المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الواقعية



يوسف مراد
12-23-2004, 06:26 PM
من كتاب /
العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة

لفضيلة الشيخ سفر الحوالى

كانت الرومانسية بخيالها الجانح صورة صادقة لعصرها عصر الهروب، الهروب من طغيان الكنيسة، الهروب من نير الإقطاع البغيض، الهروب من تقاليد الماضي المرير، 5 وجاءت الثورتان الفرنسية والصناعية، وجاءت الحروب الدينية والقومية ، وتغيرت ملامح الحياة تغيراً بارزاً، فكان لا بد لصورة الحياة الأدبية أن تتغير كذلك.

كانت أوروبا الكلاسيكية والرومانسية قد عادت كما أسلفنا إلى الوثنية ، وعبدت الإنسان أو الطبيعة بطريقتها الخاصة، أما الآن فالصورة تتخذ مظهراً أخر فلم ينحصر الاهتمام بالإنسان دون الإله فحسب، بل اقتصر - من الإنسان- على وضعه الدنيوي ومكانته الاجتماعية، على واقعه المعيشي وجزء معين من نزواته ورغباته والظروف المحيطة به التي يتأثر بها سلباً وإيجاباً.

هذا التحول من الإنسانية بمفهومها الكلي عند الكلاسيكيين، ومن الطبيعة والمثالية الفردية عند الرومانسيين إلى الإنسان العادي المشخص سيتخذ سريعاً صورة وثنية جديدة تعبد الإنسان وتحل محله الإله.

وكعادة أوروبا -لا تعرف الطريق السوي ولا الموقف الوسط- سقطت سقوطاً مفاجئاً من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط.

كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية في مواجهة تحدي الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه، فجاءت الواقعية لتصوره في أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط في لحظات الضعف القاتلة.

كان يصارع الأقدار ويحاول إخضاع الطبيعة، فإذا به ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة.

لقد أخذ الواقعيون على الرومانسيين مآخذ -ليست بعيدة عن الحقيقة- فهم ينكرون عليهم إهمالهم لشئون الجماهير، وإغفالهم لحقوق الإنسان المهدرة، وسكوتهم عن المظالم التي يعج بها المجتمع في حين كانوا محلقين بأحلامهم بحثاً عن الجمال والروعة والمثالية، جاعلين هدفهم الأسمى الفناء في الطبيعة.

بل قالوا -والتاريخ يسعفهم بشيء من الأدلة- إن الرومانسيين كانوا من الطبقات الأرستقراطية أو من المقربين إليها، وكانوا شعراء البلاطات وندماء الأباطرة، فهم وأدبهم جزء من ذلك الواقع الظالم الذي يجب رفضه إلى الأبد.

وأخذ عليها أنها في كل أعمالها الفنية كانت تقتصر على تصوير الإنسان المثالي واللحظة المثالية والمنظر المثالي، متناسية أن البشر المثاليين هم قلة نادرة في الناس، ومتخلية تماماً عن الإنسان السوي والحياة العادية بكل مشاكلها ومظاهرها إلى آخره، ما أخذوا وما نقدوا، فبالاعتماد على مثل هذه المبررات رفض أولئك الرومانسية وعابوا فنانيها، لكنهم لم يرفضوها -بالطبع- لأنها حركة وثنية متسترة، بل إن المتأمل لا يجد في تلك المبررات العديدة ما يشير إلى ذلك.

ولذلك فبديهي أن ينتقل الفن من انحراف إلى انحراف، ومن وثنية إلى أخرى شاء ذلك الواقعيون أم أبوا، ولعل في تتبعنا لخطوات الواقعية الأولى وملامحها ما يلقي الضوء على ما نقول.

الأهداف الأولى للحركة الواقعية :

شغل الواقعيون الأوائل أنفسهم من خلال رواياتهم التي انتزعت مكان الصدارة من الشعر الرومانسي بنقد ومناقشة أحوال الفرد والمجتمع، وهذا ليس انحرافاً - بالطبع - بل هو أمر مطلوب، ولكن الانحراف جاء من جهة الموقف الذي اتخذه أولئك من الدين والأخلاق والتقاليد أثناء تصويرهم للمشاكل الإنسانية الواقعية - هذا إذا سلمنا أن هدفهم هو تصوير المشكلة وعرضها، وليس شيئاً في أنفسهم يريدون تقديمه من خلال ذلك التصوير، 6 وهذا الموقف الذي يضعنا على أول الطريق إلى الوثنية المعاصرة - تركز في قضيتين متقاربتين :

الأولى - الثورة على التقاليد الإقطاعية والمسيحية ، وذلك قد لا يعدو في الحقيقة أن يكون جزءاً من الثورة على طغيان الكنيسة وظلم الإقطاع يتخذ مظهراً مغايراً، وإذا كان بلزاك (1851) هو أحد الرواد للواقعية ، فلنقتطف شاهداً على ما نقول من إحدى رواياته؛ وهو محاورة بين قسيس عجوز وامرأة لم توفق في حياتها الزوجية: ''قال العجوز: على أي حال يا سيدتي الماركيزة، هل فكرت قليلاً في كتل الآلام البشرية؟ هل رفعت عينيك نحو السماء؟

قالت: لا يا سيدي إذ تثقل القوانين الاجتماعية بشدة على قلبي وتمزقه لي تمزيقاً، حتى لا أستطيع الارتفاع بنفسي إلى السموات، ولعل القوانين ليست في قسوة آداب المجتمع. أوه! المجتمع!

