المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإلزام الخلقى بين الفلسفة والإسلام



أبو مريم
12-28-2004, 07:37 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ..
اللهم صل على محمد النبى وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد .. أما بعد

إخوانى الكرام رأيت أن البعض قد قصر مهمة الدين عامة على مجرد وعد فى مقابل تقييد للحرية وإذاء تلك النظرة السطحية ومحدودية هذا المجال والتى تدفع المحاور فى هذا المنتدى لقصر النظر ومحدودية الرؤية آثرت أن أعرض هذا الموضوع الهائل والذى شغل المفكرين منذ أقدم العصور وحتى الآن وأن أبين بالمقارنة العلمية موقف الإسلام من قضية أخلاقية مهمة بل هى صلب القضايا الأخلاقية وهى الإلزام الخلقى وسوف أعرض المسألة بطريقة منظمة وأرحب بمناقشات الإخوة والزملاء فى أثناء العرض حتى نستفيد جميعا ونزداد معرفة بتلك المذاهب التى ينبغى علينا هنا الإلمام بها وفى نفس الوقت نظهر وجه الإسلام الحقيقى ونرتقى بمستوى الحوار .
وسوف نبدأ إن شاء الله تعالى بعرض مجمل لقضية الإلزام الخلقى فى الفكر اليونانى ثم فى الفلسفة الحديثة ثم نبدأ بتقييمها ونقدها وبعد ذلك نتحدث عن النظرية لدى فلاسفة الإسلام المتأثرين بالفكر اليونانى والمؤثرين فى الفكر الحديث ونختم بالحديث عن النظرية القرآنية فى الإلزام الخلقى ..
نسأل الله تعالى التوفيق والسداد والمغفرة ..
مقدمة

السلوك الإنسانى عامة ليس سلوكا عشوائيا والسلوك الأخلاقى خاصة يصدر عن دوافع معينة هى الجبرية الأخلاقية التى يمكن للإنسان أن يخالف دواعيها بشكل من الأشكال ..
ولما كانت درجة الإلتزام الأخلاقى مبنية على درجة الإلزام ولما كان من أهم خصائص الأخلاق القويمة مدى ما فيها من قوة تدفع اللإنسان إلى العمل بها كان الإلزام من أهم الأسس التى يقوم عليها صرح بناء الأخلاق ..
وقد تفرقت الفلسفة فى مذاهب شتى بهذا الصدد كل منها يرد هذا الإلزام إلى أحد مكونات الطبيعة الإنسانية ويتلافى ما عداه ولا يوجد شىء فى الحقيقة أدعى إلى الحيرة من الإنسان فهو صنع عجيب فلم يفلحوا فى وضع سلطة تتأدى بنفاذها القوة المنفذة لقانون عالمى للأخلاق ولا أن يجدوا حافزا يكفى لأن يبعث فى النفوس الرغبة الصادقة فى اتباع الحق والتنكب عن الباطل ..
فى حين نجد نظرة الإسلام غلى الطبيعة الإنسانية وخصائصها أكثر شمولا واتساعا باعتبار أن الإنسان كل لا يتجزأ ولا بد لكى يستقيم سلوكه من ضرورة التنسيق بين كل تلك الجوانب حتى يؤدى كل جانب منها وظيفته فى حراسة قانون أخلاقى يهدف الإنسان إلى تحقيقة ..

حسام الدين حامد
12-28-2004, 10:47 AM
موضوع رائع ، و يتطلب جهدا جهيدا أسأله تعالي أن يكون في ميزان حسناتك .

و هذا الموضوع سيفيد الإخوة - و أنا قبلهم - كثيرًا في نقاش الملاحدة في منطلقهم الأخلاقي ، و الذي يسمي " moral relativism "

جزاك الله خيرًا و بارك فيكم و نفعنا بهذا الموضوع القيم .

أبو مريم
12-28-2004, 11:48 PM
أشكر الأخ حسام الدين حامد على هذه الكلمات ونتطلع للاستفادة منه ومن الإخوة الكرام ونبدأ بالحديث عن قضية الإلزام الخلقى فى الفكر الفلسفى

