المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : محاولة تشخيص حالة شاعر الغسق



قسورة
12-31-2005, 06:05 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

شدتني هذه الحالة لما لها من إرهاصات لا يمكن التغاضي عنها. وهي جديرةٌ بالدراسة ومحاولة فهمها تنظيراً لأسباب الإلحاد من خلالها. ولست أقول أنني عالمٌ أو حتى طالب علم بل أنا مجرد قارئٍ هاوٍ ولم أدخل هذا المنتدى أصلاً إلا لكي أشارك في الرد على العلمانية ، ولكن وكما تلاحظون فعدد مشاركاتي قليلة فقد استغنيت عن المشاركة بالتعلم من أعضاء هذا المنتدى الذين أحترمهم وثراهم على رأسي ، ونتيجةً لرصدي ومعها حالة شاعر الغسق رجوت أن نستفيد جميعنا من هذه التجربة ، فنحن لا نرى مسلماً حقيقياً يرتد أو حتى تختل عقيدته كل يوم ، أو ربما نتعامى عن رؤيتها. في منتدىً آخر ما كنت لأتحدث عن هذه الحالة خوفاً على عقيدتهم ولكن في هذا المنتدى فأنا أصلاً تلميذ كل عضوٍ مسلم فيه.

مما تقرر في عقيدة السلف الصالح أن الإيمان يزداد وينقص. وهنا أطرح وجهة نظري حول طريقة ازدياده ونقصانه:
1. كم الأعمال الصالحة المقبولة والأعمال السيئة:
الأعمال الصالحة إذا كانت مخلصةً لله تعالى تقبلها فضلاً منه . وفساد النية المانع للإخلاص منه: العجب والكبر والحسد والحقد والغرور والرياء وغيرها وكلها شركٌ بطريقةٍ أو بأخرى. يستفاد من الأعمال الصالحة ازدياد الإيمان إن كانت مخلصة والابتعاد عن المعاصي إن لم تكن مخلصة. قس على ذلك الأعمال السيئة والفاسدة. وعلى قدر رجحان كمٍ على آخر يكون مقدار الإيمان.

هذه الطريقة متيسرة بشكلٍ كبير ، وهي حجر الأساس للإيمان مهماً كان ، وهي الطريق الطويلة الآمنة لزيادة الإيمان. وعلى العكس فهي أيضاً الطريق الطويلة الآمنة لزيادة الكفر.

نحن نعتقد أن أمثال شاعر الغسق قليل ، ولكنهم منتشرون أكثر مما نتصور ، ليس أنهم غالبية ، ولا أنهم ظاهرة ، ولكنهم حالةٌ موجودةٌ في كل أمة مهماً كانت.

والعلم من الأعمال ذات الرصيد العالي في زيادة الإيمان ، ولهذا كان العلماء أولياء الله في الأرض ، كما أن السيئين منهم هم أول من تسعر النار بهم لإنكارهم الحق بعد معرفته.

والمكثرون للأعمال السيئة يصلون إلى مرحلةٍ يستمرؤون فيها ماهم عليه حتى يصبح أحدهم منافقاً يوماً وهو لا يشعر. لذا فأمان النفاق هو نفاقٌ بحد ذاته ، كيف لا وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخشى على نفسه أن يكون منافقاً؟


2. التعرض للفتن:
لو قلنا إن النتيجة النهائية لموقف المسلم من الفتنة هي تربيع أو حتى تكعيب مقدارها من نتيجة وزن الأعمال الصالحة والسيئة لربما كان ذلك قليلاً. هذه سبيل الأنبياء فالأمثل فالأمثل الذين لا يزدادون إيماناً عن طريق كثرة الصلاة والتسبيح بقدر ما هو تعرضهم للفتن. ولكنني أؤكد أنها الطريق القصيرة الخطرة لزيادة الإيمان. ولذا لا يجوز الدعاء على النفس ، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر متى يكون العبد جاهزاً للاختبار والتمحيص ، وبسؤاله الابتلاء يخرج من تقدير الله إلى تقديره هو ، وقد خاب من استغنى.

