نور الدين الدمشقي
11-09-2012, 07:28 PM
ربما كانت فلسفة العلوم من أقل فروع الفلسفة انتشاراً في العالم العربي من حيث الدراسة والبحث والتدقيق ، ذلك أن موضوع ذلك الفرع هو العلوم التجريبية التي أصبحت البلاد العربية من أكثر بلدان العالم تخلفاً فيها وجهلاً بها ، وفلسفة العلوم تعتبر أهم فرع من فروع الفلسفة في هذا العصر ، حيث أنها تعني برسم الحدود الفاصلة بين ما هو علمي أولاعلمي أومضاد للعلم(1) من حيث القواعد المعرفية وطرق الاستدلال وأدوات النقد لكل تخصص من تخصصات العلوم التجريبية ، كما أن فلسفة العلوم كذلك تعني بشكل كبير بالمحاولات المضنية لصياغة رؤية فلسفية عن الوجود الإنساني والكون بحيث تكون هذه الرؤية بديلاً للدين الذي هجره الغرب وأوروبا بشكل خاص منذ عدة قرون. إذن فيمكن القول أن فلسفة العلوم ترتبط من جانب بالتقدم في العلوم التجريبية وترتبط من جانب آخر بالتجربة الدينية الأوروبية ، فما هو موقف الإسلام من فلسفة العلوم ؟ في الحقيقة أن موقف الإسلام من فلسفة العلوم له محورين رئيسيين : المحور الأول يتعلق بموضوع ذلك الفرع من الفلسفة ألا وهو العلوم التجريبية ، والمحور الثاني يتعلق بطرق الإستدلال وأدوات النقد الخاصة بالعلوم التجريبية. أما موقف الإسلام من العلوم التجريبية فهو موقف بالغ التحرر بعكس موقف النصرانية من تلك المنجزات ، فليس ثمة تعارض بين منجزات العلوم التجريبية ونصوص أو أحكام الشريعة إلا في مواضيع محدودة للغاية مثل استنساخ البشروإجراء التجارب الضارة أو القاتلة علي الإنسان. أما بالنسبة إلي موقف الإسلام من طرق الاستدلال وأدوات النقد الخاصة بالعلوم التجريبية من حيث تقاطع تلك الطرق والأدوات مع مثيلاتها المختصة بالعلوم الإسلامية ، فهو أحد أهم المواضيع التي تهدف هذه السلسلة من المقالات إلي بحثها ودراستها إن شاء الله تعالي.
مرت فلسفة العلوم بمراحل متعددة في الفكر الغربي منذ بدئ صياغة منهج العلوم التجريبية في القرنين السادس والسابع عشر إلي يومنا هذا ، وقد جسدت كل مرحلة أزمة من أزمات الوعي الإنساني الغربي الذي قد اتخذ قراره بهجر الدين منذ أن بدأ زيف نصوص العهدين يتكشف إبان عصر النهضة الأوروبية وما تلاها ، فالعلاقة بين تطور المناهج الإلحادية وتطور فلسفة العلوم في أوروبا هي علاقة بلا شك وثيقة ، فعندما كانت العلوم التجريبية في بداياتها كان أثرها علي التجربة الدينية الأوروبية محدوداً حيث تمثل في ظهور المذهب الاعتراضي(2) ورفض السلطة الكهنوتية الكاثوليكية فقط ، ولم يتم المساس بعقيدة الخلق(3) أو مبدأ النبوة(4) اللذان تقوم عليهما النصرانية ، بينما نري أنه مع تطور فلسفة العلوم واستقلالها عن باقي فروع الفلسفة ظهر الإلحاد العلمي الحداثي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأطروحات علمية بحتة تتعلق بالداروينية(5) والفيزياء الفلكية الحديثة(6) وميكانيكا الكم(7). يُلخص برتراند راسل(8) أحد أشهر فلاسفة العلوم في القرن العشرين العلاقة بين العلم والإلحاد الحداثيين في عبارته الشهيرة "الدين هو شئ تبقي لدينا من طفولة ذكائنا ، وسوف يتلاشي بمجرد أن نتبني المنطق والعلم كأدلة توجيهية"(9) .