1-فى الفلسفة اليونانية
لقد اعتبر الفلاسفة اليونانيين الأخلاق فرعا من فروع الفلسفة وقد درسوا معظم القضايا الأخلاقية إن لم يكن جميعها وكان لهم أكبر الأثر فى الفلسفات اللاحقة بحيث يسهل علينا أن نرى بصماتهم واضحة فى الفكر الفلسفى فى العصور الوسطى والعصر الحديث بل لا نكون مبالغين لو قلنا إن لكل نظرية فلسفية عامة أو أخلاقية خاصة ظهرت بعد العصر اليونانى جذورا يونانية ..
أ-بين السوفسطائيين وسقراط :لقد كان للسوفسطائيين عناية خاصة بالإنسان والارتفاع به فوق الطبيعة ولكنهم قد أسرفوا فجعلوه مقياسا للخير والشر والحق والباطل والجمال والقبح وقد كان سقراط دائما على النقيض من هؤلاء يؤمن بالقيم الخالدة قيم الخير و الحق والجمال ويعتبرها معايير مسبقة تحكم فعل الإنسان .
هذا وتعتبر السفسطة الجد الأعلى للمذاهب الإلحادية وإن لم يكن السوفسطائيين ممن يدعون للإلحاد أو اللادينية ولم يشتهر ذلك عنهم :
لقد زعم السوفسطائيين أن الطبيعة الإنسانية شهوة وهوى وأن القوانين الوضعية ما هى إلا تحد لها : ومن ثم كانت تلك القوانين نسبية وغير واجبة الاحترام فهم لا يعترفون بمصدر للإلزام الخلقى أصلا سوى تلك القوانين الوضعية بل بناء على ذلك لا معنى عندهم للفعل الخلقى ..
وقد ذهب سقراط إلى ضرورة الإيمان بأن القوانين الواجبة صادرة عن العقل ومطابقة للطبيعة الحقة وهى صورة من قوانين غير مكتوبة رسمها الخالق فى قلوب البشر والإنسان بفطرته يبحث عن السعادة فإذا علم أن الفضيلة هى الطريق الوحيد الموصل إلى السعادة سلكه لا محالة ..
وهذا فى حد ذاته قائم على افترضات مجردة كافتراض أن العلم يوجب العمل وأن كون الفضيلة طريق وحيد للسعادة معلوم بالضرورة وهذا بلا شك غير وارد ..
لقد كانت فلسفة سقراط رغم سموها ونقائها لا تستطيع أن تقف على قدمين وقد رفض السوفسطائيين المعايير السقراطية الكلية ورأوا أن الأحكام الأخلاقية جزئية كما أنها متغيرة .
ب- بين مثالية أفلاطون وواقعية أرسطو :المثل الأفلاطونية حقائق خالدة لا تفسر وإنما الذى يفسر هو الكائن المحسوس ، والمثل عند أفلاطن هو مبدأ الوجود لأنه لا حقيقة للأشياء المحسوسة لإلا بما تحتوى عليه ماهيتها والتى تصل بينها وبين عالم المثل وبهذا يقوم المثل فى الفلسفة الأفلاطونية بوظيفة العلة المفسرة للعالم الطبيعى ..
وينتقد أرسطو فكرة المثل الأفلاطونية ويرى أن السعادة هى العلة الغائية لاكتساب الفضيلة فالإنسان غير مطبوع على الفضيلة وإنما مطبوع على قبولها عن طريق الاكتساب الإرادى بالمران والممارسة .. ويتعلق الأمر بأصحاب القوانين فالعقل إنما يخاطب القلة من الناس .
ج- مذهب اللذة بين أرتسيب وأبيقور :
يعد أرتسيب القورينائى (435ق.م) واضع الأسس النظرية لمذهب اللذة ؛ قال : إن السعادة هى اللذة ، واللذة هى الخير الأقصى وهى نداء الطبيعة ، والحكمة تقتضى الحصول عليها والسعى وراءها ..
وإذا كان أبيقور قد أخذ بهذا المذهب فإنه حرص على ان يعدل منه بحذق , فهو يجعل اللذة نوعا من السعادة النفسية ليستبقى بذلك على الفضائل المعروفة ويستبعد الرذائل :
فلما كانت اللذة عل وجه الدقة هى خيرنا الفطرى الرئيسى فإننا لا نبحث عن كل لذة بل ثمة أحوال نجاوز فيها كثيرا من اللذات إذا نجم عنها ضيق ينالنا .
د- الرواقية بين الجبر والاختيار :لقد نشأت الرواقية فى أثينا مع المدرسة الرواقية وقد اهتمت بالأخلاق اهتماما كبيرا وجعلت غاية الفلسفة القصوى وضع قوانين السلوك الخير .
وفى الرواقية يزداد المجال اتساعا أمام الإنسان ففيه نفحة من الإله تفسح له إمكان الاشتراك فى حياة الكون الأوسع ، وهذه الصورة الدينية السامية قادرة على استثارة همة الإنسان للتخلق بأخلاق الله تعالى من رحمة وعدل وعفو وتسامح .. ( وهذه صورة نادرة تطبع أرفع التعاليم الدينية فى أكبر مذهب مغرق فى المادية فهى لذلك أثمن ما قدمه للبشرية ).
ثم يحاولون التوفيق بين حرية الإنسان وبين القدر والضرورة الأخلاقية بقولهم : إن الظروف الخارجية أى مناسبات أفعالنا وإن كانت محتومة لكنها ليست محتومة بذانها فإن أفرادا مختلفين خلقا إن وجدوا فى نفس الظروف لم يأتوا بنفس الأفعال فالظروف تحرك الإنسان وخلقه يعين سيرته .. أجل إن التصرف الأخلاقى من فعل القدر ولكننا نعلم أن الظروف الأخلاقية ليست محتمة للفعل ونجهل العلة التى تحتم الفعل فالفعل بالنسبة لنا غير محتوم ولنا أن نعمل كأنا أحرار .

حسام الدين حامد
12-30-2004, 07:44 AM
تلخيصًا لكلام الأخ أبي مريم جزاه الله خيرًا ، أذكر التالي و أرجو منه تسديدي إن أخطأت :

1 - السوفسطائية : جعلوا الإنسان حكمًا بنفسه علي الأخلاق ، و حيث إن الإنسان يميل بطبعه إلي السيء من الفعل ، فالأخلاق عندهم قيد لا معني له ، و أظن هذه الكلمة تنسب إلي دور كايم .

2- سقراط : يري أن الأخلاق هي التي تحكم سلوك الإنسان ، و هي معايير مسبقة تحكم علي الإنسان لا العكس ، و محاولة منه للإلزام بها ، فقد جعل منها قوانين توجب العمل بها ، و لكن هذا الإلزام إلزام وهمي .

3- أفلاطون : و هو المشتهر بنظرية المثل ، و لذلك قال أخونا أبو مريم " مثالية أفلاطون " ، و هو يري في المثل العلة المفسرة للعالم الطبيعي . ( و اظن البعض قال إن أفلاطون جعل من المثل إلها ، و البعض يقول إنه قال بقدمها كالإله ، و الإله استوحي الخلق منها ) .

