلام، واهتمت بالرد على الشبهات والانتقادات التي يروج لها الغزو الفكري الغربي، وتجد بعض الآذان الصاغية لها داخل العالم الإسلامي، أم الكتابات المتخصصة في مجال الحقوق كما نصت عليها الكتابات الحقوقية الغربية، ومن ضمنها المواثيق والإعلانات الحقوقية العالمية. وموضوع المرأة في الإسلام، كان قد اكتسب صبغة ذات حساسية خاصة قبل التوجه الحقوقي، خلال العقود الأخيرة، لأن وضع المرأة بشكل عام كان من بين القضايا التي احتدم حولها النقاش مبكراً، مع وصول الجحافل الأولى للاستعمار الغربي وسيطرتها العسكرية على العالم الإسلامي. وبقي هذا الجدل محتدماً، وفي تصاعد مستمر، بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، لأن الغزو الثقافي عبر وسائط الإعلام والتعليم، ما فتىء يركز على هذا الموضوع ويثيره بين الحين والآخر. لذلك فقد وجدت المرأة المسلمة نفسها تتقاذفها التيارات والايديولوجيات المختلفة، بين منتصر لما تدعو له الحضارة الغربية من قيم وحقوق تخص المرأة، وبين قيم الإسلام التي امتزجت مع تقاليد المجتمعات الإسلامية وأعرافها. وقد استطاعت عملية التأصيل لحقوق المرأة أن تميط اللثام عن عدد من المغالطات الأيديولوجية، ووضعت في بعض جوانبها المتميزة، حداً بين ما يريده الإسلام من المرأة وما قدمه لها من حقوق، وبين الواقع التاريخي، أو وضع المرأة المسلمة الحالي، الذي يحكمه التخلف وعدم الانسجام بين النظرة الإسلامية الحقوقية والواقع المعيش. لكن يمكن أن يقال إن عملية التأصيل في مجال حقوق المرأة قد بلغت شأواً من التقدم، تم فيه الاعتراف والانتباه لعدد كبير من الحقوق التي كانت، إلى عهد قريب، خارجة عن موضوع البحث أو المعالجة، بل كان النسيان والتجاهل يلفها ويلغيها من الوجود الواقعي. وبدأ الكلام عن حقوق تثير حساسية كبيرة داخل المجتمعات العربية والإسلامية، وهكذا بدأ الحديث عن الحقوق السياسية للمرأة وحقها في الولاية مثلاً؟.

لكن لا بد هنا من الإشارة إلى أن الفكر الإسلامي ما زال يتعامل مع الموروث الروائي المتعلق بالمرأة، بنوع من الحذر، وقلة الجرأة لمعالجته، لأنه مما لا شك فيه أن عدداً كبيراً من الأعراف والتقاليد قد استحالت عبر الوضع والكذب إلى أحاديث نبوية، كما أن التفسيرات التقليدية لكثير من الأحاديث، يجب إعادة النظر فيها، إذا أردنا فعلاً أن نكشف عن الوضع الحقوقي للمرأة كما جاء به الإسلام. وهذان الأمران: التردد والتخبط كثيراً ما يظهران في الكتابات العامة أو المختصة بحقوق المرأة في الإسلام.

وتفرع مجال التأصيل كثيراً، باعتباره استجابة للتحديات الحضارية المعاصرة التي كان من أهم إنجازاتها الإعلانات والمواثيق العالمية والإقليمية والوطنية، والمطالبة بالعمل على وضعها موضع التنفيذ والتطبيق، لذلك نجد أن مواضيع كثيرة قد نوقشت وتم علاجها سواء بشكل مفصل وكبير، أم بدراسات محدودة. ومن العناوين التي عولجت وكثر حولها التأليف نذكر: الحقوق الاجتماعية والإعلامية، الحريات العامة، الدستورية، الزوجية، العائلية، الأقارب، العمال، حقوق الجنين، الآباء، المتهم، الطفل، الأقليات إضافة إلى عناوين أخرى تعالج مواضيع جديدة، طرحها التطور العالمي في هذا المجال.

ومما لاحظناه، عند إنجازنا لببليوغرافيا خاصة بموضوع حقوق الإنسان[13] في الإسلام، أن الكتابات عن حقوق المرأة تأتي على رأس القائمة من حيث كثرتها وتفرعها، وهذا يؤكد حجم التحدي كما ذكرنا سابقاً، ثم تأتي الكتابات عن الحقوق السياسية، بعدها نجد أن موضوع الاقليات قد أخذ حيزاً كبيراً في مجال التأليف الحقوقي. وهذا يدل كذلك على حجم التحديات التي أثارها الإعلام الغربي حول الأقليات الدينية التي تعيش داخل العالم الإسلامي منذ قرون، وهو يروج أن التشريعات الإسلامية تضطهدها وتنتهك جملة من حقوقها. وأمام الهجمات المتكررة لهذا الاعلام، نجد أن الفكر الإسلامي استجاب بشكل إيجابي حينما عالج هذا الموضوع، وخصص له جهوداً محترمة في عملية التأصيل هذه.

هناك مواضيع حقوقية مهمة نلاحظ فيها بعض التقصير؛ إذ إن هذه العملية تعطيها حقها المطلوب، مع وجود موروث روائي لا بأس به يمكن أن يسهل هذه العملية، كموضوع حقوق الطفل، فالدراسات والبحوث قليلة جداً، وهذا يقلل من فرص وضع ميثاق حقوقي خاص بالطفل، لأن التراكم التنظيري متواضع جداً. لكننا نلاحظ أن العقل الإسلامي قد تحرر من محظوراته وكوابحه الذاتية والموضوعية، وانفتح على مصراعيه لمناقشة جميع القضايا التي لها علاقة بحقوق الإنسان وبحثها. وإن كنا نسجل نوعاً من السبق الوقائعي والتنظيري للفكر الغربي في هذا المجال، فالعقل المسلم، بشكل عام، يظل منفعلاً وليس فاعلاً في أغلب القضايا التي توصلها له وسائط الاعلام الغربية، فيهرع لمعرفتها والرد عليها سلباً أو إيجاباً. لكننا نثمن سرعة الاستجابة في كثير من الأحيان، وكذلك الكم المعرفي في ميدان الحقوق الذي نجم عنها، لأنه سيشكل الأرضية والقاعدة الفكرية المتينة لانطلاق الأجيال القادمة نحو الإبداع والإنتاج وبلورة النظرية الإسلامية في جميع المجالات.

