المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن العموم اللفظي والعموم المعنوي



د. هشام عزمي
02-21-2012, 01:14 AM
عن العموم اللفظي والعموم المعنوي
بقلم الأخ مهاجر

هذه بعض الفوائد عن مسألة العموم اللفظي والعموم المعنوي في نصوص الشريعة الخاتمة وهي مما قد يفيد ، بإذن الرب الكريم جل وعلا ، في رد غارة العلمانيين والمشككين في ملاءمة الشريعة لسائر مستجدات الحياة .

فالقول بنزول بعض الآيات على سبب بعينه لا يعني ، بداهة ، إبطال دلالتها على بقية الصور التي تدخل في عموم لفظها .

فالأصل أن يعم الدليل بلفظه ، فذلك محل اتفاق بين جمهور الأصوليين وإليه يشيرون بعبارتهم المشهورة : "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" ، أو بمعناه ، فالعموم المعنوي مما أثبته المحققون من أهل الأصول كابن تيمية والشاطبي رحمهما الله ، فيعم بمعناه إلا ما استثني بدليل يدل على اختصاص الحكم بصورة السبب فذلك خلاف الأصل فلا يثبت إلا بدليل ناقل عن الأصل .

ففي قوله تعالى : (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) :
ورد الأثر الذي نقله من صنف في التفسير وأسباب النزول بأنها مما نزل في أبي بكر ، رضي الله عنه ، فهو السبب الخاص ، ومع ذلك إذا نظر الناظر في ألفاظ الآية وجدها صيغ عموم كما قد قرر أهل الأصول فــ :
تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل : "يأتل" مئنة من العموم .
والملحق بجمع المذكر السالم : "أولو" مظنة العموم ابتداء ، وإضافته إلى المعرف بــ : "أل" الجنسية : "الفضل" قد صيرته نصا في العموم .
و "من" في "منكم" : مئنة من بيان الجنس ، والجنس مئنة من العموم ، فجنس الشيء يعم أفراده ، كما قد قال أهل العلم في نحو قوله تعالى : (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة) ، فـ : "من" : بيانية جنسية تعم جميع الأفراد لقرينة تعديل الوحي لجميع أفراد جنس الصحابة ، فتعديلهم ، رضي الله عنهم ، عام يشمل جميع الأفراد ، وذلك من جملة ما قد علم من الدين بالضرورة ، فلا يفتقر إلى استدلال نظري ، فلا تكون للتبعيض بداهة فذلك مفض إلى القدح في عدالة بل وديانة بعضهم ، وهو قول أهل البدعة من السبابة ، وإلى طرف من ذلك أشار في "مغني اللبيب" بقوله : "وفي كتاب المصاحف لابن الأنباري أن بعض الزنادقة تمسك بقوله تعالى : (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة) في الطعن على بعض الصحابة والحق أن من فيها للتبيين لا للتبعيض أي الذين آمنوا هم هؤلاء ، ومثله : (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم) وكلهم محسن ومتق ، و : (وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم) فالمقول فيهم ذلك كلهم كفار" . اهــ بتصرف يسير
وكذلك الشأن في : أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ : فكلها صيغ عموم إما بالإضافة إلى الجمع المحلى بــ : "أل" ، أو بدخول "أل" الجنسية الاستغراقية كما في : "الْمَسَاكِينَ" ، أو دخول "أل" في "المهاجرين" : فتحتمل الاستغراق لعموم أفراد المهاجرين وتحتمل الموصولية فيكون تقدير الكلام : والذين هاجروا ، والموصول ، أيضا من صيغ العموم .
وكذلك الشأن في الضمائر في : وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ :
فواو الجماعة وكاف الخطاب للجماعة في : "لكم" مئنة من العموم أيضا .
ففي الآية حشد من العمومات اللفظية يقضي بجريان عمومها على غير صورة السبب الذي نزلت عليه ، فالصديق ، رضي الله عنه ، داخل فيها ابتداء ، بل إن دخوله آكد من دخول غيره فهو السبب الذي ورد عمومها عليه ، وكذلك مسطح ، رضي الله عنه ، فهو داخل في عموم : "أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" ، ابتداء ، فدخوله آكد من دخول غيره ، وغيرهما داخل لعموم ألفاظ الآية ، فدخول غيرهم تبع لدخولهم ، فالآية تعم الجميع وإن كانت دلالتها على أبي بكر ومسطح ، رضي الله عنهما ، أظهر ، فلا مسوغ للقول بقصر هذه العمومات اللفظية على أسباب نزولها ، فحتى المتشرعون الذين يضعون القوانين الأرضية التي يتبجح العلمانيون بها لا يملكون إلا التسليم لعلم الأصول في هذا الباب فدلالات الألفاظ عموما وخصوصا إطلاقا وتقييدا إجمالا وبيانا ....... إلخ مما ضبطه هذا العلم الشريف ، وهو علم شرعي يستمد مسائله من نصوص الشريعة ومعهود لسان العرب ، فقولهم بتخصيص عمومات الشريعة بقصرها على أفراد بعينهم دون دليل بل محض تحكم ، قولهم هذا يقضي ببطلان مواد قوانينهم الوضعية من باب أولى ! .

&&&&&


وكذلك الشأن في نحو قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) :
فإن بعض أهل العلم قال بأنها تختص بأبي بكر ، رضي الله عنه ، وحده ، فلا يدخل معه غيره ، ولم يكن ذلك محض تحكم ، كتحكم من يخصص عمومات الشريعة بلا دليل ، بل قد استند في ذلك إلى معهود لسان العرب فــ : "أفعل" التفضيل مئنة من العهد فهي تدل على فرد بعينه فضل في المعنى على بقية الأفراد ، فتكون "أل" الداخلة على "الأتقى" : "أل" : العهدية فتشير إلى معهود ذهني بعينه جاء سبب النزول فعينه ، فهو الصديق ، رضي الله عنه ، ومع ذلك قال بعض أهل العلم بأن العموم هنا حاصل ، فتكون "أل" بمقتضى كلامه : جنسية استغراقية لعموم ما دخلت عليه ، وإن كان الصديق ، رضي الله عنه ، أولى الناس بالدخول في هذا العموم ، فذلك لا يمنع دخول غيره تبعا له فهو المقدم في الوصف وغيره تال له في الفضل ، كما أشار إلى ذلك ابن كثير ، رحمه الله ، بقوله :
"وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك . ولا شك أنه داخل فيها ، وأولى الأمة بعمومها ، فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ؛ فإنه كان صديقًا تقيًا كريما جوادًا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ، ونصرة رسول الله ، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ، ولم يكن لأحد من الناس عنده منّةٌ يحتاج إلى أن يكافئه بها" . اهــ
ولعل مما يستأنس به لترجيح هذا القول أن الآيات التالية التي بينت إجمال وصف "الأتقى" قد جاءت على حد الموصول وهو نص صريح في العموم ، فجاء عقيبها قوله تعالى : (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) .

&&&&&


وكذلك الشأن في نحو قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) :
فالآية قد وردت في فرد بعينه هو زيد ، رضي الله عنه ، ومع ذلك لم يقل أحد بأن الحكم يختص به ، فهو سبب ورد عليه عموم الحكم ، فلا يختص به ، وإن كان ، كما تقدم ، أولى الناس بالدخول فيه ، فدخوله قطعي لا يحتمل التخصيص وأما دخول غيره فظني يحتمل التخصيص ، ولو عقلا ، فإن العموم في هذا الموضع محفوظ ، ومما يرجح دلالة العموم في هذا السياق ، أن الحكم قد ذيل بعلته : (لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) ، وهذا نص يقطع بعموم الآية في حق جميع المكلفين فــ : "المؤمنين" : صيغة عموم قياسية فهو جمع محلى بــ : "أل" الجنسية الاستغراقية .

وهذه شبهة العلمانيين ، فإن لهم شبهة كلية هي عدم ملاءمة هذه الشريعة للعصر الحاضر ، وشبهة جزئية وهي قصر كل نص على سبب نزوله إن كان كتابا ، أو سبب وروده إن كان سنة ، فتفقد النصوص دلالتها على الأحكام ، فقد نزلت في أعيان ، فهي مقصورة عليهم ، لا في معان عامة تناط بها الأحكام فتعمهم وتعم غيرهم ممن تحققت فيهم تلك المعاني ، فالأحكام دائرة معها وجودا وعدما .
فهذا الأصل ، وأما الاستثناء فهو نزول النص مقصورا على أعيان ، فلا يتعدى الحكم إلى غيرهم كخصائص النبوة من إباحة نكاح ما فوق الأربع ، ومشروعية الوصال في الصوم ....... إلخ ، فجعل العلمانيون هذا الاستثناء هو الأصل ، والصحيح أن الأصل : عموم نصوص الشريعة ، فهي تعم أعيان المكلفين إلا من استثني بطروء مانع التكليف من موت أو جنون أو زوال عقل أو عدم بلوغ ........ إلخ ، وتعم الحوادث إما بالنص ، فالنصوص قد عمت بلفظها جمهرة كبيرة من الوقائع ، وعمت بمعناها ما جد من النوازل ، فتعم الأولى بالنص ، وتعم الثانية بالقياس ، فهو جار مجرى العموم المعنوي ، فالمعنى المؤثر في إثبات حكم الأصل يتعدى إلى غيره ، فيتعدى الحكم تبعا له ، فإذا وجد المعنى المؤثر في الفرع وجد الحكم ، وإذا عدم الأول عدم الثاني ، فالحكم ، كما تقدم ، يدور مع علته وجودا وعدما ، فإما أن تعم النصوص بمنطوقها ، وإما أن تعم بمفهومها ، فالأول : عموم اللفظ ، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما اشتهر في كلام الأصوليين ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، ففي نحو قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) :
يقول أهل الأصول : العبرة بعموم اللفظ ، فالآية تدل بنصها على تعدي حكم اللعان إلى غير صورة السبب التي نزلت عليها ، فالعام الوارد على سبب نزول يعم غير صورة السبب على الراجح من أقوال أهل الأصول فيعم غير هلال وعويمر رضي الله عنهما .
ومن قال بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ ، فإنه لم يبطل دلالة الآية على غير صورة هلال وعويمر ، رضي الله عنهما ، بل تدل عليهما نصا وتدل على غيرهما قياسا ، فالمسألة دائرة بين العموم اللفظي والعموم المعنوي ، فإما أن يعم النص بلفظه ، وإما أن يعم بمعناه ، ومؤدى القولين واحد .