4- أرسطو : لا يحتاج إلي تلخيص " وينتقد أرسطو فكرة المثل الأفلاطونية ويرى أن السعادة هى العلة الغائية لاكتساب الفضيلة فالإنسان غير مطبوع على الفضيلة وإنما مطبوع على قبولها عن طريق الاكتساب الإرادى بالمران والممارسة "

5- أرتسيب : " السعادة هي اللذة ، واللذة هى الخير الأقصى وهى نداء الطبيعة ، والحكمة تقتضى الحصول عليها والسعى وراءها " و بالتالي فكل الفضائل التي لا لذة فيها خرجت من الخير ، و كل ما فيه لذة و لو من الرذائل دخل في الخير الأقصي ، و هذا هو المأزق الذي خرج منه :

6- أبيقور : " فهو يجعل اللذة نوعا من السعادة النفسية ليستبقى بذلك على الفضائل المعروفة ويستبعد الرذائل :
فلما كانت اللذة عل وجه الدقة هى خيرنا الفطرى الرئيسى فإننا لا نبحث عن كل لذة بل ثمة أحوال نجاوز فيها كثيرا من اللذات إذا نجم عنها ضيق ينالنا . "

7- الرواقية : " يزداد المجال اتساعا أمام الإنسان ففيه نفحة من الإله تفسح له إمكان الاشتراك فى حياة الكون الأوسع ، وهذه الصورة الدينية السامية قادرة على استثارة همة الإنسان للتخلق بأخلاق الله تعالى من رحمة وعدل وعفو وتسامح .. ( وهذه صورة نادرة تطبع أرفع التعاليم الدينية فى أكبر مذهب مغرق فى المادية فهى لذلك أثمن ما قدمه للبشرية ). " و في محاولة للتوفيق بين القدر و الضرورة الأخلاقية " الظروف الأخلاقية ليست محتمة للفعل ونجهل العلة التى تحتم الفعل فالفعل بالنسبة لنا غير محتوم ولنا أن نعمل كأنا أحرار . "

أعتقد أن الملاحدة أقرب ما يكونون للسوفسطائية .

في انتظار التسديد و المزيد ..

أبو مريم
12-30-2004, 10:37 PM
الأخ حسام الدين حامد أشكرك على هذا الفهم الجيد و فيما يتعلق بنظرية المثل الأفلاطونية فلعلها كانت رد فعل لمحاولة السوفسطائيين وأتباع هيرقليطس القائلين بأن الإدراك الحسى هو أساس المعرفة ولما كان الإدراك الحسى يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال فالحقائق نسبية وغير مطلقة وهذا المبدأ يقضى تماما على شىء اسمه المنطق ويثير فوضى عقلية عارمه وهو ما عنى أستاذ أفلاطون سقراط بمحاربته والتأكيد على أن الحقيقة مطلقة وليست نسبية ثم طرو أفلاطون هذا الاتجاه روأى أنه لما كانت الموجودات الحسية متغيرة وناقصة فلا يمكن إقامة معارفنا اليقينية عليها وأنه لا بد من وجود عالم آخر ثابت وغير قابل للتغير هو عالم المثل وهذا العالم عبارة عن جواهر عقلية مجردة يتعلق بها عالمنا ويستقيم بها وجوده وهو بالنسبة للمحسوسات كالشبح الساكن بالنسبة للخيال المتحرك ويقول بأننا قد تعرفنا على هذا العالم قبل هبوطنا إلى العالم المحسوس لكننا قد نسينا ذلك عندما تعلقت نفوسنا بالأبدان ثم بالتعلم تنقشع تلك السحابة وتستعيد النفس معارفها مرة أخرى ..
وقد كان لتلك النظرية أكبر الأثر فى الفكر الفلسفى ولا مجال هنا للحديث عن موقف الفلاسفة منها بين متأثر سلبا وإيجابا ..
نكمل الآن حديثنا علن الإلزام الخلقى ونتحدث الآن عن فكرة الإلزام الخلقى فى الفلسفة الأوربية ولعل القارئ يلاحظ أننا قد نقفز قفزة تاريخية من عصور ما قبل الميلاد إلى نهاية العصور الوسطى أو عصور التخلف الأوربى وأترك هنا علامة استفهام لاستثارة الأذهان وتحقيق نوع من التفاعل .
2- فى الفلسفة الأوربية الحديثة
لقد جمعت الفلسفة الأخلاقية فى العصر اليونانى تلك الأصول الأولى لكل ما جادت به عقول الفلاسفة من مثاليين وعقليين وتجريبيين وحسيين .
وقد تطورت النظرية الأخلاقية فى العصور الوسطى ثم نضجت فى الفلسفات الحديثة ولكن التدرج قانون التحول تعمل عليه أسباب لطيفة عملا متصلا حتى يأتى يوم وإذا به قد تم وبرز للعيان
أ‌- ما قبل المذاهب الكبرى
يرى نيقولا دى كوسا الأفلاطونى (1464م) أن الإنسان يسعى بطبعه لاستكمال ماهيته فهناك إذن دوافع طبيعية كامنه فى الإنسان تدعوه للالتزام بقوانين معينة لا تكتمل إنسانية الإنسان إلا بها ولا يمكنه فى الغالب مقاومة هذه الدوافع والتغلب عليها .
أما بنبوناتزى الرشدى (1562م) فيرى أن الفضيلة لا تحتاج إلى ثواب يدفع للعمل بها بل الثواب الحق الدافع للتمسك بالفضائل هو الفضائل ذاتها وكذلك الرذائل تنطوى على عقابها حتى ولو لم يلحق من جرائها ألم خارجى .
ويحاول تومازو كمبانيلا (1639م) أن يصل إلى الأخلاق عن طريق المحبة فكما أن العلم بالذات مفروض فى كل علم فإن محبة الذات مفروضة فى كل محبة لأن الغرض من كل محبة حفظ الوجود والفرار من العدم (( ففى الإنسان دين كامل متحد بالعلم الكامن والميل الكامن )) إنه يؤسس الأخلاق على مبدأ حب البقاء وحب الذات ويجعل من ذلك مصدرا للإلزام وراء كل مصدر ..
ولكن ظهرت أيضا أفكار فردية جامحة منها ما هو امتداد لمذهب السوفسطائيين الأخلاقى ومنها ما هو تمثيل لمبدأ الشر والعدوان فمن النوع الأول نرى دى مونتينى ( 1595م) الذى يردد نفس حج الشكاك ويرى أن الحواس لا تدرك إلى انفعالاتها وأنه لو كان للعقل ما يزعمه البعض من حكم صائب ما اختلفت العقول وأنه ليس صحيحا ما يقال عن شىء اسمه الضمير من أنه يعلن لنا قوانين ثابته وأزلية غير مكتوبة ولكن الضمير هو شىء تشكله البيئة والموروثات والعادات .
أما نيقولا ماكفيلى (1575م) فهو بحق ممثل مبدأ الشر فقد انتقد الأخلاق المسيحية لأنها أوهنت عزيمة الإنسان ويوجب على الأمراء التدرب على عدم التقيد بالفضيلة ولكن هل ينطبق نقده على الأخلاق الإسلامية بنفس الدرجة وهل تعتبر نصيحته للأمراء اعترافا ضمنيا بسلطة الضمير ؟

