قرآن الفجر
04-13-2006, 09:08 PM
وَعِبَادُ الرَّحْمنِ:
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرضِ هَوْناً * وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً *وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَا لَّذِينَ يَقُـولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً * وَا لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً * وَا لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّـاً وَعُمْيَاناً * وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُولئِكَ يُجْزَوْنَ ا لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً *(الفرقان/63 ـ 77 )
مَنْ هُم عبادُ الرّحمن؟
القرآن عندما يتحدّث عن حقيقة ، والوحي عندما يستعرض فكرة، يحاول أن يرسم للقارئ صورة ، ويجسِّد له مشهداً ، ويضع بين يديه وضوحاً وبياناً باُسلوب خَصِب ، وعرض مؤثِّر ، وتقصٍّ متقن وبعبارة وجيزة ، وطريقة رائعة تملأ المشهد حيويّة ، وتفيض على أبعاد الموقف جلالاً وروعةً ، إلى درجة يحسّ معها المتـلقِّي بالإندماج مع الفكرة ، ويستشعر المتعامِل معها بالاتحاد والتفاعل مع الصورة ، فتعيش أفكاره مع القرآن ، ويمتد وعيه مع آفاق الوحي ، دون أن يشعر بالانفصام ، أو يحسّ بالفجوة والبُعْد بين الصورة والحقيقة الّتي يتعامل معها .
والقرآن في مقطوعته الوصفية الرائعة لعباد الرّحمن ، قد عالج الموقف بهذه الطريقة ، وعرض المشهد على هذه الشاكلة ، فهو عندما تحدّث عن عباد الرّحمن ، عرضهم نموذجاً حركيّاً للانسان ، تُجلِّلهم صِفَة العُبّاد وتميِّزهم صِبْغَة الإيمان .
وقد أحاطهم بالعناية والنسبة إلى الرّحمن ، فهم عباد مُصْطَفون من خليط البشرية ، ومختارون من بين الجموع للانتماء إلى هذا المجد العظيم (عباد الرّحمن) ، وللانضواء تحت لواء هذا الشرف الرفيع (صفة الرّحمة) .
ولذا تحدّث عنهم وهم يظهرون بخطِّ ريشـته ، صفوة متمـيِّزة عن غيرها في حركة الحياة الزاخرة بالصراع والمتناقضات ، والمليئة بمختلف الاتجاهات والعبوديات، والموسومة بشتّى مياسم الانتساب والانتماءات.
وهو عندما تحدّث عن اُولئك اختار لهم انتماءً عَزّ مَنْ يحظى به ، ونسبة قلّ مَنْ يتسامى إلى الانضـواء تحت لوائها وهي (العبـوديّة للرّحمن) .
والمتأمِّل في القرآن يعرف أنّ القرآن لم يستعمل ألفاظه جزافاً ، ولم يطرحها حشواً ، بل لكلِّ اختيار من الألفاظ عنده غاية ، ولكل كلمة في عرفه معنىً ، ولكلّ اُسلوب في عرضه هدف .
والقرآن عندما نسب هذه الصفوة إلى اسم معيّن من أسماء الله (الرّحمن) ، إنّما قصد العلاقة المناسبة بين الرّحمن وبين المنتسبين إليه ، فحقّ أن يسحب هذا الوصف عليهم ، ويغدق هذا الشرف على انتمائهم ، لذا فهو لم يصفهم بعباد الجبّار ، ولم يطلق عليهم اسم عباد القاهر ، ولم ينسبهم إلى باقي الأسماء المقدّسة ، بل جاء اختياره لهذه النسبة ، وتحديده لهذا الانتماء بقصد تشخيص الرابطة الّتي تكمن بين التسمية والانتساب .
والمتعامل مع ألفاظ القرآن يدرك أنّ القرآن عندما ينسب إلى اسم من أسماء الله ، أو عندما يعقِّب بذكر صفة من صفاته المقدّسة ، انّما يستعمل ذلك اللّفظ ـ الصفة أو الإسم ـ ليفسِّر به العلاقة بين الخلق وخالقه ، ويوضِّح الرابطة بين الصفات المقدّسة في موضع الورود وبين متعلّقاتها .
فأسماء الله تعالى هي وسائط بين الله وخلقه ، وارتباط الوجود بهذه الأسماء والصفات ليس ارتباطاً تصوّرياً مجرّداً ، وتعبير القرآن عن هذه الحقيقة ليس صياغة أدبيّة لِتحسـين الاُسـلوب ، أو وسيلة لِعَـرْض الفكرة ، مجرّدة عن علاقة حقّة بين الصفة والموصوف بها ، بل يستهدف القرآن في كلّ ذلك تشخيص الحقيقة والتعبير عن العلاقة .
فهو يقصد من ضمّ هذه الصفوة تحت صفة الرّحمة ، ونسبتها إلى هذه الصفة الإيحاء لها بالأمن والسلام ، وتأكيد وقايتها من طائلة الغضب والجبروت الّتي يتعامل بها الله سبحانه مع العُصاة والمجرمين .
