المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من أخطاء التفسير العلمي : بيت العنكبوت و خيط العنكبوت



ابن سلامة القادري
10-12-2014, 12:19 AM
كتبه أبو إبراهيم قوانيش
ملتقى أهل التفسير

القول بأن المراد بالوهن هو التفكك الداخلي بين أفراد الأسرة العنكبوتية هو رأي الطبيب مصطفى محمود و تلقف كلامه من جاء بعده من الخائضين في التفسير العلمي، و حجته: أن الآية ختمت بقوله تعالى: "لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"، ففيه سرٌّ بيولوجياً كان المشركون بمنأى عن معرفته! و أن الله قال: "بيت"، و لم يقل: "خيط" أو "نسيج". و السبب الذي جرّه إلى هذا القول هو أن العلم كشف الآن بالقياس أن خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات...فقال الطبيب مصطفى محمود: "فالحقيقة أن بيت العنكبوت هو أبعد البيوت عن صفة البيت بما يلزم البيت من أمان و سكينة و طمأنينة، فالعنكبوت الأنثى هي التي تبني البيت و تغزل خيوطه، و هي الحاكمة عليه، و هي تقتل ذكرها بعد أن يلقحها و تأكله، و الأبناء يأكل بعضهم بعضاً، و لهذا يعمد الذكر إلى الفرار بجلده...و تغزل الأنثى العنكبوت بيتها ليكون فخاً و كميناً و مقتلاً لكل حشرة، أي: إنه ليس بيتاً بل مذبحة..." ("القرآن محاولة لفهم عصري" للطبيب مصطفى محمود 251-252). و قد انتقده الدكتور أحمد محمد الفاضل من ثلاثة جوانب:

الأول: طوحُ كلام هذا الطبيب بجانب القرآن البلاغي الرائع، و هو المبالغة و التشبيه. قال الدكتور أحمد: "و التشبيه تمثيلي، فيه تشبيه صورة المشرك الذي يلجأ إلى معبوده (الصنم) بقصد جلب النفع له، أو دفع الضرر عنه، ثم لا يجد أي نفعٍ و لا يدفع عنه أي ضررٍ، بصورة العنكبوت التي تتعرض للخطر الداهم، فتقفز إلى بيتها أيضاً بقصد دفع الأذى و الضرر عن نفسها، لكن بيتها هذا لا يجدي شيئاً. هذه الصورة البلاغية الرائعة التي يريدها القرآن الكريم تضيعُ إذا حملنا الوهن على أنه داخليٌّ ينتشر بين أفراد الأسرة العنكبوتية.

الثاني: اللغة، قال: "لأن الزعم بأن العنكبوت هنا هي الأنثى خطأٌ ظاهرٌ تأباه اللغة العربية، لأن العنكبوت لا تنعت بأي من الوصفين: الذكورة و الأنوثة كالنملة و النحل و الدود، و هو تأنيث لغويٌ لا علاقة له بالتأنيث البيولوجي كما توهم الطبيب مصطفى محمود. و النحلة أو العنكبوت قد تكون ذكراً كما قد تكون أنثى".

