المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عباد الرّحمن ..



قرآن الفجر
04-13-2006, 09:08 PM
وَعِبَادُ الرَّحْمنِ:

الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرضِ هَوْناً * وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً *وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَا لَّذِينَ يَقُـولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً * وَا لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً * وَا لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّـاً وَعُمْيَاناً * وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُولئِكَ يُجْزَوْنَ ا لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً *(الفرقان/63 ـ 77 )

مَنْ هُم عبادُ الرّحمن؟

القرآن عندما يتحدّث عن حقيقة ، والوحي عندما يستعرض فكرة، يحاول أن يرسم للقارئ صورة ، ويجسِّد له مشهداً ، ويضع بين يديه وضوحاً وبياناً باُسلوب خَصِب ، وعرض مؤثِّر ، وتقصٍّ متقن وبعبارة وجيزة ، وطريقة رائعة تملأ المشهد حيويّة ، وتفيض على أبعاد الموقف جلالاً وروعةً ، إلى درجة يحسّ معها المتـلقِّي بالإندماج مع الفكرة ، ويستشعر المتعامِل معها بالاتحاد والتفاعل مع الصورة ، فتعيش أفكاره مع القرآن ، ويمتد وعيه مع آفاق الوحي ، دون أن يشعر بالانفصام ، أو يحسّ بالفجوة والبُعْد بين الصورة والحقيقة الّتي يتعامل معها .

والقرآن في مقطوعته الوصفية الرائعة لعباد الرّحمن ، قد عالج الموقف بهذه الطريقة ، وعرض المشهد على هذه الشاكلة ، فهو عندما تحدّث عن عباد الرّحمن ، عرضهم نموذجاً حركيّاً للانسان ، تُجلِّلهم صِفَة العُبّاد وتميِّزهم صِبْغَة الإيمان .

وقد أحاطهم بالعناية والنسبة إلى الرّحمن ، فهم عباد مُصْطَفون من خليط البشرية ، ومختارون من بين الجموع للانتماء إلى هذا المجد العظيم (عباد الرّحمن) ، وللانضواء تحت لواء هذا الشرف الرفيع (صفة الرّحمة) .

ولذا تحدّث عنهم وهم يظهرون بخطِّ ريشـته ، صفوة متمـيِّزة عن غيرها في حركة الحياة الزاخرة بالصراع والمتناقضات ، والمليئة بمختلف الاتجاهات والعبوديات، والموسومة بشتّى مياسم الانتساب والانتماءات.

وهو عندما تحدّث عن اُولئك اختار لهم انتماءً عَزّ مَنْ يحظى به ، ونسبة قلّ مَنْ يتسامى إلى الانضـواء تحت لوائها وهي (العبـوديّة للرّحمن) .

والمتأمِّل في القرآن يعرف أنّ القرآن لم يستعمل ألفاظه جزافاً ، ولم يطرحها حشواً ، بل لكلِّ اختيار من الألفاظ عنده غاية ، ولكل كلمة في عرفه معنىً ، ولكلّ اُسلوب في عرضه هدف .

والقرآن عندما نسب هذه الصفوة إلى اسم معيّن من أسماء الله (الرّحمن) ، إنّما قصد العلاقة المناسبة بين الرّحمن وبين المنتسبين إليه ، فحقّ أن يسحب هذا الوصف عليهم ، ويغدق هذا الشرف على انتمائهم ، لذا فهو لم يصفهم بعباد الجبّار ، ولم يطلق عليهم اسم عباد القاهر ، ولم ينسبهم إلى باقي الأسماء المقدّسة ، بل جاء اختياره لهذه النسبة ، وتحديده لهذا الانتماء بقصد تشخيص الرابطة الّتي تكمن بين التسمية والانتساب .

والمتعامل مع ألفاظ القرآن يدرك أنّ القرآن عندما ينسب إلى اسم من أسماء الله ، أو عندما يعقِّب بذكر صفة من صفاته المقدّسة ، انّما يستعمل ذلك اللّفظ ـ الصفة أو الإسم ـ ليفسِّر به العلاقة بين الخلق وخالقه ، ويوضِّح الرابطة بين الصفات المقدّسة في موضع الورود وبين متعلّقاتها .

فأسماء الله تعالى هي وسائط بين الله وخلقه ، وارتباط الوجود بهذه الأسماء والصفات ليس ارتباطاً تصوّرياً مجرّداً ، وتعبير القرآن عن هذه الحقيقة ليس صياغة أدبيّة لِتحسـين الاُسـلوب ، أو وسيلة لِعَـرْض الفكرة ، مجرّدة عن علاقة حقّة بين الصفة والموصوف بها ، بل يستهدف القرآن في كلّ ذلك تشخيص الحقيقة والتعبير عن العلاقة .

فهو يقصد من ضمّ هذه الصفوة تحت صفة الرّحمة ، ونسبتها إلى هذه الصفة الإيحاء لها بالأمن والسلام ، وتأكيد وقايتها من طائلة الغضب والجبروت الّتي يتعامل بها الله سبحانه مع العُصاة والمجرمين .

وهم ما استحقّوا هذا الإنضواء إلاّ بعد أن أشرقت في نفوسهم أنوار الرّحمة ، وامتدّت في آفاقهم ظلال الهدى ، فصاروا عباداً رحمانيين ، متجاوبين مع هذه الصفة ، يتعاملون مع الخلق باُسلوب الرّحمة ، وينسابون على الأرضِ بِخُطى الودِّ والسّلام .

عرفوا أنفسهم ، وأدركوا خالقهم ، فخلعوا له رِداءَ الكبرياء ، وتواضعوا بين يديه بهوان وتصاغر ، فلا عالَم الأشياء المتلاطم ـ بصوره وأحداثه ـ يملأ قلوبهم ، ولا ضجيج الحياة وزُخرف الدُّنيا يزرع الكبرياء في نفوسهم .

