المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإسلام وتنمية العلم والبحث العلمي



ناصر التوحيد
01-07-2006, 02:04 AM
الإسلام وتنمية العلم والبحث العلمي

شكل الإسلام منذ بداياته الأولى إطارا مميزا , فهو يشمل كل مجالات الحياة الدنيوية والأخروية, حيث يرتبط عضويا بالدولة والسياسة والقانون والمجتمع ويكتنف الحياة العامة والخاصة وهو لم يفرق بأي حال من الأحوال بين ما هو ديني وما هو دنيوي وما هو روحي وما هو بدني زمني. وعلى ذلك فإن الدين في المنظور الإسلامي هو منهاج شامل, الأمر الذي يجعله إطارا ملائما لدفع التنمية الشاملة والمتواصلة, ذلك لأن التقدم في ميدان ما لا يمكن أن يتم إلا إذا صحبه وتوافق معه تقدم في باقي الميادين من الحياة الاجتماعية .

أن أول آية قرآنية لامست قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تحثه على العلم وأهمية طلبه: اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم . العلق 1ـ5.

فالإسلام, لا مراء, يدعو إلى العلم والتقدم الذي تستفيد منه الحضارة الإنسانية, وما كانت البشرية لتصل إلى ما وصلت إليه لولا إنتاج العقل المبنى على العلم والبحث العلمي. ذلك العقل الذي يعرف أن له خالقا, خلق فسوى, وقدر فهدى يتطلع إلى الكون بنظرة إيمانية تعينه على تحقيق النتاج العلمي .

الإسلام وتطوير العلم والبحث العلمي وتفضيل العلماء

أرسل الله سبحانه وتعالى إلى البشرية رسلا وأنبياء عددين منهم من حمل كتبا سماوية تدعو إلى الإيمان والتوحيد وتبين بعض المواعظ والحكم. إلا أن البشرية لم تشهد ومنذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى أن يرثها كتابا فيه من الإعجاز والبلاغة والفلسفة والعلم والعظة والحكمة والعبرة الخ, مثل القرآن الكريم. فلقد تميز هذا الكتاب العزيز عن الكتب المقدسة الأخرى بمجموعة من الإعجازات جعلت منه الكتاب الشامل والحاوي لكل ما يحتاجه الإنسان في حياته وعلاقته مع الآخرين ومع ربه وحتى مع كونه وما يحيط به من مخلوقات.
على أنه يلاحظ أن معجزة القرآن تختلف عن معجزات الرسل السابقين عليهم السلام. فقد قال الله سبحانه وتعالى عنه: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون . (الحجر ـ 9) لماذا?
أولا : لأن القرآن معجزة وكونه معجزة لا بد أن يبقى بهذا النص وإلا ضاع الإعجاز.
ثانيا : لأن الله اختبر عباده في الحفاظ على الكتب السماوية فنسوا حظا مما ذكروا به والذي لم ينسوه كتموا بعضه والذي لم يكتموه يلوون ألسنتهم به ويحرفونه عن موضعه وهكذا نرى أنه كان هناك أكثر من نوع المسخ والنسيان والتحريف ثم جاءوا بأشياء من عندهم وقالوا إنها من عند الله ليشتروا بها ثمنا قليلا .