ب – أمهات المذاهب الأخلاقية الحديثة :بينما الجامعات والمعاهد الدينية تستخرج تراث العصور الوسطى تشتد من حولها الحركة العلمية والفكرية فى عصر النهضة ، ففى انجلترا يتوط المذهب الحسى بفضل بيكون ، وتومس هوبس، ولوك - معلنا أن سيرة الإنسان كلها قائمة على غريزة حب البقاء وكأن هذه الغريزة بالإضافة إلى الحياة الإنسانية كالحركة بالإضافة إلى الطبيعة .
وفى فرنسا يبرز ديكارت بفلسفة عقلية روحية تنتشر على يد بسكال ، ومالبرانش وليبنز ولتخنلط الإرادة بالعقل حين تتحكم الإرادة الفاعلة فى سلوك الإنسان وفقا لمبادئ الوضوح والتمييز وسيادة العقل ..
والجدير بالذكر أن هناك ثلاثة مفكرين قد أثروا تأثيرا عميقا فى الأخلاق الحديثة أهمهم دارون الذى اعتبر الإنسان هو أعلى درجة فى سلم الترقى عن الأمسبا وأن تفسير وجود الإنسان وأفعاله يجب أن يكون على هذا الأساس .
ولقد اتجه فرويد متأثرا بدارون نفس الاتجاه فيما يتعلق بالدراسات النفسية وتفسير السلوك البشرى على أنه صادر عن الغريزة الجنسية ودوافعها ..
أما فيما يتعلق بالعلوم الاجماعية فقد أسهم ماركس بفلسفته المادية الجدلية فى هذا المخطط المادى فجعل الإشباع المادى هدف الإنسان وغايته والدافع الأساسى لأفعاله .
ثم لم تلبث أن ظهرت المذاهب الأخلاقية الحديثة ويبرز بوضوح تصنيفها تبعا لمنبع الإلزام الخلقى وهو ما سوف نتناوله فى المشاركة القادمة إن شاء الله تعالى

د. هشام عزمي
12-31-2004, 02:45 AM
جزاك الله خيرا أخي أبا مريم على ما تنفعنا به .

احمد المنصور
12-31-2004, 04:05 AM
تابع رحمك الله وغفر لك.

حسام الدين حامد
12-31-2004, 12:10 PM
جزاك الله خيرًا أخي الحبيب أبو مريم .

و بالنسبة لقولك " أما بنبوناتزى الرشدى (1562م) فيرى أن الفضيلة لا تحتاج إلى ثواب يدفع للعمل بها بل الثواب الحق الدافع للتمسك بالفضائل هو الفضائل ذاتها وكذلك الرذائل تنطوى على عقابها حتى ولو لم يلحق من جرائها ألم خارجى . "

هل هو ينفي الحاجة للثواب ؟أم ينفي وجود الثواب الخارجي بينما يوجد الثواب في الفضيلة نفسها ؟ أم هو ينفي وجود الثواب أصلًا ؟ و إن كان يقول بوجود الثواب في الفضيلة نفسها فأرجو تفصيل هذه النقطة قليلًا .

أبو مريم
12-31-2004, 11:48 PM
الإخوة الكرام هشام عزمى وأحمد المنصور وحسام الدين حامد جزاكم الله خيرا على مروركم الكريم .. وبالنسبة لما ذهب إليه بنبوناتزى فهو لا ينكر وجود الثواب والعقاب التالى للفعل الخلقى ولكنه يؤكد على ان الدافع للالتزام بالفضائل وتجنب الرذائل ليس هو تحقيق اللذة ولا المنفعة ولا دفع الألم والضرر بل ما جبل عليه الإنسان طبيعة قوامها التزام بتلك الأخلاق بحيث تصبح مخالفة تلك الطبيعة كالسباحة فى عكس التيار .


