المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعلان الحداثة المستجدة و المطلقة للأسلوب القرآني



ابن سلامة القادري
05-01-2014, 01:50 PM
مقدّمة كتاب '' التناسب الإحصائي والبياني في التعبير القرآني ''
لمؤلفه الدكتور العراقي عقيل الخاقاني
دكتوراه في اللغة العربية وآدابها
التخصّص العام: اللغة العربية وآدابها.
التخصّص الدقيق: النقد والبلاغة القرآنية.


بسم الله الرحمن الرحيم

يتفق علماء العربية، على اختلاف مذاهبهم وتعدّد مشاربهم، على أنَّ القرآن الكريم هو كتاب العربية الأكبر وسفرها الخالد، وقد وصفه الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم بأنّه: حبلُ الله المتين، والذكر الحكيم، والنور المبين، لا يَشبَع منه العلماء، ولا يَخْلقُ على كثرة الردِّ، ولا تنقضي عِبرُه، ولا تفنى عجائبه...
ومع أنَّ العلماء والباحثين، مسلمين وغير مسلمين، قدامى ومحدثين، قد قالوا وكتبوا كثيرا في (البلاغة القرآنية)، وأثبتوا بمقالاتهم وكتاباتهم هذه أنَّ التعبير القرآني يمثل أرقى أنواع البيان العربي، فإنَّ هذا الموضوع يبقى بكرا وحديثا. ولعلَّ خير دليل على حداثته هو أنَّه ما زال يؤثر فينا تأثيرا لا يُحدثه أيُّ تعبير فنيّ آخر، مهما بلغت درجة فصاحته وبلاغته، ذلك بأنَّ (الحديث) يسمّى حديثا بمقدار ما يُحدثه من تأثير في النفوس، أي أنَّ درجة حداثة أيِّ نصٍّ تقاس على وفق ما يُحدثه ذلك النص من تأثير في نفوس متلقيه عبر العصور. وهذا ما يسمّى عند أهل الأدب بـ(الأدب الخالد)، لذا إنَّ شعر امرئ القيس حديث، ونهج البلاغة حديث، وشعر المتنبي حديث، وما كتبه وليم شكسبير حديث، وشعر الجواهري حديث، وما أبدعته مخيلة طه حسين من سهل ممتنع حديث، إلى غير ذلك من الآثار الأدبية والفنية الرائعة التي ما زالت تؤثر فينا، إذ نتغنّى بها ونهتزّ لسماعها، مع تباعد الأزمنة والأمكنة التي قيلت فيها وتباين الثقافات التي صدر عنها مبدعوها.
وبهذا يكون النصُّ القرآني هو النصَّ الأكثر حداثةً، إذا ما أردنا أن نوازن بينه وبين غيره من النصوص الفنية. نقول ذلك لا لأنَّنا مسلمون ونعتقد بالقرآن ما لا يعتقد به غيرُنا، بل يستطيع أيُّ عربيٍّ يمتلك حسَّ لغته وذوقها الأصيل أن يُدرك جمال العبارة القرآنية بكلِّ يسرٍ وسهولة، ومن ثمَّ يؤمن بأنَّ هذا البيان القرآني ليس من صنع البشر. ويمكن أن نستدلَّ على ذلك بأنَّ التعبير القرآني قد أثَّر وما زال يؤثِّر في المسلمين وغير المسلمين، بل أثر في أشدِّ الناس عداوةً للإسلام ولنبيِّ الإسلام. ولعلَّ أجمل ما يروى في هذا الشأن هو أنَّ كلا من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق يأخذ نفسه خلسة لسماع ما يرتله المسلمون من آي الذكر الحكيم ليلا، و رسول الله في بيته لا يعلم بمكانهم ولا يعلم أحدٌ منهم بمكان صاحبه، حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فإذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.... ثمَّ انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلُّ رجلٍ منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أولَّ مرة ثمَّ انصرفوا. وفي الليلة الثالثة أخذ كلُّ رجلٍ مجلسه فباتوا يستمعون حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد على أن لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. وقد أخبر الله تعالى نبيَّه بهذا الأمر فقال عزَّ وجل: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورًا﴾.
وقد بدأت قضية الإعجاز البياني في القرآن الكريم تفرض وجودها على العرب منذ أن هبط جبرائيل ـ عليه السلام ـ يحمل أولَّ سورة من القرآن الكريم: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، لذا حرص طواغيت الوثنية من قريش على أن يحولوا بين العرب وسماع هذا البيان المعجز، فكانوا إذا أهلَّ الموسم وجاءت قبائل العرب للحج ترصدوا لها عند مداخل مكة، وأخذوا بسبل الناس، لا يمرُّ بهم أحدٌ إلا حذروه من الإصغاء إلى ما جاء به (محمد بن عبد الله)، من كلام وصفوه بالسحر الذي يفرِّق بين المرء وأبيه وأخيه، وبين المرء وزوجه وولده وعشيرته، إدراكا منهم بأنَّ العرب قومٌ يهزُّهم البيان، حتى أنَّ النبي نفسه قال: ((إنَّ من البيان لسحرا)).
ولم يكن الغرض من التعبير القرآني أن يسنَّ تشريعا أو أن يحكي خبرا فحسب، مثلما هي الحال في الكتب السماوية السابقة، وإنَّما قصد به ـ فضلا عن هذا كله ـ التأثير في متلقيه تأثيرا بيانيا أو فنيا، من شأنه أن يحملهم على الإيمان بما جاء فيه، ذلك بأنَّ العرب يهزُّهم البيان.
من هنا عُدَّ الإعجاز البياني الوجه الأول من وجوه الإعجاز القرآني وأهمَّها قاطبة. ولنبرهن على ذلك لا بدَّ من أن نقف عند بعض السمات التعبيرية من وحي البلاغة القرآنية.
ولأنَّ قضايا التعبير القرآني وظواهره كثيرة، وليس لأحدٍ أن يستقصيها في بضع دراسات، فقد آثرت أن أقف عند بعض هذه القضايا والظواهر، وأن أبدأ بظاهرة ( التناسب الإحصائي والبياني )...