المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحرية مورفين الشعوب



قسورة
04-18-2006, 11:50 AM
بسم الله الرحمن الرحيم

في حوار الدكتور مصطفى محمود مع صديقه الملحد سأله قائلاً: وما رايك في الذين يقولون ان الدين افيون؟

فرد عليه الدكتور مصطفى قائلاً: ليس ابعد من الخطأ القائل بان الدين افيون ..
فالدين في حقيقته اعباء وتكاليف وتبعات .. وليس تخفيفاً وتحللاً .. وبالتالي ليس مهرباً من المسئوليات وليس افيوناً

والدين صحو وانتباه ويقظة . ومحاسبة للنفس ومراقبة للضمير .. في كل فعل وفي كل كلمة وكل خاطر . وليس هذا حال اكل الافيون

انما اكل الافيون الحقيقي هو المادي الذي ينكر الدين هرباً من تبعاته ومسئولياته . ويتصور ان لحظته ملكه فيفعل ما يخطر على باله . انتهى بتصرف .

أقول : إنما الأفيون الحقيقي ، أفيون القرن العشرين ، هو الحرية . الحرية التي كلما أراد سياسيٌ أو داعٍ إلى مفسدة أو منافق أن يتكلم ، ابتدأ بها وسبح بحمدها .

إنها الأفيون الذي يسوغ للناس إهمال مسؤولياتهم وتضييع حقوق بعضهم باسم الحرية. ومثلهم مثل البهائم المحصورة ، إذ فتح لها الباب ، خرجت مسرعةً ، إن سألتها إلى أين؟ قالت : لست أدري !

فكلما أراد رجلٌ أن يتهرب من عهده أمام ربه بالانتهاء عن ظلم البشر بالربا ، تكلم باسم الحرية .
وكلما ساقت شهوةُ امرأةٍ شبقةٍ إياها إلى الزنا فالحمل وأرادت الإجهاض ، تكلمت باسم الحرية .
وكلما أراد شابٌ أن يتهرب من مسؤوليته تجاه والديه ببرهما ، تكلم باسم الحرية .
وكلما أرادت فتاةٌ أن تتسلق سلم الفن -داخل البواليع- ، تكلمت باسم الحرية .
وكلما أراد أحدهم أن يسكر ويدخن ، أو أن يصبح شاذاً ، أو أن يشتم من شاء ، وأن يتكلم فيما شاء بما يشاء دون أن يعرف ما الذي يقوله أصلاً ، تكلم باسم الحرية.

وهكذا كلما أراد أحدهم أن يتهرب من مسؤوليةٍ ما ، تكلم باسم الحرية ، وإنما هو كما قال الدكتور في حواره مع صديقه الملحد :
(واين هذا الرجل من المتدين المسلم الذي يعتبر نفسه مسئولاً عن سابع جار ..
واذا جاع فرد في امته او ضربت دابة عاتب نفسه بانه لم يقم بواجب الدين في عنقه ..)

هي الحريةُ الأفيون الذي يخدر الشعوب ، ويقنعها بأنها متقدمة ومتحضرة ، وهي أقرب إلى الهمجية من أي شيءٍ آخر . ويجعلها ترفض (2.5%) وتستبدلها بـ(20%) على الأقل ، ومراقبةٍ ماليةٍ لصيقة لكل إيداع وبيع وشراء ، كل هذا باسم الحرية! وهي التي تجعل هذه الشعوب تعتقد أنها هي الحاكمة ، ومثلها مثل الطفل وضعوا في يده ألعاباً معطلة ، بينما يمسك غيرهم بأجهزة التحكم . ويجعل الشعوب أحجاراً على رقعة الشطرنج ، يسترقهم الحكام حاملين رؤوسهم على أكفهم لحربٍ لا تعنيهم في شيء. ويجعل الشعوب تدين بالولاء ، ليس لله ، ولكن للعلم وللتراب باسم الوطن . ويجعلها تعتقد أنها تتبنى رأيها بنفسها ، بينما تقوم أجهزة الإعلام بتوجيه آرائها إلى ما تريده ، وتعمل بجهد على نسف قيمهم وثوابتهم باستمرار ليصبحوا شعوباً خواء ، يعيشون في حضارةٍ بلا حضارة ، وآراؤهم ليست لهم .

ترى هل توقفت هذه الشعوب البلهاء لحظةً لتسأل نفسها سؤالاً بسيطاً : ما مفهوم الحرية ؟

أبسط فهمٍ للحرية هي أنها ضد التقييد . ومن الخطأ جعل الحرية بإطلاقها مضادةً للعبودية ، فالعبودية تشترط الإكراه ، والتقييد لا يشترط الإكراه .

ينادي أصحاب الحرية بها على صفةٍ واحدة تتفرع على صفتين ، ونبدأ بالصفتين ثم نصعد إلى الصفة الجامعة .

1. الحرية كـ"غاية" :

هنا نستعين في فهم أنواع الغايات بالغزالي رحمه الله صاحب إحياء علوم الدين بتلخيص قوله . فأنواع الغايات هي ثلاث :

1. ما يطلب لذاته : السعادة في الدنيا والآخرة ، والنظر إلى وجه الله الكريم .
2. ما يطلب لغيره : مثل الذهب والفضة .
3. ما يلطب لذاته ولغيره : العلم الذي هو لذيذٌ في نفسه ، ويوصل إلى غيره من مصالح .

فما تصنيف الحرية كغاية ؟
بما أنه قد ثبت لدينا أن الإنسان مقيدٌ شاء أم أبى ، نعلم أن الحرية غاية تطلب لغيرها . وليس لذاتها معنىً تطلب لأجله .
فأقصى ما نستطيع قوله هو أن الحرية هي غايةٌ مرحلية أي وسيلة ، فإذا اجتيزت المرحلة أصبحت بلا فائدة ، لا يصلح الإطلاق بوصفها كغايةٍ تردد بها الشعارات على مدى العصور . وكل ما يستطيع الإنسان فعله هو أن يبحث عن الحرية النسبية التي تضمن له أقل عددٍ من القيود .

وإن طلبت الحرية كغاية مطلقة فهو مرضٌ ووسواسٌ مزمن ، يجب أن يدخل صاحبه المارستان ، لماذا ؟ تخيل التالي :

جلست في موضعٍ فقال لك أحدهم : أنت لا تستطيع أن تقوم من مكانك . فقمت أنت لأنه فرض عليك قيداً . ثم قال لك : لقد تلاعبت بك حتى تقوم من مكانك . ففرض عليك قيداً آخر ، فأردت الحرية فجلست . ثم قال لك : لقد علمت أنك كنت ستجلس إذ ادعيت لك أني تلاعبت بك ، فكأني تلاعبت بك مرةً أخرى . بعدها : ماذا ستفعل ؟

إن مجرد التفكير في الفعل المناسب كردةٍ فعلٍ على من طالبك بالتحرر من القيد هو جنون ولكن إن كنت مقتنعاً بما أنت عليه ، فهل سيضرك شيء؟ إذا كنت مؤمناً هل ستضرك فتنة؟
وأقرب مثالٍ لذلك هو تفكير الملاحدة في ذات الله عز وجل ، فلا أعتقد أن الإلحاد مذهب وإنما هو مرضٌ نفسي قامت على نشره الماسونية لأغراض أخرى . وعلاجه الوحيد هو الإيمان .

فأين نجد أسمى درجات الحرية يا ترى ؟

نجدها في شهادة "لا إله إلا الله" ، وفي عبادة الله بالتوحيد الخالص !

إن الآلهة قد تتعدد أشكالها ، فهي ليست أصناماً حجريةً فقط . فهنالك أصنامٌ معنوية ، مثل من عبد عقله ، ومثل من عبد العلم ، ومثل من عبد أيديولوجية عصره ، ومثل من عبد وطنه . ومثل من خلط هؤلاء جميعاً .{وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}.