ج- الإلزام الخلقى فى الاتجاهات الفلسفية المعاصرة :
المنفعة :
انبهر الأوربيون بالمنهج التجريبى وإنجازاته فى مجال علم الطبيعة مما دفع البعض إلى محاولة استخدام نفس المنهج فى دراسة الإنسان .
1- أرميا بنتام (1823م)
مذهبه أن الناس يطلبون اللذة ويتجنبون الألم بالطبع ، لكنهم يتميزون عن الحيوانات بأنهم يتبعون مبدأ "المنفعة " حيث يعمِلون العقل .
ولكى يحكم العقل يجب تقدير اللذات بجميع ظروفها والموازنة بينها وتقاس اللذات أولا من جهة صفاتها الذاتية : الشدة ، المدة ، قرب المنال، الثبات ، الخصب ..
وتقاس ثانيا من جهة عواقبها :الخوف الذى يستولى على المواطنين من جراء الجريمة ، القدوة السيئة ، القصاص ..
وهذا يعارض لذة الفعل ، فيميل المرأ إلى اتباع القوانين التى يراها المشرع نافعة لأكبر عدد ..
وهذا هو العلم الجديد الذى يدعيه بنتام ويسميه بالحساب الخلقى .
2- جون استيوارت مل (1873م)
أعلن انه ليس هناك أفضل من مذهب المنفعة بين جميع المذاهب الأخلاقية فهو أصلح ما يكون لمنهج العلم التزاما بمقتضياته .
ثم انتقل بعد تصحيح مذهبه إلى اللذة الكيفية وأخضع المنفعة الذاتية إلى النفعة العامة ، إلا أنه يجعل المنفعة الذاتية هى الأصل والمعيار .
3- هربرت سبنسر (1902م)حاول تطبيق التطور الوراثى فى مجال الأخلاق ؛ فهو يستبعد المعانى الميتافيزيقية ويقتصر السيرة الإنسانية على أن تكون مجرد حالة أو مرحلة أخيرة من سيرة الكائنات الحية لا أكثر ، ويعرفها بأنها جملة الأفعال الخارجية المتجهة مباشرة أو بالواسطة إلى صيانة الحياة .
(( إن اللذة والألم وحدهما هما الخير والشر وتهذيب اللذة – وبالتالى تنمية الحياة والتكيف مع البيئة - إنما تكتشف بطريق التغاير والانتخاب الطبيعى وينتقل ذلك بالوراثة ويترسخ فى صورة ميل غريزى ))
4- وليم جيمس (1910م)
يؤكد على أن العمل المنتج هو هدف الحياة وأن الفعل إنما يسخر لإشباع رغبات الإنسان بمعنى أن (( البارجماتية )) هى مذهب المنفعة فى صورته العملية ، ومعيار الصواب عند البارجماتى هو ما يحقق النفع والنجاح .

الحاسة الخلقية :
يمثل هذا الاتجاه موقفا وسطا بين أنانية التجريبيين ومثالية العقليين ، ويهدف على تأكيد الكيان الإنسانى من الزاوية الوجدانية عن طريق إحياء فكرة قديمة هى التوحيد بين الخير والجمال .
1- شافتسبرى (1713م)إننا نجد فى أنفسنا عواطف لا إرادية هى الإعجاب بالنبل واحتقار الخسة ، لدينا حس باطن قوامه محبة النظام والجمال وذلك عند شفتسبرى ما يسمى ((بالحاسة الخلقية )) .
إن الحاسة الخلقية وظيفتها إدراك خيرية الأفعال وشريتها ون أن يرتبط ذلك بلذة أو بألم ، وهى تقوى بالمران وتضعف بالإهمال .
2- بطلر (1752م)
حاول بطلر أن يتفادى بعض الانتقادات التى وجهت لمذهب الحاسة الخلقية وسمى هذا المنحى ب ((الضمير )).
وقد اتفق مع شافتسبرى فى ضرورة أن يكون المصدر الملزم ذاتيا داخليا وضرورة التوفيق بين الأنانية والغيرية .
وأضاف بعدا جديدا : فالضمير عنده قوة عقلية مدركة متميزة عن غيرها من قوى النفس تهيمن على أهواء الإنسان ودوافعه ، وتؤدى وظيفتها تلقائيا من غير حاجه إلى خبرة حسية أو تأمل استدلالى .
3- جان جاك روسو (1778م)ويمثل " الوجدان " عند روسو نداء سماويا خالدا يحكم المبدأ الأعلى فى الإنسان حتى لا تشده غرائزه إلى أسفل ، وهو حكم لا يخطئ ، وهو الذى يجعل الإنسان متشبها بالله تعالى .

الواجب
انبهر الفلاسفة بقوة اليقين الرياضى وحاولوا أن يسيرا على طريقه فى فلسفاتهم وكان من أبرز هؤلاء منويل كانط (1824م)إن كل شىء فى الوجود يسير وفق قوانين محدة تتناسق مع طبيعة الأشياء ، وبما أن طيعة الإنسان هى العقل لذلك فإن القوانين التى يجب أن يسير عليها الإنسان فى حياته وأخلاقه يجب أن تقوم على مبادئ العقل وبذلك يصبح القانون الأخلاقى هو القانون العقلى عند الإنسان .
إن تصور (( العقل العملى )) للإلزام يميز بين نوعين من الضرورة : النوع الأول هو الذى يحعل شيئا من الأشياء وسيلة لا غاية ونعنى به ضرورة مشروطة .
والنوع الثانى ضرورة تحدد تحديدا مباشرا غير مشروط ، وهدف البحث الأخلاقى هو الوصول إلى الإلزام المطلق الذى فيه يكون الواجب غير مشروط بحيث تنهض الأخلاق على الأوامر المطلقة غير المشروطة .
ويحرص كانط على أن تأتى التجربة الأخلاقية محققة للشمول والعموم ، وقانون الواجب هو ذلك الإطار العام الشامل الكلى الذى لا يمكننا تصور تجربة أخلاقية إلا فى كنفه .
وواضح من ذلك أن العمل الأخلاقى هو إلزامى ، ولكن الإلزام الخلقة ليس بالمعنى الحتمى الذى نراه فى القانون الطبيعى فهذا الإلزامينطوى على المسؤولية الأخلاقية ونحن من حيث كوننا كائنات أخلاقية أحرار ، فالحرية وثيقة الصلة بالأخلاق .