- علينا يا سيدتي: أن نطيع هذه وتلك، فالقانون هو الكلمة، والآداب هي أفعال المجتمع.

عادت تقول الماركيزة مبدية حركة اشمئزاز: طاعة المجتمع؟ هيه! يا سيدي: إن شرورنا جميعاً تنشأ عنه، لم يضع الله أي قانون للشقاء، ولكن عندما تجمع الناس بعضهم مع بعض أفسدوا عمله، 7 ونحن (نحن النساء) لقد عاملتنا المدنية بأسوأ مما عاملتنا الطبيعة به، فالطبيعة تفرض علينا الآلام البدنية التي لم تخففوها في حين أضافت المدنية المشاعر التي تخونونها باستمرار، إذ تخنق الطبيعة الكائنات الضعيفة على حين تحكمون عليها أنتم بأن تعيش كي تقوموا بتسليمها إلى شقاء دائم، ويؤدي الزواج - وهو نظام يرتكن إليه المجتمع - إلى إشعارنا نحن وحدنا بأثقاله، فللرجل الحرية، وللمرأة الواجبات، علينا أن نهبكم حياتنا بأكملها، وليس عليكم من حياتكم نحونا إلا لحظات نادرة، ثم إن الرجل يختار هناك حيث نرضخ نحن عن عمى، أوه! يا سيدى لعلي أستطيع أن أقول لك كل شيء، فالزواج على نحو ما يطبق اليوم يبدو لي دعارة مشروعة منه تنبع كل آلامنا، وبعد أخذ ورد تعود الماركيزة فتقول للقسيس: ''.. إنكم تفضحون المخلوقات المسكينة التي تبيع نفسها في مقابل بعض الدراهم لرجل عابر، فالجوع والحاجة تحللان هذه العشرة العابرة، هذا في حين يغفر المجتمع ويشجع الزيجات المباشرة برغم بشاعتها بين فتاة ساذجة ورجل لم تره أكثر من ثلاثة أشهر، فتباع طول حياتها، لا شك أن الثمن مرتفع إذا كنتم عندما تسمحون لها بالمكافأة على آلامها تقومون بتشريفها، ولكن لا... إذ أن المجتمع يفتري على أفضل الفاضلات من بيننا! ذلك مصيرنا في وضوح من كلا وجهيه: الدعارة العامة والخزي والفضيحة، أو الدعارة الخفية والشقاء'' .

والآن نستطيع أن نحكم بما إذا كانت واقعية بلزاك تهدف إلى تصوير مأساة بعض النساء أم تهدف إلى تصوير إفلاس رجل الدين وتهافت وفظاعة التقاليد، وليس غريباً بعد ذلك أن تصر معظم الروايات الواقعية على تصوير المجتمع في صورة العدو اللدود الذي يكبل الفرد ويحد حريته وتطلعاته.

الثانية : الهجوم المباشر على حقائق الدين: منذ بدء حركة النهضة نجد روح الكراهية للدين من قبل الأدباء والفنانين واضحة في إنتاجهم الشعري والفنى، إلا أن هذه الروح كانت تعبر عن نفسها من خلال الهجوم على رجال الدين، وفي القليل تجرأت على الهجوم المباشر على حقائقه، من ذلك ما رأينا في كوميديا دانتي وما سبق من قول رابليه ، وكذلك هناك مسرحيتا موليير المتزمت وطرطوف ، والأخيرة تصور نفاق رجل الدين وجشعه 8 ومثلها قصة صاحب الطاحون لـشوسر ، يقول مؤلف قصة الفكر الغربي : ''يرد كثيراً في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع والقسيس الفاسق والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا، وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين، ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام، ولم يقصد إلى تحدى بناء المسيحية الفلسفي والديني أي: نظرتها الشاملة إلى الكون، كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين ...'' . 9.