ويدعي أصحاب الديمقراطية أنها توفر لهم أكبر قدرٍ من الحرية على عكس الدولة الدينية التي تقيد الحرية . وفي الحقيقة هم يستبدلون الديكتاتور الواحد بملايين منهم . فما الذي يجعل الأقلية مرغمةً على طاعة الأكثرية بجعل قرار الأكثرية شرعياً بالإقرار وإن كانت الأكثرية مخطئة ، خاصةً في أمورٍ تعتمد على العقيدة مثل الحرب ؟ ولماذا يفرق بين البشر على أساس العرق والمولد ويرغمك على مؤاخاة عدو دينك بل والخضوع لسلطته إذا تقلد منصباً بدعوى المواطنة ؟

أما المسلم ، فكلما ارتقى في سلم الهداية كلما توحدت طاعته لله تعالى وحده وخلصت من جميع الآفات . فهو يطيع الله بتطويع قلبه وعقله وعلمه ومشاعره من حبٍ وخوفٍ ورجاء ، حتى بأخذه بالرخص وقت الضرورة كالإكراه أو فعل المباح ، ويطوّع واقعه وإمكانياته وآلاته وحياته ومماته كلها لله تعالى وحده لا شريك له .

وهذا هو كنه دعوة التوحيد . وهذا هو المضحك في مخاطبتهم لنا باسم الحرية فهم يخاطبون المسلمين العرب! العرب الذين لم يستطع ملكٌ واحد أن يحكمهم ، ولم يستطع ملكٌ أن يحكمهم . العرب الذين علموا العالم أجمع معنى الإباء ، والكرامة ، والخروج على الضيم .

فهل كان العرب ليرضوا بحريةٍ أقل ؟ كلا . لقد فهموا الإسلام ، فهموه حق فهمه .
فهموا أن أقصى درجات الحرية تكون في اللامركزية المطلقة على وجه الأرض التي يحققها الإسلام ، حيث لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق ، ومن رضي على نفسه بذلك فلا يستطيع إرغام غيره ، وما ذلكم إلا بإيمانه بالله عز وجل ، وتوحيده إياه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته . لقد أدركوا أن التوحيد هو الحرية الحقيقية . إذن الحرية مطلوبة ما دامت كذلك والمرفوض هو الفهم المغلوط للحرية أو الحرية المطلقة .

أم هل اعتقدوا أن المسلمين العرب خائفون من تغيير حكامهم ؟ لو لم يكن للعرب إسلامٌ لذهبوا إلى بيت كل واحدٍ ممن يعملون مع الحاكم من أعلى الرتب إلى أدناها من جندٍ وجندرمة ، وقتلوه في عقر داره ولو بالحجارة . ولعاشوا بدون حاكم وبدون أي مقومات الحياة فقط في سبيل الحرية ، في سبيل الله .

كيف نعرف الصواب؟ الحل لدى الإسلام على لسان حال تطبيقه: لا نحتكم إلى العقل ، فلا وجود للعقل المثالي . ولا نحتكم إلى الفكر فلن تقنع أحداً بالفكرة دون أن تؤمن بها مقدماً . ولا نحتكم إلى العلم فما أوتينا من العلم إلا قليلاً . ولا نحتكم إلى أكثرية الغوغائية فهي لا تفقه شيئاً. ولا نحتكم إلى أقليةٍ ما نزعم أنها واعية ، أو أنها مقدسة ، أو أنها آلهة . ولا نحتكم إلى الأهواء والنزغات والنزعات . ولا نحتكم إلى سلطةٍ بحكم قوتها . هي دعوة لخروج الإنسانية عن استرقاق نفسها بنفسها ، والخروج عن جميع القيود البشرية ، بتوحيد الله تعالى .

قال تعالى : {قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ ٱشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}.

هذه هي الحرية الحقيقية .تعالوا أيها البشر لنجتمع على شيءٍ واحد وهو : لا طاعة لبشرٍ على بشر ، لا أحد منا يطيع الآخر . بل الطاعة كلها لله وحده لتندرج تحتها أنواع الطاعات الأخرى . دعوة للخروج من الإهاب الترابي إلى ملكوت رب العالمين ، هل توجد مثل هذه الحرية في غير الإسلام في العالم أجمع ؟ نتحدى!

وبأعذارهم الواهية لخروجهم ولو على جزئية من منظومة الفكر الإسلامي يفتحون على أنفسهم أبواب الجحيم ؛ فإن من يعتقد بجواز الخروج عن النص في حالة الحجاب أو غيره ، يجب أن يكون مستعداً لخروج الآخرين عن النص بحرمة دم المسلم . ولن يبدأ المسلمون بسوى العلمانية والليبرالية قتلاً . ولن يجدوا إلزاماً على العرب -أعتى الأمم- بغير الإسلام .

