المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عقائد فلسفيه خلف صياغة القوانين الطبيعيه (1)



خالد الفيل
03-09-2013, 02:41 PM
بقلم أ.د. محجوب عبيد طه : وهو فيزيائي سوداني شهير له عدد من براءات الإختراع , ولها أبحاث في إسلامية المعرفة .

ملخص : توضح هذه المقاله أن الحقائق التجريبيه و التعميمات التي تستنتج منها و القوانين الطبيعيه التي تبنى عليها يمكن أن تنتهي الى صياغات مختلفه يعتمد كل منها على موقف فلسفي خفي يدخل مفاهيم جديده لا تقتضيها الظواهر التجريبيه , و يوضح تحليل أمثلة معينة أن أكثر من موقف فلسفي يمكن أن يرتب على ذات الحقائق العلميه و أن تجريد الصياغه من محتواها الفلسفي الخفي يعطي تعميمات لا تثير أيا من الاشكاليات التي تثار عادة حول ما يترتب على العلم الطبيعي من فكر و فلسفه.
1- عن القانون الطبيعي:
هناك مفاهيم شائعة عن ماهية العلم الطبيعي و وظيفته , عند عامة المثقفينو أحيانا عند بعض العاملين في البحوث العلمية , مصدرها الكتب المدرسية و الصحف العامة و المقالات السطحية عن العالم المثالي للعلماء الطبيعيين . ملخص هذه النظرة الشائعة أن العلم الطبيعي و قوانينه و نظرياته نتاج فريد لا يخضع للاختلاف بين البشر و لا يختصم حوله من أدركه و وقف عليه , اذ التجربة المعملية هي الفيصل في كل جدال حول مسألة علمية . و الحق أن هذا يصح على جزء من العلم الطبيعي , يصح على قائمة الملاحظات بعد اجراء التجارب على ظاهرة تجريبية معينة . و لكن قوائم الملاحظات , التي سجلها الانسان أو سجلتها المعدات الآلية , ليست الا البداية و العمل العلمي الحقيقي ينتج عن تفاعل الفكر البشري مع هذه القوائم و عما يضفيه عقل الانسان عليها من التسبيب و الربط المنطقي المتماسك . هذا التنظير الانساني ضروري و أساسي و يشكل حقيقة روح العمل العلمي . و بسبب هذا فان العلم الطبيعي في المكان الأول تجربة بشرية تخضع لما تخضع له التجارب البشريه كافة من اختلاف بين الناس و خصومة حول العمل : معناه و جدواه و منتهاه .
و لعلي أعطي مثالا يوضح المقصود هنا . خذ الجاذبية: من الممكن أن نسجل قوائم كثيرة تملأ بها على مر الأيام آلاف الصفحات , تعطي معلومات عن سقوط الأجسام على الأرض : شكل الجسم , حجمه , كثافته , نوع مادته , ارتفاعه , زمن سقوطه , نوع التربه التي سقط عليها , عمق الحفرة التي أحدثها ...الخ ...دفاتر معملية شاملة و مكتملة تحوي كل " الحقائق " و لكنها لا تحوي "علما" . ينتج العلم عندما يتدبر الذهن البشري هذه القوائم و يتفحصها من كل الوجوه الممكنه و يحاول الربط بينها بحيث يمكن ايجازها في عبارة موحدة (رياضية كانت أو نثريه).
و يصل الانسان لبداية علم الجاذبية ( بعد قرون من العمل العلمي المنظم ) عندما يعلن أن الاجسام تسقط نحو سطح الأرض بتسارع واحد , ثم تمر عقود و يعلن عن قانون الجاذبية العام و عن الربط بين سقوط الأجسام على الأرض و دوران القمر حول الأرض و الكواكب حول الشمس , ثم تمر قرون و يعلن عن النظرية النسبيه العامة و عن الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية في تشكيل السدوم الكونيه و المجرات . و مع ذلك فان علم الجاذبية ما يزال "مفتوحا" و يختلف حول نظرياته الباحثون . اذ هناك أكثر من نظرية و أكثر من "فلسفة" "تفسر" قوائم الملاحظات و لا تميز بينها التجارب المعملية و المشاهدات الفلكية المعلومه . بل اننا فوق ذلك لا ندري عن " ماهية " الجاذبية شيئا , اذ ينحصر سعينا في التوصل لقانون رياضي محكم يعطي وصفا دقيقا للكيفية التي تتحرك بها الجسيمات تحت قوة الجاذبية . أما طبيعة الجاذبية, ماهيتها , كنهها , مصدرها فمن غير الممكن أن تجدي فيه الوسائل المتاحه للعمل العلمي , و في الواقع لا يبدو ممكنا تعريف مثل هذه المفاهيم تعريفا يدخلها في نطاق البحث التجريبي . و مثل هذا يصح على كافة القوى الطبيعيه المكتشفه : القوى الكهربائية و المغناطيسيه و النووية . و يمكن القول بصفة عامة بأن العلم في المستوى الأساسي لا يبحث عن ماهية الموجودات و كنه القوى التي تحكم سلوكها و انما يبحث عن المكونات الأولية للموجودات و عن القوانين التي تضبط عمل القوى التي تحكم سلوكها ..و العلم الأساسي يستهدف استنباط القوانين الطبيعية بين المكونات الأساسية لمادة الكون . فما هو القانون الطبيعي و كيف يتوصل اليه ؟.
