المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القرآن وقيادة العالم .. د.علي بادحدح



الفرصة الأخيرة
06-14-2006, 01:58 PM
القرآن وقيادة العالم
الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح

السؤال :

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كنت أتناقش مع أحد الأصدقاء في أن يتخذ من القرآن الكريم منهجاً لابد وأن يقود العالم، فلم يقتنع وقال أعطني أمثلة على ذلك في غير عصر الخلفاء الراشدين، لأن تلك النهضة في عصرهم قد تكون نظراً لشخصياتهم الفريدة وليس لاتخاذهم القرآن منهجاً.

فلم أستطع الرد نظراً لضعف المعومات لديّ، فبرجاء إرشادي إلى الرد المقنع في هذا الموضوع، وجزاكم الله خيراً .



الإجابة :

الظاهر أن مراد السائل بقوله: » أن يتخذ من القرآن الكريم منهجاً لابد وأن يقود العالم « أن المنهج القرآني والتشريع الإسلامي والهدي النبوي، هو القادر على قيادة العالم قيادة تبني الإنسان وتشيد العمران، وتقيم الحياة الدنيا وتعمل للحياة الأخرى، وباختصار فهي قيادة تعتمد على ترسيخ الأسس الإيمانية، والتزام الضوابط الأخلاقية والسلوكية، والتمسك بالمرجعية الشرعية، وإقرار الصبغة التعبدية، إضافة إلى إقرار المبادئ الإنسانية، وإقامة العدالة الربانية، ورعاية الحريات العامة، ورخاء الحياة الاقتصادية، ونزاهة الممارسة السياسية، ومصداقية ونظافة الوسائل الإعلامية، ودعم المسيرة التعليمية، وتطوير القوة الصناعية والتقنية، وبالجملة تحقيق الحياة الطيبة حسياً ومعنوياً { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ النحل:97 ] .



والحق أن معرفة ذلك واعتقاده من صميم الإسلام من حيث المبدأ والمعتقد، منهج الله الأفضل في الدنيا والأنجى في الأخرى، لأن الله خالق الإنسان ويعلم ما يصلحه ويصلح له في دنياه وأخراه { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ الملك:14]، فهداية القرآن تام { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [ الإسراء :9 ]، وتشريع الإسلام كامل { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً } [ المائدة: 3 ] ، والشمولية لنواحي الحياة ثابتة { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام:38 ] ، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل:89 ] ، وسول الهدى صلى الله عليه وسلم يقول: ( تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ) [ موطأ الإمام مالك ] .



إن الإسلام تميز بالجمع بين النظرية والتطبيق في المبادئ والوقائع، وقد منّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أقام الدين وساس الدنيا، ونشر الدعوة وأسس الدولة، ولم يكن بين الجانبين فصام، بل كان انسجام ووئام، وقد قال الله جل وعلا في معرض نعمته على رسوله صلى الله عليه وسلم :{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح:2-3 ] ، قال المراغي في تفسره : " واستوجب أن يجني ثمرة أعماله ومنها .. تمام النعمة باجتماع الملك والنبوة بعد أن كانت له النبوة وحدها " [ تفسير المراغي 26/82 ] ، وبعض الرسل الكرام من أولي العزم مثل موسى وعيسى عليهما السلام لم يقيما دولة ويطبقا تشريعاً كاملاً، واقتضت حكمة الله في خاتم الأنبياء أن يرتبط الدين والدولة في صياغة واحدة نموذجية تُعنى بالمثاليات وتعتني بالحاجات.



وقبل الانتقال إلى التاريخ أقرر أن الإسلام تضمن عوامل النهضة والقوة والريادة للأمة الإسلامية في كل زمان ومكان، وهذا إيجاز لهذه العوامل :

أولاً : الربانية الكاملة

فالمنهج رباني { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } [ المائدة:49 ] ، والدين كامل لا نقص فيه { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً } [ المائدة: 3 ].



ثانياً : الاستيعابية الشاملة

فالمنهج يتناول جوانب الحياة كاملة { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الأنعام:38 ]، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل:89 ] ، وفي حديث سلمان رضي الله عنه لما قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ ،َ فَقَالَ : أَجَلْ ) رواه مسلم .



ثالثاً : التطبيق النبوي

إن المبادئ عند أمة ما قد تكون عظيمة، والقيم قد تكون فاضلة، لكنها تظل مجرد نظريات حالمة، ومثاليات خيالية لا وجود لها في أرض الواقع، أما المنهج الإسلامي فمع كماله وشموله فقد تم تطبيقه في نموذج يمثل قمة الكمال البشري وذلك في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حيث عبرت عائشة رضي الله عنها عن هذه الحقيقة في الحديث المشهور عندما سئلت عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ( كان خلقه القرآن ) وإلى ذلك يشير قوله تعالى :{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } [ الأحزاب:21 ] ، فقد كان صلى الله عليه وسلم حاكماً عادلاً، وقائداً شجاعاً، وسياسياً محنكاً، وقاضياً نزيهاً، وتاجراً أميناً، ومربياً ناجحاً، وزوجاً وفياً، وأباً رحيماً، وصديقاً مخلصاً، فقد تمثلت فيه جوانب الحياة التطبيقية العملية جميعها .