كان العرب أعرف الناس بمعنى الحرية ، فقد ذاقوا ويلاتها ، وهي التشتت ، والتمزق , والفرقة ، والعصبية ، وانعدام الأمن . ولولا ذلك لما اقتنعوا بالإسلام . وأكبر مثالٍ على الحرية الآن تجده في دولة "الصومال" فهي تمثل الحرية التي هي "الهوى" ، ولهذا كان الخالق سبحانه وتعالى فعالاً لما يريد ، يوصف بالحكيم ولا يوصف بالحرية ، وذلكم الكمال .

كلما زادت القيود على الإنسان كلما ارتقى . فأنت تجد على ذوي الأحساب قيوداً تربوية وأدبية أشد . وتجد على الإنسان القدوة قيوداً أكثر . وعلى كل صاحب رفعة أو سؤدد أو وقار قيوداً لا تُقبلُ منه الخروج عليها . فمهماً تشدق أصحاب الحريات الزائفة بها ، فإنهم لن يكتسبوا احترام الآخرين إن حضروا الاجتماعات بالسراويل الداخلية ، أو ناموا في الشوارع ، أو قهقهوا في كل مجلس .

فيأتي الإسلام ليجمع بين هذا وذاك في أرقى نموذجٍ عرفته الإنسانية وهو "التوحيد" ، وهو اختيار الإنسان ارتقاءه من البهيمية السمجاء ، والإنسانية الهوجاء ، إلى السماء .

انظر إلى المسلمين العرب اليوم . قبل ألفٍ وأربعمائة سنة هل كانوا ليرضوا بهذا الظلم ؟ طبعاً لا . ولكن موروثات الحضارة الإسلامية جعلتهم مرتقين في ذاتهم دون أن يعلموا ذلك إلا من سفه نفسه . فلا تجد نساءهم تسافح الرجال علانيةً على تخلفهم المادي ، فالإسلام يعتبر هذه العملية الشهوانية مقدمةً تخرج إنساناً جديداً له حقوق وعلى المجتمع مسؤوليةٌ تجاهه ، لا تضيع بمجرد كلمة "الحرية" . فإذا أراد الرجل مرةً واحدة أن يلتقي مع امرأةٍ ما فإن عليه أن يتحمل مسؤولية هذه المرة الواحدة بالزواج الذي هو التزامٌ أدبي قبل المادي . والثورة على الحاكم الفوضوية أمرٌ مرفوض ، مع كل الظلم الواقع على الشعوب . واحترام الدم والأمن والأعراض في المجتمع الإسلامي عالٍ جداً . كل هذه أمور تستغرب على المسلمين العرب محافظتهم عليها مع تخلفهم الحالي . من علمهم ذلك سوى الإسلام؟ كيف لو عادوا إلى إسلامهم كما كان سلفهم؟

كما أن لحرية الرأي عندنا حدوداً وقواعد . فالذي يعبر عن رأيه يجب أن يكون مختصاً . فليس عيباً أن يرى السلف وجوب سجن من يفتي دون علم ، فهذا تعدٍ على الاختصاص . فالعامي إذا أفتى في الطب ووقع المستفتي في المتاعب ، فإن الواجب محاسبة هذا العامي بتهمة "التضليل" مبدئياً ، ثم يُنظر إن كان فعله متعمداً أم لا . وكذا من يتحدث في الهندسة ، فيفتي في العمران ، وكذا من يتحدث في الكيمياء. ولو أن أحدهم قال للأطفال : ليست هنالك كهرباء في الأسلاك ، لأنه لا يصح تصور اختلاط المادة بغير المادة فهذه جريمةٌ نكراء . فكيف بالدين وهو نقلٌ ودراسةٌ تحدد المصير؟ إن مسألة التعبير عن الرأي ليست مجرد حريةٍ لدى المسلمين ، ولكنها مسؤوليةٌ عظيمة تدل على حضارةٍ رفيعة تُعنى بالكلمة وآثارها ، ولا تلقي الكلام على عواهنه .