وهم ما استحقّوا هذا الإنضواء إلاّ بعد أن أشرقت في نفوسهم أنوار الرّحمة ، وامتدّت في آفاقهم ظلال الهدى ، فصاروا عباداً رحمانيين ، متجاوبين مع هذه الصفة ، يتعاملون مع الخلق باُسلوب الرّحمة ، وينسابون على الأرضِ بِخُطى الودِّ والسّلام .
عرفوا أنفسهم ، وأدركوا خالقهم ، فخلعوا له رِداءَ الكبرياء ، وتواضعوا بين يديه بهوان وتصاغر ، فلا عالَم الأشياء المتلاطم ـ بصوره وأحداثه ـ يملأ قلوبهم ، ولا ضجيج الحياة وزُخرف الدُّنيا يزرع الكبرياء في نفوسهم .
كيف وقد انفتحت آفاقهم على ذلك العالم القدسي !! فأطلّت عليه أرواحهم ، حتّى صاروا هم والدُّنيا كزائر مودِّع ، وهم والآخرة كقاصد يرجو الوصول .
مشي عباد الرّحمن
فاستحقوا أن يصفهم الرّحمنُ ثانياً عليهم (بعباد الرّحمن) فيقول فيهم :
(وَعِبَادُ الرَّحْمـنِ ا لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ا لاَْرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ) .
وبذا استحقّوا أن يعرضهم قدوة رائدة في طريق الحياة ، متّصفين بأخلاق الرّحمن ، يعفون ويصفحون ، فيشيعون في ربوع الأرض السلام.
فهذه الرّوح الّتي تسامحت نحو خُلق الله ووسعت كلمة الرّحمن ، لا تضيق بالتجاوز عن الجاهل ولا ترضى بالنزول إلى مستواه .
وعباد الرّحمن حينما يعفون ويصفحون ، وحينما يطلقون بوجه الجاهل كلمة السلام ، إنّما يفعلون ذلك رجاء أن تزرع الكلمة في نفس هذا البائس موقف الهُدى ، أو تحرِّك في نفسه إحساس الخير ، عَلّهُ يستضيء بنور الكلمة ، أو يستوحي قيم الروح النبيلة ; فليس لدى العالِم أفضل من الصّفح والسّلام وهو يتعرّض لخطاب الجاهل وحواره .
وعباد الرّحمن هم اُولئك الّذين وعوا حقيقة الوجود ، واستشفّوا أبعاد الحياة ، وعرفوا صفة الرّحمن ، فاستهاموا بحبِّه وقُربه ، واختاروا اللّيل بصمته وسكونه المعبِّر ، ليكون موعداً للقاء وملتقى للمناجاة .
مبيت عباد الرّحمن
أمّا النوم فقد غرقت أطيافه في بحر هذا الحبّ السرمدي ، فلم تعد ترسو على مرفأ الأجفان ، فباتوا في محراب الحبّ سجّداً وقياماً :
(وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ) .
يستمتعون بلذيذ المناجاة ، ويتذوقون طعم القرب الّذي حُرِمَ منه المحجوبون عن عالم القدس ، المغلّفون بدِثار العوالم الكثيف ، الّذي كدّر صفو الروح فيهم ، وشوّه جمال السعادة عندهم ، فعاشوا متاهات البُعْد عن الحقيقة الّتي يسعى الوجود نحوها ، وقاسوا آلام المعاناة في البحث عبثاً عن غيرها .
إنّها الحقيقة الكبرى الّتي يبحث الانسان عنها .
إنّها سرّ السعادة الفطري الّذي انطوى عليه ضميره .
إنّها الغاية الكبرى الّتي يبحث عنها ، كلّما أطلّ على حقيقة وهو يهيم في عوالم البُعْد والتيه النائية .
إنّه الحقّ الّذي أفاض على العوالم حرارة الشوق إليه ، وزرع في أعماقها بذرة الاتّجـاه نحـوه ، فكلّ معبود ـ سواه ـ منحه الآخرون وجهتهم ، أو اتّجهوا إليه بحبِّهم فهو صنم متحجِّر في هياكل الفناء .
وعباد الرّحمن هم اُولئك العباد العارفون الّذين تفحّصوا العالَم فلم يروا فيه الحقيقة والغاية ، بل بدا لهم كتاباً مفتوحاً يتحدّث عن عالَم الحقيقة ، ورسالة صامتة تنطوي صفحاتها على كلّ رمز معبِّر وحرف مُوح بأنوار ذاك العالَم المحجوب ..
ذلك العالَم الّذي يفيض على النفوس سعادة القُرْب والحضـور ، فيتجلّى لكل روح تشرق فيها أنوار ذاك الجمال القدسي ، الّذي يوحي به كتاب الوجود بصمته الناطق ، ويتحدّث عنه بنطقه الصامت ، الّذي ألفوه لغةً وحواراً .
