المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : السموءل ..رحلة عقل : من تهويد الأب ، إلى توحيد الرب



أبو القـاسم
09-01-2012, 05:42 PM
السموءل.. رحلة عقل..(من تهويد الأب إلى توحيد الرب)
(إن العناية الإلهية لتسوقه من تسبق في علم الله هدايته حتى يوجد منه الاهتداء في الوقت الذي سبق في علم الله تعالى وجوده منه فيه وأنا أذكر سبب ما وفقنى الله له من الهداية وكيف انساقت بي الحال منذ نشأت إلى انتقالي عن مذهب اليهود ليكون عبرة وموعظة لمن يقع إليه وليعلم متأمله أن اللطف الإلهي أخفى من أن يحاط بكنهه فإن الله يخص بفضله من يشاء ويؤتى الحكمة من يشاء ويهديه صراطا مستقيما.. )
بهذه الاستهلالة الملفعة بأضواء اليقين ..المفعمة بظلال السكينة,افتتح السموءل المغربي كتابه في ترجمة نفسه وكان قد هوّده أبوه الحبر يهوذا بن آبون فنشأ على اليهودية ردحًا ثم شاء الله تعالى أن تنزاح غشاوة عينيه, فأبصر أشعة النور تسلّلُ من خلال كوّة التحرر من تقليد الآباء وقد لامست شظايا فطرته المنهكة بآثار التهويد ,وكلما لامس شعاعٌ شِلوًا منها انبعثت فيه الحياة حتى أشرق في قلبه التوحيد من جديد ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء)، يقول أبو هريرة رضي الله عنه مبينا كلام خليله بكلام ربه: " فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) " [من حديثه في الصحيحين]
في رحلة إيمانية نحلق فيها معا على زربية منسوجة من خيوط من نور ..سأطوّف بكم على عيون الدلائل التي ساقت هذا العالم الموسوعي ,فننهل من عنفوان مكرع التجربة الإنسانية ,ونقبس من رونق الصدق مع النفس شيئا من إشراقات صاحبها..نعم الصدق مع النفس..إذ هو أول مراحل إبصار الحق ..
(وشغلنى أبي بالكتابة بالقلم العبري ثم بعلوم التوراة وتفاسيرها حتى أحكمت علم ذلك عند كمال السنة الثالثة عشرة من مولدي )
هذا أول حجر في البناء الثقافي لـ"شخصية البطل" ..السموءل ، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ! (فشغلني حينئذ بتعلم الحساب الهندي وحل الزيجات عند الشيخ الأستاذ أبي الحسن بن الدسكري ..) ..لبنة أخرى في توليفة مخزونه المعرفي (وقراءة علم الطب على الفيلسوف أبي البركات هبة الله ..)
والطب أيضا ! ..لعلك الآن ظننته بلغ الأربعين ,على رسلك !..إن هو في هذا العمر، إلا : ابن أربعة عشر ! ,ثم آل به الجِد بعدُ.. أن بلغ رتبة التحقيق في هذه العلوم ..لا أنه مشارك فيها فحسب.. حتى قال (وأزريت على إقليدس في ترتيب أشكاله .. كل ذلك في هذه السنة أعنى الثامنة عشرة من مولدي ) ..وفي الطب كذلك..له في الابتكار يدٌ صَنَاع (واتضح لي بعد مطالعة ما طالعته من الكتب التي بالعراق والشام وآذربيجان وكوهستان الطريق إلى استخراج علوم كثيرة واختراع أدوية لم أعرف أني سبقت إليها ..) ثم لم تقنع نفسه المتوثبة..مال إلى مطالعة أخبار الأمم ونوادر الناس..غثها وسمينها ..وتطلع لتمييز ما صح منها..(فطلبت الأخبار الصحيحة .. فكانت تمر بي في هذه التواريخ أخبار النبي وغزواته وما أظهر الله له من المعجزات وما خصه به من الكرامات وحباه به من النصر والتأييد في غزوة بدر وغزوة خيبر وغيرهما وقصة منشئه في اليتم ... وظهور الآية العجيبة في هزيمة الفرس ورستم الجبار معهم في ألوف كثيرة على غاية من الحشد والقوة بين يدى سعد بن أبي وقاص وهم في فئة يسيرة على حال من الضعف ومدائن كسرى أنو شروان وانكسار الروم وهلاك عساكرهم على يدي أبي عبيدة بن الجراح رحمة الله عليه ثم سياسة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعدلهما وزهدهما )
هو إذن مؤرخ طالع أخبار الدنيا بعين البصير الناقد ..وانماز عنده ما ينفع , عن الزَّبَد ,نظر في سيرة الرسول الأعظم (ص) وأصحابه الأنجم ,راقب مسيرة الرسالة وشاهد الأعداء..-وبضدها تتميز الأشياء-.... أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر رضي الله عنه قوله "قد علمت ورب الكعبة متى تهلك العرب إذا نشأ في الإسلام من لم يصحب الرسول ولم يعالج أمر الجاهلية"..فكان يعاين رحلة الإسلام منذ فجر الرسالة وطلائع الدعوة ..يرقب في خطوِه معالم النبوة واقفًا على محطات النصر والتأييد حتى تجلى له برهان التمكين والاستخلاف بأبهى حلة :
