المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نظرية التطور.. والوهم الكبير



ابن سلامة القادري
05-04-2014, 12:36 AM
يعد هذا الكون الواسع مسرحا عظيما يدل على وجود خالقه ومبدعه، وتبيانا ساطعا تتجلى من خلاله عظيم صفات البارئ وأسمائه، وذلك لما يضمه من خفي الحكمة ودقة الصنعة التي لو وقف المتأمل على جانب منها لغرق في بحر من الدهشة أمام العظمة والترابط المحكم بين أجزاء الوجود المتباينة.

ولعل المخلوقات الحية التي تسبح في هذا الوجود احد أعظم الآيات الدالة على خالقها وصفاته، ابتداء من أصغرها وابسطها قواما، وانتهاء بأكبرها وأكثرها تعقيدا، وحق للذي يدرس علوم الحياة وأسرار الكائنات الحية وطرائق معيشتها أن يكون من اشد المؤمنين بالله تعالى الخاضعين لجماله وجلاله.

ولكن.. الحال في هذه الأزمان يفصح عن غير هذه الحالة، ذلك أن هنالك نوعا من الفصل الشديد بين ما يسمى بالبحث العلمي الذي يدرس أنظمة الحياة وقوانينها الطبيعية، وبين الإيمان بوجود خالق عليم مدبر لها، وهذا الفصل يهيمن على عقول الناس هيمنة قوية وبشكل غريب، وذلك نتيجة لنوع من التلقين الخفي والتعليم غير المباشر الذي يربي أذهان الناس على هذا الأمر من خلال عدة أساليب مدروسة ومكثفة، حتى راحت ضحيته اليوم عقول الكثير من الناس مع شديد الأسف، بحيث لا يملك المرء أن يدعي بأن أساتذة المدارس الأكاديمية الذين يشرحون لتلامذتهم علوم الحياة ونواميسها يركزون على فكرة (إبداع الخالق في عجائب المخلوقات)، بل على العكس من ذلك، حيث نجد أن هذه الفكرة قد أصبحت غريبة جدا في الأوساط العلمية والمناهج التعليمية إلى ابعد الحدود، حتى يعد البعض أن الترويج لها يعتبر هروبا من الفهم العلمي بسبب العجز عن تفسير ظواهر الكون الطبيعية، وهذا الأمر يقع في بلاد المسلمين بشكل مشهود فضلا عن غيرها من البلاد.

العلم قرين الإيمان :

والواقع أن متابعة البحث والتنقيب عن أسرار الحياة والعودة إلى أسبابها الطبيعية لا يتصادم إطلاقا مع الإيمان بان لها خالقا ابتدعها ووضع لها تلك النظم التي يتوقف بعضها على بعض ويتفاعل بعضها مع البعض الآخر على أحسن ما يرام، وقد التفت رجال علم كبار الى هذه المسالة المهمة، ولم يتمالكوا دون ان يخضعوا لقدرة الباري جل وعلا ويعترفوا له بالعبودية بكل صراحة، وكم هو عظيم ما يروى في هذا الصدد عن العالم الشهير "البرت انشتاين" - صاحب النظرية النسبية ومكتشف الانشطار النووي- حيث يقول: (إن أجمل هزة نفسية نشعر بها هي تلك الهزة التي تعرونا عندما نقف على عتبة الخفاء من باب الغيب، إنها النواة لمعرفة الحق في كل فن وكل علم، وانه لميت ذلك الذي يكون غريبا عن هذا الشعور فيعيش مُستغلقا رعبا من غير أن تجد روعة التعجب إلى نفسه سبيلا، إن جوهر الشعور الديني في صميمه هو ان نعلم بان ذلك الذي لا سبيل إلى معرفة كنه ذاته موجود حقا ويتجلى بأسمى آيات الحكمة وأبهى أنوار الجمال..).

إن النتيجة التي تترتب على ذلك الفصل الشديد هي إلغاء الإيمان بعالم الغيب في عقول الناس تحت عنوان العلم والتعلم، والحال أن إلغاء هذه الفكرة عن العلوم الطبيعية يجعلها عاجزة عن معرفة جذور الحقائق التي يقف أمامها علماء الطبيعة حائرين لا يهتدون لمعرفة عللها، على الرغم من الأشواط الواسعة التي قطعها هؤلاء في مجال الاكتشافات العلمية، في الوقت الذي لا تشكل فيه فكرة الخالق المبدع عائقا أمام مسيرة الدراسة التجريبية والتحليلية التي يقوم بها الإنسان لحقائق هذا الوجود وأنظمته الطبيعية.

واحد الوسائل الأساسية التي استغلت للتمويه على عقول الناس في هذا المجال هي نظرية التطور التي تربّعت معطياتها على الساحة العلمية اليوم، وروّج لها الكثيرون في شتى مراكز علوم الحياة، بعد أن جاءت بواكيرها على يد عالم الطبيعة الشهير "داروين".