ولو صح كلام العلمانيين ، لبطلت دلالة النصوص ، كما تقدم ، على غير صورة السبب ، فتصير العمومات في نحو قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، و : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ) : تصير خاصة في سارق بعينه ، أو زان بعينه ، فتكون : "أل" فيهما عهدية تشير إلى معهود ذهني هو سارق أو زان بعينه دون بقية السراق والزناة ، وهو ما قد قاله بالفعل بعض أصحاب الشبهات ممن رام إبطال حدود الشريعة ، فيكون عموم الآية مقصورا على صورة السبب الخاص دون غيرها من بقية أفراد العام ، والصحيح أنها موصولة ، والموصول من صيغ العموم في لسان العرب ، فتقدير الكلام : والذي سرق ...... ، فيعم كل أفراده إلا ما خص بما دون نصاب السرقة ، و : التي زنت ......... فيعم كل أفراده إلا ما خص بالأمة فــ : (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) ، فذلك تخصيص بالنص ، أو ما خص بالعبد قياسا على الأمة ، فذلك تخصيص بالقياس ، أو ما خص بالرجم في حق الثيب ، فذلك تخصيص بالسنة ، أو بالقرآن الذي نسخت تلاوته دون حكمه كما أثر عن عمر رضي الله عنه ، ويقال هنا ، أيضا ، لو سلم بأن العبرة بخصوص السبب فإن ذلك لا يعني بداهة قصر الحكم على فرد بعينه هو سارق أو زان بعينه ، وإنما يعم كل من تحقق فيه هذا الوصف المؤثر قياسا على صورة السبب ، ومؤدى القولين واحد ، كما تقدم ، فإما أن يثبت الحكم بالعموم اللفظي ، فاللفظ ابتداء يدل على ما عدا صورة السبب ، وإما أن يثبت بالعموم المعنوي ، فالمعنى يتعدى إلى غير صورة السبب فيقاس عليها ما عداها ، فمعنى السرقة معنى متعد إلى غير السارق الأول ، فتعم الآية بمعنى السرقة المؤثر في ثبوت حكم القطع ، فهو معنى عام ، كما تقدم ، يعم السارق الأول نصا ، والثاني قياسا ، وعلى القول الأول يعمهما معا : نصا ، فيكون الخلاف لفظيا من هذا الوجه فمؤدى القولين : قطع يد السارق الثاني إما نصا وإما قياسا .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"وقد يجيء كثيرا من هذا الباب قولهم : هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة في التفسير كقولهم : إن آية الظهار نزلت في امرأة اوس بن الصامت وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله وإن قوله : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} نزلت في بني قريظة وإن قوله : {ومن يولهم يومئذ دبره} نزلت في بدر وإن قوله : {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء وقول أبي أيوب إن قوله : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} : نزلت فينا معشر الأنصار الحديث ، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين بمكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآية مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق .

والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا فلم يقل أحد من علماء المسلمين إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين وإنما غاية ما يقال : إنها تختص بنوع ذلك الشخص وما يشبهه ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته أيضا" . اهـ

فلو صح كلام العلمانيين للزم أن يرد نص في كل سارق أو زان بعينه ! ، وهذا لا يقوله عاقل كما تقدم من كلام ابن تيمية رحمه الله .

&&&&&

ومن أمثلة ذلك أيضا :
قوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فذلك ، أيضا ، مما يعم بمعناه ، وإن كان لفظه خاصا بأهل الكتاب : هودا ونصارى ، فالذم هنا ، أيضا ، لم يتعلق بأعيان وإنما تعلق بأوصاف فالغلو في المتبوع بطاعته مطلقا وإن أمر بمحظور أو نهى عن مشروع معنى مؤثر يصح تعليق حكم الذم عليه ، فتخصيص اللفظ بأهل الكتاب لا ينفي عموم المعنى فالحكم ثابت في حق كل من بدل حكم رب العباد ، جل وعلا ، في الماضي أو الحاضر ، في الشرق أو الغرب ، فيعم كل عصر ومصر ، فهذا هو الأصل في نصوص الشريعة ، كما تقدم ، فعمومها لفظا أو معنى لا يخص إلا بدليل صحيح ، ولا دليل هنا يخص الذم بأهل الكتاب دون غيرهم ، بل الذم يعم كل من عطل حكم الشريعة فقد نقض بذلك مقتضى توحيد الألوهية بإفراد رب البرية ، جل وعلا ، بأجناس العبودية ومنها : عبودية التحاكم فيما شجر فلا يصح إيمان إلا بذلك ، فــ : (لَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) ، فنفى جنس الإيمان فهو المصدر الكامن في الفعل المضارع : "يؤمنون" ، فيتوجه إلى الأصل ، فلا يثبت إلا بالتحاكم وانتفاء الحرج من حكم الملك ، جل وعلا ، الذي بلغه رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، والأمر الذي ذيلت به الآية : (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، أمر لكل الأمم ، فــ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وتلك قرينة أخرى تدل على عموم المعنى وإن اختص اللفظ ، كما تقدم ، بأهل الكتاب الأول .

&&&&&


ومثله قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) : فالسياق يدل على اختصاص هذه الآية باليهود ، فقد وردت في سياق ذم لهم على كتمانهم حكم الرجم في التوراة فاستبدلوا الجلد والتحميم والإشهار به ، وسب النزول على ذلك شاهد ، ومع ذلك لا يختص الحكم بهم فيعمهم ويعم غيرهم ممن حكم بغير ما أنزل الله ، فصيغة الشرط التي صدرت بها الآية مئنة من العموم ، فهي نص فيه ، ولا يشكل على ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما : "فهؤلاء ، (أي حكام زمانه) ، يحكمون بما أنزل الله ؟ قال : نعم ، هو دينهم الذي به يحكمون ، والذي به يتكلمون ، وإليه يدعون ، فإذا تركوا منه شيئاً ، علموا أنه جور منهم ، إنما هذه اليهود والنصارى والمشركون الذين لا يحكمون بما أنزل الله" . اهــ
فنزولها في اليهود والنصارى لا يعني قصر الحكم عليهم بل قد ذيل ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كلامه بوصف يعم كل من حكم بغير ما أنزل الله ، جل وعلا ، فهو مشرك ، قد أشرك في أنواع التوحيد الثلاثة ، فأشرك في باب توحيد الأسماء والصفات فاسم الله جل وعلا : "الحكم" مئنة من انفراده ، تبارك وتعالى ، بوصف الحكم في كل شأن خاص وعام ، فصار الحكم لغيره فذلك شرك في المدلول التضمني للاسم الإلهي ، وأشرك في باب توحيد الربوبية فمن أجناسها : ربوبية التشريع ، فلا تكون لغير الرب الشارع ، جل وعلا ، وأشرك في توحيد الألوهية لما صرف جنس التعبد والتذلل بالخضوع للحكم النافذ لغير الرب القاهر جل وعلا .
فابن عباس ، رضي الله عنهما ، وإنما نفى الحكم عن الصورة الحاصلة في زمانه وأثبته في حق اليهود والنصارى لاختلاف محل النزاع ، فالصورة الحاصلة في زمانه : صورة من يحكم بما أنزل الله ، جل وعلا ، ولكنه عدل عن الحكم في قضية بعينها لهوى أو غرض من شهوة أو رشوة ..... إلخ ، فذلك كفر دون كفر فنفى ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن قضاة بني أمية : الكفر الأكبر ، فالدولة : دولة إسلام تحكم بالشريعة إجمالا وإن خالفت مقتضاها في بعض أقضيتها فلم تبدل نصوص الشريعة بذلك وإنما خالفتها فحكمت بغيرها في بعض القضايا ، وأما الصورة الأخرى التي أثبتها في حق اليهود والنصارى وحق كل من بدل الشرائع من المشركين قديما وحديثا فهي صورة التبديل الكامل فالحكم نفسه قد استبدل غيره به فلم يثبت ويخالف مقتضاه كالصورة الأولى ، فتكون هذه الصورة هي صورة الكفر الأكبر المخرج من الملة .
قال صاحب "نواقض الإيمان القولية والعملية" حفظه الله وسدده :
"فينبغي أن يفهم كلام أبي مجلز - وكذا كلام ابن عباس رضي الله عنهما - على ظاهره ، وحسب مناسبته بلا غلو ، ولا جفاء ، فلا نكون كالخوارج الذين جعلوا مطلق المخالفة الشرعية كفراً أكبر ، وفي نفس الوقت لا نكون مع الطرف المقابل لهم ممن جعلوا رفض الشريعة وتنحيتها والإعراض عنها كفراً أصغر ، فلم يقصد ابن عباس - وكذا أبو مجلز - من أبى وامتنع عن الالتزام بشرع الله تعالى ، وتحاكم إلى قوانين الجاهلية ، فلم يكن في تلك القرون السابقة من يفعل مثل ذلك ، فكلام السلف الصالح - في معصية كفر دون كفر - يدور حول قضية مفردة ، أو واقعة معينة في الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ، عن هوى وشهوة ، مع اعتقاد حرمة هذا الفعل وإثمه ، وليس منهجاً عاماً ، وهذا أمر ظاهر توضحه مقالة ابن تيمية : (أما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً ، لكن عصى واتبع هواه ، فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة) ، وكذا ما قاله ابن القيم :- (إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدل عنه عصياناً ، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا كفر أصغر)" . اهــ

والقياس : قياس مع الفارق فمحل النزاع غير واحد ، فلا يصح هنا تعدية المعنى فلا عموم له إذ لم يتحقق في الفرع الحادث في زماننا تحققه في الأصل الذي ورد عليه أثر ابن عباس رضي الله عنهما .
ويقال من وجه آخر بأن مادة الكفر مادة كلية في الذهن ، تقبل الانقسام في الخارج ، كسائر الكليات المطلقة ، فمنه الأكبر ومنه الأصغر ، والقرينة من سياق أو حال ، هي التي تعين المراد ، والأصل فيها حملها على الحقيقة المطلقة ، وهي الكفر الأكبر ، وذلك أمر يطرد في كل موارد التنزيل من ظلم أو فسق أو نفي للإيمان ......... إلخ ، فــ : "لفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ، قد يراد بها مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة ، وقد يراد بها مطلق الحقيقة ، والأول هو الأصل عند الأصوليين ، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية ، وإنما يعرف ذلك بالبيان النبوي ، وتفسير السنة" . اهــ من كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، من "الدرر السنية" ، فلا يعدل عن الحقيقة المطلقة التي تستغرق عموم المعنى إلى مطلق الحقيقة التي تثبت بثبوت بعضه ، إلا بدليل صارف ، فيحصل الكفر بحصول بعض شعبه وإن لم تنقض أصل الإيمان فيجتمع في المكلف : مطلق الإيمان بحصول أصله ، ومطلق الكفر بحصول بعض شعبه ، فيمدح من وجه ويذم من آخر ، فهو مؤمن بإيمانه فاسق أو كافر بمعصيته ، كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ، و : "اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ" ، فكل ذلك مؤول بالكفر الأصغر ما لم يستحله فاعله فيكفر من هذه الجهة لا من جهة ارتكاب الفعل فهو معصية لا يكفر فاعلها بالإجماع ، فــ : "فرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم : "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" ، وبين كفر منكر في الإثبات .
وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله : "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" .
فقوله : "يضرب بعضكم بعض" تفسير للكفار في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن" . اهــ من "اقتضاء الصراط المستقيم" .
فالكفر المحلى بــ : "أل" الجنسية مئنة من استغراق عموم المعنى فيحمل على الأكبر ، والكفر المنكر في الإثبات مئنة من الإطلاق لا العموم ، فيثبت بثبوت مطلق الكفر فلا يدل ابتداء على الكفر المستغرق لعموم المعنى وهو الكفر الأكبر ، وكذلك الشأن في الإطلاق ، فدلالته أعم من دلالة التقييد بالوصف ، كما في تقييد "كفارا" ، بالوصف : "يضرب بعضكم بعض" ، فتلك قرينة تصرفه عن الكفر المطلق المستغرق لعموم معناه إلى مطلق الكفر الذي يثبت كما تقدم بثبوت بعضه ، فيصح اجتماعه مع الإيمان ، فينقض كماله الواجب دون أصله ، ما لم يكن الثابت منه شعبة تنقض أصل الإيمان ، كسب الرب ، جل وعلا ، فلا يجتمع الشيء وناقضه في محل واحد في وقت واحد ، فثبوت أحدهما يوجب ارتفاع الآخر .