وجدير أن نذكر, أن القرآن المجيد لم يأت ككتاب علم, ولم يأت ليبين لنا الجغرافيا والكيمياء والطبيعة وغيرها من العلوم, بل أنه نزل ليعلم البشرية الأحكام, والقرآن وإن لم ينزل ليعلم الناس العلوم الطبية أو أي علوم أخرى إلا أنه قد يمس قضية طبية بالتفاصيل الدقيقة, توصل إلى كينونتها الأطباء والعلماء بعد مئات السنين من نزول القرآن العظيم. فهذه الحقائق التي انتهت إليها آيات القرآن العزيز, هي قضايا الكون الأساسية, وهي الدعائم والركائز التي خلق الباري جلت قدرته على أساسها الكون, على أنها حقائق علمية ثابتة وراسخة وديمومية سواء توصلت إليها الاكتشافات العلمية أم لم تصل. فالقرآن الحكيم كتاب هداية وعقيدة وهو يخاطب ضمير الإنسان ويحيي فيه عوامل النمو والارتقاء, والصلاح والخير, والطيبة والفضيلة. كما أشار إلى كثير من الحقائق العلمية والكونية التي تشهد بأنه لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, فالقرآن الحكيم فبنعمة من الله وفضل محكم في آياته, مسلسل في حوادثه, عظيم في معناه, سام في تراكيبه, لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, تنزيل من حكيم حميد.
و الإنسان مأمور من الله بأن يزيد معرفته, وعليه الاستمرار في تقديم الاجتهادات للدلالة على الرأي العلمي, كما يستدل من الآيات التي تحض على الفكر, وتدعو للتأمل. ونحن موقنون بأن القرآن, إضافة إلى تعدد إعجازاته, فإنه الكتاب السماوي الذي خاطب العقل الإنساني والفكر البشري, وأن الله, جلت قدرته, قد ميز الإنسان وفضله عن سائر خلقه عدا الملائكة عليهم السلام . بأن وهبه العقل للتدبر والتفكر والتأمل والتمحيص. فالقرآن الكريم في مجمل آياته يدعو إلى شحذ الهمم وتركيز البصيرة واستخدام العقل لتطوير منهجية حياة الإنسان.

فهذا,أبرز وأهم إعجاز للقرآن الكريم وهو الدلالة القاطعة على دور الإسلام في تبني العلم والبحث العلمي, وتقدير العاملين, وكذلك اهتمام الإسلام برقى العقل البشري. لماذا? لأن الأمم تتطور والشعوب ترتقي والمجتمعات تتقدم فقط عندما يستخدم الإنسان فكره وعقله للصالح العام ولمنفعة البشرية. فالكون الفسيح والموارد المتاحة ومعيشة الإنسان اليومية وعلاقته بالآخرين لا يتسنى لها الكمال وتحقيق الأهداف المتوخاة منها إلا باستخدام العقل, الذي يقود إلى الاكتشافات والاستدلال على الأسس العلمية في حياة الإنسان.
إن القارئ المبصر والباحث المتبحر في آيات القرآن الجليل يجد أن للعلم والعلماء منزلة سامية وفضلا كبيرا قد يضاهي فضل الزاهد العابد. ولذلك ما انفك علماء المسلمين على مر السنين وتعاقب الأزمنة وفي مختلف الحقبات من التمحص في العلوم والبحث في كينونة آيات القرآن لمعرفة مجريات الأمور ومسبباتها, وبتحليل وتعليل قوله تعالى (سنري هم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). فصلت . 53. فالكون كتاب مفتوح وكذلك أنفسنا, نحتاج أن نتدبر ما بها من معاني القدرة وبراهين الجبروت وحجج القوة الإلهية العظمى التي لا تضاريها قوة أو يساويها سلطان.
ففي الإسلام نجد أحيانا أن الله يجعل من العلم فريضة وأحيانا الأجر الكبير لمن يبتغيه, وتارة بين مكانته ومقارنته مع التعبد ومنزلته بالنسبة للنوافل الأخرى. ويجب أن ندرك أن للعلم خاصية فريدة تميزه وهي كونه يختص بالإنسان. فالقوة والجرأة والشفقة والحنان والود قد تتميز به مخلوقات أخرى, سوى العلم فهو للإنسان, وبسببه أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة أن تسجد لسيدنا آدم عليه السلام.
ولا غرو إذن أن نجد في القرآن آيات تتساءل: (أفلا تعقلون)? (أفلا ينظرون)? (أفلا تتدبرون)? (أفلا يعلمون)? (أفلا تتفكرون)?
ولا غرو إذن أن يرد في القرآن المجيد ما يقارب من ثماني مئة آية تتحدث عن العلم ومشتقاته: علماء, يعلمون, تعلمون, الخ. ولا غرو إذن أن يمجد سيد الخلق سيدنا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم العلم والعلماء ويبين دورهم في تطوير الأمم وتقدمها.
إن آيات القرآن المجيد جلها تستدعي التفكر وتحث العقل البشري على التمعن في قدرة الخالق سبحانه وفي مسببات الأمور حتى وإن لم تنته الآيات بالتذكير والتفكير والتدبر. فلننظر إلى الآية التالية ليتبين لنا هذا الأمر:

"خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم " .(لقمان ـ 10).

