المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قضية المجاز فى القرآن



أبو مريم
02-28-2006, 11:48 PM
بحكم طبيعة اللغة فإن دلالة بعض العبارات على معانيها ظنية وتحتمل التأويل فهى بذلك لا تقوى على معارضة الدلالة القطعية ولكن هل يشمل ذلك كل الظواهر عند المعتدلين من المؤولة ؟
إن قولهم بظنية الدلالة لا يتعين إلا عند وجود المعارضة العقلية ولا معارضة إلا عندما يستخدم الدليل العقلى والسمعى جنبا إلى جنب فلا حاجة إذن للخوض فى تلك المسألة إلا فيما يتعلق بالصفات الخبرية .
وقد رأى متأخرو المؤولة من الأشاعرة تعارضها مع مبدأ التنزيه عن الحدوث أو مشابهة المحدثات ورأوا أنه للخروج من المعارضة يجب اللجوء إلى أحد الخيارات التالية :
1- إخراج مضمون السياق إلى معنى آخر لا تقع معه المعارضة :
ومن أمثلة ذلك تأويلهم لقوله تعالى (( يوم يكشف عن ساق )) (سورة القلم:42) بأنه كناية عن اشتداد الأمر ( انظر التفسير الكبير للرازى 30/94) ولهم فى ذلك مستند من الأثر لا تقع معه المعارضة إذ الأصل عندهم عدم التعارض بين الدليل العقلى والسمعى والأصل فى الأدلة السمعية الإحكام فيما يتعلق بمسائل الاعتقاد وهذا ما يرجح عدم وقوع التعارض إلا إذا ورد إسناد الصفات إلى الذات .
2- تفسيرها بمعنى آخر لا تقع معه المعارضة :
ومن أمثلته قولهم فى صفة العلو الواردة فى قوله تعالى (( أأمنتم من فى السماء ))(سورة الملك :16)قالوا : (( ولم لا يكون تقدير الآية الملك الموكل بالعذاب )) ( التفسير الكبير 30/69) والفرق ينه وبين النوع الأول أنهم غير مستندين فيه إلى أثر وهو قريب من التأويل المحض.
3- تأويلها بمعان تعود للصفات السبع :
ومثاله تأويلهم لليد فى قوله تعالى (( يد الله فوق أيديهم ))(سورة الفتح :10) بالقدرة ، وللعين فى قوله تعالى (( ولتصنع على عينى )) (سورة طه 39 ) بالبصر أو العناية ، وللوجه فى قوله تعالى (( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام )) ( سورة الرحمن : 27) باللذات .
أما المتقدمون منهم فلم يؤثر عنهم إلا تأويل ما يوهم حدوث الصفات فى ذات الله تعالى كتأويل الرضا والغضب والمحبة والإرادة مما وردت به الآثار (انظر الأشعرى : رسالة إلى أهل الثغر تحقيق عبد الله شاكر ).
وهذا لا ينبغى أن يؤخذ عنهم بمعزل عن الواقع الفكرى والصراع المذهبى مع المشبهة وغلاة الشيعة والتأثر بهم سلبا ولا ينكر كذلك تأثر المتأخرين منهم بالمعتزلة حتى كاد مذهبهم يلتحم بالاعتزال وتأثرهم بالفلاسفة حتى قال عنهم ابن خلدون (( لقد اختلطت الطريقتان عند هؤلاء المتأخرين والتبست مسائل الكلام بمسائل الفلسفة بحيث لا يتميز أحد الفنين عن الآخر )) (المقدمة تحقيق عبد الواحد وافى طبعة نهضة مصر ط3 3/1083).
ولا ينبغى كذلك إغفال محاولة بعض أئمتهم لوضع ضوابط للتأويل كما فعل الغزالى حين راى تناقضا بين روح الإثبات التى قام عليها مذهب أسلافهم كالأشعرى والباقلانى وبين الإسراف فى التأويل فقال بتأويل الوجود الذاتى بالحسى ثم بالعقلى ثم الخيالى ثم الشبهى ثم المجازى بشروط وضعها وقال :(( فاسمع الان قانون التأويل فقد علمت اتفاق الفرق على هذا الدرجات الخمس فى التأويل واتفقوا ايضا على أن جواز ذلك موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر ولا يصير إلى درجة نها إلا بعد تعذر التى فوقها ولا يجوز العدول عن درجة إلى ما دونها إلا بضرورة (الغزالى : فيصل التفرقة طبعة مكتبة الجندى ص 138 ) كما لا ينبغى تجاهل تسامح بعض الأشاعرة مع من أسموهم بالمثبتة ورجوع بعضهم إلى قريب من مذهب أخل السنة ( انظر مثلا الجوينى فى النظامية ص9 ) وهى المواقف التى أولها بعض المتعصبين من أتباع المدرسة الأشعرية على غير حقيقتها كالكوثرى محقق الكتاب .

