المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نقد موقف برتراند راسل حول وظيفة الدين والمغامرة العقلية



عمر الأنصاري
08-29-2012, 01:52 AM
نقد موقف برتراند راسل حول وظيفة الدين والمغامرة العقلية[1]

يزعم الفيلسوف الإنجليزي "برتراند راسل" أن وظيفة الدين لا تُساعد على الخوض في مُغامرة عقلية إذ يعتبرها سببا في عرقلة دور المُمارسة الفلسفية، فالكهنوت الديني -حسب ما يذهب إليه- يُعتبر كابحا لجماح العقل والتفلسف.

يقول برتراند راسل: "إن وظيفة الدين لم تكن تُساعد على ممارسة المُغامرة العقلية"[2]، والمُطلع على سياق المقولة يقف على أحد أبرز أوجه الغرب ذي النزعة العنصرية الاستعلائية، التي لا ترى من فائدة وراء وجود الحضارات الأخرى والشعوب المُختلفة.

وسأعرج بُعجالة على كشف سياق المقولة من جهة ثم من جهة أخرى سأضع بعض النقاط النقدية عليها.



ذكر رسل هذه المقولة في معرض الاستدلال على فضل الإغريق في اختراع العقل والعلم والفلسفة! إذ يقول: "تبدأ الفلسفة حين يطرح المرء سؤالا عاماً، وعلى النحو ذاته يبدأ العلم. ولقد كان أول شعب أبدى هذا النوع من حب الاستطلاع هو اليونانيون. فالفلسفة والعلم، كما نعرفهما، اختراعان يونانيان. والواقع أن ظهور الحضارة اليونانية، التي أنتجت هذا النشاط العقلي العارم، إنما هو واحد من أروع أحداث التاريخ، وهو حدث لم يظهر له نظير قبله ولا بعده. ففي فترة قصيرة لا تزيد عن قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والأدب والفلسفة بسيل لا ينقطع من الروائع التي أصبحت منذ ذلك الحين مقياساً عاماً للحضارة الغربية"[3].

ثم يُضيف: "إن الفلسفة والعلم يبدآن بطاليس الملطي في أوائل القرن السادس قبل الميلاد"[4].

بيد أن الشواهد العلمية والتاريخية التي كانت بين أيدي علماء الغرب في القرن التاسع عشر تأكد وجود تلاقح حضاري وفكري بين الحضارة اليونانية وباقي الحضارات الشرقية المُجاورة، بل أكثر من ذلك، تؤكد أن تلك الحضارات المُجاورة ضاربة في القدم وسابقة للوجود على الحضارة اليونانية، فكيف لم تهتد إلى ما اهتدت إليه الحضارة اليونانية؟

يُعلل رسل ذلك قائلا: "ولقد توصلت مصر القديمة وبابل إلى بعض المعارف التي اقتبسها الإغريق فيما بعد، ولكن لم تتمكن أي منها من الوصول إلى علم أو فلسفة"[5].

وحتى تستقيم حُجة رسل لا بد أن يُبرز ما الذي امتازتْ به اليونان حتى استطاعت اختراع العلم والفلسفة، فيقول في ذلك: "على أن لا جدوى من التساؤل في هذا السياق عما إذا كان ذلك راجعاً إلى افتقار العبقرية لدى شعوب هذه المنطقة، أم إلى أوضاع اجتماعية، لأن العاملين معاً كان لهما دورهما بلا شك. وإنما الذي يهمنا هو أن وظيفة الدين لم تكن تُساعد على ممارسة المُغامرة العقلية"[6].

فهذا هو سياق ذلك الاقتباس المشهور، كون المُمارسة الدينية تُعيق على ممارسة المُغامرة العقلية، ويُقرنها في ذلك بعوامل عرقية (غياب العبقرية عن الحضارات الشرقية المُجاورة) ثم بعوامل اجتماعية جعلت من الكهنوت الديني عائقا عن التفلسف والعلم.



أما نقد هذه المقولة التي بناها راسل اعتماداً على التمييز العرقي ثم قيد الكهنوت الديني فهي على شقين:

1- أما التميز العرقي الذي جعل اليونان قادرين على انتاج التفلسف والعلم دوناً عن باقي الحضارات الشرقية، فهي فرضية تمت بلورتها في الغرب استنادا إلى القول بمركزية الغرب واستعلاء الأنا الأوربي، وهي نظرة عرفت بُعدها الشمولي بعد أن تمكنت العلمانية في أوربا وصارت هي المنظور الأوحد التي يتم به تفسير الوجود، فنصّب العقل الأوربي نفسه سيداً على باقي العقول ووصيا عليها، ومن هنا جاء تمجيد العرق الآري الذي تنحدر منه الشعوب الأوربية، باعتباره عرقا كاملا نموذجاً، والوحيد القادر على انتاج الفكر، كما قال توماس هيث: "إن الإغريق كانوا جنس المفكرين"[7]، ولم يكن العرق السامي الذي ينحدر منه الفينقيون وحضارات ما بين النهرين واليهود والعرب، ثم العرق الحامي الذي تنحدر منه الحضارة الفرعونية، لم يكن له القدرة على التفكير الفلسفي.