الثالث: المعنى و الأسلوب، قال: "لأن الاستدلال بقوله تعالى "كَانُوا يَعْلَمُونَ" على أن الذي كانوا لا يعلمونه من قبلُ هو هذا الذي عرفه العلم الطبيعي اليوم من التفكك الأسري هو من البعد بمكانٍ، لأنه جهّل المشركين لما لم يعملوا بما علموا، لأنهم قد علموا أن هذه الأصنام لا تنفع و لا تضر، لكن الاستكبار و تقليد الأباء و الأجداد حملهم على مخالفة ما علموه. و هذا أسلوبٌ قرآنيٌ شائعٌ معروفٌ، فقد وصف الله تعالى المنافقين بقوله تعالى: "صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ" و غير ذلك من الآيات، و هم على الحقيقة ليسوا صماً و لا بكماً و لا عمياً، لكن لما لم يستفيدوا من حواسهم هذه جعلها بمنزلة المعدومة و المعطلة، و كذلك الشأن في هذه الآية التي بين أيدينا". (يُنظر: "نقد التفسير العلمي و العددي المعاصر للقرآن الكريم" للدكتور أحمد محمد الفاضل، ص 29-34،)
و إضافةً إلى ما ذكر أقول:
هذا مثالٌ من مئات الأمثلة على غياب عمن يخوض في التفسير العلمي علمُ أصول التفسير و المنهج السليم في التعامل مع نصوص القرآن الكريم. انظر إلى هذا الطبيب - عفا الله عنه و ألهمه رشده - كيف غاب عنه أصل كبير من أصول العلم ألا و هو الرجوع إلى كلام السلف و لغة العرب لفهم معاني القرآن، فقد أمرنا الله باتباع سبيلهم و أخبر عن توفيقهم و شُهِدَ لهم بالخيرية في كل شيء. و تفسير ذلك الطبيب قد أمكن له أن يكون مقبولاً نوعاً ما لو لا مخالفته و مضادته لكلام السلف، إذ يستلزم جهلهم قاطبةً بحقيقة معنى الآية، فهم لم يطرأ عليهم ذلك الفهم أبداً. انظر مثلاً في تفسير الطبري (20|38-39، ط شاكر):
يقول تعالى ذكره: مثل الذين اتخذوا الآلهة والأوثان من دون الله أولياء يرجون نَصْرها ونفعها عند حاجتهم إليها في ضعف احتيالهم، وقبح رواياتهم، وسوء اختيارهم لأنفسهم، (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) في ضعفها، وقلة احتيالها لنفسها، (اتَّخَذَتْ بَيْتًا) لنفسها، كيما يُكِنهَا، فلم يغن عنها شيئا عند حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم حين نزل بهم أمر الله، وحلّ بهم سخطه أولياؤُهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدفعوا عنهم ما أحلّ الله بهم من سخطه بعبادتهم إياهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ... ) إلى آخر الآية، قال: ذلك مثل ضربه الله لمن عبد غيره، إن مثله كمثل بيت العنكبوت.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ) قال: هذا مثل ضربه الله للمشرك مَثل إلهه الذي يدعوه من دون الله كمثل بيت العنكبوت واهن ضعيف لا ينفعه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) قال: هذا مثل ضربه الله، لا يغني أولياؤهم عنهم شيئا، كما لا يغني العنكبوت بيتها هذا.
وقوله: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) يقول: إن أضعف البيوت (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) يقول تعالى ذكره: لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء، يعلمون أن أولياءهم الذين اتخذوهم من دون الله في قلة غنائهم عنهم، كغناء بيت العنكبوت عنها، لكنهم يجهلون ذلك، فيحسبون أنهم ينفعونهم ويقرّبونهم إلى الله زلفى" اهـ.
ثم ذاك الخلط و الخبط الذي حصل له في "البيت" و "الخيط" يدل دلالة واضحة على مدى ثقافة هؤلاء العلمية الشرعية و اللغوية، فيا سبحان الله كيف يغتر بكلامهم من تعلم الدين و درس الشريعة، فصدور مثل هذه التلاعبات و الغرائب من مدعي الإعجاز العلمي أمرٌ لا يتعجب منه، و لكن العجيب ما تراه من المتعلمين من الاستحسان لآرائهم!