فكلّ ظاهرة في عالمهم الصامت هي كلمة في كتاب الكون الكبير ، تنطق بلسان الحقيقة ، وتشرح للقارِئ العارِف فكرة ، أو تحمل لعقله المتأمِّل معنى .
وهم حينما يتأمّلون في كل حرف على صفحات هذا السفر العظيم ، إنّما يبحثون عن عالِم خطَّ سطور هذا الكتاب ، ومُبْدِع صاغَ عبارات هذه الرِّسالة ، فليس ما فيه من سطور ورموز هو الّذي يشغل بالهم ، أو يستهوي نفوسهم ، أو يستوقف مسيرتهم ، بل هم عشّاق يبحثون عن يد خطّت رسالة هذا الكتاب العظيم ، وهم روح توّاق يستشف أبعاد هذا الهيكل المنتصب حجاباً .
فجمال العالَم وجلاله عندهم محراب عبادة ، وليس معبوداً يؤلِّهونه ، كما يفعل غيرهم من السذّج المخدوعين ، فهم كلّما اكتشفوا من عوالمه رمزاً ، أو صادفوا في تآلفه جمالاً ، ازدادوا من عوالم النور قرباً ، وامتلأوا لجمال ذاك الوجود شوقاً .
اُولئك عباد يبيتون لربِّهم سجّداً وقياماً ، إنّهم يعيشون تجربة الحبّ الإلهي الفريدة في عالم الانسان ، فهم قد اختاروا العيش بأرواحهم مع الطائفين في مسارب النور حول عالَم القدس ، فساروا في مسالك الشوق نحو عالم القرب ، ليردّدوا وهم في عالَم البُعْد زجل الملائكة القدِّيسـين اُنشودة الوصل والتقديس :
سبّوح قدّوس .
سبحان ربّنا الأعلى .
لم يكن له كفواً أحدٌ .
لَهُ الحمدُ .
إهدنا الصراط المستقيم .
صِل بيننا وبينك بطريق يؤدِّي إليك ، فلا نُخطئ المسير ، فتضلّ الرحلة ، وتتيه السفينة ، وينقطع الوصل .
نحن سائرون إليك في رحلة الروح ، على بحار النور ، نستهدي بومضات الإشراق الوافدة على قلوب السائرين إليك في مسيرة الشوق والبحث البعيدة .
إنّا نخاف ضياعَ السفينة وتيهَ الرَّبّان ، وتلاطمَ أمواج الخطر ، ونخشى مـعاناةَ الضّلال ، ونيرانَ البُعْد فنظلّ نبحث دونما جدوى عن شاطئ السّلام ، في بحار التَيهِ والعذاب :
(وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ) .
إنفاق عباد الرّحمن
اُولئك عباد الرّحمن :
(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .
وعباد الرّحمنِ الّذين وعوا معنى الوجود ، وعرفوا قيمة الأشياء في هذا العالَم ، لم يكن دأبهم التعامل معها إلاّ بصيغتها الكونيّة المحسوبة ، اتساقاً مع قانون الطبيعة وانسجاماً مع نظام السلام في الحياة ، فكلّ شيء عندهم بمقدار ، وكل شيء ـ بمفهومهم ـ له في الوجود موضع وغاية ، فهم إذا ما تعاملوا مع ما في الحياة من خيرات وثروات ونعم وموجودات ، لم يتعاملوا معها إلاّ وفق هذا المفهوم والتقويم الواعي للأشياء ، فكلُّ شيء في عُرفهم يجب أن يحتلّ موقعه ويؤدِّي دوره في عالَم الوجود ، فلا يجوز حبسه أو منعه عن أن يُستعمل في موضعه المحدّد له ; لأ نّهم يعلمون أنّ الشّحّ والبُخْل يمنع النفس من التطابق مع مبادئ الخير في الحياة ، وهم يعلمون أنّ الشّحّ مرض تُصاب به النفوس التافهة الضعيفة الّتي تتصوّر أهميّتها وقيمتها في جمع المال وتكديس الثروة ، فهم يرون الجَشِع اللّئيم هو المغرور ببريق المال والثروة ، وهو المخدوع بحبِّها وجمعها ، ليرضي في نفسه نزعة الإحتواء والخلود في هذا العالَم الزّائل ، فهو يبحث عن الخلود في عالَم الفناء .
وفي عُرْفهم أنّ خيرات الوجود ـ كل خيرات الوجود ـ ليست إلاّ وسيلة لتموين رحلة الحياة العابرة .