كيف وقد انفتحت آفاقهم على ذلك العالم القدسي !! فأطلّت عليه أرواحهم ، حتّى صاروا هم والدُّنيا كزائر مودِّع ، وهم والآخرة كقاصد يرجو الوصول .

مشي عباد الرّحمن

فاستحقوا أن يصفهم الرّحمنُ ثانياً عليهم (بعباد الرّحمن) فيقول فيهم :

(وَعِبَادُ الرَّحْمـنِ ا لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ا لاَْرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ) .

وبذا استحقّوا أن يعرضهم قدوة رائدة في طريق الحياة ، متّصفين بأخلاق الرّحمن ، يعفون ويصفحون ، فيشيعون في ربوع الأرض السلام.

فهذه الرّوح الّتي تسامحت نحو خُلق الله ووسعت كلمة الرّحمن ، لا تضيق بالتجاوز عن الجاهل ولا ترضى بالنزول إلى مستواه .

وعباد الرّحمن حينما يعفون ويصفحون ، وحينما يطلقون بوجه الجاهل كلمة السلام ، إنّما يفعلون ذلك رجاء أن تزرع الكلمة في نفس هذا البائس موقف الهُدى ، أو تحرِّك في نفسه إحساس الخير ، عَلّهُ يستضيء بنور الكلمة ، أو يستوحي قيم الروح النبيلة ; فليس لدى العالِم أفضل من الصّفح والسّلام وهو يتعرّض لخطاب الجاهل وحواره .

وعباد الرّحمن هم اُولئك الّذين وعوا حقيقة الوجود ، واستشفّوا أبعاد الحياة ، وعرفوا صفة الرّحمن ، فاستهاموا بحبِّه وقُربه ، واختاروا اللّيل بصمته وسكونه المعبِّر ، ليكون موعداً للقاء وملتقى للمناجاة .

مبيت عباد الرّحمن

أمّا النوم فقد غرقت أطيافه في بحر هذا الحبّ السرمدي ، فلم تعد ترسو على مرفأ الأجفان ، فباتوا في محراب الحبّ سجّداً وقياماً :

(وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ) .

يستمتعون بلذيذ المناجاة ، ويتذوقون طعم القرب الّذي حُرِمَ منه المحجوبون عن عالم القدس ، المغلّفون بدِثار العوالم الكثيف ، الّذي كدّر صفو الروح فيهم ، وشوّه جمال السعادة عندهم ، فعاشوا متاهات البُعْد عن الحقيقة الّتي يسعى الوجود نحوها ، وقاسوا آلام المعاناة في البحث عبثاً عن غيرها .

إنّها الحقيقة الكبرى الّتي يبحث الانسان عنها .

إنّها سرّ السعادة الفطري الّذي انطوى عليه ضميره .

إنّها الغاية الكبرى الّتي يبحث عنها ، كلّما أطلّ على حقيقة وهو يهيم في عوالم البُعْد والتيه النائية .

إنّه الحقّ الّذي أفاض على العوالم حرارة الشوق إليه ، وزرع في أعماقها بذرة الاتّجـاه نحـوه ، فكلّ معبود ـ سواه ـ منحه الآخرون وجهتهم ، أو اتّجهوا إليه بحبِّهم فهو صنم متحجِّر في هياكل الفناء .

وعباد الرّحمن هم اُولئك العباد العارفون الّذين تفحّصوا العالَم فلم يروا فيه الحقيقة والغاية ، بل بدا لهم كتاباً مفتوحاً يتحدّث عن عالَم الحقيقة ، ورسالة صامتة تنطوي صفحاتها على كلّ رمز معبِّر وحرف مُوح بأنوار ذاك العالَم المحجوب ..

ذلك العالَم الّذي يفيض على النفوس سعادة القُرْب والحضـور ، فيتجلّى لكل روح تشرق فيها أنوار ذاك الجمال القدسي ، الّذي يوحي به كتاب الوجود بصمته الناطق ، ويتحدّث عنه بنطقه الصامت ، الّذي ألفوه لغةً وحواراً .

فكلّ ظاهرة في عالمهم الصامت هي كلمة في كتاب الكون الكبير ، تنطق بلسان الحقيقة ، وتشرح للقارِئ العارِف فكرة ، أو تحمل لعقله المتأمِّل معنى .

وهم حينما يتأمّلون في كل حرف على صفحات هذا السفر العظيم ، إنّما يبحثون عن عالِم خطَّ سطور هذا الكتاب ، ومُبْدِع صاغَ عبارات هذه الرِّسالة ، فليس ما فيه من سطور ورموز هو الّذي يشغل بالهم ، أو يستهوي نفوسهم ، أو يستوقف مسيرتهم ، بل هم عشّاق يبحثون عن يد خطّت رسالة هذا الكتاب العظيم ، وهم روح توّاق يستشف أبعاد هذا الهيكل المنتصب حجاباً .

فجمال العالَم وجلاله عندهم محراب عبادة ، وليس معبوداً يؤلِّهونه ، كما يفعل غيرهم من السذّج المخدوعين ، فهم كلّما اكتشفوا من عوالمه رمزاً ، أو صادفوا في تآلفه جمالاً ، ازدادوا من عوالم النور قرباً ، وامتلأوا لجمال ذاك الوجود شوقاً .

اُولئك عباد يبيتون لربِّهم سجّداً وقياماً ، إنّهم يعيشون تجربة الحبّ الإلهي الفريدة في عالم الانسان ، فهم قد اختاروا العيش بأرواحهم مع الطائفين في مسارب النور حول عالَم القدس ، فساروا في مسالك الشوق نحو عالم القرب ، ليردّدوا وهم في عالَم البُعْد زجل الملائكة القدِّيسـين اُنشودة الوصل والتقديس :

سبّوح قدّوس .

