المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مدخل الى فلسفة العلوم



نور الدين الدمشقي
11-09-2012, 07:28 PM
ربما كانت فلسفة العلوم من أقل فروع الفلسفة انتشاراً في العالم العربي من حيث الدراسة والبحث والتدقيق ، ذلك أن موضوع ذلك الفرع هو العلوم التجريبية التي أصبحت البلاد العربية من أكثر بلدان العالم تخلفاً فيها وجهلاً بها ، وفلسفة العلوم تعتبر أهم فرع من فروع الفلسفة في هذا العصر ، حيث أنها تعني برسم الحدود الفاصلة بين ما هو علمي أولاعلمي أومضاد للعلم(1) من حيث القواعد المعرفية وطرق الاستدلال وأدوات النقد لكل تخصص من تخصصات العلوم التجريبية ، كما أن فلسفة العلوم كذلك تعني بشكل كبير بالمحاولات المضنية لصياغة رؤية فلسفية عن الوجود الإنساني والكون بحيث تكون هذه الرؤية بديلاً للدين الذي هجره الغرب وأوروبا بشكل خاص منذ عدة قرون. إذن فيمكن القول أن فلسفة العلوم ترتبط من جانب بالتقدم في العلوم التجريبية وترتبط من جانب آخر بالتجربة الدينية الأوروبية ، فما هو موقف الإسلام من فلسفة العلوم ؟ في الحقيقة أن موقف الإسلام من فلسفة العلوم له محورين رئيسيين : المحور الأول يتعلق بموضوع ذلك الفرع من الفلسفة ألا وهو العلوم التجريبية ، والمحور الثاني يتعلق بطرق الإستدلال وأدوات النقد الخاصة بالعلوم التجريبية. أما موقف الإسلام من العلوم التجريبية فهو موقف بالغ التحرر بعكس موقف النصرانية من تلك المنجزات ، فليس ثمة تعارض بين منجزات العلوم التجريبية ونصوص أو أحكام الشريعة إلا في مواضيع محدودة للغاية مثل استنساخ البشروإجراء التجارب الضارة أو القاتلة علي الإنسان. أما بالنسبة إلي موقف الإسلام من طرق الاستدلال وأدوات النقد الخاصة بالعلوم التجريبية من حيث تقاطع تلك الطرق والأدوات مع مثيلاتها المختصة بالعلوم الإسلامية ، فهو أحد أهم المواضيع التي تهدف هذه السلسلة من المقالات إلي بحثها ودراستها إن شاء الله تعالي.

مرت فلسفة العلوم بمراحل متعددة في الفكر الغربي منذ بدئ صياغة منهج العلوم التجريبية في القرنين السادس والسابع عشر إلي يومنا هذا ، وقد جسدت كل مرحلة أزمة من أزمات الوعي الإنساني الغربي الذي قد اتخذ قراره بهجر الدين منذ أن بدأ زيف نصوص العهدين يتكشف إبان عصر النهضة الأوروبية وما تلاها ، فالعلاقة بين تطور المناهج الإلحادية وتطور فلسفة العلوم في أوروبا هي علاقة بلا شك وثيقة ، فعندما كانت العلوم التجريبية في بداياتها كان أثرها علي التجربة الدينية الأوروبية محدوداً حيث تمثل في ظهور المذهب الاعتراضي(2) ورفض السلطة الكهنوتية الكاثوليكية فقط ، ولم يتم المساس بعقيدة الخلق(3) أو مبدأ النبوة(4) اللذان تقوم عليهما النصرانية ، بينما نري أنه مع تطور فلسفة العلوم واستقلالها عن باقي فروع الفلسفة ظهر الإلحاد العلمي الحداثي الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأطروحات علمية بحتة تتعلق بالداروينية(5) والفيزياء الفلكية الحديثة(6) وميكانيكا الكم(7). يُلخص برتراند راسل(8) أحد أشهر فلاسفة العلوم في القرن العشرين العلاقة بين العلم والإلحاد الحداثيين في عبارته الشهيرة "الدين هو شئ تبقي لدينا من طفولة ذكائنا ، وسوف يتلاشي بمجرد أن نتبني المنطق والعلم كأدلة توجيهية"(9) .

