المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإلحاد من منظور فلسفي حوار مع الدكتور الطيب بوعزة



د. هشام عزمي
07-22-2012, 03:22 PM
534
http://nama-center.com/DialogueDatials.aspx?id=11
..
حاوره: مركز نماء للبحوث والدراسات

بين يدي الحوار..
في هذا الحوار يجول بنا المفكر الإسلامي الدكتور طيب بوعزة المتخصص في الفلسفة والفكر الإسلامي في الفكر الفلسفي الغربي، منقبا عن جذور الفكرة الإلحادية فيه وعم المراحل التي برزت فيها، وعن الدعامات الفلسفية التي استند عليها الفكر الإلحادي، وينتهي عبر جولة طويلة إلى إثبات هامشية هذا الفكر في الدرس الفلسفي، ويثبت على عكس ذلك تجذر الفكرة الإيمانية في مسار الفلسفة الطويل.

من الناحية الفلسفية ما هي اللحظة التاريخية التي يمكن أن نرى فيها بروزا واضحا للفكر الإلحادي ؟
اللحظة الكبرى هي القرن الثامن عشر، فهذا القرن هو أهم لحظة شهدت حملة فكرية مناهضة للدين في الثقافة الأوربية. وهنا لدي ملاحظة فيما يخص تاريخ الفلسفة عامة، وهي أن ظهور الفكر الإلحادي المناهض للدين كان في لحظات تراجع الفلسفة وانحطاطها لا لحظات تطورها وازدهارها.
فلحظة سقراط وأفلاطون وأرسطو -التي هي حسب غالبية المؤرخين والفلاسفة- لحظة سمو الوعي الفلسفي اليوناني، هي لحظة إيمان واعتقاد، وإذا أردنا أن نقف على لحظات استعداء الدين فيجب أن ننتقل إلى لحظة خريف الفلسفة الإغريقية، أقصد لحظة أبيقور صاحب الأسئلة الإلحادية الشهيرة المرتكزة على إشكالية وجود الشر في العالم.
كذلك الشأن فيما يخص تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة، فالقرن السابع عشر قرن عملاق في صيرورة تطور الفكر الفلسفي الأوربي، قرن ديكارت ومالبرانش وسبينوزا ولايبنز... وهم فلاسفة مؤمنون ومعتقدون، بل حتى سبينوزا الذي كان حلوليا فهو في نزوعه الفكري والفلسفي يتسم بنزوع اعتقادي ديني عميق.
وهنا أعود إلى ما قلته لك في البداية، وهو أن لحظة القرن الثامن عشر هي الأكثر استعداء للدين في فلسفة الغرب، وعند بحث المحصول الفلسفي لهذا القرن سنلاحظ أنه قرن قزم، وعطاؤه الفلسفي لا يستحق الذكر ؛ فإذا استثنيت إيمانويل كانط -وهو كما هو معلوم فيلسوف مؤمن بل شديد التدين رغم أن فلسفته ستوظف لاحقا لدعم النزعات التشكيكية والإلحادية- لا تجد في هذا القرن أي قامة فلسفية تستحق التنويه، ففولتير وروسو ومونتيسكيو... هم أدباء متفلسفون لا فلاسفة بحصر المعنى. فلو عايرت كتبهم بمعيار الصناعة الفلسفية لن تجد فيها ما يستحق التنويه، والإسهام المعرفي لهؤلاء الأدباء المتفلسفة كان إسهاما في الفلسفة السياسية، خاصة في نظرية العقد الاجتماعي وفصل السلطات. أما الصناعة الفلسفية الثقيلة، كالمنطق ونظرية المعرفة والرؤى الأنطلوجية (رؤى الوجود) فلا نجد لديهم إلا رؤى مكررة.

