horisonsen
03-25-2012, 05:29 PM
الإمام عبد الغني المقدسي[1]
اسمه ونسبه:
هو: عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الجمَّاعيلي، المقدسي، ثم الدمشقي ـ المنشإِ ـ، الصَّالحي، الحنبلي، تقيُّ الدين، أبو محمد.
مولده ونشأته:
ولد بجمَّاعيل من أرض نابلس من الأرض المقدسة، سنة (541) أو (543) أو (544) على خلافٍ، والأخير أظهر، فيما نقله ابن النجار رحمه الله عن الحافظ عبد الغني نفسه.
قدم من بيت المقدس إلى دمشق صغيراً، سنة (551)، مع جماعة من أقربائه من فصلاء المقادسة، من أبرزهم: أخوه الشيخ الزاهد: العماد أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد (614 هـ) والإمام الفقيه موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (541 ـ 620 هـ)، وأخوه زاهد المقادسة الإمام أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة (528 ـ 607 هـ).
فنزلوا أولاً بمسجد أبي صالح ـ خارج الباب الشرقي لدمشق ـ، ثم انتقلوا منه إلى سفح جبل قاسيون، ضاحية دمشق، وليس به من العمارة شيء سوى دَيْر الحوراني، فعمَّروه بمساجد ومدارس ومساكن، يذكر فيها اسم الله كثيراً، ويُنشر فيها السنة والحديث ومذهب السلف، حتى سميت تلك البقعة بالصالحية لصلاحهم ـ كما ذكر غير واحدٍ ـ، وإن كان الشيخ أبو عمر ـ رحمه الله ـ يقول: "قيل لنا الصالحيِّين نسبةً إلى مسجد أبي صالح، لا أنَّا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية، نسبة إلينا".
في هذه البقعة العلمية الصالحة نشأ الحافظ رحمه الله، فقرأ القرآن وسمع الحديث في دمشق، ثم ارتحل هو والموفَّق إلى بغداد، في أول سنة (561)، فأنزلهما الشيخ عبد القادر الجيلي (الكيلاني) رحمه الله عنده في مدرسته، وكان لا يترك أحداً ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما الخير، والنجابة، والصلاح، فأكرمهما وأسمعهما، ثم توفي بعد قدومهما بخمسين ليلة.
كان الحافظ ميله إلى الحديث، والموفَّق ميله إلى الفقه، وكما يقول الإمام الذهبي: "تفقَّه الحافظ، وسمع معه الموفق الكثير"، فلما رآهما العقلاء على التصوّن وقلة المخالطة أحبُّوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا علماً جماً، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، واشتغلا بالفقه والخلاف على شيخ الحنابلة أبي الفتح ابن المَنِّي (501 ـ 583 هـ)، والإمام أبي الفرج ابن الجوزي، ثم قدما دمشق.
ورحل الحافظ إلى مصر، ودخل الإسكندرية في سنة (566)، وأقام مدّةً عند الحافظ الكبير أبي طاهر السِّلَفيِّ (576 هـ)، وله رحلة أخرى إلى السِّلَفيِّ سنة (570)، ثم سافر أصبهان، فأقام بها مدة، وحصَّل الكتب الجيدة.
منزلته وثناء العلماء عليه:
قال أبو عبد الله ابن النجار: حدّث بالكثير، وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة، وكان غزير الحفظ، من أهل الاتقان والتجويد، قيّماً بجميع فنون الحديث، عارفاً بقوانينه، وأصوله، وعلله، وصحيحه، وسقيمه، وناسخه، ومنسوخه، وغريبه، ومُشْكله، وفقهه، ومعانيه، وضبط أسماء رواته.
قال الضياء[2]: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يُسأل عن حديث إلا ذكره وبيّنه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يُسأل عن رجل ـ يعني من رجال الأسانيد ـ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه. قال: وأنا أقول: وكان الحافظ أمير المؤمنين في الحديث.
وقال إسماعيل بن ظَفَر: جاء رجل إلى الحافظ، فقال: رجلٌ حلف بالطلاق أنك تحفظ مئة ألف حديث! فقال: لو قال أكثر لصدق.
قال الضياء: ورأيته على المنبر غير مرة، يقولون له: اقرأ لنا من غير كتابٍ. فيقرأ الحديث بأسانيده من حفظه.