سبحان ربّنا الأعلى .

لم يكن له كفواً أحدٌ .

لَهُ الحمدُ .

إهدنا الصراط المستقيم .

صِل بيننا وبينك بطريق يؤدِّي إليك ، فلا نُخطئ المسير ، فتضلّ الرحلة ، وتتيه السفينة ، وينقطع الوصل .

نحن سائرون إليك في رحلة الروح ، على بحار النور ، نستهدي بومضات الإشراق الوافدة على قلوب السائرين إليك في مسيرة الشوق والبحث البعيدة .

إنّا نخاف ضياعَ السفينة وتيهَ الرَّبّان ، وتلاطمَ أمواج الخطر ، ونخشى مـعاناةَ الضّلال ، ونيرانَ البُعْد فنظلّ نبحث دونما جدوى عن شاطئ السّلام ، في بحار التَيهِ والعذاب :

(وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ) .

إنفاق عباد الرّحمن

اُولئك عباد الرّحمن :

(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .

وعباد الرّحمنِ الّذين وعوا معنى الوجود ، وعرفوا قيمة الأشياء في هذا العالَم ، لم يكن دأبهم التعامل معها إلاّ بصيغتها الكونيّة المحسوبة ، اتساقاً مع قانون الطبيعة وانسجاماً مع نظام السلام في الحياة ، فكلّ شيء عندهم بمقدار ، وكل شيء ـ بمفهومهم ـ له في الوجود موضع وغاية ، فهم إذا ما تعاملوا مع ما في الحياة من خيرات وثروات ونعم وموجودات ، لم يتعاملوا معها إلاّ وفق هذا المفهوم والتقويم الواعي للأشياء ، فكلُّ شيء في عُرفهم يجب أن يحتلّ موقعه ويؤدِّي دوره في عالَم الوجود ، فلا يجوز حبسه أو منعه عن أن يُستعمل في موضعه المحدّد له ; لأ نّهم يعلمون أنّ الشّحّ والبُخْل يمنع النفس من التطابق مع مبادئ الخير في الحياة ، وهم يعلمون أنّ الشّحّ مرض تُصاب به النفوس التافهة الضعيفة الّتي تتصوّر أهميّتها وقيمتها في جمع المال وتكديس الثروة ، فهم يرون الجَشِع اللّئيم هو المغرور ببريق المال والثروة ، وهو المخدوع بحبِّها وجمعها ، ليرضي في نفسه نزعة الإحتواء والخلود في هذا العالَم الزّائل ، فهو يبحث عن الخلود في عالَم الفناء .

وفي عُرْفهم أنّ خيرات الوجود ـ كل خيرات الوجود ـ ليست إلاّ وسيلة لتموين رحلة الحياة العابرة .

فَلِمَ الجمع وهم راحلون ؟

وعلامَ البُخْل والمنع وهم يعتقدون العوض والجزاء ؟

وكيف يبخلون ، والوجود فيض لا ينقطع ، وعطاء لا ينفد ؟

وهؤلاء العباد ، عباد الرّحمن ، عندما اجتازوا عقدة الجشع والإحتواء الذميم ، لم يتخطّوا بهذا الإجتياز حدود الاعتدال والموازنة ليسقطوا في رذيلة الطيش والعبث والإسراف ، فيعبثوا أو يعتدوا على نظام الحياة ، فيضعوا الأشياء في غير مواضعها ، أو يغيِّروا مواقعها الّتي خُصِّصت لها ، أو يمنحوا الاُمور غير استحقاقها ، فدأبهم الاعتدال ، ومذهبهم الاقتصاد ، وأخلاقهم الاتزان والانضباط :

(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .

فمجتمعهم لا يعرف التقتير والإسراف ، ولا تنمو فيه مأساة الفقر إلى جانب بحبوحة الثّراء ، شأن مجتمعهم في ذلك شأن حقائق الوجود الاُخرى ، يملأها الغنى ويسيِّرها الاعتدال والاتزان ، فكل إنسان في مجتمعهم يأخذ حاجته ثمّ يمرّ بسلام ، ليترك لغيره مثلما أخذ لنفسه .

دعوة عباد الرّحمن

واُولئك الرّحمانيّون :

(لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

فهم الموحِّدون الّذين أدركوا حقائق التوحيد فألّهوا وعبدوا الإله الأحد، حتّى صار التوحيـد عندهم مذهـباً ووعـياً ومنهـجاً للحـياة ، وحقيقة كُبرى تملأ ضمائرهم ، وتستوعب عالمهم ، وتستحوذ على وعيهم وإحساسهم ، فوقفوا مذهولين أمامها لا يدركون لغيرها أثراً ، ولا يستهدفون سواها غاية .

رحمانيّة عباد الرّحمن

(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) .

واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام، فانّهم يعيشون على هذه الأرض رسل رحمة ودعاة أمن وبشارة سلام ، يحـترمون الحياة ويقدِّسون حقّها في الوجود ، ويعرفون لها حرمتها ومقامها الآمن المصون .

إنّهم الخيرة الّتي باهى الله بها الملائكة حين احتجّوا على جريمة الانسان الكبرى في ربوع الأرض الآمنة ، جريمة سفك الدماء :

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ا لاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ ا لاَْسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ ا لْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) . ( البقرة / 30 ـ 32 )

إنّ عباد الرّحمن هم ظلّ الرّحمة المشرقة نوراً في ظلمات الأرض ، وهم الدليل الهادي في عالَم ضياع الانسان ، والقلب الكبير الّذي يشيع الأمن والسّلام في ربوع الأرض العبوس .