وأثر ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يصرف اللفظ من الحقيقة المطلقة إلى مطلق الحقيقة ، في غير محل النزاع ، فمحل النزاع الكتمان والتبديل لا الإقرار بالمناط الشرعي مع العدول عنه في الحكم العملي ، فيبقى اللفظ على الأصل ، وهو الحقيقة المطلقة ، حتى يرد الدليل الصارف في صورة بعينها ، فذلك من قبيل العمل بالعموم حتى يرد الدليل المخصص ، فعموم المعنى الذي يتعدى في هذا الموضع من صورة الأصل الذي ورد عليه وهو كتمان وتبديل اليهود إلى بقية صور الكتمان والتبديل : عموم محفوظ ، فكلها فروع عليه تحققت فيها علته فالمعنى المؤثر في وجود الحكم في الأصل قد تحقق في الفرع فصح القياس فمحل النزاع واحد ، كما هي الحال في زماننا في كثير من الأمصار ، خلافا لحمل العموم في الآية على مطلق الحقيقة وهو الكفر الأصغر قياسا على قول ابن عباس ، رضي الله عنهما ، فالمعنى المؤثر في وجود الحكم فيه لم يتحقق في محل النزاع ، وهو الصورة المعاصرة ، كما تقدم ، فبطل القياس لوجود الفارق فمحل النزاع مختلف ، فالأمر مطرد : فمتى اتحد محل النزاع صح العمل بعموم المعنى في القياس بتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتحقق العلة في الفرع تحققها في الأصل فذلك قياس صحيح لانتفاء الفارق بين الأصل والفرع ، ومتى اختلف محل النزاع لم يصح العمل بعموم المعنى لعدم تحقق العلة في الفرع تحققها في الأصل فذلك قياس فاسد لثبوت الفارق بين الأصل والفرع .

وهذا كله على القول بأن الآية لا تعم بلفظها ، وإنما تعم بمعناها بقياس الفروع الحادثة على السبب الذي وردت عليه ، وهو ، كما تقدم ، كتمان وتبديل اليهود والنصارى ، وأما على القول بأن الآية تعم بلفظها ، فوصف : "الكافرون" : جمع محلى بــ : "أل" ، والجمع مظنة العموم ابتداء ، فالتنكير مظنة الشيوع في جنس النكرة ، فإذا انضاف إليه التعريف بــ : "أل" صار نصا في العموم ، سواء أكانت للاستغراق الجنسي لعموم ما دخلت عليه ، أم للوصل لدخولها على الوصف فتؤول بالموصول فتقدير الكلام : فأولئك هم الذين كفروا ، فالموصول ، أيضا ، نص في العموم ، والقول بأنها للوصل مع دخولها على الصفة المشبهة : "الكافر" ، وهي مئنة من الثبوت ، فوصف الكفر لازم للذات إلا إن تحولت عنه إلى الإيمان فلا ينفك عنها في جميع أحوالها ولا يحدث لها أصله بتجدد أفعال الكفر وإن وقعت الزيادة فيه فتتعدد شعبه كما تتعدد شعب الإيمان ، فالإيمان والكفر كلاهما يزيد وينقص في الخارج وإن كان المعنى الكلي المطلق في الذهن واحدا ، وذلك حد الصفة المشبهة فهي تلازم الذات ولا تنفك عنها ، والفعل : "كفر" من وجه آخر : فعل لازم لا يتعدى بنفسه بل يتعدى بواسطة ، فيقال : كفر فلان بكذا ، ولا يقال : كفره ، فالصفة المشبهة ، كما تقدم ، مئنة من الثبوت لا من الحدوث كاسم الفاعل الذي يصاغ من الفعل المتعدي كــ : "سارق" من : "سرق" فمعنى الحدوث فيه حاصل ، فلا يسرق السارق في جميع أحواله ، وإنما يسرق بالفعل في بعض أوقاته ، وإن كان سارقا بالقوة في جميعها ! ، فالقول بأنها للوصل مع دخولها على ما هو مظنة الثبوت هو القول المرجوح في هذه المسألة ، فالأصل أنها تدخل على ما قارب الفعل في المعنى والعمل ، وهو اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المبالغة ، وكلها تصاغ من الأفعال المتعدية ، فتقاربها في معنى الحدوث فالفعل المتعدي فعل متجدد الآحاد ، حادث الأفراد في الخارج ، وتقاربها في العمل وإن كانت أضعف منها فهي فرع عليها ، والفرع أضعف في العمل من الأصل بداهة ، فهذا الأصل ، فلا تدخل على الصفة المشبهة لمخالفتها الفعل في المعنى ، فهي مئنة من الثبوت ، وهو مئنة من التجدد ، كما تقدم ، ومن جوز ذلك ، فقد نظر إلى أنها وإن خالفته في المعنى إلا أنها توافقه في العمل فترفع الضمير المستتر ، والضمير البارز ، والاسم الظاهر ، فأشبهته من هذا الوجه فصح ورودها صلة لـ : "أل" : لصحة تأويلها بالفعل كما حقق ذلك صاحب "منحة الجليل" ، رحمه الله ، في ثنايا كلامه النفيس في باب : "الموصول" ، (1/132) .

والشاهد أن العموم قد تحقق في الشطرين :
في الشرط : فــ : "مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ" ، نص في العموم ، كما تقدم ، وتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل "يحكم" : مئنة من العموم ، فمن لم يحكم مطلقا بما أنزل الله ، فيصح في كل من ترك جنس الحكم ولو بكتمان وتبديل حكم واحد فكيف بتغييب جملة عظيمة من الشرائع والأحكام ؟! ، وكيف باستبدال مدونات القانون الفرنسي والإنجليزي بها ، وإن صح ما يقوله المؤرخ الفرنسي "سيديو" من أن : "قانون نابليون منقول عن كتاب فقهي في مذهب مالك هو شرح الدردير على متن خليل" ، فقد تصرفوا فيها إضافة وحذفا ، فخرجت عن شريعة الرب ، جل وعلا ، وإن كانت ترجع في أصولها إليها ، فدين العرب قبل الإسلام يرجع في أصوله إلى دين الحنيفية ، ومع ذلك لم يصر العرب بتلك النسبة المجملة حنفاء بل كانوا مشركين عبادا للأوثان .

وفي الجواب : فــ : "فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" : نص في العموم على كلا الوجهين المتقدمين .
فيكون الأصل فيه ، كما تقدم ، حمله على الحقيقة المطلقة ، فيعمل بها حتى يرد الدليل المخصص الذي يصرف الحكم من الكفر الأكبر إلى الكفر الأصغر ، كما في أثر ابن عباس ، رضي الله عنهما ، فهو قرينة صرفت اللفظ من الحقيقة المطلقة إلى مطلق الحقيقة ، وليست صالحة ، كما تقدم ، لصرف اللفظ في صورة الكتمان والتبديل ، فمحل النزاع مختلف ، ولا يستدل بنص في غير محل النزاع فذلك من فساد الاستدلال بمكان .


وذلك بغض النظر عن الحكم على أعيان الحكام فذلك باب آخر يلزم لتحقيق مناطه في أفراد بعينهم استيفاء الشروط بإقامة الحجة الرسالية وانتفاء الموانع من جهل ....... إلخ من موانع تكفير المعين .

يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في بيان تفاضل الناس في العلم :
"وَلِهَذَا كَانَ الصَّوَابُ أَنَّ الْجَهْلَ بِبَعْضِ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُهُ كَافِرًا إذَا كَانَ مُقِرًّا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْلُغْهُ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَا جَهِلَهُ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كُفْرُهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْهُ كَحَدِيثِ الَّذِي أَمَرَ أَهْلَهُ بِتَحْرِيقِهِ ثُمَّ تَذْرِيَتِهِ" . اهــ
"الإيمان الأوسط" ، ص68 .

ويقول في بيان طريقته في هذا الباب الشائك :
"هَذَا مَعَ أَنِّي دَائِمًا وَمَنْ جَالَسَنِي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنِّي : أَنِّي مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ نَهْيًا عَنْ أَنْ يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى وَإِنِّي أُقَرِّرُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا : وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ . وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ" . اهــ

وليس الأمر على إطلاقه فلا يستوي من كان سائلا مسترشدا طالبا للحق فليس معرضا ، ومن أعرض عن طلب الحق وتعلمه .

قال القرافي ، رحمه الله ، في "الفروق" : "القاعدة الشرعية دلت على أن كل جهل يمكن المكلف دفعه لا يكون حجة للجاهل فإن الله تعالى بعث رسله إلى خلقه برسائله وأوجب عليهم كافة أن يعلموها ثم يعملوا بها فالعلم والعمل بها واجبان فمن ترك التعلم والعمل وبقي جاهلا فقد عصى معصيتين لتركه واجبين وإن علم ولم يعمل فقد عصى معصية واحدة بترك العمل ومن علم وعمل فقد نجا ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون)" . اهــ على كلام في صحة الحديث الذي استدل به القرافي رحمه الله .

فليس الجهل مرادا شرعيا ، وليس البقاء على وصفه والإخلاد إلى أرضه مع التمكن من رفعه ، ليس ذلك بعذر ، بل متى قامت الحجة وانتفت الشبهة ، أو كان المكلف قادرا على طلب الحجة فعنده من الدواعي ما يحمله على ذلك فداعي الفطرة في نفس كل مكلف يلح في طلب الحق بدليله الصحيح الصريح السالم من المعارضة ، وعنده من الفهم والإدراك ما يتصور به الحجة على وجه يحصل به البيان ، متى حصل شيء من ذلك فلا عذر بالجهل .

فالعذر بالجهل يتفاوت بتفاوت أحوال المعذور ، فقد لا يعذر إن أعرض واستكبر ، وقد يعذر بتأويل يرفع الحكم ولا يرفع الإثم كتأويل الخوارج فقد رفع حكم الكفر ولم يرفع إثم الفعل ، وقد يعذر بتأويل يرفع الحكم والإثم معا كحال من قال :
"إِذَا أَنَا مِتُّ فَأَحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ فِي الْبَحْرِ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبُنِي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا قَالَ فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ فَقَالَ لِلْأَرْضِ أَدِّي مَا أَخَذْتِ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ فَقَالَ لَهُ مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ قَالَ خَشْيَتُكَ أَوْ مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ فَغَفَرَ لَهُ لِذَلِكَ"
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"فَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ قَدْ وَقَعَ لَهُ الشَّكُّ وَالْجَهْلُ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ؛ بَعْدَ مَا أُحْرِقَ وَذُرِيَ وَعَلَى أَنَّهُ يُعِيدُ الْمَيِّتَ وَيَحْشُرُهُ إذَا فَعَلَ بِهِ ذَلِكَ وَهَذَانِ أَصْلَانِ عَظِيمَانِ : "أَحَدُهُمَا" : مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . وَ : "الثَّانِي" : مُتَعَلِّقٌ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ . وَهُوَ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ يُعِيدُ هَذَا الْمَيِّتَ وَيَجْزِيهِ عَلَى أَعْمَالِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا كَانَ مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ وَمُؤْمِنًا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ وَيُعَاقِبُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ عَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا - وَهُوَ خَوْفُهُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَى ذُنُوبِهِ - غَفَرَ اللَّهُ لَهُ بِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ" . اهــ

والشاهد أن العموم اللفظي قد عم غير السبب الذي ورد عليه عموم الآية ، فيدخل غيرهم معهم وإن كان دخولهم فيه آكد من دخول غيرهم ، ولو فرض جدلا بأن العموم اللفظي غير حاصل ، فالعموم المعنوي حاصل فالمعنى الذي علق عليه الحكم وهو : الحكم بغير ما أنزل الله ، جل وعلا ، مما يتعدى إلى غيرهم قديما وحديثا .