ذكرت إيمانويل كانط، دعني أقف معك عند هذا الفيلسوف، أليست الرؤية النقدية التي جاء بها في كتابه "نقد العقل الخالص" كانت دعامة للفكر المعادي للدين؟.
ما ذكرته صحيح، ففلسفة كانط سيتم توظيفها بشكل كبير في الفلسفة الإلحادية الناقدة للاعتقاد الديني لاحقا. ويقوم هذا على كتابه الذي تفضلت بذكره "نقد العقل الخالص"، حيث نجد نقدا إبستيملوجيا لقدرات العقل؛ فإذا كان ديكارت قد انطلق من جبر فييت فانتهى إلى التوسيع من حقل اشتغال العقل، فإن كانط سينطلق من نموذج علمي آخر هو فيزياء نيوتن الحذرة من الميتافيزيقا فخلص إلى الحد من مجال العقل، وتعيين الحقل الذي بإمكانه أن يشتغل فيه ويثمر نتائج صائبة تنأى عن النقائض الجدالية التي أبرزها في كتابه.
ولذا فبينما يؤشر العقل عند ديكارت على لحظة انطلاق وتوسع، فإنه عند كانط يؤشر على لحظة انكماش وتراجع. حيث سيميز كانط بين الظاهرة (الفينومين) والشيء في ذاته (النومين)، منتهيا إلى أن العقل البشري محصور في قدرته المعرفية على عالم الظاهر، ولا يمكن أن يبحث في مجال الشيء في ذاته (الميتافيزيقا).
هذه الفكرة ستستثمرها لاحقا الفلسفات الناقدة للدين، حيث سترتكز على كانط، وتوظفه على نحو مغاير لمقصوده هو نفسه؛ إذ يجب ألا ننسى أن كانط في القسم الخاص من كتابه "نقد العقل الخالص" والذي عنونه بـ"الجدل المتعالي (الترنسندنتالي)" نجده يقف متسائلا عن سبب نزوع العقل البشري إلى تجاوز عالم الحس والتجربة، مذكرا بأفلاطون الذي وقف كثيرا عند نزوع العقل إلى التدين والتفكير فيما وراء العالم الحسي.
فكانط في هذا الفصل يعترف بأن هذه المجاوزة ذات حافز طبيعي يوجد داخل كينونة العقل، وليست مجرد افتعال أو سلوك من الترف الذهني، كما أنه إذا كان كانط في كتابه "نقد العقل الخالص" يرى أن العقل البشري عاجز عن إنتاج حقيقة فيما وراء عالم الحس، منتهيا إلى الاستحالة العقلية لتأسيس معرفي للميتافيزيقا، فإنه سيعود في كتابه "نقد العقل العملي" إلى تأسيس الدين والميتافيزيقا على أساس أخلاقي لا أساس معرفي.
لكن رغم ذلك فإن الفكر الناقد للدين سيستثمر نصف كانط، غافلا عن فلسفته في نسقيتها وشموليتها، أي غافلا عن النصف الآخر من فلسفته.