بالرغم من أن الرؤية الإسلامية تجاه فلسفة العلوم قد تبدو قاتمة إلي حد ما لارتباط الكثير من الأطروحات المعاصرة لهذه الفلسفة بالإلحاد العلمي ، إلا أن إدراك المنجزات المعرفية لفلسفة العلوم علي مدار المائة عام المنصرمة يغير من تلك القتامة بشكل جذري لتصبح الرؤية الإسلامية لها معتدلة وإيجابية ، فتري الأطروحات التي تقود إلي نفي الخلق أو قيام الكون بذاته في سياقها التاريخي كأطروحات ضعيفة فلسفياً ومعرفياً ، وتري الأطروحات الأخري التي تتعلق بمواضيع علمية رصينة كالنظرية النسبية(10) وعلم الكونيات الحديث في سياقها العلمي كمنجزات معرفية باهرة تستحق البحث والدراسة ، كما أن الرؤية الإسلامية المعاصرة تجاه الفلسفة الوضعية وحتمية القوانين الوضعية وغير ذلك من أصول فلسفة العلوم يجب أن تخضع للفحص والتمحيص ، ويجب أن تقدم بجرأة وصراحة للجمهور الذي يتلقي الرؤي الغربية المعادية للدين من خلال وسائل الإعلام بكافة أنواعها كل يوم.

تسعي فلسفة العلوم إلي الإجابة علي أربعة أسئلة كبري ينتظر العالم أن تشكل إجاباتها الأنموذجية إطاراً معرفياً حاسماً لكل ما يتعلق بالعلم كنشاط إنساني ، هذه الأسئلة هي:

1- ما هو هدف العلم ؟

2- ماهي الحدود المنطقية والفلسفية للافتراضات العلمية الصحيحة ؟

3- ماهي الحدود الفاصلة بين الحقائق والنظريات والفرضيات العلمية ؟

4- ماهو منهج البحث العلمي المثالي ؟

وتتعلق العديد من الأسئلة الأخري بهذه الأسئلة الرئيسية الأربعة ، والسؤال الأول تحديداً قد خضع لجدل فلسفي هائل منذ بدئ عصر النهضة الأوروبية إلي يومنا هذا ، فبينما رأي أوجست كونت(11) رائد الفلسفة الوضعية أن الهدف من العلم هو "الوصول إلي الحقيقة" وتطبيق قانون الأحوال الثلاث(12) والانتهاء بالمعرفة البشرية إلي الكمال ، يري ف. هايزنبرج أحد أعلام الفيزياء النظرية وميكانيكا الكم المعاصرين أن : "العلم ينتقل من ميادين البحث القديمة إلي ميادين جديدة ويصاحب هذا الانتقال تغيراً وتجديداً في منهج العلم نفسه ، والمنهج العلمي الجديد الذي يظهر نتيجة خوض خبرات جديدة لن تكون قدرته علي التحليل المنطقي أقل من قدرة سابقه ، مع الوضع في الاعتبار أن طبيعته ستكون مختلفة اختلافاً جذرياً"(13) بما يعني أن العلم لن يصل ابداً إلي "الحقيقة المطلقة" بل هو نشاط إنساني يتطور بشكل تراكمي بحسب التحديات والاحتياجات التي تستحثه علي ذلك التطور.هاتان الرؤيتان تعكسان الخلاف العميق حول إجابة السؤال الأول ، وعندما سنتعرض إلي الأطروحات المعاصرة لفلسفة العلوم التي تتعلق بفوضوية الكون واعتماده علي الصدفة الإحصائية(14) والمبدأ الأنثروبي(15) في كل شئ مثل أطروحات ريتشارد داوكينز وهيو إيفيرت وغيرهما سنجد أنه طبقاً لهذه المبادئ فإن العلم في ذاته ليس له أي هدف علي الإطلاق ! ذلك لأنه ليست هناك أي معلومات يمكن أن يطلق عليها "حقائق مطلقة" في الكون ولأن الأنشطة البشرية كلها خاضعة للعشوائية من حيث علاقتها ببعضها البعض ومن حيث أهدافها الكلية !