بالرغم من أن الرؤية الإسلامية تجاه فلسفة العلوم قد تبدو قاتمة إلي حد ما لارتباط الكثير من الأطروحات المعاصرة لهذه الفلسفة بالإلحاد العلمي ، إلا أن إدراك المنجزات المعرفية لفلسفة العلوم علي مدار المائة عام المنصرمة يغير من تلك القتامة بشكل جذري لتصبح الرؤية الإسلامية لها معتدلة وإيجابية ، فتري الأطروحات التي تقود إلي نفي الخلق أو قيام الكون بذاته في سياقها التاريخي كأطروحات ضعيفة فلسفياً ومعرفياً ، وتري الأطروحات الأخري التي تتعلق بمواضيع علمية رصينة كالنظرية النسبية(10) وعلم الكونيات الحديث في سياقها العلمي كمنجزات معرفية باهرة تستحق البحث والدراسة ، كما أن الرؤية الإسلامية المعاصرة تجاه الفلسفة الوضعية وحتمية القوانين الوضعية وغير ذلك من أصول فلسفة العلوم يجب أن تخضع للفحص والتمحيص ، ويجب أن تقدم بجرأة وصراحة للجمهور الذي يتلقي الرؤي الغربية المعادية للدين من خلال وسائل الإعلام بكافة أنواعها كل يوم.
تسعي فلسفة العلوم إلي الإجابة علي أربعة أسئلة كبري ينتظر العالم أن تشكل إجاباتها الأنموذجية إطاراً معرفياً حاسماً لكل ما يتعلق بالعلم كنشاط إنساني ، هذه الأسئلة هي:
1- ما هو هدف العلم ؟
2- ماهي الحدود المنطقية والفلسفية للافتراضات العلمية الصحيحة ؟
3- ماهي الحدود الفاصلة بين الحقائق والنظريات والفرضيات العلمية ؟
4- ماهو منهج البحث العلمي المثالي ؟
وتتعلق العديد من الأسئلة الأخري بهذه الأسئلة الرئيسية الأربعة ، والسؤال الأول تحديداً قد خضع لجدل فلسفي هائل منذ بدئ عصر النهضة الأوروبية إلي يومنا هذا ، فبينما رأي أوجست كونت(11) رائد الفلسفة الوضعية أن الهدف من العلم هو "الوصول إلي الحقيقة" وتطبيق قانون الأحوال الثلاث(12) والانتهاء بالمعرفة البشرية إلي الكمال ، يري ف. هايزنبرج أحد أعلام الفيزياء النظرية وميكانيكا الكم المعاصرين أن : "العلم ينتقل من ميادين البحث القديمة إلي ميادين جديدة ويصاحب هذا الانتقال تغيراً وتجديداً في منهج العلم نفسه ، والمنهج العلمي الجديد الذي يظهر نتيجة خوض خبرات جديدة لن تكون قدرته علي التحليل المنطقي أقل من قدرة سابقه ، مع الوضع في الاعتبار أن طبيعته ستكون مختلفة اختلافاً جذرياً"(13) بما يعني أن العلم لن يصل ابداً إلي "الحقيقة المطلقة" بل هو نشاط إنساني يتطور بشكل تراكمي بحسب التحديات والاحتياجات التي تستحثه علي ذلك التطور.هاتان الرؤيتان تعكسان الخلاف العميق حول إجابة السؤال الأول ، وعندما سنتعرض إلي الأطروحات المعاصرة لفلسفة العلوم التي تتعلق بفوضوية الكون واعتماده علي الصدفة الإحصائية(14) والمبدأ الأنثروبي(15) في كل شئ مثل أطروحات ريتشارد داوكينز وهيو إيفيرت وغيرهما سنجد أنه طبقاً لهذه المبادئ فإن العلم في ذاته ليس له أي هدف علي الإطلاق ! ذلك لأنه ليست هناك أي معلومات يمكن أن يطلق عليها "حقائق مطلقة" في الكون ولأن الأنشطة البشرية كلها خاضعة للعشوائية من حيث علاقتها ببعضها البعض ومن حيث أهدافها الكلية !