وإنّهم المُقدِّسون الّذينَ يقدِّسون بارئ الوجود ، فيقدِّسـون إرادته ، ويعظِّمون آثار رحمته في عالَم الانسان .

إنّ الّذين قَدّسوا وعرفوا كيف يتعاملون مع مآثر التقديس، ومواضع القدس ، لا يسـقطون حرمة ولا يعـتدون على حقّ مقدّس ، فالتقديس عندهم ليس ذكراً يردِّده اللِّسان، ولاتراتيلَ يلهج بها القدِّيسون وحسب ، ولا إحساساً يملأ القلب بالرّوعة والجلال فقط .

إنّما التقديس روح تنتظم بها الحياة ; فينعكس ظلّها حقيقة تتجسّد في عالَم الانسان ، فتظهر في كيفية تعامله مع الحـياة ، وفي قدرته على الالتزام والفرز الواعي بين المواقف والموضوعات حين التعامل معها ، ليكون للمقدّس المصون مقام القدسية والصِّيانة في نظام الحياة ، فيكون مُميّزاً عمّا سواه .

ويحترمون الحياة ، فهي جوهر الوجود على هذه الأرض ، وهي نفحة الرّحمن في الانسان ; لذا فهم :

(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) .

لا يسقطون حقّ الحياة المقدّس للانسان ، ولا يقتلون النّفس ، إلاّ إذا كانت هذه النفس جريمة تسعى في جسم الحياة ، وفساداً يعبث في الأرض ، وينشر فيها العدوان والخراب ; فعندئذ تدعوهم قدسيّة الحياة إلى صيانة الحياة ، وحفظ الدم المقدّس ، لتبرئة الأرض من جريمة الفساد الّتي تضجّ منها الخلائق كلّها ، ويغضب لها البارئ الرّحيم ، فيستأصلون الفساد حتّى لا تكون فتنة في الأرض ، ويكون الحق هو الظاهر في حياة الانسان .

فاستئصال الفساد من ربوع الأرض ، في عُرْف عباد الرّحمن ، ليس إلاّ محض التقديس وظهور الحق وخالص الكمال والتنزيه .

فهم لم يوحِّدوا ولم يقدِّسوا ولم يكونوا عباد الرّحمن ، إلاّ إذا احترموا إرادة الله في خلقه ، وقدّسوا آثار أفعاله في عوالمه .

يتبع

احمد المنصور
04-13-2006, 09:34 PM
الأخت الفاضلة قرآن الفجر،

لعله من الواجب والأمانة ذكر المصادر عند النقول!

وعندي سؤال:

ماذا تقصدين بــ (رحمانيّة عباد الرّحمن)؟

وأقصد بالضبط كلمة (الرحمانية)، وليس المعنى العام للكلام!
مثلا ما آتي في السياق:
"واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام، "

أظن - والله أعلم - أنك تقولين قولا ثقيلا!

أرجو التركيز على كلمة "رحمانية"

قرآن الفجر
04-14-2006, 05:53 PM
عفّة عباد الرّحمن

(وَلاَ يَزْنُونَ) :

وعباد الرّحمن الّذين وعوا كل حقيقة في هذا الوجود ، فعرفوا لها حدودها وقيمتها ، يعرفون للغرائز والجنس مكانه المعقول في حياتهم ، ويعرفون الأثر المترتِّب على الفوضى والإنسياق وراء الشهوات والخضوع للنّزوات ، ويعرفون أنّ الإنسياق وراء الشهوة يدمِّر إرادة الانسان ويحطِّم كيان الإنسانية ، ويفقدها وعيها وإرادتها ويقودها على نغم القطيع الّذي يرقص على إيقاع نزواته ، فيعبد شهواته ، ويظل يمارس هذه العبودية ويسخِّر كل طاقاته للشهوة والهوى ، ظنّاً منه أ نّه يطلب الغاية القصوى لدوافع الذات ومحفِّزات التكامل الحضاري في دنياه ، في حين يغتال بوعيه المتردِّي هذا قيمة اللّذّة ، ويذيب الإحساس بالسعادة ، عندما يستعيض بهذا الإفراغ الشهواني الجامح ، عن لذّة الروح وسعادة الأبد .

فجريمة الزِّنا في عُرْف عباد الرّحمن تشكِّل ظاهرة مَرَضيّة تعكس روح الفوضى والإنحلال الحضاري والقيمي عند هذا الانسان الّذي لا يعي قيمة اللّذّة وفلسفة الالتذاذ ، ولا يعرف للإنسانية حُرْمة ، ولا يدرك للأشياء حدوداً .

ومن أجل هذا كان عبادُ الرّحمن أرقى نموذج حضـاري للانسان النظامي المنضبط ، وأفضل صيغة للأخلاقية الرفيعة الّتي تقود الغرائز ، وتوجِّه نشاط الانسانية الوجهة الفطرية السليمة ، لتوظِّف كلّ طاقة ونزعة إنسانية في مواقعها الطبيعية المُعدّة لها في أصل التكوين .

إنّهم عباد الرّحمن الّذين يعبدون خالقهم بالتوافق مع إرادته الظاهرة حقيقة في عالَم الوجود ، فيدركون أنّ العالَم لا بدّ له من قوّة قائدة تستطيع أن تتطابق مع إرادة الحق والخير والجمال ، فيه فاكتشـفوا أنّ العقل هو القائد الّذي يجب أن يهيمن على إرادة الغرائز ، وأنّ العالَم الّذي تقوده الغرائز هو عالَم حيواني ينساق نحو العمى والفوضى والاضطراب.

توبة عباد الرّحمن

(إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ) .

وبعد هذا الحديث المفاض من القرآن بوصف عباد الرّحمن ، لم يشأ ليبتعد بالانسان عن الطبيعة والموضوعية .