الضوابط الاجتماعية :
قام هذا المذهب على أنقاض الصراعات الخاصة بفلسفات الأخلاق وحاول أن يضفى طابعا اجتماعياً على فكرة الواجب والإرادة ، كما اهتم بتحليل أنماط السلوك الخلقى طبقا لمبدأ الإلزام الاجتماعى .
1- أوجست كونت (1857م)
يرى أن المهمة التى يجب على الفلسفة الواقعية أن تعمل لها هى محو فكرة الحق اللاهوتة الأصل من حيث أنها تفترض سلطة أعلى من الإنسان ، وقصر الأخلاق كلها فى فكرة الميل الطبيعى إى إخضاع النزعات الذاتية للنوع أجمع .
إن الدوافع للحياة المشتركة غريزة مستقلة على حساب الفرد ، على أن الأنانية أقوى فى الأصل من هذه الغريزة الغيرية ولكنها تخضع لها بنمو العقل والتعاطف وهذا إنما ينشأ بالحياة الإجتماعية .
3-دوركايم (1917م)لماذا تفرض الظواهر الاجتماعية نفسها على الأفراد وتكرههم على الأخذ بها ؟
يرى دوركايم أن الأفكار والعواطف صادرة عن " وجدان اجتماعى" متمايز عن الوجدانات الفردية وأعلى منها ، ويرى أن الوجدان الاجتماعى – ولو أنه جملة الوجدانات الفردية – إلا أنه يؤلف كلا مغايرا كما يؤلف التركيب الكيميائى .
وهكذا يزعم دوركايم كما زعم سبنسر أنه يفض الخلاف الناشئ بين الحسيين والعقليين بقوله إن المعانى والمبادئ مصنوعة من المجتمع وغريزية فى الأفراد .
3- ليفى برول (1929)صرح بضرورة نقل الدراسات الأخلاقية من الفلسفة التأملية إلى علم الاجتماع التجريبى ، فهو ينتقد فلسفة الأخلاق ويرى بدلا منها علما للأخلاق ، وينتهى إلى أن الأخلاق مظهر للجماعة تابع لماضيها ، وديانتها ، وعلومها ، وآدابها ، وعلاقاتها بالجماعات الأخرى .
ولما كانت الجماعة لا تستمر على حال واحدة استلزم أن أخلاقها متطورة طبقا لقانون التطور .


وبعد ..فهذه نبذة مختصرة عن قضية الإلزام الخلقى فى الاتجاهات الفلسفية المعاصرة مسبوقة بالحديث عن جذورها فى التراث اليونانى وقبل الانتقال إلى مناقشة تلك القضية فى الفكر الإسلامى ارى أنه ن الضرورى أن نتوقف قليلا عند نقد تلك الاتجاهات وتقييمها .

أبو مريم
01-02-2005, 11:26 PM
تقييم الفلسفة الأخلاقية :
1-نقد الفلسفة الأخلاقية :
إن الأخلاق إنما تكون إنسانية بقدر ارتباطها بما يميز الإنسان عن غيره وأما اتجاه النفعيين إلى اللذة والأنانية فإنه يؤدى إلى إغفال القيم الإنسانية وهدم المثل التى تحوز على التقدير المطلق .
والمرأ فى ساعات الغى لا تستطيع الحاجة إلى الانسجام المنطى أن تجعله يضحى بمصلحته وهواه وإنما رأى العقليون فى العقل مبدأ يقوم بوظيفة المنظم فى كائن عاقل وما اعتقاد ذلك إلا كالاعتقاد بأن إطار السيارة هو الذى يجعلها تتحرك على أن جوهر الواجب شىء وما يقتضيه العقل شىء آخر .
والحق أن الأخلاق التى تظن أنها تقيم الإلزام على اعتبارات عقلية صرفة إنما تدخل على غير علم فيها قوى من نوع آخر أما الإلزام الخلقى فهو موجود من قبل .
ومن السهل أن ندرك أنه ليس لأى غاية أن تفرض نفسها فرضا إلزاميا لمجرد أن العقل يقترحها ، ولا تلك الغايات المزدوجة ، ولا ذلك الحرص المزدوج على صون الالتحام الاجتماعى ..
وما هو المجتمع الذى نعنية فى الواقع حين نقول إن ثمة مطلبا اجتماعيا وراء الواجب الأخلاقى كاحترام حقوق الآخرين ، أين ذلك من أيام الحروب حين تصبح أخلاق كالخيانة والعدوان أمورا مشرفة ؟!
إن مجتمعهم حينئذ يقول : إن الواجبات المقررة من حيث المبدأ واجبات نحو الإنسانية عامة ولكن بعض الظروف للأسف الشديد والتى لا يمكن تجنبها تحول دون تحقيق هذه الواجبات !!
والخلاصة أن الأخلاق الاجتماعية هى أيضا مغشاة بأخلاق أخرى .
2-تهافت الفلسفة الأخلاقية :
بعد هذا العرض لفكرة الإلزام الخلقى فى الفلسفة اليونانية ونهاية العصور الوسطى الأوربية حيث محاولة بعث التراث اليونانى الأخلاقى والتأثر به فى ضوء الأخلاق المسيحية ثم ما نشأ نتيجة نقد تلك الفلسفات من اتجاهات معاصرة بعد كل ذلك .. لعل القارئ المفكر يشعر بأن كل إجابة وضعتها تلك الفلسفات قد احتوت على أكثر من تساؤل وأنها تترك فراغا جديدا أعظم من الذى أتت لتسده وأنها قد تتضمن أخطاء وعورات للإنسانية لم تنجح فى معالجتها وسترها وهذا الموقف ولا ريب جدير بأن يولد شعورا بالعدمية والامتعاض وقد تجلى ذلك بوضوح فى أخلاق البطولة المتهورة :
فريدرخ نيتشة :
يقول : ((فى أساس الأجناس الأرستقراطية لا مفر من الالتقاء بالعنصر الوحشى ، إنه يتنقل باحثا عن عراك دموى ، عن فريسة من اللحم ، إن الأجناس جميعا كلها تستوى فى تلك النزعة ، إن هذه الجرأة عند الأجناس النبيلة لا مبرر لها ولا غاية ، إن هؤلاء الناس لا يبالون وقاية أبدانهم وضمان حياتهم إنهم يتذوقون فى غبطة كل هدم وتدمير)) !!!
ومن ثم كان امتحان أخلاق البطولة المتهورة ممهدا لظهور اخلاق المحبة :
هنرى برجسون:
يقول : (( بماذا يمتاز الموقف المفتوح ؟ لو قلنا إن النفس تحتضن فيه الإنسانية كلها لما ذهبنا بعيدا ، وإن المحبة لتبقى عند صاحبها حتى وإن لم يكن هناك كائن غيره على الأرض ..)) وهل هذا إلا وعى بشقاء لا يمكن القضاء عليه ؟ إنه تسجيل للشقاء فحسب ؟
وفى النهاية نشاهد التهافت وقد بلغ مداه على يد
سارتر :
يقول : (( ليس بوسع الإنسان ان يجد معونة فى علامة على الأرض تهديه السبيل وإن على الإنسان فى كل لحظة أن يخترع الإنسان ))