مميزات عملية التأصيل

من خلال القراءات المتعددة، للكتابات الإسلامية الحقوقية، تظهر بوضوح بعض المميزات والخصائص التي تكاد تشترك فيها مجمل هذه الكتابات والبحوث، ليس في مجال معين، كالاقتصاد أو السياسة، ولكن في أغلب المواضيع المبحوثة. أولى هذه الخصائص، الحديث عن مفهوم الحق في المنظور الإسلامي، وذلك في قبالة الحديث عن الخلفيات الفكرية والفلسفية التي انطلق منها الوعي الحقوقي الغربي، وشكلت الأرضية العقائدية التي تتحكم في تعريفه للحق الإنساني. وقد تحدثنا من قبل عن النظريات الثلاث التي شكلت الخلفية الفلسفية للفكر الحقوقي الغربي.

والحديث عن مفهوم الحق، لما له من أهمية كبرى يحتاج إلى شيء من التفصيل. إن الاختلاف الذي تبرزه بعض الحقوق المنصوص عليها في المواثيق العالمية، إنما يرجع في أساسه إلى النظرة الفلسفية والعقائدية للحق، من حيث مفهومه ومصادره. لذلك فمعالجة الفكر الإسلامي الحقوقي لهذه القضية تعد مهمة وأساسية.

الميزة، أو الخاصية الثانية، تظهر في النقد الذي وجهه الفكر الإسلامي الحقوقي للحقوق الإنسانية في الفكر الغربي بشكل عام، عندما اتجه لنقد المذاهب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الغربية، مستعيناً بطبيعة الحال ببعض المظاهر، حيث الإخفاق في مجال الحقوق أدى إلى كوارث إنسانية، تجاوزت حدود تأمين الاحتياجات الضرورية للإنسان إلى تعريض وجوده الإنساني ككل للخطر، فظواهر الانتحار والتفسخ العائلي والتحلل الأخلاقي، وانتشار الإلحاد. هذه الظواهر التي تجتاح الواقع الغربي، تكاد تعصف بالمكتسبات الحقوقية التي تم تحقيقها بعد معاناة طويلة.

طبعاً نحن، هنا، أمامَ إشكال له جانبه الحقوقي، لكنه قد يتجاوزه، ليتم الحديث عن الحاجة إلى الأديان السماوية، بوصفها بديلاً عن الأيديولوجيات الوضعية. وهذا ما نجد تلميحاً له أثناء معالجة الفكر الإسلامي لقضايا حقوقية جزئية، على اعتبار أن النظر إلى الظاهرة الإنسانية، لا يمكن معالجته بشكل جزئي، لأن النتائج النهائية لأي تطبيق ستفتقر إلى النظرة الكلية للإنسان، في إطار فلسفي عقائدي، لا يهمل المنطلقات، ويتحدث عن الغايات والمقاصد الوجودية الأساسية للإنسان، بشكل واضح ومفصل، ما يسهم بشكل فعال في تحقيق ما يصبو له الإنسان من حياة أفضل على الأرض.

وهذه النظرة التكاملية تدفع بنا إلى الحديث عن الخاصية الثالثة، وهي شمولية الحقوق الإنسانية في الفكر الحقوقي الإسلامي، والتي نظر لها من خلال: التشريع الإلهي (الوحي) الذي يعلم يقيناً الاحتياجات الحقيقية للإنسان وحقوقه الأساسية، إضافة إلى نقطة مهمة تتلخص في كون التشريع الإلهي يمثل الحقيقة التي لا تتأثر بالمصالح الفردية أو الجماعية أو الفئوية، أو غيرها من التقسيمات التي يطغى تأثيرها في التشريعات الوضعية. وبالتالي فالحديث عن عالمية الحقوق، انطلاقاً من تشريعات وضعية، يعد تسويقاً لأيديولجيات غرضها الهيمنة لا غير.

هذه المميزات الثلاث، سنعرض لها بنوع من التفصيل، لأنها من القضايا المهمة التي ركز عليها الفكر الإسلامي الحقوقي أثناء عملية التأصيل، ولأنها محطات يمكن من خلالها معرفة المدى الذي توصلت إليه هذه العملية.


-------------------------------------------------------------

[1] كاتب من الغرب

[2] الدكتور أحمد بلحاج السندك، حقوق الإنسان، رهانات وتحديات، الرباط، شركة بابل للطباعة، 1996، ص8.

[3] أمينة البقالي، حركة حقوق الإنسان: من أجل أنسنة العمل السياسي، مجلة الوحدة، العدد 63/64، السنة السادسة، 89/1990، ص75.

[4] المحامي حسين ضناوي، وعي حقوق الإنسان: جذور التطور والحماية، جريدة النهار البيروتية، بتاريخ 17/12/1990م، ص2.

[5] عمر ممدوح مصطفى، القانون الروماني، القاهرة، ط3، 1959م، ص16.

[6] الدكتور محمّد خريف، حقوق الإنسان بالمغرب، منشورات المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 1994م، ص14.

[7] أحمد البخاري وأمينة جبران، الحريات العامة وحقوق الإنسان، مراكش، وليلي للطباعة والنشر، ط1، 1996م، ص69.

[8] مثل منظمة العفو الدولية التي لديها الآن ما يزيد عن (700ألف) عضو مشترك في نحو (150) بلداً في جميع أنحاء العالم، وما يزيد على (4200) مجموعة محلية في (63) بلداً، إضافة إلى عدد كبير من المنظمات الوطنية التي تهتم بالدفاع عن حقوق الإنسان وفضح الانتهاكات المختلفة.

[9] جريدة النهار البيروتية، م.س.، ص90.

[10] اعترضت عدد من الدول الإسلامية على بعض البنود الواردة في الإعلانات التي طلب منها المصادقة عليها، واعتبرتها مسوغاً كافياً لعدم التصديق على هذه الإعلانات العالمية.

[11] ظهرت في العالم العربي مجموعة من المنظمات الحقوقية، وقد صدر مؤخراً كتاب عن المعهد العربي لحقوق الإنسان في تونس يعد أهم دليل لمعرفة هذه المنظمات وعناوينها.