-إن الله تعالى وعد عباده في كتابه بالتمكين في الأرض معلّقا وعده على شروط " وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "
فوقوع ذلك بعد التلبس بشرطه ,في كل مراحل التاريخ يدل على صدق الرسالة التي اشتمل عليها الوعد ,والتأمل في الشرط يفي وحده بالتبيان..فليس هو من قبيل :ادرس تنجح أو ازرع تحصد..لم يكن وقوع النتيجة الموعودة مرهونا بتحقق ماتعارف عليه الناس في الأسباب المفضية إلى نتائجها..على عكس ذا: المسلمون هم القلة القليلة وأعداؤهم الكثرة الكاثرة.. عِدّة وعُدّة , إلا على ندرة , فأنّى لخذّاق العسكرية الوقوف على تفسير لغز الانتصار في كل مرة مع تخلف شرط فارق القوى المادي, في كل مرة أيضا..!
-ثم إن الله عزّ وجلّ :قد عزّ وجلّ! , فما كان ليدع من يفتري عليه طول مراحل دعوته .. يتكلم باسمه إفكًا وزورًا ,إنه سبحانه منزه عن ترك خذلان من هذا حاله, فضلا عن أن يرفع ذكره ويعز شأنه ويمكن له في الأرض ولصحبه من بعده .., يقول العلامة ابن القيم : ( وقد جرت لى مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة،فقلت له فى أثناء الكلام :أنتم بتكذيبكم محمداً قد شتمتم الله أعظم شتيمة.فعجب من ذلك،وقال :مثلك يقول هذا الكلام! فقلت له:اسمع الآن تقريره،إذا قلتم :إن محمدًا ملك ظالم قهر الناس بسيفه وليس برسول من عند الله ،وقد أقام ثلاثاًوعشرين سنة يدَّعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة ،ويقول :أمرني الله بكذا ونهانى عن كذا وأوحى إليّ بكذا،ولم يكن من ذلك شئ،ويقول :أنه أباح لى سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم وغنيمة أموالهم وقتل رجالهم ،ولم يكن من ذلك شئ ،وهو يدأب فى تغيير دين الأنبياء ومعاداة أممهم ونسخ شرائعهم ،فلا يخلو إما أن تقولوا إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه.أو تقولوا إنه خفي عنه ولم يعلم به،فإن قلتم لم يعلم به نسبتموه إلى أقبح الجهل وكان من علم ذلك أعلم منه ،وإن قلتم بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه فلا يخلو إما أن يكون قادراً على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا،فإن لم يكن قادرًا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافى للربوبية ،وإن كان قادرًا وهو مع ذلك يعزه وينصره ويؤيده ويعليه ويعلي كلمته،ويجيب دعاءه ويمكنه من أعدائه ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له هذا من أعظم الظلم والسفه الذى لا يليق نسبته إلى اَحاد العقلاء فضلاً عن رب الأرض والسماء ،فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه وهذه عندكم شهادة زور وكذب.فلما سمع ذلك قال:معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفترٍ بل هو نبي صادق من اتبعه أفلح وسعد..) هذي التي قصّها ابن القيم فيها عبرة أخرى ,إذا علمت أن يهوديّها لم يسلم مع إقراره بالحق , وهو رد بليغ على من يزعم أن الحق أو الإسلام لو كان مشتملا على البراهين الدالة على صدقه لما كفر فلان وفلان ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
,ظن أصحاب هذه الدعوى أن الإيمان مختزل في أقضية عقلية بحتة ,من جنس قوانين الرياضيات على طريقة 1+1=2 , وفاتهم أن الله جل ذكره قد يصرف عن الحق من ليس له الحق أن يكون قلبه محلا قابلا لزكاء زرع الهداية فيه" وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ " فالله تبارك وتعالى :نعم دل على نفسه بالبراهين ، غير أنه جعل للهداية سرًا لطيفا مفتاحه بيده ، فلايؤتاها إلا من كان أهلًا لها ..(حريٌّ هنا أن يشار لكون ابن القيم أفاد من كتاب السموءل الذي صنفه في إفحام اليهود ونقل عنه في كتابه هداية الحيارى دون أن يسميه بل عزاه إليه بالتعمية فقال "قال أحد كبارهم.." لمصلحة رجحها والله أعلم ..)