الحرية لا يمكن أن تكون غايةً على إطلاقها ، وبالتالي لا تصلح لأن تنادى بها كشعارٍ ، وحقيقتها أنها حاجةٌ نفسية ، يتم تثبيتها في النفس بغرض التغيير من حالٍ إلى حالٍ . فهي مرادفٌ لـ"التحول" ، ولكن على أساس "الهوى" لأن الحكمة ثابتة مطلقة لا تتحول من حالٍ إلى حال . هي حقاً أفيون الشعوب .

2. الحرية كـ"مبدأ" :

القول بالحرية كمبدأ سخيفٌ جداً . فشرط المبدأ التقيد ، المنافي للحرية . فكأنهم يقولون (تقيد بالحرية) أو (تحرر بالقيد) .

3. الحرية "كحق" :
تشترك الغاية والحق بصفتهما مَطَالباً . والفرق بينهما هو أن الغاية تستلزم التنازع بين الأطراف ، ولكن الحق يستلزم تنازلاً من إحدى الأطراف لأخرى .فإذا نادى أحدهم بالحرية كحق فهو يعني إرجاع ما أخذ بطريقٍ غير شرعية إلى صاحبه الشرعي ، ولكن هذا يعني تنازل الطرف الآخر عما لديه . مما يضعه أمام خيارين :

1. إما أنه تنازل عما لديه غصباً : فهذا تنازلٌ عن حريته جراء إرغام فردٍ آخر له عليها . لأن الحرية لا تتقيد بالحكمة . فإذا علمنا أن صفة العاقل والحكيم والعدل بالتعريف المشترك هي "واضع الشيء محله" . ولهذا سمى الله تعالى الشرك ظلماً لأنه صرفٌ للعبادة في غير موضعها . ولهذا كان المشركون أضل من الأنعام عن الحق ، ولهذا كانوا سيئي الحكم : فكيف تصبح الحرية حقاً ؟ مما يرجعنا إلى الحرية كـ"غاية" .

2. وإما أنه تنازل عما لديه بالرضى : فهذا تنازلٌ عن حريته جراء اقتناعه بالحق ، فهذا يعني أن لديهما قناعةً أو قاعدةً مشتركة بني حكمهما على أساسها ، أو أن مؤديات قاعدة أو قناعة كلٍ منهما لها نفس النتائج . ولكن القناعة والقاعدة ما هي إلا قيود ترجع بنا إلى الحرية كـ"مبدأ" .

ومن هنا نعرف أن مصطلح "الفكر الحر" مناقضٌ للمنطق والعقل أيما مناقضة ، فلا بد للإنسان أن يقف عند نقطةٍ معينة عن التفكير ويسلم بشيءٍ ما ويتقيد به ، وما سوى ذلك يعد وسوسةً مزمنة ، مما يجعل هذه الوسوسة المزمنة أيضاً نقطةً يقف عندها الإنسان في نهايتها كقاعدةٍ اسمها "الفوضى" . إذاً فالفكر الحر في حقيقته دينٌ بانتهائه بالتقييد -إن كان صاحبه عاقلاً أصلاً- ، عدا أنه يعتمد الهوى الغير منطقي مصدر هدايةٍ له .

فالإيمان هو ضرورةٌ نفسية يقوم على أساسها العقل السليم . ولهذا فإن الإنسان المؤمن هو الأقل عرضةً للأمراض النفسية والاكتئابات والاضطرابات العقلية جراء عدم الاتزان الفكري . لأن الإيمان يوفر استقراراً فكرياً للإنسان بدلاً من الحرية التي تستلزم تغيير الأحوال ونفي الاستقرار .

وبما أن الحرية ليست حقاً بالإطلاق ، فإن القصد من الاصطلاح الحالي الذي تنادى باسمه هو "الهوى" المناقض للحكمة . فهي دعوةُ لنبذ الحكمة والعيش بالهوى متأرجحاً كيفما يشاء . وكفى بالهوى مذمةً .

لنعلم مرةً أخرى أن هذا الشعار ما هو إلا دعوى صريحة للباطل القائم على الهوى ، بل وبكل وقاحة ، الخروج على الحق القائم على الحكمة بدعوى أن الحقيقة نسبية. وهذه عين السفسطة الجدلية .