[12] حسين توفيق إبراهيم، حقوق الإنسان في الكتب والرسائل الجامعية وبعض الدوريات العربية، مجلة منبر الحوار، عدد9، السنة 3، ص73.

[13] انظر: مجلة الكلمة، عدد 20، 1998م.


...........


ــــــــــــــ تابع ــــــــــــــــــــ


.........

الفرصة الأخيرة
11-28-2005, 10:17 AM
الـكاتـب [محمّد دكير ]

حقوق الإنسان في الإسلام من التأصل إلى التقنين

القسم الثاني
الحق الإنساني: مصادرة ومرتكزاته

تؤكد الكتابات الإسلامية، في مجال حقوق الإنسان، أن مجمل الحقوق التي تنتظم في البيانات والإعلانات العالمية. قد عالجها الفقه الإسلامي، وذكرتها الشريعة، لكن ليس ضمن باب معين مختص بـ ((حقوق الإنسان))، وإنما في عدة أبواب في الفقه متفرقة، وذلك لاندراج كل حق ضمن موضوع، أو عنوان، فقهي خاص.


وإذا كانت الأسس الشرعية للحقوق وأحكامها التفصيلية موزعة على أبواب الفقه، فإن الأساس الذي يوضح الإطار الشرعي لمجموع الحقوق، نجده في مواضع ثلاثة من كتب الأصول هي: مباحث الحق، والحكم التغييري والحكم الاقتضائي

فمباحث الحق توضح أساس الحقوق، ومباحث الحكم التخييري توضح الواجبات، وهو ما تنفرد الشريعة بالاهتمام به[1].

لقد عرف الفقهاء الحق بما يثبت في الشرع سواءاً كان حقاً لله على الإنسان، أم حقاً للإنسان على غيره. أما أركانه فهي أربعة: 1ـ الشيء الثابت، 2ـ من له الحق، 3ـ من عليه الحق (أي المكلف) فرداً أم جماعة، 4ـ مشروعية الحق، أي النص عليه في الشريعة وعدم منعه.

وهذه الاعتبارات الاصولية للحق، من حيث أركانه ومصاديقه المستنبطة من الشريعة الإسلامية، أعطت لموضوع حقوق الإنسان في الإسلام تميزه. كما أبانت عن مرجعية متكاملة ومختلفة في آن عن المرجعية الغربية. كما أظهرت السبق الإسلامي في هذا المجال وشموليته بل تفوقه. لأن التفصيل الذي ذكرته المرجعية الإسلامية لا وجود له في غيرها. فحق العبد مثلاً تفرع بشكل دقيق من الحق الخاص إلى العام. وكذا حقوق الجماعة، وحقوق الله التي لا ذكر لها في الإعلانات الحقوقية الغربية.

على أن هذا المفهوم يرتكز أساساً على نظرة الدين المتميزة للوجود الإنساني، في خلقه المتميز، وغائية وجوده. فهو أولاً مخلوق مكرم من طرف خالقه: (ولقد كرمنا بني آدم)(الاسراء/70)، ثانياً، وجد لغاية خصه الله سبحانه وتعالى بها، وهي الاستخلاف: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) (البقرة/30). وبالتالي فقضية الخلق المرتبطة بالتكريم والاستخلاف، تعد أرضية أساسية تحدد مفهوم حقوق هذا الكائن المسمى " الإنسان ".

لهذا نجد الفكر الإسلامي يتكلم عن الفطرة الإنسانية، بمعناها السامي والمحدد بما ذكرناه من التكريم والاستخلاف الإلهي. فأي انحراف عن هذه الفطرة سيكون محل اختلاف وإشكال وبالتالي ستتغير النظرة للحق الإنساني. فالشذوذ الجنسي، أو اختيار الانتحار أو الإضرار بالنفس والجسد، كيفما كان نوعه، لا يمكن اعتباره حقاً إنسانياً، كما تراه المرجعية الحقوقية الغربية اليوم . إن مفهوم الفطرة وعلاقتها بالعبودية الإنسانية لله تعالى، تجعل من ولاية الإنسان على نفسه محددة بالفطرة أولاً، وبالشريعة الإلهية ثانياً. يقول الشيخ محمّد مهدي شمس الدين: " ما تطور إليه مفهوم سلطة أو ولاية الإنسان على جسده، ففي الإسلام هذه السلطة محدودة، وبعض ممارساتها تعتبر محرمة، وبعضها إنما شرع ضمن عقود معينة من قبيل سلطة الممارسة الجنسية بالجسد، سواء كان جسد الأنثى أو جسد الذكر. هذا نموذج، بينما تعتبر الحضارة الغربية سلطة الإنسان على جسده مطلقة... هذه السلطة عندنا محدودة..)) [2].

إذن لا بد من اعتبار الحيثية الذاتية للإنسان، وعلاقة هذه الحيثية بالفطرة الإنسانية، لأن الإنسان ليس موجوداً مادياً تصوغه الطبيعة ويشكله الواقع الاجتماعي فقط كما تذهب إليه الفلسفة الغربية ذات الجذور الغارقة في المادية. لذلك لا بد من تصحيح هذه النظرة الخاطئة التي تنبني عليها حقوق وهمية، تضر بالفطرة الإنسانية، وتخالف المفهوم الحقيقي لوجود الإنسان. بل إن هذه المخالفة للفطرة وللشريعة، تؤدي بالإنسان إلى الخروج عن الصفة الإنسانية، وهذا ما تشير إليه الآية القرآنية، (أولئك كالأنعام بل هم أضل) (الأعراف/ 179).

إن عملية التأصيل الإسلامي هذه، قد أسفرت عن تحديد مجموعة مفاهيم خاصة بالحق الإنساني، من حيث مصادره ومصاديقه ومرتكزاته وحدوده، فالشريعة متمثلة في الكتاب والسنة، هي مصدر الحقوق. لأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للإنسان، وهو أعرف بما يصلح له وما يضره. فالحقوق التي اعتبرتها الشريعة الحقوق الأصلية والمعتبرة، لأنها تنسجم مع الفطرة الإنسانية أولاً، ومع غاية الوجود الإنساني ثانياً. إن حقوق الإنسان في المنظومة الإسلامية، كما يقول المفكر الإسلامي محمّد عمارة، تجاوزت مرتبة الحقوق، إلى اعتبارها " ضرورات " فالمأكل والملبس والأمن، والحاجة للحرية في الفكر والاعتقاد، والتعبير، والعلم والمشاركة في صياغة النظام العام للمجتمع، والمراقبة والمحاسبة لأولياء الأمور.. جميع هذه الأمور هي، في نظر الإسلام، ليست " حقوقاً " للإنسان فحسب، من حقه أن يطلبها ويسعى في سبيل التمسك بها، ويحرم منعه عن طلبها، وإنما هي " ضرورات واجبة لهذا الإنسان "[3].