وعندما خرج الحافظ إلى أصبهان، أشار عليه شيخه الحافظ أبو موسى المديني الإصبهاني (581 هـ)، أن يأخذ على أبي نُعيم الإصبهاني، في كتابه: "معرفة الصحابة". فقد كان يشتهي أن يأخذ هو على أبي نُعيم فما كان يجسر، فأخذ عبد الغني على أبي نُعيم نحواً من مئتين وتسعين موضعاً، في كتاب سمّاه: "تبيين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نعيم في معرفة الصحابة". قال الذهبي: "جزءان، تدل على براعته وحفظه". وقد أثار هذا حفيظة بيت الخُجَندي، فقد كانوا أشاعرة، وكانوا يتعصبون لأبي نُعيم، وكانوا رؤساء البلد، فطلب الصدر الخُجَندي عبد الغني، وأراد هلاكه، فاختفى، وخرج إلى الموصل.
وقد أعجب الحافظ أبو موسى بكتاب عبد الغني، وكتب عليه تقريظاً بالغاً.
وقال التاج الكندي: لم يكن بعد الدّراقطني مثل الحافظ عبد الغني. وقال ـ أيضاً ـ: لم ير الحافظ مثل نفسه.
ووصفه الذهبي بـ"الإمام العالم، الحافظ الكبير، الصادق القدوة، العابد الأثري المتَّبِعُ، عالم الحفّاظ ... ".
أخلاقه وشمائله:
اجتمع للحافظ رحمه الله من العلم النافع، والعمل الصالح، وأخلاق العلماء ما أهَّله أن يكون من أرفعهم منزلة وشأناً في عصره، وهي كثيرة، وإنما أشارت كتب التراجم إلى شيء منها:
· منها: حرصه على الوقت. بحيث كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة. قال أخوه العماد: "ما رأيت أحداً أشدَّ محافظةً على وقته من أخي". فإنه كان يصلي الفجر، ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم فيتوضأ، ويصلي ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين، إلى قبل الظهر، وينام نومة، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالنسخ أو التسميع إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل، أو بعده، ثم يقوم كأن إنساناً يوقظه. قال نصر بن رضوان المقرئ: ما رأيت أحداً على سيرة الحافظ، كان مشتغلاً طول زمانه. قال الضياء: وكان قد ضعف بصره من البكاء والنسخ والمطالعة.
· ومنها: ديانته ورقة قلبه: قال محمود بن سلامة التاجر الحرّاني: "كان الحافظ نازلاً عندي بأصبهان، وما كان ينام من الليل إلا قليلاً، بل يصلي، ويقرأ، ويبكي". وهكذا كان في مجالسه، يقرأ الحديث فيبكي، ويبكي الناس كثيراً، وإذا فرغ دعا دعاءً كثيراً.
· ومنها: سخائه وجوده: فكان لا يدّخر شيئاً، ديناراً ولا درهماً، مهما حصّل أخرجه، وكان يخرج بالليل بقفاف الدقيق، إلى بيوتٍ متنكراً في الظلمة، فيعطيهم، ولا يُعرف. وكان يُفتح عليه بالثياب، فيعطي الناس وثوبه مُرَقّع. قال الإمام الموفَّق: كان الحافظ يؤثر بما تصل يده إليه، سراً وعلانية. وقال سليمان بن رحمة الأسعردي [3]: بعث الأفصل ابن صلاح الدين إلى الحافظ بنفقةٍ وقمحٍ كثير، ففرّقه كله. وقال منصور الغضاري: شاهدت الحافظ في الغلاء بمصر، وهو ثلاث ليالٍ يؤثر بعشائه ويطوي، رأيت يوماً قد أهدي إلى بيت الحافظ مشمش فكانوا يفرّقون، فقال من حينه: فرِّقوا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
· عنايته بالصلاة واكثاره منها: فكان يقوم من الليل، ويصلي بين المغرب والعشاء، ويصلي في الضحى ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين ـ كما تقدم ـ. وهذا مبني على المسألة المشهورة: هل طول القيام أفضل، أم كثرة الركوع والسجود؟ فيظهر أن الحافظ رحمه الله كان يرى الثاني أفضل، وربما يكون هذا في صلاة النهار بخاصة، والله أعلم.
وكان يكثر من الوضوء، ربما توضأ من الليل سبع مرات أو ثمانياً، ويقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت اعضائي رطبة. وكان يقول: سألتُ الله أن يرزقني مثل حال الإمام أحمد، فقد رزقني صلاته.