فالانسان بطبيعته يمكن أن يجنح للخطيئة ، ويسقط تحت المؤثّرات والحوافز المردية ، ومع هذا فهو يستطيع أن يلتحق بركب عباد الرّحمن ، بالعودة إلى الله والإصغاء إلى كلمة الرّحمن ، وإعلان التوبة الصادقة الّتي ينفصل فيها الانسان الجديد عن ماضيه الحالك الملوّث ، ليحدث الانقلاب الفاعل ، والارتداد عن مسيرة الضّياع والضّلال الّتي انساق فيها ، وليكون متفتِّح الآفاق متّجه النفس لاستقبال الهدى واستلهام كلمة الرّحمن .

إنّه التائب الّذي استفاق ضميره ، والمتغيِّر الّذي استيقظ حسّه ، فاستوعب صورة جديدة للحياة ، واستلهم رؤية جميلة للعالَم .

شهادة عباد الرّحمن

(وَا لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) .

وعباد الرّحمن الّذين لا ينظرون إلى هذا العالَم إلاّ من خلال علاقتهم بربِّهم ، وإلاّ عبر عبوديتهم له .

هؤلاء لم يروا إلاّ الحقيقة الوجودية الكُبرى لساناً ينطق بآلاء الرّحمن ، وصورة تعبِّر عن فيوضات عالم الحق والأزل .

فأيّ إمكان للتزييف في هذا العالم ؟

وأي إمكان للاحتيال والتزوير ؟

إنّ من يحـاول ذلك ، ما هو إلاّ مخادع يمنِّي نفسه بالاحتـيال على حقيقة هذا العالَم ، وجاهل يستهدف مسخ صورة الوجود .

وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يشهد عباد الرّحمن شهادة الزّور ؟

وكيف يمنعون ذا حقّ حقّه ؟

وكلّ حقيقة هي حقّ منذ خرجت من يد بارئها ، يشهد بها عالَم الأزل ، ويحتفظ بها سجل الوجود ، فكيف يصح إذن مغالبة الحقيقة ؟

ولِمَ شهادة الزّور ؟

وما زال عباد الرّحمن هم الحقيقة الانسانية الّتي تطابقت مع هذا الوجود ، ورفضت أن تزيِّف حقيقة الوقائع والأشياء .

إذن لا بدّ لهذه الشخصيات الانسانية من أن تصوغ مواقفها وفق منطق سلوكي موحّد .

ولذا كان لهم موقف الاسـتعلاء والرّفض للّغو والثرثرة أيضاً ، كما رفضوا الزّور والتزييف ، تلك الظاهرة الّتي يعيشها الانسان الفارغ العابث الّذي لا يفهم قيمة الوجود ، ولا يعرف موقع الكلمة ، ولا يدرك أهميّة الفكرة .

فاطلاق الكلمة بلا حساب وحكمة صفة الانسان الّذي يقذف ما في نفسه من عقد وترسّبات مرضية بالكلمة التائهة العابثة .

لذا فانّ عباد الرّحمن لا يجدون في هذه الفئة من الناس إلاّ مجموعة من الثراثرة والفاشلين ، الّذين يصوغون فشلهم وضياعهم عبارات لا ظل لها في الواقع ، ولا حقيقة لها في عالَم الوجود .

ولا يمكن لعـباد الرّحمن أن يصغوا لهذا اللّغو العابث ، فانّ لهم عن ذلك شغلاً ، وهم المترفِّعون عن الهبوط والتدنِّي إلى هذا الحضيض الّذي كرّموا أنفسهم عنه .

إنّهم اُناس يحترمون الكلمة ، ويعرفون لها قيمتها وأثرها في واقع الحياة ، فلا يصنعونها إلاّ هيكلاً لمعنى مقصود عندهم ، يدل على حقيقة قائمة في هذا الوجود ، لتعبِّر عن غاية مستهدفة للناطقين بها .

إنّها الصيغة الثانية لعالَم الحقائق ، الّذي يسير مع عالَم الكلمة جنباً إلى جنب ، ويوازيه خطوة بخطوة .

فعلامَ إذن يشغلون أنفسهم بالجدل والمراء ؟

ولِمَ يخدعونها بالمغالطة والخداع ؟

إنّهم يؤمنون أنّ عالَم الكلمة هو عالَم العقل الّذي يوازي عالَم الحقيقة ويعبِّر عنه ، لذا فهم لا يتعاملون مع ذلك العالَم إلاّ بحـدود ما يناسـب دوره في الحياة ، ولذا فهم :

(وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) .

حركيّة عباد الرّحمن

(وَا لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّـاً وَعُمْيَاناً ) .

وعباد الرّحمن الّذين عاش الإيمان في نفوسهم أملاً وحقيقةً ، وتجسّد في حياتهم سلوكاً ووقائع ، لم يستقبلوا هذا الإيمان استقبال الجاهل المتحجِّر والتابع المقلِّد ; الّذي يبني إيمانه على التلقين ، ويتعامل مع الأفكار وهو غائب الوعي ، ذاهل الإحساس ، يأخذ من الأفواه ليقلِّد في فهمه ومواقفه من يوحون إليه ، ودونما وعي أو تأمّل .

إنّ عباد الرّحمن يرفضون التحجّر والجمود ، ولا يرضون أن يعيشوا غائبي الوعي مشلولي الإدراك ، بل يريدون أن يتعاملوا مع الأفكار ويستقبلوا الحقائق ويتناولوا الاُمور بوعي وفهم عميق ، يستبطن حقائق الأشياء ويدرك أغوار الظواهر .

إنّ الواحد من عباد الرّحمن هو إنسان الوعي والحسّ والشعور اليقظ المتبصِّر .