فَلِمَ الجمع وهم راحلون ؟
وعلامَ البُخْل والمنع وهم يعتقدون العوض والجزاء ؟
وكيف يبخلون ، والوجود فيض لا ينقطع ، وعطاء لا ينفد ؟
وهؤلاء العباد ، عباد الرّحمن ، عندما اجتازوا عقدة الجشع والإحتواء الذميم ، لم يتخطّوا بهذا الإجتياز حدود الاعتدال والموازنة ليسقطوا في رذيلة الطيش والعبث والإسراف ، فيعبثوا أو يعتدوا على نظام الحياة ، فيضعوا الأشياء في غير مواضعها ، أو يغيِّروا مواقعها الّتي خُصِّصت لها ، أو يمنحوا الاُمور غير استحقاقها ، فدأبهم الاعتدال ، ومذهبهم الاقتصاد ، وأخلاقهم الاتزان والانضباط :
(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .
فمجتمعهم لا يعرف التقتير والإسراف ، ولا تنمو فيه مأساة الفقر إلى جانب بحبوحة الثّراء ، شأن مجتمعهم في ذلك شأن حقائق الوجود الاُخرى ، يملأها الغنى ويسيِّرها الاعتدال والاتزان ، فكل إنسان في مجتمعهم يأخذ حاجته ثمّ يمرّ بسلام ، ليترك لغيره مثلما أخذ لنفسه .
دعوة عباد الرّحمن
واُولئك الرّحمانيّون :
(لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .
فهم الموحِّدون الّذين أدركوا حقائق التوحيد فألّهوا وعبدوا الإله الأحد، حتّى صار التوحيـد عندهم مذهـباً ووعـياً ومنهـجاً للحـياة ، وحقيقة كُبرى تملأ ضمائرهم ، وتستوعب عالمهم ، وتستحوذ على وعيهم وإحساسهم ، فوقفوا مذهولين أمامها لا يدركون لغيرها أثراً ، ولا يستهدفون سواها غاية .
رحمانيّة عباد الرّحمن
(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) .
واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام، فانّهم يعيشون على هذه الأرض رسل رحمة ودعاة أمن وبشارة سلام ، يحـترمون الحياة ويقدِّسون حقّها في الوجود ، ويعرفون لها حرمتها ومقامها الآمن المصون .
إنّهم الخيرة الّتي باهى الله بها الملائكة حين احتجّوا على جريمة الانسان الكبرى في ربوع الأرض الآمنة ، جريمة سفك الدماء :
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ا لاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ ا لاَْسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ ا لْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) . ( البقرة / 30 ـ 32 )
إنّ عباد الرّحمن هم ظلّ الرّحمة المشرقة نوراً في ظلمات الأرض ، وهم الدليل الهادي في عالَم ضياع الانسان ، والقلب الكبير الّذي يشيع الأمن والسّلام في ربوع الأرض العبوس .
وإنّهم المُقدِّسون الّذينَ يقدِّسون بارئ الوجود ، فيقدِّسـون إرادته ، ويعظِّمون آثار رحمته في عالَم الانسان .
إنّ الّذين قَدّسوا وعرفوا كيف يتعاملون مع مآثر التقديس، ومواضع القدس ، لا يسـقطون حرمة ولا يعـتدون على حقّ مقدّس ، فالتقديس عندهم ليس ذكراً يردِّده اللِّسان، ولاتراتيلَ يلهج بها القدِّيسون وحسب ، ولا إحساساً يملأ القلب بالرّوعة والجلال فقط .
إنّما التقديس روح تنتظم بها الحياة ; فينعكس ظلّها حقيقة تتجسّد في عالَم الانسان ، فتظهر في كيفية تعامله مع الحـياة ، وفي قدرته على الالتزام والفرز الواعي بين المواقف والموضوعات حين التعامل معها ، ليكون للمقدّس المصون مقام القدسية والصِّيانة في نظام الحياة ، فيكون مُميّزاً عمّا سواه .
ويحترمون الحياة ، فهي جوهر الوجود على هذه الأرض ، وهي نفحة الرّحمن في الانسان ; لذا فهم :
(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) .
لا يسقطون حقّ الحياة المقدّس للانسان ، ولا يقتلون النّفس ، إلاّ إذا كانت هذه النفس جريمة تسعى في جسم الحياة ، وفساداً يعبث في الأرض ، وينشر فيها العدوان والخراب ; فعندئذ تدعوهم قدسيّة الحياة إلى صيانة الحياة ، وحفظ الدم المقدّس ، لتبرئة الأرض من جريمة الفساد الّتي تضجّ منها الخلائق كلّها ، ويغضب لها البارئ الرّحيم ، فيستأصلون الفساد حتّى لا تكون فتنة في الأرض ، ويكون الحق هو الظاهر في حياة الانسان .
فاستئصال الفساد من ربوع الأرض ، في عُرْف عباد الرّحمن ، ليس إلاّ محض التقديس وظهور الحق وخالص الكمال والتنزيه .
فهم لم يوحِّدوا ولم يقدِّسوا ولم يكونوا عباد الرّحمن ، إلاّ إذا احترموا إرادة الله في خلقه ، وقدّسوا آثار أفعاله في عوالمه .