وتغييب الشرائع من النوازل الجليلة في زماننا ، ومن المسائل التي يحصل فيها الغلو والشطط ، لعدم تصور المسألة كما ينبغي ، فيحدث الخلط بين الحكم على الأفعال والحكم على الأعيان ، وتهون المسألة في نظر فئام من المسلمين ، مع عظم الجرم وفداحته ، ولو بتغييب حكم واحد ، ويحدث القصور في التصور من وجه آخر بقصر أحكام الشريعة على الحدود والجنايات ، وهي جزء رئيس ولكنه ليس الوحيد ، فقد تقام الحدود في بعض الأعصار والأمصار ، فيستوفى هذا الباب ، وتعطل أحكام الشريعة في أبواب أخرى ، فتعطل في أمور السياسة والحكم ، وذلك أمر قد وقع ولا زال في ممالك تحكم الشريعة إجمالا ، فحالها خير من حال من عطل الشريعة جملة وتفصيلا ، ولكنها مع ذلك تنقض حكم الشريعة في مسائل جليلة في السياسة والحرب ، في الولاء والبراء ، أوثق عرى الإيمان ، فلا تجد حرجا من مظاهرة الكفار على المؤمنين ! ، وذلك قصور فاحش في تصور معنى الشريعة الجامع لكل أحوال الأفراد والجماعات ، فتعم العلم والعمل ، العقائد والشرائع ، السياسات والأحكام ، الأخلاق والزهديات ، فتعم الشأن الخاص والعام ، المحلي والدولي ......... إلخ ، فلها في كل فعل حكم ، ولو إباحة ، ولها في كل نازلة قول فعمومها الزماني والمكاني محفوظ بحفظ الرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .

فالأمر ليس مجرد مادة تكتب في دساتير تنص على أن الشريعة هي المصدر الرئيس أو حتى الوحيد للتشريع ، وإنما الشأن أن يحصل التصور لهذا المعنى الجليل ، وأن يحصل تأويله في الأقوال والأفعال ، في حق الأفراد والجماعات ، فلا يكتفى بالنص دون تأويله في الخارج فذلك مما لا جدوى منه ، فــ :
الدعاوى إذا لم يقم عليـ ******* ها دليل فأصحابها أدعياء .

ودعوى المحبة إنما تصدق بالاتباع فــ : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .

والأمر ، كما تقدم ، مما لا ينال فيه الحق إلا باستعمال عين القدر وعين الشرع معا ، فشريعة الدين الخاتم : شريعة الجمال فلا تتشوف إلى تكفير الأعيان ! ، وهي مع ذلك شريعة الجلال فلا تجوز نقض عرى الإيمان ، والحق وسط بين طرفين ، فلا جفاء بالتفريط يؤدي بصاحبه في هذا الباب إلى الوقوع في مقالة الإرجاء ، ولا غلو بالإفراط يؤدي بصاحبه إلى مقالة الخروج والتكفير .

&&&&&


ومثله قوله تعالى : (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) :
فإن ذلك لا يعني قصر الحكم عليهم ، وإن كان لفظ الآية نازلا فيهم ، فذلك قد ثبت لغيرهم فهو من شرعنا ، وإن حكاه التنزيل شرعا لمن قبلنا على خلاف في هذه المسألة ، فقد حكاه شرعنا ولم يبطل حكمه بنسخ ، فذلك محل النزاع في أصل : شرع من قبلنا ، فمحل الاتفاق أن ما حكاه شرعنا وشهد له فهو منه فقد ثبت بنصه ، وما حكاه وأبطله بالنسخ أو التكذيب فهو مما انتحله القوم وألصقوه بالشرع المنزل وهو منه براء ، فليس منه فقد جاء بما يبطله كنسخ جواز عمل التماثيل في شريعة سليمان ، عليه السلام ، ونسخ تولي المرأة الولاية العامة على القول بأن ذلك كان جائزا في شريعة سليمان ، عليه السلام ، فأقر بلقيس ، عليها السلام ، على حكم اليمن إن صح الخبر فهو منسوخ بإجماع الأمة على منع ذلك وإن خالف في ذلك من خالف ، ولو كان من أهل الفضل والديانة ، فهو محجوج بالإجماع الذي يستند إلى دليل صحيح صريح ، فــ : "لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمْ امْرَأَةٌ" ولا يرد على ذلك ما نحن فيه من قصر عموم الحكم على صورة السبب فالنص هنا أيضا مئنة من العموم فتسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل : "يفلح" مئنة من العموم ، وورود النكرات : "قوم" ، و : "امرأة" في سياق نفي مئنة من العموم ، أيضا ، فيعم الحكم وإن ورد على سبب مخصوص فذلك ناسخ لجواز ذلك في شريعة سليمان عليه السلام إن صح النقل ، كما تقدم ، فبقيت صورة : ما حكاه شرعنا ولم يعرض له باعتبار أو إلغاء ، وإليه أشار ابن كثير رحمه الله بقوله :
"وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية ، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة .
وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة . رواه ابن أبي حاتم" . اهــ

فالراجح أنه شرع لنا ، فيعم بلفظه أو معناه ، وإن ورد على سبب خاص ، فإذا كان ذلك ثابتا في حقنا مع وروده في غيرنا فكيف بما ورد في حقنا ابتداء كيف يصح في الأذهان قصره على سبب نزوله فيفضي ذلك إلى تعطيل الشريعة جملة وتفصيلا ؟! .

وتفسير الحسن ، رحمه الله ، وإن لم يكن حجة ، على تفصيل في ذلك ، إلا أنه مما يستأنس به في بيان معاني التنزيل فلهم من قرب العهد بالنبوة ما يجعل أقوالهم أولى بالقبول من أقوال من جاء بعدهم من المتأخرين ، وإلى ذلك أشار ابن تيمية ، رحمه الله ، في "مقدمة في التفسير" بقوله :
"إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير ........ وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم ...... وقال شعبة بن الحجاج وغيره أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم وهذا صحيح أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك" . اهـ بتصرف

فيطلب المرجح من خارج ، من عمومات القرآن أو السنة أو معهود لسان العرب أو أقوال الصحابة ، رضي الله عنهم ، فذلك يشبه من وجه : ترجيح أحمد ، رحمه الله ، بين أقوال الصحابة ، رضي الله عنهم ، فيختار أقربها إلى عمومات الكتاب أو السنة ، وإلا حكاها أقوالا في مذهبه ، فتعددت روايات مذهبه من هذا الوجه فهو أكثر المذاهب رواية عن صاحب المذهب .

&&&&&


ومثله أيضا :
قوله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) :

فهي في حقهم ابتداء لورود النص على ذلك ، ولا يمنع ذلك من دخول غيرهم في عموم معناها ، كما أثر عن ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل . وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .

فيقال هنا أيضا : فكيف بما ورد في حقنا ابتداء ؟! .

&&&&&


ومثله حديث عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَقَالَ إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
فتعلق الحكم بوصفهم لا بأعيانهم ، فذلك مئنة من عموم المعنى وإن اختص أولئك بلفظ المبنى ، فهم شرار الخلق أصلا ومن كان على طريقتهم فغلا في الصور والمشاهد فهو لهم تبع ، وعليه يصدق وصفهم ، وإن لم يكن على دينهم ، فالأصل في نصوص الشريعة : العموم بمبناها أو معناها ، فالعموم المعنوي ، مما أثبته المحققون من أهل الأصول ، فالمعنى هو مناط الحكم إثباتا أو نفيا ، وجودا أو عدما ، فالأحكام لا تعلق بالأعيان ، فليس في الأعيان المحسوسة ما تناط به الأحكام المعقولة ، فعين أبي جهل لا تذم لذاتها ، فهي من جملة أعيان البشر ، وإنما تذم لما قام بها من معنى الكفر ، فهو معنى يصح تعليق الحكم عليه ، وهذا أصل في كل نصوص الشريعة ، إلا ما ثبت اختصاص عين به من خبر أو حكم لا يشاركها غيرها فيه ، كسائر خصائص النبوة ، فإباحة أكثر من أربع نسوة ، وإباحة الوصال في الصيام ...... إلخ ، مما لا يشرع الاقتداء فيه ، فذلك الاستثناء من الأصل ، فالأصل : المتابعة في الفعل والقصد ، فما فعله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على جهة القربة فقد شرع لنا فعله ، وما فعله جبلة فلا يشرع التعبد به فمعنى القربة فيه غير ظاهر ، وما فعله على جهة الاختصاص سواء أكان من العاديات أم الشرعيات فلا يشرع لنا أيضا التعبد به فهو مما اختص به صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يقاس عليه ، فــ : "َمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ كَانَ عِبَادَةً تُفْعَلُ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ وَمَا أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُقْتَضِي لَمْ يَكُنْ عِبَادَةً وَلَا مُسْتَحَبًّا . وَمَا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ بِهِ كَانَ مُبَاحًا ........ فـ : أَمَّا الْمُشَابَهَةُ فِي الصُّورَةِ مِنْ غَيْرِ مُشَارَكَةٍ فِي الْقَصْدِ وَالنِّيَّةِ فَلَا تَكُونُ مُتَابَعَةً . فَمَا فَعَلَهُ عَلَى غَيْرِ الْعِبَادَةِ فَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُتَابَعَةِ ؛ بَلْ مُخَالَفَةٌ" . اهــ

&&&&&


وكذلك الشأن في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا قَالَتْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا :
فإن من تمسك بخصوص السبب فقصر الحكم على اليهود والنصارى ، فقد أهمل عموم المعنى الذي علق عليه الحكم ، وهو اتخاذ قبور الأنبياء ، عليهم السلام ، مساجد فهو الوصف المؤثر في تعليل الحكم في هذا السياق بعينه لا أنهم يهود ونصارى ، فقد يلحقهم اللعن من وجوه أخرى كما في قوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ) ، وقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ الشُّحُومُ فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا" ، ولكن ورود الخبر : "اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا" ، عقيب الحكم على جهة الفصل : "لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى" ، فلا عاطف مئنة من التعليل فعلة الحكم هنا : اتخاذ قبور الأنبياء مساجد وذلك معنى يعمهم ويعم غيرهم ممن غلا في الأنبياء ، عليهم السلام ، وغلا في الصالحين من باب أولى ، فتوجه الإنكار إليه آكد ، فإذا ورد النهي عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد سدا لذريعة الغلو فيهم مع عظم فضلهم وعلو منزلتهم فكيف بمن دونهم وليسوا في الفضل والمنزلة مثلهم ، بل وكيف بمن ليس من الصالحين ولا من الأولياء ابتداء ممن عظم زورا بإقامة الأضرحة والمشاهد على قبره ؟! .