أما السؤال الثاني الذي تسعي فلسفة العلوم لتقديم إجابة متكاملة له فهو يتعلق بشكل كبير بالعديد من الأزمات التي يواجهها الفكر الإسلامي منذ عدة قرون لا سيما في الشرق العربي ، ذلك أن حركة التغريب التي نشأت في الوطن العربي بمصاحبة حملات الاحتلال الأوروبي أرادت تصدير فكرة محددة إلي المسلمين ، هذه الفكرة مفادها أن "العلم التجريبي" بفلسفته الأوروبية هو نسق فكريّ معصوم ومطلق الصحة ، وهذا يقتضي بطبيعة الحال التسليم بكل افتراضاته المبدئية - لا سيما ما يتعلق منها بأصول المنهج العلمي - علي أساس أنها "مسلّمات" و "حقائق" ومن ثم فإن التعرض لهذا السؤال الرئيسي الذي تعني به فلسفة العلوم في يومنا هذا يعتبر بالنسبة لقراء العربية نوعاً من "التنوير الإسلامي" إن جاز التعبير ، إذ يتضح من تأمل الجهود الغربية التي سعت للإجابة علي هذا السؤال الخطير أن هناك صراعات أصولية بين فلاسفة العلوم حول "حدود الافتراضات" التي تقرر صحة منهج الاستدلال في العلوم التجريبية ، ومن ثم فإن الفكرة التي صُدرت بنجاح إلي المجتمعات العربية طوال مئات الأعوام السابقة يتضح أنها زائفة ! ولنضرب مثالاً علي هذا بأحد أهم الأصول الافتراضية لمنهج العلم التجريبي الحديث وهو فرض "الحتمية"(16) الذي يقضي بأن لكل ظاهرة طبيعية يمكن حدوثها يوجد عدد من الظروف والأسباب التي عند توفرها يجب أن تحدث هذه الظاهرة ويستحيل أن تحدث أي ظاهرة أخري(17) . يمكن القول أن الحتمية ترسخت في فلسفة العلوم الغربية بعد نيوتن فقد أجمع علماء الطبيعة والرياضيات حينئذ أن الكون كله تحكمه عدد ضخم من القوانين الرياضية والطبيعية المعقدة والتي يمكن التوصل إليها بقدر كافي من البحث ، فصيغت حينئذ الفكرة التي مفادها أن "العلم يسعي لاكتشاف القوانين التي تحكم الكون وكل الظواهر الموجودة فيه ، وأن ذلك السعي سيستمر حتي يحقق الإنسان ذلك الهدف ومن ثم يتمكن من حكم الكون"(18) وبقيت الفكرة تنتشر وتزدهر وتُخضع لها المزيد من العقول والمناهج الفكرية ، وصدرت إلي المشرق العربي والإسلامي مع عصور الاحتلال الأوروبي ، لكن حينما قفزت اكتشافات الفيزياء النظرية والكونيات وميكانيكا الكم في بداية القرن العشرين قفزات نوعية ضخمة ، بدأ المجتمع العلمي الغربي يعيد النظر في مبدأ الحتمية من جديد حيث أن المكتشفات المعاصرة آنذاك كانت تهدم العديد من القوانين التي كانت تعتبرها الفيزياء الكلاسيكية "قوانين حتمية" ومسلّمات في الكون ، ومن ثم فإن الظواهر التي كانت تنسب لقوانين الفيزياء الكلاسيكية أعيد تفسيرها من جديد بتفسيرات مختلفة كلياً عما سبق ، فغلب علي كبار علماء القرن العشرين الإيمان بمبدأ "اللاحتمية"(19) نذكر من أشهرهم علي سبيل المثال فيرنر هايزنبرج (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932) و ماكس بورن (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1954) وإيليا بريجوجاين (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1977) وموراي جيلمان (جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969). لكن للأسف الشديد كان عالمنا العربي -والإسلامي بشكل عام- غائباً عن الوعي خلال القرن العشرين فلازالت مدارسنا ومعاهدنا تدرس المناهج العلمية القائمة علي "الحتمية" لأبنائنا ولازالت النخب المستثقفة في بلادنا تنادي بالعلمانية والإلحاد انطلاقاً من "حتمية القوانين الطبيعية" التي تلغي الاحتياج إلي الدين ولا يدرون أن الحتمية قد سقطت في بلادها سقوطاً مدوياً علي يد كبار العلماء وفلاسفة العلوم ، يقول لودفيج فتجنشتاين(20) الذي يعتبر أهم واحد من أهم علماء المنطق وفلاسفة العلوم في القرن العشرين: "إن القضية التي تقول أن فعل ما سببه كذا وكذا هي مجرد افتراض ، والفرض يكون قائماً علي أساس قوي إذا كان لدي الإنسان عدد كبير من الخبرات المؤيدة ، إلا أن هذا الافتراض لا يمكن أن يكون صحيحاً أو ضرورياً بشكل أوّلي -أي بشكل مستقل عن الخبرات المؤيدة- لأننا افترضناه بناءاً علي ما عرفناه من تجاربنا ، ولأن الضرورة لا تكون صحيحة إلا في المنطق"(21) . فمن خلال شرح فتنجشتاين لمفهوم اللاحتمية يمكننا أن نستنتج أن القوانين الطبيعية التي يتعرف عليها العلماء هي "نتيجة" لحدوث الظواهر ، وليست "سبباً" لهذه الظواهر في الحقيقة ، إذ أن تلك القوانين قد صيغت نتيجة "للمشاهدات" التي هي في حقيقتها رصدٌ "للظواهر" التي حدثت بالفعل ومراقبةٌ لخصائصها ، ومن ثم فيمكن القول أن القوانين الطبيعية "متغيرة" في ذاتها كما تتغير "الظواهر" التي صيغت علي أساسها تلك القوانين ، وهذا هو ما توصل إليه علماء القرن العشرين ، يقول جون إيرمان أستاذ فلسفة الفيزياء في جامعة بيتسبرج الأمريكية: "إن كل النظريات الفيزيائية الحديثة هي نظريات لاحتمية"(22) .