· ومنها: قوَّته في الحق، فكان لا يرى منكراً إلا غيَّره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، قال الضياء: قد رأيته مرة يَهْريقُ خمراً، فجبذ صاحبه السيف، فلم يخف منه، وأخذه من يده، وكان قوياً في بدنه، وكثيراً ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطنابير والشبَّابات. قال الإمام الموفق: كان الحافظ لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه، وكنَّا مرة انكرنا على قوم وأرقنا خمرهم وتضاربنا، فسمع أخي أبو عمر، فضاق صدره، وخاصمنا، فلما جئنا إلى الحافظ طيَّب قلوبنا، وصوّب فعلنا، وتلا: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
وكان قد وضع الله له هيبةً في النفوس، فكان ينكر على السلاطين والأمراء وأولادهم، إنكاراً شديداً فلا يتجرؤون عليه، وربما عوتب في ذلك، فيقول: "أنا إذا رأيت شيئاً لا أقدر اصبر".
· ومنها: جهره بمذهب السَّلف: وقد قام عليه المبتدعة وآذوه، كما سيأتي، فلم يزدد إلا ثباتاً على الحق، رحمه الله.
وقد وصفه ابن خالته الإمام موفق الدين رحمه الله في كلمة جامعة، فقال: كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصِّبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله وصيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعدواتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.
جهوده في نشر العلم:
قال الضياء: وكان رحمه الله مجتهداً على الطلب، يكرم الطلبة، ويحسن إليهم، وإذا صار عنده طالب علم يَفْهم: أمره بالرّحلة، ويفرح لهم بسماع ما يحصّلونه، وبسببه سمع أصحابنا الكثير.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ: ما رأيت الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ. فإنني كل من سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرّضني.
وقد اعتنى بتربية أبناءه وتعليمهم، ورحَّلهم لطلب العلم، وهم:
- عز الدين أبو الفتح محمد (566 ـ 613 هـ)، وهو ممن دخل بغداد غير مرة وسمع بها، كما سمع بدمشق وأصبهان.
- جمال الدين أبو موسى عبد الله (581 ـ 629 هـ) سمع بدمشق وبغداد وأصبهان ومصر، وحدّث بدمشق ومصر وغيرهما، وتكلَّم فيه بعضهم بسبب تقرّبه من السلطان.
- محي الدين أبو سليمان عبد الرحمن (583 أو 584 ـ 643 هـ) سمع بدمشق وبغداد ومصر، وحدث، وكان فقيهاً زاهداً.
وكان الحافظ رحمه الله يوصي أبناءه بقوله: "لا تضيِّعوا هذا العلم الذي قد تعبنا عليه".
ومن جهود الحافظ في نشر العلم، مجالس عامة، كان يجعلها للعامة، لوعظهم وتقريب العلم إليهم، وتغلب عليها: "الأحاديث والحكايات"، وقد جمعها في أجزاء جاوزت المئة، والجزء عند المحدّثين بحدود عشرين ورقة.
تصانيفه:
الحافظ رحمه الله من المكثرين في التصنيف، ومعظم تأليفه في الحديث، ولعل أشهرها: "عمدة الأحكام" في أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الامامان البخاري ومسلم رحمهما الله. وقد اعتنى به العلماء، وشرحه ابن الملقّن ـ ولما يطبع ـ، وابن دقيق العيد، وشرحه على طريقة الفقهاء، وقد طبعه قديماً الشيخ محمد منير الدمشقي رحمه الله، مع تعليقات وحواشٍ كثيرة، وشرحه من المعاصرين: الشيخ عبد الله ب%
اسمه ونسبه:
هو: عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور الجمَّاعيلي، المقدسي، ثم الدمشقي ـ المنشإِ ـ، الصَّالحي، الحنبلي، تقيُّ الدين، أبو محمد.
مولده ونشأته:
ولد بجمَّاعيل من أرض نابلس من الأرض المقدسة، سنة (541) أو (543) أو (544) على خلافٍ، والأخير أظهر، فيما نقله ابن النجار رحمه الله عن الحافظ عبد الغني نفسه.