فأصل البيت: مأوى الإنسان بالليل، لأنه يقال: بَاتَ: أقام بالليل، كما يقال: ظلّ بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، وجمعه أَبْيَات وبُيُوت، لكن البيوت بالمسكن أخصّ. ("المفردات": ص 151 - صفوان عدنان الداودي). و في "مقاييس الغة" (1|300 - عبد السَّلام محمد هَارُون): "الباء والياء والتاء أصلٌ واحد، وهو المأْوَى والمآب ومَجْمَع الشّمْل. يقال بيتٌ وبُيوتٌ وأبياتٌ. ومنه يقال لبيت الشِّعر بيتٌ على التشبيه لأنه مَجْمَع الألفاظِ والحروفِ والمعاني". فهذا هو الأصل الموضوع له في اللغة، ثم تأتي عبارات المفسرين على اختلافها و حسب عادتهم في التفسير كلها ترجع إلى هذا الأصل أو مبينةً و محَدِّدةً لمعنى البيت في السياق، مثل: المسجد و السفينة و الكعبة و الخيمة و السجن و العش و الكهوف و الخانات (ينظر "نزهة الأعين النواظر" لابن الجوزي: ص 206-208، ط الرسالة تحقيق محمد الراضي). فالطبيب مصطفى مطالب بأن يثبت أن البيت تأتي بمعنى الأسرة في اللغة كالأصل الثاني يضاف إلى ما ذكره علماء اللغة لأنه أبى تسمية ما يغزل العنكبوت من الخيوط بيتاً ثم ادعى أن المراد الأسرة! ثم إنه لو سمينا الأسرة بيتاً لكون الإنسان يأوي إليها كتسمية المرأءة بيتاً نحن أمام عقبات تمنعنا من التعجل في هذا الإطلاق...
هذا و الله تعالى أعلم.
جعلت بعض مواقع الإنترنت التنصيرية والإلحادية من الآية الكريمة مصدر طعن حول سلامة القرآن الكريم من الزلل؛ لأن (خيط العنكبوت) ليس أوهن الخيوط، بل على العكس هو من أقواها (نسبياً).. فـ (خيط الفولاذ مثلاً) أوهن منه.
وجوابه:
القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة تحدث عن أوهن البيوت، ولم يتحدث عن أوهن الخيوط.
بل حتى يكتمل سياق الآية الكريمة والمراد منها، لابد أن يكون كل خيط من خيوط العنكبوت قوياً وحده.
فالآية الكريمة تتحدث عن الذي يلتمس ولياً ينصره من دون الله ، ذاك الولي يجب أن يكون قوياً في كثير من (خيوطه) بداهة، وإلا لما التمس فيه القوة والقدرة على حمايته.
ولكن القرآن الكريم يهدف إلى ما يصحح مفاهيم الناس، فيبين لهم أن من يبحثون عنده الأمان والحفظ ـ من أفراد أو دُوَل ـ، هو ذاته عاجز عن توفير الأمان لنفسه. فالعنكبوت إن نزل مطر شديد أو هاجمها طير فإنها تترك بيتها، وتلجأ إلى ثقبٍ في جذع شجرة، أو تحت حجر.. تاركة بيتها التي تعلم يقيناً أنه لا يغنيها شيئاً.
ولتوضيح التشبيه: الآية تدل على " أن من عبَدَ غير الله فقد اتخذ ولياً من دونه لا ينفعه ولا يضره، وكان في اتخاذ ذلك كالعنكبوت في اتخاذها بيتاً لا يجنبها من شيئ ولا يكنها من حر ولا برد.. وقوله: لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ متصل بقوله اتَّخَذوا أي: لو علموا أن اتخاذ الأولياء كاتخاذ العنكبوت بيتاً ضعيفاً، ليس أنهم لا يعلمون أن بيت العنكبوت أضعف البيوت التي يتخذها الهوام، وأقلها وقاية، فكذلك أولياؤهم في الضعف والوهن وعدم النفع لهم، ودفع الضرر عنهم ".(الجمان في تشبيهات القرآن، ابن ناقيا، ص149.)
فمن طلبَ النجاة من البلل بالمطر، أو التمس الظل أو الحماية من عدو.. بجلوسه تحت بيت العنكبوت، يكون أحمق الناس؛ لأن بيت العنكبوت لو كان مفيداً في أيٍّ من ذلك، لأفاد العنكبوت صاحبة البيت. ولكن العنكبوت ـ وهي الأدرى بخصائص بيتها ـ لا تلتجئ ببيتها عند الشدائد.