إذن يمكن تلخيص تطور الموقف الغربي بشكل عام من أهم أصول فلسفة العلوم وقضاياها الأساسية في كلمة واحدة هي "الخلاف" ! فكلما ازدادت مكتسبات العلوم الطبيعية وإنجازاتها كلما تغيرت النظرة إلي الهدف من العلم والقضايا الأصولية الرئيسية التي تؤسس لتطوره ، وستتضح لنا جوانب جديدة من هذا الخلاف في المقال القادم إن شاء الله حينما نتعرض إلي المزيد من القضايا الأصولية المتعلقة بفلسفة العلوم ومنهج العلم التجريبي بالبحث والتنقيب.

منقول:
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?Id=104

الهوامش:

1. Scientific, Non-Scientific and Anti-scientific

2. Protestantism

3. Creationism

4. Prophethood

5. Darwinism

6. Modern astrophysics

7. Quantum mechanics

8. Bertrand Russell

9. Pierre Baldi (2002) The Shattered Self: The End of Natural Evolution, MIT Press

10. Relativity theory

11. August Comte

12. Law of three stages

13. Werner Heisenberg (1952) Philosophic problems of nuclear science, Faber and Faber Press

14. Statistical chance

15. Anthropic principle

16. Determinism

17. Jeremy Butterfield (2007) Philosophy of Physics, Elsevier

18. Hyman Levy (1975) The Universe of Science, Ayer Publishing

19. Indeterminism

20. Ludwig Wittgenstein

21. عزمي إسلام (1990) لودفيج فتنجشاين ، دار المعارف بمصر

22. John Earman (1986) A Primer on Determinism, Springer

نور الدين الدمشقي
11-09-2012, 07:30 PM
تعرضنا في المقال السابق لأهم الأسئلة التي تسعي فلسفة العلوم للإجابة عليها ، وتوقفنا عند السؤال الثاني الذي يتعلق بحدود الفروض الصحيحة للعلم التجريبي وذلك لما طرحنا "الحتمية" كأحد الفروض الأولية(1) التي قامت عليها الفلسفة التجريبية(2) ووضحنا كيف هدمت المدارس الحديثة لفلسفة العلوم كالوضعية المنطقية(3) والعقلية النقدية(4) مبدأ الحتمية ، وجدير بالذكر أن هناك خلط شائع بين مبدأي السببية(5) والحتمية لا سيما عند غير المشتغلين بالعلوم الطبيعية أو المغرقين في الفسلفة البحتة ، والحقيقة أن ثمة علاقة قوية بين المبدأين لكن بالتأكيد كل منهما مستقل تماماً عن الآخر ، فالسببية تقضي بأن كل حدث له أسباب أدت إلي حدوثه ، بينما الحتمية تقضي بأن تكرار السبب لابد أن يؤدي إلي نفس الحدث في كل مرة ولا يمكن أن يؤدي إلي حدث مختلف بما يجعل العلاقة الرياضية بين السبب وأثره علاقة حتمية دائماً ، والحقيقة أن السببية في حد ذاتها ضرورية منطقياً ، ولم يكن هناك أي إشكال علمي أو فلسفي معتبر في إثباتها منطقياً ورياضياً باستثناء بعض التحديات التي فرضتها ميكانيكا الكم أمام هذا المبدأ ، أما الحتمية فقد تعرضت للعديد من الهزائم والنكبات التي أدت إلي سقوطها كأحد الفروض الأولية للعلوم الطبيعية كما أوضحنا في المقال السابق ، وذلك الخلط