المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن انتشار الإسلام



د. هشام عزمي
02-21-2012, 09:49 PM
عن انتشار الإسلام
بقلم الأخ مهاجر

يقول توماس كارليل :
"لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب ، وأن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم خداع مزور ، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة ، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لنحو مائتي مليون من الناس أمثالنا ، خلقهم الله الذي خلقنا ، (وذلك إلى عهد توماس كارليل وقد توفي سنة 1881م) ، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها الملايين الفائقة الحصر والإحصاء كذبة وخدعة ؟! أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا ، ولو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج ويصادفان منهم مثل ذلك التصديق والقبول ، فما الناس إلا بله أو مجانين ، وما الحياة إلا سخف وعبث وأضلولة كان الأولى ألا تخلق !" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، للشيخ الدكتور راغب السرجاني حفظه الله وسدده ، ص81 .

وكأن توماس كارليل يستدل بحال المسلمين ، وإن شئت الدقة ، بحال الإسلام في قوته الذاتية وانتشاره برسم الحجة والبرهان والسيف والسنان ، فكان في زمانه ولا زال في زماننا أسرع الأديان انتشارا بحجة لا تغلب ، وإن كسر سيفه لا سيما في الأعصار الأخيرة ، ومع ذلك ما زال الظهور له ، وما زالت الغلبة له ، فــ : (أرسل رسوله بالهدى) ، فكيف يصح في الأذهان ذلك ، وهو كذب في نفسه ؟! ، فلا يقيم له الرب ، جل وعلا ، من أذكياء العالم من يدحض حجته الباطلة التي قهرت كل حجة من لدن ظهر وإلى يوم الناس هذا ، فالعرب الأقحاح لم يقدروا على الإتيان بمثله ، بل ولم يقدروا على الإتيات بسورة تبطل رسم الإعجاز في التنزيل ، فهو المعجزة الباقية والحجة القائمة ، إلى أن يرفعه الرب ، جل وعلا ، من الصدور والسطور ، فآثروا ، كما يقول الجاحظ ، بذل الدماء والأموال حربا له إذ قد عجزوا عن إبطال حجته فــ : "بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ شَاعِرًا وَخَطِيبًا وَأَحْكَمَ مَا كَانَتْ لُغَةً وَأَشَدَّ مَا كَانَتْ عُدَّةً فَدَعَا أَقْصَاهَا وَأَدْنَاهَا إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ وَتَصْدِيقِ رِسَالَتِهِ فَدَعَاهُمْ بِالْحُجَّةِ فَلَمَّا قَطَعَ الْعُذْرَ وَأَزَالَ الشُّبْهَةَ وَصَارَ الَّذِي يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِقْرَارِ الْهَوَى وَالْحَمِيَّةُ دُونَ الْجَهْلِ وَالْحَيْرَةِ حَمَلَهُمْ عَلَى حَظِّهِمْ بِالسَّيْفِ فَنَصَبَ لَهُمُ الْحَرْبَ وَنَصَبُوا لَهُ وَقَتَلَ مِنْ عِلْيَتِهِمْ وَأَعْلَامِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَبَنِي أَعْمَامِهِمْ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ وَيَدْعُوهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً إِلَى أَنْ يُعَارِضُوهُ إِنْ كَانَ كَاذِبًا بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِآيَاتٍ يَسِيرَةٍ؛ فَكُلَّمَا ازْدَادَ تَحَدِّيًا لَهُمْ بِهَا وَتَقْرِيعًا لِعَجْزِهِمْ عَنْهَا تَكَشَّفَ مِنْ نَقْصِهِمْ مَا كَانَ مَسْتُورًا وَظَهَرَ مِنْهُ مَا كَانَ خَفِيًّا فَحِينَ لَمْ يَجِدُوا حِيلَةً وَلَا حُجَّةً قَالُوا لَهُ: أَنْتَ تَعْرِفُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ مَا لَا نَعْرِفُ فَلِذَلِكَ يُمْكِنُكَ مَا لَا يُمْكِنُنَا قَالَ: فَهَاتُوهَا مُفْتَرِيَاتٍ فَلَمْ يَرُمْ ذَلِكَ خَطِيبٌ وَلَا طَمَعَ فِيهِ شَاعِرٌ ولا طَمَعَ فِيهِ لَتَكَلَّفَهُ وَلَوْ تَكَلَّفَهُ لَظَهَرَ ذَلِكَ وَلَوْ ظَهَرَ لَوَجَدَ مَنْ يَسْتَجِيدُهُ وَيُحَامِي عَلَيْهِ وَيُكَايِدُ فِيهِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ عَارَضَ وَقَابَلَ وَنَاقَضَ فَدَلَّ ذَلِكَ الْعَاقِلُ عَلَى عَجْزِ الْقَوْمِ مَعَ كَثْرَةِ كَلَامِهِمْ وَاسْتِحَالَةِ لُغَتِهِمْ وَسُهُولَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَكَثْرَةِ شُعَرَائِهِمْ وَكَثْرَةِ مَنْ هَجَاهُ مِنْهُمْ وَعَارَضَ شُعَرَاءَ أَصْحَابِهِ وَخُطَبَاءَ أُمَّتِهِ لِأَنَّ سُورَةً وَاحِدَةً وَآيَاتٍ يَسِيرَةً كَانَتْ أَنْقَضَ لِقَوْلِهِ وَأَفْسَدَ لِأَمْرِهِ وَأَبْلَغَ فِي تَكْذِيبِهِ وَأَسْرَعَ فِي تَفْرِيقِ أَتْبَاعِهِ مِنْ بَذْلِ النُّفُوسِ وَالْخُرُوجِ مِنَ الْأَوْطَانِ وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا مِنْ جَلِيلِ التَّدْبِيرِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ هُوَ دُونَ قُرَيْشٍ وَالْعَرَبِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَقْلِ بِطَبَقَاتٍ وَلَهُمُ الْقَصِيدُ الْعَجِيبُ وَالرَّجَزُ الْفَاخِرُ وَالْخُطَبُ الطِّوَالُ الْبَلِيغَةُ وَالْقِصَارُ الْمُوجَزَةُ وَلَهُمُ الْأَسْجَاعُ وَالْمُزْدَوَجُ وَاللَّفْظُ الْمَنْثُورُ، ثُمَّ يَتَحَدَّى بِهِ أَقْصَاهُمْ بَعْدَ أَنْ أَظْهَرَ عَجْزَ أَدْنَاهُمْ فَمُحَالٌ- أَكْرَمَكَ اللَّهُ- أَنْ يَجْتَمِعَ هَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ عَلَى الْغَلَطِ فِي الْأَمْرِ الظَّاهِرِ وَالْخَطَأِ الْمَكْشُوفِ الْبَيِّنِ" . اهــ من : "الإتقان في علوم القرآن" ، النَّوْعُ الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ .

وإلى ذلك المعنى اللطيف أشار الشاطبي ، رحمه الله ، بقوله :
"قَالَ الْعُتْبِيُّ: وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِالطَّعْنِ مُلْحِدُونَ، وَلَغُوا وَهَجَرُوا، وَاتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، بِأَفْهَامٍ كَلَيْلَةٍ، وَأَبْصَارٍ عَلِيلَةٍ، وَنَظَرٍ مَدْخُولٍ، فَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَعَدَلُوا بِهِ عَنْ سَبِيلِهِ، ثُمَّ قَضُوا عَلَيْهِ بِالتَّنَاقُضِ وَالِاسْتِحَالَةِ وَاللَّحْنِ، وَفَسَادِ النَّظْمِ وَالِاخْتِلَافِ، وَأَدْلَوْا بِذَلِكَ بِعِلَلٍ رُبَّمَا أَمَالَتِ الضَّعِيفَ الْغُمْرَ، وَالْحَدِيثَ الْغِرَّ ، وَاعْتَرَضَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي الْقُلُوبِ، وَقَدَحَتْ بِالشُّكُوكِ فِي الصُّدُورِ، قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَا لَحَنُوا إِلَيْهِ عَلَى تَقْرِيرِهِمْ وَتَأْوِيلِهِمْ لَسَبَقَ إِلَى الطَّعْنِ فِيهِ مَنْ لَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجُّ بِالْقُرْآنِ عَلَيْهِمْ، وَيَجْعَلُهُ عَلَمَ نَبُّوتِهِ، وَالدَّلِيلَ عَلَى صِدْقِهِ، وَيَتَحَدَّاهُمْ فِي مُوَاطِنَ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، وَهُمُ الْفُصَحَاءُ وَالْبُلَغَاءُ، وَالْخُطَبَاءُ وَالشُّعَرَاءُ، وَالْمَخْصُوصُونَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْأَنَامِ، وَبِالْأَلْسِنَةِ الْحِدَادِ وَاللَّدَدِ فِي الْخِصَامِ، مَعَ اللُّبِّ وَالنُّهَى وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ. فَقَدْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْكِتَابِ. وَكَانُوا يَقُولُونَ مَرَّةً: هُوَ سِحْرٌ، وَمَرَّةً: هُوَ شِعْرٌ، وَمَرَّةً: هُوَ قَوْلُ الْكَهَنَةِ، وَمَرَّةً: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَلَمْ يَحْكِ اللَّهُ عَنْهُمُ الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْأَحَادِيثِ وَدَعْوَى التَّنَاقُضِ وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا، وَحُكِيَ عَنْهُمْ، لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقَدْحُ فِي خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وَهُمُ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَاتَّبَعُوهُمْ بِالْحَدْسِ قَالُوا مَا شَانَ، أَوْ جَرَوْا فِي الطَّعْنِ عَلَى الْحَدِيثِ جَرْيَ مَنْ لَا يَرَى عَلَيْهِ مُحْتَسِبًا فِي الدُّنْيَا وَلَا مُحَاسِبًا فِي الْآخِرَةِ" . اهــ
"الاعتصام" ، (2/572) .

فكيف صح في الأذهان قيام هذا الدين بحجته الصحيحة الصريحة السالمة من المعارضة وسيفه الذي لا ينكسر إن سُلَّ برسم الشريعة لا برسم القومية أو الوطنية ، فسيف الإسلام لا ينكسر ، وإنما سيوف المسلمين هي التي تكسر بل وتهشم إن رفعت بغير رسم الدين الخاتم ، والتاريخ على ذلك خير شاهد فأدنى مخالفة كما في أحد وحنين ، تصير الجيش المسلم في عصر الرسالة ، وهو خير العصور ، فرجاله خير طباق الأمة ، تُصَيِّرُ جيشا هذا زمانه وأولئك رجاله عرضة للهزيمة بل قد مسهم القرح يوم أحد ، ومسهم الفزع يوم حنين ، فكيف بمن جاء بعدهم إن خالف التنزيل لا في أمر جزئي ، وإنما في أصول كلية جامعة كيف لسيفه أن يكسر سيف عدوه ؟! ، فظهور سيف النبوة والخلافة الراشدة ، عند التدبر والنظر ، من أظهر الأدلة على صدق رسالة خير الأنام صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحة دين الإسلام ، فقد حفظ من التحريف والتبديل ، فــ : "مَنْ عَرَفَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَتَفَاصِيلِ أَحْوَالِهَا، تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُمْ أَعْلَمُ الْخَلْقِ، وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ كَذَّابٍ جَاهِلٍ، وَأَنَّ فِيمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَدَلَالَةِ الْخَلْقِ عَلَى مَا يَنْفَعُهُمْ وَمَنْعِ مَا