أما السؤال الثاني الذي تسعي فلسفة العلوم لتقديم إجابة متكاملة له فهو يتعلق بشكل كبير بالعديد من الأزمات التي يواجهها الفكر الإسلامي منذ عدة قرون لا سيما في الشرق العربي ، ذلك أن حركة التغريب التي نشأت في الوطن العربي بمصاحبة حملات الاحتلال الأوروبي أرادت تصدير فكرة محددة إلي المسلمين ، هذه الفكرة مفادها أن "العلم التجريبي" بفلسفته الأوروبية هو نسق فكريّ معصوم ومطلق الصحة ، وهذا يقتضي بطبيعة الحال التسليم بكل افتراضاته المبدئية - لا سيما ما يتعلق منها بأصول المنهج العلمي - علي أساس أنها "مسلّمات" و "حقائق" ومن ثم فإن التعرض لهذا السؤال الرئيسي الذي تعني به فلسفة العلوم في يومنا هذا يعتبر بالنسبة لقراء العربية نوعاً من "التنوير الإسلامي" إن جاز التعبير ، إذ يتضح من تأمل الجهود الغربية التي سعت للإجابة علي هذا السؤال الخطير أن هناك صراعات أصولية بين فلاسفة العلوم حول "حدود الافتراضات" التي تقرر صحة منهج الاستدلال في العلوم التجريبية ، ومن ثم فإن الفكرة التي صُدرت بنجاح إلي المجتمعات العربية طوال مئات الأعوام السابقة يتضح أنها زائفة ! ولنضرب مثالاً علي هذا بأحد أهم الأصول الافتراضية لمنهج العلم التجريبي الحديث وهو فرض "الحتمية"(16) الذي يقضي بأن لكل ظاهرة طبيعية يمكن حدوثها يوجد عدد من الظروف والأسباب التي عند توفرها يجب أن تحدث هذه الظاهرة ويستحيل أن تحدث أي ظاهرة أخري(17) . يمكن القول أن الحتمية ترسخت في فلسفة العلوم الغربية بعد نيوتن فقد أجمع علماء الطبيعة والرياضيات حينئذ أن الكون كله تحكمه عدد ضخم من القوانين الرياضية والطبيعية المعقدة والتي يمكن التوصل إليها بقدر كافي من البحث ، فصيغت حينئذ الفكرة التي مفادها أن "العلم يسعي لاكتشاف القوانين التي تحكم الكون وكل الظواهر الموجودة فيه ، وأن ذلك السعي سيستمر حتي يحقق الإنسان ذلك الهدف ومن ثم يتمكن من حكم الكون"(18) وبقيت الفكرة تنتشر وتزدهر وتُخضع لها المزيد من العقول والمناهج الفكرية ، وصدرت إلي المشرق العربي والإسلامي مع عصور الاحتلال الأوروبي ، لكن حينما قفزت اكتشافات الفيزياء النظرية والكونيات وميكانيكا الكم في بداية القرن العشرين قفزات نوعية ضخمة ، بدأ المجتمع العلمي الغربي يعيد النظر في مبدأ الحتمية من جديد حيث أن المكتشفات المعاصرة آنذاك كانت تهدم العديد من القوانين التي كانت تعتبرها الفيزياء الكلاسيكية "قوانين حتمية" ومسلّمات في الكون ، ومن ثم فإن الظواهر التي كانت تنسب لقوانين الفيزياء الكلاسيكية أعيد تفسيرها من جديد بتفسيرات مختلفة كلياً عما سبق ، فغلب علي كبار علماء القرن العشرين الإيمان بمبدأ "اللاحتمية"(19) نذكر من أشهرهم علي سبيل المثال فيرنر هايزنبرج (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932) و ماكس بورن (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1954) وإيليا بريجوجاين (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1977) وموراي جيلمان (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969). لكن للأسف الشديد كان عالمنا العربي -والإسلامي بشكل عام- غائباً عن الوعي خلال القرن العشرين فلازالت مدارسنا ومعاهدنا تدرس المناهج العلمية القائمة علي "الحتمية" لأبنائنا ولازالت النخب المستثقفة في بلادنا تنادي بالعلمانية والإلحاد انطلاقاً من "حتمية القوانين الطبيعية" التي تلغي الاحتياج إلي الدين ولا يدرون أن الحتمية قد سقطت في بلادها سقوطاً مدوياً علي يد كبار العلماء وفلاسفة العلوم ، يقول لودفيج فتجنشتاين(20) الذي يعتبر أهم واحد من أهم علماء المنطق وفلاسفة العلوم في القرن العشرين: "إن القضية التي تقول أن فعل ما سببه كذا وكذا هي مجرد افتراض ، والفرض يكون قائماً علي أساس قوي إذا كان لدي الإنسان