من بين هذه الفلسفات المعادية للدين، والتي استثمرت كانط فلسفة أوجست كونت، كيف تقيم هذا التحول نحو الوضعية في الفكر الفلسفي الغربي؟ وما هي حقيقة رؤية كونت للمسألة الدينية؟.
معالجة المسألة الدينية في فكر كونت تقتضي الابتداء أولا برؤيته إلى العلم ودلالته، إذ إن معالجة إشكالية الدين ترتكز عنده على رؤيته لطبيعة المنهج والفكر العلميين. ومفهوم العلم عند أوجست كونت يندرج ضمن تصور معرفي عام، يتمثل في قراءته لمجمل التطور الفكري البشري، حيث يحتل العلم عنده موقع التتويج في السياق العام لهذا التطور، ويتحدد باعتباره مؤشرا على نضج البشرية، واكتمال نموها العقلي، وذلك بفعل تطورها وانتقالها من المرحلة اللاهوتية، حيث كان التفكير يفسر ظواهر الطبيعة بعوامل ما ورائية مفارقة للمعطى الطبيعي، إلى المرحلة الميتافيزيقية، حيث صار التفكير في لحظة مراهقته يفسر ظواهر الطبيعة تفسيرا ماهويا فلسفيا، حيث يدرس العلاقات السببية الرابطة بين الظواهر دراسة علمية، تخلص به إلى بناء قوانين منسوجة في لغة علمية.
فالسؤال الذي يسود اللحظة الوضعية حسب كونت هو سؤال الكيف، لا سؤال "لماذا". وهنا لا بد من التذكير أن الوعي الأوربي في لحظة أوجست كونت (القرن التاسع عشر) كان محكوما بهاجس تجاوز نمطي الفكر الديني والفلسفي على حد سواء، وذلك لإحلال النموذج العلمي التجريبي، وجعله مهيمنا على جميع حقول المعرفة.
ولم يتحقق حلم أوجست كونت لأن موقفه يناقض حقيقة الكائن الإنساني وفطرته الدينية. فمن الملاحظات التي استوقفت علماء الأنثربولوجيا وكذا دارسي تاريخ الأديان هي أن الاعتقاد الديني أمر لصيق بالكائن الإنساني. وهذا ما تجسده المقولة الشهيرة المنسوبة إلى المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "لقد وجدت في التاريخ مدن بلا حصون، ومدن بلا قصور.. ومدن بلا مدارس.. ولكن لم توجد أبدا مدن بلا معابد". فأمام استقراء واقع الحضارات وأنساقها الثقافية لوحظ هذا الحضور الدائم للتدين بطقسه ومفاهيمه، الأمر الذي دفع البعض إلى التساؤل: لماذا تدين الإنسان؟ ما سبب هذا التلازم بين وجود الإنسان والتدين؟. لذا أقول إن تعليل ظاهرة الاعتقاد الديني عند كونت تعليل أراه قاصرا، لأنه جعل -في بعض كتاباته- وجود هذا الاعتقاد مشروطا بمرحلة، بينما هو مسألة محورية في التفكير والوجدان الإنساني.
فالكائن البشري كائن متسائل، يستفهم عن سبب وجوده وكينونته وسبب وجود هذا الكون من حوله. وهو استفهام فطري نجده لصيقا بالإنسان كيفما كان مستواه المعرفي.
فأسئلة أصل الوجود الكبرى مثلما يطرحها الفيلسوف يطرحها الطفل الصغير أيضا، الأمر الذي يؤكد أنها لصيقة بالطبيعة الإنسانية وليست مشروطة بلحظة تطور معرفي حتى يمكن تخطيها وتجاوزها.
إنها ليست مرحلة من تطور تاريخي للوعي البشري بل هي أبعاد ثاوية في الوعي الإنساني ومحددة لطبيعته. فالنزوع الديني ليس ناتجا عن نقص في فهم الكون حتى يتم تخطيه بتحصيل الفهم العلمي الوضعي، بل إن السؤال الديني هو أكبر وأوسع وأعمق من أن يجاب من قبل الحقل المعرفي العلمي.

ما تقصد بقولك: إن السؤال الديني أعمق من أن يجاب عليه من طرف العلم؟.
السؤال الديني من الناحية الأبستمولوجية لا يمكن نفيه من مدخل المعالجة العلمية التجريبية، لأن سؤال العلم هو سؤال كيفي جزئي، بينما السؤال الديني هو سؤال تعليلي غائي كلي.. فالعلم يكشف لنا عن انتظام العالم وتعالقات ظواهره، وأسبابها، لكنه بتحديده لأسباب الظواهر الكونية ليس بإمكانه أن ينفي وجود مسبب لهذه الأسباب. والمزلق الكبير الذي وقع فيه أوجست كونت يتمثل في اعتقاده أن تفسير ظواهر الكون يلغي طلب تعليل الكون ذاته.
في حين أن تفسير الكون بالكشف عن العلاقات الناظمة بين ظواهره يزيد من معقولية الإجابة الدينية، ويضعف الموقف الإلحادي.
ثم إن هذا الفارق الجوهري في طبيعة السؤال الذي يشتغل به العلم، أي سؤال الكيف يفضح كل مسلك لإلغاء الدين والاكتفاء بالإجابة العلمية، لأن الإجابة العلمية لا تسد حاجة الفهم الأنطلوجي، أي الحاجة إلى فهم لِمَ وجد الوجود ابتداء؟ بل إن منتهى ما تصل إليه الإجابة العلمية هو سد الحاجة إلى فهم كيفية تعالق مكونات الوجود وانتظامها، لا تعليل سبب وجود هذه المكونات ابتداء.
ومن ثم فالقول بالاكتفاء بالإجابة العلمية واستبعاد الدين هو مسلك مغرض يزيف حقيقة السؤال الديني. كما أن الموقف الالحادي هو دلالة كلية وليست جزئية ، ومن ثم فهو عندما يتلبس بليوس العلم ينتهي – من الناحية المنطقية – الى تزيف طبيعة نمط التفكير العلمي بتحميله فوق ما يحتمل أي تحميله مسؤولية إنتاج دلالة كلية للوجود، بينما المنهج العلمي – كما هو متداول في حقل العلم الطبيعي - محصور في سؤال الكيف. ومثل هذا السؤال لا يلد سوى إجابات جزئية.