رابعاً : التطبيق البشري

الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيد بالوحي لا يقاس عليه غيره، ولذا اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون هناك فترة زمنية حباها الله عز وجل خصيصة تميز لتطبيق المنهج الإسلامي بالنسبة لعهد الخلفاء الراشدين فقد ورد حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليكم بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ) رواه الترمذي، وحديث : ( تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ) رواه أحمد، ودلالة هذه الأحاديث أن عهد الخلفاء لراشدين له مزية في التطبيق تحقق درجة عالية في النموذج الإسلامي ليس في شخص الحاكم أو الخليفة فحسب بل في التطبيق العملي في واقع حياة الأمة، وكذلك في التقدم والتطوير المدني والحضاري فهماً وعملاً، فالفاروق عمر رضي الله عنه دوّن الدواوين ونظّم أجهزة الدولة وأخذ بالإحصاء وبرمج الاقتصاد وأعطى العطايا وجعل للناس حقوقاً وأعطيات وهكذا، ولا ننسى عموم التزكية القرآنية لجيل الصحابة كما في قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ } [ الفتح:18 ] ولا ننسى كذلك أفضلية القرون الأولى بما ورد في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) قال عمران لا أدري أذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قرنين أو ثلاثة . [ متفق عليه ] ، وهذا يجعل لأفضلية التطبيق مدى أوسع من عصر الخلفاء الراشدين .



خامساً : النموذج التطبيقي الدائم

إن الانحراف عن المبادئ وضعف الالتزام بما أمر الله واقع بل من طبيعة البشر وتأثرهم السلبي في مجالات الحياة التي تبعدهم عن دينهم ومنهجهم، لكن رحمة الله وحكمته في الرسالة الخاتمة أنه جعل نموذجها التطبيقي دائم ومستمر لا يخلو منه زمان وإن صغرت دائرته الجغرافية أو قل تمثيله البشري عددياً يدل على ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ) [ رواه مسلم ]، فلن يخلو زمان من ثلة تعتقد الاعتقاد الصحيح في كمال وشمولية منهج الإسلام وأحقيته في القيادة والريادة، واليقين بقدرته وصلاحيته لذلك، ثم تجسد هذه الثلة هذا النموذج في واقعها أفراداً ومجتمعاً ومجالات حياة ، وبالتالي لا يخلو زمان من وجود النموذج اعتقاداً بالقلوب والنفوس، وحقيقة في الواقع والتطبيق .

واستناداً إلى ما سبق فإن أمة الإسلام تَوَفرَ لها من أسباب ومقومات النهضة ما لم يتوفر لغيرها، ويمكن للمسلمين أن يستأنفوا نهضتهم ويجددوا ريادتهم إذا أخذوا بالأسباب وعملوا بمقتضى السنن الربانية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } [ محمد:7 ] ، وقوله تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [ الرعد:11 ]، وقوله تعالى :{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [ النور:55 ] ، فالمنهج واضح والتطبيق النبوي مفصل، والتطبيق النموذجي لا يخلو منه زمان وذلك ما لم تحظَ به أمة أخرى .



وأما ما يقال من أن تطبيق الإسلام لم يكن إلا في عصر الراشدين وأن سببه شخصياتهم المتميزة فإنه قول غير صحيح، ويشهد لذلك التاريخ نفسه ففيه سيرة ومنجزات عمر بن عبدالعزيز، وهارون الرشيد، ونور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، وأورانغ زيب عالمكير، وصديق خان، وغير هؤلاء كثير، فعلى مدى قرون كثيرة كان في أمة الإسلام أمور عظيمة :

أولها: أنها لم تتخذ بديلاً عن شرع الله وحكم الإسلام وإن قصرت في التطبيق والالتزام .

وثانيها : أنها كانت عزيزة الجناب مهابة من الأعداء قوية في الجانب العسكري فاتسعت فتوحاتها وكثرت انتصاراتها .

وثالثها:أنها زخرت بالعلماء الربانيين والدعاة المصلحين والأعلام الكبار في سائر الأمصار .

ورابعها : أنها تقدمت في العلوم التجريبية، والمنجزات الحضارية، والكشوف العلمية ، وسطرت خلال تلك الفترات المختلفة منجزات كثيرة وبديعة، وتاريخ العلوم والحضارة يشهد بذلك، وقد سطر بعضه أعلام من الغرب كما في كتاب [ شمس العرب تسطع على الغرب ] للدكتورة زيغريد هونكه .



فليس صحيحاً أن يحصر التاريخ في الحروب التي وقعت بين المسلمين ، وليس من الإنصاف قصره على فساد وانحراف بعض الخلفاء، والعاقل ينظر فيرى أمة الإسلام وهي رائدة وقائدة في مجالات الحياة المختلفة على مدى قرون كثيرة، حتى انفرط عقدها بسقوط الخلافة العثمانية التي كانت نداً لأوروبا ووصلت جيوشها إلى أبواب » فيينا « عاصمة النمسا، فصفحات تاريخنا فيها الكثير من العظمة والإنجاز تصدق ما ذكرناه من التفرد والتميز في المنهاج، وما على المسلمين اليوم إلا أن يعودوا للتمسك بالمنهج الإسلامي، ويتوحدوا عليه ويصدقوا مع الله وسيكون لهم مرة أخرى العزة والقوة والسيادة والريادة، إن شاء الله تعالى .



وكتبه :

د. علي بن عمر بادحدح






المصدر (http://islameiat.com/main/?c=44&a=1300)