هذه الآية الجلية من سورة لقمان لم تنته بألا تتفكرون أو ألا تتدبرون, أو ألا تعقلون, ولكن أليس من إعجاز القرآن حث العقل البشري وتحفيز فكره للتطلع والتدبر وتحسس الأمور? لامراء أن هذه الآية هي آية القدرة, وآية الحكمة, وبرهان تلك القضايا السابقة في سياق السورة. آية ذلك كله وبرهانه هو هذا الكون الكبير الهائل, الذي لا يدعي أحد من البشر أنه خلقه, ولا أن أحدا آخر خلقه من دون الله; وهو ضخم هائل دقيق النظام, متناسق التكوين, يأخذ بالقلب, ويبهر اللب, ويواجه الفطرة مواجهة جاهزة لا تملك الإفلات منها أو الإعراض عنها; ولا تملك إلا التسليم بوحدانية الخالق العظيم, وضلال من يشرك به آلهة أخرى ظلما للحق الواضح المبين. فكيف ترتفع السموات من دون سند أو أعمدة تساعدها على الثبات, وهي تحتوي على مجرات ونجوم وكواكب وشموس أضعاف حجم الأرض? وهذه الجبال ما دورها في حفظ توازن الأرض بحيث لا تتأرجح ولا تهتز? أما الأمطار فهي تنزل من المزن لاستمرار حياة المخلوقات وفق نظام سماوي دقيق
ودعونا نتساءل, عندما يجتمع متخصصون وباحثون وعلماء من كل مجموعة للمناقشة وتقديم الأدلة والبراهين وإيجاد الحلول واختراع المخترعات العديدة, كيف يتم ذلك?
ألا يتم ذلك بالنقاش والتنافس ودمغ الحجة وسطع البراهين? وهل يمكن أن يتم ذلك من دون استخدام العقل والفكر? فالتفكير والتدبر لقوم يعقلون ولقوم يعلمون ولقوم يتفكرون هو الشرط الأساسي للرقي والتقدم والفكر. وهو ما حباه الله جلت قدرته للإنسان, وهو ما تميز به دين الإسلام عن سائر الأديان والعقائد.
أبعد هذا إعجاز للإنسانية أو أكثر حثا على العلم والبحث والتعلم?.

دور الإسلام في تنمية العلوم وتطوير المعرفة

لقد كان شاغل المسلمين وهمهم منذ فجر الإسلام فهم ما جاء به كتاب الله بعد أن آمنوا به عن علم وبصيرة عن طريق البراهين التي تبدأ بالحس وتنتهي بالاقتناع. وبين الحس والاقتناع مجالات رحبة تتسع لحظوظ المفكرين من العقل وأساليب التناول ومعطيات المواهب.
والمعرفة الحقة يجب أن تبدأ بالمحسوس, وقدرة العقل على الاستكناه, وسلطانه المتزن هو الذي ييسر له الانتقال في هدوء وسكينة إلى غير المحسوس. وذلك ما اتخذه الإسلام منهجا وسبيلا للوصول إلى الغاية فكان المرفأ الآمن الذي اطمأن عليه ضمير المسلمين في فجر الإسلام . فما ورد في القرآن والسنة المطهرة يبقى كتابا وسفرا سهل المنال, ومعينا لا ينضب أمام الأجيال تتوارد على معينه السلسل لتنهل من دفعه المتجدد أبدا .
ولذلك, خلق الله الإنسان وأودع فيه غريزة حب الاستطلاع لكي يستكنه بعقله النير العبرة الضخمة التي تنضم وتسير هذا الكون العجيب والأفق الرحيب وخلق الإنسان وفق قواعد ونظم, وليس بعشوائية وارتجال. ولا غرو إذن أن يرتبط خلق الإنسان بالعلم, والعلم بخلق الإنسان كما ورد في أوائل السورة المكية وأول ما أنزل من القرآن.
"اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم ". (العلق 1ـ5).
وفي أوائل السورة المدنية "عروس القرآن".
" الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان ". (الرحمن 1ـ4).