لذا فهو يتعامل مع حقائق هذا العالَم وظواهره تعامل المستبطن للاُمور المتفحِّص للأشياء ، المُدرِك لمداليلها وعطاءاتها ، العارِف بكل فكرة وقيمة فيها .

فهو لا يرى في هذا العالَم الصّامت إلاّ لساناً ينطقُ بعظمة خالقه ، وإلاّ وثيقة تشهد لبارئها بالجلال والتقديس ، وإلاّ صورة فنيّة تنطق بالروعة والجمال ، فتحكي عظمة الإبداع وتعرض قدرة الخالق العظيم .

إنّهم يعرفون عالمهم، ويدركون ماذا تعني كلمة الله على لسان رسله ، ويبصرون مظاهر الإبداع في جمال خلقه ، وآثار تجلِّياته ، لأ نّهم أصغوا إلى كلمة الله واسـتجابوا لنداء الرّسل ، فعرفوا أ نّها صيغة الرّحمة الّتي تعبِّر عن جوهر الحياة ، ودليل المسار الّذي يشيع في ربوع الدُّنيا الخير والسّلام ، وأ نّها الصوت الّذي يقودهم إلى نعيم الفردوس ، ويوصلهم إلى قرب الرّحمن في عالَم الأبد :

(وَا لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) .

إمامة عباد الرّحمن

(وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) .

وعباد الرّحمن ليسوا سلباً يعيش في قوقعة الحياة ، ولا كمّاً مهملاً يسقط نفسه من الحساب ، إنّهم يملأون الحياة حركةً وطموحاً وإبداعاً ، يمتدّون بنشاطهم امتداد الحياة ، وعلى مدى أبعادها الّتي أراد لها خالقها أن تمتد إليها .

فالحياة عندهم هي الحركة والصراع ، وهي التجدّد والفناء ، وهي التغيير والتبديل .

لذا كان دعاؤهم هو اتّجاه إلى الله بطلب العون على مُتَع هذه الحياة للتعامل مع كل مظاهر النشاط فيها ، والاستمتاع بطيباتها ، والاستمرار في الوجود على هذه الأرض ، بأجيال خيِّرة تحمل روحاً رحمانيةً ، تُسَرُّ بها نفوسهم ، وتستريح بعطائها قلوبهم .

إنّهم يريدون أن يكونوا وأزواجهم سبباً لميلاد أجيال الانسان الّذي يُسبِّح بحمد ربِّه ويقدِّس له ، وينشر في ربوع الأرض السّلام .

إنّه دعاء الخير الّذي لا يترشّح إلاّ عن نفس امتلأت من فيوضات الخير ، واتّجهت بكل أبعادها نحوه .

وعباد الرّحمن يتوالى دعاؤهم ، ويتنامى طموح الخير في نفوسهم ، فيتّجهون نحو قيادة البشرية ، ويتطلّعون إلى الإسراء بركبِها نحو شاطئ النور ومرفأ النجاة :

(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) .

إنّهم حريصون على هذه البشرية ـ بدافع من تلك الروح الرحمانية الّتي نمت بين جوانبهم ـ من أن يقودها طاغوت جائر ، أو يتسلّط عليها مضلّ ينشر في الأرض الفساد ، فتتيه سفينة الانسان ، وتغيب عن رؤاه معالم السّير، فيدلج في متاهات الضّياع، أو تحطِّم سفينته عواصفُ الضّلال ثمّ تغيب إلى الأبد في ظلمات الجحيم .

جزاء عباد الرّحمن

(أُولئِكَ يُجْزَوْنَ ا لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً ) .

وما جزاء اُولئك وهم يتعاملون مع ربّ العدل والرّحمة ، إلاّ النعيم والسّلام. انّهم كانوا يصنعون على الأرض صورة عيشهم في عالَم الآخرة عبر مسيرة الزّمن الفاني، وها هم يلتقون بها جزاءً لهم وتكريماً لمساعيهم:

(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ) . ( الأنعام / 132 )

ها هم عباد الرّحمـن ، فهل آن لغيرهم أن يعي معنى العبودية للرّحمن ؟ وأن يُدرِك النّعيم الّذي يعيشه وينشره عباد الرّحمن على هذه الأرض ؟

وهل له أن يتصوّر عالَم السّلام ؟ فيصغي إلى تحيّة النعيم والسّلام ؟ أما آنَ له أن يستمع إلى كلمة الله يردِّدها الرّسل والدّعاة ، فينضمّ إلى كوكبة الرّحمن ، ويلتحق بركب السائرين إليه في مسارب الحبّ ، تحت ظلال السّلام ، إلى شاطئ النور ؟


« والحمد لله ربّ العالمين »


و«مؤسّسة البلاغ» إذ تهدي بحث «عبادُ الرّحمن» لَتَبتهل إليه ـ عزّ وجلّ ـ أن يلطف بنا جميعاً ، فيجعلنا من عداد عباده الّذين اجتباهم لدعوته وارتضاهم لحمل رسالته ، مخلصين له الدِّين لا نكلّ ولا نملّ عن حمل راية الإسلام، وخدمة عباده الصّالحين، والحمد لله ربّ العالمين .


"مؤسّسة البلاغ"

قرآن الفجر
04-14-2006, 06:36 PM
الأخت الفاضلة قرآن الفجر،
لعله من الواجب والأمانة ذكر المصادر عند النقول!
وعندي سؤال:
ماذا تقصدين بــ (رحمانيّة عباد الرّحمن)؟
وأقصد بالضبط كلمة (الرحمانية)، وليس المعنى العام للكلام!
مثلا ما آتي في السياق:
"واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام، "
أظن - والله أعلم - أنك تقولين قولا ثقيلا!
أرجو التركيز على كلمة "رحمانية"
أصـل الكلمـة :

إنّ كلمتي "الرحمن" و "الرحيم" مشتقّتان من "الرحمة" وهي المصدر. فمادّة الكلمة هي "ر ح م" وفعلها "رحم". واسم الفاعل فيها هو "الراحم" و"الرحمن" و"الرحيم".