لنعد إلى قانون المراحل الثلاث عند أوجست كونت أي قوله بأن البشرية تنتقل من المرحلة الدينية إلى الفلسفية ثم إلى العلمية، ما هي النتيجة التي ينتهي إليها فيما يتعلق بالدين؟
دعني أؤكد أولا أن قانون المراحل الثلاث يكذبه واقع الاستقراء التاريخي، فالبشرية لم تنتقل من المرحلة الدينية إلى الفلسفية ثم العلمية، فحتى لو استحضرنا التاريخ الأوربي، الذي اعتمده كونت دليلا على نظريته، فسنلاحظ أن المرحلة الفلسفية/ الميتافيزيقية (مع اليونان) جاءت بعدها ألف سنة من القرون الوسطى كانت دينية! فكيف إذن يصح أن نقول بوجود انتقال مرحلي داخل تاريخ الإنسانية وفق ثلاثية كونت؟.
ثم إن المرحلة الوضعية بنهجها العلمي التي يزعم كونت أنها جاءت لاحقة لكل ما سبق هي أيضا مشكوك فيها. فالتفكير بمدلوله العلمي لم يولد مع ميلاد المنهج التجريبي في القرن السابع عشر ولا ولد مع ميلاد المنهج الرياضي من قبل، بل ثمة دراسات معاصرة على قدر كبير من الوجاهة الأبستمولوجية تؤكد أن قواعد التفكير العلمي موجودة حتى عند الإنسان البدائي، إذ لم يكن يفتقر إلى القدرة على التفكير العلمي ولا الاشتغال بمنهجيته، بقدر ما كان يفتقر إلى التراكم المعرفي. وهذا واضح في أعمال موسكوفيسي وخاصة في تحليله الرائع لتقنية إشعال النار عند الإنسان البدائي. الأمر الذي يؤكد أن التفكير العلمي والديني والفلسفي ليس أنماط تفكير مشدودة إلى صيرورة لحظات تطورية كل لاحق منها يلغي سابقه، بل الأمر أعمق من هذه الرؤية السطحية التي بلورها أوجست كونت.
إضافة إلى ما سبق إن التاريخ في سياق تطوره، لم يؤكد نبوءة أوجست كونت فالمرحلة الوضعية التي أعلن عن ميلادها واكتمال نموها بتأسيسه للسوسيولوجيا في القرن الـ 19 لم تستطع إنهاء الاحتياج إلى الاعتقاد الديني.
بل ما يؤكد استمرارية وضرورة الدين للكائن الإنساني أن أوجست كونت نفسه سيضطر في نهاية حياته إلى أن يبحث للمرحلة الوضعية عن ديانة، ورغم كونه صاغ ديانة وضعية سماها "ديانة الإنسانية"، فإن اصطلاحه عليها بلفظ الدين ومفاهيمه يؤكد قوة التجربة الدينية واستمراريتها. وتلك إحدى مفارقات كل فلسفة إلحادية تتنطع إلى إلغاء الدين من حياة الإنسان. وهنا يصح أن نكرر مقولة موريس بلوندل: "ليس هناك ملحدون بمعنى الكلمة"، ونرى بناء عليها أن عودة كونت في آخر تطوره الفكري إلى البحث عن ديانة تليق بالمرحلة العلمية الوضعية دليل على كون الدين حاجة ملازمة لكينونة الإنسان وليست لحظة في صيرورة تطوره التاريخي محكومة بمنطق التجاوز.
لقد نظر كونت إلى فلسفته الوضعية بوصفها "دينا جديدا" حتى إنه كتب في رسالته إلى دو تولوز "إنني مقتنع أنه قبل حلول عام 1860 سأعظ في كنيسة نوتردام مقدما الوضعية بوصفها وحدها فقط الديانة الحقيقية والكاملة".