فلقد خلق الله جلت قدرته الكون والإنسان, وعلمه العلم وألهمه التفكير ليبحث وليطمئن قلبه. وقد وضع أمام بصره وبصيرته وحسه ووجدانه, آيات القدرة الإلهية ليتفكر فيها ويتبصر ويعتبر ويتدبر. وهذا كان من دواعي التطور العلمي على مر العصور وتعاقب الدهور في حياة البشرية جمعاء.

إن التطور برمته, ومن خلال مراحل متعاقبة, يجدر اعتباره عملية واحدة, إلا أنها تتبدل على مدى الزمن, الأمر الذي قاد إلى تطور كبير ومذهل في كافة ميادين العلوم, تبيانا لما ورد في قوله تعالى من سورة العلق (علم الإنسان ما لم يعلم).


الإسلام وتطوير العلوم والبحث العلمي

تضمنت آيات عديدة مكية ومدنية, وكذلك أحاديث للرسول صلى الله عليه وسلم أهمية العلم والتفكر وفضل العلماء في الدنيا والدين وأنهم ورثة الأنبياء تقديرا لدورهم وإجلالا لعطائهم لخير البشرية وتقدم الأمم وتفقههم في أمور دينهم ودنياهم ولم يقتصر الإسلام في الاهتمام بتطوير العلوم الشرعية, فحسب, بل وكان للعلوم النافعة والساطعة أهمية واهتمام بالغ في الإسلام, فالقرآن والسنة النبوية خطاب موجه لجميع الخلق ليخرجهم من الظلمات إلى النور, فتعاليم الإسلام صالحة لجميع الأزمنة, محتوية لجميع الأحكام التي تهم البشرية قاطبة, شارحة القضايا الشرعية (الدينية) والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والأدبية والطبية والكونية, الخ.

لذا, اهتم المسلمون الأوائل بالبحث العلمي وأولوه عناية فائقة لكونه تحقيقا لتوجيهات الله عز وجل للمؤمنين بالتفكر والتدبر في آيات الله المختلفة في الكون والنفس والأطر الاجتماعية الخ, فكان جهدهم في هذا المجال مفتاحا لتقدم العلوم وتطورها في شتى مجالات العلم والمعرفة, وانطلقت أبحاثهم من منطلقات إسلامية عظيمة, أسسها مبنية على عظمة الله عز وجل وقدرته وأنه خلق الإنسان وسخر له كل شيء ليكون عبدا لله يسعى لمرضاته, ثم لخدمة أمته الإسلامية. وقد ورثنا من أجدادنا تراثا علميا خالدا وحضارة إسلامية حقيقية عم نفعها الإنسانية جمعاء, وتراث المسلمين في مجال علوم القرآن والحديث والفقه وأصوله وغير ذلك من العلوم الشرعية لا يوجد له نظير في الدنيا, ويقف الإنسان مبهورا أمام المجلدات الضخمة التي يصعب حصرها في مجال واحد فضلا عن باقي فروع العلم والمعرفة .


ولننظر ونتمعن في قوله جلت قدرته (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). فصلت 53.
إنه وعد الله لعباده بني الإنسان أن يطلعهم على شيء من خفايا هذا الكون, ومن خفايا أنفسهم على السواء. وعدهم أن يريهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم, حتى يتبين لهم أنه الحق. هذا الدين. وهذا الكتاب. وهذا المنهج. وهذا القول الذي يقوله لهم. ومن أصدق من الله حديثا ?. ولقد صدقهم الله وعده; فكشف لهم عن آياته في الآفاق في خلال القرون الأربعة عشر التي تلت هذا الوعد; وكشف لهم عن آياته في أنفسهم وما يزال يكشف لهم في كل يوم عن جديد.

الإعجاز العلمي سبيل للاستدلال بعظمة الخالق

اهتم الإسلام متمثلا بالقرآن الكريم والسيرة النبوية الطاهرة بالعلوم الشرعية والعلوم النافعة والساطعة على حد سواء, وذلك لكي تقوم العلوم الشرعية بوضع الأسس والقواعد ومنهجية الإسلام للبشر, أما العلوم الأخرى فتكون بمثابة البوتقة التي يصهر بها عطاء وفكر وتدبير الإنسان ليتوصل إلى اكتشافات ومعارف تتقدم بها البشرية وترتقي المجتمعات.