يتبع
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرضِ هَوْناً * وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً *وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَا لَّذِينَ يَقُـولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً * وَا لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَاباً * وَا لَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً * وَا لَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّـاً وَعُمْيَاناً * وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُن وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً * أُولئِكَ يُجْزَوْنَ ا لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً *(الفرقان/63 ـ 77 )
مَنْ هُم عبادُ الرّحمن؟
القرآن عندما يتحدّث عن حقيقة ، والوحي عندما يستعرض فكرة، يحاول أن يرسم للقارئ صورة ، ويجسِّد له مشهداً ، ويضع بين يديه وضوحاً وبياناً باُسلوب خَصِب ، وعرض مؤثِّر ، وتقصٍّ متقن وبعبارة وجيزة ، وطريقة رائعة تملأ المشهد حيويّة ، وتفيض على أبعاد الموقف جلالاً وروعةً ، إلى درجة يحسّ معها المتـلقِّي بالإندماج مع الفكرة ، ويستشعر المتعامِل معها بالاتحاد والتفاعل مع الصورة ، فتعيش أفكاره مع القرآن ، ويمتد وعيه مع آفاق الوحي ، دون أن يشعر بالانفصام ، أو يحسّ بالفجوة والبُعْد بين الصورة والحقيقة الّتي يتعامل معها .
والقرآن في مقطوعته الوصفية الرائعة لعباد الرّحمن ، قد عالج الموقف بهذه الطريقة ، وعرض المشهد على هذه الشاكلة ، فهو عندما تحدّث عن عباد الرّحمن ، عرضهم نموذجاً حركيّاً للانسان ، تُجلِّلهم صِفَة العُبّاد وتميِّزهم صِبْغَة الإيمان .
وقد أحاطهم بالعناية والنسبة إلى الرّحمن ، فهم عباد مُصْطَفون من خليط البشرية ، ومختارون من بين الجموع للانتماء إلى هذا المجد العظيم (عباد الرّحمن) ، وللانضواء تحت لواء هذا الشرف الرفيع (صفة الرّحمة) .
ولذا تحدّث عنهم وهم يظهرون بخطِّ ريشـته ، صفوة متمـيِّزة عن غيرها في حركة الحياة الزاخرة بالصراع والمتناقضات ، والمليئة بمختلف الاتجاهات والعبوديات، والموسومة بشتّى مياسم الانتساب والانتماءات.
وهو عندما تحدّث عن اُولئك اختار لهم انتماءً عَزّ مَنْ يحظى به ، ونسبة قلّ مَنْ يتسامى إلى الانضـواء تحت لوائها وهي (العبـوديّة للرّحمن) .
والمتأمِّل في القرآن يعرف أنّ القرآن لم يستعمل ألفاظه جزافاً ، ولم يطرحها حشواً ، بل لكلِّ اختيار من الألفاظ عنده غاية ، ولكل كلمة في عرفه معنىً ، ولكلّ اُسلوب في عرضه هدف .
والقرآن عندما نسب هذه الصفوة إلى اسم معيّن من أسماء الله (الرّحمن) ، إنّما قصد العلاقة المناسبة بين الرّحمن وبين المنتسبين إليه ، فحقّ أن يسحب هذا الوصف عليهم ، ويغدق هذا الشرف على انتمائهم ، لذا فهو لم يصفهم بعباد الجبّار ، ولم يطلق عليهم اسم عباد القاهر ، ولم ينسبهم إلى باقي الأسماء المقدّسة ، بل جاء اختياره لهذه النسبة ، وتحديده لهذا الانتماء بقصد تشخيص الرابطة الّتي تكمن بين التسمية والانتساب .
والمتعامل مع ألفاظ القرآن يدرك أنّ القرآن عندما ينسب إلى اسم من أسماء الله ، أو عندما يعقِّب بذكر صفة من صفاته المقدّسة ، انّما يستعمل ذلك اللّفظ ـ الصفة أو الإسم ـ ليفسِّر به العلاقة بين الخلق وخالقه ، ويوضِّح الرابطة بين الصفات المقدّسة في موضع الورود وبين متعلّقاتها .
فأسماء الله تعالى هي وسائط بين الله وخلقه ، وارتباط الوجود بهذه الأسماء والصفات ليس ارتباطاً تصوّرياً مجرّداً ، وتعبير القرآن عن هذه الحقيقة ليس صياغة أدبيّة لِتحسـين الاُسـلوب ، أو وسيلة لِعَـرْض الفكرة ، مجرّدة عن علاقة حقّة بين الصفة والموصوف بها ، بل يستهدف القرآن في كلّ ذلك تشخيص الحقيقة والتعبير عن العلاقة .
فهو يقصد من ضمّ هذه الصفوة تحت صفة الرّحمة ، ونسبتها إلى هذه الصفة الإيحاء لها بالأمن والسلام ، وتأكيد وقايتها من طائلة الغضب والجبروت الّتي يتعامل بها الله سبحانه مع العُصاة والمجرمين .