هل كان كونت ملحدا؟
في الحقيقة إن نصوص أوجست كونت تحمل عبارات ومواقف شديدة الاختلاف في الموقف من الدين. ورغم الكلام الشائع عن كونت وإلحاده، فهو لم يكن يرتاح لهذا النعت، بل نجده في إحدى رسائله لجون ستيوارت مل يقول بكل وضوح إنه يرفض أن يسمى ملحدا.
بل هو نفسه كان يعتقد أن الحاجة إلى الدين حاجة أساسية في الكائن الإنساني، فالنزوع نحو التقديس والتعبد هو، باعتراف كونت، أمر يشكل جزءا من طبيعة الإنسان لا بد من إشباعه. وفي كتابه "نسق السياسة الوضعية" يؤكد كونت أن مصير الإنسان هو أن يصبح أكثر تدينا، بل نجده يصف هذا بكونه "القانون الوحيد" لصيرورة التاريخ.. ولهذا سنلاحظ أنه في بعض نصوصه يفرق بين اللاهوت والدين، حيث يعلن رفضه للاهوت، لكنه لا يرفض الدين. كما أنه في حديثه عن الإسلام نجده يسطر عبارات إعجاب صريحة.
وعموما يمكن اعتبار الفلسفة الوضعية لكونت تجسيدا لمأزق كل فلسفة علموية تريد تجاوز الدين. والدليل على ذلك أن مؤسس الفلسفة الوضعية سيعود في السنوات الأخيرة من حياته بنظرية ديانة الإنسانية، بل هو نفسه سيأخذ في التبشير بالفلسفة الوضعية بوصفها دينا، لا مجرد موقف فلسفي. فقد كان ينظر إلى مشروعه الفكري بوصفه ثورة دينية كبرى تستبدل باريس بروما، أي تنقل مركز الدين من الكاثوليكية في روما إلى الوضعية وديانة الإنسانية في باريس.
وهذا في نظري كاف للدلالة على هذه الفلسفة العلموية المغرقة في التلبس بالدين، وهي التي يظن أتباعها أنها جاءت قاطعة معه ومتجاوزة لمفاهيمه!.