وقد حرصت شريعتنا على توفير البيئة المناسبة للطريقة الأولى ، ومن هنا نعرف فضل الصحابة في كونهم من أصحاب الطريقة الثانية بلا استثناء ، وحرصها تمثل في قتل المرتد المفارق للجماعة وتشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . والطريقة الثانية تتمثل في المصائب والظلم والتعرض لفتنة الكفر.

المشكلة هي عندما تأمن على دينك طرفة عين ، فسيسلب منك. فقد كان أحد الصحابة يقول: إنكم تخشون الذنوب أما أنا فأخشى الكفر. أضف إلى ذلك حديث حلاوة الإيمان واستعاذة نبينا الأكرم عليه وآله الصلاة والسلام من الكفر لتعرف أنه أمرٌ يستحق الخوف منه.

وعندما تتعرض لفتنة الكفر فهذا يعتمد على شيئين : إيمانك المكتسب نتيجة أعمالك الصالحة المقبولة المخصلة الصادقة-ومنه الاستعانة بالله تعالى-، وعلمك الداعم لإيمانك والذان إن كان فيهما خلل كان الضياع. والفتنة ما كانت فتنة إلا لأنها تقتنص الإيمان في القلب. فإذا استطعت هزيمتها فماذا سيحصل لك؟ ستكتسب قوةً إضافية وشعوراً بالأمان إلى ما أنت عليه. وقد قال لي أحد الإخوة -المتبحرين في العلم- : الحمد لله على محاورة الملحدين. فقلت له : لماذا؟ قال: بالعكس ، كلما حاورتهم كلما ازددت إيماناً بدينك واطمئناناً. ولكنه متمرسٌ على هذه الفتن!

لا ننسى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حينما طلب الاطمئنان. من هذا كله نستنج مرةً أخرى: الكفر أمرٌ يستحق أن تخاف منه ، الخطأ هو أن تأمنه ، أو بالأصح أن تأمن مكر الله .

هذا ما حصل لأخينا شاعر الغسق -وأرجو أن يعذرني إن أخطأت في شيءٍ-. لم يعتقد يوماً أنه قد يتزعزع . كيف لا؟ فهو طالبٌ في ثانويةٍ أزهرية ، ومنتسبٌ إلى منتدى التوحيد ، فاغتر بنفسه.

دخل منتدى الملاحدة ، لاحظوا وتمعنوا ، ليس من باب العلم بالشر ، ولكن من باب الرد عليهم وإفحامهم ، ولم يكن لديه علمٌ كافٍ ، وأخطر من ذلك كان آمناً على نفسه. فهل كنا لنتوقع نتيجةً أخرى؟

وكما قلت ، فإن مقدار الإيمان أو نقصه في حال التعرض للفتنة هو مقدارٌ كبيرٌ جداً ، يمكنني تقديره بأنه يساوي مقدار الإيمان الناتج من قيام شهرٍ كامل ، هذا المقدار ذهب من قلبه.

ولاحظوا مرةً أخرى رجوعه إلى هذا المنتدى ، لاحظوا أن دافعه هذه المرة ليس لكي يرد علينا ، لا لكي يسألنا كيف يرد على شبهاتهم ، ولكن كيف يرد على شبهاته هو! لقد أصبحت شبهاتــــــ(ـه) وليست شبهاتــــــ(هم).

لقد تلقى صدمةً قويةً عندما دخل ذاك المنتدى الملحد وحده ، لاحظوا : دون استعانةٍ بالله ، ودون علمٍ كاف ، وآمناً مكر الله ، آمناً الكفر ، ثم ضرب ضربةً قاسية من أصحاب المصطلحات الكاذبة المصطنعة كثوب الملك الغير مرئي للحمقى -دققوا "للحمقى" لترسيخ الوهم- ، فرجع إلينا بانتكاسةٍ شديدة.