يَضُرُّهُمْ -مَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنْ رَاحِمٍ بَرٍّ يَقْصِدُ غَايَةَ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلْخَلْقِ ............. بَلْ إِنْكَارُ رِسَالَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَعْنٌ فِي الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَنِسْبَتُهُ لَهُ إِلَى الظُّلْمِ وَالسَّفَهِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، بَلْ جَحْدٌ لِلرَّبِّ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْكَارٌ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مُحَمَّدٌ عِنْدَهُمْ لَيْسَ بِنَبِيٍّ صَادِقٍ، بَلْ مَلِكٌ ظَالِمٌ، فَقَدْ تَهَيَّأَ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ وَيَتَقَوَّلَ عَلَيْهِ، وَيَسْتَمِرَّ حَتَّى يُحَلِّلَ وَيُحَرِّمَ، وَيَفْرِضَ الْفَرَائِضَ، وَيُشَرِّعَ الشَّرَائِعَ، وَيَنْسَخَ الْمِلَلَ، وَيَضْرِبَ الرِّقَابَ، وَيَقْتُلَ أَتْبَاعَ الرُّسُلِ وَهُمْ أَهْلُ الْحَقِّ، وَيَسْبِيَ نِسَاءَهُمْ وَيَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَيَتِمُّ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَفْتَحَ الْأَرْضَ، وَيَنْسِبَ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ لَهُ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ لَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُشَاهِدُهُ وَهُوَ يَفْعَلُ بِأَهْلِ الْحَقِّ، وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ فِي الِافْتِرَاءِ عَلَيْهِ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ، وَيُعْلِي أَمْرَهُ، وَيُمَكِّنُ لَهُ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْخَارِجَةِ عَنْ عَادَةِ الْبَشَرِ، وَأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُهْلِكُ أَعْدَاءَهُ، وَيَرْفَعُ لَهُ ذِكْرَهُ، هَذَا وَهُوَ عِنْدَهُمْ فِي غَايَةِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّهُ لَا أَظْلَمَ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَأَبْطَلَ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَبَدَّلَهَا وَقَتَلَ أَوْلِيَاءَهُ، وَاسْتَمَرَّتْ نُصْرَتُهُ عَلَيْهِمْ دَائِمًا، وَاللَّهُ تَعَالَى يُقِرُّهُ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ بِالْيَمِينِ، وَلَا يَقْطَعُ مِنْهُ الْوَتِينَ. فَيَلْزَمُهُمْ أَنْ يَقُولُوا: لَا صَانِعَ لِلْعَالَمِ وَلَا مُدَبِّرَ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مُدَبِّرٌ قَدِيرٌ حَكِيمٌ، لَأَخَذَ عَلَى يَدَيْهِ وَلَقَابَلَهُ أَعْظَمَ مُقَابَلَةٍ، وَجَعَلَهُ نَكَالًا لِلصَّالِحِينَ. إِذْ لَا يَلِيقُ بِالْمُلُوكِ غَيْرُ ذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَلِكِ الْمُلُوكِ وَأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ؟ وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ رَفَعَ لَهُ ذِكْرَهُ، وَأَظْهَرَ دَعْوَتَهُ وَالشَّهَادَةَ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكَذَّابِينَ قَامَ فِي الْوُجُودِ، وَظَهَرَتْ لَهُ شَوْكَةٌ، وَلَكِنْ لَمْ يَتِمَّ أَمْرُهُ، وَلَمْ تَطُلْ مُدَّتُهُ، بَلْ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِ رُسُلَهُ وَأَتْبَاعَهُمْ، وَقَطَعُوا دَابِرَهُ وَاسْتَأْصَلُوهُ. هَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى إِنَّ الْكُفَّارَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} {قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} (1) أَفَلَا تَرَاهُ يُخْبِرُ أَنَّ كَمَالَهُ وَحِكْمَتَهُ وَقُدْرَتَهُ تَأْبَى أَنْ يُقِرَّ مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبَادِهِ كَمَا جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ" .
بتصرف من : "شرح العقيدة الطحاوية" ، ص115 ، 116 .