وإننا نرى أن العلوم الشرعية والفقهية, وهي من أهم العلوم للإنسان, ترسى العقيدة وتأصل المفاهيم وتجلى الحق من الباطل, والحلال من الحرام, وتبين وتشير إلى كيفية تسيير نهج حياة الإنسان وعلاقته مع نفسه وأهله ومجتمعة.

إلا أن المعارف النافعة والساطعة من هندسة وطب وعلوم, الخ تبين لبني آدم وتوضح مفاهيم وأسس لا مراء تدعو إلى التفكير في الخالق, والتدبر في معطيات خلقه, والإمعان في معاني هذا الخلق وكيفية عمله وفق نظم وأسس تدل على أن لكل شيء آية, وإلى أن وراء كل ذلك خالق أحد صمد خلق كل شيء بقدر.


وسنستعرض بعض الأمثلة للاستدلال والتأكيد على ما ذكرناه آنفا .


السماء ذات الحبك

وصف البارئ السماء بذات الحبك, أي بذات الطرق, ولكل طريق أبواب عدة. ولم ينفذ علماء الفلك من الغلاف الجوي الأرضي ويسيروا شيئا من أقطار السموات إلا من خلال الأبواب والطرائق الموجودة في الغلاف الجوي الأرضي والفضاء الخارجي. فكل مركبة فضائية يجب أن تنطلق في زاوية وفي مسار معين كي تستطيع النفاذ من نطاق جاذبية الأرض إلى الفضاء الخارجي. وهناك آلاف الأدمغة الإلكترونية التي تصحح سير المركبة كلما ضلت عن مسارها, كما أن على المركبات الفضائية خلال عودتها إلى الأرض من الفضاء الخارجي الدخول والسلوك من فتحات وطرائق معينة في الغلاف الجوي الأرضي وإلا بقيت في الفضاء الخارجي أو احترقت قبل وصولها إلى الأرض. وهو ما كاد يحصل لإحدى المركبات الفضائية منذ سنوات عندما تعطلت لبعض الوقت الأجهزة التي توجهها نحو الفتحة أو الباب الذي يجب أن تدخل من خلاله في الغلاف الجوي الأرضي. وقد ظل العلماء يومئذ يحبسون أنفاسهم مع الرواد الثلاثة الذين كانوا على متنها إلى أن يسر لهم المولى سبل ولوج الباب الذي نفذوا منه بمركبتهم سالمين إلى الأرض. ولقد وصف علماء الفلك عودة هؤلاء الرواد من القمر إلى الأرض كالآتي: في يوم الخميس من 24 تموز سنة 1969 وفي الساعة 17 و20 دقيقة ألقى رواد الفضاء من حمولتهم ودخلوا في الغلاف الجوي الأرضي بسرعة 11 كلم في الثانية من خلال ممر ارتفاعه 65 كيلو متر, فإن دخلوا من ممر أعلى ارتدوا وعادوا إلى الفضاء الخارجي, وإن دخلوا من ممر أسفل من الممر المحدد كان حريقهم وموتهم.
والجدير بالذكر أن المسار الذي سلكه الإنسان وآلته في النفاذ من الأرض إلى الفضاء هو طريق متعرج وليس مستقيما , وهنا نلاحظ الإعجاز العلمي والقرآني في كلمة "يعرجون" أي يصعدون بصورة متعرجة, ونفهم لماذا أسمى المولى عز وجل سورة من كتابه "بالمعارج", ولماذا وصف نفسه "بذي المعارج" أي برب السماء ذات الطرقات المتعرجة: (سأل سائل بعذاب واقع . للكافرين ليس له دافع. من الله ذي المعارج). المعارج 1ـ3.