نقد المذاهب السياسية والاقتصادية الغربية

نقد الديمقراطية

انصب نقد الفكر الحقوقي الإسلامي على قضايا كبرى ومهمة في الفكر الغربي والإعلانات والمواثيق الحقوقية العالمية التي صدرت عنه. ففي المجال السياسي، نجد أن هذا الفكر، ابتداء من الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن الصادر سنة 1789م، وإلى الآن، يعد الحريات والحقوق السياسية من أهم الحقوق التي يجب العمل على تحقيقها لأنها " الركيزة الأساسية التي تعبر عن إرادة وضمير الرأي العام "[4]، وهذا الاعتبار جعل المطالبة بالحريات السياسية في الغرب تتطور لترتبط، في نهاية المطاف، بالعمل على تحقيق النظام الديمقراطي، لأنه يكفل ممارسة هذا الحق بشكل متكامل، كما يدعي ذلك الفكر الغربي المعاصر.

لكن هذا الادعاء سيتعرض لانتقادات مختلفة من طرف الفكر الإسلامي، أولاً: التشكيك في اعتبار النظام الديمقراطي من ركائز المجال الحقوقي وعياً وممارسة، كما يروج له كذلك بعض المثقفين العلمانيين داخل العالم الإسلامي. لأن الديمقراطية، بوصفها مشروعاً سياسياً تروج له الحضارة الغربية، يسعى للهيمنة والسيطرة السياسية لا غير، وربط دول الأطراف بالمركز الغربي. والاستتباع السياسي يظهر بوضوح من خلال التجارب " السياسية الديمقراطية؟‍ " التي عرفها العالم الإسلامي.

وقد تطور هذا الرفض والنقد إلى اعتبار الديمقراطية من قبيل الكفر، كما يظهر ذلك في بعض الكتابات الإسلامية " السلفية ". وقد ردَّ الشيخ يوسف القرضاوي ـ وهو أحد المفكرين الإسلاميين الذين اهتموا بعملية التأصيل الفقهي لعدد من القضايا المستحدثة ـ على هذا القول الذي حكم على الديمقراطية بالكفر، عندما اعتبر الديمقراطية السياسية تتلخص في اختيار الناس من يحكمهم ويسوس أمورهم، بعيداً عن الاستبداد أو الطغيان السياسي. لذلك يتساءل القرضاوي مستنكراً. هل " الديمقراطية ـ في جوهرها الذي ذكرناه ـ تنافي الإسلامي؟ ومن أين هذه المنافاة، وأي دليل من محكمات الكتاب والسنة يدل على هذه الدعوى؟ )) [5].

هذا الموقف من الشيخ القرضاوي نجد ما يماثله في عدد كبير من الكتابات الإسلامية التي يمكن أن يقال إنها عالجت الديمقراطية بموضوعية أكبر، لأنها لم تعتبر الخلفيات الفكرية والفلسفية الديمقراطية، وركزت على كونها أداة وآلية، توصل اليها الإنسان المعاصر بعد تراكم التجارب السياسية، عبر قرون طويلة، وعليه يمكن الاستفادة منها بما يتناسب مع الاحتياجات السياسية للعالم الإسلامي.

لكن مع اختلاف المقاربات والمعالجات للديمقراطية، بين الرفض التام والمعالجة الموضوعية، نجد الفكر الحقوقي الإسلامي يتحدث عن الديمقراطية بموازاة عرضه للشورى وحديثه المفصل عنها. انطلاقاً من قناعة إيمانية بأن للإسلام نظامه الخاص الذي يرتكز على مجموعة من القواعد والمرتكزات، لا توجد في الديمقراطية. فالشورى أساس نظام الحكم في الإسلام. وعن طريقها يتم تحقيق مشاركة الأمة في النشاط السياسي. وهي مبدأ إسلامي أصيل، يجب العمل به داخل النظام السياسي والاجتماعي الإسلامي. وذلك مصداقاً لقوله تعالى: (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) (الشورى/38) وقوله عز وجل: (وشاورهم في الأمر). ومن خلال هذه الآيات وغيرها التي تعرضت لموضوع الشورى، تحدث بعض الباحثين عن كون الشورى، تكليفاً شرعياً ملزماً. وهذا الاعتبار هو من بين أهم الاختلافات بين الشورى، تكليفاً شرعياً ملزماً. والديمقراطية التي تحدث عنها الفكر الحقوقي الإسلامي. إضافة إلى اختلافات أخرى قدمت بطريقة نقدية، لكنها أبرزت في المقابل خصوصية الشورى الإسلامية، وحددت ملامحها الأساسية نذكر منها:

1 ـ المرجعية المختلفة لكل منهما، النظام السياسي الإسلامي يرتكز على مبادىء حددها الوحي وينطلق منها، وتحكمه مقاصد التشريع الإسلامي، بينما تعتمد الديمقراطية في منطلقاتها على الاجتهادات والتجارب البشرية القابلة للخطأ والصواب.

2 ـ السيادة ليست للشعب، كما ترى الديمقراطية، وإنما السيادة الحقيقية للتشريع الإلهي. أما الحاكم فيقوم بمهمة الإشراف على تطبيق الشريعة. ولا يمكنه أن يتجاوزها لإرضاء مصالح فرد أو فئة اجتماعية أو أهوائه ومصالحة الخاصة.

3 ـ رفض فصل الدين عن الدولة، كما هو واقع في الديمقراطيات الغربية، وهذا الفصل يؤثر لا محالة في موضوع حقوق الإنسان.

4 ـ بعض الإشكالات التي تطرحها التعددية الحزبية، خصوصاً إذا اختلفت منطلقاتها وأهدافها الأيديولوجية مع الإسلام.

5 ـ لا اعتبار لرأي الأغلبية إلاّ إذا كان منسجماً مع قيم الإسلام وتشريعاته.