وسد الذرائع من وجه آخر أصل عام من أصول الأحكام مستنده جملة من النصوص من قبيل قوله تعالى : (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) ، فنهى عن سب آلهتهم سدا لذريعة سبهم للرب ، جل وعلا ، فهو مفسدة عظيمة تدرء بترك المصلحة الحاصلة بسب آلهتهم وبيان بطلانها .

قال الشاطبي ، رحمه الله ، في بيان هذا الأصل : "وبالجملة ، فكل عمل أصله ثابت شرعاً إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يخاف أن يعتقد أنه سنة ، فتركه مطلوب في الجملة أيضاً ، من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد الإحرام وقبل القراءة ، وكره غسل اليد قبل الطعام ، وأنكر على من جعل ثوبه في المسجد أمامه في الصف" . اهــ

وهذا أصل عند المالكية ، رحمهم الله ، عللوا به أقوالا للإمام ، رحمه الله ، من قبيل : كراهة صيام الست من شوال ، سدا لذريعة الزيادة في العبادة باعتقاد وجوب صيامها ، وذلك خلافا للجمهور فقولهم في هذه المسألة هو الراجح ، وكراهة المداومة على قراءة السجدة فجر الجمعة فتلك ذريعة إلى اعتقاد وجوب زيادة سجدة ثالثة في فجر الجمعة .

فإذا كان هذا في مشروع بل ومستحب صار ذريعة إلى أمر حادث لا أصل له في الشرع مع أنه لا يقدح في أصل الديانة ، فكيف بمحظور ابتداء يتذرع به إلى القدح في صلب الديانة فيقع صاحبه في الشرك تصريحا أو تلميحا ، بالغلو في صاحب سيرة مشبوهة أو ذات معدومة كحال كثير من سكان الأضرحة الموهومة ؟! .

ويقول في موضع تال :
"إن الذرائع في الحكم بمنزلة المتذرع إليه ........ وإنما يكون النهي بحسب ما يصير وسيلة إليه في مراتب النهي ، إن كانت البدعة من قبيل الكبائر ، فالوسيلة كذلك ، أو من قبيل الصغائر فهي كذلك" . اهــ بتصرف
فالمعنى المراد لذاته وهو الغاية يتعدى إلى الوسيلة فتأخذ حكمه إيجابا أو تحريما فيرجع ذلك من وجه إلى العموم المعنوي في القياس الشرعي ، فمعنى المحظور في كليهما حاصل ، وإن حصل في الغاية أصلا ، وفي الوسيلة تبعا .

ويقال أيضا ، من جهة قياس غلو المتأخرين على غلو المتقدمين من اليهود والنصارى ، بأن معنى سد الذرائع حاصل في الفرع حصوله في الأصل ، فيتعدى الحكم بعموم المعنى ، بل معنى الذم في هذه الصورة يتعدى إلى صور أخرى من الغلو ولو لم يكن فيها ما في الأصل من الغلو المفضي إلى الشرك ، فيتعدى إلى كل غلو حاصل في عالم أو فاضل ، كغلو مقلدة المذاهب قديما وغلو آحاد طلبة العلم في بعض الشيوخ في زماننا فقد أنزلوهم منزلة المعصومين بلسان الحال ، فيسع كثيرا منهم أن يخطئ مالكا والشافعي ، رحمهما الله ، بل والصديق والفاروق ، رضي الله عنهما ، فضلا عن أمثال النووي وابن حجر ، رحمهما الله ، وهما معدودان من جملة المجددين لمن أنصف في الحكم ، فقد صارا وغيرهما لموافقتهم المتكلمين في بعض مسائل أصول الدين ، صاروا كلأ مباحا لأعشار المتعلمين في زماننا ! ، فنبزوا بالبدعة ، فلم يميز أولئك الأغمار بين تلبس الإنسان ببدعة كلية ، بموافقة أصحابها في جملة من أصولها أو في أصل كلي جامع أو في جملة كثيرة من المسائل تصيره على طريقتهم في أغلب أحواله وبين موافقتهم في قول أو قولين أو أكثر من ذلك مع سلامة الأصول من شوب البدعة ، فضلا عما يلتمس للأفاضل من الأعذار في هذا الباب دون غلو بادعاء العصمة وإنما يبين الخطأ ويعتذر عن المخطئ فذلك مقتضى العدل في حق آحاد المسلمين فكيف بسادات المحققين ؟! ، وقد اعتذر أهل العلم عن أمثال الجويني والغزالي والرازي والبيضاوي ، رحمهم الله ، مع كثرة أخطائهم ، بل واعتذروا عن أمثال الزمخشري مع تلبسه بمقالة الاعتزال ومنافحته عنها وإدراجها في ثنايا كلامه في "الكشاف" على نحو دقيق يخفى على كثير ممن لا يعلم حقيقة مذهبه فيعتذرون عنه فهو إمام في البلاغة له فيها أياد بيضاء لا ينكرها إلا جاحد ويسألون الرب ، جل وعلا ، له المغفرة ، فكيف بأمثال النووي وابن حجر رحمهما الله ؟! ، فيسعه أن يخطئ كل أولئك ولا يسعه أن يخطئ شيخه مع تأخرة في الزمان والرتبة ! ، فذلك منشأ الشر في هذا العالم ، كما يقول بعض المحققين ، وهو مفض إلى تعدد المعصومين ! ، ورد الحق إن لم يكن من طريقهم ، وتلك ، عند التدبر والنظر ، صورة تحاكي صورة الغلو في الأحبار والرهبان والأئمة والشيوخ ...... إلخ من صور الغلو المذموم .


وقول عائشة رضي الله عنها : وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا : نص يحسم النزاع فهو نص في محله فالتحذير يتوجه بداهة إلى من جاء بعدهم ، وتفسير الصحابي لما قد يشكل في الخبر أولى بالقبول من تفسير غيره فهو أعلم الناس بمراد صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعنده من قرينة بساط الحال ، وقرينة صحة المقال ، فهم أعلم الناس بوجوه الكلام في لسان العرب ، عنده من ذلك ما ليس عند الخلف المتأخرين .

&&&&&


بل إن هذا الأمر يعم الأخبار كما يعم الأحكام ، لا سيما أخبار الأمم المكذبة فيجري فيها قياس الطرد والعكس ، فــ : "النبي صلى الله عليه وسلم كان يخبر بأخبار الأولين ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة" . اهــ من "الصفدية" ، (1/233) .

كما في قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ، فإن مفهوم القياس الطردي يعم غيرهم وإن كان الخبر نازلا فيهم ، فمن كذب فله ما لهم من العذاب ، وإن لم يلزم من ذلك أن يرسل عليه الطوفان ، فمعنى الذم إليه يتوجه ، وتكذيبه يصيره مثلهم : أهلا للخلود في العذاب الأليم .
ومفهوم القياس العكسي يدل على انتفاء الذم وارتفاعه في حق من خالفهم في الوصف فصدق ، فيكون له ضد الحكم : من المدح والخلود في النعيم لثبوت ضد الوصف في حقه ، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما دون التفات إلى أعيان المحكوم عليهم ، وذلك ، كما تقدم ، مئنة من جريان العموم المعنوي على ما ارتضاه المحققون من أهل الأصول وإن قصر الجمهور العموم على العموم اللفظي ، وهم ، مع ذلك لا ينكرون تعدي الحكم من الأصل إلى الفرع لعموم العلة الجامعة فيقولون بالعموم المعنوي ، في القياس ، وإن قصروا العموم في الاصطلاح على الألفاظ .

&&&&&


وكذلك الشأن في قوله تعالى : (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) : فالتذييل بقوله تعالى : (وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) : يدل على أن الحكم وإن ثبت في حقهم ابتداء إلا أنه قد يتعدى إلى غيرهم ، فــ : "يَبِيتُ قَوْمٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى طُعْمٍ وَشُرْبٍ وَلَهْو وَلَعِبٍ فَيُصْبِحُونَ قَدْ مُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ وَلَيُصِيبَنَّهُمْ خَسْفٌ وَقَذْفٌ حَتَّى يُصْبِحَ النَّاسُ فَيَقُولُ خُسِفَ اللَّيْلَةَ بِبَنِي فُلاَنٍ وَخُسِفَ اللَّيْلَةَ بِدَارِ فُلاَنٍ خَوَاصَّ وَلَيُرْسِلَنَّ عَلَيْهِمْ حَاصِبًا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أُرْسِلَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ عَلَى قَبَائِلَ مِنْهَا وَعَلَى دُورٍ وَلَيُرْسِلَنَّ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الَّذِي أَهْلَكَتْ عَادًا عَلَى قَبَائِلَ فِيهَا وَعَلَى دُورٍ بِشُرْبِهِمُ الْخَمْرَ وَلُبْسِهِمُ الْحَرِيرَ وَاتِّخَاذِهِمُ الْقَيْنَاتِ وَأَكْلِهِمُ الرِّبَا وَقَطِيعَتِهِمُ الرَّحِمَ" ، بل قد استأنس بذلك أبو حنيفة ، رحمه الله ، فالجزاء من جنس العمل ، كونا وشرعا ، فاستنبط العقوبة الشرعية لفاحشة قوم لوط من العقوبة الكونية ، فيلقى من شاهق ويتبع بالحجارة ، وهو استدلال دقيق يدل على ملكة فقهية راسخة .

&&&&&


بل ويعم الأفعال ، أيضا ، وإن كان جمهور الأصوليين على أن الفعل لا عموم له ، كما في صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الكعبة ، فتحتمل الفريضة وتحتمل النافلة ، وهي صلاة واحدة ، فلا عموم لها من هذا الوجه ، فلا يتصور أن تكون عين الصلاة الواحدة فريضة نافلة في نفس الوقت ، فالعين واحدة فلا يتصور اجتماع الضدين فيها من نفس الوجه في نفس الوقت ، بخلاف اجتماعهما من وجهين كالصلاة في الأرض المغصوبة فيثاب عليها من وجه أداء الفريضة ويعاقب عليها من جهة الغصب ، وبخلاف اجتماعهما في وقتين مختلفين كالمتعة ، فقد أذن فيها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وقت ثم نهى عنها في آخر ، فعين الفعل واحدة وقد تعلق بها الضدان : إباحة وتحريما في وقتين مختلفين فينسخ المتأخر وهو التحريم : المتقدم وهو الإباحة لتعذر الجمع بينهما فلا يجتمع الضدان من نفس الوجه في نفس الوقت كما تقدم ، وبخلاف وحدة الجنس فيتصور انصراف معنى الصلاة المطلق في الذهن إلى الفريضة أو النافلة فتنقسم في الخارج إلى فرائض ونوافل ، بل وتنقسم النوافل إلى راتبة ومطلقة ، ومشروعة في جماعة كقيام رمضان وغير مشروعة في جماعة كقيام الليل في غير رمضان فلا يشرع قصد الاجتماع عليه ........... إلخ والشاهد أن الأصل أن الفعل لا عموم له في نفسه ، ولكنه من جهة المعنى قد يعم ، فإن قيم المدرسة لو عاقب فلانا من الطلبة بالضرب فذلك فعل لا عموم له في نفسه ، ولكن عمومه المعنوي ، ثابت من وجه آخر ، فكل الطلبة يدركون أن من فعل مثل ما فعل ذلك الطالب فسيناله مثل ما ناله من العقوبة ، فهذا مقتضى الطرد ، ومن لم يفعل فلن يناله ، فهذا مقتضى العكس ، فهذا أمر بدهي ، يثبه القياس العقلي الضروري .