فلفظة "الرحمن" التي أصلها "الرحمان" مبنيّة على وزن "فَعْلاَن". وهذا الوزن ، أي زيادة ألف مدّ ونون في آخر مادّة كلمة ثلاثيّة يدلّ على الكثرة والتأكيد والمبالغة.

أمّا لفظة "رحيـم" فهي مبنيّة على وزن "فعيل" ، وهذا الوزن ، أي زيادة ياء المدّ بين الحرف الثاني (ح) والثالث (م) من المادة يدلّ على التمييز والمبالغة أي أنّ صاحبه يتميّز بتلك الصفة لدرجة أنّها أصبحت غالبة عليه ومثل ذلك الحكيم والعليم والسميع والحفيظ.
أي: الله هو "الرحمن" بكلّ العباد فإنّه "رحيم" بالمؤمنين فقط.

(الرحمن) اسم مشتق من الفعل (رحم)، والرحمة في اللغة هي الرقة والتعطف والشفقة، وتراحم القوم أي رحم بعضهم بعضا والرحم القرابة.

الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، مختص بالله تعالى لا يجوز أن يسمى به غيره، فقد قال عز وجل: (قل ادعو الله أو أدعو الرحمن) معادلا بذلك اسمه الرحمن بلفظ الجلالة الذي لا يشاركه فيه أحد، ورحمن على وزن فعلان وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة والزيادة في الصفة.


الرحمن الرحيم: الرحمن الرحيم إسمان مشتقان من الرحمة ، والرحمة فى الأصل رقة فى القلب تستلزم التفضل والإحسان ، وهذا جائز فى حق العباد ، ولكنه محال فى حق الله سبحانه وتعالى، والرحمة تستدعى مرحوما .. ولا مرحوم إلا محتاج ، والرحمة منطوية على معنين الرقة .. والإحسان ، فركز تعالى فى طباع الناس الرقة وتفرد بالإحسان . ولا يطلق الرحمن إلا على الله تعالى ، إذ هو الذى وسع كل شىء رحمة ، والرحيم تستعمل فى غيره وهو الذى كثرت رحمته ، وقيل أن الله رحمن الدنيا ورحيم الآخرة ، وذلك أن إحسانه فى الدنيا يعم المؤمنين والكافرين ، ومن الآخرة يختص بالمؤمنين ، اسم الرحمن أخص من اسم الرحيم ، فالرحمن هو العطوف على عباده بالإيجاد أولا .. وبالهداية الى الإيمان وأسباب السعادة ثانيا .. والإسعاد فى الآخرة ثالثا ، والإنعام بالنظر الى وجهه الكريم رابعا .

نأتي الآن لسؤالك عن الرحمانية

الرحمانية تعني العموم ... أي رحمة تعم الجميع ... بمعنى إذا فهم الإنسان معنى الرحمة ورحم نفسه بالابتعاد عن المعاصي والذنوب والظلم سيجعله ذلك يرحم غيره لأن من يرحم نفسه يرحم غيره
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " رواه البخاري
وليس المقصود الطريقة الرحمانية الصوفية!!!

رابط يوضح معنى الرحمن والرحيم
http://www.islamiyyat.com/holy%20names2.htm (http://www.islamiyyat.com/holy%20names2.htm)_

احمد المنصور
04-14-2006, 07:55 PM
الرحمن اسم من أسماء الله الحسنى، مختص بالله تعالى لا يجوز أن يسمى به غيره، فقد قال عز وجل: (قل ادعو الله أو أدعو الرحمن) معادلا بذلك اسمه الرحمن بلفظ الجلالة الذي لا يشاركه فيه أحد،

المداخلة الأولى:





واُولئك الرّحمانيّون




واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام،



الأخت الفاضلة سؤالي عن الرحمن وأنت تجيبين عن رحيم. لقد سمى المولى عزّ وجل عبده ورسوله محمدًا (ص) رؤوفا رحيما ولم يسمه رحمانيًا.

سؤالي سأضعه لك بشكل آخر - حتى لا نتلاعب بالألفاظ:

هل رسول الله صلى الله عليه وسلم من عباد الرحمن وإمامهم أم لا؟

فإن كانت إجابتك إجابًا - ولا مناص - فأين سماه ربه كذلك أو أين قال (ص) أنه سُمي كذلك.

مسلم متأمل
05-22-2006, 08:48 AM
الأخت الفاضلة قرآن الفجر

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أريد أن أقدم لك كل الشكر على موضوعك الطيب

و يشرفني أن أضيف هذه اللطائف القرآنية في الفرق بين كلمة ( عباد ) و كلمة ( عبيد )



))*((..ألف العزة: العبـــاد..))*((

وردت كلمة ((عباد)) حوالي مائة مرة في القرآن، وهي في معظم هذه المرات وصِف بها

المسلمون المطيعون لله، حيث وصف بها المسلمون، وأطلقت عليهم في أكثر من تسعين مرة.

ولهذا لا نخطئ إذا قلنا: إنّ غالب كلمة ((عباد)) في القرآن، يراد بها المسلمون العابدون لله.

قال تعالى: (( وَعِبَادُ الرَّحمانِ الَّذِينَ يمشُون علىالأرضِ هوناً )) سورة الفرقان(63)

وعندما ننظر في صياغة هذه الكلمة ((عباد)) وتركيب حروفها، فإننا نجدها بالألف في وسطها.