ثم عاد السموءل يقطف لك من حقول الأدلة زهرة أخرى..تشرح الصدر وتسعد الفِكر.. عاين صاحبنا برهان النبوءات , ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما هو كائن قبل وقوعه على مدى ما يستقبل من صفحات الزمان إلى قيام الساعة فلم يكذّب التاريخ شيئا من ذلك.., وهيهات له أن يفعل, وأنت إذا سألت النبيّ من أنبأك هذا ؟ ، قال :نبأنيَ العليمُ الخبير ..
(كنت لكثرة شغفي بأخبار الوزراء والكتاب قد اكتسبت بكثرة مطالعتي لحكاياتهم وأخبارهم وكلامهم قوة في البلاغة ومعرفة بالفصاحة وكان لي في ذلك ما حمده الفصحاء وتعجب به البلغاء وقد يعلم ذلك مني من تأمل كلامي في بعض الكتب التي ألفتها في أحد الفنون العلمية ) وهاهو كلامه بين يديك متى نظرت فيه بعين النقد تجده منظوما في سلك الأدباء ..
يقول ابن خلدون : (إن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم، فينسج هو عليه، ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم، وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم)...صاحبنا إذن حصل الملكة بشرطها واطلع على كلام العرب وخبِر مداخل البلاغة ومخارجها ..فإذا أردت الوقوف على معنى التحدي المبثوث في كتاب الله, فاسأل به خبيرًا وصاحبنا كما رأيت خبير بكلام العرب وما عليه فحولهم من ذائقة البيان, يقول وهو لمّا يدِن بالإسلام بعد.. ( فشاهدت المعجزة التي لاتباريها الفصاحة الآدمية في القرآن فعلمت صحة إعجازه..!) ..قل : صدق الله !.. " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ۖ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ"
تأمل الآن..وقف معي على كلام عبقريّ الإسلام :ابن تيميّة, لتكون على خُبر من حقيقة هذه الحجة : (فإذا كان قد تحداهم بالمعارضة، مرة بعد مرة، وهي تبطل دعوته، فمعلوم أنهم لو كانوا قادرين عليها لفعلوها؛ فإنه - مع وجود هذا الداعي التام المؤكد - إذا كانت القدرة حاصلة، وجب وجود المقدور، ثم هكذا القول في سائر أهل الأرض فهذا القدر يوجب علما بينا لكل أحد بعجز جميع أهل الأرض، عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بحيلة وبغير حيلة ,وهذا أبلغ من الآيات التي يكرر جنسها كإحياء الموتى فإن هذا لم يأت أحد بنظيره)..ومايزال السموءل في رحلته مبحرًا في لجج العلم لا يوجه أشرعته إلا صوبه ولا يلوي على شيء غيره( ثم إني لما هذبت خاطري بالعلوم الرياضية ولاسيما الهندسية وبراهينها راجعت نفسي في اختلاف الناس في الأديان والمذاهب وكان أكبر المحركات لي في البحث عن ذلك مطالعتي كتاب برذويه الطبيب من كتاب كليلة ودمنة وما وجدت فيه فعلمت أن العقل حاكم يجب تحكيمه على كليات أمور عالمنا هذا) الشاهد هنا -وما ألطفه !