قدم من بيت المقدس إلى دمشق صغيراً، سنة (551)، مع جماعة من أقربائه من فصلاء المقادسة، من أبرزهم: أخوه الشيخ الزاهد: العماد أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد (614 هـ) والإمام الفقيه موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي (541 ـ 620 هـ)، وأخوه زاهد المقادسة الإمام أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة (528 ـ 607 هـ).
فنزلوا أولاً بمسجد أبي صالح ـ خارج الباب الشرقي لدمشق ـ، ثم انتقلوا منه إلى سفح جبل قاسيون، ضاحية دمشق، وليس به من العمارة شيء سوى دَيْر الحوراني، فعمَّروه بمساجد ومدارس ومساكن، يذكر فيها اسم الله كثيراً، ويُنشر فيها السنة والحديث ومذهب السلف، حتى سميت تلك البقعة بالصالحية لصلاحهم ـ كما ذكر غير واحدٍ ـ، وإن كان الشيخ أبو عمر ـ رحمه الله ـ يقول: "قيل لنا الصالحيِّين نسبةً إلى مسجد أبي صالح، لا أنَّا صالحون، وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية، نسبة إلينا".
في هذه البقعة العلمية الصالحة نشأ الحافظ رحمه الله، فقرأ القرآن وسمع الحديث في دمشق، ثم ارتحل هو والموفَّق إلى بغداد، في أول سنة (561)، فأنزلهما الشيخ عبد القادر الجيلي (الكيلاني) رحمه الله عنده في مدرسته، وكان لا يترك أحداً ينزل عنده، ولكنه توسَّم فيهما الخير، والنجابة، والصلاح، فأكرمهما وأسمعهما، ثم توفي بعد قدومهما بخمسين ليلة.
كان الحافظ ميله إلى الحديث، والموفَّق ميله إلى الفقه، وكما يقول الإمام الذهبي: "تفقَّه الحافظ، وسمع معه الموفق الكثير"، فلما رآهما العقلاء على التصوّن وقلة المخالطة أحبُّوهما، وأحسنوا إليهما، وحصَّلا علماً جماً، فأقاما ببغداد نحو أربع سنين، واشتغلا بالفقه والخلاف على شيخ الحنابلة أبي الفتح ابن المَنِّي (501 ـ 583 هـ)، والإمام أبي الفرج ابن الجوزي، ثم قدما دمشق.
ورحل الحافظ إلى مصر، ودخل الإسكندرية في سنة (566)، وأقام مدّةً عند الحافظ الكبير أبي طاهر السِّلَفيِّ (576 هـ)، وله رحلة أخرى إلى السِّلَفيِّ سنة (570)، ثم سافر أصبهان، فأقام بها مدة، وحصَّل الكتب الجيدة.
منزلته وثناء العلماء عليه:
قال أبو عبد الله ابن النجار: حدّث بالكثير، وصنَّف في الحديث تصانيف حسنة، وكان غزير الحفظ، من أهل الاتقان والتجويد، قيّماً بجميع فنون الحديث، عارفاً بقوانينه، وأصوله، وعلله، وصحيحه، وسقيمه، وناسخه، ومنسوخه، وغريبه، ومُشْكله، وفقهه، ومعانيه، وضبط أسماء رواته.
قال الضياء[2]: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يُسأل عن حديث إلا ذكره وبيّنه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يُسأل عن رجل ـ يعني من رجال الأسانيد ـ إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه. قال: وأنا أقول: وكان الحافظ أمير المؤمنين في الحديث.
وقال إسماعيل بن ظَفَر: جاء رجل إلى الحافظ، فقال: رجلٌ حلف بالطلاق أنك تحفظ مئة ألف حديث! فقال: لو قال أكثر لصدق.
قال الضياء: ورأيته على المنبر غير مرة، يقولون له: اقرأ لنا من غير كتابٍ. فيقرأ الحديث بأسانيده من حفظه.
وعندما خرج الحافظ إلى أصبهان، أشار عليه شيخه الحافظ أبو موسى المديني الإصبهاني (581 هـ)، أن يأخذ على أبي نُعيم الإصبهاني، في كتابه: "معرفة الصحابة". فقد كان يشتهي أن يأخذ هو على أبي نُعيم فما كان يجسر، فأخذ عبد الغني على أبي نُعيم نحواً من مئتين وتسعين موضعاً، في كتاب سمّاه: "تبيين الإصابة لأوهام حصلت لأبي نعيم في معرفة الصحابة". قال الذهبي: "جزءان، تدل على براعته وحفظه". وقد أثار هذا حفيظة بيت الخُجَندي، فقد كانوا أشاعرة، وكانوا يتعصبون لأبي نُعيم، وكانوا رؤساء البلد، فطلب الصدر الخُجَندي عبد الغني، وأراد هلاكه، فاختفى، وخرج إلى الموصل.
