المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نَظْرَاتٌ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدودِ فِي الاسلام



ماكـولا
03-05-2013, 01:11 PM
الحمدُ للهِ ربّ العالمين , والصلاةُ والسلامُ على النبيّ الأمين ,وعلى آله , وإخوانه , إلى يومِ الدين , أما بعدُ:
قد جاء الاسلام بحفظ اساس الضرورات وهي خمس ( الدين , النفس , العقل , المال , العرض ). وعليها تنبني مصالح الدنيا والدين ! وجماع ذلك في يتركز في دين الله سبحانه , إذ لا عدل له ! وشرّع الله في هذا الدين ما يحفظ للعبد عليه أمنه واستقراره , وعقله وعرضه وماله ! ., ثم انه سبحانه قد قضى على كل معتدٍ لهذه المصالح حدوداً تليق بها , من حيث المعتدي , ومن سولت له تقليده , ومن ثم ومراعاة جانب المجتمع , والحفاظ على القيمة التي تحفظ سلامة المجتمع من الانحراف .

فقد شرع سبحانه لعقوبة الزنا للزاني البكر-الغير محصن- بالجلد , في طائفة من الناس , ومن ثم النفي , وقد أمر الله أن لا تأخذنا الرأفة وشفقة عليهم حال اقامة الحد , لان الذلة في هذا الموطن والتوبة لا تكون الا بعد ايقاع الحكم من التغريب والجلد والفضيحة ! ليذوق وبال أمره , وليكون عبرةً لكل من سوّلت له نفسه القيام بهذا الامر !
فلو اندفعت شهوة أحدهم للقيام بفاحشة الزنا , لكان أمام أمرين : اما الاقدام أو الإحجام ! , فلو تذكر حال المجلود وفضيحته ومس الجلد , وغربة التغريب عن الاوطان ! وعذابه النفسي بتغير وجوه من حوله , وانحسار الاحبة عنده , حتى تمحى ذكرى فاحشته لامتنع عن الاقدام ! .
اما وان تذكر حال بعض العصاة , والمردة في تقلبهم بين أحضان الزنا , ونشرها على أنها فضيلة , ومنقبة للزاني , وشجاعته في اقدامه دون ادنى عقاب , بل كانت مباركات لهذا العمل , لانتشرت الرذيلة , وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً , وانتشرت آثار الزنا في جنبات الطريق , حتى يُصيّر لها سوقٌ لاتجار بالاعراض والبغاة , والنخاسة ! وتصير المرأة سلعة يتجر بها , بسبب ما يدفع المرء للاقدام لمثل هذا العمل لعدم وجود عقوبة تشريعة تجرم هذا الفعل بحسم وقوة تليق به .

فلو قُدّرَ: بأن طفلاً صغيراً أهوى بيده على عين أبيه فضربها وأضر بها ! , فما العقوبة المناسبة لهذا الطفل ؟ - الضرب , التوبيخ - الحبس ؟ , والجواب لا شيء عليه !
فالاسلام راعى حال الفاعل , وراعى الفعل , والملابسات التي تلبس بها حال فعلته , حتى يتحقق فيه الجرم أولاً ومن ثم تتحقق العقوبة المناسبة لمثل هذه الواقعة !

وكذلك بالنسبة للزاني المحصن , فهذا ما يريد الستر ولا العفاف , ولا المحافظة على أعراض الناس والغض عن عوراتهم , والحفاظ على نسلهم من الاختلاط ! فهو ساعٍ لمحق الغيرة و ... فكانت العقوبة من الله عليه بالرجم , اذا تحققت جريمة الزنا , وشهد أربع شهود عدول على ذلك , وهذا ليست بالسهولة بمكان ! وهذا يدُل على كثرة مزاولته وتكرر ذلك منه في الغالب ! ,وكذلك حال بالنسبة للسرقة , وكذلك الحال بالنسبة للخمر ... الخ .

بل لم استشرت الخمر -التي هي بحق أم الخبائث- في الولايات المتحدة , وعاد ضررها على المال والنفس والمجتمع وعلى الحريات , استطاعت حركة رأي عام فاعلة في الولايات المتحدة حمل السلطة الاتحادية على اجراء التعديل الثامن عشر على الدستور، الذي يقضي حظر الخمور. فقد رأوا أن الخمر تذهب بقوى العمال وتضعف صحتهم وتقلل من جهودهم في العمل. أما أصحاب الزراعة في الجنوب فيعتمدون في زراعتهم على الزنوج، وهؤلاء كانت تذهب الخمر بألبابهم وتقعدهم عن العمل، وتتركهم في حالة زرية.