وهو ما يؤكده كارليل مجددا بقوله :
"ما أسوأ مثل هذا الزعم ، وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة .... ولعل العالم لم ير قط رأيا أكفر من هذا ولا ألأم ! ، وهل رأيتم معشر الإخوان أن رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجبا ؟! ، ، والله إن الرجل ا(مع أنه ، عند التدبر والنظر ، لم يوجده فذلك محل تجوز في العبارة وقد يوهم ما قد ذهب إليه بعض من أراد مدح النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعلى من شأن عبقريته وكماله البشري وانتقص من قدر كماله الرسالي فالوحي هو الذي زاده عظمة على عظمة نفسه فلولا الوحي ما رفع ذكره إلى اسم الرحمن جل وعلا ، فلا يذكر إلا ويذكر مقرونا به شافعا له فشهادة توحيد الرسالة قرينة شهادة توحيد العبادة ، فالنبوة قدر زائد وقيد فارق يجعل صاحبها في رتبة العصمة إذ قد اختاره ذو العلم والحكمة ، جل وعلا ، ليكون الواسطة بينه وبين الخلق ، فهو أعلم حيث يجعل رسالته ، فهذا القدر الزائد يجعل الدين وحيا منزلا لا مقالا أرضيا يجعله الجاعل كما قد يوهم كلام توماس كارليل فالمستشرقون في الجملة قد تأثروا بالصبغة المادية لعصر النهضة وما تلاه فكان الطرح الكلاسيكي الذي عظم من دور العقل في تفسير النصوص ، وفي تعليل الأحداث وتحليلها) والله إن الرجل الكاذب لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب ، فهو إذا لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب وما شاكل ذلك ، نعم ....... وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثني عشر قرنا يسكنه مائتا مليون من الأنفس ...... كذب والله ما يذيعه أولئك الكفار ! وإن زخرفوه حتى خيلوه حقا ، وزور وباطل ، وإن زينوه حتى أوهموه صدقا ، ومحنة والله ومصاب أن ينخدع الناس شعوبا وأمما بهذه الأباطيل" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص81 .

فقد تخدع بعض الناس كل الوقت ، أو كل الناس بعض الوقت ، وقد ينخدع لك الناس عصبية كما انخدعت بنو حنيفة لمسيلمة الكذاب ، فكذابها خير من صادق مضر صلى الله عليه وعلى آله وسلم وذلك ضلال ما بعده ضلال ، وفساد في التصور يقترن ضرورة بالجهل والتعصب ، ولكن سرعان ما ينكشف الأمر ويفتضح الكاذب على رءوس الأشهاد ، ولو بعد موته ، مهما اجتهد في إخفاء كذبه ، فــ : "مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ" ، وهذا في أمر الدنيا ، مع سرعة زواله وانقضائه لا محالة ، فــ : (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا) ، فهي زينة للأرض يعرض لها ما يعرض للأصل من نقص ثم فناء ، فلا يبقى إلا رب الأرض والسماء ، جل وعلا ، وما كان له من عمل ، فــ : "ما كان لله فهو يبقى وما كان لغير الله لا يدوم ولا يبقى" ، فــ : "وطَّأوا ووطَّأنا ، وما كان لله عزَّ وجلَّ فهوَ يبقى" ، فوطأ مالك ، رحمه الله ، موطأ لا كالموطآت فشاء رب البريات ، جل وعلا ، أن يبقى الموطأ بل ويصير علما على كتاب مالك ، رحمه الله ، فلا يعرف الناس في زماننا موطأ غيره وذلك بداهة مئنة من الإخلاص والتجرد ، ولا نزكي الإمام على ربه ، جل وعلا ، وقل مثله في كل قول وفعل فمهما اجتهد المجتهد في زخرفة الباطل فسوف يبين ، ولو بعد حين ، فيذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس فإذا انجلى غبار المعارك تبين الفرس من الحمار ، وإذا انفض الجمع تبين من بكى ممن تباكى ، فمن صَدَقَ صُدِقَ ومن أخلص أجر ، ومن جد في دار الابتلاء وجد في دار الجزاء فذلك فضل الرب ذي الجلال والإكرام أن يسر أسباب الطاعة لمن اصطفاه وأعانه عليها فخلق فيه الاستطاعة الكونية التي بها يكون الفعل فعمل بما شرع فنال الزلفى والأجر عند الرب الكريم ، جل وعلا ، وتلك رتبة منيفة لا علم لأحد بها إلا من ورد النص بقبوله ، وإن كان ثم قرائن ترجح فالأمة شاهدة عدل على فلان أو فلان بالصحة أو الفساد ، بالهدى أو الضلال .