وقد أعجب الحافظ أبو موسى بكتاب عبد الغني، وكتب عليه تقريظاً بالغاً.
وقال التاج الكندي: لم يكن بعد الدّراقطني مثل الحافظ عبد الغني. وقال ـ أيضاً ـ: لم ير الحافظ مثل نفسه.
ووصفه الذهبي بـ"الإمام العالم، الحافظ الكبير، الصادق القدوة، العابد الأثري المتَّبِعُ، عالم الحفّاظ ... ".
أخلاقه وشمائله:
اجتمع للحافظ رحمه الله من العلم النافع، والعمل الصالح، وأخلاق العلماء ما أهَّله أن يكون من أرفعهم منزلة وشأناً في عصره، وهي كثيرة، وإنما أشارت كتب التراجم إلى شيء منها:
· منها: حرصه على الوقت. بحيث كان لا يضيع شيئاً من زمانه بلا فائدة. قال أخوه العماد: "ما رأيت أحداً أشدَّ محافظةً على وقته من أخي". فإنه كان يصلي الفجر، ويلقن القرآن، وربما أقرأ شيئاً من الحديث تلقيناً، ثم يقوم فيتوضأ، ويصلي ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين، إلى قبل الظهر، وينام نومة، ثم يصلي الظهر، ويشتغل إما بالنسخ أو التسميع إلى المغرب، فإن كان صائماً أفطر، وإلا صلى من المغرب إلى العشاء، ويصلي العشاء وينام إلى نصف الليل، أو بعده، ثم يقوم كأن إنساناً يوقظه. قال نصر بن رضوان المقرئ: ما رأيت أحداً على سيرة الحافظ، كان مشتغلاً طول زمانه. قال الضياء: وكان قد ضعف بصره من البكاء والنسخ والمطالعة.
· ومنها: ديانته ورقة قلبه: قال محمود بن سلامة التاجر الحرّاني: "كان الحافظ نازلاً عندي بأصبهان، وما كان ينام من الليل إلا قليلاً، بل يصلي، ويقرأ، ويبكي". وهكذا كان في مجالسه، يقرأ الحديث فيبكي، ويبكي الناس كثيراً، وإذا فرغ دعا دعاءً كثيراً.
· ومنها: سخائه وجوده: فكان لا يدّخر شيئاً، ديناراً ولا درهماً، مهما حصّل أخرجه، وكان يخرج بالليل بقفاف الدقيق، إلى بيوتٍ متنكراً في الظلمة، فيعطيهم، ولا يُعرف. وكان يُفتح عليه بالثياب، فيعطي الناس وثوبه مُرَقّع. قال الإمام الموفَّق: كان الحافظ يؤثر بما تصل يده إليه، سراً وعلانية. وقال سليمان بن رحمة الأسعردي [3]: بعث الأفصل ابن صلاح الدين إلى الحافظ بنفقةٍ وقمحٍ كثير، ففرّقه كله. وقال منصور الغضاري: شاهدت الحافظ في الغلاء بمصر، وهو ثلاث ليالٍ يؤثر بعشائه ويطوي، رأيت يوماً قد أهدي إلى بيت الحافظ مشمش فكانوا يفرّقون، فقال من حينه: فرِّقوا: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
· عنايته بالصلاة واكثاره منها: فكان يقوم من الليل، ويصلي بين المغرب والعشاء، ويصلي في الضحى ثلاث مئة ركعة بالفاتحة والمعوذتين ـ كما تقدم ـ. وهذا مبني على المسألة المشهورة: هل طول القيام أفضل، أم كثرة الركوع والسجود؟ فيظهر أن الحافظ رحمه الله كان يرى الثاني أفضل، وربما يكون هذا في صلاة النهار بخاصة، والله أعلم.
وكان يكثر من الوضوء، ربما توضأ من الليل سبع مرات أو ثمانياً، ويقول: ما تطيب لي الصلاة إلا ما دامت اعضائي رطبة. وكان يقول: سألتُ الله أن يرزقني مثل حال الإمام أحمد، فقد رزقني صلاته.