والزنجي أقل قدرة على ضبط نفسه والوقوف في الشراب عند حد. وكان هناك جماعات يكرهون الخمر لذاتها، ويريدون أن يخلصوا الناس من شرورها...هذه الجماعات بذلت جهوداً جبارة ومالاً كثيراً للوصول إلى التعديل الدستوري الذي حرّم بيع الخمور وصنعها والاتجار بها واستحضارها من الخارج... في خطوة شدّت أنظار العالم كله، وجعلت بعض المصلحين يحلمون بأن سنّة التحريم ستنشر إلى سائر الأقطار.

لكن في الظل انتشرت الحانات الخفية،وأخذت تنمو تجارة الخمور وتكبر، حتى أصبحت كلمة عصاباتها نافذة في الحكم، وانتشر الاجرام بين هذه العصابات، كما بينها وبين العصابات المنافسة لها، وبطريق العدوى تجاوز الاجرام دائرة تجارة الخمور إلى الإجرام في نواح أخرى كالاختطاف والسلب والنهب... عندها أيقن الرأي العام فشل التجربة النبيلة فشلاً محزناً، وأعلن المستر فرانكلين روزفلت أن من مبادئه إلغاء التحريم الذي تم أوائل هذا الشهر (كانون الأول 1933) بعد موافقة ست وثلاثين ولاية على إلغاء التعديل الثامن عشر للدستور."

فـ قامت الولايات المتحدة الامريكية بخطط للحد من هذه الظاهرة فقامت بحملات تثقيفية بدايةً فقرر مجلس الشيوخ الأمريكي (الكونجرس) أن يكون في عام 1930م يبدأ فعلياً منع شرب الخمر وعدم بيعه أي منع ترويجه مهما كانت الأسباب وجهزوا قبل بدء تنفيذ القرار بسنتان حملة دعائية كبيرة جداً لجميع الولايات الأمريكية ، وعملوا ميزاينة لهذه الدعاية ، ومبلغ وقدره 650000000 (خمسة وستون مليون دولار ) وبلغت عدد الصفحات الدعائية لمنع الخمر ، (90000000) تسعمائة مليون صفحة ، وبلغ تنفيذ القرار 1500000 (مليار وخمسمائة مليون دولار).

وعندما بدأت الحكومة الأمريكية في تنفيذ القرار الفعلي على الشعب ، بدأت المشاكل فدخل السجن 500000 (خمسمائة الف سجين) وذلك لأنهم لم ينصاعوا للقرار وصوردت وممتلكات من مروجي الخمر بلغت قيمتها 4500000 ( اربع الاف وخمسمائة الف دولا) وقتل 200 (مئتان شخص من المعارضين للقرار.
وعندما رأى مجلس الشيوخ الأمريكي (الكونجرس) صعوبة تطبيق القرار ، تم الغاءه في عام 1933م أي بعد ثلاث سنوات من بدء تطبيق منع" الخمر" في امريكا.(مدخل دراسة الشريعة الإسلامية للدكتور عبد الكريم زيدان)

فالاسلام جمع بين ذلك أجمع . يقول السيد سابق -رحمه الله- في فقه السنة - " الاسلام منهج كامل للحياة فهو: دين ودولة، وعبادة، وقيادة، ومصحف وسيف، وروح ومادة، ودنيا وآخرة، وهو مبني على العقل والمنطق، وقائم على الدليل والبرهان، وليس في عقيدته ولا شريعته ما يصادم فطرة الانسان أو يقف حائلا دون الوصول إلى كماله المادي والادبي - ومن دخل فيه عرف حقيقته، وذاق حلاوته، فإذا خرج منه وارتد عنه بعد دخوله فيه وإدراكه له، كان في الواقع خارجا على الحق والمنطق، ومتنكرا للدليل والبرهان، وحائدا عن العقل السليم، والفطرة المستقيمة. والانسان حين يصل إلى هذا المستوى يكون قد ارتد إلى أقصى دركات الانحطاط، ووصل إلى الغاية من الانحدار والهبوط، ومثل هذا الانسان لا ينبغي المحافظة على حياته، ولا الحرص على بقائه - لان حياته ليست لها غاية كريمة ولا مقصد نبيل هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الاسلام كمنهج عام للحياة، ونظام شامل للسلوك الانساني، لاغنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه، فإن أي نظام لا قيام له إلا بالحماية والوقاية والحفاظ عليه من كل ما يهز أركانه، ويزعزع بنيانه، ولاشئ أقوى في حماية النظام ووقايته من منع الخارجين عليه، لان الخروج عليه يهدد كيانه ويعرضه للسقوط والتداعي. إن الخروج على الاسلام والارتداد عنه إنما هو ثورة عليه والثورة عليه ليس لها من جزاء إلا الجزاء الذي اتفقت عليه القوانين الوضعية، فيمن خرج على نظام الدولة وأوضاعها المقررة.إن أي انسان سواء كان في الدول الشيوعية، أم الدول الرأسمالية - إذ اخرج على نظام الدولة فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده، والخيانة العظمى جزاؤها الاعدام. فالاسلام في تقرير عقوبة الاعدام للمرتدين منطقي مع نفسه ومتلاق مع غيره من النظم."