وهذه النظرة العرقية، المحكومة بالرغبة المسبقة في إعلاء الأنا الأوربي، سُرعان ما تُهدم أمام القراءة المعرفية المنهجية، ويذكر د. الطيب بوعزة في كتابه "في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي" أوجها عديدة على اختلال النظرية العرقية[8]، أذكر منها:

- المهد الأول لنشأة الفلسفة كما يذهب إلى ذلك علماء التاريخ هو مدينة "إيونيا"، وهذه المنطقة حسب المؤرخ اليوناني القديم هيرودوت لم تكن منطقة صفاء عرقي إذ يقول: "امتزج فيها ما لا يقل عن عشرة أعراق"[9].

- أما المنطقة الإغريقية التي عرفت صفاء عرقياً فهي مدينة "إسبرطا"، وهنا نجد موزس فنلي يقول: "منذ نحو العام 500 ق.م لا يؤتى بذكر مواطن إسبرطي واحد عرف بنشاطه الثقافي"[10].

- يذكر راسل أن الفلسفة بدأت مع طاليس، لكن البحث في الأصل العرقي لطاليس لا ينتمي إلى العرق الآري كما يحلو لدعاة المركزية الأوربية أن يزعموا، بل إن البحث يُحيلنا إلى أصول طاليس السامية الفينيقية -التي لا قدرة لها على انتاج فكر أو فلسفة-، يقول في ذلك أفلاطون: "طاليس بن إكسامياس، حسب هيرودوت هو فينيقي، وهو أول من حمل لقب الحكيم"[11]

- ثم وكما يقول الطيب بوعزة: "لماذا ظل هذا العرق ساكناً طوال التاريخ القديم، ثم قرر فجأة أن ينبض بالفلسفة في القرن السادس قبل الميلاد؟!"[12].

- وتجدر الإشارة هاهنا إلى أن أكابر الفلاسفة الإغريق، إنما حصلوا معارفهم وعلومهم من المدارس الشرقية، فطاليس أول من حمل لقب الحكيم إنما تعلم الرياضيات من كهنة مصر[13]، وفيثاغورس رحل إلى مصر وتعلم على أيدي كهنتها سنوات عديدة[14]، وديمقريطس سافر إلى مصر لتلقي العلم وتعلم على أيدي الكهنة[15]. هذا ناهيك عن أثر الحضارة الهندية والحضارة الفينيقية على فلاسفة اليونان.

2- أما الزعم بأن الكهنوت الديني يُعيق العقل، فهو زعم تم بلورته قياساً على التجربة اليونانية، إذ يرى الكثير من المؤرخين أن اليونان لم تشهد كهانة دينية، وهو ما ساهم في نمو التفكير الفلسفي.

غير أن هذا الزعم لا أساس له من الصحة، لا في شقه الأول الذي يرى في الدين عائقا للتفلسف، ولا في شقه الثاني الذي يرى في التجربة اليونانية دليلا على ذلك.

فأما القياس على التجربة اليونانية فلا دليل عليه، رغم شيوع هذا القول عند المؤرخين، ذلك أن سلطة الدين كانت حاضرة رغم غياب المؤسسة الكهنوتية، وأمثلة ذلك أن صك الاتهمام لمُحاكمة وإعدام سقراط جاء فيه: "لم يكن يؤمن بالمعتقد الديني للمدينة"، وكذلك في الحُكم بالإعدام على أناكساغور الذي انتقد الوثنية الدينية ودعى إلى الوحدانية[16].

أما من حيث الزعم أن الدين يُعيق التفلسف أو لا يسمح بالمغامرة العقلية فهو زعم يرد عليه الطيب بوعزة بمجموعة من الأدلة، أوجزها في النقاط التالية:

· انتقال اليونان من الفكر الأسطوري إلى الفكر الفلسفي لم يكن انتقالات تجاوزيا أو قطائعيا، ولم يكن حتى تمهيداً لها فقط، بل استمر في صلبها، حيث ظل السؤال الديني وبنية مفاهيمه حاضرة داخل أنظمة التفكير الفلسفي.

· اشتغال كل الفلاسفة اليونان - تقريبا- بتجديد الدين وبتأسيس وعي ديني، يدل على حضور الدين في مشروعهم الفلسفي، ومثل ذلك نقدهم للصورة الأسطورية للآلهة، ولأفعالهم وتصرفاتهم اللاأخلاقية، ومثاله أيضا رفض أناكساغور وسقراط وأنتيستين وأفلاطون للتعدد الوثني.

· كما استحضر الطيب بوعزة أدلة أخرى، لتأكيد نظرة الوصل بين الدين والفلسفة، ويبقى نتيجة هذا البحث ما ذكره: "بالنظر إلى نوعية الجدل الذي ساد بين اللوغوس الفلسفي النازع نحو تنزيه الألوهية وتوحيدها والدين الوثني المُغرق في التعدد، يصح القول أن من بين أسباب نشأة الفكر الفلسفي هو الدين ذاته"[17].