وعلى الرغم من أن الكثير من حلقات هذه النظرية لا تزال مبهمة بعد مرور أكثر من مائة وخمسين سنة على نشوئها وتطورها، وعلى الرغم من أن الأسس التي تقف عليها لا تزال هزيلة، ولكننا نجد أن هذه النظرية قد أخذت حيزا واسعا من الدعاية والإعلام بين المجتمعات العلمية والعامية على حد سواء، بحيث لا يجد المتأمل تناسبا سليما بين الجلبة الإعلامية التي حققتها هذه النظرية مقارنة بالحقائق العلمية الثابتة التي تدعم مدّعياتها.

نبذة عن نظرية التطور :

تعتمد نظرية تطور الكائنات الحية على الأرض على أربعة قوانين افتراضية تتمثل بالتالي:

1- قانون الصراع من اجل البقاء

2- قانون التباينات بين الأفراد

3- قانون الوراثة

4- قانون الانتخاب الطبيعي

أما القانون الأول فيفترض بأن الكائنات الحية في حالة صراع مستمر فيما بينها ومع الطبيعة، وهذا القانون يؤدي إلى موت الكائن الضعيف وبقاء الأقوى والأصلح.

أما القانون الثاني فهو يفترض بأن الخلايا الحية ميّالة إلى التغير والاختلاف فيما بينها، ومثال ذلك أننا عندما ننظر إلى أوراق الشجرة الواحدة نجد أنها جميعا متشابهة، ولكن عند التدقيق بالنظر نكتشف أن بينها فروقات خلقية تجعل الأوراق غير متطابقة تماما.

وهذه التباينات في بادئ الأمر ليست ذات تأثير منظور، ولكن مع مرور الدهور والأجيال وانتقال جميع هذه التباينات إلى الأبناء عن طريق القانون الثالث - أي عن طريق الوراثة- فان التباينات سوف تتراكم في الكائن الحي لدرجة أنها سوف تنتج صفاتا جديدة واضحة فيه.

أما القانون الرابع فيفترض بأن ظروف الطبيعة المحيطة بالكائن الحي سوف تحكم على صفات الكائن الجديدة بالبقاء أو الفناء، فان كانت هذه الصفات صالحة وممتازة، فانها ستبقى وتستمر، أما إذا كانت سلبية فانها ستواجه الفناء والاندثار، أو تتكيف بشكل جديد لتقاوم الظروف المحيطة بها.

ومع استمرار تكرر هذه العملية وفق القوانين المذكورة عبر الدهور، ستتراكم الصفات الممتازة والحسنة في الكائن الحي إلى درجة انه سيتحول إلى كائن جديد يختلف عن أصوله التي نشأ منها تماما.

إن الذي يدقق جيدا في أسس هذه النظرية وتفسيرها المتسلسل، يجد أنها توهم المتلقي بان الصفات البديعة التي نراها في الكائنات الحية نابعة من داخل ذاته، وان المادة الحية بنفسها هي من أنتجت –طبيعيا- هذه المخلوقات بصفاتها الرائعة، وكأن الأمر منفصل عن ارتباطه بخالق حكيم عليم، وان لم تصرّح النظرية بذلك جهرة، وان تمريرها عبارات مثل: (الكائن الحي طوّر هذه الأعضاء ليلائم الحالة الفلانية) و(جسم الكائن الحي تطوّر ليواجه الأخطار الفلانية) تهدي للتفكير الباطن عند الإنسان صورة بعيدة عن علاقة المخلوق بالخالق، وكأن هذه الحياة تقوم بشؤون نفسها بعيدا عن أي مدبر لها.

ولا ريب ان هذا الفهم لا يمكن ان يستقيم بأي حال من الأحوال، ولكن مع التلقين المستمر سيتحول هذا الوهم إلى حقيقة مقبولة في أذهان المتلقين بعد فترة من الزمن، ونحن نشهد على هذه النتيجة بشكل واضح في عصرنا هذا.

جانب من هفوات النظرية :

ان الذي لديه اطلاع عام على مجمل البحوث والاكتشافات العلمية في عالم الكائنات الحية يجد أن هنالك أمورا لا يمكن لنظرية التطور وفق متبنياتها هذه أن تجيب عنها إطلاقا، ومن هذه الأمور:

1- إن التباينات وان كانت موجودة فعلا في الكائن الحي، ولكن لم يثبت إطلاقا أن تراكمها سوف ينتج عنه نوعا جديدا يحمل تغيرات جذرية عن أسلافه، حتى وان طالت المدة، فلو نظرنا لكائن حي بسيط كالفايروس - الذي يمتلك قابلية هائلة على تغيير خريطته الجينية باستمرار- فإننا لن نعثر يوما على تحوله إلى كائن حي جديد يختلف في شكله وتركيبه عن عائلة الفايروسات، على الرغم من كل التغيرات التي يمر بها والتي يراقبها العلماء منذ أوقات مديدة، وإنما تبقى هذه التغيرات في حدود أنواع الفيروسات وبنائها الفسيولوجي المعروف، كل ما في الأمر أن هذه التغيرات تمكن هذا الكائن الحي البسيط من مقاومة الظروف الجديدة التي تحيط به ليستمر بالبقاء والنمو والتكاثر.