وهم ما استحقّوا هذا الإنضواء إلاّ بعد أن أشرقت في نفوسهم أنوار الرّحمة ، وامتدّت في آفاقهم ظلال الهدى ، فصاروا عباداً رحمانيين ، متجاوبين مع هذه الصفة ، يتعاملون مع الخلق باُسلوب الرّحمة ، وينسابون على الأرضِ بِخُطى الودِّ والسّلام .
عرفوا أنفسهم ، وأدركوا خالقهم ، فخلعوا له رِداءَ الكبرياء ، وتواضعوا بين يديه بهوان وتصاغر ، فلا عالَم الأشياء المتلاطم ـ بصوره وأحداثه ـ يملأ قلوبهم ، ولا ضجيج الحياة وزُخرف الدُّنيا يزرع الكبرياء في نفوسهم .
كيف وقد انفتحت آفاقهم على ذلك العالم القدسي !! فأطلّت عليه أرواحهم ، حتّى صاروا هم والدُّنيا كزائر مودِّع ، وهم والآخرة كقاصد يرجو الوصول .
مشي عباد الرّحمن
فاستحقوا أن يصفهم الرّحمنُ ثانياً عليهم (بعباد الرّحمن) فيقول فيهم :
(وَعِبَادُ الرَّحْمـنِ ا لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى ا لاَْرضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَماً ) .
وبذا استحقّوا أن يعرضهم قدوة رائدة في طريق الحياة ، متّصفين بأخلاق الرّحمن ، يعفون ويصفحون ، فيشيعون في ربوع الأرض السلام.
فهذه الرّوح الّتي تسامحت نحو خُلق الله ووسعت كلمة الرّحمن ، لا تضيق بالتجاوز عن الجاهل ولا ترضى بالنزول إلى مستواه .
وعباد الرّحمن حينما يعفون ويصفحون ، وحينما يطلقون بوجه الجاهل كلمة السلام ، إنّما يفعلون ذلك رجاء أن تزرع الكلمة في نفس هذا البائس موقف الهُدى ، أو تحرِّك في نفسه إحساس الخير ، عَلّهُ يستضيء بنور الكلمة ، أو يستوحي قيم الروح النبيلة ; فليس لدى العالِم أفضل من الصّفح والسّلام وهو يتعرّض لخطاب الجاهل وحواره .
وعباد الرّحمن هم اُولئك الّذين وعوا حقيقة الوجود ، واستشفّوا أبعاد الحياة ، وعرفوا صفة الرّحمن ، فاستهاموا بحبِّه وقُربه ، واختاروا اللّيل بصمته وسكونه المعبِّر ، ليكون موعداً للقاء وملتقى للمناجاة .
مبيت عباد الرّحمن
أمّا النوم فقد غرقت أطيافه في بحر هذا الحبّ السرمدي ، فلم تعد ترسو على مرفأ الأجفان ، فباتوا في محراب الحبّ سجّداً وقياماً :
(وَا لَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً ) .
يستمتعون بلذيذ المناجاة ، ويتذوقون طعم القرب الّذي حُرِمَ منه المحجوبون عن عالم القدس ، المغلّفون بدِثار العوالم الكثيف ، الّذي كدّر صفو الروح فيهم ، وشوّه جمال السعادة عندهم ، فعاشوا متاهات البُعْد عن الحقيقة الّتي يسعى الوجود نحوها ، وقاسوا آلام المعاناة في البحث عبثاً عن غيرها .
إنّها الحقيقة الكبرى الّتي يبحث الانسان عنها .
إنّها سرّ السعادة الفطري الّذي انطوى عليه ضميره .
إنّها الغاية الكبرى الّتي يبحث عنها ، كلّما أطلّ على حقيقة وهو يهيم في عوالم البُعْد والتيه النائية .
إنّه الحقّ الّذي أفاض على العوالم حرارة الشوق إليه ، وزرع في أعماقها بذرة الاتّجـاه نحـوه ، فكلّ معبود ـ سواه ـ منحه الآخرون وجهتهم ، أو اتّجهوا إليه بحبِّهم فهو صنم متحجِّر في هياكل الفناء .
وعباد الرّحمن هم اُولئك العباد العارفون الّذين تفحّصوا العالَم فلم يروا فيه الحقيقة والغاية ، بل بدا لهم كتاباً مفتوحاً يتحدّث عن عالَم الحقيقة ، ورسالة صامتة تنطوي صفحاتها على كلّ رمز معبِّر وحرف مُوح بأنوار ذاك العالَم المحجوب ..
ذلك العالَم الّذي يفيض على النفوس سعادة القُرْب والحضـور ، فيتجلّى لكل روح تشرق فيها أنوار ذاك الجمال القدسي ، الّذي يوحي به كتاب الوجود بصمته الناطق ، ويتحدّث عنه بنطقه الصامت ، الّذي ألفوه لغةً وحواراً .