رجع إلينا ليتعلم ولكن هذه المرة وقد رسخت الشبهات في قلبه ، وقد تضاعف بعده عن الله ، وبالتالي انمحت استعانته بالله ، وقد خاف الكفر بعدما ترسخ في قلبه ، فضاع حجر الأساس وجاء ليطلب اللبن لكي يثبت طابوقاً غير موجودٍ أصلاً ، جاء ليطلب العلم الذي يدفع عنه الشبهات ، المشكلة أنها لم تصبح شبهاتهم ... أصبحت شبهاتٍ علينا وليست شبهاتٍ عليه .... لقد أصبحت عقيدةً ، لقد أصبحت عقيدتـــ(ـه)!

فقد سمعت الدكتور عمر عبد الكافي يقول في تفسير الآية (والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم) أي من يشاء في الهدى ومن يرغب فيه ، فالخيار هنا للإنسان ، وقدر الله تعالى -واعذروني إن أخطأت في لفظ أستاذ أبو مريم حسب تذكري له- : كشف وليس إلزاماً.

فحوار المتثبت من إيمانه الراغب في نفي بعض الشبهات يختلف عن حوار المتثبت من شبهاته الراغب في الإيمان. فالخطوة الأولى مطلوبةٌ من الإنسان وهي الرغبة الصادقة في معرفة الحقيقة. بدليل أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان قد دعا لعمه حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أن يثبته الله تعالى بطلبٍ من حمزة نفسه. ولكنه لم يدع لعمه أبي طالب. وأنزل الله تعالى فيه: (إنك لا تهدي من أحببت ) ليس من أحببت أنت يا محمد (ولكن الله يهدي من يشاء) من يشاء الهداية من الناس. الفضل لله تعالى أنه وفر طريق الهداية ويسرها له ، ولكن دخول الجنة والنار كله مجتمعٌ برغبة العبد الصادقة في اتباع الحق ، أي بنيته الصادقة في اتباع الحق. وفي النهاية فهي بعد مشيئة الله تعالى بالتخيير.

والكاذب كل الكاذب من قال لك إنني أبحث عن الحق بصدق ولكن الله لم يهدني. فقل له: لو كانت نيتك صادقة لهداك الله ولكنك كاذبٌ كاذبٌ كاذبٌ!

مجيء شاعر الغسق إلى المنتدى ليستفسر عن شبهاته كيف سنرد عليها كان كمن ينتظر أن يطمئن بما آمن به. فقد كان كالراغب في الانتحار وقد اعتلى رأس قمةٍ شاهقة وعلى شفير تردده أراد أن يقنعه أحدٌ بالعدول عن الانتحار. وهذا المحاور يجب أن يكون ماهراً جداً ، فهو إما أن يقنعه بالعدول عن الانتحار ، وإما أن يعطيه دافعاً أقوى للانتحار!

هنا أعود لأتكلم عن أساتذتي في هذا المنتدى . أقول لكم: مع أن شاعر الغسق مخطيءٌ في قراره ، فأعتقد أيضاً أن لديكم خطأً أو أخطاء في أسلوب حواركم معه. وليس معه فقط بل مع الكثير.

الخطأ الشائع في هذا المنتدى هو عدم تفريقهم بين مهمة الدعوة وبين مهمة التعليم. فكلٌ لها خصائصها ، وكلٌ لها المختصون بها.

عندما يكتب أحدنا موضوعاً للدفاع عن الإسلام ومحاربة الإلحاد فالأمر مختلفٌ عن حوار مع أحد الملحدين. في المواضيع المخصصة للدفاع عن الإسلام يحق للكاتب أن يستهزئ بالإلحاد وأن يشمت بهم وأن يقلل من شأنهم وأن يضع الحجج كيفما أراد لأن غرضه هنا هو التعليم ، التعليم بغرض "الإفحام".

ولكن عندما يتدخل ملحدٌ لكي "يتحاور" حول الموضوع يتحول غرض الموضوع من "الإفحام" إلى "الدعوة" . وللدعوة شروطها وللدعاة شروطٌ . فالكاتب ليس بالضروري أن يكون هو المحاور. فذلك "مفحم" "محارب" "مدافع" وذلك "داعية" .

والدعوة تكون باللين والرفق. فإن اعتدى أحدهم رددنا العدوان بمثل ما اعتدوا علينا. وإن عاد عدنا. ولكن السؤال: هل نبدأ نحن بالحسنى أم هم؟ أقول: هم يبدأون بالحسنى لأننا نحن الأعلون!