بالنسبة للفكر الفلسفي المعاصر، ما هو الموقف السائد فيما يخص الدين؟ وما هي النماذج الفلسفية المعبرة عن طبيعة الفلسفة الالحادية المعاصرة؟.
للحديث عن النماذج المعبرة عن الفكر الفلسفي المعاصر لا بد أن نستحضر اسم نيتشه لأن من داخل عباءته خرجت مختلف التلوينات الفلسفية المعاصرة بدءا بالهيدجرية وانتهاء ببنيوية فوكو وتفكيكية دريدا.
إذ يعد نيتشه من أشهر الرموز الفلسفية التي اهتمت بنقد فلسفة الحداثة مثلما اهتمت بنقد المفاهيم الدينية وما يرتبط بها من أنساق القيم. كما كان الإسهام الفلسفي لنيتشه نقدا للعقلانية، حيث يرى أن العقل ما هو إلا غريزة يجب أن تنحصر وظيفتها في حفظ البقاء أو حفظ الحياة. ففي كتابه "العلم المرح" يقول بأن الانحراف الذي حصل في الثقافة الإنسانية راجع إلى تبديل وظيفة العقل هذه، وذلك عندما تم تحميله مسؤولية إنتاج الحقيقة ووضع المعايير الأخلاقية، الأمر الذي جعله متعارضا مع الغريزة والهوى. فتم احتقار الأبعاد الغريزية واستهجانها مع أنها هي المكون المركزي في الذات والحياة الإنسانية!.
وبذلك ينتهي نيتشه إلى المناداة بتحويل العقل من وظيفته المعرفية والقيمية إلى مجرد خادم للغريزة. فبدل أن يؤسس العقل للمعايير القيمية والأخلاقية يجب أن يقتصر على الحفاظ على الحياة وخدمة الغريزة ودفقها الحيوي. بل إن هذا القلب الوظيفي لمهمة العقل تتجاوز ما سبق إلى انتزاع وظيفة التفكير منه وإرجاعها إلى الجسد!.
فبالنسبة لنيتشه لا تأتينا الأفكار ولا تنبثق فينا عندما نريد نحن، بل تأتي عندما تريد هي ذلك، بمعنى ليس الـ"أنا" هو الذي يفكر، بل ثمة لاوعي كامن هو الذي يفرز الفكر. وهكذا يتم مع النيتشيوية قلب كامل للكوجيتو الديكارتي الذي تم فيه إعلاء الوعي أو الأنا أفكر، فبدل جعله مصدر الفكر يصبح عند نيتشه مجرد كينونة هامشية.
ويرى نيتشه أن الوعي والفكر نتاج الجسم، أي نتاج العضوية البيولوجية، فالإنسان يفكر على نحو دائم بكيانه البيولوجي دون أن ينتبه هو إلى ذلك. ومن ثم فقد أخطأت الفلسفة العقلانية عندما أرجعت وظيفة التفكير إلى العقل، لأن التفكير آلية غريزية تنبع من كياننا الجسمي كله، ولكن عندما زُيفت حقيقته وأصبح الوعي هو مصدر الفكر، وتم تقعيد نظم التفكير بقواعد منطقية تم تحريف وظيفة العقل فأصبح مضادا للحاجة الحيوية الغريزية.
وأرى خلف تلك المقاربات الفلسفية التي قدمها نيتشه، والتي سيفصح عنها بفجاجة مستقبحة الفيلسوف الفرنسي جورج باطاي، وغيرها من المقاربات المرتكزة على الرؤية الداروينية الحريصة على اختزال الكائن الإنساني إلى عضوية بيولوجية فقط واستدخاله في العالم الحيواني -أرى خلف كل هذا سببا ثقافيا يرجع إلى إفلاس التجربة الدينية الغربية؛ كما أرى في نزوعات الفلسفة المعاصرة نحو اللاعقلانية إفلاسا للوعي الأوربي ودليل عجز عن تعويض الفراغ الاعتقادي الذي خلفه نقد الدين .

هل يمكن أن نقول إن إدخال الفلسفة إلى البرنامج التعليمي – خاصة على مستوى التعليم الثانوي كما هو الحال في دول المغرب العربي - تحريف لفكر الشباب وتعميق للفكر الإلحادي ؟
شخصيا لا أعتقد أن الأمر كذلك. فضلا عن أن الفكر الفلسفي تيارات وتلوينات متعددة متباينة. إضافة إلى كون الفكر الإلحادي هو كما أسلفت لك القول تيار هامشي في تاريخ الفلسفة . لكن ما يعاب على تدريس الفلسفة في بلدان المغرب العربي هو أنه من الناحية المنهجية مجرد ترجمة وتقليد للمنهاج الفرنسي . بينما كان ينبغي أن يتم بناء المنهاج وفق رؤيتنا المعرفية المعبرة عن خصوصيتنا كعالَم عربي مسلم. ولذا أنا شخصيا من دعاة وجوب تدريس الفلسفة في قسم الباكالوريا خاصة . لكن مع إعادة النظر في المنهاج التعليمي ، وعدم الاقتصار على ترجمة الجاهز من المناهج التعليمية الأوربية.

بن حيان
07-23-2012, 11:08 AM
شكرا لك أخي د. هشام عزمي على هذا النقل الممتع
ومن الجميل أن يكون الدكتور الطيب بو عزة أحد محاوري هذا المنتدى
وجهة نظر شخصية

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
07-23-2012, 12:40 PM
ماتع وهذا ليس بغريب من شيخنا الحبيب

محمد الجروان
07-29-2012, 02:57 AM
رائع

elmorsy
07-29-2012, 03:15 AM
جميل بارك الله فيك...
انا أحب الدكتور طيب بو عزه كثيراً..
وأتذكر أن كتاباته كانت مرحلة فارقه فى رحلتى البحثيه ..
والحمد لله أن هناك من يتطرق إلى مثل هذه الأمور فى وطننا العربى بهذا الشكل من العمق والموضوعية
بارك الله فيك وفى الدكتور
تحياتى