بين المبدئين هو الذي يجعل بعضهم يشنعون علي أئمة الإسلام بأنهم قد رفضوا السببية بما يجعلهم مخرفين أو مهرطقين في نظر هؤلاء ، إلا أنه في حقيقة الأمر فإن هؤلاء الأئمة - كحجة الإسلام أبي حامد الغزالي وشيخ الإسلام الهروي الأنصاري وغيرهما - قد رفضوا الحتمية مع إقرارهم للسببية ، بما جعلهم يسبقون الحضارة الغربية بأكثر من عشرة قرون من الزمان. إن وجود السببية لا يعني ضرورة الإقرار بالحتمية. هذا ما استقر عليه جمهور علماء المسلمين منذ قرون طويلة وما اتفق عليه علماء الفيزياء وسائر العلوم الطبيعية في الغرب خلال القرن الماضي.

ماهي الحدود الفاصلة بين الحقائق والنظريات والفرضيات العلمية ؟

كان هذا السؤال الثالث الذي تسعي فلسفة العلوم للإجابة عليه ، وفي حقيقة الأمر فإن الإجابة علي هذا السؤال تمس عامة الناس في حياتهم اليومية ، إذ أن وسائل الإعلام الحديثة تقدم محتوي لا بأس من العلوم الشعبية(6) المبسطة التي يتلقاها عامة الناس بشغف واهتمام كبير بما يجعل ذلك المحتوي يؤثر تأثيراً ملحوظاً في صناعة وتوجيه الرأي العام. ربما كانت برامج العلوم الشعبية شحيحة للغاية في الوطن العربي باستثناء بعض الفضائيات الغربية المترجمة ، لكن في الغرب تعج الفضائيات ووسائل الإعلام المقروءة والسيبرية بمواد العلوم الشعبية باللغات المختلفة ، ويتسم محتوي تلك المواد -بشكل عام- بذوبان الحواجز بين مراتب المعرفة العلمية المختلفة ، فالرغبة في تقديم عنصر الإثارة وتحقيق نسبة مشاهدة عالية تجعل الافتراضات الرياضية المبدئية تصور علي أنها نظريات علمية رصينة ، وتجعل النظريات التي لاتزال في طور الصياغة والتدقيق تصور علي أنها حقائق علمية لا شك فيها ، ولا يستطيع المشاهد أن يدرك ذلك إلا إذا كان من المشتغلين بالعلوم وعلي دراية كافية بفلسفة العلوم وقواعد ومنهج البحث العلمي ، أما المشاهد العادي فينبهر بالمادة الإعلامية المزخرفة بعناصر الإبهار وربما الدراما والتي تختلط فيها النظريات العلمية الرصينة بالافتراضات الفلسفية البحتة والآمال العلمية الحالمة مثل الفيلم "العلمي" الذي قدمته ناشيونال جيوجرافيك عن إمكانية ومستقبل السفر في الزمن(7) والذي خلطت فيه النظرية النسبية التي استقر علي صحتها علماء الفيزياء منذ أكثر من نصف قرن ، بعدد من الافتراضات عن وجود "الثقوب الدودية"(8) التي تعبر نسيج الزمان-مكان(9) وعدد آخر من الأحلام العلمية عن الإمكانية التقنية لطي الزمان-مكان باستخدام الجاذبية والسفر بسرعة الضوء ! فالمشاهد العادي لن يستطيع التفرقة بين كلام البروفيسور ستيفن هوكينج الرصين عن "علاقة الجاذبية بنسيج الزمان-مكان" وكلام المُعلق التابع لطاقم الفيلم عن "أن السفر في آلة الزمن هو أمر ممكن مستقبلاً" ! والأمثلة علي الخلط البائس بين درجات المعرفة في الإعلام عسيرة علي الإحصاء ، مابين السفر في الزمن إلي اكتشاف إكسير الحياة(10) إلي وجود الأكوان المتوازية(11)!