هذا خطأ. الخطأ الثاني هو إصابة البعض بالعجب في الحوار. ولكل المحاورين هذه نصيحة: اعلموا أن العجب والغضب هما آفتا المحاور. فإن كان المحاور معجباً بنفسه أو غضوباً ولو لحظة حواره فشل جميع سعيه في الدنيا للغضوب وفي كلتا الدارين للمصاب بالعجب ، فعمله محبط.
وللعجب آثارٌ تحتاج إلى دراسةٍ عميقة على المحاور. الأثر الذي أتحدث عنه هنا هو غضبه في حال لم ينجح في إقناع الطرف الآخر ، فيعتقد أن عدم اقتناع الطرف الآخر بوجهة نظره هو "تعدٍ" وجب رده ، المصيبة ليس بمثله ، ولكن بأضعافه. وكيف لا وهو ينتقم لنفسه ولا ينتقم لله تعالى؟

إن لم يقتنع الطرف الآخر فاعلم أن الحكم في مسألة (حجة من هي التي غلبت) يرجع إلى متابعي الحوار. فلربما لم يقتنع محاورك ولكن ربما اقتنع متابعو الحوار من صف الطرف الآخر. أو لربما زادت حججك إيمان المؤمنين المتابعين لك. أو لربما عدت على نفسك باللوم كيف أن الله لم يوفقك لإقناع الطرف الآخر لذنوبك ولاغترارك بنفسك أو لقة علمك المقتضي رجوعك مرةً أخرى لتتعلم أين أخطأت سواءً في أسلوب حوارك أو تستزيد علماً.

صدقوني إن داء العجب في الحوار هو أخطر داء. الاعتزاز مختلف ، ولا يظهره المسلم إلا في حالة الحرب بعد رفض الآخر لدفع الجزية بعدم الاستطالة في الحوار أو بعد رفضه الحجة بالدخول في الإسلام. واعلموا أن صاحبكم من المصابين به والذي لا يزال يتعالج منه بعدما جاءه بغتةً دون أن يشعر وأدى بي إلى نكساتٍ خطيرة.

ولكن اعلموا للأسف أيضاً أنني أرى أن كثيراً من المحاورين المسلمين في هذا المنتدى مصابون بداء العجب . والعجب يؤثر على جودة صياغة الحجة والاحتجاج. وهو داء الناجحين الدفين الذي تخرجه الشهرة والفرح بالعمل الصالح ونسبه إلى النفس وترك مراجعة النية قبل كل حوار وقبل كل رد. فالنفس أخطر من الشيطان. والنفس كالصاحب الخائن الذي إن تركت محاسبته لحظةً غبنك. فأكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وبصدق .

الخطأ الثالث وهو أحياناً ناتجٌ عن العجب ولكنه يستحق الاستقلال ، فهو تكالب المحاورين دون تمييز لطبيعة الموضوع وأبعاده وقدرة المحاور والمحاور الآخر وطبيعته.

فقد رأيت أحد الأعضاء الفضلاء يتنبه إلى عضوٍ مفسد في أكثر من مرة ويدعو إلى عدم الرد عليه وإعانته على عبثه ، ورأيت كيف أن الكثيرين يرمون بكلامه عرض الحائط ويشاركون في الرد حتى وإن لم يكن له حاجة . وسبب كثرة المشاركات هو إعجاب المرء برأيه ، وهي إحدى الثلاث التي يتمنى أن يظفر بأي منها إبليس : نيسان الذنب ، تذكر العمل الصالح ، إعجاب المرء برأيه. هي سلاح إبليس في حربه أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي لجأ إليه وهو : إتباع النفس هواها ، باعتقاد أنه الصواب.

فالبعض يريد استعراض قدراته الحوارية وإمكاناته أمام الخصوم . والبعض له نيةٌ سليمة قصده فيها التنبيه على ما غفل عنه أو إضافة رأيٍ يعتقد بأهميته.