والشاهد أن ثم جعلا قد مضى للزينة ، وجعلا لما يقع بتسوية الأرض فالصعيد وجهها أو ترابها فيصير يابسا أملس لا ينبت ، فتلك كناية عن الفناء فيصح الجمع بين الأصل والكناية فتصير الأرض يابسة لا تنبت قبل فنائها بإذن ربها فغيرها بها يستبدل ، فــ : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، فبرزوا لله الواحد في ذاته ، القهار في فعله ، فلا شريك له يومئذ فهو الواحد ، فــ : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) ، ولا ند له في الفعل فهو القهار لغيره بما قضى في كَوْنِه ، فالكون له مخلوق وبأمره مربوب ، والشاهد أنه في أمر الدنيا : لا يخفى عليه ، جل وعلا ، سر ولا علن ، فكيف بأمر الدين ، وهو الأشرف والأبقى ، مع قيام الدليل الصحيح الصريح من الشرع والعقل والحس والفطرة على نصرة الرب ، جل وعلا ، لجنده من المرسلين وأتباعهم من المؤمنين فقامت الأدلة القطعية التي تفيد العلم الضروري ، على تواتر جنس النبوة في النوع الإنساني ، فقصص الأنبياء ، عليهم السلام ، مشهور معلوم ، مسطور في كتب الأولين ، محفوظ في الكتاب الخاتم ، فــ : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، فقد تواتر ، كما يقول بعض المحققين ، خبرهم ، فعلم ضرورة أنهم بعثوا بالتوحيد ، فــ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وأصول الأحكام ومكارم الأخلاق ، وأن الرب ، جل وعلا ، قد ابتلاهم : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، فصبروا وثبتوا فظهروا ونُصِروا ، فــ : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) ، فكيف صح في الأذهان تواتر ذلك ، فالسنة واحدة ، فــ : (لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) ، فكيف صح هذا في حقهم عموما وفي حق النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم خصوصا ، فذلك أعظم ثبوتا في حقه ، فكيف صح في الأذهان ذلك وهو مع ذلك كاذب في نفس الأمر ، يفتري على الرب ، جل وعلا ، حاشاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فيقهر الأمم ويفتح القلوب والبلاد بالكتاب الهادي والحديد الناصر ، وهو مفتر كاذب ! ، ثم هو في ظهور أمر ، وقوة سلطان ، بتقادم العهد ، فلم يزدد بمرور الأيام إلا قوة ومنعة ، فــ : "لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ" ، ولم يزدد دينه إلا انتشارا ، فهو ، كما تقدم ، أسرع الأديان انتشارا ، ولم يزدد جنده إذا تمسكوا برسالته إلا عزا وقهرا لعدوهم ، ففتحوا الأرض وغنموا المال والسبي ، برسم الفتح ، وضربوا المثال الأكمل على القتال الأشرف ، فأمن العدو ظلمهم ، ولم يأمن مكرهم وبأسهم ، فهو خيرة جند البشر الذين حملوا الكتاب والسيف معا ، فقاموا بالكتاب وقاتلوا بالسيف فكان الظفر والنصر ، فــ : (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) ، أفيكون كل ذلك ، وهم يأرزون في مقالهم وحالهم إلى رسالة مدع كاذب ؟! .