العسل: غذاء ودواء

" ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذل لا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " . النحل . 69.
تنتهي هذه الآية الجليلة بقوله سبحانه (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) ماذا يعني ذلك? وهل هذا نداء أو طلب لمعرفة أسرار العسل والكشف عن دوره المميز والعجيب والنادر في الشفاء? أجل هذه الكلمات الجليلات تفيد النداء وإثبات الإعجاز العلمي, إذ أن هذه الآيات لم تتطرق من بعيد أو من قريب عن مكونات العسل ونوعيته ما أهميته وكيفية استخدامه للعلاج, وترك الأمر برمته للعلماء والباحثين.
وعندما شحذ الأطباء والصيادلة وأصحاب التخصصات الأخرى هممهم لدراسة العسل, وجدوا أنه ليس فقط يستخدم كعلاج ودواء بل إنه أحد مقومات ما يسمى بالأمن الغذائي لكونه غذاءا لذيذا وحلوا يحتوي على طاقة كبيرة ويمد الإنسان بمقومات الحياة. أما عن تركيباته فوجد أنه مخزن كامل أو صيدلية شاملة لمجموعة من العقاقير المبيدة للجراثيم والمضادة للعفونة ولقد أدلى جراحون وأطباء في تخصصات مختلفة نجاح استخدام العسل في: شفاء الجروح, إزالة تجاعيد الجلد, التهابات القرنية, الإضرابات الهضمية, الآفات الكبدية, النزلات الشعبية, التهابات المجاري التنفسية, السعال, زيادة الكريات الحمراء وارتفاع نسبة الخضاب في الدم, الخ.
أما التركيبة, فلقد أفادت التحاليل بأن العسل يحتوي على خمسة عشر نوعا من الأحماض لاسيما الأمينية, وخمائر وفيتامينات ولا سيما فيتامين ب2, وبروتينات ومشتقات الكلوروفيل, أصبغة ومنشطات حيوية, مركبات عطرية, الألدهيدات واسترات, وأملاح معدنية مثل الكالسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والحديد, وأهم من ذلك وجود مواد مضادة لنمو الجراثيم.


مساهمة العلماء المسلمين في تطور العلوم والمعرفة


هنالك فرق بين طريقة العرب في تصورهم للأشياء وكذلك نوع معارفهم قبل نزول القرآن وبعده, فقد كانت عندهم معارف متفرقة بظاهرات الطبيعة في السماء والجو, وبطبائع الحيوان وأمور الإنسان في أحواله البدنية والنفسية, إلى جانب ما كان عندهم من مفهومات إنسانية ومعايير للأخلاق والفضائل التي كانت هي الغالبة في تفكيرهم وشعورهم بأنفسهم.

ويجب أن نلاحظ أن تلك المعارف كانت من جهة متفرقة لا تنظمها أحكام كلية, وكانت من جهة أخرى لأجل الحاجة إليها في أساليب المعيشة, ولم تكن على طريق تعلم الحقائق ولا على سبيل التدرب في العلوم.

فلما جاء القرآن حول اتجاه الفكر من الاهتمام بالأمور العملية ومن النظرات المتفرقة إلى البحث النظري والتوصل إلى أحكام كلية والاتجاه في تحصيل المعرفة إلى أنواع من الاستدلال الكبير الذي يوصل إلى العلم بمعناه الحقيقي, وكان ذلك في أهم المسائل التي دار حولها الفكر البشري, واشتمل عليها القرآن.

وقد كان ذلك التفكير والاستدلال بالعقل على صورة ضمنية إجمالية, لكن بلغة الفكر الداخلية التي هي الأصل والمصدر لكل الصيغ اللفظية, وقد تحققت الغاية بحسب قوانين العقل الذي فطره الله عليها ولم يتعلمها من أحد.