-أن الله جل ثناؤه قد يسوق لدينه ,بما ليس في الإلف من مظان الأسباب الهادية ,فهذا كتاب كليلة ودمنة من آداب الهند في الأصل ترجمه ابن المقفع , فيه حكمٌ منثورة على ألسنة العجماوات كالثعلب والأسد والبومة والجرذ ,كأنما أمليت عن بعض مسلسلات الرسوم المتحركة..ولم يوضع بطبيعة الحال مثل هذا الكتاب ليكون دليلًا على صحة الإسلام ..يقول رحمه الله تعالى: ( إذا لولا أن العقل أرشدنا إلى اتباع الأنبياء والرسل وتصديق المشايخ والسلف لما صدقناهم في سائر ما تلقيناه عنهم...فأما الأبوة والسلفية وحدهما فليستا بحجة إذ لو كانتا حجة لكانتا أيضا حجة لسائر الخصوم الكفار كالنصارى ..إلى أن يقول : علمت أنه ليس بأيديهم حجة صحيحة بنبوة موسى إلا شهادة التواتر وهذا التواتر موجود لعيسى ومحمد كوجوده لموسى عليهم السلام أجمعين فإن كان التواتر يفيد تصديقا فالثلاثة صادقون ونبوتهم معا صحيحة وعلمت أيضا أني لم أر موسى بعيني ولم أشاهد معجزاته ولا معجزات غيره من الأنبياء عليهم السلام ولولا النقل وتقليد الناقلين لما عرفنا شيئا من ذلك فعلمت أنه لا يجوز للعاقل أن يصدق بواحد ويكذب بواحد من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأنه لم ير أحدهم ولا شاهد أحواله إلا بالنقل وشهادة التواتر موجودة لثلاثتهم فليس من العقل ولا من الحكمة أن يصدق أحدهم ويكذب الباقون بل الواجب عقلا إما تصديق الكل وإما تكذيب الكل فأما تكذيب الكل فإن العقل لا يوجبه أيضا لأنا إنما نجدهم قد أتوا بمكارم الأخلاق وندبوا إلى الفضائل ونهوا عن الرذائل ولأنا نجدهم ساسوا العالم بسياسة بها صلاح حال أهله فصح عندي بالدليل القاطع نبوة المسيح والمصطفى وآمنت بهما ) فيما قرأت من كلامه الأخير دليلان باهران (ونقلته على طوله ليعتبر به من كان ذا لبّ, وبخاصة ما تضمنه من موعظة باستقلال الفكر وانعتاقه من أغلال القيود ,التي تورث الجمود ..وكأني به يتأول القران ويتمثل موعظته بما فُتِح له دون أن يكون اطلع عليه ) ( وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ )
أحدهما : أن دراسة سيرة من يدعي النبوة توصّل إلى اليقين في أحد أمرين لا ثالث لهما,فإما أن يكون أكذب الكاذبين ,وإما أن يكون أصدق الصادقين ..وهو لما وقف على سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن الكذب ممتنع عليه –حاشاه- بملاحظة صيرورة الأحداث وكيف يجري الله الحق على لسانه مواطئا لمواطن الحكمة ومواقع الصدق ويصنعه على عينه ويصدّق كلامه وكذلك يفعل مع جميع أصفيائه حتى يبلغوا رسالة ربهم وفق مراده على أحسن وجه وأبلغ وصف يناسب زمانهم..مع ما يمتنع في العقل أن يتزيا امرؤ بغير زيه مدة من الزمان يسيرة فضلا عن مشهد عمرُه:عمر صاحبه أو عمر رسالته, ثم لا ينكشف أمره على آلاف مؤلفة مع الخلطة الدائمة,بل ترى الموالف والمخالف ,كلٌ أجمع على صدقه وأمانته وعظمة أخلاقه ونبل طباعه..أيما دارس لمباديء فقه النفس الإنسانية يعلم استحالة ذلك ..يل يحيل العقل مادونه بمفاوز بعيدة..