وسيف الإسلام العادل لا يعيبه ، فليس إلا وسيلة مشروعة من وسائل نشر الحق ونصره ، فإنه إذا ما قورن بسيف النصرانية الجائر قديما وحديثا ، والذي يدعي أتباعه المحبة والتسامح تبين من بكى ممن تباكى ، فــ :
"لقد قيل كثير في شأن نشر محمد صلى الله عليه وسلم دينه بالسيف ، فإذا جعل الناس ذلك دليلا على كذبه فذلك أشد ما أخطئوا وجاروا ، فهم يقولون : ما كان الدين لينتشر لولا السيف . ولكن ما هو الذي أوجد السيف ؟ هو قوة ذلك الدين ، وأنه حق ، (والحق لا بد له من سيف يذب عنه ويزيل ما حال بينه وبين القلوب فشرع جهاد الطلب حال القوة إزالة لعروش الطغاة وممالك العصاة لتشرق شمس النبوة على أرض الله ، جل وعلا ، فتحكم أرضه بشرعه فيتسق أمره الكوني في الأرض وأمره الشرعي في الحكم فلا صلاح للعالم إلا بسنن شرعي ينصح بل وينكر ويزجر حال القدرة ، وسنن كوني يدبر ، فما العيب في الإسلام أن اتخذ سيف جلال به يردع من يصول على المسلمين وإنما يكون العيب بالاستعجال فتستبق الأحدات وتحترق المراحل ويظن صاحبها التمكين ولما يمكن فيبادر بالغزو ولا يتهيأ) ، والرأي الجديد أول ما ينشأ يكون في رأس رجل واحد ، فالذي يعتقده هو فرد _ فرد ضد العالم أجمع _ فإذا تناول هذا الفرد سيفا وقام في وجه الدنيا فقلما والله يضيع ، وأرى _ على العموم _ أن الحق ينشر نفسه بأية طريقة حسبما تقتضيه الحال ، أو لم تروا النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانا ، (بل كثيرا ، فهل انتشرت النصرانية في أوروبا وإفريقية إلا بحد السيف وهل استأصل المسلمون واليهود وكل من خالف الكاثوليكية في إسبانيا ولو نصرانيا من طائفة أخرى هل استأصل كل أولئك إلا بسيف المحبة والسلام !) ، وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون ! وأنا لا أحفل إذا كان انتشار الحق بالسيف أم باللسان ، أو بأية آلة أخرى ، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار ، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها ، فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم ، وليس في طاقتها قط أن تقضي على ما هو خير منها ، بل هو أحط وأدنى" . اهــ
بتصرف نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص81 ، 82 .

فقلب كارليل الدليل عليهم ، فقد جعلوه دليل كذب وهو لمن تدبر ونظر ، بعين الإنصاف ، دليل صدق ، فقد ظهر من عدله ورحمته ما جعله مثالا على السيف الناصر فلا يفل حديده ، العادل فلا يخشى عدوه بأسه .

و : "يزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ، ومفاخر الجاه والسلطان ، كلا وايم الله ! لقد كان في فؤاد ذلك الرجل الكبير ، ابن القفار والفلوات ، المتوقد المقلتين العظيم النفس المملوء رحمة وخيرا وحنانا وبرا وحكمة وحجى وإربة ونهى ، أفكار غير الطمع الدنيوي ونوايا خلاف السلطة والجاه" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص83 .

وسيرته شاهد عدل على ذلك ، والتاريخ حكم عدل وشاهد صدق يسلم لحكمه الموافق والمخالف ، فمن ذا الذي رزق إنصافا فلا ينظر في سيرته صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا وتأخذ بمجامع قلبه ومعادن فكره تقديرا وإعجابا بل محبة وتعظيما لذلك الرجل العظيم الذي صنع على عين النبوة فاصفاه الرب ، جل وعلا ختاما للرسالة ومبشرا بالهداية ومنذرا من الغواية .