باختصار: لو كان القرآن الكريم من تأليف محمد صلى الله عليه و سلم لما وجد حَرَجاً أن يقول: " إن أوهن الخيوط لخيط العنكبوت "، فمن كان سيكذبه بحسب معارف ذلك الزمان ؟ وسبحان منزل القرآن !

أبو جعفر المنصور
10-12-2014, 01:07 AM
كلام حسن اللهم بارك

الدكتور قواسمية
10-17-2014, 05:51 PM
جزاكم الله خيرا صديقي ابن سلامة .. غير أن الحديث في الاية جاء عن البيت و ليس الخيط، و لا يستلزم من قوة مادة الخيط قوة البيت.
القرآن الكريم في هذه الآية الكريمة تحدث عن أوهن البيوت، ولم يتحدث عن أوهن الخيوط.
غير أن ما ذكره الكاتب لا يعد خطأ بل هو مكمل لمعنى الوهن في بيت العنكبوت وبالتالي يكون لهذا الوهن أشكال عديدة وهن مادي ووهن نفسي واجتماعي
فمادام هذا المعنى لا يضاد فهم السلف بل يكمله فلماذا لا يتم حمل الآية على المعنيين
خصوصا وأن البيت في اللغة قد يطلق على المكان وعلى المكين أي أهل البيت مثل قوله تعالى " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " قرآن كريم
وقوله تعالى " وأسئل القرية التي كنا فيها " قرآن كريم والمقصود أهل القرية
وقوله تعالى " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" قرآن كريم والمقصود أهل القرية
هذا والله أعلم

ابن سلامة القادري
10-19-2014, 11:24 PM
أكرمك الله دكتورنا الحبيب بما يكرم به عباده الصالحين،
الآية الكريمة احتوت على مماثلة دقيقة بين ما يفعله المشرك و ما تفعله العنكبوت، مماثلة في اتخاذ شيء ما، و ليس بين حال المشرك و حال بيت العنكبوت. فالآية في ظني قد لا تسع هذا المعنى من وجهة لغوية صرفة. فلم يقل الله تعالى : مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل بيت أو أسرة العنكبوت أو حالهم كحاله، بل المعنى أدق و أخص : قال فعلهم كفعله و الشيء الذي اتخذوه مثيل للشيء الذي اتخذه العنكبوت و لا ينفعه لشدة وهنه و ليس لوهن العنكبوت نفسه أو أسرته بل المادة نفسها التي اتخذها بيتا له فمن المعلوم أنها لا تقوى على شيء.

و هذا كلام يفي ببيان المعنى المقصود المطابق للآية و أنه لا يصادم ما اكتشفه العلم أخيرا بل يقتضيه و يوافقه بشكل عجيب :

يقول الأستاذ محمد إسماعيل عتوك ''باحث في إعجاز القرآن البلاغي والعلمي'' : (و إن كان يقول أيضا بالتفسير المُحدَث للآية)