فكلّ ظاهرة في عالمهم الصامت هي كلمة في كتاب الكون الكبير ، تنطق بلسان الحقيقة ، وتشرح للقارِئ العارِف فكرة ، أو تحمل لعقله المتأمِّل معنى .
وهم حينما يتأمّلون في كل حرف على صفحات هذا السفر العظيم ، إنّما يبحثون عن عالِم خطَّ سطور هذا الكتاب ، ومُبْدِع صاغَ عبارات هذه الرِّسالة ، فليس ما فيه من سطور ورموز هو الّذي يشغل بالهم ، أو يستهوي نفوسهم ، أو يستوقف مسيرتهم ، بل هم عشّاق يبحثون عن يد خطّت رسالة هذا الكتاب العظيم ، وهم روح توّاق يستشف أبعاد هذا الهيكل المنتصب حجاباً .
فجمال العالَم وجلاله عندهم محراب عبادة ، وليس معبوداً يؤلِّهونه ، كما يفعل غيرهم من السذّج المخدوعين ، فهم كلّما اكتشفوا من عوالمه رمزاً ، أو صادفوا في تآلفه جمالاً ، ازدادوا من عوالم النور قرباً ، وامتلأوا لجمال ذاك الوجود شوقاً .
اُولئك عباد يبيتون لربِّهم سجّداً وقياماً ، إنّهم يعيشون تجربة الحبّ الإلهي الفريدة في عالم الانسان ، فهم قد اختاروا العيش بأرواحهم مع الطائفين في مسارب النور حول عالَم القدس ، فساروا في مسالك الشوق نحو عالم القرب ، ليردّدوا وهم في عالَم البُعْد زجل الملائكة القدِّيسـين اُنشودة الوصل والتقديس :
سبّوح قدّوس .
سبحان ربّنا الأعلى .
لم يكن له كفواً أحدٌ .
لَهُ الحمدُ .
إهدنا الصراط المستقيم .
صِل بيننا وبينك بطريق يؤدِّي إليك ، فلا نُخطئ المسير ، فتضلّ الرحلة ، وتتيه السفينة ، وينقطع الوصل .
نحن سائرون إليك في رحلة الروح ، على بحار النور ، نستهدي بومضات الإشراق الوافدة على قلوب السائرين إليك في مسيرة الشوق والبحث البعيدة .
إنّا نخاف ضياعَ السفينة وتيهَ الرَّبّان ، وتلاطمَ أمواج الخطر ، ونخشى مـعاناةَ الضّلال ، ونيرانَ البُعْد فنظلّ نبحث دونما جدوى عن شاطئ السّلام ، في بحار التَيهِ والعذاب :
(وَا لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ) .
إنفاق عباد الرّحمن
اُولئك عباد الرّحمن :
(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .
وعباد الرّحمنِ الّذين وعوا معنى الوجود ، وعرفوا قيمة الأشياء في هذا العالَم ، لم يكن دأبهم التعامل معها إلاّ بصيغتها الكونيّة المحسوبة ، اتساقاً مع قانون الطبيعة وانسجاماً مع نظام السلام في الحياة ، فكلّ شيء عندهم بمقدار ، وكل شيء ـ بمفهومهم ـ له في الوجود موضع وغاية ، فهم إذا ما تعاملوا مع ما في الحياة من خيرات وثروات ونعم وموجودات ، لم يتعاملوا معها إلاّ وفق هذا المفهوم والتقويم الواعي للأشياء ، فكلُّ شيء في عُرفهم يجب أن يحتلّ موقعه ويؤدِّي دوره في عالَم الوجود ، فلا يجوز حبسه أو منعه عن أن يُستعمل في موضعه المحدّد له ; لأ نّهم يعلمون أنّ الشّحّ والبُخْل يمنع النفس من التطابق مع مبادئ الخير في الحياة ، وهم يعلمون أنّ الشّحّ مرض تُصاب به النفوس التافهة الضعيفة الّتي تتصوّر أهميّتها وقيمتها في جمع المال وتكديس الثروة ، فهم يرون الجَشِع اللّئيم هو المغرور ببريق المال والثروة ، وهو المخدوع بحبِّها وجمعها ، ليرضي في نفسه نزعة الإحتواء والخلود في هذا العالَم الزّائل ، فهو يبحث عن الخلود في عالَم الفناء .
وفي عُرْفهم أنّ خيرات الوجود ـ كل خيرات الوجود ـ ليست إلاّ وسيلة لتموين رحلة الحياة العابرة .
فَلِمَ الجمع وهم راحلون ؟
وعلامَ البُخْل والمنع وهم يعتقدون العوض والجزاء ؟
وكيف يبخلون ، والوجود فيض لا ينقطع ، وعطاء لا ينفد ؟
وهؤلاء العباد ، عباد الرّحمن ، عندما اجتازوا عقدة الجشع والإحتواء الذميم ، لم يتخطّوا بهذا الإجتياز حدود الاعتدال والموازنة ليسقطوا في رذيلة الطيش والعبث والإسراف ، فيعبثوا أو يعتدوا على نظام الحياة ، فيضعوا الأشياء في غير مواضعها ، أو يغيِّروا مواقعها الّتي خُصِّصت لها ، أو يمنحوا الاُمور غير استحقاقها ، فدأبهم الاعتدال ، ومذهبهم الاقتصاد ، وأخلاقهم الاتزان والانضباط :
(وَا لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذلِكَ قَوَاماً ) .