عدد كبير من الخبرات المؤيدة ، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون صحيحاً أو ضرورياً بشكل أوّلي -أي بشكل مستقل عن الخبرات المؤيدة- لأننا افترضناه بناءاً علي ما عرفناه من تجاربنا ، ولأن الضرورة لا تكون صحيحة إلا في المنطق"(21) . فمن خلال شرح فتنجشتاين لمفهوم اللاحتمية يمكننا أن نستنتج أن القوانين الطبيعية التي يتعرف عليها العلماء هي "نتيجة" لحدوث الظواهر ، وليست "سبباً" لهذه الظواهر في الحقيقة ، إذ أن تلك القوانين قد صيغت نتيجة "للمشاهدات" التي هي في حقيقتها رصدٌ "للظواهر" التي حدثت بالفعل ومراقبةٌ لخصائصها ، ومن ثم فيمكن القول أن القوانين الطبيعية "متغيرة" في ذاتها كما تتغير "الظواهر" التي صيغت علي أساسها تلك القوانين ، وهذا هو ما توصل إليه علماء القرن العشرين ، يقول جون إيرمان أستاذ فلسفة الفيزياء في جامعة بيتسبرج الأمريكية: "إن كل النظريات الفيزيائية الحديثة هي نظريات لاحتمية"(22) .
إذن يمكن تلخيص تطور الموقف الغربي بشكل عام من أهم أصول فلسفة العلوم وقضاياها الأساسية في كلمة واحدة هي "الخلاف" ! فكلما ازدادت مكتسبات العلوم الطبيعية وإنجازاتها كلما تغيرت النظرة إلي الهدف من العلم والقضايا الأصولية الرئيسية التي تؤسس لتطوره ، وستتضح لنا جوانب جديدة من هذا الخلاف في المقال القادم إن شاء الله حينما نتعرض إلي المزيد من القضايا الأصولية المتعلقة بفلسفة العلوم ومنهج العلم التجريبي بالبحث والتنقيب.
منقول:
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=104
الهوامش:
1. Scientific, Non-Scientific and Anti-scientific
2. Protestantism
3. Creationism
4. Prophethood
5. Darwinism
6. Modern astrophysics
7. Quantum mechanics
8. Bertrand Russell
9. Pierre Baldi (2002) The Shattered Self: The End of Natural Evolution, MIT Press
10. Relativity theory
11. August Comte
12. Law of three stages
13. Werner Heisenberg (1952) Philosophic problems of nuclear science, Faber and Faber Press
14. Statistical chance
15. Anthropic principle
16. Determinism
17. Jeremy Butterfield (2007) Philosophy of Physics, Elsevier
18. Hyman Levy (1975) The Universe of Science, Ayer Publishing
19. Indeterminism
20. Ludwig Wittgenstein
21. عزمي إسلام (1990) لودفيج فتنجشاين ، دار المعارف بمصر
22. John Earman (1986) A Primer on Determinism, Springer
مرت فلسفة العلوم بمراحل متعددة في الفكر الغربي منذ بدئ صياغة منهج العلوم التجريبية في القرنين السادس والسابع عشر إلي يومنا هذا ، وقد جسدت كل مرحلة أزمة من أزمات الوعي الإنساني الغربي الذي قد اتخذ قراره بهجر الدين منذ أن بدأ زيف نصوص العهدين يتكشف إبان عصر النهضة الأوروبية وما تلاها ، فالعلاقة بين تطور المناهج الإلحادية وتطور فلسفة العلوم في أوروبا هي علاقة بلا شك وثيقة ، فعندما كانت العلوم التجريبية في بداياتها كان أثرها علي التجربة الدينية الأوروبية محدوداً حيث تمثل في ظهور المذهب الاعتراضي(2) ورفض السلطة الكهنوتية الكاثوليكية فقط ، ولم يتم المساس بعقيدة الخلق(3) أو مبدأ النبوة(4) اللذان تقوم عليهما النصرانية ، بينما نري أنه مع تطور فلسفة العلوم واستقلالها عن باقي فروع الفلسفة ظهر الإلحاد العلمي الحداثي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأطروحات علمية بحتة تتعلق بالداروينية(5) والفيزياء الفلكية الحديثة(6) وميكانيكا الكم(7). يُلخص برتراند راسل(8) أحد أشهر فلاسفة العلوم في القرن العشرين العلاقة بين العلم والإلحاد الحداثيين في عبارته الشهيرة "الدين هو شئ تبقي لدينا من طفولة ذكائنا ، وسوف يتلاشي بمجرد أن نتبني المنطق والعلم كأدلة توجيهية"(9) .
