المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقوق الإنسان في الإسلام... للشيخ سلمان العودة



الفرصة الأخيرة
11-28-2005, 10:42 AM
الإسلام اليوم: (http://islamtoday.net/pen/show_articles_content.cfm?id=64&catid=197&artid=5893)




حقوق الإنسان في الإسلام

سلمان بن فهد العودة 5/6/1426
11/07/2005



المقدمة*
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإنسـانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأََكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَـلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5]. (الرَّحْمَنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن:1-4].
أما بعد:
فموضوع هذه الرسالة هو: (الإسلام وحقوق الإنسان).
أهمية الموضوع:
إن ثمة أربعة أسباب وراء هذا الحديث:
أولها: أن مسألة حقوق الإنسان مسألة قديمة ترجع إلى أقدم العصور، فليس البحث فيها جديدًا وليد اليوم أو وليد هذا العصر، فقد جاءت الرسالات السماوية كلها من لدن آدم عليه السلام، وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ لتكرس حقوق الإنسان وتبين فضيلته، وأن الله تعالى، خلَقه من طين الأرض، ثم نفح فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، واستخلفه على هذه الدنيا.
أما فقهاء القوانين الوضعية فلعلهم لم يعرفوا هذا الاهتمام الحقيقي بهذا الموضوع إلا في أواخر العصور الوسطى، عصور التخلف والانحطاط في أوروبا، حين وصل استبداد الحكام وسيطرتهم إلى الغاية، وفقدت تلك الشعوب الأوربية الكافرة معظم ما يجب أن يتمتع به الإنسان من حقوق، وبذلك اندفعت إلى إعلان الثورة على حكامها من الكنسيين والطغاة الماديين، وأطاحت بهم وسيطرت على مقاليد البلاد، ثم كان من جراء ذلك إصدار ما يسمى بإعلانات حقوق الإنسان، هذه الإعلانات التي تضمنت بعض ما يجب للإنسان، كالإعلان (الفرنسي) الشهير الذي لم يصدر إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان آخر تلك الإعلانات الإعلان العالمي الشهير بإعلان حقوق الإنسان الذي صدر من الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف، وكان ذلك في أعقاب حرب عالمية دامية ذهبت بالأخضر واليابس، وذهبت فيها آلاف بل مئات الآلاف من الأرواح والضحايا.
إن حقوق الإنسان التي هي موضوع هذه الرسالة كلمة طالما تغنى بها الشعراء، وتكلم عنها الأدباء، وبحث فيها الفلاسفة، وتكلم عنها المصلحون وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وغيرهم، فهي بيت القصيد لكثير من البحث والحديث، فلا غرابة إذًا: أن نفرد هذه الرسالة للكلام عن حقوق الإنسان في الإسلام.
السبب الثاني: أن حقوق الإنسان قد أخذت بُعدًا عالميًّا واسعًا عريضًا، فمنذ أن صدر ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها، فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان، حتى أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية وقد شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود حتى أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان وتتذرع بهذه الحقوق إلى ما تريد فهي تتدخل هنا أو هناك بحجة حماية حقوق الإنسان أو رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين.
لقد أصبحت حقوق الإنسان أحيانًا ألعوبةً يتذرع بها الأقوياء للسطو على الضعفاء وأصبحت ذريعةً للعالم الغربي إلى تحقيق مآربه وأهدافه في الهيمنة على بلاد المسلمين أو ابتزاز خيرات أرضهم نفطًا واقتصادًا أو السيطرة على مقدرات بلادهم أو القضاء على خصوم الغرب، كل ذلك يتذرعون إليه باسم حماية حقوق الإنسان والثأر للمظلومين، هذا العالم الخاسر الكافر الذي لم يتورع عن أن يدفن ما يزيد عن ثمانين ألف إنسان وهم أحياء- وهو يضحك ويبتسم- اليوم ينادي ويتكلم باسم حقوق الإنسان المظلومة والمهضومة.
وإذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلى ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: مسألة تعدد الزوجات وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات.
المسألة الثانية: مسألة الرق والاسترقاق.
المسألة الثالثة: مسألة الجهاد والقتال.
وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان؛ فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبدًا رقيقًا يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه. هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم.
أما السبب الثالث: فهو أن هذه الحقوق كانت سببًا لحوادث تاريخية جسيمة، فربما انتهت المطالبة بحقوق الإنسان، أحيانًا، إلى انتفاضات سياسية أو اجتماعية، أو ثورات عارمة تأتي على الأخضر واليابس، أو نهضات فكرية، أو نصوص تشريعية ودستورية، فضلاً عن مواثيق ومعاهدات دولية.
وإن الحديث عن هذه الحقوق- حقوق الإنسان- في مجتمعٍ ما يُعد ظاهرة صحية للغاية تدل على وعي هذا المجتمع وعلى تماسكه، لقد كانت الكثير من (الديكتاتوريات) المتسلطة على رقاب الشعوب عبر التاريخ تميل إلى التسلط والفردية والاستبداد والأثرة، وتعتقد أن إعطاء الإنسان حقوقه أو بعض حقوقه يهيئ له الفرصة للتمرد على الحكام ومقاومتهم، ومحاولة التخلص منهم- هكذا يظنون- ولكن تجارب التاريخ أثبتت نقيض ذلك تمامًا، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القيود والأغلال التي تُكبل بها الشعوب والأمم لا تزيدها إلا رغبةً في التحرر والانطلاق، على حين أن تمتع الشعوب بحقوقها المشروعة وحرياتها المشروعة يدفعها دفعًا إلى الاستقرار والتقدم، ويحميها من التمزق والانشطار الذي كثيرًا ما يقع بسبب الاعتداء على مصالح الفرد أو مصالح الجماعة من قبل أقلية تحكم وتهيمن وتسيطر.
أما السبب الرابع لبحث هذا الموضوع فهو: أننا في الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت أيضًا بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه؛ ولهذا نقول: ربما لم ير الإنسان في تاريخه الطويل كاليوم، قط، إهدارًا لحقوقه وانتهاكًا لكرامته.
فالإنسان الغربي اليوم لم تعد تفرض عليه الأمور بقوة الحديد والنار، كما كان ذلك في الماضي، ولكن أصبحت الأمور تفرض عليه من خلال تأثير الإعلام، فبالأمس إذا أراد الحاكم في بلد غربي أن يحمل الناس على شيء حملهم بقوة الحديد والنار.
أما اليوم فإنه يحملهم بقوة الإعلام، فإذا أراد أن ينتخبوا فلانًا- مثلًا- سلط الأجهزة الإعلامية لتلميع هذا الشخص، والحديث عن منجزاته، والكلام عن بطولاته، وذكر مآثره؛ حتى تمتلئ نفوس الناس قناعة فيصوتون له بملء اختيارهم وطواعيتهم، فالديكتاتورية هي هي، والاستبداد هو هو، سواء كان حملًا للإنسان بالقسر والقوة، أو كان إقناعًا للإنسان من خلال وسائل الإعلام المسلطة عليه، والتي تقوم معه حيث يقوم وتقعد معه حيث يقعد.
أما الإنسان المسلم: فعلى رغم أن العالم يعلن باستمرار أنه لا يعترف بالفوارق بين الأديان، إلا أن الإنسان المسلم قطعًا يحظى بمعاملة خاصة ملؤها الإهدار واللامبالاة، والاعتداء الصارخ على حقوقه، سواء حقوق الأفراد أو حقوق الشعوب أو حقوق الدول، ولسان حال المسلم المستضعف المسكين يقول:

لَوْ كُنْتُ مِن مَازِنٍ لَمْ تَسْتَبِحْ إِبِلِي
بَنُو اللَّقِيطَةِ مِن ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانِ

إن الغرب يريد من المسلم فعلًا أن يتخلى عن إسلامه وتميُّزِه بهذا الدين وانتمائه إلى هذه العقيدة، وبراءته من المخالفين له في الدين، ولكن الغرب نفسه لم يقنع الكافر هناك أن يتعامل مع المسلم على قدم الإخاء والمساواة، اللهم إلا بالكلام فحسب.
وأخيرًا فعلى رغم اهتمام الإسلام بالإنسان وتكريمه ومنحه الكثير من الحقوق، بل كل الحقوق التي يستحقها، إلا أن أقل الناس إحساسًا بهذه الحقوق، بدون مبالغة، هم المسلمون، الفرد المسلم لا يشعر بكرامته، ولا يسعى إلى نيل حقه، بل لا يعرف أن له حقًّا، ويستكثر القليل مما يدفع له أو يمنح، وربما يستكثر حتى مجرد الحديث عن هذا الموضوع، ولست أستغرب ولا أتعجب أن يقول قائل: أي علاقة لطالب علم شرعي بموضوع حقوق الإنسان حتى يتكلم فيه؟
وهكذا نجد أننا عمليًّا خضعنا لمسألة تبعيض الدين وتمزيقه، كما تطالب بذلك العلمانية وتدعو إليه، فأصبح مسموحًا للفقيه أن يتكلم في أحكام الطهارات والعبادات وغيرها، لكن حين ينتقل إلى الحديث عن القضايا العامة الكلية التي تحتاجها الأمة فإن الكثيرين يفغرون أفواههم، ويفتحون عيونهم، ويقلبون أيديهم وملؤهم العجب والدهشة، أي علاقة لهذا أن يتكلم في مثل هذا الموضوع؟
وكأن مثل هذه الموضوعات أصبحت نظريًّا وعمليًّا حكرًا على الغرب، أو على تلامذة الغرب الذين يتكلمون في ديار الإسلام.
إن غيبة الوعي عن الدين جعلت الكثير من المسلمين لا يعرفون ماذا لهم من الحقوق في كتاب الله، تعالى، وسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يطالبوا بها؟ ولا ماذا عليهم من الواجبات والمسئوليات حتى ينهضوا بها ويتحملوها؟ وكذلك البعد عن الواقع جعل الكثيرين من المسلمين لا يحركون ساكنًا:

رَضُـوا بالأَمَـانِي وابْتُلُـوا بِحُظُوظِهِمْ
وَخَاضُوا بِحَارَ الجِدِّ دَعْوَى فَمَا ابْتَلُّوا

إن الكثير من المسلمين قد صودرت حتى إنسانيتهم، بل حتى شعور الواحد منهم بإنسانيته أصبح قليلًا ضئيلًا ضعيفًا، وأصبح المسلم يسمع- مثلًا- عن حقوق يتمتع بها غيره هنا أو هناك، فيظن أن هذا مما لم يخلق هو ولم يتأهل ولم يترشح له.
ثانيًا: الإسلام وشعارات الحرية
أظن أن الحرية من أكثر الكلمات تداولًا على الألسنة، وهي كلمة براقة يستخدمها الكثيرون على نطاق واسع، فكل من أراد أن يلفت أنظار الناس نادى بالحرية، وكل من أراد أن يحقق أمانيه أو أهواءه رفع شعار الحرية، ومع ذلك فإن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضًا.
أما المعنى الشرعي للحرية في الإسلام فهي ضد الرق، ولا شك أن هذا المعنى غير مقصود الآن- أعني كون الإنسان حرًّا، بمعنى أنه ليس رقيقًا مستعبدًا- وإنما الحرية تستخدم اليوم بمصطلح آخر مخالف لذلك تمامًا فمثلاً: حينما تُنبه شخصًا على ملاحظة عليه في سلوكه أو أخلاقه، أو ملاحظة على ولده، أو على زوجه قال لك: يا أخي لا تتدخل في حريات الآخرين، دع هذا، هذا من باب الحرية الشخصية.
أصبح الولد أحيانًا يرفع شعار الحرية الشخصية ضد أبيه، وأصبح الإنسان المنفلت من القيود يرفع شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية؛ ولذلك فلابد من وقفة عند هذه الكلمة البراقة "الحرية".
وعرف بعضهم الحرية بأنها حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين. إذًا: ليس هناك في الدنيا حرية مطلقة، لا عند المسلم ولا عند الكافر ولا في أي قانون في الدنيا، إنما أكثر الناس توسعًا في الحرية، وهم الفرنسيون، يقولون: الحرية هي حق الفرد أن يفعل ما لا يضر بالآخرين.
إذًا: حريتك تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين وحدودهم، فلك أن تتحرك في حدود ما لا يضر بالآخرين، وهنا لا بد أن نضيف: ولا يضر بنفسه أيضًا. ولابد- أيضًا- أن نحدد الضرر بأنه يشمل الضرر الدنيوي، كأن يتعاطى الإنسان أكلًا أو شربًا أو لباسًا ما يضر بدينه أو ماله أو صحته أو مكانته، وأيضًا يشمل الضرر الديني الضرر الأخروي الذي يجعل الإنسان تحت طائلة المساءلة والعقاب أمام الله تعالى، يوم الحساب.
فنطاق الحرية هو ما لا يضر بالإنسان دينًا ولا دنيا، ولا تضر بالآخرين أيضًا دينًا ولا دنيا، فيكون الإنسان مأذونًا له أن يتحرك ويعمل هذا الأمر المأذون به شرعًا، فليس إثمًا ولا حرامًا، ولا يضر بدينه، وهو- أيضًا- لا يضر بدنياه، ولو تأملت لوجدت أن الضرر الدنيوي هو أيضًا محرم، كما جاء في الحديث: "لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ". أخرجه أحمـد (2865) وابن ماجه (2341). والحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان في اصطلاح العديد من الفقهاء، وبذلك يتبين لك أن من المطلوب أن يتنازل الإنسان عن جزء من حقوقه الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم.
إن هذا التنازل الجزئي منك أنت، ليس تنازلًا بلا مقابل، بل أنت تفعل ذلك من أجل ألا تفاجأ يومًا من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريتك الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة بينكم، فالحريات أحيانًا تتناقض، هذا صحفي يصدر جريدة ويكتب فيها ما يسيء إلى الدين، وإلى الأخلاق، وإلى فلان، وإلى وإلى، ويقول: من حقي أن أكتب ما أريد.
ونقول: ومالك الجريدة أو الصحيفة يستطيع أن يمنع هذا الصحفي من الكتابة ويقول له أيضًا: من حقي ألا ينشر في صحيفتي التي أملكها إلا ما أريد. والقارئ من حقه أن يرفض هذه الصحيفة تعاطيًا وشراء وتعاملًا ويقول: من حقي ألا أشتري ولا أقرأ إلا ما أريد.
مثال آخر: الشارع، هذا مرفق عام يشترك فيه الجميع، فهو ملك للمجتمع ليس ملكًا لشخص بعينه، ومن حق كل إنسان أن يرتفق به، يستفيد منه، لكن هذه الفائدة تتناقض مع استخدام الإنسان لها بالأصوات المزعجة، أو بالدعايات التي تضر بالآخرين وتغير عقولهم ومفاهيمهم أو تسيء إليهم.
وهذا سر من أسرار الحكم في الإسلام، فالحاكم في شريعة الله تعالى، هو فرد اختاره الناس؛ لكي ينظم لهم كيفية ممارسة الحقوق فيما بينهم بصورة صحيحة، وليس الحاكم وُضع من أجل أن يصادر حقوق الناس، ولابد أن يتنازل الجميع عن قدر من الحقوق والمصالح الذاتية؛ حفاظًا على ذلك العقد الاجتماعي العام.
فالواجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن ينظم شؤونهم، وييسر لهم سبل الحياة الكريمة، فبذلك تنتظم حياتهم، ويقبلون على إصلاح دينهم ودنياهم، وأن يكفل لهم الحرية المضبوطة بضوابط الشرع فلا إفراط ولا تفريط.
الإنسان في الإسلام:
الله تعالى خلَق آدم بيده، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- انظر صحيح البخاري (4476) وصحيح مسلم (193)- ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم جعل ذريته مكرَّمين؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الإسراء: 70]. والله تعالى، من فوق سبع سماوات، يخاطب هذا الإنسان، وهذا أعظم تكريم متصور للإنسان أن الله تعالى، الغني القدير الكبير المتعال يتلطف على هذا العبد الفقير الضعيف، فيقول له: (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ)[الانفطار: 6]. (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ)[الانشقاق: 6].
الإنسان هو الكائن الوحيد المكلف المبتلى؛ (إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)[الإنسان: 2]. فهو الذي كلف بمسئولية وقيل له: إذا قمت بهذا الواجب فلك الأجر العظيم، وإذا قصرت به أو تخليت عنه فالويل لك؛ (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[المطففين: 6]. حتى صورة الإنسان وشكله متميز، كما قال الله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)[التين: 4].
نعم، ليس الإنسان في خيلاء الطاووس، ولا في قوة الفيل، ولا في خفة الطيور، ولكن يبقى خلق الإنسان خلقًا متميزًا معتدلًا مكتملًا، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخــاري (2560) ومســلم (2612) وغيره: "إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ- يعني ضَارَبَهُ- فَلْيَتِّقِ الوَجْهَ؛ فَإِنَّ اللهَ سبحانه وتعالى، خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِه". يعني: خلق الإنسان سميعًا بصيرًا، مكتمل الحواس، وجعل كرامة الإنسان أكثر ما تكون في وجهه؛ ولهذا كان السجود الذي هو أعظم عبادة هو انحناء الإنسان لربه ووضعه جبهته في التراب لرب الأرباب.
ولهذا أيضًا لما مرت جنازة، كما في صحيح مسلم (960)، قام لها الرسول صلى الله عليه وسلم، فقيل له: يا رسول الله، إنها يهودية. فقال عليه الصلاة والسلام: "إنَّ المَوْتَ فَزَعٌ". وفي رواية أنه قال: "أَلَيْسَتْ نَفْسًا". أخرجها البخاري (1313) ومسلم (961). فقام وأمر بالقيام للجنازة، وكثير من أهل العلم يرون أن هذا الحكم باق غير منسوخ، وأنه يستحب للإنسان إذا رأى الجنازة أن يقوم لها.
إذًا: كرم الإسلام الإنسان من حيث هو، ولو نظرت إلى تكريم الإسلام لفئات خاصة من الناس كالعبيد الأرقاء، أو الأيتام أو الضعفاء أو المعوقين أو النساء أو الفقراء أو غيرهم لوجدت أمرًا عجبًا، فكيف بتكريم الإنسان لغيره؟
وفي خطبة الوداع التي كانت آخر خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم، على أصحابه أرسى، عليه الصلاة والسلام، دعائم الحقوق الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية كلها، لا بل بصورة لم تُسبق ولم تُلحق ولن تُلحق أيضًا، ومما قال فيها: "يا أَيُّهَا النَّاسُ، هل تَدرُون في أيِّ يومٍ أنتم؟ وفي أيِّ شهرٍ أنتم؟ وفي أيِّ بَلَدٍ أنتم؟". قالوا: في يوم حرام، وشهر حرام، وبلد حرام. قال: "فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعْراضَكم عليكم حَرَامٌ كَحُرْمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا". وقال: "لَا يَحِلُّ مالُ امرىءٍ مسلمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ، ألاَ وإنَّ كُلَّ دَمٍ ومالٍ ومَأْثَرَةٍ كانت في الجاهليةِ تحتَ قَدَمي هذه إلى يومِ القيامةِ". وقال: "أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعضُكم رِقابَ بَعْضٍ، أَلَا إِنَّ الشَّيطانَ أيسَ أنْ يَعبُدَهُ المُصَلُّونَ، وَلَكِنْ في التَّحْرِيشِ بَيْنَكُم، فاتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ، فإنَّهن عندَكم عَوَانٍ- يعني أسيرات- لَا يَمْلِكْنَ لأنْفُسهِنَّ شَيْئًا، وإنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُم، وَلَكُم عَلَيْهِنَّ حَقًّا". ثم ذكر الحقوق، صلى الله عليه وسلم، فذكر حرمة الدماء بمنع القتل أو الجرح أو الاعتداء، وذكر حرمة الأموال بمنع أخذها أو ابتزازها أو نهبها أو سرقتها أو الحجر عليها، وذكر حرمة الأعراض بتحريم الاعتداء عليها بالقذف أو بالسب أو بالشتم أو بالزنى أو بغير ذلك، وذكر مسألة العلاقات الاجتماعية التي تحكم المسلمين فتحكم المسلم مع أخيه، وتحكم الرجل مع زوجته، تحكم الوالد مع ولده، إلى غير ذلك. مسند أحمد (20695)، وصحيح البخاري (7078)، وصحيح مسلم (1679)، وغيرها.
ولم تكن خطبة الوداع هي الموقف الوحيد الذي حدد فيه الرسول، صلى الله عليه وسلم، الحقوق، بل إنه حددها في أحاديث ربما لو جمعت لكانت في عدة مجلدات كلها تتعلق بحقوق الإنسان، سواء الحقوق العامة أو الحقوق الخاصة لفئة معينة، كحقوق المرأة، أو حقوق العامل، أو حقوق الجار، أو حقوق اليتيم، أو حقوق الزوج، أو غير ذلك.
وأستطيع أن أقول تبعًا لما قرره عدد غير قليل حتى من فقهاء القوانين اليوم: إن هناك حقوقًا كثيرة جاء بها الإسلام لم تفلح البشرية حتى الآن، في المطالبة بها، فمثلاً: حق ضعاف العقول في الرعاية، هذا جاء به الإسلام ولم ينص عليه إعلان حقوق الإنسان، مثل: حق اليتامى، حق الجار، حق القريب، حق الإنسان في الدفاع عن نفسه، حق الإنسان في العفو عمن ظلمه، حق الميراث للورثة رجالاً أو نساء من الأقربين، كل هذه الحقوق لم يأت بها دين آخر أو تشريع آخر غير الإسلام. أعني: لم تأت بها القوانين الوضعية ولا إعلانات حقوق الإنسان.