وإن كانت نيته سليمة فهذا لا يمنع أن يتوقف عن المحاورة إذا رأى أن طبيعة الحوار ثنائية. فليس من الضروري أن يكتب أعلاه : حوار ثنائي. فأنت إنسانٌ ذكي بحكم مشاركتك وتستطيع تمييز متى ما تحول الحوار إلى حوار ثنائي نتيجة السياق. إن كنت ترى شيئاً منسياً فأرسل رسالةً خاصة إلى أخيك المحاور بما ترى وبأدبٍ ولطفٍ. فكثرة المحاورين تؤدي إلى التشتيت.

ونعود من هذه النقطة إلى أخينا شاعر الغسق . فقد شارك الكثيرون في حواره مما أدى إلى تشتيته. فكان الواجب في حالته الانتحارية أن يحاوره واحدٌ فقط. وأن يتنبه إلى أن مقتضيات حواره لا تكفيها تلاوة الآيات وتعليم الكتاب والحكمة بل لا بد من التزكية. بل لا تكفي أن تكون بهذا الترتيب أصلاً. هنا نستطرد استطراداً جانبياً في قضيةٍ شرحها الدكتور عمر عبد الكافي يقول:

دعوة نبي الله إبراهيم عليه السلام كانت: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}. فلما استجاب الله تعالى دعوة الخليل عليه السلام أعاد ترتيب مهمات نبينا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم فقال تعالى : {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلالٍ مبين}. انتهى كلامه.

فمهمة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الثانية كانت التزكية . وهي لمن كان "مشتبهاً" مثل حالة أخينا شاعر الغسق -رده الله سالماً غانماً آمناً مؤمناً-. فمن الطبيعي أن يغيب هذا المقتضى عن المحاورين.

بل من الطبيعي أن يضيع هذا الترتيب وإن قصده أحدهم بحكم مشاركة الآخرين عشوائياً دون ترتيب. فكيف إذا حصل من البعض ما رأيته من "الخطأ الثاني" بالعجب واليأس من أخينا ثم اعتدائه عليه بالقول لأنه لم يقتنع بقوله؟

ربما قال أحدهم : إنه ارتد على دبره القهقرى . يقصد استيجابه لحد الردة. أقول : أنتم من علمتموني في هذا المنتدى أن القتل للمرتد يكون إذا فارق الجماعة. أما إذا كان هذا الأمر في نفسه دون أن يظهره فأمره إلى الله. وهو لم يظهره ، بل إن سياسة المنتدى أصلاً هي عدم إعلان الأسماء وإخفاؤها سواءً من المسلمين أم من غير المسلمين!

وفي النهاية. ألا يكون لدي كلمةٌ ولو غير مباشرة حول حالة أخينا شاعر الغسق؟

أقول وبالله التوفيق:

يعتمد أكثر المحاورين في هذا المنتدى على العقل في إثبات الإيمان ربما كان هذا صحيحاً مع من اتخذ العقل وسيلة إيمانه. ولكن الإسلام ليس دين العقل فقط. فكما قال بعضهم في هذا المنتدى مقارنةً بين القرآن وعلم الكلام: إن القرآن ليخاطب العقل والقلب ومعاً ، الأمر الذي عجز عنه أصحاب الكلام. فتأثير قراءة القرآن العجيبة تكون في إقناعه العقلاني والعاطفي الوجداني. فالإسلام دين العقل والقلب معاً.

هذه المشكلة لا تواجه أبداً من لم يتعرض لهذه الفتنة وهي فتنة الإلحاد والتيارات الفكرية المعاصرة. ولكنها تواجه المحاربين وخاصةً المبتدئين فهم لم يمرسوا على الحرب وقد تذهلهم ، وبالأخص من لم يتلق تدريباً كافياً منهم كزميلنا. لكن الاطمئنان لما معك لا يكون بالتدريب فقط ، بل يكون بالإيمان بما أنت عليه أيضاً وأنك لست وحدك ، وأن معك ربك ، وهذا يستلزم إيمان قلبك قبل عقلك.