بالرغم من أن الرؤية الإسلامية تجاه فلسفة العلوم قد تبدو قاتمة إلي حد ما لارتباط الكثير من الأطروحات المعاصرة لهذه الفلسفة بالإلحاد العلمي ، إلا أن إدراك المنجزات المعرفية لفلسفة العلوم علي مدار المائة عام المنصرمة يغير من تلك القتامة بشكل جذري لتصبح الرؤية الإسلامية لها معتدلة وإيجابية ، فتري الأطروحات التي تقود إلي نفي الخلق أو قيام الكون بذاته في سياقها التاريخي كأطروحات ضعيفة فلسفياً ومعرفياً ، وتري الأطروحات الأخري التي تتعلق بمواضيع علمية رصينة كالنظرية النسبية(10) وعلم الكونيات الحديث في سياقها العلمي كمنجزات معرفية باهرة تستحق البحث والدراسة ، كما أن الرؤية الإسلامية المعاصرة تجاه الفلسفة الوضعية وحتمية القوانين الوضعية وغير ذلك من أصول فلسفة العلوم يجب أن تخضع للفحص والتمحيص ، ويجب أن تقدم بجرأة وصراحة للجمهور الذي يتلقي الرؤي الغربية المعادية للدين من خلال وسائل الإعلام بكافة أنواعها كل يوم.
تسعي فلسفة العلوم إلي الإجابة علي أربعة أسئلة كبري ينتظر العالم أن تشكل إجاباتها الأنموذجية إطاراً معرفياً حاسماً لكل ما يتعلق بالعلم كنشاط إنساني ، هذه الأسئلة هي:
1- ما هو هدف العلم ؟
2- ماهي الحدود المنطقية والفلسفية للافتراضات العلمية الصحيحة ؟
3- ماهي الحدود الفاصلة بين الحقائق والنظريات والفرضيات العلمية ؟
4- ماهو منهج البحث العلمي المثالي ؟
وتتعلق العديد من الأسئلة الأخري بهذه الأسئلة الرئيسية الأربعة ، والسؤال الأول تحديداً قد خضع لجدل فلسفي هائل منذ بدئ عصر النهضة الأوروبية إلي يومنا هذا ، فبينما رأي أوجست كونت(11) رائد الفلسفة الوضعية أن الهدف من العلم هو "الوصول إلي الحقيقة" وتطبيق قانون الأحوال الثلاث(12) والانتهاء بالمعرفة البشرية إلي الكمال ، يري ف. هايزنبرج أحد أعلام الفيزياء النظرية وميكانيكا الكم المعاصرين أن : "العلم ينتقل من ميادين البحث القديمة إلي ميادين جديدة ويصاحب هذا الانتقال تغيراً وتجديداً في منهج العلم نفسه ، والمنهج العلمي الجديد الذي يظهر نتيجة خوض خبرات جديدة لن تكون قدرته علي التحليل المنطقي أقل من قدرة سابقه ، مع الوضع في الاعتبار أن طبيعته ستكون مختلفة اختلافاً جذرياً"(13) بما يعني أن العلم لن يصل ابداً إلي "الحقيقة المطلقة" بل هو نشاط إنساني يتطور بشكل تراكمي بحسب التحديات والاحتياجات التي تستحثه علي ذلك التطور.هاتان الرؤيتان تعكسان الخلاف العميق حول إجابة السؤال الأول ، وعندما سنتعرض إلي الأطروحات المعاصرة لفلسفة العلوم التي تتعلق بفوضوية الكون واعتماده علي الصدفة الإحصائية(14) والمبدأ الأنثروبي(15) في كل شئ مثل أطروحات ريتشارد داوكينز وهيو إيفيرت وغيرهما سنجد أنه طبقاً لهذه المبادئ فإن العلم في ذاته ليس له أي هدف علي الإطلاق ! ذلك لأنه ليست هناك أي معلومات يمكن أن يطلق عليها "حقائق مطلقة" في الكون ولأن الأنشطة البشرية كلها خاضعة للعشوائية من حيث علاقتها ببعضها البعض ومن حيث أهدافها الكلية !