ومن يدرس آيات القرآن في تكاملها في كل موضوع على حدة يجد معرفة متكاملة في كل شيء, وعند ذلك يتبين له كيف تألفت في العقول على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام النظرة الكافية في كل موضوع اشتمل عليه التعليم القرآني, ويتبين له أيضا مدى عمق الإيمان في قلوب أولئك الذين تلقوا دعوة الإسلام وحملوها ومدى شدة حماستهم في الجهاد في سبيل الدعوة.
ثم إنه إذا كان ذلك كله قد تحقق على نحو تلقائي وإجمالي فإن الفكر تقدم بعد ذلك, فظهرت المفهومات ومعها مصطلحاتها, والمناهج ومعها قواعدها والآراء والمذاهب ومعها أدلتها, وتمثل ذلك التطور في أنواع العلوم الدينية والعقلية, ولا يزال كل شيء في ازدياد من حيث التفصيل, وكذلك لا تزال آيات القرآن تشرق معانيها في العقول مع زيادة المعرفة, وخصوصا في مجال الدراسات الكونية والإنسانية والاجتماعية والحضارية .
يشيد التاريخ بدور العلماء العرب والمسلمين في حمل لواء المنهج العلمي ومواصلة مسيرة البحث التجريبي في العصور الوسطى, التي كانت مظلمة في أوروبا وشهدت انحسار الحركة العلمية عنها. في العصور الوسطى المظلمة كان العرب هم الذين يقومون بمهمة تنفيذ التقاليد العلمية. أما الغرب فقد اكتسبوا منهم إلى حد بعيد ما اكتسبوه من معرفة علمية حازتها العصور الوسطى اللاحقة.

لقد ترامت إمبراطوريتهم الناهضة وضمت مراكز الحضارات الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس وجيرانها الآسيويين. وحتى الصين التي لم يفتحها العرب , فتشكلت أهم مراحل العلم القديم وغايته وقمته بإبداعاتهم الرائعة في شتى فروع العلم.

وكان العرب المسلمون أمة جديدة بلا تراث علمي سابق, فقرأوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم, ولذلك وقفت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعا بالنسبة لهم على قدم المساواة. وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية. وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث.

العرب في هذا التفتح الواعد لم يرتدوا عن إيمانهم بالله أو تهاونوا في أخذ الدين مأخذ الجد, فتنامى إحساسهم بمغزى التناسب, فشرعوا في تفهم واستيعاب فضائل النزعة الإنسانية.

ومن هنا انطلقت مرحلة مهمة من مراحل الحضارة ومن مراحل العلم على السواء, تميز العلم فيها عن العلم الغربي الحديث في أن هذا الأخير انفصل انفصالا بائنا عن القيم والأخلاق. أما العلم الإسلامي في الحضارة الإسلامية فقد تأتي في إطار توجههم الأخلاقي المثالي العام. وبينما انطلق العلم الحديث من صراع دام مرير مع الأيديولوجيا السائدة في أوروبا. فإن العلم الإسلامي انطلق من داخل إطار الأيديولوجيا الحاكمة وبرعايتها. إن تمويل الخلفاء السخي للبحث العلمي مسألة مذكورة ومشهورة.

وتظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي وأرقى أشكال التفكير المنطقي المنظم والمدخل الحق للطرح العلمي. وقد لعب المسلمون دورا كبيرا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها, وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر والهندسة. فانقسمت الرياضيات العربية إلى علوم أساسية هي الحساب والهندسة والفلك , وتتفرع فروعا عدة لا ننسى منها الإنجاز الأكبر وهو الجبر.
أدى اهتمام الإسلاميين بالرياضيات, وإعلاء شأنها إلى تناميها على أيديهم تناميا يصعب تفسيره فقط بهذه النظرة الداخلية للنسق المعرفي. فثمة عوامل خارجية في الحضارة الإسلامية دفعت إلى هذا, منها اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع. وكمثال على مشاكل التجارة العربية التي احتاجت في حلها إلى عقلية رياضية متطورة. ثم نظام المواريث الإسلامي, وأيضا تعاظم جحافل الجيوش الجرارة وتوزيع رواتبها وغنائمها وحساب نفقاتها, ثم الرخاء الاقتصادي والتراكم المالي الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية, ومشاكل حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة. هذا فضلا عن مشاكل عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.

أما عن الفلك فسنجد تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية تدفع الإسلاميين إلى اهتمام مكثف بالفلك, لاسيما وأن البيئة الصحراوية دفعتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفا, وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقا لمواسم الحصاد. والمحصلة أن المسلمين استطاعوا تطوير علم حساب المثلثات, وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات, وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتين وإثبات كروية الأرض.