6 ـ عجز الديمقراطية، المطبقة في العالم الإسلامي، عن ضمان الحقوق السياسية للإنسان المسلم، إضافة إلى إخفاقها في تحقيق ما ينشده المجتمع من تقدم ورقي، فالوضع الاقتصادي متعثر. ووضع حقوق الإنسان بشكل عام يعاني من التردي المستمر.

طبعاً هناك اعتراضات واختلافات أخرى، تصب جميعها في نقد النظام السياسي الديمقراطي، واعتباره نتاجاً غريباً، لسنا في حاجة لاستيراده، لأن الإسلام قبل قرون خلت وضع لنا النظام السياسي الأمثل والأفضل. على أن مجموعة من المفكرين الإسلاميين كذلك نظروا إلى الديمقراطية في انتقادهم لها، بمنظار عميق يرى إلى جوهرها وما تهدف إليه. لأنها تلتقي مع الشورى في ذلك، متغافلين عن منشئها الغربي (الوثني ـ الصليبي) أو كونها اداة للهيمنة أو لسيطرة مظاهر الحضارة الغربية على واقعنا الإسلامي، هذا ما قام به مثلاً محمّد ضياء الدين الريس، الذي قام بمقارنة بين الشورى والديمقراطية، مبرزاً أوجه الاتفاق، دون إغفال الاختلافات، فحكم الشعب ممثل في نظام الدولة الإسلامية، إذا فهم " الشعب بمعنى معين، ومبادىء المساواة أمام القانون، وحرية الفكر والعقيدة، وتحقق العدالة الاجتماعية، وما إلى ذلك.. فلا شك أيضاً في أن تلك المبادىء متحققة. وهذه الحقوق مكفولة في الإسلام... أما إن كان المراد بالديمقراطية ما تعورف على أن نظامها يستتبعه، وهو تحقق مبدأ الفصل بين السلطات، فهذا أيضاً ظاهر في النظام الإسلامي....)) [6].

ومهما قيل عن تقارب، أو اتفاق بين جوهر الديمقراطية والإسلام، فإن النتيجة التي توصل اليها الفكر الإسلامي هي أن للإسلام نظامه السياسي الخاص المتميز، وله آلياته وأدواته لتمكين الإنسان من حقوقه السياسية، لكن هذه التأكيدات والقناعات النظرية تفتقر إلى التجربة، كما أن وقائع التاريخ الإسلامي لا تدعمها، إضافة إلى الغموض وضعف التفصيل والرؤية الواضحة المتعلقة ببعض الحقوق السياسية، خصوصاً كما هي عليه في الديمقراطية الغربية.

نقد النظم الاقتصادية
لم يكن الحديث متيسراً عن تطور فعلي باتجاه تكامل حقوقي في الفكر الغربي، إلاّ بعد عد أن تم الالتفات إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي أولاها الفكر الاشتراكي أهمية خاصة، منتقداً الفكر السياسي الليبرالي الذي حصر اهتمامه بالحقوق السياسية، وبخاصة الحريات العامة. لأن الفكر الاشتراكي رأى أن الحقوق الاقتصادية هي التي تحدد في واقع الأمر شكل الحقوق السياسية وإطارها. كما أسفر واقع التجربة والممارسة داخل النظامين معاً، عن تلازم وثيق بين هذه الحقوق، ما انعكس على الإعلانات الحقوقية العالمية والمحلية التي نصت على تحقيق العدالة الاقتصادية والمساواة الاجتماعية، واحترام حق الملكية وحق الشغل والكسب، وتطوير الإمكانات الاقتصادية، بالإضافة إلى حقوق أخرى كالحق في التعليم والصحة والثقافة، وصولاً إلى حق العيش في بيئة غير ملوثة وغيرها من الحقوق المتعددة.

هذا الاهتمام المتميز بالحقوق الاقتصادية، دفع الفكر الحقوقي الإسلامي، إلى الاهتمام بها كذلك وعدم إهمالها، فانطلق من خلال عرضه للمذهب الاقتصادي الإسلامي، يؤصل هذه الحقوق. لكن يلاحظ أن الجهود التي بذلت في هذا المجال قد انصبت بشكل كبير على نقد المذاهب الاقتصادية الغربية، وإبراز عدم ملاءمتها للواقع الإسلامي وقصورها في تحقيق العدالة الاقتصادية. لذلك فقد ظهرت كتابات مختلفة تشرح عيوب النظامين الليبرالي (الرأسمالي) والاشتراكي، وتتحدث عن النظام الاقتصادي والاجتماعي الإسلامي، باعتباره البديل الذي يمكنه أن يحقق العدالة والرفاه في جميع المجالات[7]. ويضمن بالتالي الحقوق الاقتصادية للإنسان المسلم.

وقد اكتسبت هذه الانتقادات قوتها من الواقع الاقتصادي المتردي داخل العالم الإسلامي، حيث نجد تطبيقات مختلفة لكلا النظامين الليبرالي والاشتراكي. ففي إطار الرأسمالية " المتوحشة "، أو المستبدة، كما يسميها الدكتور رمزي زكي[8] لا يمكن أن نتحدث عن مساواة اقتصادية أو اجتماعية. كما أن سياسة التقويم الهيكلي التي تجتاح العالم الثالث، ومن ضمنه العالم الإسلامي، تحت ضغط صندوق النقد الدولي والمؤسسات المصرفية العالمية، وما تبع ذلك من كوارث اقتصادية واجتماعية، كل ذلك جعل الانتقادات التي قدمها الفكر الإسلامي تجد مصداقيتها الواقعية، غير ان عملية التأصيل في هذا المجال ـ وكما قلنا سابقاً ـ عانت من غموض التشريعات الاقتصادية الإسلامية وإجمالها، فالمذهب الاقتصادي الإسلامي بحاجة إلى البحث والاجتهاد كي يتبلور وتتضح معالمه ليس الكلية فقط بل الجزئية كذلك، وهذا مهم جداً ليتمكن من الاجابة عن عدد كبير من التساؤلات الاقتصادية التي لها علاقة مباشرة بمجال التشريع الحقوقي. لكن نعتقد أن الانتقادات الموجهة للنظامين الاقتصاديين الغربيين كانت مهمة وقوية في كثير من جوانبها، يدعمها الواقع، إضافة إلى نجاح بعض التجارب الجديدة التي تحاول أن تضع النظريات الاقتصادية الإسلامية موضع التنفيذ.