ولنكون أدق في وصفنا للحرية يمكننا أن نستبدل "الأفيون" بـ"مورفين" الشعوب . ففي دم كل إنسان توجد نسبةٌ من المورفين التي تقيه الآلام والتي يحتاجها كل فرد. وعندما يتعاطى الإنسان المورفين استزادةً للذة العاجلة يصبح إدماناً ، ولا يستطيع العيش بدونه . ويقاسي أشد آلامه عند خضوعه لعمليةٍ جراحية عندما لا يأتي التخدير بنتيجة ، فيحس بكل قطعٍ وجرحٍ في جسده أثناء العملية ، وهو الذي فعل ذلك بنفسه .

إذاً فما هي صفة الحرية إن لم تكن غايةً ولا مبدأً ولا حقاً ؟

صفة الحرية الحقيقية التي ينادي بها الأعداء ليست مبدأً ولا غايةً ولا حقاً ، ولكنها (حالٌ أو حالة) . ولا بد من إضافة الحالة إلى صفةٍ ما لكي تشكل جملةً مفيدة . فقد يكون حال إنسانٍ ما يعطيه الحرية ليصل إلى قطرٍ معين ، وقد يعطيه الحرية للسيطرة على فردٍ أو مجموعة ، وقد يعطيه الحرية للتعبير عن رأيه بكل صراحة ، وقد يعطيه الحرية لإقامة حربٍ وقتل الآلاف . وتتعدد الأحوال من القطر إلى القطر ، ومن البيت إلى الآخر ، ومن فردٍ إلى فرد ، بل من فردٍ إلى نفسه مع الزمن وتقلب طباعه .

نخلص إلى أننا متى ما سمعنا كلمة "حرية" ينادي بها مجتمعٌ من المجتمعات ، فهذا يعني أنهم يريدون تغيير "حال المجتمع" حيال قضية ما . فمصطلح "الحرية" ما هو إلا أداة "تغيير" ، وليست أي أداة ، ولكنها أداة تغييرٍ "ثورية" (راديكالية) .

فهم ينادون بها لتغيير (حرية-حالة) المجتمع إلى (حرية-حالة) أخرى ، لأن (الحالة) الأخرى تعطيهم (حريةً) ليغيروا أو بالأحرى يفسدوا كما يشاؤون ، وليتسنى لهم تحقيق مصالحهم . وهكذا يتنقلون بالمجتمع من حالةٍ إلى أخرى حسب أغراضهم ، ويسيّرون الشعوب البلهاء وراءهم ، وبالذات الشعوب الثورية مثل شعب فرنسا . لقد كان الشيطان محقاً حينما قال أنه يتلاعب بالغاضب كما يتلاعب الأولاد باللعب .

قد يقول قائلٌ إن بعض النظم تستحق التغيير لظلمها ، فلم تعذل من يريد تغييرها ؟
والجواب هو أنهم عندما يهاجمون نظاماً معيناً مرتبطاً بجزئية من منظومة كبيرة (كالإسلام) فإنهم يطعنون في المنظومة كلها . فإن تكلموا باسم المنظومة (الإسلام) (وهذا يعاكس غرضهم تماماً) لتغيير ما يعتقدون أنه خطأٌ في تطبيق إحدى الجزئيات بالاستناد إلى الأصول (كأصول الفقه والعقيدة الإسلامية) التي يقرون بها (الأمر الذي لا ولن يفعلوه) لقبلنا بذلك . ولكنهم يحاربون من يفعل ذلك ، ألا وهم (العلماء) ومن يسمونهم بـ"رجال الدين" مغالطةً . فلا يصلح أن يتكلم رويبضة العلمانية و الليبرالية المعادون للإسلام باسم "الإصلاح" فهم مفسدون في أنفسهم ولغيرهم ، ولكنهم لا يشعرون بأن إفسادهم إفسادٌ عليهم .

إن الأعداء لا يستخدمون مصطلح الحرية إلا لإثارة الثورات ، والتمهيد للانقلابات ، على جميع الثوابت التي نعتز بها ، والتي يريدون بهذا المصطلح القضاء عليها في سبيل تحقيق مصالحهم . والببغاوات الذين ينادون بهذه الشعارات طوال الوقت ما هم إلا مغفلون أو منافقون . فهم يدعون إلى التغيير المستمر على كل حال لكل شيء ، أي أنهم (متقلبو الأحوال) لأن الحرية ما هي إلا (تغير الحال) .