أما السؤال الثاني الذي تسعي فلسفة العلوم لتقديم إجابة متكاملة له فهو يتعلق بشكل كبير بالعديد من الأزمات التي يواجهها الفكر الإسلامي منذ عدة قرون لا سيما في الشرق العربي ، ذلك أن حركة التغريب التي نشأت في الوطن العربي بمصاحبة حملات الاحتلال الأوروبي أرادت تصدير فكرة محددة إلي المسلمين ، هذه الفكرة مفادها أن "العلم التجريبي" بفلسفته الأوروبية هو نسق فكريّ معصوم ومطلق الصحة ، وهذا يقتضي بطبيعة الحال التسليم بكل افتراضاته المبدئية - لا سيما ما يتعلق منها بأصول المنهج العلمي - علي أساس أنها "مسلّمات" و "حقائق" ومن ثم فإن التعرض لهذا السؤال الرئيسي الذي تعني به فلسفة العلوم في يومنا هذا يعتبر بالنسبة لقراء العربية نوعاً من "التنوير الإسلامي" إن جاز التعبير ، إذ يتضح من تأمل الجهود الغربية التي سعت للإجابة علي هذا السؤال الخطير أن هناك صراعات أصولية بين فلاسفة العلوم حول "حدود الافتراضات" التي تقرر صحة منهج الاستدلال في العلوم التجريبية ، ومن ثم فإن الفكرة التي صُدرت بنجاح إلي المجتمعات العربية طوال مئات الأعوام السابقة يتضح أنها زائفة ! ولنضرب مثالاً علي هذا بأحد أهم الأصول الافتراضية لمنهج العلم التجريبي الحديث وهو فرض "الحتمية"(16) الذي يقضي بأن لكل ظاهرة طبيعية يمكن حدوثها يوجد عدد من الظروف والأسباب التي عند توفرها يجب أن تحدث هذه الظاهرة ويستحيل أن تحدث أي ظاهرة أخري(17) . يمكن القول أن الحتمية ترسخت في فلسفة العلوم الغربية بعد نيوتن فقد أجمع علماء الطبيعة والرياضيات حينئذ أن الكون كله تحكمه عدد ضخم من القوانين الرياضية والطبيعية المعقدة والتي يمكن التوصل إليها بقدر كافي من البحث ، فصيغت حينئذ الفكرة التي مفادها أن "العلم يسعي لاكتشاف القوانين التي تحكم الكون وكل الظواهر الموجودة فيه ، وأن ذلك السعي سيستمر حتي يحقق الإنسان ذلك الهدف ومن ثم يتمكن من حكم الكون"(18) وبقيت الفكرة تنتشر وتزدهر وتُخضع لها المزيد من العقول والمناهج الفكرية ، وصدرت إلي المشرق العربي والإسلامي مع عصور الاحتلال الأوروبي ، لكن حينما قفزت اكتشافات الفيزياء النظرية والكونيات وميكانيكا الكم في بداية القرن العشرين قفزات نوعية ضخمة ، بدأ المجتمع العلمي الغربي يعيد النظر في مبدأ الحتمية من جديد حيث أن المكتشفات المعاصرة آنذاك كانت تهدم العديد من القوانين التي كانت تعتبرها الفيزياء الكلاسيكية "قوانين حتمية" ومسلّمات في الكون ، ومن ثم فإن الظواهر التي كانت تنسب لقوانين الفيزياء الكلاسيكية أعيد تفسيرها من جديد بتفسيرات مختلفة كلياً عما سبق ، فغلب علي كبار علماء القرن العشرين الإيمان بمبدأ "اللاحتمية"(19) نذكر من أشهرهم علي سبيل المثال فيرنر هايزنبرج (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932) و ماكس بورن (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1954) وإيليا بريجوجاين (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1977) وموراي جيلمان (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969). لكن للأسف الشديد كان عالمنا العربي -والإسلامي بشكل عام- غائباً