والإعجاز في شخصية النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إعجاز عام ، فهو ، كما تقدم ، النبي المرسل ، والسياسي المحنك ، والأب الرحيم ، والقائد الشفيق ، والمقاتل الصنديد ، والخطيب المفوه ، فهو ، باختصار ، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الذي وصفه ربه ، جل وعلا ، وهو أصدق قائل ، في محكم تنزيله فقال : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، و : (لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، فمحال أن يتصنع تلك الحال التي لا يصبر عليها متصنع وإن بلغ ما بلغ من التصنع ، فــ : "مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إِلَّا أَظْهَرَهَا اللَّهُ عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ" ، فهي سجية ملازمة ، لا خصلة طارئة ، فأخلاقه جبلية لا تكلف فيها ولا اكتساب ، فحدها حد النبوة التي يصنع بها الأنبياء عليهم السلام ، على عين الرب ، جل وعلا ، فهي وهبية لا تكتسب ، فهي أعظم منة وأشرف وظيفة ، ففيها قدر زائد على الخلق الفاضل الذي يكتسبه آحاد البشر بالتحلم والتعلم ، فهو مئنة من التكلف حتى يصير الخلق عادة ، فذلك مما يكتسب بالمران فلا يقاس عليه الوحي فلا ينال إلا بالوهب الرباني فلا ينال بالكسب النفساني ، وكذلك الشأن في القدر الزائد في كل أمر فاضل ، فــ : (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، ففيها قدر زائد على سمع الإحصاء وبصر الإحاطة ، فلم يكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثائرا أرضيا ، أو مناضلا يساريا ! ، وإنما كان رسولا من : (اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ، فتلك صحف التنزيل ، فهي مطهرة في السماء بين أيدي الملائك ، فالتذكرة : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ) ، فهو البينة ، فبه أبان الرب ، جل وعلا ، عن غاية الخلق ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وحكم الشرع : (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) ، وخبر الغيب : (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) ، فكلامه وحي لا طرح ، فليس قول مصلح أو ثائر ، وإنما هو قول رسول شارع بكلام جامع ، فهذا فرقان مبين بين النبوة والفكرة ، فالنبوة أمر علوي ، فــ : "إِنَّمَا الْأَمر من هَهُنَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى السَّمَاءِ" ، والفكرة أمر عقلي ، فهي مما ينقدح في الأذهان فلا يصلح معارضا للأديان ، وإنما تعرض على معيار الوحي ، فما وافقه قبل وما خالفه رد ونبذ ، فإليه تحتكم العقول وإلا ضلت في أودية المذاهب والمقالات ، فلكلٍ عقل ، ولكلٍ طرح ، فطرح الشيوعية من عقل ماركس فوسيلته الحقد ، وطرح الرأسمالية من عقل ريكادو ومالتس فوسيلته الربح ، وطرح الليبرالية من عقل جون ستيوارت مل فوسيلته القوة ، وإن زعم الحرية والمساواة فهو طرح مستبد يصادر الحريات باسم الحرية ! ، فكل أولئك من أطروحات البشر فبها ضاهى الحيارى وحي رب البرايا ، جل وعلا ، فحقيقة الصراع وإن تنوعت صوره وتعددت ميادينه : صراع الوحي الهادي والعقل الحائر ، وهو أمر قد اتصل من لدن أبى إبليس السجود ، وعصى آدم الإله المعبود ، جل وعلا ، فأهبط إلى دار التكليف برسم التفضيل : (لَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) ، وأهبط عدوه معه ليكون له قرينا ، فبعداوته قد ابتلي ، وبوسواسه قد امتحن ليستعيذ بالرب ، جل وعلا ، ويستزيد من العلم فبه يدافع الشبهات والعمل فبه يدافع الشهوات ، وذلك أمر قد قررته النبوات ففصلت أخباره وأحكامه ، فــ : (مَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، ففيها غنية عن كل عقد وشرع ، فليس أصدق من خبرها العلمي وليس أعدل من حكمها العملي .

والله أعلى وأعلم .