نستخرج من ذلك لطيفةً من لطائف القرآن.

إن هذه الألف الممدودةَ ((عباد)) توحي بالعزةِ والمنعة والأنفة والرفعة، وكأنها مرفوعة

الرأس ، منصوبة القامة باستمرار.

ولهذا أطلقنا على هذه الألف: ((ألف العزة)).

وهذه العزة والمنعة والأنفة والرفعة نلحظها في حياة العباد المؤمنين المطيعين لله.

فالعباد المؤمنون يعيشون حياتهم في الدنيا بعزة ورفعة واستعلاء يحاربون الظلم،

وينفرون من الذل، قاماتهم عزيزة منتصبة، لا يحنونها إلا لله،

ورؤوسهم مرتفعة عزيزة لا يخفضونها إلا لله.

ويواجه العبد المؤمن كل قوى الجاهلية، بعزة العقيدة، واستعلاء الإيمان.

إنه مهما جرى له، لا يحني هامته إلا لله، ومها هدد وأوذي وضيق عليه وعذب،

لا يطأطئ رأسه إلا لله.

ونظراً لعزة العباد المؤمنين ، جاء التعبير عنهم بكلمة ((عباد)).

وجاءت الألف القائمة المنتصبة (( ألف العزة)) وسطها،

لتشير إلى هذا المعنى!!!





))*((..ياء الذلةِ: العبيد..))*((

إذا كانت ألف ((العباد)) ألف العزة، فإن ياء (( العبيد)) هي ((ياء الذلة))!

إذا كان غالب استعمال ((عباد)) في القرآن للمؤمنين،

فإن كلمة ((عبيد)) في القرآن، وردت وصفاً للكفار والعصاة.


>><< العبيد في القرآن: الكفار >><<

وردت كلمة ((عبيد)) خمس مرات في القرآن الكريم:

1_ قال تعالى عن كفر اليهود: (( لقد سمِع اللهُ قول الذين قالوا إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياءٌ سنكتبُ

ما قالوا وقتلهُمُ الأنبياء بغيرِ حقٍ ونقولُ ذوقوا عذاب الحريق (*) ذلك بما قدمت أيديكُم وأنّ الله ليس

بِظَلامٍ للعبيد))


2_ وعن عذاب الكفار عند الاحتضار يقول الله تعالى: (( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملآئكة يضربون

وجُوهَهُم وأدبارهم وذُقوا عذاب الحريق (*) ذلك بما قدمت أيديكُم وأن الله ليس

بِظَلامٍ للعبيد))


3ـ وفي موضع آخر يقول الله عن عذاب الكافر: (( ومن الناس من يُجادل في الله بغير علمٍ ولا

هدىً ولا كتابٍ منير (*) ثَانِيَ عِطفِهِ لِيُضِلَّ عن سبيل الله له في الدنيا خزيٌ ونذيقه يوم القيامةِ

عذاب الحريق (*) ذلك بما قدَّمت يداك وأنّ الله ليس بِظَلامٍ للعبيد))


4_وعن عدلِ الله في منحِ الثواب للمحسن، وإيقاع العذاب بالكافر،

يقول تعالى: ((من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربُّك بِظَلامٍ للعبيد))


5_ وفي موضعٍ آخر يبيِّن عدلَ الله في تعذيب الكافر: (( قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في

ضلال بعيد (*)قال لا تختصموا لدىَّ ةقد قدمتُ إليكم بالوعيد (*) ما يُبدَّلُ القولُ لدىَّ وما أنا بِظَلامٍ

للعبيد))


وعندما ننظر في هذه الآيات، فإننا نخرج منها بهذه الإيحاءات واللطائف:

1_ وردت (( العبيد )) في المواضيع الخمسة في الكلام عن الكفار

2_ تيِّنُ المواضع الخمسة عدل الله في إدخال الكفار النار، وجعلهم يذقون عذاب الحريق.

3_ كلها تنفي الظلم عن الله: (( وما ربُّك بظلامٍ للعبيد ))

4_ وردت في المواضع كلها بهذه العبارة المنفية: ((...... بظلامٍ للعبيد ))


>>> عبيد لتناسب ذل الكفار <<<

إن التعبير عن الكفر بكلمة ((عبيد)) يوحي بالذلة الملازمة للكفار.

الكفار أذلاء جبناء ضعفاء مهانون، لا يريدون العزة والرفعة، ولا يشعرون بالكرامة والأنفة.

تجدهم أحرص الناس على حياة، وتراهم يذلون أمام المتسلطين الظالمين، لإن المهم عندهم هو أن

يتكرم عليهم ذلك المتسلط الظالم بالحياة... أي حياة.

الكفار أذلاء..

أذلاء في حياتهم..

وفي أشخاصهم..

وفي مواقفهم.

ولأن كلمة (( عبيد )) وردت في القرآن وصفاً لهولاء الكفار الأذلاء، جاءت بالياء،

التي تشير إلى الذلة في حياتهم.

إن (( الياء )) هنا، هي (( ياءُ الذلة )) الملازمة لهم، بل أن صياغة الكلمة توحي بالذلة،

لأن الياء جاءت وسط الكلمة منبطحةً ملقاةً بذلة.


منقول من كتاب لطائف قرآنية

للدكتور صلاح عبد الفتاح الخالدي


اللهم أعز الإسلام والمسلمين

وأذل الكفر والكافرين

اللهم انصر عبادك المجاهدين لإعلاء كلمة الحق في كل مكان

اللهم دمر أعداء الدين

اللهم زلزل الأرض من تحتهم

ورد كيدهم إلى نحورهم

اللهم فرق كلمتهم

وبارك لنا في جمعنا

اللهم ارزقنا الحق حقاً

وارزقنا اتباعه

اللهم آمين