تم تطور الأمر أكثر من ذلك في كتابات عصر التنوير إلا أن رجل الدين - بمفاسده - لا يزال هو المنفذ إلى مهاجمة الدين، ويظهر ذلك جلياً في قصة الراهبة لديدرو زعيم الموسوعيين الفرنسيين التي مثلت في الستينات بـباريس تحت اسم المتدينة بناءً على اعتراض الكنيسة، 10

وجاءت الواقعية فاتخذت دور الهجوم المباشر على حقائق الدين مقرونة بالتشهير برجاله أو منفردة عنها، وبدأ ذلك مبكراً وصريحاً، وها هو ذا جوستاف فلوبير يعطي الشاهد على ذلك في روايته مدام بوفاري التي حوكم بسببها آنذاك:

ففي أحد فصولها: تسأل ربة النزل القسيس عما إذا كان يريد جرعة من النبيذ فيتعذر وينصرف، وما أن اطمأن الصيدلي إلى أنه لم يعد يسمع وقع قدمي القس، حتى أبدى رأيه في مسلكه فوصفه بأنه ناب، فقد بدأ رفضه أبغض ألوان الرياء، إذ أن القساوسة يحتسون الخمر في الخفاء، ويحاولون أن يستعيدوا الأيام التي كانت الكنيسة تتقاضى فيها الضرائب من رعاياها.

صاحبة النزل: إنه رغم قولك يستطيع أن يطوي أربعة من أمثالك على ركبتيه، لقد ساعد رجالنا على تخزين العشب الجاف.

الصيدلى: مرحى، أرسلو بناتكم إذن ليعترفن أمام رجال من هذا الصنف(!)، لو كنت في مركز الحكم لأمرت بأن يفصد القساوسة في كل شهر، في سبيل مصلحة البوليس والأخلاق.

- كف عن هذا يا مسيو هوميه، فأنت كافر لا دين لك.

- بل لي دين، ديني الخاص، وإن لدى من التقوى ما يفوق ما لدى هؤلاء.. رغم نفاقهم ودجلهم، إنني على العكس أعبد الله، أؤمن بالكائن الأعلى، أؤمن بوجود خالق كيفما يكن كنهه، ولكني في غير حاجة لأن أذهب إلى الكنيسة... لأسمن من مالي رجالاً لا يصلحون لشيء، إن المرء ليستطيع أن يهتدي إلى الله في غابة أو في حقل أو حتى بمجرد تأمل قبة الأثير.. إن إلهى هو إله سقراط وفرنكلين وفولتير وبيرانجيه ، إنني من أنصار الإيمان الذي دعا إليه قس سافوا (روسو )، ومن المؤمنين بمبادئ ثورة (1789م) الخالدة، ولا أستطيع أن أعبد إلهاً مزعوماً يسير في حديقته، وعصاه في يده، ويودع أصدقاءه أجواف الحيتان، ويموت صارخاً، ثم يبعث بعد ثلاثة أيام، هذه جميعاً في حد ذاتها سخافات تناقض تماماً كل قوانين الطبيعة.

وفي هذا ما يوضح لنا ضمناً كيف أن القسس ظلوا دائماً متشبثين بجهل صلد لا يلين، يحاولون أن يدفنوا البشر معهم في جوفه.

على مثل هذا نمت الحركة الواقعية وترعرعت مصورة ومواكبة الحياة الأوروبية التي أخذت تتحلل من عقائد المسيحية الكنسية وأخلاقها شيئاً فشيئاً.

5. وهى من هذه الناحية واقعية انظر ثلاثة قرون من الأدب وجاهلية القرن العشرين: 221.
6. لا شك أن في الأدب الأوروبي الواقعي كتابات إنسانية هادفة في بعض روايات ديكنز وتولستوي وهيجو.
7. من هذه العبارة يبدو تأثر بلزاك بنظرية روسو عن العقد المجتمع.
8. ترجمها للعربية: يوسف محمد رضا، وفي سلسلة تراث الإنسانية: 1/233 وقد أثارت ضيق رجال الدين حتى نادى أحدهم بحرق موليير حياً.
9. جرين برنتن: 296 - 297.
10. حدثني بذلك شاب مغربي مسلم يدرس في فرنسا.

حذيفة
01-31-2005, 07:32 AM
السلام عليكم و رحمة الله،
بارك الله فيك يا أخي مراد على هذه المواضيع المفيدة جدا، ..
هل توجد نسخة إلكترونية لكتاب الشيخ سفر الحوالي الذي نقلت عنه؟ و أين أجدها؟ بارك الله فيك، فأنا مهتم بالأدب و تهمني كثيرا كتب كهذه.

يوسف مراد
01-31-2005, 12:49 PM
توجد نسخة إلكترونية في موقع الشيخ سفر الحوالي ... ولكن الموقع مغلق حاليًا للتحديث .

http://www.alhawali.com

ولك أن تبحث في مؤلفات الشيخ الموجودة في مكتبة المشكاة

http://www.almeshkat.net/books/open.php?cat=28&book=771

حذيفة
02-01-2005, 07:15 AM
بارك الله فيك يا أخي.