عن الوعي خلال القرن العشرين فلازالت مدارسنا ومعاهدنا تدرس المناهج العلمية القائمة علي "الحتمية" لأبنائنا ولازالت النخب المستثقفة في بلادنا تنادي بالعلمانية والإلحاد انطلاقاً من "حتمية القوانين الطبيعية" التي تلغي الاحتياج إلي الدين ولا يدرون أن الحتمية قد سقطت في بلادها سقوطاً مدوياً علي يد كبار العلماء وفلاسفة العلوم ، يقول لودفيج فتجنشتاين(20) الذي يعتبر أهم واحد من أهم علماء المنطق وفلاسفة العلوم في القرن العشرين: "إن القضية التي تقول أن فعل ما سببه كذا وكذا هي مجرد افتراض ، والفرض يكون قائماً علي أساس قوي إذا كان لدي الإنسان عدد كبير من الخبرات المؤيدة ، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون صحيحاً أو ضرورياً بشكل أوّلي -أي بشكل مستقل عن الخبرات المؤيدة- لأننا افترضناه بناءاً علي ما عرفناه من تجاربنا ، ولأن الضرورة لا تكون صحيحة إلا في المنطق"(21) . فمن خلال شرح فتنجشتاين لمفهوم اللاحتمية يمكننا أن نستنتج أن القوانين الطبيعية التي يتعرف عليها العلماء هي "نتيجة" لحدوث الظواهر ، وليست "سبباً" لهذه الظواهر في الحقيقة ، إذ أن تلك القوانين قد صيغت نتيجة "للمشاهدات" التي هي في حقيقتها رصدٌ "للظواهر" التي حدثت بالفعل ومراقبةٌ لخصائصها ، ومن ثم فيمكن القول أن القوانين الطبيعية "متغيرة" في ذاتها كما تتغير "الظواهر" التي صيغت علي أساسها تلك القوانين ، وهذا هو ما توصل إليه علماء القرن العشرين ، يقول جون إيرمان أستاذ فلسفة الفيزياء في جامعة بيتسبرج الأمريكية: "إن كل النظريات الفيزيائية الحديثة هي نظريات لاحتمية"(22) .
إذن يمكن تلخيص تطور الموقف الغربي بشكل عام من أهم أصول فلسفة العلوم وقضاياها الأساسية في كلمة واحدة هي "الخلاف" ! فكلما ازدادت مكتسبات العلوم الطبيعية وإنجازاتها كلما تغيرت النظرة إلي الهدف من العلم والقضايا الأصولية الرئيسية التي تؤسس لتطوره ، وستتضح لنا جوانب جديدة من هذا الخلاف في المقال القادم إن شاء الله حينما نتعرض إلي المزيد من القضايا الأصولية المتعلقة بفلسفة العلوم ومنهج العلم التجريبي بالبحث والتنقيب.
منقول:
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=104
الهوامش:
1. Scientific, Non-Scientific and Anti-scientific
2. Protestantism
3. Creationism
4. Prophethood
5. Darwinism
6. Modern astrophysics
7. Quantum mechanics
8. Bertrand Russell
9. Pierre Baldi (2002) The Shattered Self: The End of Natural Evolution, MIT Press
10. Relativity theory
11. August Comte
12. Law of three stages
13. Werner Heisenberg (1952) Philosophic problems of nuclear science, Faber and Faber Press
14. Statistical chance
15. Anthropic principle
16. Determinism
17. Jeremy Butterfield (2007) Philosophy of Physics, Elsevier
18. Hyman Levy (1975) The Universe of Science, Ayer Publishing
19. Indeterminism
20. Ludwig Wittgenstein
21. عزمي إسلام (1990) لودفيج فتنجشاين ، دار المعارف بمصر
22. John Earman (1986) A Primer on Determinism, Springer