&&&&&


ومن فروع هذه المسألة ما نوه به أهل الأصول من القياس في اللغة ، فإن من يثبت القياس في اللغة فإنه يقول بعموم اللفظ ، ومن ينكره فإنه يرد الأمر في استنباط الحكم إلى عموم المعنى ، كحكم الخمر ، على سبيل المثال ، فإن منها أنواعا حادثة في زماننا ، وما أكثرها ! ، فمن قال بأن اسم الخمر يعمها ابتداء ، فإنه مئنة من كل ما خامر العقل وخالطه ، فمن قال بذلك فقد كفي مؤنة القياس الشرعي ، فاللفظ ابتداء يعم كل مسكر ، فهذا عموم اللفظ ، ومن نفى القياس في اللغة فإنه يرد الأمر إلى القياس الشرعي ، برد النوع الحادث إلى النوع القديم الذي ورد عليه عموم الأمر بالاجتناب في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، فعموم المعنى المؤثر ، وهو الإسكار ، يشمل الفرع شموله للأصل فيلحق به في الحكم ، فهذا عموم المعنى ، وعلى كلا الوجهين تبطل شبهة العلمانيين فالنصوص دالة على الأحكام بعمومها اللفظي أو المعنوي ، فلا يقول عاقل ، كما تقدم ، بتخصيص عمومات النصوص بالأسباب التي وردت عليها إلا ما استثني بدليل صحيح صريح سالم من المعارضة .

ففائدة الخلاف في هذه المسألة أنه إذا ثبت القياس اللغوي فقد كفي المستدل مؤنة القياس الشرعي فإن اللفظ إن دل بمادته على معنى بعينه وجاز إلحاق غيره به في المبنى اللفظي لتحقق المعنى الذي علق عليه الاسم في الفرع المقيس ، فقد شمله بالوضع فأخذ جميع أحكامه الشرعية وذلك يتصور بداهة في الأسماء المشتقة التي يظهر للناظر فيها وجه تعلق المعنى بالمبنى ، فيصح القياس على ذلك ، كلفظ الخمر إن نظر إلى معنى تخمير العقل وتغطيته فيها ، فإنه معنى يعم كل المسكرات ، فمن جوز القياس اللغوي فإنه يطلق اسم الخمر على كل ما خامر العقل فلا يخصه بالخمر المعهودة ، بل هو عام في كل ما تحقق فيه الوصف الذي اشتق منه لفظها ، فيأخذ أحكامها ابتداء دون حاجة إلى القياس الشرعي ، إذ اسم الخمر الذي علق عليه حكم الحرمة قد شمله بالقياس اللغوي ، ومن أنكر ذلك فإنه لا يحكم للفرع بحكم الأصل إلا بالقياس الشرعي لاختلاف الأعيان ، فعين الخمر غير عين المسكر ، فلزم النظر في العلة المؤثرة في التحريم لتعديتها إلى كل عين تتحقق فيها ، فيكون مرد القياس إلى المعنى دون اللفظ إذ لم يشمل اللفظ الفرع المقيس ابتداء كما في القياس اللغوي .
وعليه تخرج مسألة كالنهي عن سب الوالدين فرعا على النهي عن قول أف لهما ، فذلك ثابت بقياس الأولى على الأصل إذ النهي عن الأدنى يستلزم ضرورة النهي عن الأعلى ، فمن أنكر القياس الشرعي فإنه يلجأ إلى القياس اللغوي فيوسع دائرة التأفف اللفظي لتعم كل مستكره من قول أو فعل فتصير داخلة في حد النهي ابتداء دون حاجة إلى قياس .

ومرد الأمر في كلا الوجهين عند النظر والتأمل إلى المعني ، فالقياس اللغوي يعتمد المعنى في إلحاق الفرع المقيس بالأصل المقيس عليه فلم يلحق أي عين أخرى باسم الخمر إلا إذا تحقق وصف الإسكار فيها ، والقياس الفقهي يعتمد المعنى أيضا فالعلة كما عرفها الأصوليون : وصف ظاهر منضبط يصح تعليق الأحكام عليه وجودا وعدما ، فلن يلحق الفقيه أي مسكر بالخمر في حكم الإسكار ، لا في لفظه وهذا هو الفارق الوحيد تقريبا بين قياس اللغوي وقياس الفقيه ، لن يلحقه إلا إذا تحقق وصف الإسكار المؤثر فيه ، فوصف الإسكار هو المؤثر في كلا الحالين فبه يلحق اللغوي غير الخمر بها في اسمها ، وبه يلحق الفقيه غير الخمر بها في حكمها .

بتصرف واسع من : "مذكرة في أصول الفقه" ، ص207 ، 208 .

&&&&&

ومن فروع هذه المسألة أيضا :
قول صاحب "إيثار الحق" رحمه الله :
"العموم الوارد على سبب مختلف في تعديه عن سببه وهو نص في سببه ظني في غيره وقد يقصر عليه بالإجماع كما ثبت في قوله تعالى في ذم الذين يفرحون بما أتوا عن ابن عباس : أنها نزلت في اليهود وفرحهم بما أتوا من التكذيب بالحق فلولا ذلك أشكلت وتناولت من فرح بما عمله من الخير وقد صح أن المؤمن من سرته حسنته وساءته سيئته والفرح بالخير والطاعة من ضروريات الطباع والعقول" . اهــ

فاعتبر ، رحمه الله ، صورة السبب هنا مخصصة لعموم الحكم ، فذلك دليل يصح العدول به عن الأصل ، وقد يقال ، والله أعلم ، بأن المعنى يعم غيرهم ، أيضا ، فكل من أحب أن يحمد بما لم يفعل فله نصيب من الذم الوارد في الآية ، وإن لم يلزم من ذلك أنه على طريقتهم في الاعتقاد فيكون كافرا مثلهم ، بل قد يناله الذم ، وهو مؤمن ، وإن نقص إيمانه بهذه المعصية فيدخل في عموم الذم في نحو قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ" ، فذلك عموم آخر علق فيه الحكم على وصف فيعم كل من تحقق فيه الوصف سواء أكان مؤمنا فينقص إيمانه بذلك أم كافرا فيزداد به سوأة إلى سوءاته .

وقد يقال أيضا ، والله أعلم ، أن الفرح معنى كلي فمنه المحمود كفرح المؤمن بعمله لا على جهة العجب وإنما على جهة الشكر للرب ، جل وعلا ، ومنه المذموم كفرح المعجب أو الفرح الوارد في الآية ، أو الفرح المنهي عنه في قوله تعالى : (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ، فعموم النهي هنا ، أيضا ، يعم غير قارون ، وإن ورد على سببه فهو أولى الناس بالدخول فيه ، وذلك مما قد يستأنس به من يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا فقد حكي النهي على لسان الذين أوتوا العلم ممن كان قبلنا ، فصار شرعا لنا فهو من جملة المنهيات التي أجمعت الشرائع بل والعقول الصريحة والفطر السوية على قبحها .

فيكون كل فرح بحسب السياق الذي يرد فيه وينحل الإشكال والله أعلم .

&&&&&

ومن فروعها أيضا : عموم الاستدلال فيصح الاستدلال بعمومات لفظية وردت على سبب ، أو خصت بنوع من أنواع العام ، يصح الاستدلال بها في غيرها من الأنواع ، بل ويصح الاستدلال بها في ضدها ، فيستدل بها من وجه دون آخر ، كالاستدلال بآيات نزلت في الكفار في حق بعض المؤمنين ، بالنظر إلى عموم المعنى ، فلا يلزم من ذلك بداهة تطابق الحالين ، بل ذلك ممتنع بداهة ، فليس المؤمن كالكافر ، وإن اشتركا في وصف أو فعل ، فذلك اشتراك عارض لا يسوغ القول بالتماثل من كل وجه ، فيجري مجرى الاشتراك المعنوي في معنى كلي بعينه فلا يلزم منه الاشتراك في بقية المعاني ، فمن ذلك حديث عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَام لَيْلَةً فَقَالَ أَلَا تُصَلِّيَانِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ حِينَ قُلْنَا ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ : {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} ، فالإنسان في الآية إما أن يراد به جنس النوع الآدمي ، فتكون "أل" بيانية للجنس والماهية مستغرقة لعموم أفراد ما دخلت عليه فلا يكون في الاستدلال بها ما يشكل ، وإما أن يراد به الكافر فتكون "أل" : عهدية تشير إلى نوع بعينه ، فيصح الاستدلال بها في حق علي ، رضي الله عنه ، ولا يلزم من ذلك بداهة أنه كافر ! ، بل ذلك مما يمتنع بداهة ! ، فالاشتراك العارض في معنى الجدل ، فهو مما جبل عليه عموم البشر ، لا يلزم منه الاشتراك في معنى الكفر أو في أي معنى آخر ، فمن الصفات ما يعم بمعناه فهو مما ركز في جميع أفراد النوع الإنساني ، ومنها ما يختص بأفراد دون غيرهم فهو نوع يندرج تحت الجنس الأعلى ، فالإنسان جنس عام ، والمؤمنون والكفار : نوعان يندرجان تحته فلا يلزم من اشتراكهما في الجنس الأعلى والوصف الأعم وهو وصف الإنسانية اشتراكهما في النوع والوصف الأخص وهو الديانة ، فيصح الاستدلال بعموم المعنى من وجه دون آخر .

فعموم معنى الجدل يصح الاستدلال به في حق جميع البشر ، فهو مما ركز في الفطر ، خلافا لعموم معنى الكفر فلا يعم إلا أفرادا بعينهم يندرجون تحت نوع مخصوص من أنواع الجنس البشري هو نوع الكفار ، فحصل الاشتراك في الجنس الأعلى دون النوع الأخص ، فالجدل حاصل في كل أفراد الجنس الأعلى والكفر مخصوص بنوع من أنواعه فلا يدخل فيه آحاد المؤمنين فكيف بسيد من ساداتهم ؟! ، فدخوله فيه ممتنع من باب أولى .