يقول الشربيني " وفي القوانين الوضعية المعاصرة أي إنسان يعتدي على النظام العام للدولة في أي أمة من الأمم سواء كان نظامها شيوعياً أو رأسمالياً أو غير ذلك يتعرض للعقاب ، وقد يصل الأمر في ذلك إلي حد تهمة الخيانة العظمي ، التي تعاقب عليها معظم الدول بالإعدام ! .. " و يقول " ومع تقرير الإسلام الحرية المطلقة في اختيار العقيدة ، إلا أن تلك الحرية تقف عندما تبدأ حرية الغير وحقوقه , فكل فرد حر في أن يعتقد ما يشاء ، وأن يتبني لنفسه من الأفكار ما يريد ، حتى ولو كان ما يعتقده أفكاراً إلحادية ، فلا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك طالما أنه يحتفظ بهذه الأفكار لنفسه ، ولا يؤذي بها أحد من الناس ,أما إذا حاول نشر هذه الأفكار التي تتناقض مع معتقدات الدين الإسلام ، وتتعارض مع قيم الناس التي يدينون لها بالولاء ، فإنه بذلك يكون قد اعتدي على حقوق هذا الدين وحقوق معتنقيه .ومعروف أن الإسلام عقيدة وشريعة ، دنيا وآخره ، وبتعبير عصرنا دين ودولة ,فقتل المرتد عن دين الإسلام حينئذ ليس لأنه ارتد فقط ؛ ولكن لإثارته الفتنة والبلبلة ، وتعكير النظام العام في الدولة الإسلامية ! . " ويقول " وخيانة الوطن في السياسة جزائها الإعدام ، ولن تكون أقل منها خيانة الدين ! .ونتساءل بعد ذلك الإستعراض :هل من حرية الفكر والإعتقاد أن يسلم رجل ليتزوج امرأة مسلمة ، فإذا نال مبتغاه منها وتحولت عاطفته عنها رجع إلي دينه الأول .... ؟أو هل من حرية الفكر أن يتصل شخص بأعداء أمته ، وينقل إليهم أسرارها ، ويتآمر معهم على مستقبلها ؟إنه لا بد من التفريق بين العبث بالدين أو خيانة الوطن وبين حرية الفكر ! فالمسافة شاسعة بين المعنيين ! "

وهذا ما كان عليه اهل الكفر قديماً كما أخبر الله "وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"
قال الحافظ ابن كثير " يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين، وبغيهم إياهم الإضلال، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم، ثم قال تعالى منكراً عليهم {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها {يَأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه {وَقَالَتْ طّآئِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِيَ أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوَاْ آخِرَهُ} الآية، هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح، فإذا جاء النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس: إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيضة وعيب في دين المسلمين، ولهذا قالوا {لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ} ."

وقال القاسمي " قال الرازي : الفائدة في إخبار الله تعالى عن تواطئهم على هذه الحيلة من وجوه :
الأول : أن هذه الحيلة كانت مخيفة فيما بينهم وما أطلعوا عليها أحدا من الأجانب ، فلما أخبر الرسول عنها كان ذلك إخبارا عن الغيب فيكون معجزا .
الثاني : أنه تعالى لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة لم يحصل لها أثر في قلوب المؤمنين ، ولولا هذا الإعلام لكان ربما أثرت في قلب بعض من في إيمانه ضعف .
الثالث : أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على أمثالها من الحيل والتلبيس ."
وفي اثبات الحد في المرتد قطعٌ لدابر الفتنة من أصلها ! فبكفالته , يكفل للمسلمين انهيار دينهم باخراج افراده منهم لاجل تلكم الشبهات مع تسويلٍ منمق للحريات , وتقدم العلم , ومعارضة الدين لذلك , والتاخي , ونشر السلام والمحبة والوئام , وجميع ذلك يقوم على اماتة الغرائز والغيرة في القلوب , وعلى ان الامور هينة , والسلام المبني على حطام الاخلاق والفضائل .