الإنسان في المواثيق الدولية

هناك كما أسلفت عدة إعلانات لحقوق الإنسان كان آخرها إعلان عام ثمانية وأربعين (ميلاديًّا)، والذي وقعت عليه جميع الدول بلا استثناء؛ وبناء عليه فهو قانون عام ملزم للبشرية كلها حسب ما تقتضيه مواثيق الأمم المتحدة التي تعتبر هي الحكومة العالمية المتوجة التي تتزعم ما يسمى: بالنظام الدولي الجديد، فما هذه الحقوق الذي جاءت بها تلك الإعلانات؟
هي باختصار:
أولًا: الحقوق الشخصية والجسدية، مثل أمن الإنسان من أن يستعبد- أن يكون رقيقًا- أمنه أن يقهر أو يسخر أو يقتل أو يغتصب- رجلًا أو امرأة- أو يعذب. وكل هذه الحقوق بلا شك جاء بها الإسلام، كذلك حق الإنسان في حرية الانتقال من مكان إلى مكان، أو الرجوع إلى مكانه الأول، حرمة المساكن وعدم الاعتداء عليها، حرمة الاتصال الهاتفي بين إنسان وآخر وألا يحق لأحد أن يعتدي عليه أو يتنصت عليه، حرمة الاتصال البريدي أو المراسلة وأنه لا يحق لأي جهة أن تكشف مراسلة بين طرفين، حق الزواج، حق السلامة الصحية للإنسان، كل هذه الحقوق تدخل فيما يسمى بالحقوق الشخصية والجسدية.
ثانيًا: ما يسمونه بالحقوق القضائية، ويقصدون بها ضمان حق الإنسان في أن يدافع عن نفسه أمام المحاكم، مساواة الناس أمام القضاة، وأنه ليس هناك إنسان يتميز عن آخر أمام القضاء، عدم التعرض للاعتقال بصورة تعسفية، أو نفي إنسان من بلدٍ إلى آخر، أو حبسه أو محاكمته إلا وفق نظام معمول به، كما يشمل هذا حق الإنسان في تقديم العرائض والشكاوى إلى أي جهة يشاء.
ثالثًا: الحرية الفكرية والسياسية، وهذا يشمل أشياء كثيرة جدًّا قد يكون معمولًا بها في بعض البلاد، فيشمل عندهم وفي بلادهم حق الإنسان في تكوين حزب سياسي والانضمام لعضويته، أو حق اللجوء إلى بلد آخر، أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب أو غير ذلك، لكنه يشمل- أيضًا- أمورًا جاء بها الإسلام كحرية الرأي والتعبير عنه وفق الأصول الشرعية، ونحن نعلم أن هذا لم يكن في الإسلام مجرد حق بل هو واجب، فالإسلام قد حرم التقليد على من يملك آلة الاجتهاد ومعرفة الصواب، وأوجب على المسلم أن يقول بالحق، كما في الحديث المتفق عليه: عن عبادة بن الصامت قال: (وأنْ نقولَ بالحقِّ حيثُما كنَّا لا نخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ). البخاري (7199) ومسلم (1709). فأوجب على المسلم أن يكون آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، قائلاً لكلمة الحق، مجاهدًا في هذا السبيل، حريصًا على أن يعبر عن رأيه الناضج الصريح الذي يبني ولا يهدم، ويحقق المصالح ويدفع المفاسد.
ومن حقوق الحرية حرية الصحافة والإعلام كما يسمونها، ونحن نعلم أن الغرب حقق قدرًا كبيًرا مما يسمى بحرية الإعلام عندهم، فتجد أن الإعلام يتكلم عن قضايا كثيرة تتعلق بأوضاعهم الحكومية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها. وقد أفلح الإعلام عندهم في الكشف عن فضائح كثيرة، مثلما فعلت بعض الصحف ( الأمريكية) حين فضحت ما يسمى بفضيحة "ووترجيت" ثم "إيران جيت" ثم "عراق جيت" إلى غيرها من الفضائح التي كانت الصحافة والإعلام السببَ في كشفها، وبالتالي معاقبة المتسببين فيها.
رابعًا: ومما ضمنته تلك الوثيقة ما يتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، مثل حق الإنسان في الملكية الخاصة، كأن يملك المال أو الأرض، ولا يحق لأحد أن يصادر ماله أو أرضه أو يعتدي عليها، ومثل حق الإنسان في التجارة والصناعة إلى غير ذلك، ونحن نجد أن هذه الحقوق مقررة في الشريعة، والله تعالى يقول: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)[البقـرة: 275]. والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "مَن أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتةً فَهِي لَهُ". أخرجه أبو داود (3073).
وهنا يظهر الفرق بين حق الفرد وحق المجتمع، فالرسول عليه الصلاة والسلام، في هذا الحديث أباح للإنسان أن يحيي الأرض الموات بحسبها؛ إن كانت أرضًا زراعية فبالحفر والزرع، وإن كانت غير ذلك فكل أرض بحسبها، لكن هذا الأمر مقيد بشيء واحد فقط وهو تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، فليس من حق الإنسان أن يحيي أرضًا يحتاجها المجتمع كله في مصالحه العامة.
ومن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان مراعاته في حال البطالة والعجز والمرض والشيخوخة، وأن الدولة مطالبة بمساعدته وإعانته، وهذا كما ضمنته حقوق الإنسان فقد ضمنته الحقوق الشرعية التي جاء بها سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
كما أن من تلك الحقوق الاقتصادية حق مساواة الجميع أمام التكاليف، فالضرائب- مثلًا- إذا جاز أن تفرض ضرائب على الناس في الإسلام فلابد أن تكون بقدر الحاجة وبقدر متساو للجميع، وهذا الأمر هو ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان في الناحية الاقتصادية والاجتماعية.
أخيرًا: ما يتعلق بالحقوق التعليمية والثقافية، مثل حق التعليم، وهو في الإسلام ليس حقًّا بل هو واجب، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ". أخرجـه ابن ماجـه (224) وهو حديث حسن.
ومثل حق الإنسان في اختيار نوع التعليم الذي يمارسه، كما يدخل في ذلك حق الابتكار والاختراع العلمي، إضافة إلى حق مشاركة الإنسان في الحياة الثقافية والحياة العلمية في بلده، كل هذه الحقوق جاء بها إعلان حقوق الإنسان، وهي- أيضا- في غالبها وجملتها جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان .


الفروق بين حقوق الإنسان في الإسلام، وحقوق الإنسان في إعلانات الغرب:
أولا: القيد الأخلاقي للحقوق والحريات في الإسلام:
فالإسلام دين نزل من السماء يقوم عليه سلطان يحميه ويحرسه في الأرض، فليست الأعراف والعادات والتقاليد هي التشريع، ولا مصدر التشريع، وليست الأمة هي مصدر السلطات، أي مصدر التشريع، كما هي الحال في بعض النظم الديمقراطية.
إذًا، رعاية الواجب الشرعي أمر لا خيار فيه، فعلى سبيل المثال: جسد المرأة لا يجوز أن يكشف منه ما لم يأذن الله تعالى، بكشفه بحجة الحرية الشخصية؛ منعًا للاختلاط، اختلاط الجنسين، فلا يجوز الإذن به بحجة عدم التفرقة العنصرية، كما هو معروف دوليًّا، ونحن نجد أن هذا الأمر موجود حتى عند الغرب، ولكن بصورة أخرى، فإذا كان المسلم مطالبًا باحترام الإسلام فإن الغرب يطالب باحترام الأعراف والتقاليد والعادات.
وقد أقيم في دولة من أكثر الدول انفلاتًا، وهي فرنسا، أقيمت دعوى ضد إحدى الشركات التي عرضت فيلمًا سينمائيًّا فيه كثير من التفسخ اللاأخلاقي الفاضح، ونظرت المحكمة فقررت معاقبة الشركة، كما قررت توجيه اللوم والعتاب إلى محافظ تلك المدينة أو تلك القرية، وقالت له: كما أنه كان المطلوب منك المحافظة على الإدارة، كان المطلوب منك المحافظة على أخلاقيات الناس، وعدم السماح بعرض ذلك (الفيلم) بالنظر إلى الظروف المحلية للبلدة والتقاليد التي كانت تحكمها.
إذًا: هي عندهم تقاليد وعادات، أما في الإسلام فهي أحكام وتشريعات نزلت من عند الله، ولا حيلة لأحد فيها؛ (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)[الأحزاب: 36].
مثال آخر: من حق المرأة والرجل العلاج، لكن هذا العلاج يجب أن يتم في جو محتشم تحفظ فيه الحرمات، وتصان فيه الحقوق، ويمنع فيه الاعتداء على الإنسان- رجلًا كان أو امرأة- وذلك بأن تصان المستشفيات عن ألوان التفسخ والاختلاط والانحلال والتواجد النصراني وغير ذلك، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله، إني أصرع فادع الله لي. فقال لها: "إِنْ شِئْتِ دَعَوتُ اللهَ لَكِ وإنْ شئتِ صَبَرْتِ ولكِ الجَنَّةُ". فقالت: أصبر يا رسول الله، ولكني أتكشف، فادع الله لي ألَّا أتكشف. فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم، الله تعالى لها ألا تتكشف إذا صرعت. أخرجه البخاري (5652) ومسلم (2576).
انظر في هذا المثال.. يبدو في المجتمع المسلم أن العناية بأمر حفظ هذه العورة لا يقل أهمية عن العناية بالصحة، وكلاهما من الحقوق التي يجب على المسلم العناية بها، وواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يهيئ للمسلمين الفرص التي يتم فيها العلاج بعيدًا عن كشف العورات وانتهاك الحرمات، كما أنه من الواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يسعى إلى تربية المسلم- ذكرًا أو أنثى- على احترام هذه العهود والمواثيق الربانية.
ثانيًا: الرقابة الإلهية:
فرق ثان: الرقابة الإلهية: فنحن نعلم أن من طبيعة الإنسان الظلم والأثرة، وكما قيل:

والظُّلْمُ مِن شِيَمِ النُّفُوسِ فَإِنْ تَجِدْ
ذا عِفَّةٍ فَلَعَلَّه لَا يَظْـلِمُ

والله تعالى ذكر لنا قصة (ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ)[المائدة: 27]. إذًا، من طبيعة الإنسان أنه قد يعتدي وقد يظلم؛ ولهذا كان ربط حقوق الإنسان بالدين صيانة عظيمة لهذه الحقوق.
يقول أحد الغربيين: لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين، القوة الأولى: قوة السلاح، والقوة الثانية: قوة القانون- يعني: قوة النظام- فإذا تولى قوة القانون قضاة هم فوق الخوف وفوق الملامة، فإن الأمر حينئذ يكون على ما يرام، أما إذا لم يكن ذلك فإن قوة السلاح هي التي تسود حتمًا، وذلك يؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية المستبدة على الشعب.
وأقول: إن هناك قوة ثالثة، وهي قوة الإيمان أو ما يسمونه في الغرب الضمير، الخوف من الله عز وجل؛ ولذلك نجد أن الإنسان، أي إنسان، حتى غير المسلم لم يجد من الحقوق التي تمتع بها في ظل شريعة من الشرائع أو دولة من الدول مثلما وجد في ظل دولة الإسلام وشريعة الإسلام، حتى قال (ومبي)، وهو أحد المؤرخين البريطانيين: ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم ولا أعدل من العرب. يعني: المسلمين.
وهذا أبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنه، لما أخذ الجزية من أهل حمص، ثم رأى أنه قد لا يستطيع الدفاع عنهم رجع إليهم ورد الجزية التي أخذ منهم، وقال: مع ذلك سوف ندافع عنكم ما استطعنا، فإن انتصرنا عدنا وأخذنا الجزية، وإن لم ننتصر لا نكون ظلمناكم.
هاك مثالًا آخر لا نظير له في كل شرائع الدنيا وأنظمة الدنيا ودول التاريخ في غير شريعة الإسلام، لما فتح المسلمون سمرقند كانوا قد دخلوها قبل أن يدعوا أهلها إلى الإسلام، وقبل أن يطلبوا منهم الجزية، فبعث أهل سمرقند إلى الخليفة المسلم في الشام يشتكون إليه، وبعث الخليفة وطلب من الجيش المسلم أن يخرج من سمرقند، ويظل خارجها ثم يعرض على أهلها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا استعان بالله تعالى، وقاتلهم، وخرج الجيش المسلم الفاتح من سمرقند إلى مشارفها، ثم دعوا أهلها إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، وقالوا: دينٌ هذا قدر الإنسان فيه، وهذه عدالته لابد أن ندخل فيه جميعًا.
أما في النظم الوضعية فما ثَمَّ جزاء يذكر، لا يؤمنون بيوم الحساب فيردعهم ذلك عن الاعتداء على حقوق الناس، وفي الدنيا لهم ألف وسيلة وحيلة للتحايل والخروج من القوانين والعقوبات، ففي الإسلام إذًا: عقوبتان: العقوبة الأولى الأخروية، وهي الأهم والأعظم والرادع الأكبر في ضمير المسلم، إضافة إلى العقوبة الدنيوية المتمثلة في الحدود والتعزيرات على الاعتداء على الإنسان، كحد السرقة مثلًا، أو حد القذف، أو حد الزنى، أو غير ذلك من الحدود.