فالوهن الذي أخبر عنه القرآن الكريم ليس في خيط العنكبوت؛ وإنما هو في البيت، الذي نسج من ذلك الخيط. قال الدكتور محمد الفار في مقاله، الذي أشرنا إليه سابقًا:” والعجيب أن من هذه الخيوط‏(‏ القوية‏ )‏ تصنع بيوت العنكبوت‏(‏ الضعيفة‏ )‏ الواهية والواهنة‏.‏ وإلى هذا يشير المولى عز وجل في قوله تعالى:﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾.
والمعني العام: أنه من يتوكل على غير الله‏,‏ طالبًا المناصرة والمؤازرة‏,‏ فإنه بذلك يختار، ويتخذ منهجًا واهيًا، وليس قويًّا‏؛‏ كما قد يتصور‏,‏ فالعنكبوت مثلاً تنسج بيتها بنفسها‏,‏ وتعتمد بالطبع على خيوطها‏‏ القوية- كما أشرنا‏-‏ وتتصور أنها بذلك قد صنعت بيتًا قويًّا‏؛‏ ولكنه في الحقيقة واهن وضعيف في الهواء‏.‏ فكذلك هو الحال مع من يولي أمره لغير الله‏,‏ ويتصور أن هؤلاء الأولياء بمجموعهم قد ينفعونه‏.
‏ فهذا المنهج واهن‏.‏ والعبرة والعظة والإعجاز في هذا التشبيه القرآني نتلمسه في ضوء ما توصل إليه العلماء‏,‏ فبيت العنكبوت بخيوطه القوية‏,‏ يسهل إطاحته‏؛ ولكن إذا استعملت تلك الخيوط العنكبوتية في ظروف أخرى,‏ وبمنهج آخر‏,‏ فإنها تكون نسيجًا قويًّا جدًّا‏,‏ وشديدًا في متانته، ويصلح لصد الرصاص‏. وللتوضيح‏,‏ فالجرافيت والألماس‏,‏ كلاهما من الكربون‏,‏ وعلى الرغم من ذلك فلهما خواص فيزيائية وشكلية متضادة تمامًا‏.‏ فالأول‏,‏ أسود ولين ومعتم وضعيف، ويسهل كسره‏.‏ أما الثاني فهو شفاف ونقي، ومن أصلد وأقوى المعادن‏.‏ والأول يتحول للثاني تحت ظروف قاسية من الضغط والحرارة‏،‏ وإذا تغيرت الظروف حوله.. فالعبرة بالمنهج والبيئة‏..‏ وسبحان الله“‏.‏ وقال تعالى:﴿ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ ﴾، ولم يقل:{ أضعف البيوت }؛ وذلك لأن الضعف هو من فعل الله تعالى؛ كما أن القوة كذلك. تقول: خلقه الله ضعيفًا، أو خلقه قويًا. ويكون في الجسد والرأي والعقل. قال تعالى:﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾(الروم:54).
وقال تعالى:﴿ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ﴾(النساء:28). أما الوهن فهو من فعل المخلوق، وهو أن يفعل فعل الضعيف. تقول: وهن في الأمر يهن وهنًا، وهو واهن، إذا أخذ فيه أخذ الضعيف. والأمر موهون؛ ومنه قوله تعالى:﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ ﴾(آل عمران:139). أي: لا تفعلوا أفعال الضعفاء، وأنتم أقوياء على ما تطلبونه بتذليل الله إياه لكم. ويدل على صحة ما ذكرنا أنه لا يقال: خلقه الله واهنًا؛ كما يقال: خلقه الله ضعيفًا.
وقيل: الوهن: الضعف في العمل والأمر، وكذلك في العظم ونحوه؛ كما في قوله تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي ﴾(مريم:4). ويجوز أن يقال: إن الوهن هو انكسار الحد والخوف ونحوه، والضعف نقصان القوة. ويدل عليه قول الله تعالى في وصف المؤمنين المجاهدين:﴿ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ ﴾(آل عمران:146)، إشارة إلى نفي الحالتين عنهم في الجهاد. وقيل: الوهن هو ضعف من حيث الخَلْق، والخُلُق. ويتلخص من ذلك كله: أن الوهن هو من فعل المخلوق، ويكون مادِّيَّا، ومعنويًّا. وهذا ما ينبغي أن يفهم من الوهن المنصوص عليه في الآية الكريمة.
أما وهن{ بيت العنكبوت }من الناحية المادية فلأنه مكون من مجموعة خيوط حريرية غاية في الدقة تتشابك‏‏ مع بعضها البعض تاركة مسافاتٍ بيْنِيَّة كبيرة في أغلب الأحيان‏؛ ولذلك فهو لا يقي حرًّ‏,‏ ولا بردًا‏,‏ ولا يحدث ظلاً كافيًا‏,‏ ولا يقي من مطر هاطل‏,‏ ولا من رياح عاصفة‏,‏ ولا من أخطار المهاجمين‏.‏ ولهذا يغزل العنكبوت خيطًا من الحرير يُسمَّى: خيط الجذب، وخيط الحياة؛ وذلك لأنه يستعمله- غالبًا- في الهروب من الأعداء.فإذا أحس العنكبوت بخطر، يهدد نسيجه، فإنه يهرب من النسيج بوساطة خيط الجذب؛ ليختبئ بين الأعشاب، أو يبقى متعلقًا به في الهواء، حتى يزول الخطر، ثم يعود مرة أخرى إلى نسيجه عبر خيط الجذب. ومن أخصِّ خصائص البيت وأوصافه أنه مأوى لصاحبه، يقيه من برد الشتاء، وحر الصيف، ويحميه من أذى الكائنات، التي هي أقوى منه. وهذا كله لا يتوفر في بيت العنكبوت على الرغم من الإعجاز في بنائه.