وأسلوب الأعداء هو أنهم يحرضون الجماهير ويثيرون حفيظتها تجاه قضية معينة باسم التحرر عبر تكرار ذلك في مختلف وسائل الإعلام حتى تصل الجماهير إلى قناعةٍ بضرورة تغيير تلك الحالة .(راجع: الأيديولوجية والمجتمع/موسوعة ويكبيديا).

وينتفي كل شكٍ في المبالغة عندما نسمع "روتشيلد" اليهودي الثري المرابي الكبير يقول لاثني عشر مرابياً آخر سخرهم لتنفيذ مخططات الحاخامين اليهود النورانيين :

( – إن الحرية السياسية ليست سوى فكرة ، فهي ليست أمراً واقعياً ، أي : إنها لا يمكن أن تصبح أمراً واقعياً .

فكل ما يقتضيه الوصول إلى السلطان السياسي هو التبشير بالتحرر السياسي بين الجماهير ، وعندما تعم هذه الفكرة تقبل الجماهير بالتنازل عن امتيازاتها وحقوقها التي تمنحها إياها الأنظمة الشرعية دفاعاً عن هذه الفكرة ، ويستطيع المتآمرون آنئذ ، الاستيلاء على جميع هذه الامتيازات والحقوق .

ولا خوف من تحقق الحرية السياسية بالفعل طالما أنها ليست سوى فكرة لا يمكن أن تصبح أمراً واقعياً .)

ويقول أيضاً:

(7 – يجب تبني "نفسية التجمعات الجماهيرية" للتمكن من السيطرة على زمام الجماهير ، والسبب في ذلك هو أن الجماهير عمياء وعديمة التفكير ، وسريعة الانفعال ، وأنها دوماً تحت رحمة أي تحريضٍ من أي طرف جاء ...

ولا يستطيع إنسان التحكم في الجماهير وتسييرها حسب مشيئته سوى حاكم طاغية ، والطغيان المطلق هو السبيل الوحيد لبناء الحضارة التي نريدها .

وفي اللحظة التي تسيطر فيها الجماهير على حريتها تنقلب هذه الحرية حالاً إلى فوضى .)

ويقول أيضاً :

( - لا يوجد مكان في العالم لما يسمى بـ"الحرية" و"المساواة" و"الإخاء" .

ليست هذه سوى شعارات كنا أول من تظاهر بتبنيها ، ووضعناها في أفواه الجماهير لترددها كالببغاوات .

إن النظام الطبقي الموجود حالياً مبني على أرستقراطية النسب وشرف المحتد ، وسوف نحطم هذا النظام باسم الشعارات المذكورة ، لنبني على أنقاضه نظاماً لا يقوم على أساس هذه الشعارات كما يتوهمون ، بل نظاماً طبقياً جديداً يقوم على أساس أرستقراطية الثورة .

وسيكون المال طابع الأرستقراطية الجديدة ، والمال كما تعلمون بأيدينا نحن .)

ثمّ أوضح "روتشيلد" للمؤتمرين وجوب الهيمنة على الانتخابات والتسميات للمناصب العامة .

(أما الطريقة للوصول إلى ذلك فتقوم على استخدام سلطان شبكات العملاء ، والدعايات الواسعة ، باسم شعارات تحررية مزعومة ، للتحريض على الفوضى والعصيان ، وتأليب الجماهير بحملات منظمة تقوم بتمويلها مجموعة الأموال العالمية التابعة للمؤامرة .)

ويقول أيضاً :

(18 – سوف نثير حماسة الجماهير وانفعالها إلى درجة قصوى ، عن طريق استعمال تعابير خلابة ، مثل (الحرية) و(التحرر) إلى آخره ...

وحينئذٍ يمكن توجيه جماهير "الجوييم" إلى تحطيم واكتساح كل شيء ، حتى القوانين الطبيعية والإلهية والخلقية .

وعندما نبلغ السيطرة النهائية أخيراً ، سيكون من السهل علينا أن نمحو اسم الله ، والقوانين الإلهية من الطبيعة .)كواشف زيوف- عبد الرحمن الميداني .

فهل ترى يتعظ المسلمون ، ويقلعون عن هذه السخافات ، أم تراهم يفضلون أن يبقوا على بلاهة "الجوييم" ؟