ثالثًا: الحقوق في الإسلام جاءت هبة من الله تعالى:
الفرق الثالث: أن هذه الحقوق في الإسلام جاءت هبة من الله تعالى، على غير ترقب من الإنسان، ودون أن يطلبها أو يسعى في تحصيلها، وعرفها المسلمون منذ عرفوا رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فكان المسلم العادي البسيط الفلاح يجلس في المسجد، وهو يستمع إلى الخليفة يخطب على المنبر، فلا يرى غضاضة أن يقف على قدميه ثم يرفع يده ويقول له: الأمر ليس كما ذكرت. فيقول: لِمَ، رحمك الله؟ فيبين للحاكم الذي يحكم رُبع الدنيا ما يراه هو دون أن يخاف من بطش أو تسلط أو ظلم أو عدوان أو مساءلة أو غير ذلك، فلقيها المسلم وأخذها ببساطته وبوضوحه.
أما في الغرب فإنهم لم يحصلوا على حقوقهم تلك بل انتزعت انتزاعًا بالقوة، وقبل كل إعلان لحقوق الإنسان كان هناك ثورات ومعارك ودماء اضطروا بعدها إلى الإعلان عن حقوق الإنسان والإقرار بها، وآخر ذلك الحرب العالمية الثانية التي تلاها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أما في تاريخ الإسلام فلا يوجد محاكم تفتيش، ولا يوجد سجون تمتلئ وتغص بالنزلاء، ولا يوجد أجهزة استخبارات تعد على الناس أنفاسهم، وتحصي عليهم حركاتهم، وتحاسبهم على كل شيء.

رابعًا: التباين في الحقوق:
الفرق الرابع: هو الاختلاف والتباين في الحقوق، ، فمثلًا، هناك حقوق إسلامية لم ترد في الإعلان كما أسلفت، مثل حقوق اليتامى، حقوق الجيران، حقوق ضعاف العقول، حق الميراث، حق العفو، إلى آخره.
وهناك أشياء منعها الإسلام، مثل حق تغيير الدين، ففي حقوق الإنسان العالمية- ومع الأسف موقع عليها دوليًّا في كل بلاد العالم- يحق للإنسان أن يختار الدين الذي يريده، ويغير دينه كيف شاء؟ وأعتقد أن حقوق الإنسان حين أعلنوا هذا قصدوا من ورائه إتاحة الفرصة للمسلم أن يرتد عن دينه، لماذا؟ لأنهم يعلمون أن المسلمين اليوم في فترة ضعف واستضعاف، وأنهم يخضعون لمشاكل كثيرة، وأن الغرب بيده القوة والتمكين والحضارة والتسلط والإغاثة والمساعدات الإنسانية، والمنظمات الدولية، والصليب الأحمر و .. و..إلى آخره.
كل هذه أدوات في يد الغرب الصليبي النصراني يستخدمها ضد المسلمين، فالمسلم اليوم يتعرض لابتلاء وفتنة في دينه، وليس سرًّا أن نقول: إن هناك قرى بأكملها قد تحولت من الإسلام إلى النصرانية في أكثر من بلد إسلامي، في إفريقيا، وفي إندونيسيا، بل وفي بعض البلاد العربية أصبح تحول المسلم إلى النصرانية أمرًا مسموحًا به قانونًا، وأمرًا واقعًا من الناحية العملية، على الأقل يتخلون عن دينهم؛ طمعًا في المال، أو رغبة في الشهادة.
إذًا، فالنصارى لا يستحيون أن يستغلوا الكوارث والظروف والأزمات الاقتصادية والنكبات التي تمر بها الشعوب؛ لكسب المزيد من الأنصار، والضغط على الناس لتغيير دينهم، وهم اتخذوا لذلك ذريعة هي عبارة عن فقرة في القانون الدولي لحقوق الإنسان تبيح وتسمح للإنسان أن يغير دينه، لكن لو وجدوا نصرانيًّا تحول إلى الإسلام لأقاموا الدنيا وأقعدوها، وتكلموا عن ذلك وقالوا: هذا نتيجة ضغوط، وإرهاب، وتخويف. إلى غير ذلك من الأسباب.
أما في الإسلام فلا يحق للإنسان المسلم أن يغير دينه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري (3017): "مَنْ بَدَّل دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ". والفقهاء متفقون على قتل المرتد إلا أبا حنيفة فإنه يرى أن المرأة تسجن حتى ترجع إلى دينها أو تموت، وقد حدث أن معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري لما بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم، إلى اليمن، وجدا رجلًا قد أسلم، ثم رجع إلى اليهودية، فأقاما عليه الحد وقتلاه بمحضر من المسلمين. والقصة أيضًا في صحيح البخاري (6923).
ومن الفوارق: الفارق بين الرجل والمرأة: فإن الإسلام أعطى الرجل حقوقًا ليست للمرأة، وأعطى المرأة حقوقًا، أيضًا، ليست للرجل، فلا يتحول الرجل في شريعة الله إلى امرأة، ولا المرأة إلى الرجل، بل كل إنسان له حقوق، كما قال الله تعالى: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ)[النساء: 32].
هذا القانون الغربي لحقوق الإنسان يرفض اعتبار الدين أساسًا للتمييز بين الناس، ويقول: يجب أن ننظر إلى الأديان كلها على حد سواء، ولكننا نجد أن لبنان- ومع أن غالبية شعبه مسلمون- يشترط أن يكون رئيس الجمهورية فيه نصرانيًّا، وهذه هي الطائفية السياسية بعينها، لكننا نجد في مقابل ذلك أن دولًا إفريقية كثيرة غالبية سكانها من المسلمين، ومع ذلك تكون محكومة برئيس نصراني دون أن يكون هناك نكير في ذلك.
نقطة أخيرة- أيضًا- في الفارق بين إعلان الإسلام وإعلان الأمم المتحدة: هي أن المساواة في الإسلام حق صحيح، ولكن المساواة لا تعني إلغاء الفوارق الطبيعية والفوارق الشرعية، فالرجل، كما أسلفت، مع الرجل متساو، والمرأة مع المرأة، ثم تساوي الرجل مع الرجل أيضًا لا يعني التساوي في كل شيء، فالعامل يتساوى مع نظيره، والموظف مع مثيله، والطالب مع مثيله، والأستاذ وهكذا.

حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق

مع الاعتراف النظري بحقوق الإنسان فإنها- كما يقول بعض المفكرين- تبقى هي أخسر قضية في التاريخ، ويظل الإنسان في ظل جميع الشرائع غير الإسلام هو أخسر مخلوق على وجه الأرض، كل الأنظمة تتغنى بحقوق الإنسان، حتى النظام الشيوعي الذي قتل أكثر من عشرين مليونًا، ونفى مثل هذا العدد وأكثر، حتى النظام الشيوعي البائد يزعم أنه قام بحماية الإنسان، وإلغاء الطبقية الاجتماعية وإعلان المساواة، وقد أقر الدستور الذي كان يحكم الاتحاد السوفيتي المساواة بين المواطنين. لاحظ الفرق بين الكلام الشفهي الحلو الجميل، والواقع العملي المر! وأقر الدستور- أيضًا- حق التعليم المجاني لكل مواطن، حرية الفكر، حرية التعبير، حرية الاجتماع والتظاهر وتأسيس الجمعيات، وحرمة المنازل وحرمة المراسلات.
ومع ذلك كان نظام المخابرات السوفيتي الـ ( K، B، G ) قد جند ربما ملايين الأشخاص جعلوا كل مواطن يشعر أنه في سجن كبير، وأنه يعيش داخل هذا السور الحديدي الضارب من حوله، ومع ذلك قوانينهم تنص على أن هناك حرمات للمنازل، وحرمة للمراسلات، وحرية التعبير والاجتماع وغير ذلك. يقول أحدهم: أيتها الحرية، كم من الجرائم قد اقترفت باسمك!!
أما في الغرب النصراني فإنهم نظريًّا-أيضًا- يقولون مثل ذلك، بل حتى الدين الذي ينتسبون إليه النصرانية يقر ذلك
في أحد الأناجيل، يزعمون، أن عيسى يقول: "باركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، إن أحببتم من يحبكم فأي خير تصنعون؟ وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم فأي أجر لكم؟ إنما أحسنوا إلى من يسيء إليكم".
ويقولون في المثل النصراني: من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ منك القميص فأعطه الرداء أيضًا.
هذا الكلام، نظريًّا، جميل ومن السهل أن يردد، لكن ماذا يعاني الأجانب، دعك من المسلمين بالذات، بل كل الأجانب ماذا يعانون في الغرب من ألوان التمييز العنصري البغيض؟
وبالأمس كنت أسمع أخبار اعتداءات وحشية في ألمانيا بشطريها، وخاصة ألمانيا الشرقية، على كل الأجانب، وقد رأيت بعيني إعلانات تملأ شوارع (فرنسا) تعبر عن حزب من الأحزاب اليمينية المتطرفة الذي بدأ يكتسح الشارع (الفرنسي) ويحظى بإعجاب الناس، تطالب بطرد كل الأجانب عن البلاد، والأجانب غالبيتهم من الجاليات الإسلامية، لكن يدخل في هذا غيرهم كاليهود مثلًا، أو الذين أتوا من بلاد أخرى.
أما التمييز العنصري والطبقي في الغرب فإنه على أشده، وما لقيه السود وما لقيه سكان (أمريكا) الأصليون من المعاناة والقتل والترهيب والعنصرية والابتزاز أمر يفوق الوصف.
والمواثيق الدولية التي يتكلمون عنها هي ذات ميزان مزدوج، فهم يكيلون بمكيالين، فأحيانًا إذا اعتُدي على حقوق الإنسان اكتفوا بالشجب والاستنكار الشفهي، وأحيانًا ينتقل الأمر إلى النقيض فيضطرون إلى التدخل العسكري، كما هو الحاصل في أكثر من موقع، وكما هو الحاصل الآن، على سبيل المثال، في العراق. نعم نحن نقول: هبوا أن تدخلكم في العراق لحماية حفنة من الشيعة في منطقة الأهوار، فلماذا لا تتدخلوا لحماية الملايين التي تواجه اليوم تصفية عرقية لا مثيل لها في التاريخ كله في أرض (البوسنة والهرسك) وكوسوفا وغيرها؟
أليس ذلك أكبر دليل على أن ثمة في الغرب مكيالين وميزانين؟ بل أقول: أحيانًا يتعدى الأمر إلى أن الغرب يؤيد تلك العنصريات، وتلك الاعتداءات على حقوق الإنسان، ويلوي عنق القوانين الدولية من أجل أن تخدم مصلحة هذا الطرف أو ذاك، فالغرب وأمريكا على وجه الخصوص تفتعل الأسباب والذرائع التي تبيح لها أن تتدخل في كل مكان في العالم، وقد سمعت بأذني منذ شهور أخبارًا تتكلم عن أن هناك دراسات في بعض المحاكم (الأمريكية) من أجل الإذن لقوات (أمريكا) بالتدخل لملاحقة مهربي المخدرات، مثلاً، في أي مكان في العالم، وقد انتشرت القوات الأمريكية في كل مكان تحت ذريعة حرب الإرهاب.
وأحيانًا يميل هؤلاء بموازينهم المتناقضة المزدوجة إلى إقرار الأمر الواقع، فمثلاً: وجود اليهود، أو ما يسمى بإسرائيل، في أرض فلسطين المسلمة، هذا الوجود هو وجود غير صحيح، وهي جسم غريب في الأمة الإسلامية، ولكن الغرب يفرض على المسلمين اليوم بقوة السلطان وقوة السلاح- أيضًا- أن يعترفوا بالوجود اليهودي، وأن يتعاملوا مع هذا الوجود على أنه أمر طبيعي، وأن يفتحوا حدودهم وبلادهم وعقولهم إلى رياح التغيير اليهودي.
وبالصراحة والصدق أقول لكم: إن الغرب كله يخطط إلى أن يجعل من الشرق الأوسط منطقة نفوذ إسرائيلية، وأن تكون الأسواق العربية كلها مفتوحة للبضائع الإسرائيلية، وأن تستخدم الأيدي العاملة الرخيصة العربية لمصلحة اليهود، وأن توظف الأموال العربية والإسلامية في خدمة اليهود، وأن يستفيد العرب، زعموا، من الخبرة والعقول والتقنية والتصنيع والتحضر اليهودي- كما يقول زعماؤهم.
هذه هي الخطة التي يسعون إليها فيما يسمى بمؤتمرات السلام؛ ولذلك طالبت إسرائيل بشدة وقوة ووضوح سوريا أن تجعل هناك علاقات طبيعية بينها وبينها، علاقات إعلامية، علاقات دبلوماسية، علاقات تبادل سياحي، تبادل ثقافي، تبادل أمني، بل تنسيق أمني، وربما في المستقبل يكون هناك نوع من التعاون العسكري مقابل أن تتنازل إسرائيل لها عن شيء من الجولان.
والغريب أن كل هذه الأمور تتم، ربما أقول، على مرأى ومسمع من الشعوب الإسلامية دون أن تتكلم أو تعبر عن رفضها لهذا التهجين والتدجين، وربما أقول على غير مرأى ولا مسمع من الشعوب العربية والإسلامية التي فقدت إحساسها بنفسها ومعرفتها بكرامتها وشعورها بحقوقها؛ ولذلك أصبحت لا تقدم ولا تؤخر ولا تعبر عن رأيها في أخص خصائصها وألزم قضاياها.
المهم أن الغرب أحيانًا يعمل على فرض الأمر الواقع، وفرض الاعتراف به والرضا به، كما هي الحال في إسرائيل، وربما يطبق المثال نفسه في أرض (البوسنة والهرسك) التي يخضع ربما أكثر من سبعين في المائة من أرضها إلى سيطرة الصرب النصارى الحاقدين.
أما في الكويت فلم يتم اعتماد مثل هذا الميزان، بل تحرك الغرب من أجل طرد المعتدي عن الكويت، ونقول: طرد المعتدي كان لابد منه، ولكن لماذا يكيل الغرب بمكيالين ويزن بميزانين؟
وفي الغرب- أيضًا- الذي يتشبث بحقوق الإنسان وينادي بها نجد أجهزة المخابرات الغربية كالمخابرات الأمريكية الـ ( C، I، A )؛ أن هذه الأجهزة لا تعرف معنى للأخلاق ولا تقيم وزنًا للكرامة، بل إنها تستخدم كل وسيلة شريفة أو دنيئة إلى تحقيق أهدافها والوصول إلى مقاصدها، فمن وسائلها القتل، وسفك الدم، ونهب المال، والاعتداء على الأعراض، والخداع والتضليل والتلبيس، إلى غير ذلك من الوسائل التي لا تعرف معنى للأخلاق والكرامة. ولا شك أن هذه الأنظمة المخابراتية هي المتنفذة في السياسات الغربية والسياسة الأمريكية بوجه خاص، فأين حقوق الإنسان إذًا؟!

حقوق المسلم التي أقرتها له الشريعة الإسلامية
أما بالنسبة للعالم الإسلامي فثمة أسئلة كثيرة، وهو بيت القصيد، هل يأخذ الإنسان المسلم حقوقه التي أقرتها له الشريعة الإسلامية؟ هذا سؤال، بل هل يأخذ حقوقه التي يأخذها نظيره ومماثله في العالم الغربي؟
أقول في الحالين: كلا. هل نحن اليوم نعمل بكلمة عمر التي قالها واضحة صريحة لمحمد بن عمرو بن العاص حين قال له: (متى استعبدتم الناسَ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟). قال هذا انتصارًا لقبطي جاء يشتكي، فهل نأخذ بهذه الكلمة؟ أم أننا نأخذ بكلمة الحجاج الذي كان يقول للناس: (من تكلم منكم قتلناه صَبْرًا، ومن سكت منكم قتلناه كَمَدًا). يعني من تكلم يحبس حتى يموت، أما من سكت فإنه يموت غيظًا وحزنًا وكمدًا.
هل يستطيع المسلم اليوم أن يقول كلمة عمر بن الخطاب لحكامه: (منذ كم استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟). أجزم أن لا، إنما يستطيع المسلم أحيانًا أن يقول هذه الكلمة لحكام دولة أخرى خاصة حين تكون العلاقة مع تلك الدولة سيئة. والتقارير الصادرة عن منظمات حقوق الإنسان تثبت أن حقوق الإنسان المسلم تهدر بقسوة بالغة بواسطة الحكومات الوطنية في بقاع كثيرة، أو بواسطة القوى الأجنبية في مواطن أخرى.
هناك عدة أمور يتم انتهاك الحقوق فيها من قبل الحكومات الأجنبية أو الوطنية، وهناك حالات كثيرة يتم انتهاك حقوق الإنسان فيها من قبل أخيه الإنسان، وهذه بعض الأمثلة:
التفرقة العنصرية قائمة في بلاد الإسلام كلها بدون استثناء، دعك من جنوب أفريقيا مثلًا، حيث التفرقة هناك على أشدها، بل حتى في المجتمعات الإسلامية، والمجتمعات المتدينة، والمجتمعات الواعية، بل أحيانًا في أوساط طلبة العلم يصبح الانتساب للقبيلة يشكل حجر الأساس في العلاقات مع الناس، وفي تفضيل فلان أو علان، وفي القرب والبعد، وفي التزاوج وغير ذلك، والكثيرون يسخطون سخطًا لا رضا بعده؛ لأن فلانًا من أولادهم تزوج من قبيلة أخرى، ولكنهم لا يسخطون لو تزوج من فتاة منحرفة أو غير ذات دين.
وهكذا أصبح الانتماء إلى القبيلة أو التفرقة العنصرية في نظر الكثيرين أهم من التمييز على أساس الدين، ليس في مجال الزواج فحسب، بل في مجال العلاقات الاجتماعية، والولاء والتقارب، والتفضيل في الأعمال والوظائف والمسئوليات وغير ذلك، فقد تكون جديرًا بمنصب أو بموقع أو بعمل أو بزوجة أو بشيء من هذا؛ لأنك فلان بن فلان، ولو لم تكن أي شيء غير هذا.
والتفرقة العنصرية واقعة في أكثر من بلد بحق المنتسبين للإسلام، فالجوع والبرد والمرض يقتل اليوم عشرات الآلاف من المسلمين، وعدد المهاجرين من الصومال يزيد على مليوني مهاجر للبلاد الغربية، كل هؤلاء يستقبلهم الغرب بالأحضان، وتتنافس الجمعيات النصرانية في تسجيل أطفال المسلمين من أجل أن يذهبوا إلى هناك؛ لتنصيرهم وتعميدهم.
وكندا تستقبل المسلمين الهاربين من جحيم المعاناة في الصومال وتسكنهم في الإسكانات الحكومية بالمجان، بل تصرف لهم إعانات تسميها بدل البطالة، وتحيل قضاياهم إلى المراكز الإسلامية، وتمنحهم الجنسية الكندية بكل سهولة. أما في البلاد الإسلامية فيظل المسلمون أوقاتًا طويلة يطرقون الأبواب، ثم تغلق في وجوههم.
والله، أيها الأحبة، لقد كادت عيني تدمع وأنا أسمع قبل ثلاثة أيام خبرًا عن مجموعة من المسلمين الهاربين من الصومال إلى روسيا، والذين تقطعت بهم الأسباب؛ لأن أوراقهم ناقصة، فكل الدول لا تستقبلهم، فروسيا لا تسمح لهم أن يخرجوا خارج المطار؛ لأن أوراقهم ناقصة، وتريد أن تسفرهم إلى أي بلد آخر، وبلادهم لا تقبلهم؛ لأن أوراقهم ناقصة وقد يكون فيها شيء من التزوير، وكل العالم يرفضهم، فظلوا أكثر من ثلاثة أشهر في المطار ينامون على الكراتين التي يفرشونها، وهناك شاب عمره ستة عشر عامًا، يقولون: له أكثر من ستة أشهر وهو يتجول في المطار.
يا سبحان الله! كل هذه النوعيات التي تعاني الاضطهاد، وتعاني التشريد والتعذيب، وتعاني الضياع، غالبًا ما تكون من المنتسبين إلى هذا الدين، فإن أهل الإسلام اليوم لا بواكي لهم، وإلى الله وحده المشتكى، قد أسلمهم حتى الأقربون، والعدو يقتل ويشرد الملايين في فلسطين، ثم في يوغوسلافيا، وقد نسي المسلمون جرحهم النازف في أرض فلسطين المباركة، نسوها بآلام جديدة وجراح جديدة تفتحت عليهم في بلاد أخرى، فإلى الله المشتكى.