الشمولية والتكامل

لقد استطاع الفكر الحقوقي الإسلامي أن يكتشف عدداً كبيراً من الحقوق، مما لا ذكر له في الفكر الحقوقي الغربي، كحقوق الله على الإنسان، حق الجار، حق الجنين، حق الجسد وأعضائه، حق الميت، حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حق الدعوة إلى الله، وغيرها من الحقوق الروحية، إضافة إلى بعض التفريعات الخاصة بالحقوق الزوجية والطفل والاقارب، وهذه المواضيع الحقوقية الجديدة هي التي جعلت الفكر الحقوقي الإسلامي يدعي الشمولية، ويتهم الفكر الحقوقي الغربي والإعلانات الحقوقية العالمية بالنقص وعدم الشمول. كما أن نظرة الإسلام للإنسان جاءت شاملة لاحتياجاته وحقوقه في بعديها المادي والروحي، ولا ننسى أن الفكر الحقوقي الإسلامي تبنى بعض الحقوق التي عدها الفكر الغربي حقوقاً وهمية غير حقيقية، لأنها تمس الوجود الإنساني، هذا الوجود الذي اهتم به الإسلام بشكل كبير، لذلك نجد فقهاء الإسلام يتداولون بعض القواعد التي تنص على ان " صحة الأبدان مقدمة على صحة الأديان " في إشارة إلى أن الواجبات العبادية تسقط، إذا كان الالتزام بها، في بعض الأحيان، يعرض الوجود الإنساني إلى الخطر، هذا في الوقت الذي اقتصر الفكر الغربي على الاحتياجات المادية بشكل عام. وسنرى مصداقاً لهذا الشمول والتكامل عند مقارنتنا بين الإعلانات الحقوقية العالمية والإسلامية.

لقد خطت عملية التأصيل الإسلامي لحقوق الإنسان خطوات نحو التكامل والشمول، وعمقت المعالجة، ما ساعد على انطلاق عمليات التقنين لمواد هذه الحقوق المختلفة، في إطار مواثيق وإعلانات ودساتير، أنجزها مختصون ضمن هيئات إسلامية، أو اكاديميون ومفكرون وأساتذة جامعيون ومحامون.

مرحلة التقنين لمواد حقوق الإنسان

البيانات والمواثيق الحقوقية الإسلامية

ظهرت أولى عمليات التقنين على شكل دساتير إسلامية مقترحة، فقد صدر عن جمعية الإخوان المسلمين في مصر، سنة 1952م، مشروع دستور إسلامي للدولة المصرية، كما قدم حزب التحرير الفلسطيني مقدمة للدستور في السنة نفسها، وأصدر مجمع البحوث الإسلامية، في الأزهر، مشروع دستور إسلامي سنة 1978م، وتلاه سنة 1979م مشروع رابطة العالم الإسلامي[9] كما أنجز في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية دستور إسلامي للبلاد. وفي سنة 1980م، قامت لجنة مكونة من الدكتور عدنان الخطيب، رئيس مجلس الدولة السابق (في سورية) وعضو مجامع اللغة العربية في القاهرة ودمشق وبغداد، والدكتور شكري فيصل أستاذ الأدب العربي في جامعة دمشق، والدكتور وهبة الزحيلي أستاذ في كلية الشريعة، والدكتور رفيق جويجاتي المدير العام الديبلوماسي في وزارة الخارجية. (وهؤلاء جميعهم من سورية) بوضع مشروع " شرعة حقوق الإنسان في الإسلام "[10]. وأصدر المجلس الإسلامي الأوروبي في لندن البيان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان؛ وذلك في اجتماع بمقر منظمة اليونسكو في باريس بتاريخ 19 نيسان (أبريل) 1981م. وأصدر في السنة التالية بياناً ثانياً، ومشروع دستور إسلامي سنة 1983م. كما صدر عن جامعة الكويت، أواخر سنة 1980م، بيان عن حقوق الإنسان في الإسلام، بمبادرة من نخبة من رجال القانون ومشاركة رابطة المحامين العرب. وفي السنة نفسها نشر الدكتور مصطفى كمال وصفي، أحد المحررين لمشروع الأزهر، نموذجاً لدستور إسلامي كذلك[11].

وفي 5 آب (اغسطس) 1990م، أصدر مجلس وزراء خارجية الدول الإسلامية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام[12]. وقد جاء في ديباجته: "....مساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان، التي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهتدي إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة، تتفق مع الشريعة الإسلامية... وإيماناً بأن الحقوق الإنسانية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كلياً أو جزئياً (....) وأصبحت رعايتها عبادة، وإهمالها أو العدوان عليها منكراً في الدين، وكل إنسان مسؤول عنها بمفرده. والأمة مسؤولة عنها بالتضامن. إن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، تأسيساً على ذلك، تعلن ما يلي..".

تضمن الاعلان خمساً وعشرين مادة، تحدثت عن المساواة في أصل الكرامة والتكليف، حق الحياة، حق بناء الاسرة، حق الطفل في التربية والرعاية، حق التعليم حق العمل الذي تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه (ذكر أو أنثى)، حرية الرأي، حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من الحقوق التي تضمنتها مواد هذا الإعلان.

وأخيراً، أكدت المادة الخامسة والعشرون أن: " الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة ".

أهم ملاحظة يمكن تسجيلها، عند قراءة هذه المشاريع القانونية الحقوقية، سواء أكانت دساتير مقترحة أم مواثيق تقنن حقوق الإنسان المسلم، اتفاقها في الكثير من البنود والتشريعات مع القوانين والمواثيق الدولية.

لكن الفروقات كثيرة من حيث التفاصيل أو المضامين والأبعاد الإنسانية لبعض الحقوق، وهذه الفروقات، كما يرى الشيخ التسخيري، طبيعية، لأن الإعلان الإسلامي (إعلان القاهرة) يقيد كل المواد بأحكام الإسلام في حين يقيد الإعلان العالمي جميع الحريات الفردية بحرية الآخرين فقط. ثم إن الإعلان الإسلامي قرر أن الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أية مادة أو توضيحها، في حين أن الإعلان العالمي لم يذكر مرجعاً مشابهاً[13].