الثاني-أنه لا يصح أن يقال :لم نر ما أجراه الله على أيديهم من معجزات يؤيد بها نبوتهم ..لأن شهادة التواتر بمعنى الاستفاضة في نقل الخبر المنضبط مما يتفق العقلاء على اعتباره , والتواتر في حق معجزات النبي صلى الله عليه وسلم يعلم كل مطلع أنه آكد وأبلغ وأعظم..من نظيره في حق موسى وعيسى عليهم جميعا صلوات الله وسلامه ..
(فمكثت برهة أعتقد ذلك من غير أن التزم الفرائض الإسلامية مراقبة لأبي وذلك أنه كان شديد الحب لي قليل الصبر عني ...فمكثت مدة طويلة لا يفتح على وجه الهداية ولا تنحل عني هذه الشبهة وهي مراقبة أبي إلى أن حالت الأسفار بيني وبينه وبعدت داري عن داره وأنا مقيم على مراقبته والتذمم من أن أفجعه بنفسي وحان وقت الهداية وجاءتني الموعظة الإلهية برؤيتي للنبي في المنام ليلة الجمعة تاسع ذي الحجة سنه ثمان وخمسين وخمسائة وكان ذلك بمراغة من أذربيجان) ..فتم له من الحجج ما لو انتهى به إليه دونها حتى تكون حجة واحدة مما ذكر آنفا لكان برهانا كافيا في ثبوت صحة الإسلام وحده, وبانت المحجة لاحبةً حيثما وجه بصره..وكان من حكمته رحمه الله تعالى كتمان خبر الرؤيا حتى لا يخرج قائل علينا :ترك الدين ودخل الإسلام لأجل أضغاث أحلام (!) ..وإنما جاءت الرؤيا تكرمة من الله دفع بها عنه شبهة حنو والده وحدبه عليه..وستأتي الرؤيا كما هي بقلمه في الرد الآتي إن شاء الله تعالى، كم كان السموءل موفقا حين سمى هذا العارض النفسي شبهة ..لأن كثيرًا ممن يضل أو يتلكأ عن اتباع هدى الله إنما أتي من قبل شبهة تعتلج في صدره, فإذا لم يجد في جعبته ما يطفئها ,أسلم قياده لها وصار هو نفسه: كالشبهة..يشبهها !,ولما امتاز في فؤاد صاحبنا معدن الشبهات عن معدن الأدلة,ونادى واعظ الله في قلبه أن هلمّ ! هُرِع إلى شجرة التوحيد , يتفيأ ظلالها ويلوذ بها من لهيب الكفر ..جعل يتأمل فيها ويروزها ,فإذا أصلها ثابت وفرعها في السماء. لقد عاين براهين الحق تلوح في سماء عقله وتبرق برعودها فيه, قبل ذلك بأربع سنوات ..وكان على موعد مع لحظة ميلاد سعيد حين ألقى الله في قلبه سره اللطيف ..منذ تلك اللحظة, انتقش في أبهره كلمة التوحيد ,وغدا ينبوعًا يصبّ في أنحاء جوارحه , وينضح على لسانه ,ويوحّد كِيانه , ولأول مرة من بعد طول فراق:يتعرّف إلى ذاته ويتوحّد مع نفسه..لقد عاد إلى فطرته الأولى,وبات يحضنها مستأثرا بها, كما الأم حين تحنو على طفلها ..تعلم جيدا من مدرسة الحياة أن الله ابتعث الأنبياء ليأخذوا بناصية الإنسانية إلى حيث الرشد والفلاح والسعادة ,ثم أيقن من درس السيرة : أن خاتمهم كان محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ومن سموّ القرآن :أنه كلام علويّ مهيب لابد أن يكون نزل من السماء..
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَهَٰذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ۗ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ"

أمةُ الله
09-01-2012, 07:15 PM
جزاك الله خيرا ، وبارك فيك وفي قلمك.
لي عودة بإذن الله تعالى.

الايمان يمان
09-03-2012, 01:20 AM
جزاك الله خيرا ...وعدت فوفيت اخي الغالي...موضوع اكثر من رائع