فمجتمعهم لا يعرف التقتير والإسراف ، ولا تنمو فيه مأساة الفقر إلى جانب بحبوحة الثّراء ، شأن مجتمعهم في ذلك شأن حقائق الوجود الاُخرى ، يملأها الغنى ويسيِّرها الاعتدال والاتزان ، فكل إنسان في مجتمعهم يأخذ حاجته ثمّ يمرّ بسلام ، ليترك لغيره مثلما أخذ لنفسه .
دعوة عباد الرّحمن
واُولئك الرّحمانيّون :
(لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .
فهم الموحِّدون الّذين أدركوا حقائق التوحيد فألّهوا وعبدوا الإله الأحد، حتّى صار التوحيـد عندهم مذهـباً ووعـياً ومنهـجاً للحـياة ، وحقيقة كُبرى تملأ ضمائرهم ، وتستوعب عالمهم ، وتستحوذ على وعيهم وإحساسهم ، فوقفوا مذهولين أمامها لا يدركون لغيرها أثراً ، ولا يستهدفون سواها غاية .
رحمانيّة عباد الرّحمن
(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ، وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ ا لْعَذَابُ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) .
واتساقاً مع ما اتّصف به هذا النموذج من الناس من رحمانية وسلام، فانّهم يعيشون على هذه الأرض رسل رحمة ودعاة أمن وبشارة سلام ، يحـترمون الحياة ويقدِّسون حقّها في الوجود ، ويعرفون لها حرمتها ومقامها الآمن المصون .
إنّهم الخيرة الّتي باهى الله بها الملائكة حين احتجّوا على جريمة الانسان الكبرى في ربوع الأرض الآمنة ، جريمة سفك الدماء :
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ا لاَْرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ ا لاَْسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاَءَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ ا لْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) . ( البقرة / 30 ـ 32 )
إنّ عباد الرّحمن هم ظلّ الرّحمة المشرقة نوراً في ظلمات الأرض ، وهم الدليل الهادي في عالَم ضياع الانسان ، والقلب الكبير الّذي يشيع الأمن والسّلام في ربوع الأرض العبوس .
وإنّهم المُقدِّسون الّذينَ يقدِّسون بارئ الوجود ، فيقدِّسـون إرادته ، ويعظِّمون آثار رحمته في عالَم الانسان .
إنّ الّذين قَدّسوا وعرفوا كيف يتعاملون مع مآثر التقديس، ومواضع القدس ، لا يسـقطون حرمة ولا يعـتدون على حقّ مقدّس ، فالتقديس عندهم ليس ذكراً يردِّده اللِّسان، ولاتراتيلَ يلهج بها القدِّيسون وحسب ، ولا إحساساً يملأ القلب بالرّوعة والجلال فقط .
إنّما التقديس روح تنتظم بها الحياة ; فينعكس ظلّها حقيقة تتجسّد في عالَم الانسان ، فتظهر في كيفية تعامله مع الحـياة ، وفي قدرته على الالتزام والفرز الواعي بين المواقف والموضوعات حين التعامل معها ، ليكون للمقدّس المصون مقام القدسية والصِّيانة في نظام الحياة ، فيكون مُميّزاً عمّا سواه .
ويحترمون الحياة ، فهي جوهر الوجود على هذه الأرض ، وهي نفحة الرّحمن في الانسان ; لذا فهم :
(وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ ا لَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ) .
لا يسقطون حقّ الحياة المقدّس للانسان ، ولا يقتلون النّفس ، إلاّ إذا كانت هذه النفس جريمة تسعى في جسم الحياة ، وفساداً يعبث في الأرض ، وينشر فيها العدوان والخراب ; فعندئذ تدعوهم قدسيّة الحياة إلى صيانة الحياة ، وحفظ الدم المقدّس ، لتبرئة الأرض من جريمة الفساد الّتي تضجّ منها الخلائق كلّها ، ويغضب لها البارئ الرّحيم ، فيستأصلون الفساد حتّى لا تكون فتنة في الأرض ، ويكون الحق هو الظاهر في حياة الانسان .
فاستئصال الفساد من ربوع الأرض ، في عُرْف عباد الرّحمن ، ليس إلاّ محض التقديس وظهور الحق وخالص الكمال والتنزيه .
فهم لم يوحِّدوا ولم يقدِّسوا ولم يكونوا عباد الرّحمن ، إلاّ إذا احترموا إرادة الله في خلقه ، وقدّسوا آثار أفعاله في عوالمه .
يتبع