لا بد للإنسان في أي مرحلةٍ من حياته أن يفقد المنطق وأن يعتمد على قلبه فقط. وإلا فلم الفتن والابتلاءات أصلاً؟ لو كان الله تعالى يريد منا الإيمان بالعقل فقط لأنزل البراهين العقلية التي لا يمكن لأحدٍ أن يشك فيها لحظةً مهماً كانت حالته. ولكنه وضع حجاباً لا يرفع إلا يوم القيامة. ويريد منا الإيمان به بالغيب وإلا فكيف ندخل الجنة بهذه السهولة للنعيم الأبدي؟

المصائب هي لحظاتٌ يفقد فيها الإنسان وعيه ، ويفقد منطقه ، فهل تتغير الحقيقة بتغير المنطق المغيب وسط المعمعة؟ هل نقول إن المجنون على حق لأن هذا ما يراه؟ هو مجنون مصدودٌ عن رحمة الله تعالى وهذا ما أوقع نفسه فيه حينما قرر الاستعانة بعقله ولم يقرر أن يسلم إسلاماً حقيقياً بأن يسلم بقلبه قبل عقله لله تعالى ويستسلم له. الابتلاءات والمشاعر الناتجة كلها لحظاتٌ يغيب فيها المنطق عن العقل ، فهل يكفر ساعتها ويؤمن بعد أن يرجع إليه عقله؟ كلا ، الامتحان كل الامتحان هو أن تؤمن بالله تعالى وعقلك غير قادرٍ على التفكير . وهذا ما جعل الصابرين يجزون بغير حساب. لأنهم ألغوا عقولهم على حساب إيمانهم الذي عرفوه حقيقةً.

وليس هذا عيباً. فالإنسان كالطفل معتصمٌ بحبلٍ يهديه به أبوه في الضوء ، فإن أظلم الطريق فهل يفقد الثقة في أبيه ؟ فهل يترك الحبل لأنه لا يعتقد أن أباه ممسكٌ بالطرف الآخر ليهديه؟ بل يثق بأبيه لأنه يعلم أنه رحيمٌ من وضعه الحبل في يده ، وأن هذا ما هو إلا اختبارٌ بسيط ليرى مدى ثقته به. فلو أن الطفل كان مشاكساً وألقى الحبل وضل الطريق وسقط في الهاوية فهل هذا ذنب أبيه؟ وهل ذنب أبيه أن يعلم أن ابنه ليترك الحبل مع أنه حذره وأكد عليه ألا يتركه؟ وإن أعطاك أبوك نصائح لتوقي الحفر في الظلام ثم لم تتبعها ثم وجدت نفسك تقع في الحفر بسبب عدم اتباعك تعليمات أبيك فهل تلوم أباك؟ وهل تترك الحبل احتجاجاً على أبيك لأنك لم تتبع تعليماته؟ وهل تستدل على أنه غير موجود لأنك رفضت الاعتصام بالحبل وتهت نتيجةً لهذا؟

ولله المثل الأعلى.

إذا دخلت إلى منتدىً إلحادي ، أو حاورت ملحداً وأفحمك ، فليس معنى ذلك أن الحق معه. ولكن أرجعه إلى قصور عقلك أو قلة علمك ، واستسلم لله وراجع نفسك واتخذ من الأسباب ما استطعت وما أتيح لك واصطبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فسترى فرج الله قريباً جداً حتى أنك لتتساءل: أين كنت عن هذا؟ الحمد لله الذي هداني وما كنت لأهتدي لولا أن هداني الله . ولكن الكرة في ملعبك بأن تؤمن أنت أولاً.

لا تدخل منتدىً إلحادياً إن لم تكن لديك مناعةٌ إيمانية قبل العلمية. ولا تأمن الكفر أبداً . وكن متصلاً بالله تعالى . فغياب المنطق الآني لا يعني عدمه ، ولا يسوغ ابتعادك عن الحق. وقلة علمك ليس دليلاً على أن ما لديك هو خطأ.

أنا شخصياً دخلت هذا المنتدى بقصد منتدى الرد على العلمانية فوجدت منتدى الملاحدة فخفت على نفسي . ووقفت دقائق أدعو الله أن يثبتني على دينه وأستعيذ به من الكفر . هذا وهو منتدىً إسلامي.