إن تأثر المسلمين بهذا الخلط بين مراتب المعرفة العلمية هو تأثرٌ بالغ الخطورة إذ أن الفرضيات العلمية التي لاتزال في طور التكوين والنقد تقدم إلي جماهير المسلمين علي أنها حقائق علمية بل وربما يثار حولها جدل كبير من حيث توافقها مع نصوص القرآن والسنة أو عدمه ، بينما في حقيقة الأمر أن ذلك الجدل زائف من كل وجه ، فالجدوي المعرفية للاستدلال بمثل هذه الافتراضات "الفلسفية" منعدمة ، فإذا سلمنا جدلاً بوجود أدني قدر من الجدوي لمثل هذا الاستدلال فنجد أن التعارض بين مكتسبات العلوم التجريبية والحقائق العليا التي أتي بها الوحي الإلهي هو تعارض مستحيل ، إذا أن تلك المكتسبات قد تم التوصل إليها بطريق الحس والمشاهدة والاستنباط ، بينما تم التوصل إلي الحقائق العليا بطريق الوحي الإلهي ، ومن ثم فإن الإطار المعرفي للمعارف العلمية هو إطار مختلف جملة وتفصيلاً عن الإطار المعرفي لحقائق الوحي الإلهي ، فكما أن الاستدلال علي صحة أحاديث البخاري بطريق التجربة المعملية مستحيل ، فإن التعارض بين فرضية الأكوان المتعددة(12) وبين أركان الإيمان أو إثبات وجود الله هو تعارض مستحيل ! ولكي يمكن تقديم القارئ المسلم العربي إلي حقيقة هذه الإشكالية الفكرية الخطيرة نستعرض في هذا المقال مراتب المعرفة العلمية والحدود التي تفصل كل منها عن الأخري ، وذلك سعياً لبيان دور فلسفة العلوم في الإجابة علي هذا السؤال.

يمكن تعريف الحقيقة العلمية(13) مبدئياً بأنها "مشاهدة موضوعية وقابلة للتحقق"(14) وهذا التعريف لأعلي مراتب المعرفة العلمية ينطبق علي قدر ضئيل من مكتسبات العلوم التجريبية ، إذ أن مقتضي ذلك التعريف أن يكون إدراك الحقيقة العلمية راجع لإدراكها كلها أو جزء منها بإحدي الحواس البشرية الخمسة ، أما إذا كان ذلك من غير الممكن ، وكان من المتاح مشاهدة أحد آثار الظاهرة محل الدراسة فقط فيظل ناتج المشاهدة مندرجاً تحت مرتبة "الحقيقة العلمية" إلا أن هناك بعض الإشكاليات التي سنتعرض لها فيما بعد تختص بهذا النوع من الحقائق العلمية. إذن عندما يشاهد المرء كوباً من الماء تحت الميكرسكوب الضوئي فيري بعض الكائنات الدقيقة ، فإن وجود هذه الكائنات في ذلك الماء يعد من باب الحقائق العلمية ، وعندما يشاهد المرء من فوق جبل مرتفع دائرة الأفق فيستنتج أن الأرض كروية لأن الأفق الذي هو مقطع من الأرض دائري ، تكون هذه حقيقة علمية ، وعندما يعجز الإنسان عن مشاهدة الفوتون(15) لكنه يشاهد تردده الموجي - الذي يمثل أحد آثاره- علي شاشة أحد الأجهزة المعدة لذلك الغرض فإن وجود الفوتونات يعد حقيقة علمية.