لا شك أن المنهج التجريبي قد تطور كثيرا عبر القرون و استفاد ,ليس فقط من الوسائل التقنية المتاحة للتجريب المعملي في كل مرحلة , و انما من التنظير و أساليب التفكير العلمي التي أثبتت جدواها في تنظيم الحقائق و ربطها . و قد بلغ هذا التطور الحد الذي يمكننا الآن من تحديد الكيفيه العامة التي ينتهي بها البحث لصياغة قانون عام , على الأقل في المباحث التي بلغت درجة عالية من النضج و الدقة مثل الفيزياء المعاصرة . تبدأ هذه الكيفية بتحديد الحالة العامة للنظام قيد الدراسة عن طريق تسجيل المتغيرات المقيسة التي تميز حالة للنظام هن غيرها . ثم تجري التجارب لرصد القيم المختلفة لهذه المتغيرات مع تطور النظام, أي رصد مسار تحول النظام من حالة الى أخرى .ثم يبحث في هذا المسار عن الخواص التي لا تتغير مع تطور النظام , اللامتغيرات أو الثوابت .هذه الثوابت تعطي "قوانين البقاء " للنظام . و بالتدقيق في قوانين البقاء لمجموعة متماثلة من النظم تقدم فرضية لقانون عام يقتضي قوانين البقاء المشاهدة. ثم يختبر هذا القانون بمقارنة تنبؤاته مع التجارب على أوسع نطاق ممكن , و ينظر في امكانية استنتاجه من نظريات أعمق و أشمل . هذه النظريات الشاملة تشكل نماذج رياضية لمجموعات كبيرة من الظواهر الطبيعية تنتظم تحت تفاعلات أساسيه واحده .
من هذا العرض المقتضب للاستراتيجية التي تمكن من التعميم العلمي المفيد , يتضح أن هناك مستويات مختلفة للتنظير : (أ) مستوى قانون البقاء , و هو تعميم لصيق بالتجربه و يبنى مباشرة على المشاهدة و القياس . و صيغة قانون البقاء أن دالة معينه , تعتمد على المتغيرات المقيسة , تظل بقيمة ثابتة خلال تحول النظام من حالة الى أخرى .
و بسبب قرب قوانين البقاء من التجريب فانها تشكل الواجهة الأولى عند مهاجمة التجارب النظرية , و هي ركائز يقوم عليها البناء النظري . و لذلك ففان لسقوطها دويا متى سقطت بتدقيق التجريب و تطوير المعدات , كما حدث عندما انهار قانون بقاء الانعكاس المكاني في عام 1957 م ثم قانون بقاء بقاء مضروب الانعكاس المكاني و تضاد الشحنه في عام 1964 م. و يتابع الفيزيائيون حاليا التجارب العديدة التي ظلت تجري منذ سنوات لاختبار قانون بقاء عدد الباريونات , الذي يقول بعدم امكانية تلاشي البروتونات .
(ب) مستوى القانون العام و هو فرضية تصاغ بحيث تضمن صحة قوانين البقاء المعلومة, و تشكل قاعدة رياضية لمناقشة ظواهر عديدة تشترك في التفاعلات المؤثرة مع الظواهر التي قادت الى قوانين البقاء .و اذ ان الانتقال من قوانين البقاء للقانون العام ليس فريدا فاننا نجد عادة عدة فرضيات رياضية , يعطي كل منها قوانين البقاء المطلوبه و تختلف خارج نطاق التجارب المعلومه .و الفرضيات التي تظل في الساحة هي تلك التي لم ترفضها التجارب بعد .
(ج) مستوى النظرية الشاملة و تعطي الصيغة الرياضية الموحدة التي يرد بها التفاعل الأساسي , قيد الدراسة , في كل المجالات التي يؤثر فيها .و تكون صيغة التفاعل عادة حدا معينا في دالة مؤثر الطاقة , يستوفي الشروط التي تحقق قوانين البقاء المطلوبة وتعطي أشكال القوانين العامة لمجموعة الظواهر المعينة التي يختص بها كل من هذه القوانين. و يتضح من هذا أن في النظرية الشاملة زيادة كبيرة على التجربة اعمالا ابداعية للفكر البشري من أجل توسيع رقعة صحة المعلومات التجريبية و تعميق المفاهيم المنبثقة عنها.
و لعلنا في نهاية هذه الفقرة نعطي مثالا لمستويات التعميم المذكورة, و لنأخذ مجال الكهرباء . على المستوى (أ) نجد قانون بقاء الشحنة الكهربائية : مجموع الشحنات الكهربائية يظل بقدر ثلبت قبل و بعد التفاعل . و على المستوى (ب) نجد عددا من القوانين العامة التي تصف تفاعلات محددة يرد فيها الفوتون , مثل تفاعل الفوتون و الالكترون , أو تفاعل الفوتون و البروتون أو تفاعل الفوتون و الالكترون و مضاد الالكترون . أما على المستوى (ج) فنجد النظرية الكهرومغناطيسية التي تصف سلوك الجسيمات المادية في المجال الكهرومغناطيسي بصفة عامة و تحوي في صيغة رياضية موجزة و محددة تماما كل الخصائص التجريبية المعلومة للظواهر الكهربائية و المغناطيسية.
و انتقل الآن للحديث عن التداخل بين العقيدة الفلسفية و صياغة القوانين و النظريات العلمية , بعد أن مهدنا له بتوضيح أثر الفكر الانساني في التعميم النظري للحقائق التجريبيه.

shahid
03-13-2013, 08:34 AM
مقال رائع وله بقية .. وبالفعل البروفيسور محجوب عبيد له مقالات فكرية عميقة الا انها بكل اسف قابعة في بطون المجلات ولم ينشر منها على الشبكة الا النزر اليسير .

د. هشام عزمي
05-27-2013, 12:18 AM
نحن بحاجة إلى المزيد من هذا النوع من المقالات .