فاستفدت من حالة شاعر الغسق في معرفة كيف يكون الإيمان الصحيح ، وهذا من فضل ربي.

فالأهم من هذا كله أخي شاعر الغسق هو أن تفهم هذه الجملة التالية فهماً صحيحاً: إيمانك بالعقل دون القلب شرك! فالعلم مثله مثل العقل والمعرفة ما هو إلا وسيلةٌ لأن تؤمن بالله تعالى لتكون من الموقنين ، بل إن العلم والمعرفة ليسا إلا وقوداً للعقل نفسه وليسا مستقلين بذاتهما . فلا تكن حداثياً. فالحداثي هو عبد العلم ، وعبد المعرفة. والمسلم هو عبد الله .

ودليلٌ على ذلك تذكرنا لظاهرة إنكار حديث الذبابة الذي آمن به سلفنا دون سؤال ، والذي ابتلي به المؤمنون . فآمن من آمن وكفر من كفر وراوغ من راوغ ، ثم انقشعت الغمامة عن مستشفياتٍ تستخلص المضادات الحيوية من أجنحة الذباب. وكشفت نتيجة الامتحان وأكرم من أكرم نفسه وقد هان من رضي الهوان!

كما لا ننسى أعظم فتنةٍ في التاريخ وهي فتنة المسيح الدجال . حيث أن الرجل يذهب وهو مؤمنٌ ليستمع له على سبيل المحاورة فيغلبه بمنطقه فيكفر. وعندها فستجد العلمانية والحداثية والليبرالية والملحدين كلهم أتباع له.

ربما قال الملحدون: فكيف تطالبنا بالإيمان بالله وقد اطمأنت قلوبنا إلى ما نحن عليه؟ ما الذي يجعل إيمان قلبك أصح من إيمان قلوبنا؟

الجواب:
أولاً: لم تطمئن قلوبكم يوماً إلى شيء بدليل أنكم تختلفون أكثر مما تتفقون. وبدليل أنكم دائماً حيارى ، تائهون ، متشائمون ، عابثون ، ضائعون ، متذبذبون ، لا تعترفون بحقيقة ، ولا تطمئنون بإيمان ، بل إن أساس إيمانكم يعتمد على نقضكم لغيركم. فإن صح لأصحاب دينٍ أن يدعوا اطمئنانهم بإيمانهم لما جاز لكم أنتم وحدكم الاطمئنان بإيمانكم بدينكم.

ثانياً: إيماننا هو لاعتقادنا بأن قلوبنا معلقةٌ بمقدّس وهو الله تعالى وما أنزل من الكتاب والحكمة. أما إيمانكم فهو معلقٌ بما تجزمون بعدم قدسيته. فكم مرةً عارض العقل نفسه . وكم مرةً نقض العلم ما قد كان بنى . وكم مرةً عرفنا ما لم نكن نعرف أو ما كنا نجهله. فكلها ناقصة مما ينفي عنها الكمال وبالتالي القداسة.

والحمد لله على هداية أخينا شاعر الغسق في موضوعه الذي قرأته اليوم. ونسأل الله تعالى أن يزيده إيماناً وأن يثبته.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سبع البوادي
01-01-2006, 12:54 PM
مشكور با عزيزي على الطرح - اسلوبك جيد و جذاب في هذا الطرح - على ما اظن انك داعيه او معلم ان كان لا اخبرني:emrose:

قسورة
01-01-2006, 06:06 PM
بسم الله الرحمن الرحيم



جزاك الله خيراً أخي سبع البوادي على إحسانك الظن بي. ولكنني لست بعالمٍ ولا داعية. وأنا كما أوضحت فأنا مجرد :قارئٍ هاوٍ. وأنا تلميذ كل عضوٍ مسلمٍ في هذا المنتدى.

كل ما أفعله هو أنني أسندت منطقي إلى القرآن وصحيح السنة واعتبرتهما المنطق الصحيح ثم بنيت اعتقادي ومفاهيمي وفقاً لهما . هذا كل شيء ، أي أن جهدي هذا كله لا يرجع شيءٌ من فضله لي وإنما لله سبحانه وتعالى الذي من علينا بالإسلام.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.