طبعاً هناك إشكالات قانونية وحقوقية، ترد على هذه المواثيق، من حيث تفسيرها أو توجيهها، خصوصاً إذا علمنا أن الواقع الإسلامي تتقاسمه مرجعيات فقهية وأصولية مختلفة. وهذا يؤثر لا محالة في مجال الحقوق عند التطبيق والممارسة، خصوصاً في مجال الحقوق السياسية، وموضوع حقوق المرأة بشكل كبير؟‍ سنقوم بعرض مقارنة بين الإعلانات الحقوقية الإسلامية والإعلان العالمي، فمن خلال هذه المقارنة تتضح مميزات هذه المواثيق الإسلامية ومضامينها وكذا شموليتها وتفوقها، كما ذكرنا من قبل، لكننا لن نتطرق إلاّ لأهم المميزات أو الاختلافات.

الاختلافات بين الإعلانات الحقوقية العالمية وحقوق الإنسان في الإسلام

هناك مجموعة من الاختلافات والنواقص ليس بين الإعلانات فحسب، بل بين المرجعيات الفكرية والفلسفية ذكرنا بعضها سابقاً، وسنذكر أهمها الآن على شكل نقاط تجد مصاديقها في بنود هذه الإعلانات.

1 ـ الاختلاف حول أصل الحقوق، من حيث تشريعها أو هبتها، فالفكر الغربي يتحدث عن الحقوق الطبيعية أولاً، ثم الحقوق المكتسبة من خلال الاجتماع الإنساني وتطوره السياسي والاجتماعي والاقتصادي. أما في الإسلام فإن النظرة للإنسان من حيث كونه مخلوقاً لله وعبداً له، وجد لحكمة الاستخلاف، فالله هو واهب الحقوق، والشريعة تحدد هذه الحقوق وتبينها. ومن ثم فإن هذه النظرة هي التي تشكل الارضية التي تنبني عليها مجمل الحقوق الإنسانية في الإسلام تشريعاً وممارسة.

2ـ الاختلاف حول مفهوم الكرامة الإنسانية، وهذا يرجع إلى أصل الاختلاف، في النظر إلى الوجود الإنساني.

3 ـ الاختلاف حول مصاديق الحقوق وحدودها، فالشريعة الإسلامية المعتمدة على الوحي، تختلف عن القانون الطبيعي والتطور الاجتماعي والفكري المعدودين مصدراً للحقوق في الفكر الغربي.

4 ـ شمولية الحقوق في الإسلام، والمواثيق الحقوقية الإسلامية، لعدد كبير من القضايا المرتبطة بالفعل والاجتماع الإنساني، والتي لها علاقة خصوصاً بالجانب الروحي والديني، بخلاف الفكر الحقوقي والإعلانات الغربية التي أهملت هذه الجوانب ولم تعرها أي اهتمام.

إضافة إلى اعتبار مجموعة من الحقوق، لم تذكرها المواثيق الغربية والدولية، مثل حق الجنين، أو حق الطفل قبل الولادة، وحق، بل واجب، المحافظة على النفس أو الحياة. بينما يرى الفكر الغربي أن هبة الحياة حق ذاتي يمكن للإنسان أن يلغيه أو يتصرف فيه في أي لحظة شاء، لكن هذا الحق ليس له اعتبار في منظومة الحقوق الإسلامية، بل يأثم من أقدم على إيذاء نفسه سواء جزئياً أو كليا بالانتحار مثلاً. وكذلك حق " الميت " وضرورة تكريم جسده بتغسيله ودفنه، إضافة إلى حقوق الاعداء والمخالفين التي فصلت فيها الشريعة الإسلامية أكثر من أي بيان حقوقي عالمي.

5 ـ الاختلاف حول حقوق الاسرة، وحقوق الزوجين، والآباء، وانسجام الحقوق الإسلامية مع الفطرة الإنسانية، على عكس ما جاءت به الإعلانات العالمية.

فالإسلام يؤكد على الزواج الشرعي لبناء الأسرة، التي تشكل اللبنة الأساسية في بناء مجتمع سليم من الأمراض النفسية والاجتماعية، قائم على التراحم والتكافل، إضافةً إلى التفصيل في الحقوق الزوجية من حيث المهر والإرث.

زد على ذلك دعوة الإسلام للاهتمام بالزواج والأسرة ودعم المجتمع والدولة الإسلامية لهذه المؤسسة الاجتماعية المهمة.

6 ـ هناك اختلاف أساسي حول مفهوم الحرية الدينية، فالإسلام لا يرى أن من حق الإنسان المسلم أن يرتد عن دينه أو يبدله بدين غيره، لأن ذلك بخلاف الحقيقة.

فما جاء به الإسلام هو الحقيقة المطلقة ولا يجوز العدول عنها إلى غيرها.

7 ـ هناك اختلافات دقيقة تخص الحقوق الاقتصادية، فتتحدث الإعلانات الإسلامية، على سبيل المثال، عن الكسب المشروع (الحلال)، بينما لا يوجد هذا التحديد أو التقييد في الإعلانات العالمية. كذلك بالنسبة لحقوق الفقراء والمساكين، التي يتحملها الأغنياء من جهة والدولة الإسلامية من جهة أخرى. وهذه القضايا لا ذكر لها في الفكر الحقوقي الغربي.

8 ـ اعتبار الإسلام لعدد من القضايا الأخلاقية، التي لا يعيرها الفكر الحقوقي الغربي أي اهتمام، بينما يبني عليها الإسلام مجموعة من الحقوق أو الواجبات.

9 ـ الاختلاف حول حدود تعريض الإنسان للتعذيب وقيوده أو المعاملة القاسية، أو جعل جسده موضوعاً للتجارب الطبية أو العلمية، سواء أكان حياً أو ميتاً.

10 ـ الاختلاف حول مفهوم الحرية وحدودها والولاية على النفس بشكل عام.

11 ـ ذكر الإعلانات الإسلامية لحق الإنسان المسلم في الدعوة للخير والنهي عن الظلم والشر، أو ما يصطلح عليه في الشريعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهذا حق لا وجود له في الفكر الحقوقي الغربي بشكل عام. هناك حقوق سياسية للدفاع عن المصالح الذاتية والفئوية، وهذا يختلف عن مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

12 ـ حق الدعوة إلى الله، أو حق الإيمان بالله، ومعرفة الحقيقة، وامتلاك الوسائل والأسباب التي تمكن من ذلك.