والواقع أن المسألة تنحسم دون المرور بتلك المهالك والفوضى الفكرية لو قلنا بنفى وقوع المجاز فى القرآن لكن ذلك القول لم يتبلور إلا مؤخا على يد شيخ الإسلام ابن تيمية فقد كان مستند النفاه سد ذرائع التأويل وتنزيه كلام رب العالمين عن وقوع الكذب ومستند المثبتين الواقع اللغوى العام وقد ردوا قول النفاه بأنه يكون كذبا لو أثبت حقيقة لا على سبيل المجاز والاستعارة فإنه من الأساليب المستحسنة وأما مقابلة المجاز للحقيقة فإنما هو بالمعنى الاصطلاحى وليس بالمعنى اللغوى ..وهذا وإن كان قائما على أسس قد تبدو واقعية فقد آل بهم إلى التأويل بل والتأويل المسرف .
وقد رأى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن قضية المجاز أو فكرة المجاز عموما تقوم على فكرة أخرى هى كون اللغة موضوعة وليست اصطلاحية يقول ابن جنى فى الخصائص ((الحقيقة ما أُقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة والمجاز : ما كان بضد ذلك)) فإذا لم يثبت كون اللغة توقيفية فقد ذهبت نظرية المجاز أدراج الرايح . يقول ابن القيم إن قولهم بوجود المجاز فى القرىن بل وفى اللغة عموما انما يصح إذا علم ان الالفاظ العربية وضعت اولا لمعان ثم استعملت فيها ثم وضعت لمعان اخر بعد الوضع الاول والاستعمال بعدهولا تتم لكم دعوى المجاز الا بهذه المقامات الاربع وهذا ما قد عجزوا عنه بل قد اضطربت أقوالهم فيه غاية الاضراب وانتهى بهم الأمر إلى القول باستحالة التحقق من ثبوته أو عدمه :
ذهب الأشعرى إلى أن اللغة توقيفية على سبيل الإلهام استنادا لقوله تعالى (( وعلم آدم الأسماء كلها )) وذهب الباقلانى إلى أن التخصيص ( أى تخصيص لفظ لمعنى ) قد يقع إما بالتوقيف كا ذهب الأشعرى أو الاطلاح وأن كلاهما غير ممتنع عقلا وكان الإسفرايينى قد ذهب إلى وقوع التخصيص بالتوقيف فى قدر منها وهو الذى يدعو به أفنسان غيره إلى الاصطلاح وأن هذا فقط ما يقود إليه الدليل العقلى .
والخلاصة أن الدليل العقلى لا يؤدى إلى معرفة مصدر التخصيص وهل اللغة توقيفية موضوعة ابتداء أم اصطلاحية وإن كانت ألأدلة الشرعية - فى ظاهرها - تشير إلى أنها توقيفية من عند الله تعالى وفى ذلك يقول الآمدى (( إن كان المطلوب فى المسألة يقين الوقوع فالحق ما قاله القاضى - أى الباقلانى - وإن كان المطلوب الظن - وهو الحق - فالحق ما قاله الأشعرى )) (انظر الأمدى : الإحكام 1/170)
فتبين أن القائلين بوجود المجاز فى اللغة أصلا قد أقاموا دعواهم على نظرية أخرى لا دليل على صحتها وأن مستندهم فيها الظن .
فلم يبق إلا نفى المجاز لا سدا لذرائع التأويل بل إيمانا بإعجاز القرآن العظيم وكماله بحيث يتحقق له الجمع بين مستحسنات اللغة والصدق المطلق وهو ما يعجز عنه الجن والإنس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ولانعدام الدليل لدى المخالفين .