قضية الاضطهاد الديني

قضية الاضطهاد الديني، الذي ما زال بلاء جاثمًا على المسلم بشكل خاص في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي والعالم العربي، في مصر- مثلًا- أو تونس أو ليبيا أو الجزائر، أصبح من السهل جدًّا أن يسجن المسلم، بل أن تقتله قوات الأمن في الشارع ولا يُسأل من أطلق عليه النار: لماذا قتلته؟ لكن سوف يسألون يوم القيامة: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)[التكوير: 8، 9]. (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ)[النساء:93]. أما أجهزة الأمن فقد أعطت صلاحيات واسعة لإطلاق النار على كل من يشتبه فيه، وفق قوانين وأنظمة جديدة يسمونها بأنظمة مكافحة الإرهاب، وقد اطلعت على وثائق من ألوان الممارسات المخالفة للشرع، بل المخالفة لقوانين البشر، ومواثيق حقوق الإنسان في مصر وفي تونس وفي ليبيا، بل إن في كثير من هذه السجون الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود.
وقد وصل الحال بكثير من هذه المؤسسات إلى أن يفتن الإنسان، وتلفق عليه قضايا أخلاقية مكذوبة من أجل تشويه صورته أمام الناس، وتسلط عليها الصحافة والإعلام من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعًا غير جيد، وتتهمه بكل التهم الرديئة والملفقة، ولا تسمح له بحق الدفاع عن نفسه لا سرًّا ولا علنًا، بل لا يمثل هؤلاء أمام محاكم.
والمؤسف- أيضًا- أن ثمة منظمات غربية نصرانية قامت تدافع عن حقوق الإنسان، فقد وقفتُ على تقرير خطير عن حقوق الإنسان في تونس أصدرته منظمة العفو الدولية، ووقفت على تقرير خطير آخر أصدرته منظمة أمريكية عن حقوق الإنسان في مصر، وطالبت تلك المنظمة أمريكا أن تحجب المعونات عن حكومة مصر حتى تعدل أوضاعها، وتحترم حقوق الإنسان في سجونها.
أما العالم الإسلامي الطويل العريض التي تقول آخر الإحصائيات: إنهم بلغوا ألفًا ومائتي مليون إنسان فلم نكد نسمع صوتًا واحدًا يستنكر مثل هذا العذاب الرهيب لأهل الإسلام، كم هو محزن أن نسمع في الأخبار أن أطفالًا وشبابًا صغارًا في سن السادسة عشرة وفي زهرة الشباب وريعان الصبا تطلق عليهم أجهزة الأمن النيران في الشوارع وترديهم قتلى!
وبالتأكيد ثق أن أي ضابط أمن أو مسئول حينما يخطئ في حق مسلم متدين أو- كما يسمى- متطرفٍ، فإنه لن يتعرض لأي شيء؛ بل هذا دليل على أنه مخلص لهذا النظام أو ذاك ووفيٌّ، لكن لو أنه أخل بحق مسئول في حراسته وحمايته أو الحفاظ عليه لرأيت كيف يتعرض لأقسى العقوبات؛ ولهذا أصبح أي مسئول أو شخص عادي لا يبالي أن يعتدي على مسلم أو ينتهك كرامته أو يهينه، وينسى أن هذا الإنسان له قدر عظيم عند الله تعالى، وله مكانة، وربما يكون إيذاؤه أو الاعتداء عليه سببًا في معاجلة الله تعالى، ليس لهذا الفرد، بل للمجتمع الذي أقر الاعتداء= أن يعاجله الله تعالى بالعقوبة، أي عقوبة: أزمة اقتصادية، أزمة سياسية، حرب أهلية، غلاء فاحش... إلى غير ذلك؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ)[المدثر: 31].
حق الانتقال والسفر، مثلًا، والعودة إلى بلد: في كثير من البلاد يحجر على الناس ولا يسمح لهم أن يسافروا، ولا أن ينتقلوا ولا أن يعودوا، في بلاد قد وقعت على حقوق الإنسان!! وقل مثل ذلك في حق الجنسية، فلا يكاد الإنسان من غير تلك البلاد يحصل عليها، وإذا حصل عليها أحد من غير أهلها فكثيرًا ما يهدد بسحبها وتبتز كرامته بهذا الأمر أو ذاك.
المعتدون على حقوق الإنسان:
من المعتدون على حقوق الإنسان؟
ليس المعتدون على حقوق الإنسان الحكومات فحسب بل أكثر من ذلك؛ فالمعتدون هم:
أولًا: أصحاب الاستغلال السلطوي الذين استغلوا ما منحهم الله تعالى، ومكن لهم في التضييق على شعوبهم، والتمتع بخيراتهم الدنيوية.
ثانيًا: الأقوياء في المجتمعات- وهم كثير- فالتجار أحيانًا يعتدون على حقوق الفقراء، ورؤساء الإدارات والمصالح والجمعيات والمؤسسات والهيئات، في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كثيرًا ما يضطهدون الموظفين الصغار، ويعتدون على حقوقهم ويبتزونهم ويهينون كرامتهم.
وفي أحيان قليلة فإن الآباء قد يستخدمون ذلك ضد الأبناء، وكمثال: قد تجد بنات في كثير من البيوت تمنع من الزواج الشرعي؛ لأن الأب لا يوافق على ذلك، وهذا لا شك اعتداء على حقوق الإنسان، ومنع له من حق أذن الله تعالى فيه، وهو مسؤول عنه بين يدي الله تعالى، يوم القيامة، أو قد يحجر البنت على ابن عمها، وقد يكون غير صالح وهي غير موافقة عليه، وهذا مخالف للشرع.
أو تجد ولدًا يعاني من والده الذي يمنعه من طلب العلم، أو يمنعه من ممارسة الدعوة إلى الله، يمنعه مما أحل الله تعالى له، وقد يمنعه من الزواج-أيضًا- بحجة صغر سنه، مع أنه يتعرض لأقسى ألوان الفتنة في هذا الزمان.
وهناك اعتداء ثالث: وهو اعتداء الشخص العادي على أخيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ ومَالُه وعِرْضُهُ". أخرجه مسلم (2564). وهذا نص عام، فاعتداء الإنسان على مثيله أو نظيره أو مساويه أو زميله= هو، أيضًا، حرام لا يجوز، لا يعتدي على ماله بالنهب أو السرقة، ولا على عرضه بالكلام أو الوقيعة بغير حق أو الشتم أو السب، أو يعتدي على دمه بالقتل أو بالجرح، وكل هذه الاعتداءات خطيرة؛ لأن منها ما يستغل فيه النفوذ والقوة في مضايقة الإنسان ومصادرة كرامته، وإيذائه وامتهانه، والقضاء على إنسانيته وكرامته.
ومنها أن أصل الاعتداء محرم، والاعتداء الواقع منوع، حتى المتدين، أحيانًا، قد لا يأبه بحماية حق أخيه المسلم فيسبه مثلاً، وينسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ". أخرجه البخاري (6105) ومسلم (110). أو يحقره، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمُ لاَ يَظْلِمُهُ ولاَ يَخْذُلُهُ ولاَ يَحْقِرُهُ". أخرجه مسلم (2564). أو يتخلى عنه في أزمة أو شدة عرضت له، سواء كانت أزمة فردية أو جماعية، أو على مستوى شعب، وينسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ يُسْلِمُهُ". أخرجه البخاري (2442) ومسلم (2580). أو يسيء الظن به في قول أو فعل وينسى: (اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ)[الحجرات: 12]. أو يجرحه باللسان أو باليد، وجرح اللسان كجرح اليد، أو يقتله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا....)[النساء: 93].