هذا عن الحقائق ، ماذا عن النظريات والافتراضات العلمية ؟ إن النظريات والافتراضات العلمية هي أطروحات تسعي لتفسير وجود الحقائق العلمية وتفاعلها مع بعضها البعض ، فالنظريات والافتراضات ليست في ذاتها إخباراً عن "الحقيقة" بل هي مجرد محاولة لتفسير حقيقة علمية من وجهة نظر صاحب النظرية أو واضع الفرضية. من هنا يتضح لنا البون المعرفي الشاسع بين الحقائق العلمية والنظريات والافتراضات ، ففي حقيقة الأمر لا يفترض أبداً بالحقائق العلمية أن تتغير أو تتبدل ، بينما يفترض بالنظريات والافتراضات أن تتغير وتتبدل بشكل مستمر ذلك لأنها تعكس جهود ورؤي العلماء والباحثين لتفسير الظواهر الكونية التي يتم اكتشافها بمعايير الاستدلال علي الحقائق العلمية ، كذلك فمن الفروق الأساسية بين الحقائق والنظريات أو الفرضيات العلمية هو قابلية التحقق(16)، فالحقائق العلمية تتوافر فيها قابلية التحقق بشكل جازم ونهائي ، بينما تسعي النظريات والفرضيات دائماً لتوفير نوع من قابلية التحقق يزيد من نسبة التأكد المتعلقة بكل نظرية أو فرضية علمية ، فقابلية التأكد للنظريات والفرضيات لا ترتقي أبداً لقابلية التأكد للحقائق العلمية.

المشكلة التي تطرحها معايير الاستدلال علي الحقائق العلمية أن تلك المعايير قادرة فقط علي الاستدلال علي حقائق "غير مهمة" بينما كل الحقائق المهمة لا يمكن الاستدلال عليها بتلك المعايير ، فيضطر العلماء إلي إخضاعها إلي معايير أقل من حيث الحجية المعرفية وهي معايير النظريات والفرضيات. يقول الفيلسوف الأمريكي البورفيسور فْرِيد بيرثولد : "إن الحقائق المهمة غير معروفة ، والحقائق المعروفة غير مهمة !"(17) ، فما هي معايير صياغة النظريات والفرضيات العلمية التي تجعل منها أقل بكثير من حيث الحجية المعرفية مقارنةً بالحقائق العلمية ؟

عندما تتعذر المشاهدات والتجارب المباشرة التي تستطيع أن تفسر ظاهرة ما ، فإنه يجوز أن يتم تفسير تلك الظاهرة بناءاً علي أساس مشاهدات وتجارب لا ترتبط بالظاهرة إلا من خلال قرينة جائزة ، بشرط أن يكون ذلك الارتباط خاضعاً لعدة مبادئ أهمها الخطئية(18) وقابلية التحقق ، وأن تصف النظريةُ الظاهرةَ بدقة كافية وأن تكون قادرة علي التنبؤ بتلك الظاهرة في المستقبل مع تغير عوامل حدوثها. هذا هو الإطار المعرفي للنظرية العلمية ، ولنضرب علي ذلك مثالاً واضحاً. عند دراسة ظاهرة التجاذب بين الأجرام السماوية المختلفة ، عجز نيوتن عن مشاهدة أو قياس قوي التجاذب بين الأجرام السماوية لكي يصيغ نظرية تصف تلك الظاهرة ، لكنه تمكن من مشاهدة مهمة علي الرغم أنها لا ترتبط بالظاهرة التي يدرسها ، هذه المشاهدة هي : حركة الأجرام السماوية ، فمن خلال "قرينة جائزة" هي افتراضه أن تلك الحركة مرتبطة بشكل أساسي بقوي التجاذب ، تمكن من صياغة قوانين الحركة التي تحدد علاقة الجاذبية بين الأجرام السماوية بناءاً علي كتلتها والمسافات بينها ، وكان ارتباط القرينة الجائزة -الافتراض الرياضي- بالظاهرة الغير مباشرة -حركة الأجرام- خاضعاً لإمكانية التحقق سواءاً في المعمل بإجراء تجارب مصغرة ، أو بدراسة حركة الأجرام السماوية المختلفة ، وكان كذلك بطبيعة الحال خاضعاً لبمدأ الخطئية الذي نؤجل شرحه إلي مقال آخر. ظلت نظرية نيوتن عن حركة الأجرام السماوية وسرعة الضوء ثابتة حتي بداية القرن العشرين عندما سقطت - أو بتعبير أكثر دقة سقطت حتميتها- مع انتصار النظرية النسبية لأينشتين.