وقد وصف الطاهر ابن عاشور ما رميت اليه وصفاً دقيقاً حيث قال " وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به، وفيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى: {لا إكراه في الدين} على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام." ا.ه
إذ أن المترد باترداده عن ملة الاسلام لا يخلو حاله أما أن يكون ارتداده لهوىً في نفسه أداه الى تكذيبٍ وجحودٍ واستكبار وتنزه عن الطهر والعفاف , والحدِ من الرذيلة , وشيوع الفاحشة في الناس , فهذا ضرره كضرر الجُزء المُغرر في الجسد , لان لم يُقطع لفسد الجسد أجمع !

والمرتدُ على أحوال : قد يَرتدُ بكلمة الكُفر , والانتقاص بالقرآن , او الوقيعة بسيد ولد آدم , فيقول القائل ! فأين الفساد الذي قررتموه في مقولته هذه , واستحقاقه للقتل ؟ مع كونه أتى بكلمة , او حركة , فهل تقابل عندكم الكلمات بالسيوف والطعنات ؟
فيقال : ربُّ كلمة، أزلّت نعمة! ، وقال الشاعر: إن كان في العيّ آفات مقدرة ... ففي البلاغة آفات تساويها ! , وعلى هذا النسق لربما قامت الكلمة مقام السيوف , وكم من كلمة أحبطت كثيراً من الاذكياء , وكم من كلمة خدشت عقد الحياء ..وكم ... الخ .. فالعبرة بما وراء هذه الكلمة , فان الانتقاص بكلمة الاسلام أو القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم انتقاص لما تحمله هذه الكلمة من الشرائع والعبادات وتعظيم الله , والحدود وحفظ الامن والدنيا والدين ! ولذلك لما استهزئ أحدهم بالعلماء نزل جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له أدرك القوم فقد احترقوا ! فقالوا يا نبي الله لقد كنا نتحدث حديث الركب ! أي لم نقصد , وما فتئ النبي صلى الله عليه وسلم يتلو " قلُ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد ايمانكم " ! مع انهم لم يستهزؤوا بالله ولا برسوله ولا بآياته , إنما سخروا من العلماء ! ولكن لما كانت العلماء علماء ربانيين قائمين بما عملوا , فقام الله والرسول واياته في صدورهم , كان الاستهزاء بهم كالاستهزاء بأحدٍ من أفراده ! ومن ناحية أخرى سَهل أن يطعن في دين الاسلام من ناحتين 1- من ناحية أن يقال / اذا كان هؤلاء هم العلماء بكثرة أكلهم وجبنهم وخورهم وضعفهم وكذبهم ! فلا جرم أن ما تمخضوا عنه هو نتاجٌ لهذه الصور ! 2- أن هذا يورث الصد عن سبيل الله ! فلا يصل احد الى مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , لاجل ما نبزوا به , فيحق فيهم قولهم ياعلماء الامة ياملح البلد ... من يصلح الملح اذا الملح فسد ! فصلاح الامة بصلاح علمائها وفسادهم بفسادها ! , فلو نبز عالم بلد او حتى تلبس بشيء مما ينتقص , لصد عن سبيل الله شعر أم لم يشعر , ولصار فتنة للذين كفروا أم يرتدوا , ولتجرأت العامة على المنكرات والفواحش والربا والغش والخداع والكذب .. لخلو القدوة الناصح الامر بالمعروف والناهي عن المنكر , لقدح فيه , أو لتسلط السفهاء عليه , فلا وازع ساعتئذ , وجميع ما ذُكر كان بكلمة !!