ما الحلول؟
وأخيرًا ما الحلول؟
وباختصار أقول: الحلول كثيرة، منها:
أولاً: تقسيم المسئوليات إلى مسئوليات تنظيمية خاصة تتعلق بالأمور الإدارية، فمن الممكن أن يضعوا بعض الترتيبات الإدارية في المجال المباح الذي لا يخالف نصًّا شرعيًّا، وهناك جهة أخرى مهمتها تنفيذية بحتة، وهناك جهة ثالثة مهمتها قضائية بحتة، وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تكون مستقلة عن الأخرى ولا تتداخل هذه الاختصاصات أو تجتمع كلها في يد شخص واحد، فإنه لا شيء يغري بالاستبداد والتسلط والظلم مثل: تجمع السلطات في يد شخص واحد .
ثانيًا: الرقابة على انسجام القرارات والأنظمة مع الشريعة الإسلامية؛ إذ لا قيمة للنص على حقوق الإنسان وكرامته وحفظ شخصه ودينه وماله وعقله وبيته ومراسلاته وماله وغير ذلك إذا كان الحاكم لا يحترم هذه النظم، بل يخالفها متى شاء لمصلحته أو مصلحة طرف آخر. كيف تكون الرقابة؟
في العالم الغربي تكون من خلال (البرلمانات) أو الوسائل والمؤسسات المتعلقة بقواهم (الديمقراطية)، لكن في العالم الإسلامي أو في النظام الإسلامي يمكن أن تكون الرقابة أولًا من خلال القضاء، القضاة الذين يكونون فوق مستوى الخوف، وفوق مستوى الذل إلا لله عز وجل، فيشكلون رقابة حقيقية على هذه الأشياء.
كذلك الرقابة الشعبية؛ رقابة جمهور المسلمين، متى عرفوا الحق وعملوا على تحصيله، فإن الرأي العام بوسائله ومؤسساته المختلفة يستطيع أن يؤثر تأثيرًا كبيرًا وبليغًا، الجمعيات –مثلًا- وسائل الإعلام المختلفة، ومنها المنابر التي يمكن أن ترشد الناس إلى الحق وما يجب أن يفعلوا وما يجب أن يتركوا، كما ترشدهم إلى الواجب الذي عليهم أن يقوموا به.
كذلك قضية الشكاوى والعرائض فإنها من الحقوق المضمونة بشريعة الإسلام، ثم هي أيضًا مضمونة بحقوق الإنسان، كما قلنا، طبعًا حسب الكلام الذي يذكرونه في الكتب، يذكرون هذه الأشياء وغيرها، إنما نحن لابد أن نراعي في ذلك ما يتوافق مع شريعة الإسلام.
فإذًا: لابد من نزاهة القضاء واستقلاله وعدالته وعدم خضوعه لأي ضغط مهما كان؛ "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ". أخرجه البخاري (3475) ومسلم (1688). كذلك لابد من وجود قضاء المظالم، وهو معروف عبر التاريخ الإسلامي الذي يتلقى الشكاوى ضد أي شخص، مهما كبرت مسئوليته وعظم قدره، وهو ذو نفوذ ومنزلة، بل لو كانت الشكوى ضد جهة حكومية أو غير حكومية فإن قضاء المظالم يتولى هذه المسألة، وله صلاحيات واسعة في النظر فيها، بل له صلاحيات تنفيذية في رد الحق إلى أصحابه، وانتزاعه من الظالم، وهو ما يسمى عندنا هنا بديوان المظالم.
كذلك من الوسائل أو من الحلول: نظام الحسبة في الإسلام؛ الاحتساب على الجميع: على الأفراد، على الجهات المختلفة، رسمية كانت أو شعبية، على كل الأطراف، فالحسبة نظام إسلامي شمولي؛ احتساب على البيع والشراء، على التعليم، على الإعلام، على الأنظمة، على كل شيء، وهو مماثل لما يسمونه بلغة الإدارة المعاصرة: (وظيفة الضبط الإداري). فالبعض يتوقعون أن الحسبة هي مجرد الأمر بأداء الصلوات، هذا جزء من الحسبة، ولكن نظام الحسبة نظام شمولي لكل أمور الحياة يشمل أن المحتسب مسؤول عن مراقبة كل شيء وتصحيحه وفق الشريعة الإسلامية.
كذلك من الحلول: تربية الأفراد جميعًا على معرفة الحقوق والواجبات، ولا يعني هذا الغفلة عن أحدهما باتجاه الآخر، فلابد أن يتعلم كل مسلم أن له حقًّا ينبغي أن يطلبه ولا يتخلى عنه، وأن عليه واجبًا ينبغي أن يؤديه ويقوم به، ولا يجوز أبدًا أن تطالب بحقك وأنت تتخلى عن واجبك، كما لا يجوز أن نعلم الناس الحق الذي عليهم ولا نعلمهم الحق الذي لهم، فنتكلم عن الواجب على النساء، واجب على المرأة طاعة الزوج، وأن تقوم بخدمته، وأن تسعى في راحته وأن..وأن… هذا صحيح، لكن- أيضًا- يجب أن نقول: للمرأة حقوق على الزوج هي أن يسكنها ويكسوها ويريحها، ويحسن معاملتها، ويبذل لها ما يستطيع، فيكون هناك توازن بين هذا وذاك.
ومن الوسائل: بناء الإعلام الناقد المربي الأمين الحر الذي يعرض الأوضاع بصورة صحيحة بعيدة عن التهويل والمبالغة أو التزكية المطلقة، وكما أسلفت: الإعلام الناضج هو من أفضل الوسائل في كشف الفضائح، ووضع النقاط على الحروف، كما هو الحال في بلاد الغرب.
ومن ذلك: إعداد الدراسات عن حقوق الإنسان في الإسلام، وإيضاح ذلك للناس، ومنه أيضًا: إقامة الجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان المسلم، فنحن نعلم أن هناك جمعيات غربية تدافع عن حقوق الإنسان، بل هناك جمعيات عربية تدافع عن حقوق الإنسان العربي، نحن نحتاج إلى جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان المسلم، ولا يجوز أن يكون الدفاع عن حقوق الإنسان حكرًا على النصارى الذين يستخدمون مثل هذه الأشياء أحيانًا لأغراض دعائية.
فينبغي أن ينبري من أهل القدرة والإمكانية ممن يقيمون في بلاد العالم كلها جمعياتٌ للدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة الإنسان المسلم، مثل ما نجد في منظمات العفو، وإحدى منظمات العفو في (بريطانيا) فيها أكثر من مائتي ألف عضو منتسب إليها، وتنتشر في أكثر من أربعين بلدًا في العالم إضافة إلى عشرات من المراسلين، والباحثين المتخصصين المتفرغين، ولابد من استخدام وسائل التأثير كما أسلفت.
وأخيرًا: فإن هناك واجب العالِم والداعية والخطيب في الدفاع عن المضطهدين والمظلومين من المسلمين خاصة، من خلال الفتوى التي تصدر، والنصيحة العامة والخاصة، والكتابة والتعليم والحديث، والتدخل في هذه الشؤون، ورعاية أحوال المضطهدين.
وأختم هذه الكلمة بأن أقول: على العالم والداعية حق أكبر؛ لأنه يستطيع أن يفعل ما لا يستطيع غيره من جمهور الناس، وأيضًا بقدر ما عليه من الحق له من الواجب، وحق العالم والداعية أكبر من حق جمهور الناس، أو سائر الناس في حفظه في حضوره، وغيبته.
وأستغفر الله تعالى، لي ولكم، وأسأله تعالى، أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.




..........