&&&&&

فتلك الفروع تعمها النصوص بمعناها وإن لم تعمها بمبناها ، فلا يتصور أن تستوفي نصوص الشريعة أعيان الحوادث فهي لا تتناهى ، والنصوص قد تناهت بقبض صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فليس ثم بد من القياس ، وهو ، كما تقدم ، صورة من صور العموم المعنوي ، فدائرة المعنى المؤثر الذي أنيط به حكم الفرع المنصوص عليه تتسع لتعم غير المنصوص عليه من الفروع الحادثة والنوازل المستجدة ، وذلك مئنة من إحكام الشريعة الخاتمة ، فنصوصها مرنة بلا تساهل يؤدي بصاحبه إلى التفريط في الأحكام والخروج عن مقتضى الأديان بذريعة التوسط والاعتدال كما يقع من كثير من المفتين في زماننا أرادوا الخير أو الشر ، فمنهم أهل فضل أرادوا التيسير فأتوا بجملة من العجائب ومنهم أهل شر وسوء أرادوا التضليل فكتموا العلم مداهنة لأئمة الجور وشاهد الحال يغني عن كل مقال ، والشاهد أن هذه الشريعة الكاملة تصلح لكل عصر ومصر بما أودع الرب ، جل وعلا ، فيها من حيوية المعنى ، وهو أمر شهد به المنصفون من القانونيين رغم أنف العلمانيين ، فمن شهاداتهم :
شهادة مؤتمر "لاهاي" للقانون المقارن ، وقد جاء فيه :
أولا : اعتبار الشريعة الإسلامية مصدرا من مصادر التشريع العام ، (وفي هذا من التجوز ما فيه فهي المصدر الوحيد عند أهل الإسلام ، بل وعند عامة العقلاء ممن يحسنون النظر والحكم فلا شريعة أكمل وأحكم منها لمن تدبر نصوصها وتأمل مناطات أحكامها ، وذلك أمر لا يحصل ابتداء وإنما يحصل بتأمل كليات الشريعة وتتبع فروعها ، وإنما المراد هنا الاستدلال بعموم كلامهم دون الوقوف على آحاد ألفاظهم ففيها ما لا يسلم لهم به) .
ثانيا : وأنها حية قابلة للتطور ، (مع التحفظ على وصف التطور فهو مئنة من تغير الأصول ، فالمعنى الأليق الذي يوافق نصوص شريعتنا : التجدد ، فهي حية متجددة باستيعابها للنوازل الحادثة ، وإقامة الرب ، جل وعلا ، للأمة الخاتمة من يجدد أمر دينها ، فــ : "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها") .
ثالثا : وأنها شرع قائم بذاته ليس مأخوذا من غيره ، (وفي هذا رد لفرية من زعم أن الشريعة الخاتمة مأخوذة من شرائع الفرس والرومان ، فمن أين للنبي الأمي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعلوم الأولين ، فــ : "مَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ") .

وفي أسبوع الفقه الإسلامي الذي عقد في العاصمة الفرنسية باريس سنة 1950 م وقف نقيب سابق للمحامين في باريس فقال :
"أنا لا أعرف كيف أوفق بين ما كان يحكى عن جمود الفقه الإسلامي ، وعدم صلوحه أساسا تشريعيا يفي بحاجات المجتمع العصري المتطور ، وبين ما نسمعه الآن في المحاضرات ، ومناقشاتها ، مما يثبت خلاف ذلك تماماً ببراهين النصوص والمبادىء" . اهــ
فذلك ، عند التدبر والنظر ، يصب في قناة إعجاز الوحي التشريعي فهو معدود في جملة دلائل النبوة الخاتمة .

ويقول الدكتور "إيزكو إنساباتو" : "إن الشريعة الإسلامية تفوق في كثير من بحوثها الشرائع الأوربية ، بل هي تعطي للعالم أرسخ الشرائع ثباتاً" .

والصحيح أنها في تفوق الشرائع الأوروبية في كل بحوثها لا في كثير منها فذلك راجع إلى نقص في استقرائه لأحكام الشريعة الخاتمة .

ويقول العلامة "شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا" في مؤتمر الحقوق سنة 1927 م : "إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد صلى الله عليه وسلم إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة" .
ويقول الفيلسوف الإنكليزي "برنارد شو" : "لقد كان دين محمد صلى الله عليه وسلم موضع تقدير سامٍ لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة ، وأنه الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة ، وأرى واجباً أن يدعى محمد صلى الله عليه وسلم منقذ الإنسانية ، وإن رجلاً كشاكلته إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته" .
بتصرف من : "الإسلام : شريعة الزمان والمكان" ، ص74_79 .

والاستدلال بذلك إنما يجري مجرى قول القائل :
ومليحة شهدت لها ضراتها ******* والفضل ما شهدت به الأعداء
ففي كلام ربنا ، جل وعلا ، وكلام نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وكلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين ، في كل أولئك عن مدحهم وثنائهم غنية .

فلا تنقضي استنباطاتها ، بل لم يزل لكل فرع حادث أصل يأرز إليه ، فيقاس عليه بجامع العلة التي يتسع عمومها لأفراد كثيرة ، فشرطها العموم والتعدي ، فتتعدى إلى غير الأصل وتعم جملة عظيمة من الفروع تتفاوت أنظار المجتهدين فيها ، فمنهم من يدخلها في العموم ، ومنهم من يخرجها فالقياس عنده فاسد لوجود الفارق بين الأصل والفرع ، وذلك من رحمة الرب ، جل وعلا ، بالأمة الخاتمة ، فوقوع الخلاف السائغ في فروع الشريعة مئنة من التيسير فلا تثريب على من بذل جهده واستفرغ وسعه في معرفة الحق بدليله برسم الاجتهاد أو الاتباع ، ولا تثريب ، من باب أولى ، على من عجز عن ذلك لعدم اكتمال الآلة النظرية ، فـ : (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، فتحرى في اختيار مفتيه ، فسأل الأورع الأعلم ، فهو الفقيه الأمثل ، فلا يكون فقه بلا ورع ، ولذلك اشترط في المفتي العدالة ، وإن لم تشترط في المجتهد ، فمرد ذلك إلى اجتهاده في حق نفسه ، فلا يستفتى ، وإن كان مجتهدا ، فليس له من الورع ما يحول بينه وبين كتمان الحق ، وتلك حال كثير من المجتهدين في تحصيل مسائل العلم دون تأويل لها في الخارج بعمل صالح ، و : "كل علم وعمل لا يزيد الإيمان واليقين قوة فمدخول وكل إيمان لا يبعث على العمل فمدخول" ، كما ذكر صاحب "الفوائد" رحمه الله .

والعقول محجوبة عن الحقائق الإلهية فذلك مما لا ينال إلا من مشكاة الرسالة السماوية ، فقد جاءت بما حير العقول كنهه وإن لم تحله فهو طور فوق طور العقل لا ينال بقياس أو ذوق ، وإنما ينال ، كما تقدم ، باقتفاء آثار الرسالة ، فــ : (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) ، فيحصل بالطاعة تصديقا للخبر وتأويلا للحكم بالامتثال للأمر والنهي ، يحصل بها الهداية بيانا للحق بدليله ، فذلك هو حد العلم حقا ، كما حكى بعض أهل العلم ، فــ : "أجمع الناس على أن المقلد ليس معدودا من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله" ، قال ابن القيم ، رحمه الله ، في "إعلام الموقعين" عقيبه : "وهذا كما قال أبو عمر رحمه الله تعالى ، (وهو حافظ المغرب ابن عبد البر رحمه الله) ، فإن الناس لا يختلفون أن العلم هو المعرفة الحاصلة عن الدليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد" . اهــ ، فيحصل التصور للمعلوم في الذهن بدرك معناه ويحصل العلم بحكمه فهو فرع عليه ، ولا ينال الحكم في الشرعيات إلا من علوم النبوات لا سيما في باب الإلهيات ، فلا مجال للعقل فيها فالقياس فيها يمتنع ، كما أشار إلى ذلك ابن عبد البر ، رحمه الله ، بقوله : "لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السنة وهم أهل الفقه والحديث في نفي القياس في التوحيد وإثباته في الأحكام" . اهــ ، والقاضي أبو يوسف ، رحمه الله ، فيما نقله عنه صاحب "الحجة في بيان المحجة" ، رحمه الله ، فــ : "ليس التوحيد بالقياس ، ألم تسمع إلى قول الله عز وجل في الآيات التي يصف بها نفسه أنه عالم قادر قوي مالك ، ولم يقل إني قادر عالم لعلة كذا أقدر ، ولسبب كذا أعلم ، ولهذا المعنى أملك ، فلذلك لا يجوز القياس في التوحيد ، ولا يعرف إلا بأسمائه ولا يوصف إلا بصفاته" ، والخطيب البغدادي ، رحمه الله ، في "الفقيه والمتفقه" بقوله : "فالقياس في التوحيد على ضربين : ضرب هو القياس الصحيح وهو : ما استدل به على معرفة الصانع تعالى وتوحيده , والإيمان بالغيب , والكتب , وتصديق الرسل , فهذا قياس محمود فاعله , مذموم تاركه والضرب الثاني من القياس في التوحيد : هو القياس المذموم الذي يؤدي إلى البدع والإلحاد , نحو تشبيه الخالق بالخلق , وتشبيه صفاته بصفات المخلوقين , ودفع قايسه ما أثبت الله تعالى لنفسه , ووصفته به رسله مما ينفيه القياس بفعله" . اهــ

فالقياس المحمود هو قياس الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق في معاني الكمال المطلق دون خوض في الكنه والكيفية فلا يعلمها إلا رب البرية ، جل وعلا ، فتثبت له ، عز وجل ، من باب أولى ، ويحصل الاشتراك في المعنى الكلي المطلق في الذهن دون الحقيقة الجزئية المقيدة في الخارج ، ومنه ما كان من قبيل الاستدلال بالمصنوع على الصانع فهو من قبيل قول القائل :
"البعرة تدل على البعير وآثار الخطا تدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج كيف لا تدل على العلي الكبير" .
فاستدل بالأثر على المؤثِّر ، وبالمسبَّب على السبب ، وباللازم الناشئ عن الملزوم الذي ينشأ عنه ، فينشأ الكون بكلمات التكوين النافذة ، فهي سبب وجوده وعلة صدوره .

وأما القياس المذموم فهو قياس الخالق على المخلوق في حقائق الذات والوصف ، فلا يقاس غائب على شاهد ، ولا أول على حادث ، في قول أو فعل ، في شرع أو حكم ، فذلك من القياس مع الفارق ، وإن صح للعقل عمل في هذا الباب ، فهو درك المعاني الكلية دون الحقائق الخارجية فلا يعلم كنه ذات وصفات رب البرية ، جل وعلا ، إلا هو ، وقياس الأولى فله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فما ثبت من كمال مطلق للمخلوق فثبوته للخالق ، جل وعلا ، واجب ، من باب أولى ، فخالق الكمال المطلق ومبدعه أحق بالاتصاف به على الوجه اللائق بجلاله ، فوصفه أول غير مخلوق ووصف غيره حادث مخلوق ، فإن حصل الاشتراك ففي المعنى الكلي في الذهن لا في الحقيقة في الخارج ، فحقائق الإلهيات عن عقول البشر قد احتجبت ليحصل الابتلاء بالإيمان بالغيب فهي أعظم الغيوب وأشرفها ، وأما في الحكميات ، محل البحث ، فالأمر أوسع والقياس أعم ، فيجري فيها قياس التمثيل برد الفرع إلى الأصل عقيب تصور المعنى الجامع ، فالحكم على الشيء فرع على تصوره ، فالعقل يتصور حقيقة الفرع فهو من جملة مداركه ، فيدرك المسكر الحادث ، على سبيل المثال ، فهو مما يدرك بآلات الحس الظاهر ، ويدرك المعنى المؤثر في تعليل حكم الأصل وهو الإسكار ، فله حد في العرف والعادة إذ لا حد له في الشرع فيجري مجرى سائر الحقائق العرفية ، كما نوه بذلك في "مجموع الفتاوى" بقوله : "وَالْأَصْلُ بَقَاءُ اللُّغَةِ وَتَقْرِيرُهَا ؛ لَا نَقْلُهَا وَتَغْيِيرُهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَدٌّ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ إلَى عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ" . اهــ ، ويدرك تحقق هذا المعنى في الفرع الحادث فتكتمل صورة الاستدلال الصحيح برد الحادث إلى القديم ، برسم الافتقار إلى الوحي فهو معدن العصمة نقلا فنصه صحيح ، وعقلا ، فقياسه صريح ، فذلك حد العلم حقا لا التقليد الأعمى برسم الاقتفاء لآثار الآباء والجداد بلا دليل من نقل ، أو برهان من عقل ، فــ : (إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) .