ولو قيل / لو قدّر أن ارتداده كان خفياً وكان محافظاً على جملة من الاخلاق فأين فساده وضرره وتعديه ؟ فكان ارتداده كفراً بالله أو تكذيباً لاياته او لرسله او اليوم الاخر .. الخ؟
يقال : لا يتصور مرتد لا تظهر صورة ردته لا بقولٍ ولا بفعلٍ ولا بتقريرٍ ! والمرتد انطوى بردته بخبث مهما انطوى على الاخلاق ! فكفره بالله لا يكون الا جحوداً اعراضاً أو تكذيباً أو شكاً او عناداً واستكباراً ! على الكامل في كماله وتشريعاته , فلا بُد أن يظهر ما يخالف ما جاءت به الشرائع السامقة من الاخلاق الكاملة , اما باعتراضٍ على الحدود أو تشكيك في الايات والوعود ! ومجرد الطعن في الرسل او الخالق او الشرائع , هو هدم لما مضى من العمل على بناء مجتمع كامل الاركان , مزيا بالعفاف ,والامان , وكف الاياد عن الممتلكات والاعراض ! اذا ان الله سبحانه هو أساس العمل الصالح , فلا يستقيم لمرتد عمل صالح بلا امل , ولا رجاء له فيه يجازى عليه ! فالنفعية مما لا بد منها , الا ان المسلم نفعيته آجلة , والكافر نفعيته عاجلة ! , فعاد الامر الى ما قررناه ! اذ انه لو قدّر بانه كفر بآية أو برسولٍ من الرسل أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة , لكان لهوىً في نفسه , فسرعان ما يجتذبه عاجلاً أم آجلاً الى أن يُعمد هذا المنطق في بقية شوؤن الشريعة , ولو سلمنا جدلاً باكتفائه , لكان مفتاحاً لباب شرٍ يدخله على المسلمين من اعدائه , أو كان مسوغاً لغيره ليقوم بتحريف وكفر جزئي فسرعان ما يتطور الامر الى معاول هدم لاجل رجل واحد , باعتقاد واحد ! فكان انزال العقوبة اللازمة به حسماً لمادة الشر !

فالحاصل أن في قتل المرتد صيانة للدين بجميع جوانيه السياسية والقضائية التشريعة والاقتصادية والتعبدية , فيكون بمثابة المُنسلِ من الجيش المقاتل , لما يضفي على عسكره من الخوف والجُبن من مواجهة العدو , وتمهيداً للانسلال المزيد بتذرعات لا ترقى مما يسبب الهزيمة , واستباحة بيضة الجيش من قبل اعداءه , فتنتهك الاعراض , وتسترق الذرية , ويشاع الفساد ! فكان في قتل هذا المنسل الحفظ والسلامة للباقين ! فلو تركوه لهلك الجيش وما وراءه , ولو أخذوا على يديه لأفلحوا ونجو !

فصار المساس بالدين مساساً للمنظومة كاملة , كحال عقدٍ ما أن ينفرط حتى تتابع خرزاته ! "فتحريم القتل ووجوب القصاص فيه صيانة للأنفس والكف عن الاقتتال وارقة الدماء بين الناس , وتحريم الخمر ووجوب الجلد فيها صيانة للعقول, فاذا غاب العقل فلا تسل عن أعمال اللاعقلانية ! , وتحريم الزنا ووجوب الحد فيه صيانة للنسب , وتكريماً للمرأة من أن تكون سلعة تسترق في دور النخاسة , كما وتعمل على نشر الغيرة و الفضيلة ,ثم وتحريم السرقة ووجوب القطع فيها صيانة للمال وحماية للمتلكات وان مشاعاً لكل من هب ودب , فيضيع كد الرجل ! , وتحريم القذف ووجوب الحد فيه صيانة للأغراض من ان تمتهن ! بمثل هذه المنطومة يطيب العيش والمرتد بمثابة الجاحد لها او المعرض عنها والمُبدل ويعمل عمل المحفز للتخلي عن هذه القيم , بعطفه على التجرأ عليها او السكوت عنها او الجحود والتكذيب , فيتقوض البناء !

فكان في ايقاع العقوبة به ومحو آثاره سلامةً للمجتمع , اذ أنه كما تقرر أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح , فبالجملة ان المرتد عابث بضروريات الدين وليس بكمالياته ! اذ انه لن يكون مرتداً بل سيكون ضالاً او مبتدعاً , فالاترداد يكون في أصل الدين ولا يكون في فرعياته , اضافة الى انه يستتابه وينصح ويناظر ويناقش وتقام عليه الحجة ثم يقتل,وثمة شبهات كثيرة في هذا الموضوع الا ان حسبنا ان بينا المقصد الذي لاجله شرع قتل المرتد , لما فيه من زعزعة , للمؤلفة قلوبهم , والصد عن سبيل الله , تهييج الرأي الاخر على المسلمين وتقوية شوكتهم ! , رفضه التام او الجزئي للشريعة الكاملة التي تُبنى على اساس حفظ المجتمع وسلامته .
والله اعلم .

جوكر السلام2
03-06-2013, 02:53 AM
جزاك الله خيراً يا شيخنا المبارك

الأن عرفت الغاية من حكم قتل المرتد