ولم تكن التقانة (التكنولوجيا) أقل شأنا, وليس أدل على تجلي روح التقانة العلمية في الحضارة الإسلامية من أن ابن سينا أوضح أن علم الهندسة يتفرع عنه علم المساحة وعلم الحيل المتحركة وعلم جر الأثقال وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات الجزئية وعلم المناظر والمرايا وعلم نقل المياه. وأفاد العرب بأن العالم الإسلامي أكثر انكبابا على البحوث التجريبية ولم يعن كثيرا بصياغة النظريات العلمية العامة أو البحتة, أي أن العلماء العرب كانوا تجريبيين أكثر مما ينبغي. وفي سياق البحوث التجريبية تواترت الإنجازات المعروفة للعلم العربي لا سيما في الطب والجراحة والصيدلة والنبات. أما الكيمياء أو فإن كثيرين من مؤرخي العلم القديم حذوا ابن خلدون وأسموا الكيمياء "علم جابر". وقد كان جابر بن حيان في القرن الثاني الهجري في طليعة الرواد للعملاء المسلمين التجريبيين.

ولا ريب, كان للعلماء العرب والمسلمين دور كبير في تقدم العلوم والتكنولوجيا وتطور الأمم. ونستدل بذلك على قول لأحد علماء العرب بأن العلماء العرب والمسلمين هم الذين مهدوا الطريق المفضى إلى الثورة العلمية في أوروبا إذ عمل هؤلاء على تطوير ومناقشة جوانب عديدة للمنهج التجريبي ليس هذا فحسب, بل وطوروا أيضا الأدوات والآليات الضرورية للوصول إلى أرقى المستويات في العلوم


الخلاصة



تميز الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بتنمية العقل البشري والتركيز على تشجيع الإنسان ليمارس البحث ويأخذ من التدبر والتفكر والتمعن ديدنا لحياته, يمحص ما في نفسه ويتساءل عما يحدث حوله للإنسان وللجماد والنبات والحيوان والكون.

كما بين الإسلام الدور الهام لمن يعطي للبشرية وينهل من العلم والمعرفة, ورفع من مكانة العلماء والباحثين وذوي الخبرة (وما ينبئك مثل خبير) فاطر 14, والتخصص في تطور المجتمعات ورقي البشرية.

ولذلك, وانبثاقا من قوله تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم) العلق5 يمم المسلون وجوههم شطر العلم والبحث والمعرفة, ونفرت طائفة منهم في شتى بقاع المعمورة لنشر العلوم وتتبع أهل العلم والخبرة في مختلف التخصصات من علوم شرعية ودنيوية, حتى أن المحب للعلم كان يسافر أميالا ويقطع الفيافي والقفار للتأكد من صحة حديث للنبي صلى الله عليه وسلم أو أن يجتمع مع علماء وباحثين للتزود من علمهم والاقتناء من خبرتهم مؤكدين قوله تعالى (وقل رب زدني علما ) طه114.

ولقد زاد من هذا العطاء اهتمام بعض الحكام وولاة أمر المسلمين بالعلماء الباحثين وحتى المترجمين إذ كان بعض الخلفاء يغدق بسخاء عليهم حتى أن بعضهم كان يعطي لكل مترجم وزن ما يترجمه ذهبا من علوم ومعارف من الحضارات الأخرى.

ولما نزل قوله تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الإسراء 85 عرف وأيقن العلماء المسلمون بأن العلم والمعرفة بحر لا ينضب وعطاء لا ينفد, وأن عليهم الانكباب على العلم والمعرفة ساعة تلو الآخرى وعدم الاكتفاء بما لديهم من علم ومعرفة.

وهكذا, أخذ العالم كله بمضمون هذه الآية الجليلة حتى نكاد نرى بين فترة وأخرى تقدما وتطورا مذهلا في جميع مناحي الحياة نتج عنه تقدم الإنسان ورقي المجتمعات.

وعلينا أن ندرك معشر الإسلام والعروبة بأن الإسلام هو الدين الذي أرسى المفاهيم الأساسية وحث على التزود من العلم والنهل من المعرفة للتيقن بأن وراء هذا الكون خالق صمد ولخدمة البشرية.

وقيمة المرء ما قد كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
فقم بعلم ولا تطلب به بدلا فالناس موتى وأهل العلم أحياء
الإمام علي بن أبي طالب