والأمر يشبه إلى حد ما تكيف جسم الإنسان مع محيطه الخارجي، حيث نجد أن الأشخاص الذين يعيشون في بيئة اعتيادية لا يتمكنون من العيش في بيئات متطرفة –شديدة البرد مثلا- في الوقت الذي تتمكن جماعات أخرى من البشر العيش فيها باعتبار انهم ولدوا أصلا في مثل تلك البيئات، وتكيفت أجسامهم تبعا لها، ولكننا لم نرَ أو نسمع أن أجساد هؤلاء الناس قد تكيفت إلى درجة أدت إلى نمو ريش على بشرتهم –مثلا- كنوع جديد من البشر نشأ نتيجة لتراكم التكيفات الجسمية بسبب الظروف البيئية القاسية التي تحيط بهم على مر الأجيال.

2- وعلى فرض ان التباينات في الكائن الحي تؤدي إلى تولّد نوع جديد بسبب تراكمها عبر الدهور المديدة، ولكن هل يكفي عمر الحياة على الكرة الأرضية -القصيرة نسبيا- إلى تولد كل هذه الكائنات الحية التي نراها على وجه الأرض، وبخاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الكثرة الكاثرة من هذه الكائنات تصل إلى مديات شديدة التعقيد بحيث لا يمكن مقارنتها مطلقا مع الخلية الأولية البسيطة التي يفترض البعض أنها أساس الحياة على هذا الكوكب.

3- ولو كانت نظرية التطور سليمة، فكيف يمكن لها ان تفسر وجود واستمرار الأنواع الحية جميعا - البسيطة والمعقدة الخلقة- في العالم إلى يومنا هذا، فلو كانت النظرية مقبولة منطقيا –ولو على مستوى الظن- لكان ينبغي بقاء واستمرار الأنواع الحية ذات الصفات الممتازة فقط، وهلاك كل الكائنات الأضعف بنية والأبسط تركيبا منذ زمن بعيد.

ولا اقل من انفراد الكائنات الحية في بيئات منعزلة كل نوع على حده، إذ أن الانتخاب الطبيعي الذي يتحكم بتواجد الأنواع يعتمد على الظروف البيئية، وهذه الظروف كما هو بديهي تختلف من مكان لآخر اختلافا كبيرا، وبالتالي لا بد أن يسمح لنوع معين من الكائنات الحية بالعيش في بيئة محددة دون سواها، ولكننا في الواقع نجد أن مليارات الكائنات الحية الشديدة الاختلاف تعيش في وسط واحد جنبا إلى جنب دون مشاكل مع بيئتها، بل وتتفاعل فيما بينها بشكل ايجابي إلى ابعد الحدود.

لا بد للإبداع من مبدع :

حتى وان تنازلنا عن الكثير من الفجوات والهفوات التي تضمها نظرية التطور الرائجة اليوم، فهل يمكن لنا أن نقول بان هذه القابلية التي تدعيها النظرية في الكائن الحي –القدرة على التفاعل مع البيئة وإنتاج صفات بديعة التركيب- غير قائم على قصد أودعه خالق في هذه المخلوقات؟ لان التباينات إذا كانت عشوائية صرفة فإنها لا يمكن أن تنتج هذا التركيب العجيب وهذه الصفات المتقنة التي نراها في الكائنات الحية – من صغيرها إلى كبيرها- والتي تمكن الكائن الحي من العيش والتفاعل مع بيئته المحيطة به بشكل دقيق وراقي، وإذا ساغ لنا ان ندعي بان هذه التباينات يمكن ان تكون وليدة قفزات عشوائية ناشئة عن مصادفة.. فمن باب أولى يمكن أن نسوغ لأنفسنا تصديق مسألة: أن أوانيَ من الألوان انسكبت بشكل عشوائي على لوح "دافنشي" مصادفة فنتج عن ذلك لوحة "المونيليزا" الشهيرة.

إننا لا نحاول في هذا الموضوع أن نفند نظرية التطور للحياة من خلال الحقائق العلمية بالدرجة الأساس، ولكن الذي نحاوله هنا فضح الأسلوب الخفي لجهات معينة تحاول أن تتخذ من هكذا نظريات وآراء وسائل لتغليف عقول الناس بحجاب حصين من الوهم اللاشعوري، بحيث تجعلهم لا يتمكنون من الربط بين الإبداع العجيب في هذا الخلق وبين مبدعه العظيم سبحانه وتعالى، وبالتالي تفوت على البشر فرصة عظيمة تتمثل في ازدياد معرفتهم بحقيقة الموجد لهذه الحياة، لان هذه المعرفة تعد من أهم الأساسيات التي يحتاجها عقل الإنسان كثيرا لدوام ارتباطه بخالقه تحقيقا للغايات التي خُلق البشر من اجلها في هذا الوجود.

المصدر : عن مجلة الفرات