حسام الدين حامد
01-13-2005, 02:43 AM
رائع !! جزاك الله خيرًا .

أبو مريم
01-14-2005, 02:30 PM
قضية الإلزام الخلقى فى الفكر الإسلامى
يحسن أولا وإكمالا للفائدة قبل عرض تلك القضية فى القرآن الكريم وإكمالا للفائدة أن نتناول باختصار شديد موقف ما يمكن أن يطلق عليهم فلاسفة الإسلام من تلك القضية ونعنى بهم أصحاب الفلسفات والأفكار التى نشأت فى العالم الإسلامى وفى ظل الدولة الإسلامية وتأثرت بالشريعة إلى حد ما وإن لم يكن موقفها دائما مطابقا وممثلا للموقف الإسلامى :
الإلزام الخلقى عند فلاسفة الإسلام :
.
1- مدرسة الكندى الأقلاطونية :
يرى الكندى أن النفس جسم روحانى خالد ذو شرف وكمال عظيمة الشأن جوهرها من جوهر البارى فهو مضاد لما يعرض للبدن من الشهوات والغضب ، وينتقد مذهب اللذة ويرى أنها شر لأن التشاغل بها تعطيل للعقل الذى يسعى إلى التشبه بالبارى .
ولكن النموذج الأفلاطونى قد احتل مكانا خاصا فى فكر أبو اليزيد البلخى (322هـ) فهو يردد قول أفلاطون : إن النفس جوهر عقلى يحرك نفسه وأنه يسعى إلى ملكوت الله ، ويحاول أن يمزج بين الآراء الأفلاطونية وما تأمر به الشريعة فيقرر أن صالحى المؤمنين أفضل من الملائكة لمكابدتهم مشقة الطاعة مع منازعة الشهوات وممانعة الشيطان .
ويبدو أبو بكر الرازى (320هـ ) أكثر تشاؤما حين يعرف اللذة بأنها راحة من الألم وأنها خروج عن الطبيعة فإذا استقرت صارت ألما وينشأ عن تراكمها صعوبة التخلص منها .. مع احتفاظه بالفكرة الأفلاطونية عن سعى العقل إلى التشبه بالبارى .
2- مدرسة السجستانى الفلسفية :
تتميز مدرسة السجستانى بالفصل بين الشريعة والفلسفة وقد ذكر أبو حيان أن أعضاء تلك المدرسة قد بنو فلسفتهم الأخلاقية على معرفة النفس وخلودها .
يؤمن أبو سليمان السجستانى (380هـ) بأن الخير يشمل العالم وأن الناموس ينطق بما هو صلاح عام ليكون النفع به شائعا فى سكون النفس وطيب القلب وروح الصدور ، أما العقل عند السجستانى فهو الذى يهدى ويقود إلى طريق الصلاح ، ويفرق بين العل الفعال عند الفلاسفة والعقل الإنسانى بأن العقل الفعال بمعنى الابتداء بالطبع وأن العقل الإنسانى بمعنى الانتهاء وأن نسبة اثانى إلى الأول كنسبة الفاعل إلى المفعول .
أما ابن الخمار (331هـ) فيؤمن بأن العقل هو أساس الفعل الخلقى ويشبهه بالشيخ الذى إذا أنصت إليه الشاب وأطاعه أفلح واستقام فالعقل يدفع صاحبه إلى الفضائل بالضرورة ولكنها ليست ضرورة الإجبار والتى تتنافى مع الفعل الخلقى بل ضرورة لا ئقة بالعقل ضرورة اختيار ونصح وتحقيق .
ويذهب يحيى بن عدى التكريتى (246هـ ) إلى أن طبيعة الشر غالبة فى الإنسان وأن أكثر الناس مجبولون على الأخلاق السيئة ولذا فإن المجتمعات الإنسانية تحتاج إلى القوانين والشرائع وكذلك تصبح الحاجة ماسة إلى الأمراء العادلين ليرفعوا الظلم ويعاقبوا الفاجر حتى يقام الاعتدال .
أما أبو حيان التوحيدى (414هـ) فالأشياء عنده منبجسة من الحق الأول تفيض عنه فيضا وهو يحاكى أفلاطون فى فكرته عن التشبه بالبارى فيقول : (( حرام على نفس تطهرت من أدناس الدنيا أن تدنس من مخالفة الله .. حرام على عين نظرت إلى ملكوت الله أن تحدق إلى غير الله ))
3- المدرسة المشائية الإسلامية :
يرى الفارابى أن خصال الخير موجودة فى النفس بالقوة وأن السعادة هى الغاية القصوى التى يشتاقها العقل وهى أن يتحد بالفلك الأعلى وهذا الاتحاد يقربه من الله تعالى .
ولا يتسنى بلوغ السعادة الكاملة إلا للنفوس الطاهرة المقدسة التى لا يستغرقها الحس الباطن ، وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم .
ويعد ابن سينا أكثر تفاؤلا واقعية فهو يؤمن بأن العالم كله خير وأن الخير يفيض عليه من المبدا الأول ، ولما كان عالمنا هذا عالم كون وفساد فلا بد أن يكون الشر على جانب الخير ومع ذلك فالخير هو الموجود أما الشر فعارض والعقل وحده كفيل بالتمييز بين الخير والشر .
وهو لا ينكر أن كل كائن إنما يسعى إلى اللذة ، وأن السعادة الإنسانية لا تكون إلا فى مجتمع ، وأن الشريعة والنبوة لا غنى لبقاء الإنسان وسعادته عنهما فالنبى يأتى بقانون يضمن للبشرية الرفاهية والسعادة .
أما أبو البركات البغدادى فقد اصطدم بفكرة العقل الفعال وحاول أن يجد حلا لها فذهب إلى أن الأساس فى التعقل ليس هو العقل الفعال بل نماذج مثالية معقوله شبيهة بالمثل الأفلاطونية فيقول : إن النفس تستطيع تحصيل الكمال بذاتها دون الحاجة إلى شىء آخر بالفعل لكى يوصلها إلى درجة الكمال .
وكما أقام عظم فلاسفة الإسلام دراستهم فى الأخلاق على نظريتهم فى النفس فقد فعل كذلك مسكويه فالنفس عند مسكويه جوهر مغاير لجوهر الجسم لأنها لا تتغير ولا تستحيل بتغيره واستحالته ، وكل يتشوق إلى ما يناسبه فكما أن الجسم يتشوق إلى أفعال لا تشتاقها النفس فكذلك النفس تشتاق إلى ما يناسبها كالحرص على معرفة الأمور الإلهية وإيثارها وانصرافها عن والشهوات اللذات الجسمية ، وهو يتنبى قول سقراط بأن الفضيلة هى المعرفة وأن الإثم الأخلاقى إنما هو جهل وسوء تقدير .
ورغم أن الإنسان( المتوحد ) هو إلهى فاضل بالأفعال العقلية إلا أن ابن باجة الأندلسى (533هـ) صاحب كتاب تدبير المتوحد يرى أنه يشارك فى كل طقة فى أفضل أحوالها ويتفرد عليهم بما يفيض عليه العقل الفعال من أنوار المعرفة .
3- المعتزلة :
يعد مذهب المعتزلة فى الواجب الأخلاقى مذهبا صوريا مجردا عن عوامل الزمان والمكان ولا يرتبط تطبيقه بشخص أو بآخر بل هى أمور عامة تحمل طابع الضرورة الأخلاقية .
من أجل ذلك رفض المعتزلة فكرة اتخاذ الدين مصدرا لإلزام الخلقى لما فى ذلك من العودة إلى مذهب الغائية ، كما أنهم نكروا اعتبار مبدأ المواضعات الاجتماعية والأعراف مصدرا للإلزام لأن ذلك يتضمن القول بنسبية الأخلاق وهذا يلغى تماما الأخلاق المطلقة ، كما أن الواجب ليس دائما مقرونا باللذة أو المنفعة بل كثيرا ما يقترن الفعل الأخلاقى الحسن بالألم .
إن المعتزلة تركز مبدأ الإلزام الخلقى فى الإنسان نفسه فى عقله وحريته يقول الجبائى: (( لا يجب على الله تعالى شىء لعباده فى الدنيا ما لم يكلفهم عقلا وشرعا ، فأما إذا إذا كلفهم فعل الواجب فى عقولهم واجتناب القبائح وخلق فيهم الشهوة للقبيح والنفور من الحسن وركب فيهم الأخلاق الذميمة فإنه يجب عليه عند ذلك التكليف إكمال العقل ونصب الأدلة والقدرة والاستطاعة فالعقل إنما سمى عقلا لأن الإنسان يمنع به نفسه ..))
ولا ينبغى أن يفهم من هذا أن المعرفة ملجئة إلى الفعل إذ لو كانت كذلك لفقد الإنسان حريته واختياره وإنما هى بمفردها من جملة الواعى .. إن المعتزلة قد سبقوا فلاسفة الغرب وسبقوا كانط فى هذه القضية وهى القول بأن الحسن يتضمن فى باطنه مصدر الإلزام الخلقى لأن حسنه ذاتى فيه ومعرفة الإنسان وجه الحسن عقلا شرط لإلزامه به..
وبعد . لم تكن الأخلاق القرآنية الموضوع الرئيسى للدراسات والتقنين لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية لدى فلاسفة الإسلام .
وقد جاءت كل محاكاة إسلامية لفلسفة اليونان مشوهة أو صورة ناقصة من الفلسفة المشائية والأفلاطونية المحدثة.

فخر الدين المناظر
11-09-2007, 08:42 PM
شيء جميل رائع ،، هذا المقال يعد مرجعا خاصة وانه يستعرض التصورات الفلسفية عند فلاسفة العصور ويستعرض ما قاله فلاسفة الإسلام ...

ومما يزيد في أهميته أن كاتبه متخصص في المنطق والفلسفة .

جزا الله خيرا كاتبه وجعله نبراساً يضيء للسالكين طريق الحق القويم .. والحمد لله رب العالمين.