13 ـ الاختلاف حول مفهوم الأهداف والغايات من الحق الإنساني، وهذا مرتبط أساساً بالأيديولوجيا أو الفلسفة التي تنطلق منها مفاهيم حقوق الإنسان في المرجعيتين الغربية والإسلامية.

هناك عدة اختلافات جوهرية وجزئية تفصيلية بين منظومة حقوق الإنسان في الإسلام ومواد المواثيق والإعلانات العالمية، لكننا عرضنا هذه النقاط المختارة ليتمكن القاريء من معرفة أوجه الاختلاف بين الحقوق في الإسلام ومثيلاتها في المواثيق الدولية. وتظهر له واقعية الحقوق في الإسلام وموضوعيتها وشموليتها، وهذا ما حاولت عملية التأصيل إبرازه والكشف عنه.

هناك مواضيع حقوقية متعددة يكشف عنها التطور السريع الذي تعرفه الحياة المعاصرة، لذلك فالفكر الحقوقي الإسلامي يجد نفسه مسابقاً للزمن، وهو يعالج هذه المواضيع بغية تأصيلها. لذلك لاحظنا أن البحث في عدد من المواضيع يكاد ينعدم، وإن وجد فدراسات قليلة جداً لا تكفي لإحداث تراكم يمكن أن يفيد عملية التقنين، ويثري مرجعيتها، خصوصاً إذا علمنا أن الفكر الحقوقي الغربي يتحدث الآن عن الجيل الثالث من الحقوق، ويعالج قضايا واقعية حساسة على الصعيد العالمي، مثل الحق في التنمية، وحق العيش في بيئة سليمة من التلوث. وهذه المواضيع تتطلب من العقل الإسلامي الكثير من الجهود البحثية والعلمية، إن هو أراد مقاربتها، فضلاً عن توسيع البحث في قضايا حقوقية كثيرة لم تتبلور رؤيته فيها بشكل تفصيلي.

أما بخصوص المواثيق والإعلانات الحقوقية الإسلامية التي صدرت حتى الآن، فإننا نلاحظ غياب أي ذكر لها على المستوى الواقعي. فعدد من الدول الإسلامية صادقت على بعض الإعلانات والمواثيق العالمية، وأدخلت بنودها ضمن تشريعاتها، لكنها لم تعر أي اهتمام للمواثيق الإسلامية، حتى إعلان القاهرة الذي صدر عن مؤسسة تعد دولية لأنها تضم في عضويتها أغلب الدول الإسلامية، إلاّ أن الحديث عن هذا الإعلان، انتهى بعد صدوره مباشرة، ولم نسمع عنه شيئاً.

المنظمات الحقوقية والمدافعة عن حقوق الإنسان، في العالم الإسلامي، هي بدورها اتخذت مرجعيتها القانونية والتشريعية، بنود الإعلانات العالمية، على اعتبار ـ كما يقول أصحابها الاستفادة من المصادقات على هذه الإعلانات من طرف الدول الإسلامية، ما يهيىء لها الدعم القانوني والسياسي العالمي والمحلي ويدعم شرعيتها. وعليه، فعلى المستوى الواقعي، كما قلنا، لا وجود لتأثير هذه المواثيق والإعلانات الإسلامية، وقد ادعى بعض الباحثين أن الدول الإسلامية والمنظمات الحقوقية لا تعير اهتماماً لهذه المواثيق، لأنها قد تكون مقدمة للدعوة إلى تطبيق الشريعة وإحلال النظم الإسلامية محل النظم المعمول بها. وهذه القضية هي محل خلاف فكري وسياسي يعاني منه الواقع الإسلامي برمته، باستثناء بعض الدول التي لها دساتير إسلامية، وتعد الشريعة المصدر الأول للتشريع والاعتبار القانوني.

لكن، ومهما قيل عن نواقص وقصور في عملية التأصيل وسيرها ببطء في معالجة بعض القضايا الحساسة، فإن التراكم المعرفي النظري الذي أسفرت عنه هذه العملية يصب بشكل مباشر في تقوية شعار: " المستقبل لهذا الدين " ودعمه.





--------------------------------------------------------------------------------

[1] جمال الدين عطية، حقوق الإنسان في الإسلام: النظرية العامة، مقالات المؤتمر الخامس للفكر الإسلامي. طهران ـ إيران. منشورات منظمة الاعلام الإسلامي، 1987م.

[2] حوار مع الشيخ محمّد مهدي شمس الدين أجراه معه كاتب هذه الدراسة. انظر: مجلة الكلمة، عدد 5، السنة1، خريف 1994م، ص123.

[3] محمّد عمارة، الإسلام وحقوق الإنسان، ضرورات لا حقوق، سلسلة عالم المعرفة، رقم 89، الكويت، 1985م، ص15.

[4] كريم يوسف كشاكش، الحرية العامة في الأنظمة السياسية المعاصرة، الاسكندرية، دار المعارف، 1987م، ص65.

[5] فهمي هويدي، الإسلام والديمقراطية، مجلة المستقبل العربي، عدد 166 (12/1992)، ص28. نقلاً عن فتاوى معاصرة.

[6] الإسلام والديمقراطية، م.س.، ص23.

[7] انظر: الكتابات الإسلامية في هذا المجال، مثل: اقتصادنا لمحمد باقر الصدر، ومدخل إلى الاقتصاد الإسلامي، للدكتور عبدالعزيز فهمي هيكل، وأصول الاقتصاد الإسلامي، للدكتور رفيق يونس المصري.

[8] انظر: كتابه اللبرالية المستبدة، صدر في مصر سنة 1993م.

[9] مصطفى الفيلالي، نظرة تحليلية في حقوق الإنسان من خلال المواثيق وإعلانات المنظمات، أوراق ندوة جدة " حقوق الإنسان " 25 ـ 27 أيار (مايو) 1996م.

[10] صدر في كتاب عن دار طلاس، دمشق، ط1، 1992م.

[11] مصطفى الفيلالي، م.س.

[12] انظر نص الإعلان في مجلة الفكر السياسي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العدد 2، ربيع 1998م.

[13] حقوق الإنسان بين الإعلانين الإسلامي والعالمي، دراسة مقدمة لندوة جدة " حقوق الإنسان " أيار (مايو) 1996م.




...........


ــــــــــــــ انتهت ــــــــــــــــــــ


.........