وهنا أستطيع القول أن ما ذكره رسل في تلك المقولة، إنما يصح تنزيله على الدين الوثني أو الدين الذي طالته أيدي التحريف، أما الدين الخالص فهو الباعث على السؤال الفلسفي ومُحركه الأساسي.


____________________________________

[1]- المقال كان عبارة عن جزء من قراءة في كتاب للدكتور الطيب بوعزة بعنوان "في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي"، لكني آثرت أن أفرده أجزاء في مقالات مُتفرقة كي تعم الفائدة، والله من وراء القصد.
[2]- برتراند راسل، حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 1983، ج.1، ص.22.
[3]- نفسه، ج.1، ص.21.
[4]- نفسه، ج.1، ص.21.
[5]- نفسه، ج.1، ص.22.
[6]- نفسه، ج.1، ص.22.
[7]- T. Heath, Greek Mathemitics, Oxford, v.1, p.6.
نقلا عن: الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، مركز نماء للبحوث والدراسات، ط.1، بيروت، 2012، ص.164
[8]- الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، ص.161
[9]- ج. كونتنو: الحضارة الفينيقية، نقلا عن إرث الفينيقيين إلى الفلسفة، ص.19. نقلا عن طرابيشي، نظرية العقل، دار الساقي، الطبعة الأولة، بيروت، 1996، ص.88.
[10]- موزس فنلي، الإغريق القدامى، ص.75. عن طرابيشي، نظرية العقل، ص.143
[11]- أفلاطون، الجمهورية، X 600a نقلا عن:
Théophile Obenga, La géométrie égyptienne : contribution de l’Afrique antique à la mathématique, Harmattan, Paris 2003, p.293.
[12]- الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، ص.164.
[13] -Théophile Obenga, La géométrie égyptienne, p.293
[14]- جورج. جي. إم. جيمس، التراث المسروق، الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة، ترجمة: شوقي جلال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1996، ص.55.
[15]- نفسه، ص.55.
[16]- الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، ص.229-230.
[17]- الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، ص. 233.



2012.ياسين اليحياوي.©
المقال على مدونتي (http://elbayina.blogspot.com/2012/08/blog-post.html)

عمر الأنصاري
09-01-2012, 02:09 PM
يقول د. طيب بوعزة[1] في كتابه "في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي"[2]، وهو اقتباس من أجل حث القارئ على اقتناء الكتاب وقراءته أكثر من كونه اقتباس استدلال.
يقول فيه: "تحترس من ذلك الفهم الخاطئ الذي ينظر إلى لحظة نشأة الفلسفة بكونها تجاوزاً قطائعياً لنمط التفكير الديني الأسطوري، بينما هي في الحقيقة تجاوز في الطريقة المنهجية الاستدلالية التي مكنهم الدين اليوناني نفسه من مرتكز مهم لتأسيس انطلاقته. حيث أخذوا مفهوم القوى الطبيعية بوصفها عللاً ناظمة".[3]
وطبعاً سيتسنى لقارئ الكتاب أن يقف بالأدلة والبراهن على أطروحة د. طيب بوعزة، الذي يُعتبر كتابه من المؤلفات القليلة في الساحة الأكاديمية التي ترى لنشأة الفلسفة واقعاً آخر مُختلفاً عن الشائع في الدراسات الغربية.




_____________
[1]- لدكتور طيب بوعزة مُعرف يكتب به في مُنتدى التوحيد تحت اسم "نقد"، وله مُؤخرا مناظرة ماتعة حول الإيمان والإلحاد (www.eltwhed.com/vb/showthread.php?34958-%CD%E6%C7%D1-%CB%E4%C7%C6%ED-%C7%E1%C5%ED%E3%C7%E4-%E6%C7%E1%C5%E1%CD%C7%CF-%C7%E1%CF%DF%CA%E6%D1-%E4%DE%CF-%E6%C7%E1%D2%E3%ED%E1-%E4%ED%D1%E6%E4)
[2]- سيخرج قريبا إن شاء الله في صيغته pdf
[3]- الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة نقد التمركز الأوروبي، ص. 250.

علي الادربسي
09-01-2012, 02:27 PM
الحمد لله أن بعضهم مازال ينطق بالحق لحد الآن ففي كتاب عالم الفيزياء David Sénéchal : L'histoire de la Science
يقول الكاتب حرفيا :
Les historiens et doxographes grecs feraient preuve de chauvinisme en attribuant à d’anciens philosophes grecs des découvertes connues auparavant des Egyptiens et des Chaldéens.
و هدا ما معناه أن المفكرين و المؤرخين الإغريق كانوا شوفينيين في في كتاباتهم بنسبهم لعدة إكتشافات "علمية و فكرية " إلى فلاسفة اليونان بينما هي معروفة من قبل من طرف المصريين و الكلدانيين .