· ومنها: قوَّته في الحق، فكان لا يرى منكراً إلا غيَّره بيده أو لسانه، وكان لا تأخذه في الله لومة لائم، قال الضياء: قد رأيته مرة يَهْريقُ خمراً، فجبذ صاحبه السيف، فلم يخف منه، وأخذه من يده، وكان قوياً في بدنه، وكثيراً ما كان بدمشق ينكر ويكسر الطنابير والشبَّابات. قال الإمام الموفق: كان الحافظ لا يصبر عن إنكار المنكر إذا رآه، وكنَّا مرة انكرنا على قوم وأرقنا خمرهم وتضاربنا، فسمع أخي أبو عمر، فضاق صدره، وخاصمنا، فلما جئنا إلى الحافظ طيَّب قلوبنا، وصوّب فعلنا، وتلا: {وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17].
وكان قد وضع الله له هيبةً في النفوس، فكان ينكر على السلاطين والأمراء وأولادهم، إنكاراً شديداً فلا يتجرؤون عليه، وربما عوتب في ذلك، فيقول: "أنا إذا رأيت شيئاً لا أقدر اصبر".
· ومنها: جهره بمذهب السَّلف: وقد قام عليه المبتدعة وآذوه، كما سيأتي، فلم يزدد إلا ثباتاً على الحق، رحمه الله.
وقد وصفه ابن خالته الإمام موفق الدين رحمه الله في كلمة جامعة، فقال: كان جامعاً للعلم والعمل، وكان رفيقي في الصِّبا، وفي طلب العلم، وما كنا نستبق إلى خيرٍ إلا سبقني إليه إلا القليل، وكمَّل الله وصيلته بابتلائه بأذى أهل البدعة وعدواتهم، ورزق العلم، وتحصيل الكتب الكثيرة، إلا أنه لم يعمّر حتى يبلغ غرضه في روايتها، ونشرها.
جهوده في نشر العلم:
قال الضياء: وكان رحمه الله مجتهداً على الطلب، يكرم الطلبة، ويحسن إليهم، وإذا صار عنده طالب علم يَفْهم: أمره بالرّحلة، ويفرح لهم بسماع ما يحصّلونه، وبسببه سمع أصحابنا الكثير.
قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحافظ: ما رأيت الحديث في الشام كله إلا ببركة الحافظ. فإنني كل من سألته يقول: أول ما سمعت على الحافظ عبد الغني، وهو الذي حرّضني.
وقد اعتنى بتربية أبناءه وتعليمهم، ورحَّلهم لطلب العلم، وهم:
- عز الدين أبو الفتح محمد (566 ـ 613 هـ)، وهو ممن دخل بغداد غير مرة وسمع بها، كما سمع بدمشق وأصبهان.
- جمال الدين أبو موسى عبد الله (581 ـ 629 هـ) سمع بدمشق وبغداد وأصبهان ومصر، وحدّث بدمشق ومصر وغيرهما، وتكلَّم فيه بعضهم بسبب تقرّبه من السلطان.
- محي الدين أبو سليمان عبد الرحمن (583 أو 584 ـ 643 هـ) سمع بدمشق وبغداد ومصر، وحدث، وكان فقيهاً زاهداً.
وكان الحافظ رحمه الله يوصي أبناءه بقوله: "لا تضيِّعوا هذا العلم الذي قد تعبنا عليه".
ومن جهود الحافظ في نشر العلم، مجالس عامة، كان يجعلها للعامة، لوعظهم وتقريب العلم إليهم، وتغلب عليها: "الأحاديث والحكايات"، وقد جمعها في أجزاء جاوزت المئة، والجزء عند المحدّثين بحدود عشرين ورقة.
تصانيفه:
الحافظ رحمه الله من المكثرين في التصنيف، ومعظم تأليفه في الحديث، ولعل أشهرها: "عمدة الأحكام" في أحاديث الأحكام مما اتفق عليه الامامان البخاري ومسلم رحمهما الله. وقد اعتنى به العلماء، وشرحه ابن الملقّن ـ ولما يطبع ـ، وابن دقيق العيد، وشرحه على طريقة الفقهاء، وقد طبعه قديماً الشيخ محمد منير الدمشقي رحمه الله، مع تعليقات وحواشٍ كثيرة، وشرحه من المعاصرين: الشيخ عبد الله ب%