وقصر العمومات على أفراد بعينهم ملمح استدلالي اقتبسه أصحاب الفكر العلماني حديثا من أصحاب الفكر الباطني قديما ، كما أشار إلى ذلك في "مقدمة التفسير" بقوله :
"إنه لسبب تطرف هؤلاء وضلالهم دخلت الرافضة الإمامية ثم الفلاسفة ثم القرامطة وغيرهم فيما هو أبلغ من ذلك وتفاقم الأمر في الفلاسفة والقرامطة والرافضة كقولهم : { تبت يدا أبي لهب } : هما أبو بكر وعمر ، و : { لئن أشركت ليحبطن عملك } أي بين أبي بكر وعمر وعلي في الخلافة ، و : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } هي عائشة ، و : { قاتلوا أئمة الكفر } طلحة والزبير ، و : { مرج البحرين } علي وفاطمة ، و : { اللؤلؤ والمرجان } الحسن والحسين ، و : { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } في علي ين أبي طالب ، و : { عم يتساءلون * عن النبإ العظيم } علي بن أبي طالب ، و : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } هو علي ويذكرون الحديث الموضوع بإجماع أهل العلم وهو تصدقه بخاتمه في الصلاة ، وكذلك قوله : { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة } نزلت في علي لما أصيب بحمزة .
وما يقارب هذا - من بعض الوجوه ما يذكره كثير من المفسرين في مثل قوله : { الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } أن الصابرين رسول الله والصادقين أبو بكر والقانتين عمر والمنفقين عثمان والمستغفرين علي وفي مثل قوله : { محمد رسول الله والذين معه } أبو بكر { أشداء على الكفار } عمر { رحماء بينهم } عثمان { تراهم ركعا سجدا } علي وأعجب من ذلك قول بعضهم : { والتين } أبو بكر { والزيتون } عمر { وطور سينين } عثمان { وهذا البلد الأمين } علي وأمثال هذه الخرافات التي تتضمن تارة تفسير اللفظ بما لا يدل عليه بحال فإن هذه الألفاظ لا تدل على هؤلاء الأشخاص وقوله تعالى { والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا } كل ذلك نعت للذين معه وهي التي يسميها النحاة خبرا بعد خبر والمقصود هنا أنها كلها صفات لموصوف واحد وهم الذين معه ولا يجوز أن يكون كل منها مرادا به شخص واحد وتتضمن تارة جعل اللفظ المطلق العام منحصرا في شخص واحد كقولهم إن قوله : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } أريد بها علي وحده وقول بعضهم : إن قوله { والذي جاء بالصدق وصدق به } أريد بها أبو بكر وحده ، وقوله : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أريد بها أبو بكر وحده ونحو ذلك" . اهــ
فذلك تحكم محض بقصر دلالة العموم الشمولية على فرد بعينه دون دليل صارف فقد يرد العموم ويراد به الخصوص ، ولكن القرينة تشهد لذلك ، كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ، فأريد بلفظ "الناس" الأول : نعيم بن مسعود ، وأريد بلفظ "الناس" الثاني : أبو سفيان ، وقرينة السياق التاريخي عقيب غزوة أحد وهي من الخبر الذي لا يحتمل الكذب ، تقصر العموم على فرد بعينه ، كما أشار إلى ذلك البغوي ، رحمه الله ، بقوله : "وأراد بالناس : نعيم بن مسعود ، في قول مجاهد وعكرمة فهو من العام الذي أريد به الخاص كقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم وحده ، وقال محمد بن إسحاق وجماعة : أراد بالناس : الركب من عبد القيس ، { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ } يعني أبا سفيان وأصحابه" . اهــ

وقال في "الصواعق" : "وأكثر طوائف أهل الباطل ادعاء لتخصيص العمومات هم الرافضة فقل أن تجد في القرآن والسنة لفظا عاما في الثناء على الصحابة إلا قالوا هذا في علي وأهل البيت وهكذا تجد كل أصحاب مذهب من المذاهب إذا ورد عليهم عام يخالف مذهبهم ادعوا تخصيصه وقالوا أكثر عمومات القرآن مخصوصة وليس ذلك بصحيح بل أكثرها محفوظة باقية على عمومها" . اهــ

فطرق من أحدث في الديانة في علم أو عمل :
إما الاستدلال بالعمومات المطلقة في موضع يفتقر إلى دليل خاص ، كمن يستدل ، على سبيل المثال على طريقة الذكر الجماعي الحادثة ، بعموم قوله تعالى : (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) ، فيستدل بالأعم على الأخص ، والأخص يفتقر إلى دليل بعينه يكون نصا في محل النزاع .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"شَرْعُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْعَمَلِ بِوَصْفِ الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا بِوَصْفِ الْخُصُوصِ وَالتَّقْيِيدِ ؛ فَإِنَّ الْعَامَّ وَالْمُطْلَقَ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا يَخْتَصُّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ وَيُقَيِّدُ بَعْضَهَا فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْخُصُوصُ وَالتَّقْيِيدُ مَشْرُوعًا ؛ وَلَا مَأْمُورًا بِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْأَدِلَّةِ مَا يَكْرَهُ ذَلِكَ الْخُصُوصَ وَالتَّقْيِيدَ كُرِهَ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَا يَقْتَضِي اسْتِحْبَابَهُ اُسْتُحِبَّ وَإِلَّا بَقِيَ غَيْرَ مُسْتَحَبٍّ وَلَا مَكْرُوهٍ .

مِثَالُ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ دُعَاءَهُ وَذِكْرَهُ شَرْعًا مُطْلَقًا عَامًّا . فَقَالَ : { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } وَقَالَ : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ النُّصُوصِ فَالِاجْتِمَاعُ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ ؛ أَوْ زَمَانٍ مُعَيَّنٍ ؛ أَوْ الِاجْتِمَاعِ لِذَلِكَ : تَقْيِيدٌ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ بِخُصُوصِهِ وَتَقْيِيدِهِ لَكِنْ تَتَنَاوَلُهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى اسْتِحْبَابِ ذَلِكَ كَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ ؛ أَوْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الْمَشْرُوعَيْنِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ؛ وَالْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَطَرَفَيْ النَّهَارِ ؛ وَعِنْدَ الطَّعَامِ وَالْمَنَامِ وَاللِّبَاسِ ؛ وَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ ؛ وَالْأَذَانِ وَالتَّلْبِيَةِ وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْوَصْفُ الْخَاصُّ مُسْتَحَبًّا مَشْرُوعًا اسْتِحْبَابًا زَائِدًا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ الْعَامِّ الْمُطْلَقِ ................ وَإِنْ دَلَّتْ أَدِلَّةُ الشَّرْعِ عَلَى كَرَاهَةِ ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا مِثْلَ اتِّخَاذِ مَا لَيْسَ بِمَسْنُونِ سُنَّةً دَائِمَةً ؛ فَإِنَّ الْمُدَاوَمَةَ فِي الْجَمَاعَاتِ عَلَى غَيْرِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَةِ بِدْعَةٌ كَالْأَذَانِ فِي الْعِيدَيْنِ وَالْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ......... وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى الِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ ؛ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ ذِكْرٍ كُلَّ لَيْلَةٍ ؛ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ مُضَاهَاةَ غَيْرِ الْمَسْنُونِ بِالْمَسْنُونِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْآثَارُ وَالْقِيَاسُ . وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخُصُوصِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ بَقِيَ عَلَى وَصْفِ الْإِطْلَاقِ كَفِعْلِهَا أَحْيَانًا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُدَاوَمَةِ مِثْلَ التَّعْرِيفِ أَحْيَانًا كَمَا فَعَلَتْ الصَّحَابَةُ وَالِاجْتِمَاعِ أَحْيَانًا لِمَنْ يَقْرَأُ لَهُمْ أَوْ عَلَى ذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ ؛ وَالْجَهْرِ بِبَعْضِ الْأَذْكَارِ فِي الصَّلَاةِ كَمَا جَهَرَ عُمَرُ بِالِاسْتِفْتَاحِ وَابْنُ عَبَّاسٍ بِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ . وَكَذَلِكَ الْجَهْرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَحْيَانًا" . اهــ بتصرف من "مجموع الفتاوى" .

وإما تخصيص العمومات بأفراد بأعيانهم ، كما تقدم في أمثلة التفسير الباطني ، في تحكم محض لا دليل عليه من نقل أو عقل وإنما محض افتراء .

فكذلك حال العلمانيين فإنهم يقصرون عموم النصوص لا سيما نصوص الأحكام على أسباب نزولها أو أعيان من نزلت فيهم ، فإبطالها بادعاء تخصيصها مرادهم الأول فبه يتوصلون إلى إبطال عموم الشريعة فقد نسخت بانقطاع الوحي وصارت آثارا كآثار اليهود والنصارى ، فلا يصح التعبد بشريعة منسوخة ، وذلك إنما يصح في شرائع المتقدمين لا في الشريعة الخاتمة ، شريعة رب العالمين النازلة برسم الحفظ فــ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .

فهي شريعة العدل والرحمة ، شريعة كل عصر ومصر ، شريعة الزمان والمكان كما سماها الشيخ الدكتور عبد الله ناصح علوان رحمه الله ، فــ : "تأمل حكمته تبارك وتعالى في إرسال الرسل في الأمم واحدا بعد واحد كلما مات واحد خلفه آخر لحاجتها إلى تتابع الرسل والأنبياء لضعف عقولها وعدم اكتفائها بآثار شريعة الرسول السابق فلما انتهت النبوة إلى محمد بن عبد الله رسول الله ونبيه أرسله إلى أكمل الأمم عقولا ومعارف وأصحها أذهانا وأغزرها علوما وبعثه بأكمل شريعة ظهرت في الأرض منذ قامت الدنيا إلى حين مبعثه فأغنى الله الأمة بكمال رسولها وكمال شريعته وكمال عقولها وصحة أذهانها عن رسول يأتي بعده ، أقام له من أمته ورثة يحفظون شريعته ووكلهم بها حتى يؤدوها إلى نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم فلم يحتاجوا معه إلى رسول آخر ولا نبي ولا محدث ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : "إنه قد كان قبلكم في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر" ، فجزم بوجود المحدثين في الأمم وعلق وجوده في أمته بحرف الشرط وليس هذا بنقصان في الأمة على من قبلهم بل هذا من كمال أمته على من قبله فإنها لكمالها وكمال نبيها وكمال شريعته لا تحتاج إلى محدث بل إن وجد فهو صالح للمتابعة والاستشهاد لا أنه عمدة لأنها في غنية بما بعث الله به نبيها عن كل منام أو مكاشفة او إلهام أو تحديث وأما من قبلها فللحاجة إلى ذلك جعل فيهم المحدثون" . اهــ
"مفتاح دار السعادة" ، (1/297) .

والله أعلى وأعلم .

وعذرا على الإطالة والتكرار في مواضع فهي فوائد مقتبسة من كلام أهل العلم ضمت إلى بعضها في أوقات متفاوتة .