ماذا عن الفرضيات العلمية ؟! إن الفرضيات العلمية هي الأقل مرتبة من حيث الحجية المعرفية بين أطروحات العلم التجريبي ، فالفرضيات هي ضرب من النظريات الذي لم تتوافر فيه المعايير الكاملة للنظرية ، فالفرضية ربما شابتها شوائب من حيث قدرتها علي التنبؤ بالظواهر في المستقبل ، أو يكون من غير الممكن إخضاعها لقابلية التحقق التجريبي ، أو ربما كان هناك ما يشوب القرينة الجائزة التي بنيت عليها تلك الفرضية. المثال علي ذلك فرضية الأكوان المتعددة التي تنص علي أن الوجود الذي نشاهده ونعيه ونصفه بالكون هو مجرد مجموعة عشوائية من التركيبات الطبيعية ضمن عدد لانهائي من المجموعات العشوائية المماثلة التي يُكوّن كل منها كوناً موازياً لكوننا ، فبالرغم من وجود قرينة جائزة قائمة علي إثباتات رياضية معقدة تؤيد هذه الفرضية إلا أنها تفتقر إلي ظواهر ومشاهدات تربط تلك القرينة الجائزة بظاهرة التدقيق المتناهي(19) التي تسعي فرضية الأكوان المتعددة إلي تفسيرها في الأساس ، وبالتالي فالفرضية غير قابلة للتحقق أيضاً ، يما يجعلها دون مستوي الاعتبار كنظرية علمية.

إذن يمكننا القول أن الإجابة علي السؤال الثالث من الأسئلة الكبري لفلسفة العلوم يرسم حدوداً واضحة وفاصلة -من حيث الحجية المعرفية- بين الحقائق العلمية التي هي أعلي مراتب المعارف العلمية ، وبين النظريات والفرضيات العلمية التي هي محض أطروحات تسعي لوصف وتفسير الحقائق العلمية التي نطلق عليها اصطلاحاً : الظواهر الطبيعية. إن هذه الحدود الفاصلة بين مراتب المعارف العلمية ، ومعايير الحكم علي النظريات والفرضيات قد خضعت لجدل فلسفي كبير خلال القرن الماضي ، لاسيما مع أطروحات ميكانيكا الكم والفيزياء الحديثة ومنجزاتها في الكونيات والذرة ، ونتج عن هذا الجدل العديد من الأطروحات التي شكلت ولاتزال تحديات كبيرة أمام الفكر الإسلامي ، لاسيما مع السعي الغربي الدؤوب لنشر هذه الأطروحات من خلال الإعلام الفضائي والدراما بأنواعها المختلفة فضلاً عن برامج العلوم الشعبية المتعددة. في المقالات القادمة بإذن الله نسعي لدراسة أهم هذه الأطروحات بشكل أكثر تفصيلاً بما نرجو أن يضيف قيمة علمية وفلسفية تعين الفكر الإسلامي علي تجاوز محنته العالمية المعاصرة.

منقول
http://nama-center.com/ActivitieDatials.aspx?ID=112

الهوامش

1. Priori

2. Empiricism

3. Logical positivism

4. Critical rationalism

5. Causality

6. Popular science

7. http://natgeotv.com.au/tv/naked-science/episode.aspx?id=632

8. Worm holes

9. Space-time

10. http://www.telegraph.co.uk/science/science-news/8607582/Elixir-of-life-discovered-on-Easter-Island.html

11. http://video.nationalgeographic.com/video/national-geographic-channel/shows/naked-science/ngc-do-parallel-universes-exist/

12. Multiverse hypothesis

13. Scientific facts

14. Peter Kosso (2011) A Summary of Scientific Method, Springer Verlag

15. Photon

16. Verification

17. Vaḥīduddīn K̲h̲ān̲ (2003) God Arises, International Islamic Publishing House, Riyadh, KSA

18. Falsfiability

19. Fine Tuning

الواضحة
04-07-2013, 11:09 AM
شكر الله لكم وبارك فيكم

كميل
04-08-2013, 12:08 AM
نور الدين موضوع حلو ومهم ساعود لقرائته لاحقا --تقبل تحياتي